Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
وثانيا: أن ذيل الآية - وهو قوله تعالى: ولكن لا تشعرون، - لا يناسب هذا المعنى، بل كان المناسب له أن يقال: بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل، وثناء الناس عليهم بعدهم، لأنه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.
وثالثا: أن نظيرة هذه الآية - وهي تفسرها - وصف حياتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى، قال تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون": آل عمران - 196، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحياة حياة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.
ورابعا: أن الجهل بهذه الحياة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في أواسط عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل إنما هو البعث للقيامة، وأما ما بين الموت إلى الحشر - وهي الحياة البرزخية - فهي وإن كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة، لكنها ليست من ضروريات القرآن، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وأن الإنسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيامة، فيمكن أن يكون المراد بيان حياة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك، وإن علم به آخرون.
وبالجملة: المراد بالحياة في الآية الحياة الحقيقية دون التقديرية، وقد عد الله سبحانه حياة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه، كقوله تعالى: "وأحلوا قومهم دار البوار": إبراهيم - 28، إلى غير ذلك من الآيات، فالحياة حياة السعادة، والإحياء بهذه الحياة المؤمنون خاصة كما قال: "وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون": العنكبوت - 64، وإنما لم يعلموا، لأن حواسهم مقصورة على إدراك خواص الحياة في المادة الدنيوية، وأما ما وراءها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فناء، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا، فلذلك قال: في هذه الآية، بل أحياء ولكن لا تشعرون أي: بحواسكم، كما قال في الآية الأخرى: لهي الحيوان لو كانوا يعلمون، أي باليقين كما قال تعالى: "كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم": التكاثر - 6.
فمعنى الآية - والله أعلم - ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات، ولا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم، ومقابلته مع الحياة، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا بأموات بمعنى البطلان، بل أحياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به، وإلقاء هذا القول على المؤمنين - مع أنهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حياة الإنسان بعد الموت، وعدم بطلان ذاته - إنما هو لإيقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل، فإنه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند أولياء القتيل إلا مفارقة في أيام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحياة الطيبة، والنعمة المقيمة، ورضوان من الله أكبر، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين الآية، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول الموقنين بآيات ربه، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.
نشأة البرزخ
فالآية تدل دلالة واضحة على حياة الإنسان البرزخية، كالآية النظيرة لها وهي قوله: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون": آل عمران - 169، والآيات في ذلك كثيرة.
ومن أعجب الأمر ما ذكره بعض الناس في الآية: أنها نزلت في شهداء بدر، فهي مخصوصة بهم فقط، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا، ولقد أحسن بعض المحققين: من المفسرين في تفسير قوله: واستعينوا بالصبر والصلاة الآية، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الأقاويل.
Page 201