Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ورابعا: أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبر أمور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، وأن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الأفكار المقدسة، وأن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار الردية وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الأسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسي والكتاب والحساب والجنة والنار بما يلائم الأصول المذكورة.
وخامسا: أن الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحول بتحولها.
وسادسا: أن المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الأعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم وتبعهم آخرون.
هذه جمل ما ذكروه والنبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوة إلهية، والكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.
والذي يمكن أن يقال فيه هاهنا أن الكتب السماوية والبيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير ولا تناسبه أدنى مناسبة، وإنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض وركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها وتعيدها إلى المادة الجامدة.
وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير أنهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحس كالعرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحس والتجربة على شيء من ذلك، ثم لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية وجرى البحث على أساس الحس والتجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحس أو البعيدة عنه وأن يفسروها بما تعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.
فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا أمور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا والواقع خلافه، وأما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البينة الواضحة، وطبقوها على حقائق مادية ينالها الحس وتصدقها التجربة مع أنها ليست بمقصوده، ولا البيانات اللفظية تنطبق على شيء منها.
والبحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظية على ما يعطيها اللفظ في العرف واللغة ثم يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر، هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شيء خارج عن المادة وحكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفله العلوم الطبيعية، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللأمر الخارج عنها؟ فإن العلم الباحث عن المادة وخواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة وخواصها لا إثباتا ولا نفيا.
ولو فعل شيئا منه باحث من بحاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا، ولنرجع إلى بقية الآيات.
وقوله تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة.
سوق الآيات من أول السورة وإن كانت لبيان حال المتقين والكافرين والمنافقين الطوائف الثلاث جميعا لكنه سبحانه حيث جمعهم طرا في قوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم، ودعاهم إلى عبادته تقسموا لا محالة إلى مؤمن وغيره فإن هذه الدعوة لا تحتمل من حيث إجابتها وعدمها غير القسمين: المؤمن والكافر وأما المنافق فإنما يتحقق بضم الظاهر إلى الباطن، واللسان إلى القلب فكان هناك من جمع بين اللسان والقلب إيمانا أو كفرا ومن اختلف لسانه وقلبه وهو المنافق، فلما ذكرنا لعله أسقط المنافقون من الذكر، وخص بالمؤمنين والكافرين ووضع الإيمان مكان التقوى.
Page 47