Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى، وهو اللعن من الله، واللعن من كل لاعن، وقد كرر اللعن لأن اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله، وقد أطلق اللعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين، وهو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، ولا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية، وهذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد والجحود، وكل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبين له، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى، فإذا كتموه وكفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار - إلى قوله أجمعين الآية فإن الظاهر أن قوله: إن للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله: الذين كفروا وماتوا وهم كفار.
قوله تعالى: إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا الآية استثناء من الآية السابقة، والمراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم ويتظاهروا بالتوبة، ولازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس وأنهم كانوا كاتمين وإلا فلم يتوبوا بعد لأنهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.
قوله تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد واستكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الإنسان، قال تعالى: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى" إلى قوله - "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون": البقرة - 39، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون - وهم الكاتمون لما أنزل الله - وجازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه: "وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين": الحجر - 35، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء - وهم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق ونظراؤه فيه، فما أشد لحن هذه الآية وأعظم أمرها! وسيجيء في الكلام على قوله تعالى: "ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم": الأنفال - 37، ما يتعلق بهذا المقام إن شاء الله العزيز.
قوله تعالى: خالدين فيها، أي في اللعنة وقوله: لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.
واعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الأولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لأن المقام مقام تشديد السخط، والسخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - ولا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة والرأفة، بإلقاء كل نعت وطرح كل صفة وتصدى الأمر بنفسه تعالى وتقدس، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في الالتفات الواقع في الآية الأولى.
Page 226