وقد يخيل لبعض الناس أن العبادة الحقيقة تتمثل في الصنف الثالث ، لأنها المظهر الحي للخضوع للذات الإلهية ، من دون أن يكون هناك أي شيء للعنصر الذاتي للعابد ، في ما يحتاج إليه من ربح لمصلحته ، أو في ما يبتعد عنه من خسارة لحساب حاجته ، فإن الرغبة والرهبة حالتان إنسانيتان تحركان الإنسان نحو ذاته حتى في انفتاحه على الله ، أكثر مما تحركانه نحو الله في مواقع ألوهيته.
وهذا هو الإيحاء الفكري ، في ما جاء عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ، قال : « إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار » (1). فقد نلاحظ في هذه اللفتة التعبيرية لونا من الإيحاء بأن الإنسان الذي ينطلق من الرغبة إنسان تاجر يتحرك من الذهنية التجارية ، كما أن الذي ينطلق من الرهبة عبد يتحرك من عقلية العبيد الهاربة من كل عقاب .. فليستا حالتين في العبادة ، بل هما حالتان ماديتان في الاستغراق الإنساني في ذاته ، في ما يجلب لها من النفع أو يدفع عنها من الضرر. وقد نقل عنه أنه قال :
« إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (2).
ولكننا لا نرى في عنصر الخوف والطمع أية منافاة للمعنى العميق للعبادة ، لأن الخضوع الإنساني المستغرق في ذات الله المعبود ، ينطلق من التفكير في عظمته بحيث يشعر بأنه مشدود إليه في وجوده ، ومفتقر إليه في حاجاته ، وخاضع له في مصيره ، فإن الرغبة أو الرهبة بالمعنى المطلق لا
Page 66