Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
وهذا قول فاسد لا ينطبق على ما يدل عليه آيات التحدي بظاهرها كقوله "قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله" الآية: هود - 13 14، فإن الجملة الأخيرة ظاهرة في أن الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا لا كلاما تقوله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن نزوله إنما هو بعلم الله لا بإنزال الشياطين كما قال تعالى "أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين": الطور - 34، وقوله تعالى: "وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون": الشعراء - 212، والصرف الذي يقولون به إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون القرآن كلاما لله نازلا من عنده، ونظير هذه الآية الآية الأخرى، وهي قوله: "قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله" الآية: يونس - 39، فإنها ظاهرة في أن الذي يوجب استحالة إتيان البشر بمثل القرآن وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن هو أن للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، ولا يحيط به علما إلا الله فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه، لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لو لا الصرف بإرادة من الله تعالى.
وكذا قوله تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" الآية: النساء - 82، فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا ومعنى ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه.
وأما الإشكال باستلزام الإعجاز من حيث البلاغة المحال، بتقريب أن البلاغة من صفات الكلام الموضوع ووضع الكلام من آثار القريحة الإنسانية فلا يمكن أن يبلغ من الكمال حدا لا تسعه طاقة القريحة وهو مع ذلك معلول لها لا لغيرها، فالجواب عنه أن الذي يستند من الكلام إلى قريحة الإنسان إنما هو كشف اللفظ المفرد عن معناه، وأما سرد الكلام ونضد الجمل بحيث يحاكي جمال المعنى المؤلف وهيئته على ما هو عليه في الذهن بطبعه حكاية تامة أو ناقصة وإراءة واضحة أو خفية ، وكذا تنظيم الصورة العلمية في الذهن بحيث يوافق الواقع في جميع روابطه ومقدماته ومقارناته ولواحقه أو في كثير منها أو في بعضها دون بعض فإنما هو أمر لا يرجع إلى وضع الألفاظ بل إلى نوع مهارة في صناعة البيان وفن البلاغة تسمح به القريحة في سرد الألفاظ ونظم الأدوات اللفظية ونوع لطف في الذهن يحيط به القوة الذاهنة على الواقعة المحكية بأطرافها ولوازمها ومتعلقاتها.
فهاهنا جهات ثلاث يمكن أن تجتمع في الوجود أو تفترق فربما أحاط إنسان بلغة من اللغات فلا يشذ عن علمه لفظ لكنه لا يقدر على التهجي والتكلم، وربما تمهر الإنسان في البيان وسرد الكلام لكن لا علم له بالمعارف والمطالب فيعجز عن التكلم فيها بكلام حافظ لجهات المعنى حاك لجمال صورته التي هو عليها في نفسه، وربما تبحر الإنسان في سلسلة من المعارف والمعلومات ولطفت قريحته ورقت فطرته لكن لا يقدر على الإفصاح عن ما في ضميره، وعي عن حكاية ما يشاهده من جمال المعنى ومنظره البهيج.
Page 37