Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
والآيات كما ترى وسنزيدها توضيحا في محالها تدل على أن الإنسان جزء من الأرض غير مفارقها ولا مباين معها، انفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشىء فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه ، فهذا صراط وجود الإنسان.
ثم إن الإنسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الأرضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الإنسان ومجال سعيه أوسع كيف؟ وهذا الموجود الأعزل على أنه يخالط الموجودات الآخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حياته، فهو من جهة - تجهيزه بالإدراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والإفساد والإصلاح، فما من موجود إلا وهو في تصرف الإنسان، فزمانا يحاكي الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شيء، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، وليصدق قوله: "سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه": الجاثية - 13، وقوله: "ثم استوى إلى السماء": البقرة - 29.
وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لأجل الإنسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لأجله، وعليك بزيادة التدبر فيه.
فذاك الذي ذكرناه من صراط الإنسان في مسير وجوده، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الإنساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي.
غير أن القرآن كما يعد مبدأ حياته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها أحيانا كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس، فقال تعالى: "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا": مريم - 8، وقال تعالى: "إنه هو يبدىء ويعيد": البروج - 13، فالإنسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والإيجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما أنه من جهة الفطر والإبداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته، قال تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون": يس - 82، وقال تعالى: "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون": النحل - 40، فهذا من جهة البدء وأما من جهة العود والرجوع فيعد صراط الإنسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقاوة، فأما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الأعلى ولا يزال يصعد الإنسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى أسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، والله من ورائهم محيط، وقد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم من سورة الفاتحة.
فهذا إجمال القول في صراط الإنسان، وأما تفصيل القول في حياته قبل الدنيا وفيها وبعد الدنيا فسيأتي كل في محله، غير أن كلامه تعالى إنما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية والضلال والسعادة والشقاء، ويطوي البحث عما دون ذلك إلا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور.
وقوله تعالى: فسويهن سبع سموات، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
Page 63