Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
التحدي بالبلاغة وقد تحدى القرآن بالبلاغة كقوله تعالى: "أم يقولون افتريه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون": هود، 13، 14.
والآية مكية، وقوله تعالى: "أم يقولون افتريه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله": يونس - 38، 39.
والآية أيضا مكية وفيها التحدي بالنظم والبلاغة فإن ذلك هو الشأن الظاهر من شئون العرب المخاطبين بالآيات يومئذ، فالتاريخ لا يرتاب أن العرب العرباء بلغت من البلاغة في الكلام مبلغا لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدمة عليهم والمتأخرة عنهم ووطئوا موطئا لم تطأه أقدام غيرهم في كمال البيان وجزالة النظم ووفاء اللفظ ورعاية المقام وسهولة المنطق.
وقد تحدى عليهم القرآن بكل تحد ممكن مما يثير الحمية ويوقد نار الأنفة والعصبية.
وحالهم في الغرور ببضاعتهم والاستكبار عن الخضوع للغير في صناعتهم مما لا يرتاب فيه، وقد طالت مدة التحدي وتمادى زمان الاستنهاض فلم يجيبوه إلا بالتجافي ولم يزدهم إلا العجز ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار، كما قال تعالى: "ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون": هود - 5.
وقد مضى من القرون والأحقاب ما يبلغ أربعة عشر قرنا ولم يأت بما يناظره آت ولم يعارضه أحد بشيء إلا أخزى نفسه وافتضح في أمره.
وقد ضبط النقل بعض هذه المعارضات والمناقشات، فهذا مسيلمة عارض سورة الفيل بقوله: "الفيل ما الفيل وما أدريك ما الفيل له ذنب وبيل وخرطوم طويل" وفي كلام له في الوحي يخاطب السجاح النبية "فنولجه فيكن إيلاجا، ونخرجه منكن إخراجا" فانظر إلى هذه الهذيانات واعتبر، وهذه سورة عارض بها الفاتحة بعض النصارى "الحمد للرحمن.
رب الأكوان الملك الديان.
لك العبادة وبك المستعان اهدنا صراط الإيمان" إلى غير ذلك من التقولات.
فإن قلت: ما معنى كون التأليف الكلامي بالغا إلى مرتبة معجزة للإنسان ووضع الكلام مما سمحت به قريحة الإنسان؟ فكيف يمكن أن يترشح من القريحة ما لا تحيط به والفاعل أقوى من فعله ومنشأ الأثر محيط بأثره؟ وبتقريب آخر الإنسان هو الذي جعل اللفظ علامة دالة على المعنى لضرورة الحاجة الاجتماعية إلى تفهيم الإنسان ما في ضميره لغيره فخاصة الكشف عن المعنى في اللفظ خاصة وضعية اعتبارية مجعولة للإنسان، ومن المحال أن يتجاوز هذه الخاصة المترشحة عن قريحة الإنسان حد قريحته فتبلغ مبلغا لا تسعه طاقة القريحة، فمن المحال حينئذ أن يتحقق في اللفظ نوع من الكشف لا تحيط به القريحة وإلا كانت غير الدلالة الوضعية الاعتبارية، مضافا إلى أن التراكيب الكلامية لو فرض أن بينها تركيبا بالغا حد الإعجاز كان معناه أن كل معنى من المعاني المقصودة ذو تراكيب كلامية مختلفة في النقص والكمال والبلاغة وغيرها، وبين تلك التراكيب تركيب هو أرقاها وأبلغها لا تسعها طاقة البشر، وهو التركيب المعجز، ولازمه أن يكون في كل معنى مطلوب تركيب واحد إعجازي، مع أن القرآن كثيرا ما يورد في المعنى الواحد بيانات مختلفة وتراكيب متفرقة، وهو في القصص واضح لا ينكر، ولو كانت تراكيبه معجزة لم يوجد منها في كل معنى مقصود إلا واحد لا غير.
قلت: هاتان الشبهتان وما شاكلهما هي الموجبة لجمع من الباحثين في إعجاز القرآن في بلاغته أن يقولوا بالصرف، ومعنى الصرف أن الإتيان بمثل القرآن أو سور أو سورة واحدة منه محال على البشر لمكان آيات التحدي وظهور العجز من أعداء القرآن منذ قرون، ولكن لا لكون التأليفات الكلامية التي فيها في نفسها خارجة عن طاقة الإنسان وفائقة على القوة البشرية، مع كون التأليفات جميعا أمثالا لنوع النظم الممكن للإنسان، بل لأن الله سبحانه يصرف الإنسان عن معارضتها والإتيان بمثلها بالإرادة الإلهية الحاكمة على إرادة الإنسان حفظا لآية النبوة ووقاية لحمى الرسالة.
Page 36