فصل: والأيام المسماة في الحج ستة أيام: يوم التروية؛ ويوم عرفة؛ ويوم النحر؛ ويوم القر؛ ويوم النفر؛ ويوم الصدر. وسمي يوم التروية لأن جبرائيل عليه السلام قال لإبراهيم عليه السلام: [احمل ريك من الماء]. وأما عرفة فقد ذكرنا لم سمي به، ويوم النحر معلوم؛ ويوم القر لاستقرار الناس بمنى، ويوم النفر لأنهم ينفرون من منى إلى مكة، ويوم الصدر لأنهم يصدرون إلى أهاليهم. ورمي الجمار مشروع في يوم القر والنفر والصدر؛ وهي أيام التشريق.
قوله عز وجل: { واتقوا الله واعلموآ أنكم إليه تحشرون }؛ هذا أمر لهم بالتقوى في مستقبل أعمارهم؛ أي لا تتكلوا فيما أسلفتم من أعمال البر، ولكن زيدوا في الطاعة في باقي العمر. وقوله تعالى: { واعلموآ أنكم إليه تحشرون } أي في الآخرة يجازيكم بأعمالكم؛ إذ الحشر إنما يكون للمجازاة، ومن تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة؛ ولا بد من أحد أمرين: إما الجنة وإما النار، يدعوه بذلك إلى التقوى والتشديد.
والحشر في اللغة: هو الجمع للناس من كل ناحية؛ والمحشر هو المجمع؛ فيكون معنى الآية: { واعلموآ أنكم إليه تحشرون } أي تجمعون.
[2.204]
قوله عز وجل: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، كان حسن المنظر؛ حلو الكلام؛ فاجر السريرة؛ حلافا شديد الخصومة في الباطل، وكان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فيظهر له الحسن ويحلف بالله أنه يحبه ويتبعه على دينه؛ وكان صلى الله عليه وسلم يسمع كلامه فيعجبه، وكان يدنيه من مجلسه، فأظهره الله على نفاقه).
ومعنى الآية: { ومن الناس من يعجبك } كلامه وحديثه؛ أي يفرح بإظهاره الأيمان وتسر بقوله، { ويشهد الله على ما في قلبه } أي يقول: الله شهيد على ما في قلبي كما هو على لساني من الإيمان. وقوله تعالى: { وهو ألد الخصام } أي شديد الخصومة جدل بالباطل. والألد: مأخوذ من لدتي العنق؛ وهما صفحتاه. وتأويله: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة من يمين أو شمال غلبه في ذلك.
[2.205]
قوله تعالى: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد }؛ أي إذا أعرض عنك الأخنس يا محمد وفارقك أسرع مشيا في الأرض ليعصي فيها ويضر المؤمنين، وليهلك ما قدر عليه من زرع ونسل، { والله لا يحب الفساد } أي لا يرضى المعاصي.
روي: أن الأخنس خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع فأحرقه؛ وبحمار فعقره؛ فنزلت هذه الآية بما فيها من الوعيد، فحسبه جهنم، وصارت عامة في جميع المفسدين. وقيل: معنى الآية: { ليفسد فيها } أي ليوقع الفتنة بين الناس فيشتغلوا عن الزراعة وعن أعمالهم، فيكون في ذلك هلاك الحرث والنسل. وقيل: يخيف الناس حتى يهربوا من شره، فيخرب الضياع وينقطع نسل الناس والدواب.
وفي هذه الآية تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه الرجل من حلاوة المنطق، وأمر بالاحتياط في أمر الدين والدنيا حتى لا يقتصر على ظاهر أمر الإنسان خصوصا فيمن هو ألد الخصام؛ ومن ظهرت منه دلائل الريبة. ولهذا قالوا: إن علينا استبراء حال من نراه في الظاهر أهلا للقضاء والشهادة والفتيا والأمانة، وأن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل عنهم ويبحث عن أمرهم، إذ قد حذر الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } فيحتمل أن يكون المراد بالتولي: أن يتولى أمرا من أمور المسلمين؛ فأعلم الله بهذه الآية أنه لا يجوز الاقتصار على الظاهر دون الاحتياط والاستبراء.
Unknown page