Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
وأن التوبة ثانيا: تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، وحياة سماوية.
وهذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" الآية وقال تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى الآية.
وتوسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.
يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: "وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة" الآية بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.
واعلم أن ظاهر قوله تعالى: "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" الآية وقوله تعالى: "قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون" الآية أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، وأن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.
فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.
ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.
نعم: يبقى الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء الله تعالى.
بقي هنا شيء وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر وإن كان تحقق المعصية والخطيئة منه (عليه السلام) كما قال تعالى: فتكونا من الظالمين، وقال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى الآية، وكما اعترف به فيما حكاه الله عنهما: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية.
لكن التدبر في آيات القصة والدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا وإنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والإرادة المولوية.
ويدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة وفي سورة الأعراف أنه ظلم حيث قال: "لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" ثم بدله في سورة طه من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة.
ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: "إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى" الآيات.
فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من جوع وعطش وعراء وغير ذلك.
فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي إرشادي، ومخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، وتعديا عن طور العبودية وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية والعبودية وهو ظاهر.
وثانيا: أن التوبة، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، والمعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد.
ولو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعا عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.
ومن هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا ضروريا تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل والنار للإحراق، كما في موارد التكاليف الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلاة، واستحقاق الذم واستيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية.
Page 76