[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
قوله تعالى { بسم الله الرحمن الرحيم } قوله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم. تعليم منه سبحانه؛ ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها؛ تبركا به. ومعناه أبدا: { بسم الله }؛ لأن حرف الباء مع سائر حروف الجر لا يستغني عن فعل مضمر أو مظهر؛ فكان ضمير الباء في هذه الآية: الأمر.
واختلف الناس في معنى اشتقاق الاسم؛ وأكثر أهل اللغة على أنه مشتق من السمو؛ وهو الرفعة. ومعنى الاسم التنبيه على المسمى والدلالة عليه. وقال بعضهم: مشتق من السمة؛ وهي العلامة؛ فكان الاسم علامة للمسمى.
وأما { الله } فقال بعضهم: هو اسم لا اشتقاق له؛ مثل قولك: فرس؛ ورجل؛ وجبل؛ ومعناه عند أهل اللسان: المستحق للعبادة؛ ولذلك سمت العرب أصنامهم: آلهة؛ لاعتقادهم استحقاقها للعبادة. وقال بعضهم: هو من قولهم: أله الرجل إلى فلان يأله إلاهة؛ إذا فزع إليه من أمر نزل به؛ فآلهه أي أجاره وأمنه. ويقال للمألوه إليه: إلها. كما قالوا للمؤتم به: إماما؛ فمعناه أن الخلائق يألهون ويتضرعون إليه في الحوائج والشدائد.
واختلفوا في { بسم الله الرحمن الرحيم } هل هي آية من الفاتحة؟ فقال قراء الكوفة: هي آية منها؛ وأبى ذلك أهل المدينة والبصرة. وأما قوله { الرحمن الرحيم } فهما اسمان مأخوذان من الرحمة؛ وزنهما من الفعل نديم وندمان من المنادمة، وفعلان أبلغ من فعيل، وهو من أبنية المبالغة. ولا يكون إلا في الصفات؛ كقولك: شبعان وغضبان؛ ولهذا كان اسم { الرحمن } مختصا بالله لا يوصف به غيره. وأما اسم { الرحيم } فمشترك.
وعن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الرحمن العاطف على جميع خلقه بإدرار الرزق عليهم "
فالرحمة من الله تعالى الإنعام على المحتاج؛ ومن الآدميين رقة القلب؛ وإنما جمع بين الرحمن والرحيم للنهاية في الرحمة والإحسان بعد الاحتنان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر] ولو قال: لطيفان لكان أحسن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب في أوائل الكتب في أول الإسلام: [بسمك اللهم ] حتى نزل
بسم الله مجريها
[هود: 41]. فكتب { بسم الله }. ثم نزل:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
[الإسراء: 110] فكتب: { بسم الله الرحمن }. فنزل:
بسم الله الرحمن الرحيم
[النمل: 30] في سورة النمل؛ فكتب حينئذ: { بسم الله الرحمن الرحيم }.
فإن قيل: لم قدم اسم الله على الرحمن؟ قيل: لأنه اسم لا ينبغي إلا لله عز وجل. وقيل في تفسير قوله تعالى:
هل تعلم له سميا
[مريم: 65] أي هل تعرف في السهل والجبل والبر والبحر والمشرق والمغرب أحدا اسمه الله غير الله؟ وقيل: هو اسمه الأعظم. وقدم الرحمن على الرحيم؛ لأن الرحمن اسم خص به الله؛ والرحيم مشترك؛ يقال: رجل رحيم، ولا يقال: رجل رحمن. وقيل: الرحمن أمدح؛ والرحيم أرأف.
وإنما أسقطت الألف من اسم الله وأصله باسم الله؛ لأنها كثرت على ألسنة العرب عند الأكل والشرب والقيام والقعود؛ فحذفت اختصارا من الخط وإن ذكرت اسما غيره من أسماء الله لم تحذف الألف لقلة الاستعمال؛ نحو قولك: باسم الرب، وباسم العزيز؛ وإن أتيت بحرف سوى الباء لم تحذف الألف أيضا؛ نحو قولك: لاسم الله حلاوة في القلوب؛ وليس اسم كاسم الله. وكذلك باسم الرحمن؛ واسم الجليل؛ و
اقرأ باسم ربك
[العلق: 1].
[1.2]
قوله عز وجل: { الحمد لله } ، الحمد والشكر نظيران؛ إلا أن الحمد أعم من حيث إن فيه معنى المدح من المنعم عليه؛ وغير المنعم عليه؛ ولا يكون الشكر إلا من المنعم عليه. والشكر أعم من الحمد من حيث إنه يكون من اللسان والقلب والجوارح؛ والحمد لا يكون إلا باللسان؛ ويتبين الفرق بينهما بنقيضهما. فنقيض الحمد الذم؛ ونقيض الشكر الكفران.
وقوله: { رب العالمين }. الرب في اللغة: اسم لمن يربي الشيء ويصلحه؛ يقال لسيد العبد: رب؛ ولزوج المرأة: رب؛ وللمالك: رب. ولا يقال: الرب معرفا بالألف واللام إلا لله عز وجل. والله تعالى هو المربي والمحول من حال إلى حال؛ من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى غير ذلك إلى أجل مسمى.
وقوله { رب العالمين } العالم: جمع لا واحد له من لفظه؛ كالنفر والرهط؛ وهو اسم لمن يعقل مثل الإنس والجن والملائكة؛ لأنك لا تقول: رأيت عالما من الإبل والبقر والغنم؛ إلا أنه حمل اسم العالم في هذه السورة على كل ذي روح دب ودرج لتغليب العقلاء على غيرهم عند الاجتماع. وربما قيل للسماوات وما دونها مما أحاطت به: عالم؛ كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن لله ثمانية عشر ألف عالم؛ وإن دنياكم منها عالم ".
[1.3]
وقوله: { الرحمن الرحيم }. قد تقدم تفسيره.
[1.4]
وقوله عز وجل: { ملك يوم الدين }. أي يوم الحساب؛ فإن قيل: لم خص يوم الدين؛ وهو ملك الدنيا والآخرة؟ قيل: لأن الله تعالى لا ينازعه أحد في ملكه ذلك اليوم؛ كما قال تعالى:
لمن الملك اليوم لله الواحد القهار
[غافر: 16].
قرأ عاصم والكسائي: (مالك يوم الدين) بالألف؛ والباقون بغير ألف. قال أهل النحو: (ملك) أمدح من (مالك) لأن المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلا مالكا. وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقرأ: (مالك يوم الدين) على النداء المضاف؛ أي يا مالك يوم الدين. وقرأ أنس بن مالك: (ملك يوم الدين) جعله فعلا ماضيا.
[1.5]
قوله عز وجل: { إياك نعبد وإياك نستعين }. لا يحسن إدخال { إياك } في غير المضمرات. وحكي عن الخليل: (إذا بلغ الرجل الستين فإياه؛ وإيا الشواب). فأضافه إلى ظاهر؛ وهو قبيح مع جوازه ولا يكون إلا إذا تقدم، فإن تأخر؛ قلت: نعبد؛ ولا يجوز: نعبد إياك. فإن قيل: لم قدم { إياك نعبد } وهلا قال: نعبدك؟ قيل: إن العرب إذا ذكرت شيئين قدمت الأهم فالأهم؛ ذكر المعبود في هذه الآية أهم من ذكر العبادة فقدمه عليها.
والكاف من { إياك } في موضع خفض بمنزلة عصاك؛ وأجاز الفراء: أن تكون في موضع نصب؛ فكأنه جعل { إياك } بكماله ضمير المنصوب. فإن قيل: لم عدل عن المغايبة إلى المخاطبة؟ قلنا: مثله كثير في القرآن؛ قال الله تعالى:
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح
[يونس: 22].
[1.6]
قوله عز وجل: { اهدنا الصراط المستقيم }؛ أي أرشدنا الطريق القائم الذي ترضاه ؛ وهو الإسلام. وهذا دعاء؛ ومثله بلفظ الأمر؛ لأن الأمر لمن دونك؛ والمسألة لمن فوقك.
فإن قيل: ما معنى قولكم: إهدنا! وأنتم مهتدون؟ قيل: هذا سؤال في مستقبل الزمان عند دعوة الشيطان. وقيل: معناه: ثبتنا على الطريق المستقيم؛ لا تقلب قلوبنا بمعصيتنا. ونظير قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام:
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
[البقرة: 131] أي أثبت على الإسلام.
وفي { الصراط } أربع لغات: صراط بالصاد؛ وسراط بالسين، وبالزاي الخالصة، وبإشمام الصاد والزاي، وكل ذلك قد قرئ به؛ فبالسين قراءة قنبل، وبإشمام الزاي قراءة خلف؛ وقرأ الباقون بالصاد الصافية.
[1.7]
قوله تعالى: { صراط الذين أنعمت عليهم }؛ هم الأنبياء وأهل طاعة الله تعالى. واختلاف القراءة في { صراط } كاختلافهم في { الصراط }.
قوله عز وجل: { غير المغضوب عليهم ولا الضآلين } { المغضوب عليهم } هم اليهود؛ و { الضآلين } هم النصارى.
وأما (آمين) فليس من السورة؛ ولكن روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله ويأمر به. وقال:
" لقني جبريل عليه السلام بعد فراغي من فاتحة الكتاب: آمين، وقال: إنه كالطابع على الكتاب "
وقيل: معنى آمين: اللهم استجب. وقيل: معناه: يا آمين؛ أي يا الله. فآمين اسم من أسماء الله. وقيل: معناه: اللهم اغفر لي. وفي آمين لغتان: المد والقصر؛ قال الشاعر في القصر:
تباعد منى فطحل إذ رأيته
أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وقال آخر في المد:
صلى الإله على لوط وشيعته
أبا عبيدة قل بالله آمين
وقال آخر في المد أيضا:
يا رب لا تسلبنى حبها أبدا
ويرحم الله عبدا قال آمينا
قال صلى الله عليه وسلم:
" فاتحة الكتاب رقية من كل شيء إلا السأم "
وهو الموت. وروي أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
" كنت أخشى العذاب على أمتك فلما نزلت الفاتحة أمنت؛ لأنها سبع آيات؛ وجهنم لها سبعة أبواب، فمن قرأها صارت كل آية طبقا على باب ".
[2 - سورة البقرة]
[2.1]
قوله عز وجل: { الم }؛ اختلفوا في تفسير { الم } وسائر حروف التهجي، وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود : (أن الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر). ووافقهم في ذلك الشعبي؛ وقال: (إن لله تعالى سرا في كتبه؛ وإن سره في القرآن الحروف المقطعة) وقال بعضهم: إنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها. وقال علي رضي الله عنه: (لكل شيء صفوة؛ وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن معنى { الم }: أنا الله أعلم وأرى، و { المص }: أنا الله أعلم وأفصل، و { كهيعص }: الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق). ويقال: الألف: مفتاح اسمه الله؛ واللام: لطيف، والميم: مجيد، ومعناه اللطيف المجيد أنزل الكتاب. ويقال: الألف: الله، واللام: جبريل، والميم: محمد، معناه: الله أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن. وقيل: هذا قسم أقسم الله به أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد هو الكتاب الذي عند الله، وجوابه:
لا ريب فيه
[البقرة: 2]. وقال محمد بن كعب: (الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه). وقال أهل الإشارة: الألف أنا، واللام لي، والميم مني.
فصل: وهذه الحروف موقوفة؛ لأنها حرف هجاء، وحروف الهجاء لا تعرب كالعدد في قوله: واحد اثنان. ولغاية أدخلوا الواو وحركوه؛ لأنه صار في حد الأسماء، فيقال: ألف ولام كالعدد. وكذلك قال الأخفش: (هي ساكنة لا تعرب).
وقوله: { الم } رفع بالابتداء؛ و { ذلك } خبره؛ و { الكتاب } صلة لذلك. ويحتمل أن يكون (الم) خبرا مقدما تقديره: ذلك الكتاب الذي وعدت أن أوحيه إليك { الم }. ومن أبطل محل الحروف جعل { ذلك } ابتداء و { الكتاب } خبره. و { الم } صلة؛ فيكون لذلك معنيان؛ أحدهما: أن { ذلك } بمعنى، وقد يستعمل { ذلك } بمعنى، (هذا). قال خفاف:
أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إننى أنا ذلكا
أي إنني هذا أطرأ لعود عطفه.
والثاني: على الإضمار؛ كأنه قال: هذا القرآن
ذلك الكتاب
[البقرة: 2] الذي وعدت في التوراة والإنجيل أن أوحيه إليك. وقيل: { الم } ابتداء؛ و { ذلك } ابتداء آخر؛ و { الكتاب } خبره، والجملة خبر الأول.
وقال بعض المفسرين: اختلف في
ذلك الكتاب
[البقرة: 2]، فقال الحسن وابن عباس وقتادة ومجاهد: (هو القرآن). فعلى هذا يكون { ذلك } بمعنى (هذا) كقوله تعالى:
وتلك حجتنآ
[الأنعام: 83] أي هذه حجتنا. وقيل: معناه:
ذلك الكتاب
[البقرة: 2] الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
[2.2]
وقوله عز وجل: { ذلك الكتاب لا ريب فيه }؛ أي لا شك فيه. ونصب { ريب } لتعميم النفي؛ ألا ترى أنك تقول: لا رجل في الدار؛ بالنصب، فيكون نفيا عاما. وإذا قلت: لا رجل في الدار؛ بالرفع، جاز أن يكون في الدار رجلان أو ثلاثة.
قوله عز وجل: { هدى للمتقين }؛ نصب على الحال؛ إما من { ذلك الكتاب }؛ كأنه قال: ذلك الكتاب هاديا. وإما من { لا ريب فيه } كأنه قال { لا ريب فيه } في حال هدايته. ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار (هو)، أو (فيه).
فإن قيل: لم خص المتقين؛ وهو هدى لهم ولغيرهم؟ قيل: تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، وفائدة التخصيص تشريف المتقين، ومثله:
إنما تنذر من اتبع الذكر
[يس: 11]
إنمآ أنت منذر من يخشها
[النازعات: 45].
[2.3-4]
قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب }؛ أي بالبعث والحساب والجنة والنار. وقيل: (الغيب) هو الله. قوله تعالى: { ويقيمون الصلوة } ، أي الصلوات الخمس بشرائطها في مواقيتها. قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون }؛ يعني الزكاة؛ وهو الأظهر؛ لأن الله تعالى قرن بين الصلاة والزكاة في مواضع كثيرة، وإقامة الصلاة طهارة الأبدان؛ وإعطاء الزكاة طهارة الأموال. وبالأموال قوام الأبدان، وقد قيل: هو نفقة الرجل على أهله.
قيل: لما نزل قوله عز وجل: { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة } الآية، قالت اليهود: نحن نؤمن بالغيب ونقيم الصلاة وننفق مما رزقنا الله؛ فأنزل الله تعالى: { والذين يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك } ، والذي أنزل إليه القرآن والذي أنزل من قبله التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة؛ فنفروا من ذلك. فإن قيل: لم قال: { وبالآخرة هم يوقنون } ، ولم يقل يؤمنون؟ قيل: لأن الإيقان توكيد الإيمان؛ واليقين بالآخرة يقين خبر ودلالة، ومعنى الآية: وبالدار الآخرة هم يعلمون ويستيقنون أنها كائنة.
[2.5]
قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }. أي أهل هذه الصفة على رشد وثبات وصواب من ربهم. والمفلحون: الناجون الفائزون بالجنة، ونجوا من النار. وقيل: هم الباقون بالثواب والنعيم المقيم.
[2.6]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } ، يعني مشركي العرب. وقال الضحاك: (نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته). وقال الكلبي: (يعني اليهود) وقيل: المنافقين. والكفر: هو الجحود والإنكار. قوله تعالى: { ءأنذرتهم } الإنذار: التحذير والتخويف. { أم لم تنذرهم لا يؤمنون } وهذه الآية خاصة فيمن حقت عليه كلمة العذاب والشقاوة في سابق علم الله.
[2.7]
قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم }. أي طبع على قلوبهم؛ والختم والطبع بمعنى واحد؛ وهو التغطية للشيء. والمعنى طبع الله على قلوبهم؛ أي أغلقها وأقفلها؛ فليست تفقه خيرا ولا تفهمه. (وعلى سمعهم) فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحده وقد تخلل بين جمعين؛ لأنه مصدر؛ والمصدر لا يثنى ولا يجمع. وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: أتاني برأس كبشين؛ أراد برأس كل واحد منهما. وقال سيبويه: (توحيد السمع يدل على الجمع؛ لأنه توسط جمعين) كقوله تعالى:
يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة: 257] وقوله تعالى:
عن اليمين وعن الشمال عزين
[المعارج: 37] يعني الأنوار والإيمان؛ وقرأ ابن عبلة: { وعلى سمعهم }.
وتم الكلام عند قوله: { وعلى سمعهم } ثم قال: { وعلى أبصرهم غشاوة }. أي غطاء وحجاب فلا يرون الحق. وقرأ المفضل بن محمد: (غشاوة) بالنصب؛ كأنه أضمر فعلا أو جملة على الختم؛ أي ختم على أبصارهم غشاوة، يدل عليه قوله تعالى:
وجعل على بصره غشاوة
[الجاثية: 23]. وقرأ (غشاوة) بضم الغين. وقرأ الجحدري: (غشاوة) بفتح الغين. وقرأ أصحاب عبدالله: (غشوة) بفتح الغين بغير ألف. ومن رفع (غشاوة) فعلى الابتداء.
قوله تعالى: { ولهم عذاب عظيم } ، يعني القتل والأسر. وقال الخليل: (العذاب ما يمنع الإنسان من مراده). وقيل: هو إيصال الألم إلى الحي مع الهوان به؛ ولهذا لا يسمى ما يفعل الله بالبهائم والأطفال عذابا؛ لأنه ليس على سبيل الهوان .
[2.8]
قوله عز وجل: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } ، نزلت هذه الآية في المنافقين: عبدالله بن أبي بن أبي سلول؛ ومعتب بن قشير؛ وجد بن قيس ومن تابعهم، كانوا يقولون للصحابة: آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق؛ وليس هم كذلك في الباطن إذا خلوا، وكانوا يقولون فيما بينهم: هذه خلة نسلم بها عن محمد وأصحابه ونكون مع ذلك متمسكين بديننا؛ فقال الله عز وجل: { وما هم بمؤمنين } وإنما وحد في أول الآية وجمع الضمير في آخرها؛ لأن لفظ { من } للوحدان، ومعناه يصلح للمذكر والمؤنث؛ والاثنين والجماعة؛ فعدل تارة إلى اللفظ وتارة للمعنى؛ ومنه قوله تعالى:
بلى من أسلم وجهه لله
[البقرة: 112] الآية،
ومن يقنت منكن لله ورسوله
[الأحزاب: 31] الآية.
[2.9]
قوله عز وجل: { يخادعون الله والذين آمنوا }؛ أي يخالفون الله ويكذبونه ويكذبون المؤمنين. ويخالفونهم في ضمائرهم وهم المنافقون. وأصل الخدع في اللغة الاختفاء؛ ومنه قيل للبيت الذي يخبأ فيه المتاع: مخدع؛ فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر. وقال بعضهم: أصل الخداع في اللغة: الفساد. وقال الشاعر:
أبيض اللون لذيذ طعمه
طيب الريق إذا الريق خدع
أي فسد، فيكون المعنى: مفسدون ما أظهروا بألسنتهم مما أضمروا في قلوبهم. وقيل: معناه: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:
فلمآ آسفونا انتقمنا منهم
[الزخرف: 55] أي آسفوا نبينا. وقوله تعالى:
الذين يؤذون الله ورسوله
[الأحزاب: 57] أي أولياء الله؛ لأن الله تعالى لا يؤذى ولا يخادع. وقد يكون المفاعلة من واحد كالمسافرة.
فإن قيل: ما وجه مخادعتهم الله؛ وهو لا يخفى عليه شيء؟ وما وجه مخادعة المؤمنين ومخادعة أنفسهم؟ قيل: المخادعة الإخفاء، يقال: انخدعت الضبية في جحرها. والله تعالى لا يخادع في الحقيقة، ولكن أطلق عليه اسم المخادعة لما فعلوا فعل المخادعين. ولو كان يصح لهم خداعهم لقال: يخدعون الله. وقيل: معناه: يخادعون رسول الله.
وأما مخادعة المؤمنين، فإظهارهم لهم الإسلام تقية؛ وقيل: إظهار الإسلام لهم ليكرموهم ويبجلوهم. وقيل: أظهروا لهم ذلك ليفشوا إليهم سرهم فينقلوه إلى أعدائهم . وأما مخادعة أنفسهم فضرر ذلك عليهم. قال الله تعالى: { وما يخدعون إلا أنفسهم }؛ لأن وبال الخداع عائد إلى أنفسهم فكأنهم في الحقيقة إنما يخدعون أنفسهم.
قوله تعالى: { وما يشعرون }؛ أي وما يعلمون أنه كذلك. والشعر: هو العلم الدقيق الذي يكون حادثا من الفطنة؛ وهو من شعار القلب؛ ومنه سمي الشاعر شاعرا لفطنته لما يدق من المعنى والوزن، ومنه الشعر لدقته. ويقال: ما شعرت به؛ أي ما علمت به. وليت شعري ما صنع فلان؛ أي ليت علمي.
واختلف القراء في قوله تعالى: { وما يخدعون } فقرأ نافع؛ وابن كثير؛ وأبو عمرو: (يخادعون) بالألف. وقرأ الباقون: (يخدعون) بغير ألف على أشهر اللغتين وأفصحهما؛ واختاره أبو عبيد. ولا خلاف في الأول أنه بالألف.
[2.10]
قوله عز وجل: { في قلوبهم مرض }؛ أي شك ونفاق، وسمي النفاق مرضا لأنه يهلك صاحبه؛ ولأنه يضطرب في الدين يوالي المؤمنين باللسان؛ والكفار بالقلب؛ فحاله كحال المريض الذي هو مضطرب بين الحياة والموت. وقيل: إن الشك؛ أي بالقول: ألم القلب، والمرض: ألم البدن. فسمي الشك مرضا لما فيه من الهم والحزن. وقيل: سمي النفاق مرضا؛ لأنه يضعف الدين واليقين كالمرض الذي يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك بالموت.
قوله تعالى: { فزادهم الله مرضا }؛ أي شكا ونفاقا وعذابا وهلاكا. والفاء في { فزادهم الله } بمعنى المجازاة. وقيل: على وجه الدعاء، { ولهم عذاب أليم }؛ أي موجع يخلص وجعه إلى قلوبهم؛ وهو بمعنى مؤلم. قوله تعالى: { بما كانوا يكذبون }؛ قال بعضهم: الباء في { بما } صلة؛ أي لهم عذاب أليم بكذبهم وتكذيبهم الله ورسوله في السر؛ فيكون (ما) مصدرية؛ والأولى إعمال الحروف. و(ما) وجد لها مساغ؛ أي بالشيء الذي يكذبون.
وفي قوله: { يكذبون } خلاف بين القراء، فقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف الذال؛ أي بكذبهم إذ قالوا: آمنا، وهم غير مؤمنين.
[2.11]
قوله عز وجل: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض }؛ قرأ الكسائي؛ ويعقوب؛ وهشام: { قيل } و { حيل } [سبأ: 54]، و { سيق } [الزمر: 71]، و { جيئ } ، و { سيء } [هود: 77] بإشمام الضمة. ومعنى الآية: وإذا قيل للمنافقين وقيل لليهود؛ أي إذا قال لهم المؤمنون: لا تفسدوا في الأرض بالكفر والمعصية والمداهنة وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، { قالوا إنما نحن مصلحون }؛ أي عاملون بالطاعة ومصلحون بالمداهنة؛ لأنهم كانوا يقولون: لا نعادي المؤمنين ولا الكفار؛ نداري هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا غلب أحد الفريقين لا يأتينا من دائرتهم شيء.
[2.12]
يقول الله تعالى: { ألا إنهم هم المفسدون } ، { ألا } كلمة تنبيه، والمعنى: ألا إنهم هم المفسدون بالمداهنة والعاملون بالمعصية، وقوله تعالى: { هم } عماد وتأكيد. قوله تعالى: { ولكن لا يشعرون }؛ أي لا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب. وقيل: لا يعلمون أنهم كذلك.
[2.13]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا كمآ آمن الناس }؛ أي إذا قيل للمنافقين: صدقوا كما صدق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، { قالوا أنؤمن كمآ آمن السفهآء }؛ أي أنصدق كما صدق الجهال، يقول الله تعالى: { ألا إنهم هم السفهآء }؛ أي هم الجهال بتركهم التصديق في السر؛ { ولكن لا يعلمون }؛ أنهم جهال. وقيل: قالوا: أنصدق { كمآ } صدق الجهال بقول الله تعالى، { ألا إنهم }. وقيل: معناه: آمنوا كما آمن عبدالله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
والسفهاء: جمع سفيه، وهو البهات الكذاب المتعمد بخلاف ما يعلم. وقال قطرب: (السفيه: العجول الظلوم القائل خلاف الحق).
[2.14]
قوله عز وجل: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا }؛ قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: (كان عبدالله بن أبي بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقي سعدا قال: نعم الدين دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه من أهل الكفر قال: شدوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية).
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس؛ قال: (نزلت هذه الآية في عبدالله ابن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبدالله لأصحابه: أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم؟ فذهب فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحبا بالصديق وسيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه، وقال: مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الصادق القوي في دين الله عز وجل الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد علي كرم الله وجهه؛ فقال: مرحبا يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي رضي الله عنه: اتق الله ولا تنافق؛ فإن المنافقين شر خليقة الله. فقال: مهلا يا أبا الحسن، والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. وفي رواية: والله إني مؤمن بالله ورسوله. ثم افترقوا، فقال عبدالله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه؛ وقالوا: لا نزال بخير ما عشت. فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: وإذا لقوا الذين آمنوا، أبا بكر وأصحابه؛ قالوا: آمنا كإيمانكم.
وقرأ محمد بن السميقع: (وإذا لاقوا) وهما بمعنى واحد، وأصل { لقوا }: لقيوا؛ فاستثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى القاف وسكنت الواو والياء، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: { وإذا خلوا إلى شياطينهم }؛ أي مع شياطينهم؛ وهم رؤساؤهم في الضلالة. قال الأخفش: (كل عاق متمرد فهو شيطان). ومعنى { خلوا } أي جمعوا. ويجوز أن يكون من الخلوة؛ يقال: خلوت به وخلوت معه وخلوت إليه؛ كلها بمعنى واحد. قال ابن عباس: ((شياطينهم) رؤساؤهم وكبراؤهم وكهنتهم وهم خمسة نفر من اليهود). ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان، منهم كعب بن الأشرف بالمدينة؛ وأبو بردة في بني أسلم؛ وعبد الدار في جهينة؛ وعوف بن عامر في بني أسد؛ وعبدالله بن السوداء في الشام. والشيطان المتمرد العاتي من كل شيء؛ ومنه قيل للحية النصناص: شيطان؛ قال الله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
[الصافات: 65] أي الحيات.
وقوله تعالى: { قالوا إنا معكم }؛ أي على دينكم وأنصاركم، قوله عز وجل: { إنما نحن مستهزئون }؛ أي بمحمد وأصحابه بإظهار قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
[2.15]
قوله عز وجل: { الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون }؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمى الجزاء باسم الابتداء؛ إذ كان مثله في الصورة؛ كقوله تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40] فسمى جزاء السيئة سيئة. وقال تعالى:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
[البقرة: 194] والثاني ليس باعتداء.
قوله تعالى: { ويمدهم في } أي يمهلهم ويتركهم في ضلالتهم يتحيرون؛ يقال: مد في الشر؛ ويمد في الخير؛ وقال يونس: (المد الترك؛ والإمداد في معنى الإعطاء). وقيل: مده وأمده بمعنى واحد. وقال الأخفش: ( { ويمدهم } أي يمد لهم؛ فحذف اللام). والطغيان: مجاوزة الحد؛ يقال: طغى الماء إذا جاوز حده؛ وقيل لفرعون:
إنه طغى
[طه: 24] أي أسرف في الدعوى حيث قال:
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24].
وقرأ ابن محيصن: (ويمدهم) بضم الياء وكسر الميم؛ وهما لغتان. إلا أن المد أكثر ما يجيئ في الشر، قال الله تعالى:
ونمد له من العذاب مدا
[مريم: 79]، والإمداد في الخير قال الله تعالى:
ويمددكم بأموال وبنين
[نوح: 12]، وقال تعالى:
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين
[المؤمنون: 55]. وقيل: معنى { الله يستهزىء بهم } أي يوبخهم ويغبيهم ويجهلهم. وقيل: معناه: الله يظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس: (هو أن يطلع الله المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبون أن تدخلوا الجنة؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم باب إلى الجنة ويقال لهم: ادخلوا، فيأتون يتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سد عليهم وردوا إلى النار؛ ويضحك المؤمنون منهم. فذلك قوله تعالى:
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون * ومآ أرسلوا عليهم حافظين * فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون
[المطففين: 29-34].
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يؤمر بناس من المنافقين إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعد الله لأهلها من الكرامة، نودوا أن اصرفوهم عنها؛ فيرجعون بحسرة وندامة لم ترجع الخلائق بمثلها؛ فيقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا؟ فيقول الله تعالى: هذا الذي أردت بكم؛ هبتم الناس ولم تهابوني؛ أجللتم الناس ولم تجلوني؛ كنتم تراءون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم تروني من قلوبكم، فاليوم أذيقكم من عذابي ما حرمتكم من ثوابي ".
فإن قيل: لم أمر الله تعالى بقتال الكفار المعلنين الكفر ولم يأمر بقتال المنافقين وهم في الدرك الأسفل من النار؛ وخالف بين أحكامهم وأحكام الكفار المظهرين الكفر وأجراهم مجرى المسلمين في التوارث والأنكحة وغيرها؟ قيل: عقوبات الدنيا ليست على قدر الإجرام؛ وإنما هي على ما يعلم الله من المصالح؛ ولهذا أوجب رجم الزاني المحصن ولم يزل عنه الرجم بالتوبة؛ والكفر أعظم من الزنا ولو تاب منه قبلت توبته. وكذلك أوجب الله على القاذف بالزنا الجلد ولم يوجبه على القاذف بالكفر؛ وأوجب على شارب الخمر الحد ولم يوجبه على شارب الدم.
[2.16]
قوله عز وجل: { أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى؛ واختاروا الكفر على الإيمان. وإنما أخرجه بلفظ الشراء والتجارة توسعا؛ لأن الشراء والتجارة راجعان إلى الاستبدال والاختيار؛ لأن كل واحد من المتبايعين يختار ما بيد صاحبه على ما في يده. قوله عز وجل: { فما ربحت تجارتهم }؛ أي فما ربحوا في تجارتهم؛ تقول العرب: ربح بيعك وخسرت صفقتك؛ ونام ليلك؛ توسعا. قال الله تعالى:
فإذا عزم الأمر
[محمد: 21]. وقرأ ابن أبي عبلة: (فما ربحت تجاراتهم) على الجمع. وقوله تعالى: { وما كانوا مهتدين }؛ أي من الضلالة؛ وقيل: معناه وما كانوا مصيبين في تجارتهم.
[2.17]
قوله تعالى: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا }؛ أي مثل المنافقين في إظهارهم الإسلام وحقنهم دماءهم وأموالهم كمثل رجل في مفازة في ليلة مظلمة يخاف السباع على نفسه، فيوقد نارا ليأمن بها السباع، { فلمآ أضآءت } ، النار، { ما حوله } المستوقد؛ طفئت. فبقي في الظلمة؛ كذلك المنافق يخاف على نفسه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيسلم دماء الناس فيحقن دمه، ويناكح المسلمين فيكون له نور بمنزلة نور نار المستوقد؛ فإذا بلغ آخرته لم يكن لإيمانه أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله، سلب نور الإيمان عند الموت فيبقى في ظلمة الكفر، نستعيذ بالله. وقوله تعالى: { استوقد } يعني أوقد، قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقوله تعالى: { كمثل الذي } بمعنى (الذين) دليله سياق الآية؛ ونظيره قوله تعالى:
والذي جآء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون
[الزمر: 33]. فإن قلت: كيف يجوز تشبيه الجماعة بالواحد؟ قلت: لأن (الذي) اسم ناقص، فيتناول الواحد والاثنين ك (من) و (ما)، وفي الآية ما يدل على أن معناه الجمع، وهو قوله تعالى: { وتركهم }. وقد يجوز تشبيه فعل الجماعة بفعل الواحد مثل قوله تعالى:
أتدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت
[الأحزاب: 19]. وقوله تعالى: { أضآءت } يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا، وأضاء يضيء إضاءة؛ وإضاءة غيره يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: (ضاءت) بغير ألف؛ و { حوله } نصب على الظرف.
قوله تعالى: { ذهب الله بنورهم }؛ أي أذهب الله نورهم. وإنما قال: { بنورهم } والمذكور في أول الآية النار؛ لأن النار فيها شيئان: النور والحرارة؛ فذهب نورهم؛ وبقي الحرارة عليهم، { وتركهم في ظلمت لا يبصرون }.
وفي بعض التفاسير: قال ابن عباس؛ وقتادة والضحاك: (معنى الآية: مثلهم في الكفر ونفاقهم كمن أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء به، واستدفأ ورأى ما حوله، فاتقى ما يحذر ونجا مما يخاف وأمن؛ فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره؛ فبقي مظلما خائفا متحيرا؛ فكذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها واعتزوا بعزها، فناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على أموالهم وأولادهم؛ فإذا ماتوا عادوا في الظلمة والخوف وبقوا في العذاب والنقمة).
[2.18]
وقوله تعالى: { صم بكم عمي }؛ أي هم صم عن الهدي لا يسمعون الحق، بكم لا يتكلمون بخير؛ عمي لا يبصرون الهدي؛ أي بقلوبهم كما قال الله تعالى:
وترهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
[الأعراف: 198]. وقيل: معناه صم يتصامون عن الحق؛ بكم يتباكمون عن قول الحق؛ عمي يتعامون عن النظر إلى الحق؛ يعني الاعتبار. وقرأ عبدالله: (صما بكما عميا) بالنصب على معنى وتركهم كذلك. وقيل: على الذم، وقيل: على الحال. وقوله تعالى: { فهم لا يرجعون }؛ أي من الضلالة والكفر إلى الهدى والإيمان.
[2.19]
قوله عز وجل: { أو كصيب من السمآء فيه ظلمت ورعد وبرق }؛ هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لهم أيضا؛ معطوف على المثل الأول؛ أي مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ومثلهم أيضا كصيب. قال أهل المعاني: { أو } بمعنى الواو؛ يريد (وكصيب) كقوله:
أو يزيدون
[الصافات: 147] وأنشد الفراء:
وقد علمت سلمى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
أي: وعليها فجورها.
ومعنى الآية: مثل المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن { كصيب } أي كمطر نزل { من السمآء } ليلا على قوم في مفازة { فيه ظلمت ورعد وبرق } كذلك القرآن نزل من الله، { فيه ظلمت } أي بيان الفتن وابتلاء المؤمنين بالشدائد في الدنيا، { ورعد } أي زجر وتخويف، { وبرق } أي تبيان وتبصرة. فجعل أصحاب المطر أصابعهم في آذانهم من الصواعق مخافة الهلاك، كذلك المنافقون كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم من بيان القرآن ووعده ووعيده وما فيه من الدعاء إلى الجهاد مخافة أن يقتلوا في الجهاد. ويقال: مخافة أن تميل قلوبهم إلى ما في القرآن.
وعن الحسن أنه قال: (في الآية تشبيه الإسلام بالصيب؛ لأن الصيب يحيي الأرض، والإسلام يحيي الكفار. قال الله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122]. وقوله تعالى: { كصيب } أي كأصحاب الصيب؛ لاستحالة تشبيه الحيوان بالصيب تمثيل العاقل بغير العاقل.
وقوله تعالى: { من الصوعق } جمع صاعقة: وهي صوت وبرق فيه قطعة من النار لا تأتي على شيء إلا أحرقته. وقوله تعالى: { من السمآء } كل ما علاك فهو سماء؛ والسماء تكون واحدا وجمعا، قال الله تعالى:
ثم استوى إلى السمآء فسوهن سبع سموت
[البقرة: 29]. وقيل: هو جمع واحده: سماوة؛ والسماوات جمع الجمع، مثل جرادة وجراد وجرادات. والسماء تذكر وتؤنث، قال الله تعالى :
السمآء منفطر به
[المزمل: 18] و
إذا السمآء انفطرت
[الانفطار: 1].
وقوله تعالى: { فيه ظلمت } أي في الصيب؛ وقيل في الليل: كناية عن غير مذكور. وظلمات: جمع ظلمة؛ وضمه اللام على الاتباع لضمة الظاء. وقرأ الأعمش: (ظلمات) بسكون اللام على أصل الكلام؛ لأنها ساكنة في التوحيد. وقرأ أشهب العقيلي: (ظلمات) بفتح اللام؛ لأنه لما أراد تحريك اللام حركها إلى أخف الحركات؛ كقول الشاعر:
فلما رأونا باديا ركباننا
على موطن لا تخلط الجد بالهزل
قوله تعالى: { ورعد } الرعد: هو الصوت الذي يخرج من السحاب، { وبرق } وهي النار التي تخرج منه. قال مجاهد: (الرعد: ملك يسبح بحمده؛ ويقال لذلك الملك: رعد، ولصوته أيضا رعد). وقال عكرمة: (الرعد: ملك موكل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل). وقال شهر بن حوشب: (هو ملك يزجر السحاب كما يزجر الراعي الإبل). والصواعق أيضا المهالك؛ وهي جمع صاعقة؛ والصاعقة والصامعة والمصعمة: كالهلاك. ومنه قيل: صعق الإنسان إذا غشي عليه؛ وصعق إذا مات.
قوله تعالى: { يجعلون أصبعهم في آذانهم من الصوعق حذر الموت }؛ أي مخافة الموت. وهو نصب على المصدر. وقيل: بنزع الخافض. وقرأ قتادة: (حذير الموت). قوله تعالى: { والله محيط بالكفرين }؛ أي عالم بهم؛ يدل عليه قوله تعالى:
وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
[الطلاق: 12]. وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم في النار؛ دليله
أن يحاط بكم
[يوسف: 66] أي تهلكوا جميعا.
[2.20]
قوله عز وجل: { يكاد البرق يخطف أبصرهم }؛ أي يختلس أبصار المسافرين من شدة ضوئه؛ كذلك البيان من القرآن يكاد يذهب بأبصار المنافقين؛ فيأخذهم إلى الله لما قلبوا الدين. ومعنى { يكاد } أي يقرب من ذلك ولم يفعل. وقرأ ابن أبي إسحاق: (يخطف) بنصب الخاء وتشديد الطاء؛ أي يختطف؛ فأدغم. قوله تعالى: { كلما أضآء لهم مشوا فيه }؛ أي كلما أضاء البرق للمسافرين مشوا في ضوئه، { وإذآ أظلم عليهم قاموا } ، بقوا في ظلمة القبر. وفي مصحف عبدالله: (مضوا فيه).
قوله تعالى: { ولو شآء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم }. أي لذهب بسمع المسافرين بالرعد وأبصارهم بالبرق؛ كذلك لو شاء الله لذهب بسمع المنافقين وأبصارهم بزجر القرآن ووعده ووعيده والبيان الذي فيه وجعلهم صما وعميا في الحقيقة عقوبة لهم. وقوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }؛ أي من إذهاب السمع والبصر.
[2.21]
قوله عز وجل: { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } ، قال ابن عباس: ( { يأيها الناس } خطاب لأهل مكة؛ و { يا أيها الذين آمنوا } خطاب لأهل المدينة). وهو ها هنا عام؛ وقوله تعالى: { اعبدوا ربكم } أي وحدوه وأطيعوه. وقوله تعالى: { الذي خلقكم } أي أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا. وقوله تعالى: { والذين من قبلكم } أي وخلق الذين من قبلكم. { لعلكم تتقون } أي لكي تنجوا من العذاب والسخط. قال سيبويه: (لعل وعسى حرفا ترج) وهما من الله تعالى واجبان.
[2.22]
قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض فرشا والسماء بنآء }. أي هو الذي جعل؛ وقيل: اعبدوا ربكم الذي جعل لكم الأرض فراشا أي بساطا؛ وقوله تعالى: { والسماء بنآء } إنما أطلق البناء على السماء دون الأرض؛ لأن خلقها بعد خلق الأرض. قال الله تعالى:
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسوهن
[البقرة: 29] قال ابن عباس: (كل سماء مطبقة على الأخرى كالقبة؛ وسماء الدنيا ملتزقة أطرافها بالأرض).
قوله تعالى: { وأنزل من السمآء مآء } ، أي من السحاب؛ سمي ماء لقربه من السماء؛ وقيل: معناه من نحو السماء، وقيل: لأن الله تعالى ينزل المطر من السماء إلى السحاب؛ ومن السحاب إلى الأرض، وقيل: يخلق الله المطر في السحاب ثم ينزله منه إلى الأرض.
قوله تعالى: { فأخرج به من الثمرت رزقا لكم }؛ ظاهر المراد. قوله تعالى: { فلا تجعلوا لله أندادا }؛ أي أمثالا ونظراء. { وأنتم تعلمون } ، أن الله خلق كافة الأشياء دون غيره، وأن ليس للأصنام عليكم نعمة تستحق بها عبادتكم.
[2.23]
قوله تعالى: { وإن كنتم في ريب }؛ أي في شك، { مما نزلنا على عبدنا } ، محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليس مني، وأن محمدا يختلقه من نفسه، { فأتوا بسورة من مثله }؛ أي من بشر مثله؛ والهاء في { مثله } عائدة إلى النبي عليه السلام. وقيل: معناه فأتوا بسورة من مثله مما نزلنا.
قوله عز وجل: { وادعوا شهدآءكم من دون الله }؛ أي آلهتكم ومن رجوتم معونته في الإتيان بسورة مثله، { إن كنتم صدقين } ، أنه ليس من الوحي. وقوله تعالى: { فأتوا } أمر تعجيز؛ لأنه تعالى علم عجز العباد عنه.
[2.24]
قوله تعالى: { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا }؛ أي فإن لم تأتوا بمثله ولن تأتوا بذلك أبدا، { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة }؛ أي حطبها الناس والحجارة. وقيل: المراد بالحجارة: حجارة الكبريت؛ لأنها أسرع وقودا وأبطأ جمودا وأنتن رائحة وأشد حرا وألصق بالبدن، { أعدت للكفرين }.
[2.25]
قوله تعالى: { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصلحت أن لهم }؛ أي بأن لهم، موضع أن نصب بنزع الخافض، وقوله تعالى: { جنت }؛ أي بساتين، { تجري من تحتها }؛ أي من تحت شجرها، ومساكنها وغرفها، { الأنهر }؛ أي أنهار الماء والعسل واللبن والخمر.
قوله تعالى: { كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل }؛ أي كلما أطعموا من أنواع الثمرات بالبكر والعشيات؛ إذا أوتوا به بكرة قالوا: هذا الذي أوتينا به عشية؛ وإذا أوتوا به عشية قالوا: هذا الذي أوتينا به بكرة؛ فإذا طعموه وجدوا طعمه غير الطعم الذي طعموه من قبل. وقوله تعالى: { وأتوا به متشبها }؛ أي في المنظر مختلفا في الطعم. قوله تعالى: { ولهم فيهآ أزوج مطهرة }؛ أي نساء وجوار لا يحضن ولا يستحلمن ولا يلدن ولا يحتجن إلى ما يتطهرن منه؛ ولا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن؛ مهذبات في الخلق والخلق؛ طاهرات من كل دنس وعيب. قوله تعالى: { وهم فيها خلدون }؛ أي هم مع هذه الكرامات دائمون لا يموتون ولا يخرجون أبدا.
و
" سئل الرسول صلى الله عليه وسلم مرة: ما بال أهل الجنة عملوا في عمر قصير فخلدوا في الجنة؛ وما بال أهل النار عملوا في عمر قصير فخلدوا في النار؟ فقال: " كل واحد من الفريقين يعتقد أنه لو عاش أبدا عمل ذلك العمل " ".
والبشارة المطلقة هو الخبر السار الذي يحدث عند الاستبشار والسرور، وإن كان قد يستعمل مقيدا فيما يسوء، كما قال تعالى:
فبشرهم بعذاب أليم
[آل عمران: 21]. ولهذا قال علماؤنا فيمن قال: أي عبيدي بشرني بقدوم فلان فهو حر، فبشره جماعة من عبيده واحد بعد واحد؛ أن الأول يعتق دون غيره؛ لأن البشارة حصلت بخبره خاصة؛ بخلاف ما إذا قال: أي عبيدي أخبرني بقدوم فلان، فأخبره واحد بعد واحد فإنهم يعتقون جميعا.
[2.26]
قوله تعالى: { إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها } ، هذا مثل آخر للمنافقين؛ وسببه لما ذكر الله في المنافقين المثلين المتقدمين قالوا: إن الله تعالى أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال؛ فأنزل الله هذه الآية لأن البعوضة تحيى ما دامت جائعة فإذا شبعت هلكت؛ فكذلك المنافقون يحيون ما افتقروا وإذا شبعوا بطروا وهلكوا. فكأنه قال تعالى: كيف أستحي من ضرب المثل في المنافقين وأنا أضربه بالبعوض الذي هو مثلهم.
وقيل: إن المشركين لما نزل قوله تعالى:
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا
[الحج: 73]. وقوله تعالى:
مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء كمثل العنكبوت
[العنكبوت: 41] قالوا: إن الله تعالى يضرب المثل بالذباب والعنكبوت؛ فأنزل الله هذه الآية كأنه قال: لا أستحي بضرب المثل بالبعوض والعنكبوت مع صغرهما فإنهما يعجزان آلهتهم.
ومعنى الآية: أن الله لا يمنعه الحياء أن يضرب الحق شبها ما بعوضة فما أكبر منها مثل الذباب وغيره. وقيل: فما فوقها في الصغر.
قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم }؛ أي فيعلمون أن المثل حق من ربهم؛ وأما الكافرون فيقولون: أي شيء أراد الله بذكر البعوض والذباب مثلا.
قوله تعالى: { وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا }؛ أي قل لهم يا محمد: يضل ويخذل بالمثل كثيرا من الناس، ويوفق لمعرفته كثيرا، { وما يضل به إلا الفسقين }؛ يعني الخارجين عن طاعة الله. قيل: هم اليهود في هذه الآية.
وأما في قوله: { مثلا ما } قيل: نكرة معناه أن يضرب مثالا شيئا من الأشياء بعوضة فما فوقها. وقيل: الأصح أنها زائدة مثل
فبما نقضهم
[النساء: 155] ولا إعراب لها فيتخطاها الناصب والخافض إلى ما بعدها. وقيل: نصب بعوضة على معنى ما بين بعوضة إلى ما فوقها؛ فإذا ألقى (بين) و(إلى) نصب. ويقال في الكلام: هي أحسن الناس ما قرنا، ومد (ما). قوله تعالى { مثلا } نصب على القطع عند الكوفيين؛ غير أنه قطع الإضافة؛ أي بهذا المثل. وعند البصريين على الحال؛ أي ما أراد الله بالمثل في هذه الحالة.
[2.27]
قوله تعالى: { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه }؛ نعت للفاسقين. ومن جعله مبتدأ وقف على الفاسقين. وقوله تعالى: { ينقضون عهد الله } أي يتركون أمر الله ووصيته من بعد تغليظه وتوكيده. والعهد: ما أخذه الله على النبيين ومن اتبعهم أن لا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته وصفته. وقوله تعالى: { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل } ، يعني الرحم الذي أمرهم بصلته، { ويفسدون في الأرض أولئك هم الخسرون }.
[2.28]
قوله تعالى: { كيف تكفرون بالله وكنتم أموتا }؛ أي وكنتم نطفا في أصلاب آبائكم، { فأحيكم } ، في أرحام أمهاتكم، وأخرجكم نسما صغارا، { ثم يميتكم } ، عند انقضاء آجالكم، { ثم يحييكم } ، للبعث، { ثم إليه ترجعون } ، في الآخرة.
[2.29]
قوله تعالى: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا }؛ يعني من الشجر والثمار والدواب، { ثم استوى إلى السمآء فسوهن سبع سموت } ، فإن قيل: هذه الآية تقتضي أن خلق السماء بعد الأرض؛ وقال تعالى في آية أخرى:
أم السمآء بناها
[النازعات: 27] ثم قال:
والأرض بعد ذلك دحاها
[النازعات: 30]؟ قيل: مجموع الآيتين يدل على أن خلق الأرض قبل السماء؛ إلا أن بسط الأرض بعد خلق السماء، { وهو بكل شيء عليم }.
[2.30-32]
قوله تعالى: { وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة }؛ يعني آدم وذريته. واختلفوا في معنى الخليفة، فروي: أن رجلا سأل طلحة والزبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة؛ وما الملك؟ فقال طلحة والزبير: (ما ندري) وقال سلمان: (الخليفة: هو الذي يعدل في رعيته ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله والوالد على ولده ؛ ويقضي بكتاب الله تعالى). فقال كعب: (ما كنت أحسب أن أحدا يفرق الخليفة من الملك غيري؛ ولكن الله ملأ سلمان علما وحلما وعدلا).
وروي أن عمر رضي الله عنه قال لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ قال سلمان: (إن أنت جبيت أرض المسلمين درهما أو أكثر أو أقل؛ ووضعته في غير حقه!! فأنت ملك. وإن أنت فعلت بالعدل والإنصاف فأنت خليفة) فاستغفر عمر رضي الله عنه.
وروي أن معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر: (يا أيها الناس إن الخلافة ليست بجمع المال ولا تفريقه؛ ولكن الخلافة العمل بالحق؛ والحكم بالعدل؛ وأخذ الناس بأمر الله عز وجل).
قوله تعالى: { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها }؛ أي يعصيك فيها؛ { ويسفك الدمآء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك }؛ أي نبريك من السوء ونصلي لك ونطهر أنفسنا لك. وقيل: اللام في { نقدس لك } زائدة؛ أي نقدسك.
وقوله تعالى: { قال إني أعلم ما لا تعلمون } ، أي أعلم أنه سيكون فيهم أنبياء وقوم صالحون يسبحون بحمدي ويقدسون لي ويطيعون أمري. وروي: (أن الله لما خلق الأرض جعل سكانها الجن بني الجان؛ وجعل سكان السماوات الملائكة؛ لأهل كل سماء عبادة أهون من التي فوقها، وكان إبليس مع جند من الملائكة في سماء الدنيا؛ وكان رئيسهم واسمه عزازيل. فلما أفسدت الجن بني الجان الذين سكنوا الأرض فيما بينهم وسفكوا الدماء وعملوا المعاصي بعث الله إليهم إبليس مع جنده؛ فهبطوا إلى الأرض وأجلوا الجن منها؛ وألحقوهم بجزائر البحار؛ وسكن إبليس والجند الذين معه في الأرض. فلما أراد الله أن يخلق آدم وذريته؛ قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض: { إني جاعل في الأرض خليفة }. فتعجبوا من ذلك؛ و { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } كما فعلت الجن بنو الجان { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } فلما قالوا هذا القول خرجت لهم نار من الحجب واحترقت عشرة آلاف ملك منهم وأعرض الرب سبحانه عن الباقين حتى طافوا حول العرش سبع سنين يقولون: لبيك اللهم لبيك اعتذارا إليك.
قوله تعالى: { وعلم ءادم الأسمآء كلها }؛ وذلك أن الله لما قال للملائكة: { إني جاعل في الأرض خليفة } قالوا فيما بينهم: يخلق ربنا ما يشاء؛ فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منا.
وإن كان خيرا منا فنحن أعلم منه؛ لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره؛ فلما أعجبوا بعملهم وعبادتهم فضل الله آدم عليهم بالعلم فعلمه الأسماء كلها؛ وهي أسماء الملائكة؛ وقيل: أسماء ذريته؛ وقال ابن عباس: [أسماء كل شيء من الدواب والطيور والأمتعة حتى الشاة والبقر والبعير وحتى القصعة والسكرجة]. وقيل: أسماء كل شيء من الحيوان والجمادات وغيرها؛ فقيل: هذا فرس وهذا حمار وهذا بغل حتى أتى على آخرها.
{ ثم عرضهم } ، أي عرض تلك الشخوص المسميات، { على الملئكة } ، ولم يقل عرضها رده إلى الشخوص المسميات؛ لأن الأعراض لا تعرض؛ وإن شئت قلت: لأن فيهم من يعقل فغلبهم. وفي قراءة أبي: (ثم عرضها). وقال الضحاك: (علم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والأجيال وأسماء الطير والشجر؛ وأسماء ما كان وما يكون وكل نسمة الله باديها إلى يوم القيامة). وعرض تلك الأسماء على الملائكة؛ { فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صدقين }؛ بأن الخليفة الذي أجعله: يفسد فيها ويسفك الدماء؟ أراد بذلك: كيف تدعون علم ما لم يكن وأنتم لا تعلمون علم ما ترون وتعاينون؟!
وقال الحسن وقتادة: (معناه إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه وأفضل!!). فقالت الملائكة أقرارا بالعجز واعتذارا: { قالوا سبحنك لا علم لنآ إلا ما علمتنآ }؛ أي تنزيها لك عن الاعتراض في حكمك وتدبيرك، { إنك أنت العليم الحكيم } ، في أمرك.
و { سبحنك } منصوب على المصدر؛ أي نسبح سبحانا في قول الخليل؛ وقيل: على النداء المضاف؛ أي يا سبحانك. قوله تعالى: { الحكيم } له معنيان؛ أحدهما: المحكم للفعل كقولهم: عذاب أليم؛ أي مؤلم. وضرب وجيع؛ أي موجع؛ فعلى هذا هو صفة فعل. والآخر: بمعنى الحاكم؛ فحينئذ يكون صفة ذات.
[2.33]
قوله تعالى: { قال يآءادم }؛ الأدمة: لون مشرب بسواد؛ وقيل: هي كل لون يشبه لون التراب؛ فلما ظهر عجز الملائكة قال الله تعالى: يا آدم؛ { أنبئهم بأسمآئهم }؛ أي أخبرهم بأسمائهم؛ فسمى كل شيء باسمه وألحق كل شيء بجنسه، { فلمآ أنبأهم بأسمآئهم قال } ، الله: { ألم أقل لكم } ، يا ملائكتي، { إني أعلم غيب السموت والأرض } ، وما كان فيها وما يكون، { وأعلم ما تبدون } ، من الخضوع والطاعة لآدم، { وما كنتم تكتمون }؛ في أنفسكم له من العداوة؛ وقيل: ما تبدون من الإقرار بالعجز والاعتذار وما كنتم تكتمون من الكراهة في استخلاف آدم عليه السلام.
وقيل: معناه: أعلم ما أظهرتم من الطاعة وما أضمر إبليس من المعصية لله تعالى في الأمر بالطاعة لآدم عليه السلام؛ وذلك أن الله تعالى لما صور آدم ورآه إبليس قال للملائكة الذين معه: أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق مثله إن أمركم الله بطاعته ماذا تصنعون؟ قالوا: نطيع. وأضمر الخبيث في نفسه أنه لا يطيع. وقيل: معناه: { أعلم ما تبدون } يعني قولهم:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30]، { وما كنتم تكتمون } يعني قولهم: لن يخلق الله خلقا أفضل ولا أكرم ولا أعلم عليه منا.
فإن قيل في قوله تعالى:
أنبئوني بأسمآء هؤلاء
[البقرة: 31] أمر تكليف ما لا يطاق؛ فهل يجوز تكليف ما لا يطاق؟ قلنا: الصحيح أنه ليس بتكليف. وهذا كمن يلقي المسألة على من يتعلم منه، فيقول: أخبرني بجواب هذه المسألة؟ ولا يريد بذلك أن يأمره بجوابها؛ لأنه يعلم أنه لا يعرفه. بل يقصد أن يقرر عليه أنه لا يعرف جوابها؛ ليكون أشد حرصا على تعلم تلك المسألة.
[2.34]
قوله تعالى: { وإذ قلنا للملئكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكفرين }؛ ظاهر الآية: أن إبليس كان من الملائكة؛ لأنه مستثنى منهم، وإلى هذا ذهب جماعة من العلماء، وقالوا: معنى قوله في آية أخرى:
إلا إبليس كان من الجن
[الكهف: 50] يعني من خزان الجنان. وذهب جماعة آخرون إلى أنه من أولاد الجان؛ لأنه مخلوق من نار وله ذرية، والملائكة من نور وليس لهم ذرية. فعلى هذا يكون مستثنى منقطعا؛ مثل قوله تعالى:
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
[النساء: 157].
وقيل: سبب كونه مع الملائكة: إن الملائكة لما حاربت الجن سبوا إبليس صغيرا فنشأ معهم؛ فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع وكفر وعاد إلى أصله.
وقوله تعالى: { اسجدوا لأدم } هو سجود تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة؛ نظيره في قصة يوسف عليه السلام:
وخروا له سجدا
[يوسف: 100] وكان ذلك تحية الناس وتعظيم بعضهم بعضا؛ ولم يكن وضع الوجه على الأرض وإنما كان الانحناء. فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام؛ وفي الحديث:
" أن معاذ بن جبل لما رجع من اليمن سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " ما هذا؟ " قال: رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسيسهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه يا معاذ! كذب اليهود والنصارى؛ إنما السجود لله عز وجل " ".
وقال بعضهم: سجدوا على الحقيقة؛ جعل آدم قبلة لهم؛ والسجود لله كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله عز وجل. وإنما سمي آدم لأنه خلق من التراب؛ والتراب بلسان العبرانية آدم بالمد؛ ومنهم من قال: سمي بذلك لأنه كان آدم اللون. وكنيته: أبو محمد؛ وأبو البشر.
وقوله: { إلا إبليس } منصوب على الاستثناء؛ ولا ينصرف للعجمة والمعرفة. وقوله تعالى: { واستكبر } أي تكبر وتعظم عن السجود لآدم.
وقوله تعالى: { وكان من الكفرين } أي وصار من الكافرين كقوله تعالى:
فكان من المغرقين
[هود: 43]. وقال أكثر المفسرين: معناه: وكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا قرأ ابن آدم السجدة وسجد، اعتزل الشيطان يبكي؛ ويقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة؛ وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ".
[2.35]
قوله عز وجل: { وقلنا يآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة }؛ وذلك أن آدم كان في الجنة وحشيا؛ لم يكن له من يجالسه ويؤانسه؛ فنام نومة فخلق الله تعالى زوجته حواء من قصيراه؛ من شقه الأيسر من غير أن أحس آدم بذلك ولا وجد له ألما؛ ولو ألم من ذلك لما عطف رجل على امرأة؛ فلما هب آدم من نومه إذ هو بحواء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله. قال لها: من أنت؟ قالت: زوجتك! خلقني الله لك.
فقالت الملائكة عند ذلك امتحانا له: ما هذه يا آدم؟ قال: امرأة، قالوا: وما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، قالوا: يا آدم أتحبها؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه، فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء.
قوله تعالى: { وكلا منها رغدا }؛ أي واسعا كثيرا، { حيث شئتما }؛ وأين شئتما وكيف شئتما، { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ قيل: هي الكرم؛ وقيل: التين؛ وقيل: شجرة من أحسن أشجار الجنة عليها كل نوع من أطعمة الجنة؛ ثمرها مثل كلية البقرة؛ ألين من الزبد؛ وأحلى من الشهد؛ وأشد بياضا من اللبن.
قوله تعالى: { فتكونا من الظلمين } ، أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما بالمعصية؛ وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
[2.36]
قوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها }؛ أي عن الجنة؛ ومعنى أزلهما استزلهما، وقراءة حمزة: (فأزالهما الشيطان) وهو إبليس؛ وهو فيعال من شطن؛ أي بعد، سمي بذلك لبعده عن الخير وعن رحمة الله. وقوله عز وجل: { فأخرجهما مما كانا فيه }؛ أي من النعيم.
وذلك أن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لآدم؛ فمنعه الخزنة؛ فأتى الحية وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير، وكانت من خزان الجنة؛ ولإبليس صديقا، فسألها أن تدخله في فمها فأدخلته في فمها؛ ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون. فلما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء فناح عليهما نياحة وبكى؛ وهو أول من ناح. فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان وتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة. فاغتما لذلك! فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه. فقاسمهما بالله إني لكما من الناصحين. فاغترا. وما كانا يظنان أن أحدا يحلف بالله كاذبا. فبادرت حواء إلى أكل الشجرة؛ ثم ناولت آدم حتى أكلها.
روي: أن سعيد بن المسيب كان يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكن مأربه إليها فأكل، فلما أكل تهافتت عنهما ثيابهما؛ وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة.
قيل: إن آدم دخل الجنة عند الضحوة؛ وأخرج ما بين الصلاتين، مكث نصف يوم من أيام الآخرة؛ وهي خمسمائة عام.
مسألة: قالت القدرية: إن الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد، وإنما كانت بستانا من بساتين الدنيا؟ قالوا: لأن الجنة لا يكون فيها ابتلاء؛ ولا تكليف.
الجواب: أنا قد أجمعنا على أن أهل الجنة مأمورون فيها بالمعروف ومكلفون ذلك. وجواب آخر: أن الله قادرا على الجمع بين الأضداد؛ فأري آدم المحنة في الجنة؛ وأري إبراهيم النعيم في النار؛ لئلا يأمن العبد ربه؛ ولا يقنط من رحمته. وليعلم: أن الله له أن يفعل ما يشاء.
واحتجوا بأن من دخل الجنة يستحيل عليه الخروج منها. فالجواب: أن من دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا؛ وآدم لم يدخلها للثواب؛ ألا ترى أن رضوان وخزان الجنان يدخلونها ثم يخرجون منها وإبليس كان خازن الجنة فأخرج منها.
قوله عز وجل: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو }؛ أي قلنا لآدم وحواء وإبليس والحية والطاووس: انزلوا إلى الأرض { بعضكم لبعض عدو } فإبليس عدو لآدم وذريته؛ والحية تلدغ ابن آدم؛ وابن آدم يشدخ رأسها.
قيل: إن إبليس قال لآدم وحواء: أيكما أكل من الشجرة كان مسلطا على صاحبه؛ فابتدءا إلى الشجرة؛ فسبقت حواء فأكلت منها؛ وأطعمت آدم. وقيل: إن آدم قال لها: يا حواء ويحك ما تعلمين أن الله قد نهانا عنها. فقالت: أما تعلم سعة رحمة الله، فأكلت منها وأطعمته.
قيل: إن إبليس لما دخل إلى الجنة في فم الحية سأل الطاووس عن الشجرة التي نهى الله آدم وحواء عنها؛ فدل عليها. فغضب الله على الطاووس فأهبطه بميسان؛ وهو موضع بسواد العراق. وأهبط إبليس بساحل بحر إيلية؛ وهي مدينة إلى جنب البصرة. وأهبطت الحية بأصبهان.
قوله تعالى : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }؛ أي إلى وقت انقضاء آجالكم ومنتهى أعماركم. روي: أن إبراهيم بن أدهم كان يقول: (أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا).
[2.37]
قوله تعالى: { فتلقى ءادم من ربه كلمت فتاب عليه }؛ قرأ ابن كثير بنصب (آدم) ورفع (كلمات) بمعنى جاءت الكلمات آدم من ربه. وفي قوله تعالى: { فتاب عليه } اختصار وتقليب المذكور؛ وإلا فهو قد تاب عليه وعلى حواء.
واختلفوا في الكلمات التي تلقاها آدم؛ قيل: نزل بها جبريل؛ وهي
" سبحانك لا إله إلا أنت وبحمدك؛ عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني وأنت خير الراحمين، سبحانك لا إله إلا أنت وبحمدك؛ عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم؛ سبحانك لا إله إلا أنت وبحمدك؛ عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم "
هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس أنها: [ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين]. وروي أنه قال: [يا رب؛ أرأيت ما أتيت؛ شيء أبتدعه من نفسي، أو شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟ فقال: بل شيئا قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: يا رب فكما قدرته علي فاغفر لي].
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" تحاج آدم وموسى؛ فقال: له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس؛ وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض، فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاك الله علم كل شيء؛ واصطفاك على الناس بالرسالة. قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب علي أن أفعله من قبل أن أخلق. فحج آدم موسى ".
وعن شهر بن حوشب قال: [بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله عز وجل]. وقال ابن عباس: [بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة؛ ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما؛ ولم يقرب آدم حواء مائة سنة].
وقوله تعالى: { فتاب عليه } أي تجاوز عنه، { إنه هو التواب الرحيم }؛ أي يقبل توبة عباده؛ رحيم بخلقه.
[2.38]
وقوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعا }؛ آدم وحواء وإبليس والحية والطاووس، { فإما يأتينكم مني هدى }؛ أي كتاب ورسول، { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } ، فيما يستقبلهم، { ولا هم يحزنون } ، على ما خلفوا.
[2.39]
وقوله تعالى: { والذين كفروا وكذبوا بآيتنآ }؛ يعني القرآن، { أولئك أصحب النار هم فيها خلدون } ، لا يخرجون منها.
[2.40]
قوله عز وجل: { يبني إسرائيل }؛ أي يا أولاد يعقوب. ومعنى إسرائيل يعني: صفوة الله، و(إيل) هو الله. وقيل: (إسر) هو العبد، و(إيل) هو الله، فمعناه: عبدالله. وهو خطاب لليهود والنصارى.
وإنما سمي يعقوب؛ لأن يعقوب وعيصا كانا توأمين، فاقتتلا في بطن أمهما؛ فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال: والله لإن خرجت قبلي لأعترضن في بطن أمي فأقتلها، فتأخر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقبه فخرج بعده فسمي يعقوب؛ فلذلك سمي عيصا لما عصي فخرج قبل يعقوب وكان عيص أحبهما إلى أبيه؛ وكان يعقوب أحبهما إلى أمه؛ وكان عيص صاحب صيد؛ فلما كبر إسحاق وعمي قال لعيص: يا بني أطعمني لحم صيد واقترب مني حتى أدعو لك بدعاء دعا لي به أبي إبراهيم عليه السلام وكان عيص رجلا أشعر؛ وكان يعقوب أجرد، فخرج عيص وطلب الصيد، فقالت أمه ليعقوب: يا بني إذهب إلى الغنم فاذبح شاة منها ثم اشوها والبس جلدها وقدمها إلى أبيك، وقل أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه، كل. قال: من أنت؟ قال: ابنك عيص. فمسه فقال: المس مس عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أمه: هو ابنك عيص فادع له. قال: قدم طعامك. فقدمه فأكل منه، ثم قال: ادن مني، فدنى منه فدعا له أن يجعل الله في ذريته الأنبياء والملوك. وذهب يعقوب فجاء عيص، فقال: قد جئتك بالصيد الذي أردته، قال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب وقال: والله لأقتلنه. فقال إسحاق: يا بني قد بقيت لك دعوة فهلم أدعو لك بها، فدعا أن تكون ذريته عدد التراب؛ وأن لا يملكهم أحد غيرهم.
قوله تعالى: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }؛ أي احفظوا واشكروا. قال الحسن: (ذكر النعمة شكرها). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" المتحدث بنعم الله شاكر، وتاركها كافر "
وقوله تعالى: { نعمتي } أراد نعمي؛ لفظها واحد ومعناها جمع؛ نظيرها قوله تعالى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34]. والعدد لا يقع على الواحد.
وقوله تعالى: { أنعمت عليكم } أي على أجدادكم وأسلافكم؛ وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر فأنجاهم من فرعون وأهلك عدوهم وأورثهم ديارهم وأموالهم وظلل عليهم الغمام في التيه تقيهم حر الشمس، وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم بالليل؛ إذا لم يكن ضوء القمر، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفجر لهم اثني عشر عينا؛ وأنزل عليهم التوراة بيان كل شيء يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، فهذه نعم من الله كثيرة لا تحصى.
وقوله تعالى: { وأوفوا بعهدي }؛ أي الذي عهدت إليكم في التوارة، { أوف بعهدكم } ، أي أدخلكم الجنة وأنجز لكم ما وعدتكم.
وقرأ الزهري: (أوف) بالتشديد على التأكيد؛ يقال: وفى ووافى ووفى بمعنى واحد. قيل: إن الله تعالى كان قد عهد إلى بني إسرائيل في التوراة: إني باعث من بني إسماعيل نبيا أميا فاتبعوه، فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنوبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين؛ أجرا باتباعه ما جاء به موسى والأنبياء من بني إسرائيل؛ وأجرا باتباعه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: (هو العهد الذي أخذه الله عليهم في قوله:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا
[المائدة: 12] إلى قوله:
قرضا حسنا
[المائدة: 12] فهذا قوله { وأوفوا بعهدي } ، ثم قال:
لأكفرن عنكم سيئاتكم
[المائدة: 12] الآية، فهذا قوله: { أوف بعهدكم } ). وقيل: معناه: أوفوا إلي بشرط العبودية أوف بشرط الربوبية.
وقال أهل الإشارة: أوفوا بعهدي في دار محنتي بحفظ حرمتي أوف بعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي.
قوله تعالى: { وإيي فارهبون } ، أي خافوني في نقض العهد.
[2.41]
قوله تعالى: { وآمنوا بمآ أنزلت } ، يعني القرآن، { مصدقا لما معكم }؛ أي موافقا لما معكم من التوراة والإنجيل وسائر الكتب في التوحيد والنبوة وبعض الشرائع. نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم. { ولا تكونوا أول كافر به }؛ أي لا تكونوا أول من يكفر بالقرآن فيتابعكم اليهود على ذلك.
وقوله تعالى: { ولا تشتروا بآيتي ثمنا قليلا }؛ وذلك أن علماء اليهود ورؤساءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامهم؛ يأخذون منهم شيئا معلوما كل عام من زرعهم وضروعهم ونقودهم؛ فخافوا أنهم إن سمعوا محمدا صلى الله عليه وسلم وتابعوه وآمنوا به تفوتهم تلك المآكل والرئاسة واختاروا الدنيا على الآخرة. والهاء في قوله { كافر به } عائدة إلى ما أنزلت على محمد؛ ويجوز أن تكون عائدة إلى قوله: { لما معكم } لأنهم كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة؛ فإذا كفروا بالقرآن فقد كفروا بالتوراة. وقوله تعالى: { وإيي فاتقون }؛ أي فاخشون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا ما يفوتكم من الرئاسة والمآكل.
[2.42]
قوله عز وجل: { ولا تلبسوا الحق بالبطل } ، قال مقاتل: (وذلك لأن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضها ليصدقوا في ذلك؛ فقال الله تعالى: { ولا تلبسوا الحق } الذي تقرون به وتبينونه { بالبطل } الذي تكتمونه. فالحق بيانه والباطل كتمانه). وقيل: معناه: لا تكتموا الحق بالباطل هو إيمانهم ببعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم ببعضه. { وتكتموا الحق }؛ يعني نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته. قوله تعالى: { وأنتم تعلمون }؛ أي تعلمون أنه نبي مرسل؛ وقوله تعالى: { وتكتموا الحق } يحتمل أن يكون تكتموا جزما على النهي. ويحتمل أن يكون نصبا على معنى: وأن تكتموا؛ أي لا تجمعوا بين اللبس والكتمان، فهذا مثل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إن فعلت عظيم
وقوله: { ولا تلبسوا الحق } أي لا تختلطوا، يقال: لبست عليه الأمر؛ أي خلطته.
[2.43]
قوله تعالى: { وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة }؛ أي حافظوا على الصلوات الخمس لمواقيتها بركوعها وسجودها، وأدوا زكاة أموالكم المفروضة. وقوله تعالى: { واركعوا مع الركعين }؛ أي صلوا مع المصلين محمد وأصحابه في الجماعات إلى الكعبة؛ يخاطب اليهود فعبر بالركوع عن الصلاة، إذ كان ركنا من أركانها؛ كما عبر باليد عن الجسد في قوله:
بما قدمت يداك
[الحج: 10] وبالعنق عن النفس كقوله تعالى:
ألزمناه طآئره في عنقه
[الإسراء: 13]. والفائدة في تكرار ذكر الصلاة لئلا يتوهم متوهم أن الصلاة لا تجب إلا على من تجب عليه الزكاة، وقيل: إن اليهود كانوا يصلون بغير ركوع فأمر بالركوع في الصلاة.
[2.44]
قوله عز وجل: { أتأمرون الناس بالبر }؛ خطاب لعلماء اليهود، كانوا يخبرون مشركي العرب قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم: بأن رسولا سيظهر يدعو إلى الحق فاتبعوه وأجيبوا دعوته. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ حسدوه وكفروا به؛ فأنزل الله هذه الآية مذكرا لهم ما كان منهم.
وقوله تعالى: { وتنسون أنفسكم }؛ أي تتركون أنفسكم فلا تتبعونه، وقوله تعالى: { وأنتم تتلون الكتب } ، يعني التوراة وما فيه، وتعلمون ما فيها من وجوب اتباعه، { أفلا تعقلون } ، أن ذلكم حجة عليكم وأنه نبي حق فتصدقونه وتتبعونه.
[2.45]
قوله تعالى: { واستعينوا بالصبر والصلوة }؛ أي استعينوا على ما استقبلكم من أنواع البلايا. وقيل: على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض؛ وبالصلاة على تمحيص الذنوب. وقيل: استعينوا بالصبر والصلاة على ما يذهب منكم من الرئاسة والمأكلة باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: (الصبر في هذه الآية الصوم). وقيل: (الواو) هنا بمعنى (على)؛ تقديره: استعينوا فيما ينوبكم بالصبر على الصلاة؛ كقوله تعالى:
وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها
[طه: 132].
وروي أن ابن عباس نعيت إليه بنت له وهو في سفر؛ فاسترجع، ثم قال: (عورة سترها الله؛ ومؤنة كفاها الله؛ وأجر ساقه الله). ثم نزل فصلى ركعتين. ثم قال: (صنعنا ما أمرنا الله به: واستعينوا بالصبر والصلاة).
وأصل الصبر هو الحبس، يقال: قتل فلان صبرا؛ إذا حبس حيا حتى مات، وقيل: الصبر هو الصوم؛ ويسمى شهر رمضان شهر الصبر، وسمي الصوم صبرا؛ لأن صاحبه يحبس نفسه عن الطعام والشراب.
قوله عز وجل: { وإنها لكبيرة إلا على الخشعين }؛ يحتمل أن الهاء كناية عن الصلاة ؛ لأنها أشرف الطاعات، ويحتمل أن تكون عن الاستعانة، ويحتمل أن يكون المراد بها الصبر والصلاة جميعا، كما قال الله تعالى:
والله ورسوله أحق أن يرضوه
[التوبة: 62] فاكتفى بذكر أحدهما دلالة على الآخر. ونظير القول الأول قوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها
[التوبة: 34] رد الكناية إلى الفضة لأنها أغلب وأعم. وقال تعالى:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها
[الجمعة: 11] رد الكناية إلى التجارة لأنها الأهم والأفضل. وقال الأخفش: (رد الكناية إلى كل واحدة منهما؛ أراد كل خصلة منهما الكبيرة كقوله تعالى:
كلتا الجنتين آتت أكلها
[الكهف: 33] يعني كل واحدة منهما، وقال تعالى:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية
[المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين؛ أراد جعلنا كل واحد منهما آية).
قوله تعالى: { وإنها لكبيرة } أي ثقيلة شديدة إلا على الخاشعين؛ أي المؤمنين. وقيل: إلا العابدين المطيعين. وقيل: الخائفين. وقيل: المتواضعين. وقال الزجاج: (الخاشع الذي يرى أثر الذل والخشوع عليه؛ ويقال: خشع؛ إذا رمى ببصره إلى الأرض، وأخشع إذا طأطأ رأسه للسجود). والخشوع والخضوع نظيران؛ إلا أن الخضوع يكون بالبدن والخشوع بالبصر والصوت والقلب كما قال تعالى:
خشعة أبصرهم
[القلم: 43]
وخشعت الأصوات
[طه: 108]
أن تخشع قلوبهم
[الحديد: 16].
[2.46]
قوله تعالى: { الذين يظنون أنهم ملقوا ربهم }؛ أي الذين يعلمون ويستيقنون؛ لأنهم لو كانوا شاكين لكانوا كافرين. ومثله:
إني ظننت أني ملاق حسابيه
[الحاقة: 20] أي أيقنت. قوله تعالى: { وأنهم إليه رجعون }؛ فيجزيهم بأعمالهم.
[2.47]
قوله عز وجل: { يبني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العلمين }؛ أي عالمي زمانكم.
[2.48]
قوله تعالى: { واتقوا يوما }؛ معناه: واخشوا يوما؛ أي عذاب يوم، { لا تجزي نفس عن نفس شيئا }؛ أي لا تكفي ولا تغني. وفيه إضمار؛ تقديره: واتقوا يوما لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا من الشدائد والمكاره. وقيل: معناه: لا تغني نفس مؤمنة ولا كافرة عن نفس كافرة شيئا.
قوله تعالى: { ولا يقبل منها شفعة }؛ لأنها كافرة، وكانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء؛ كإبراهيم وإسحاق ويعقوب يشفعون لهم؛ فآيسهم الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أهل مكة والبصرة (تقبل) بتاء التأنيث (الشفاعة). وقرأ الباقون بالياء بتقديم الفعل؛ أو لأن تأنيثه غير حقيقي. وقرأ قتادة: (لا يقبل منها شفاعة) بياء مفتوحة، ونصب ال(شفاعة) يعني لا يقبل الله.
قوله تعالى: { ولا يؤخذ منها عدل }؛ أي فداء كما كانوا يأخذون في الدنيا. وسمي الفداء عدلا؛ لأنه يساوي المفدى ويماثله، قال الله تعالى:
أو عدل ذلك صياما
[المائدة: 95] والفرق بين العدل والعدل: أن العدل بكسر العين: مثل الشيء من جنسه، وبفتحها بدله؛ قد يكون من جنسه أو من غير جنسه، مثل قوله:
طعام مساكين أو عدل ذلك صياما
[المائدة: 95]. وقوله { ولا هم ينصرون }؛ أي لا يمنعون من عذاب الله.
[2.49]
قوله عز وجل: { وإذ نجينكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب }؛ يعني نجينا أسلافكم؛ وإنما عدها منة عليهم؛ لأنهم نجوا بنجاتهم. وقرأ إبراهيم النخعي: (نجيتكم) على التوحيد. و { آل فرعون } أشياعه وأتباعه وأسرته وعشيرته وأهل بيته. وفرعون هو الوليد بن مصعب، وكان من العماليق؛ جمع عملاق، وهي قبيلة.
وقوله عز وجل: { يسومونكم سوء العذاب } أي يكلفونكم ويذيقونكم أشد العذاب وأسوأه؛ وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا. فصنف يبنون؛ وصنف يحرثون ويزرعون؛ وصنف يخدمونه، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال فعليه الجزية، فذلك سوء العذاب. وقيل: إنهم كلفوا الأعمال القذرة.
وقيل: تفسيره ما بعده: { يذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم }؛ وقرأ ابن محيص: (يذبحون) بالتخفيف. ومن قرأ بالتشديد فعلى التكثير؛ وذلك أن فرعون رأى في منامه نارا أقبلت من بيت المقدس فأحرقت مصر وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل: فسأل الكهنة، فقالوا: يولد في بني إسرائيل غلام؛ يكون هلاكك على يديه. فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل؛ وترك كل أنثى؛ ففعلوا ذلك. وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل؛ فقال القبط لفرعون: إن الموت وقع في مشيخة بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم فيوشك أن يقع العمل علينا؛ فأمروا أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة؛ فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها؛ فترك. وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها.
قوله: { ويستحيون نسآءكم } أي يتركوهن أحياء فلا يذبحوهن بل يستخدموهن. وقيل: معناه يستحيون من الحياء الذي هو الرحم؛ فإن القوم كانوا ينظرون إلى فروج نساء بني إسرائيل فيعلموا هل هن حبل أم لا!!
قوله: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم }؛ يعني في سومهم إياكم سوء العذاب محنة وفتنة عظيمة. وقيل: معناه: وفي إنجاء آبائكم منهم نعمة عظيمة. والبلاء ينصرف على وجهين: النعمة والمحنة. قال الله تعالى:
ونبلوكم بالشر والخير فتنة
[الأنبياء: 35].
[2.50]
وقوله عز وجل: { وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم } ، وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون أمر الله موسى أن يسري ببني إسرائيل من مصر؛ فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح. وألقى الله على القبط الموت؛ فاشتغلوا بدفنهم، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفا سوى الذرية. وكان موسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم، فخرج فرعون على طلبهم وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وسار بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة. ونظروا فإذا هم بفرعون وقومه وذلك حين أشرقت الشمس. فبقوا متحيرين؛ قالوا: يا موسى كيف نصنع؛ وما الحيلة وفرعون خلفنا والبحر أمامنا؟ فقال موسى: (كلا؛ إن معي ربي سيهديني). فأوحى الله إليه:
أن اضرب بعصاك البحر
[الشعراء: 63] فضربه فلم ينفلق. فأوحى الله إليه: أن كنه؛ فضربه بعصاه وقال: انفلق أبا خالد بإذن الله عز وجل.
فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
[الشعراء: 63]. وظهر فيه اثنا عشر طريقا؛ لكل سبط طريق، وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر فصار يبسا؛ فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق، وعن جانبيه الماء كالجبل الضخم لا يرى بعضهم بعضا، فخافوا! وقال كل سبط: قد قتل إخواننا، فأوحى الله إلى جبال الماء: تشبكي فصار الماء شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع كلام بعض؛ حتى عبروا البحر سالمين. فذلك قوله تعالى: { وإذ فرقنا بكم البحر } أي فلقناه وصيرنا الماء يمينا وشمالا. وقوله: { فأنجينكم } أي من الغرق ومن آل فرعون.
وقوله: { وأغرقنا آل فرعون }؛ وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر ورآه منفلقا. قال لقومه: أنظروا إلى البحر انفلق من هيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا فأقتلهم؛ ادخلوا البحر. فهاب قومه أن يدخلوه؛ ولم يكن في خيل فرعون أنثى، فجاء جبريل على فرس أنثى ودنا فتقدمهم وخاض البحر، فلما شمت خيول فرعون ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يحثهم ويقول لهم: إلحقوا بأصحابكم، حتى إذا خرج جبريل من البحر وهم أولهم أن يخرج. أمر الله البحر أن يأخذهم؛ فالتطم عليهم؛ فغرقوا جميعا وذلك بمرأى من بني إسرائيل، فذلك قوله تعالى: { وأغرقنا آل فرعون } { وأنتم تنظرون }؛ إلى مصارعهم.
[2.51]
قوله عز وجل: { وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة }؛ وذلك أن بني إسرائيل لما أمنوا عدوهم ودخلوا مصر لم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله موسى أن ينزل عليهم التوراة؛ فقال موسى لقومه: إني ذاهب لميقات ربي؛ فآتيكم بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون. وواعدهم ثلاثين ليلة من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة؛ واستخلف عليهم أخاه هارون. فلما أتى الوعد جاء جبريل عليه السلام على فرس يقال له فرس الحياة؛ لا يصيب شيئا إلا حيى به، فلما رأى السامري جبريل عليه السلام على ذلك الفرس؛ قال: إن لهذا شأنا؛ وكان رجلا منافقا، قد أظهر الإسلام فأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبريل، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس؛ فأهلك الله قوم فرعون وبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل. فلما لم يرجع موسى، قال السامري لبني إسرائيل: إن الأمتعة والحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفيرة فادفنوها فيها حتى يرجع موسى. ففعلوا ذلك. فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري وكان رجلا صائغا، وجعل عليها القبضة التي أخذها من أثر حافر فرس جبريل؛ فأخرج عجلا من ذهب فخار؛ فذلك قوله تعالى:
عجلا جسدا له خوار
[الأعراف: 148]. فعبدوه من دون الله.
قال السدي: (كان يخور والسامري يقول: هذا إلهكم وإله موسى (فنسيه) أي تركه ها هنا وخرج بطلبه). فلما رأوا العجل وسمعوا قول السامري افتتن بالعجل ثمانية آلاف منهم فعبدوه من دون الله.
وقال بعضهم: معنى الآية: واذكروا إذ أخبر الله موسى أن يؤتيه الألواح فيها التوراة على رأس ثلاثين يوما من ذي القعدة، وأمره أن يصومها؛ فوجد من فيه خلوفا؛ أي تغير رائحة، فاستاك، فأمره الله أن يصوم عشرة أخرى من أول ذي الحجة؛ كما قال تعالى في موضع آخر:
وأتممناها بعشر
[الأعراف: 142]. فقال السامري في الأيام العشرة لبني إسرائيل: قد تمت الثلاثون ولم يرجع موسى وإنكم قد استعرتم من نساء آل فرعون حليهم حين سار بكم من مصر؛ فلما لم تردوا عليهن حليهن لم يرد الله علينا موسى، فهاتوا ما معكم من الحلي حتى نحرقه؛ فلعل الله أن يرد علينا موسى، فجمعوا الحلي وكان السامري صائغا فاتخذ من ذلك عجلا، فصار العجل جسدا له خوار، فعبدوه فذلك قوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظلمون }.
قال ابن عباس: (فصار عجلا له لحم ودم وشعر). وقيل: جعل فيه خروقا فكان الريح تقع في تلك الخروق فيسمع منها مثل الخوار. فأوهمهم أن ذلك الصوت خواره. وقوله تعالى: { من بعده وأنتم ظلمون } أي من بعد انطلاق موسى إلى الجبل، { وأنتم ظالمون } أي ضارون لأنفسكم بالمعصية؛ واضعون العبادة في غير موضعها.
وفي قوله: { وعدنا } خلاف بين القراء؛ فقرأ أبو عمرو ويعقوب: (وعدنا) بغير ألف في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالألف؛ وهي قراءة ابن مسعود. فمن قرأ بغير ألف؛ قال: لأن الله تعالى هو المنفرد بالوعد. والقرآن ينطق به كقوله:
وعد الله
[النور: 55] و
إن الله وعدكم وعد الحق
[إبراهيم: 22] ونحوها. ومن قرأ بالألف فقال: قد تجيء المفاعلة من واحد؛ كقولهم: عاقبت اللص؛ وعافاك الله؛ وطارقت النعل؛ وسافر؛ ونافق.
قال أهل اللغة: الوعد في الخير؛ والوعيد في الشر؛ قال الشاعر.
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز وعدي
والعجل والعجول: ولد البقرة.
إنما قرن التاريخ بالليل دون النهار؛ لأن العرب وضعت التاريخ على سنين القمر؛ وإنما يهل بالليل. وقيل: لأن الظلمة أقدم من الضوء؛ والليل خلق قبل النهار؛ قال الله تعالى:
وآية لهم اليل نسلخ منه النهار
[يس: 37].
[2.52]
قوله تعالى: { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك }؛ أي تركناكم فلم نستأصلكم؛ من قوله عليه السلام:
" إعفوا اللحى "
وقيل: محونا ذنوبكم من قول العرب: عفت الرياح المنزل فعفا. وقوله عز وجل: { من بعد ذلك }؛ أي من بعد عبادتكم العجل. وقوله تعالى: { لعلكم تشكرون }؛ أي لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم.
واختلف العلماء في ماهية الشكر؛ فقال ابن عباس: (هو الطاعة بجميع الجوارح لرب الخلائق في السر والعلانية). وقال الحسن: (شكر النعمة ذكرها). وقال الفضيل: (شكر كل نعمة أن لا يعصى الله تعالى بعدها). وقال أبو بكر الرازي: (حقيقة الشكر معرفة المنعم؛ وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظا؛ بل تراها من الله عز وجل). قال الله:
وما بكم من نعمة فمن الله
[النحل: 53]. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" قال موسى: يا رب كيف آدم أن يؤدي شكر ما أجريت عليه من النعم؟ خلقته بيدك؛ وأسجدت له ملائكتك؛ وأسكنته جنتك. فأوحى الله إليه: أن آدم علم أن ذلك كله مني ومن عندي؛ فذلك شكره ".
وقال الجنيد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر. وقال بعضهم: الشكر أن لا ترى النعمة البتة؛ بل ترى المنعم. وقال أبو عثمان الحيري: صدق الشكر أن لا تمدح بلسانك غير المنعم. وروي عن الشبل أنه قال: الشكر التواضع تحتويه المنة. وقيل: الشكر خمسة أشياء: مجانبة السيئات؛ والمحافظة على الحسنات؛ ومخالفة الشهوات؛ وبذل الطاعات؛ ومراقبة رب السماوات.
وسئل أبو الحسن علي بن عبدالرحيم: من أشكر الشاكرين؟ فقال: الطاهر من الذنوب يعد نفسه من المذنبين؛ والمجتهد بعد أداء الفرائض يعد نفسه من المقصرين؛ والراضي من الدنيا بالقليل يعد نفسه من الراغبين؛ والقاطع بذكر الله دهره يعد نفسه من الغافلين؛ هذا أشكر الشاكرين.
[2.53]
وقوله عز وجل: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون } قال مجاهد والفراء : (هما شيء واحد يعني التوراة؛ وما يفرق به بين الحق والباطل). وقد سمى الله تعالى التوراة فرقانا في موضع آخر وهو قوله تعالى:
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضيآء
[الأنبياء: 48]، وسمى الله النصرة يوم بدر على الكفار فرقانا كما قال:
ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان
[الأنفال: 41] أراد به يوم بدر؛ وإنما عطف الشيء على نفسه وكرره؛ لأن العرب تكرر الشيء إذا اختلف ألفاظه، قال عنترة:
حييت من ظلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقال الكسائي: الفرقان: بعث الكتاب؛ يريد: { وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان }. والفرقان: فرق بين الحلال والحرام؛ والكفر والإيمان؛ والوعد والوعيد؛ فزيدت الواو فيه كما تزاد في النعوت؛ من قولهم: فلان حسن وطويل. ودليل هذا التأويل:
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء
[الأنعام: 154]. وقال قطرب: (أراد بالفرقان: القرآن).
وفي الآية إضمار معناه: وإذا آتينا موسى الكتاب ومحمدا الفرقان. قوله تعالى: { لعلكم تهتدون } أي بهذين الكتابين، وقال بعضهم: أراد بالفرقان انفراق البحر وهو من عظيم الآيات، يدل عليه قوله تعالى:
وإذ فرقنا بكم البحر
[البقرة: 50].
[2.54]
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه }؛ يعني الذين عبدوا العجل: { يقوم إنكم ظلمتم أنفسكم }؛ أي أضررتم أنفسكم، { باتخاذكم العجل }؛ إلها. فقالوا: فإيش نصنع، وما الحيلة؟ فقال: { فتوبوا إلى بارئكم }؛ أي فارجعوا إلى خالقكم. وكان أبو عمرو يختلس الهمزة إلى الجزم في قوله: (باريكم، ويأمركم، ويشعركم، وينصركم) طلبا للخفة.
وقوله تعالى: { فاقتلوا أنفسكم }؛ أي يقتل البريء المجرم، قوله تعالى: { ذلكم خير لكم عند بارئكم }؛ يعني القتل: قال ابن عباس: (أبى الله عز وجل أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال الذي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل). وقال قتادة: (جعل الله توبتهم القتل؛ لأنهم ارتدوا. والكفر يبيح الدم). وقرأ قتادة: (فاقتالوا أنفسكم) من الإقالة؛ أي استقيلوا العثرة بالتوبة. فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله تعالى، فجلسوا بالأفنية محسبين وأصلب عليهم القوم الخناجر؛ فكان الرجل يرى ابنه وأخاه وأباه وقريبه وصديقه فلا يمكنهم إلا المضي لأمر الله.
وقيل لهم: من حل جيوبه أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقى بيده أو رجله فهو ملعون مردودة توبته؛ فكانوا يقتلونهم إلى المساء. فلما كثر فيهم القتل عاد موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية؛ فأمرهم الله تعالى أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفوا عن القتل وقد قتل منهم ألوف كثيرة فاشتد ذلك على موسى، فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة؛ فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم كفر عنه ذنوبه، وذلك قوله تعالى: { فتاب عليكم }؛ أي ففعلتم ما أمركم به فتاب عليكم؛ أي فتجاوز عنكم، { إنه هو التواب الرحيم }.
وفي بعض التفاسير: أن موسى عليه السلام قال لهم بعدما رجع من الجبل وأعطاه الله التوراة: أنكم ظلمتم أنفسكم بعبادتكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم؛ أي ليقتل الذين لم يعبدوا العجل الذين عبدوا العجل. فقالوا: يا موسى نحن نفعل ذلك، فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل، فأصبحوا بأفنية البيوت كل بني أب على حدة فأتاهم هارون والاثنا عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل بالسيوف، فقال لهم هارون: هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا، فلعن الله رجلا حل جنوته أو قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيده أو رجله. فقالوا: آمين. فجعلوا يقتلونهم إلى المساء.
وقام موسى يدعو ربه لما شق عليه من كثرة الدماء. فنزلت التوراة، وقيل له: ارفع السيف، فإني قد قبلت توبتهم جميعا من قتل منهم ومن لم يقتل، وجعلت ذلك القتل لهم شهادة وغفرت لمن بقي منهم. فكان القتلى سبعين ألفا والقاتلون اثنا عشر ألفا. وكان السبب في امتحانهم بذلك: أنه كان فيهم من عرف بطلان عبادة العجل؛ إلا أنهم لم ينهوا الآخرين لخشية وقوع القتل فيما بينهم، فابتلاهم الله بما تركوا النهي عن المنكر لأجله.
[2.55]
قوله عز وجل: { وإذ قلتم يموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }؛ وذلك أن الله عز وجل أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل؛ فاختار موسى من قومه سبعين رجلا من خيارهم؛ وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. ففعلوا ذلك، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه؛ فلما بلغوا هنالك أمرهم موسى بالمكث في أسفل الجبل وصعد هو؛ فقالوا لموسى: أطلب لنا نسمع كلام الله؛ فوقع على الجبل غمام أبيض؛ فغشاه كله.
وكان موسى عليه السلام إذا ناجى ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه؛ فضرب دونه الحجاب؛ ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام؛ وخروا سجدا؛ فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، فأسمعهم الله تعالى:
إنني أنا الله لا إله إلا أنا
[طه: 14] أخرجتكم من مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري؛ فلما فرغ موسى وانكشف الغمام؛ وأقبل إليهم، قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } أي لا نصدق حتى نرى الله عيانا وعلانية، { فأخذتكم الصعقة }؛ أي فأخذتهم الصاعقة؛ أي نزلت نار من السماء فأحرقتهم جميعا. ويقال: سمعوا صوتا فماتوا. يقال: صعق فلان؛ أي هلك، { وأنتم تنظرون }.
قرأ عمر وعثمان وعلي بغير ألف (الصعقة). وقرأ ابن عباس: (جهرة) بفتح الهاء وهما لغتان. فلبثوا موتى يوما وليلة.
[2.56]
قوله تعالى: { ثم بعثنكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون }؛ وذلك أنهم لما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع؛ ويقول: ماذا أقول لبني إسرائيل إذ أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؛ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله عز وجل جميعا رجلا بعد رجل؛ ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون.
فإن قيل: كيف يقبل الله التوبة بعد الموت قبل البعث في دار الدنيا كالانتباه من النوم؛ لأن الله ردهم إلى التكليف في الدنيا وأحياهم ليتوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم.
[2.57]
قوله تعالى: { وظللنا عليكم الغمام }؛ أي في التيه يقيكم حر الشمس؛ وذلك أنهم كانوا في التيه ولم يكن لهم كن يسترهم؛ فشكوا ذلك إلى موسى؛ فأنزل الله عليهم غماما أبيض؛ أي سحابا رقيقا ليس بغمام المطر؛ لكن أرق وأطيب منه؛ فأظلهم وكان يدلي لهم بالليل عمودا من السماء من نور فيسير معهم بالليل حيث ساروا مكان القمر. فقالوا: هذا الظل قد حصل فأين الطعام؛ فأنزل الله عليهم المن.
قوله تعالى: { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } ، المن؛ قال مجاهد: (هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار؛ وطعمه كالشهد). وقال الضحاك: (هو الزنجبين). وقال وهب: (هو الخبز الرقاق). وقال السدي: (عسل كان يقع على الشجر بالليل. وكان ينزل عليهم هذا المن كل ليلة؛ يقع على أشجارهم مثل الثلج؛ لكل إنسان منهم صاع كل ليلة؛ فإن أخذ أكثر من ذلك دود وفسد. ويوم الجمعة يأخذ صاعين كأنه كان لم يأتهم يوم السبت).
وقيل: هو شيء حلو؛ كان يسقط على الشجر كالشهد المعجون بالسمن، وكان يأخذ كل واحد منهم كل غداة صاعا يكفيه يومه وليلته، فإن أخذ أكثر من ذلك فسد عليه.
فقالوا: يا موسى! قتلنا هذا المن بحلاوته، فادعوا لنا ربك يطعمنا لحما، فدعا فأنزل عليهم السلوى: وهو طائر يشبه السماني؛ كذا قال ابن عباس. وأكثر المفسرين بعث الله سحابة مطرت السماني في عرض ميل وقدر طول رمح في السماء بعضهم على بعض. وقال المؤرج: (السلوى هو العسل بلغة كنانة؛ فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوما وليلة، ويوم الجمعة يأخذ ما يكفيه يومين).
قوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم }؛ أي وقلنا لهم: كلوا من حلائل ما رزقناكم ولا تدخروا لغد؛ فادخروا لغد، فقطع الله عنهم ذلك، ودود وفسد ما ادخروا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام، ولم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها ".
قوله تعالى: { وما ظلمونا }؛ أي ما ضرونا بالمعصية، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ أي يضرون باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا كلفة ولا مشقة في الدنيا ولا حساب ولا تبعة في العقبى وهذا كله في التيه.
[2.58]
قوله عز وجل: { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية }؛ أي قلنا لبني إسرائيل بعد انقضاء التيه؛ على لسان يوشع بعد موت موسى وهارون : ادخلوا مدينة أريحا بقرب بيت المقدس؛ وهي قرية الجبارين؛ وكان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة. قال الضحاك: (هذه القرية يعني الرملة والأردن وفلسطين). وقال مجاهد: (بيت المقدس). وقال مقاتل: (إيليا).
قوله تعالى: { فكلوا منها حيث شئتم رغدا }؛ أي واسعا بلا حساب. وقوله تعالى: { وادخلوا الباب سجدا }؛ يعني بابا من أبواب القرية، وكان لها سبعة أبواب، وقال: باب مسجد بيت المقدس. (سجدا) أي ركعا منحنين متواضعين. وقوله: { وقولوا حطة }؛ أي قولوا: مسألتنا حطة.
قال ابن عباس: (أمروا بالاستغفار). وقيل: أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله. وقيل: قولوا إنما قيل لنا حق. وقال قتادة: وحط عنا خطايانا. وعن ابن عباس أيضا: قيل معناه: قولوا: لا إله إلا الله؛ لأنها تحط الذنوب وما كان يحط الذنوب فيصح أن يترجم عنه بحطة. وذلك أنهم كانوا قد أذنبوا بإبائهم دخول أريحا، فلما فصلوا عن التيه أحب الله أن يستنقذهم من الخطيئة.
وحطة: رفع على الحكاية في قول أبي عبيدة. وقال الزجاج: (تقديره: مسألتنا حطة). ومن قرأ (حطة) بالنصب معناه: حط عنا ذنوبنا حطة.
قوله تعالى: { نغفر لكم خطيكم } ، قرأ أهل المدينة بياء مضمومة؛ وأهل الشام بتاء مضمومة، والباقون بنون مفتوحة. { وسنزيد المحسنين }؛ إحسانا وثوابا.
[2.59]
قوله عز وجل: { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم }؛ أي خالفوا فقالوا: حطا سمتانا؛ أي حنطة حمراء بلغتهم. قالوا هذا القول منهم استهزاء وتبديلا مكان القول الذي أمروا به أن يقولوا: حطة.
وقال الحسن: (أمروا أن يقولوا: حطة، فقالوا: حنطة. وأمروا أن يدخلوا الباب ركعا فدخلوا حبوا على أستاههم). وقيل: منحرفين. قال مجاهد: (طوطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوا ولم يركعوا ودخلوا زحفا). وانتصب (قولا) على المصدر؛ أي وقالوا قولا غير الذي قيل لهم.
وقوله تعالى: { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا }؛ أي عذابا، { من السمآء } ، أرسل الله عليهم طاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا فجأة. وقيل: نزلت بهم نار فأحرقتهم لتبديلهم ما أمروا به. وقوله تعالى: { بما كانوا يفسقون }؛ أي يعصون ويخالفون ما أمر الله.
[2.60]
قوله تعالى: { وإذ استسقى موسى لقومه }؛ أي سأل لهم السقيا، وذلك أنهم عطشوا في التيه فقالوا: يا موسى من أين لنا الشراب، وكان قولهم له حال نزولهم في الأرض القفر بعد غرق فرعون؛ فاستسقى لهم موسى، { فقلنا }؛ أي فأوحى الله إليه: أن؛ { اضرب بعصاك الحجر }؛ وكانت عصاه من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى؛ ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض فتوارثتها الأنبياء صاغرا عن كابر حتى وصل إلى شعيب فأعطاها موسى.
وأما الحجر الذي أمر موسى بضربه فقد اختلف فيه المفسرون، قال وهب بن منبه: كان موسى يضرب لهم أقرب حجر من عرض الحجارة؛ فتفجر عيونا لكل سبط عينا، وكانوا اثنى عشر سبطا، ثم تسيل كل عين في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم.
ثم إنهم قالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحي إليه: يا موسى، لا تقرعن الحجارة، ولكن كلمها تطعك لعلهم يعتبرون. فقالوا: كيف بنا إذا أفضينا إلى الأرض التي ليس فيها حجارة؟ فحمل موسى معه حجرا، فحيثما نزلوا ألقاه.
وقال آخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه؛ والدليل على ذلك إدخال الألف واللام عليه وذلك للتعريف؛ ثم اختلفوا فيه ما هو؟ قال ابن عباس: (كان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل يحمله معه، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه). وروي أنه كان رخاما. وقيل: كان حجرا فيه اثنا عشر حفرة تنبع من كل حفرة عين ماء عذب فرات؛ فإذا اتخذوا حاجتهم من الماء؛ وأراد موسى حمله ضربه بعصاه، فغار الماء وانقطع. وكان يسقي كل يوم ستمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير: (هو الذي وضع موسى عليه ثوبه ليغتسل حين رموه بالأذرة؛ فنفر الحجر بثوبه ومر به على ملإ من بني إسرائيل حتى علموا أنه ليس بآدر؛ فلما وقف الحجر أتاه جبريل عليه السلام؛ فقال: يا موسى إن الله عز وجل يقول لك: إرفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة. وقد ذكر الله تعالى ذلك في قوله:
لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا
[الأحزاب: 69] فحمله موسى ووضعه في مخلاته، وكان إذا احتاج إلى الماء ضربه بعصاه).
وقصة ذلك الحجر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة؛ ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؛ وكان موسى يغتسل وحده. فقالوا: ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه أدر، فذهب يغتسل مرة؛ فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فجمح موسى بأثره يقول: ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوءة موسى؛ فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام بعدما نظر بنو إسرائيل إليه؛ فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر ضربا ".
قيل: ضربه موسى إثنا عشر ضربة. وكان يظهر على كل ضربة مثل ثدي المرأة ثم يتفجر بالأنهار المطردة، فذلك قوله تعالى: { فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } ، وفي الآية إضمار واختصار؛ تقديره: { فقلنا اضرب بعصاك الحجر }؛ فضرب؛ { فانفجرت } أي سالت.
وأصل الانفجار: الانشقاق والانتشار، ومنه: فجر النهار؛ لأنه ينشق من الظلام. وأما قوله في موضع آخر:
فانبجست
[الأعراف: 160] فالانبجاس: أول ما يتقاطر من الماء وينشق، والانفجار حين السيلان. وكان الانبجاس في أول القصة؛ والانفجار في آخرها. والانبجاس أقل من الانفجار. وقال بعضهم: هو حجر أمر الله موسى أن يأخذه من أسفل البحر حين مر فيه مع قومه. وقيل: إنه من الجنة.
وقوله تعالى: { قد علم كل أناس مشربهم }؛ أي موضع مشربهم؛ ويكون بمعنى المصدر مثل المدخل؛ والمخرج؛ والمطلع. وكان كل سبط يشربون من عين لا يخالطهم فيها غيرهم للعصبية التي كانت بينهم.
قوله تعالى: { كلوا واشربوا من رزق الله }؛ أي قلنا: كلوا من المن والسلوى واشربوا من الماء؛ فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم به بلا مشقة ولا مؤنة ولا تعب.
قوله تعالى: { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } ، العيث والعثواء: شدة الفساد؛ وإنما جمع بين العيث والفساد وإن كان معناهما واحدا تأكيدا كما يقال: كذب وزور؛ ظلم وجور، أي قيل لهم: كلوا واشربوا ولا تسرعوا إلى الفساد في الأرض عاثيين. والدليل على أن العيث هو الفساد قول الشاعر:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثى
فيه المشيب لزرت أم القاسم
[2.61]
قوله عز وجل: { وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد }؛ وذلك أنهم وحموا المن والسلوى وملوهما. قال الحسن: كانوا أناسا أهل كراش؛ كراث؛ وأبصال؛ وأعداس؛ ففزعوا إلى عكرهم عكر السوء؛ واشتاقت طبائعهم إلى ما جرت عليه عاداتهم؛ فقالوا: { لن نصبر على طعام واحد } يعنون به المن والسلوى. وإنما قال: { طعام واحد } وهما اثنان؛ لأن العرب تعبر عن الاثنين بلفظ الواحد؛ وعن الواحد بلفظ الاثنين؛ كقوله تعالى:
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان
[الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقال عبدالرحمن بن يزيد: (كانوا يعجنون المن والسلوى ليصير طعاما واحدا فيأكلونه).
قوله تعالى: { فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها } ، قرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف: (وقثائها) بضم القاف، وهي لغة تميم. قوله تعالى { وفومها }؛ قال ابن عباس: (الفوم: الخبز) تقول العرب: فومو لنا؛ أي اخبزوا لنا. ويقال لسائر الحبوب التي تختبز: الفوم. يقول الرجل لجاريته: فومي؛ أي اختبزي. وقال عطاء: هي الحنطة؛ وهي لغة قديمة. وقال الكلبي: هو الثوم. قال حسان:
وأنتم أناس لئام الأصول
طعامكم الفوم والحوقل
يريد: الثوم والبصل. والعرب تعاقب بين الفاء والثاء. فتقول للحقير: حدث وحدف؛ ودليل هذا التأويل أنها في مصحف عبدالله: (وثومها) بالثاء.
قوله تعالى: { وعدسها وبصلها }؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس؛ وإنه يرق القلب ويكثر الدمع، وإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى عليه السلام "
فقال لهم موسى: { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير }. وفي مصحف أبي: (أتستبدلون الذي هو أدنى) أي أخس وأردى (بالذي هو خير) يعني المن والسلوى. وقوله تعالى: { اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم }؛ معناه إن أبيتم إلا ذلك فاهبطوا مصرا من الأمصار؛ ولو أراد مصرا بعينها لم يصرفه كقوله تعالى:
ادخلوا مصر إن شآء الله آمنين
[يوسف: 99]. وقال الضحاك: (هي مصر موسى وفرعون). ودليل هذا القول قراءة الحسن وطلحة: (مصر) بغير تنوين جعلاها معرفة؛ فاجتمع فيها التعريف والتأنيث من حيث أراد البقعة فلم ينصرف.
قوله تعالى: { وضربت عليهم الذلة }؛ أي الذل والهوان بالجزية، { والمسكنة }؛ أي زي الفقر فتراهم كأنهم فقراء وإن كانوا مياسير. وقيل: فقراء القبل فلا يرى في أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود. قوله تعالى: { وبآءو بغضب من الله }؛ أي رجعوا؛ وقيل: استحقوا، والباء صلة. وقيل: احتملوا واقروا به، ومنه الدعاء المأثور: [أبوء بنعمتك علي؛ وأبوء بذنبي]. وغضب الله عليهم: ذمه إياهم وتوعده لهم في الدنيا، وإنزال العقوبة بهم العقبى. قوله تعالى: { ذلك }؛ أي ذلك الغضب؛ { بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله }؛ أي بصفة محمد وآية الرجم في التوراة والإنجيل والفرقان.
قوله تعالى: { ويقتلون النبيين بغير الحق }؛ قرأ السلمي: (ويقتلون) بالتشديد؛ و(النبيين) في جميع القرآن بالتشديد من غير همزة، وتفرد نافع بهمز (النبيئين) فمن همز فمعناه: المخبر؛ من قول العرب: أنبأ ينبئ إنباء، ومن حذف الهمزة؛ فإنه أراده، لكن حذفه الهمزة طلبا للخفة؛ لكثرة استعمالها. وقيل: لأنه بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهي المكان المرتفع. قال: نبا الشيء بغير همز إذا ارتفع.
وقوله تعالى: { ويقتلون النبيين بغير الحق } أي بلا جرم مثل زكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء. وفي الخبر:
" أن اليهود قتلوا سبعين نبيا في أول النهار، وقامت سوق بقلهم في آخر النهار. وقيل: قتلوا في يوم واحد ثلاثمائة نبي "
قوله تعالى: { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }؛ أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
[2.62]
قوله عز وجل: { إن الذين آمنوا }؛ أي إن الذين آمنوا بموسى والتوراة ثم لم يتهودوا؛ والذين آمنوا بعيسى ولم يقسموا بالنصرانية، { والذين هادوا والنصارى والصابئين } ، أي والذين تهودوا وتنصروا وتصابأوا، { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
اختلف العلماء في تسمية الذين هادوا بهذا الاسم: فقالوا: بعضهم سموا بذلك لأنهم هادوا؛ أي تابوا من عبادة العجل، قوله تعالى: إخبارا عنهم:
إنا هدنآ إليك
[الأعراف: 156] أي تبنا. وقال بعضهم: لأنهم هادوا؛ أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى عليه السلام؛ يقال: هاد يهود هودا؛ إذا مال.
واختلفوا أيضا في تسمية النصارى بذلك؛ قال مقاتل: (لأن أصلهم من قرية يقال لها ناصرة؛ كان ينزلها عيسى وأمه؛ فنسبوا إليها). وقال الزهري: (سموا بذلك لأن الحواريين قالوا: نحن أنصار الله).
(والصابيين) قرأ أهل المدينة بترك الهمزة. وقرأ الباقون بالهمزة وهو الأصل. يقال: صبا يصبوا صبوا، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
واختلفوا في الصابئين من هم؟ فقال عمر: هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب؛ وبه قال السدي. وقال ابن عباس: (لا دين لهم؛ ولا تحل ذبائحهم؛ ولا مناكحة نسائهم). وقال: مجاهد: (قبيلة نحو الشام بين اليهود والمجوس لا دين لهم؛ وكان لا يراهم من أهل الكتاب). وقال مقاتل وقتادة: (هم يقرون بالله؛ ويعبدون الملائكة؛ ويقرأون الزبور؛ ويصلون إلى الكعبة، أخذوا من كل دين شيئا). وقال الكلبي: (هم قوم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم ويحنون مذاكيرهم). وقال عبدالعزيز بن يحيى: (قد انقرضوا فلا عين ولا أثر).
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } أي على التحقيق وعقد التصديق؛ وهم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهودوا ولم يتنصروا ولم يتصابأوا؛ وانتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه. وقيل: هم طلاب الدين؛ منهم حبيب النجار؛ وقس بن ساعدة؛ وورقة بن نوفل؛ وزيد بن عمرو بن نفيل؛ وأبو ذر الغفاري؛ وسلمان الفارسي؛ وبحيرا الراهب، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فمنهم من أدركه وتابعه ومنهم من لم يدركه. وقيل: هم مؤمنو الأمم الماضية. وقيل: هم المؤمنون من هذه الأمة.
قوله: { والذين هادوا } أي الذين كانوا على دين موسى ولم يبدلوا ولم يغيروا. { والنصارى } الذين كانوا على دين عيسى ولم يبدلوا وماتوا على ذلك، { والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } من مات منهم وهو مؤمن.
وقوله تعالى: { وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم } ، إنما ذكره بلفظ الجمع ؛ لأن لفظة { من } تصلح للواحد؛ والاثنين؛ والجمع؛ والمذكر؛ والمؤنث، قال الله تعالى:
ومنهم من يستمع إليك
[محمد: 16]
ومن يقنت منكن
[الأحزاب: 31]. قال الفرزدق في التثنية:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فإن قيل: ما معنى إعطاء أجر المؤمن وهو عامل لنفسه؟ قيل: لما حمل على نفسه المشقة وحرمها شهواتها؛ فآجره في الآخرة عوضا عما فاته من اللذات في الدنيا.
وقوله تعالى: { ولا خوف عليهم }؛ فيما تعاطوا من الحرام، { ولا هم يحزنون } ، على ما اقترفوا من الآثام، لما سبق لهم في الإسلام. وقيل: { ولا خوف عليهم } في الكبائر فأنا أغفرها، { ولا هم يحزنون } على الصغائر فإني أكفرها.
[2.63]
قوله عز وجل: { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور }؛ أي { وإذ أخذنا ميثاقكم } يا معشر اليهود { ورفعنا فوقكم الطور } وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن! وقال الحذاق من العلماء: لا يجوز أن يكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأن الله تعالى قال:
قرآنا عربيا
[الزمر: 28].
وقال:
بلسان عربي
[الشعراء: 195] وإنما قال هذا وأشباهه وفاقا وقع بين اللغتين؛ وقد وجدنا الطور في كلام العرب، قال جرير:
فإن ترسل ما الجن نسوا بها
وإن يرسل ما صاحب الطور ينزل
والمأخوذ عليهم ميثاقان؛ الأول: حين أخرجهم من صلب آدم كالذر. والثاني: الذي أخذ عليهم في التوراة وسائر الكتب. والمراد في هذه الآية الثاني؛ وذلك أن الله تعالى أنزل التوراة فأمر موسى قومه بالعمل بأحكامها فأبوا أن يقبلوا ويعملوا بها للآصار والأثقال التي كانت فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله جبريل فقطع جبلا على قدر عسكرهم؛ وكان فرسخا في فرسخ، فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل.
عن ابن عباس: (أمر الله جبلا من جبال فلسطين فانقطع من أصله حتى قام على رؤوسهم مثل الظلة). وقال عطاء: (رفع الله فوق رؤوسهم الطور، وبعث نارا من قبل وجوههم؛ وأتاهم البحر الملح من خلفهم). وقيل لهم: { خذوا مآ ءاتينكم بقوة }؛ أي اقبلوا ما آتيناكم بجد ومواظبة في طاعة الله تعالى. وفيه إضمار؛ أي وقلنا لهم خذوا.
وقوله تعالى: { واذكروا ما فيه }؛ أي احفظوه واعملوا بما فيه. وقيل: معناه: واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب. وفي حرف أبي بكر: (وادكروا) بدال مشددة وكسر الكاف. وفي حرف عبدالله. (وتذكروا ما فيه) ومعناهما اتعظوا به. قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ أي لكي تنجوا من العذاب في العقبى والهلاك في الدنيا إن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به؛ وإلا وضحتكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النار. فلما رأوا أن لا مهرب منه قبلوا ذلك وسجدوا خوفا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود مخافة أن يقع عليهم؛ فصارت صفة في اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم؛ فلما رأوا الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعنا.
[2.64]
قوله عز وجل: { ثم توليتم من بعد ذلك }؛ أي أعرضتم وعصيتم من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل، { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } ، بتأخير العذاب عنكم، { لكنتم من الخاسرين }؛ أي لصرتم من المغبونين في العقوبة وذهاب الدنيا والآخرة.
[2.65]
قوله عز وجل: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت }؛ وذلك أنهم كانوا في زمن داود بأرض يقال لها: إيلية على ساحل البحر بين المدينة والشام، وكانت مسكن بني إسرائيل. وكان الله قد حرم عليهم صيد السمك يوم السبت، وكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت إلا اجتمع هناك حتى يخرجن خراطيمهن من الماء لأمنها في ذلك اليوم. فإذا مضى يوم السبت تفرقن ولم يخرجن ولزمن لجة البحر، فذلك قوله تعالى:
إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم
[الأعراف: 163] فعمد رجال فحفروا حفيرة عشية الجمعة حيث يدخل السمك وساقوا إليها الماء من البحر، فأقبل الموج بالحيتان فحبسوا السمك فيها يوم السبت، وأخذوا منها ليلة الأحد ويوم الأحد، وقالوا: نحن لا نصطاد يوم السبت.
وكان في القرية نحوا من سبعين ألفا؛ فصنف منهم أمسك عن الاصطياد ونهى؛ وصنف أمسك ولم ينه؛ وصنف منهم انتهوا؛ وصنف منهم انتهكوا الحرمة. وكان الذين نهوا اثني عشر ألفا؛ فلما أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون: والله لا ساكناكم في قرية واحدة، فقسموا القرية بجدار ولعنهم داود عليه السلام وغضب الله لإصرارهم على المعصية، فخرج الناهون ذات يوم من بابهم، والمجرمون لم يفتحوا بابهم ولا خرج منهم أحد؛ فلما أبطأوا تسوروا عليهم الحائط فإذا هم جميعا قردة. فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا. ولم يمكث ممسوخ مسخ فوق ثلاثة أيام، ولم يتوالدوا، فذلك قوله تعالى: { فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين }؛ أي صاغرين مطرودين بلغة كنانة، قاله مجاهد وقتادة والربيع.
وقال أبو روق: يعني (خرسا لا يتكلمون)، دليله قوله تعالى:
اخسئوا فيها ولا تكلمون
[المؤمنون: 108]. وقيل: مبعدون من كل خير، روي عن ابن مسعود: (أنهم لم يلدوا بعدما مسخوا) قال: (ولذلك الممسوخ لا يكون له نسل). وقيل: إنهم كانوا رجالا ونساء فمسخهم الله تعالى الذكر ذكر والأنثى أنثى؛ وكانوا يتعاوون، وكان تسيل دموعهم ولم يأكلوا ولم يشربوا، ثم أهلكهم الله تعالى. فجاءت ريح فهبت بهم وألقتهم في الماء، وما مسخ الله تعالى أمة إلا أهلكها.
[2.66]
قوله عز وجل: { فجعلناها نكالا }؛ أي القردة؛ وقيل: المسخة؛ وقيل: العقوبة؛ وقيل: القرية. وقوله تعالى: { نكالا } أي عقوبة وعبرة وفضيحة، { لما بين يديها وما خلفها }؛ أي عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم. وقال قتادة: (معناه جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصيد؛ وما خلفها من العصيان بأخذ الحيتان بعد النهي). وقيل: لما بين يديها من عقوبة الآخرة؛ وما بعدها من فضيحة في دنياهم، فتذكرون بها إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: { وموعظة للمتقين }؛ أي عظة وعبرة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش، فلا يفعلون مثل فعلهم.
[2.67-71]
قوله عز وجل: { وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة }؛ هذه الآية نزلت بعد قوله تعالى:
وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها
[البقرة: 72] وإن كانت مقدمة في التلاوة؛ لأن قتل النفس كان قبل ذبح البقرة.
والقصة فيه ما روي: أن بني إسرائيل قيل لهم في التوراة: أيما قتيل وجد بين قريتين فليقس إلى أيهما أقرب؛ ثم ليؤخذ لأهل تلك القرية وليحلف خمسون شيخا من شيوخهم بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلا. فقتل رجلان من بني إسرائيل ابن عم لهما اسمه عاميل ليرثاه؛ وكانت لهما ابنة عم حسنة، فخافا أن ينكحها؛ فقتلاه لذلك وحملاه إلى جانب قرية فأخذ أهل تلك القرية به فجاءوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا: أدع الله تعالى أن يطلعنا على قاتله، فأوحى الله إليه: امرهم أن يذبحوا بقرة، فأمرهم بذلك ليضرب المقتول ببعض تلك البقرة فيحيى فيخبرهم بمن قتله. ف: { قالوا أتتخذنا هزوا }؛ أي تستهزئ بنا يا موسى حين سألناك عن القتل وتأمرنا بذبح بقرة!! وإنما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظاهر؛ ولم يدروا ما الحكمة فيه.
وقرأ ابن محيص: (أيتخذنا) بالياء يعنون الله عز وجل. ولا يستبعد هذا من جهلهم؛ لأنهم هم الذين قالوا:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138]. وفي قوله عز وجل: { هزوا } ثلاث لغات: (هزوا) بالتخفيف والهمز ومثله كفوا؛ وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف. و(هزؤا) و(كفؤا) مهموزان مثقلان، وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام والكسائي. وهزوا وكفوا مثقلان بغير همز هي قراءة حفص عن عاصم، وكلها لغات صحيحة فصيحة معناها الاستهزاء.
ف: { قال }؛ لهم موسى: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين }؛ أي أمتنع بالله أن أكون من المستهزئين بالمؤمنين.
فلما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله، { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ، أي ما هذه البقرة؛ كبيرة أم صغيرة؟ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" والذي نفس محمد بيده؛ لو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزت، ولكن شددوا على أنفسهم بالمسألة فشدد الله عليهم "
إنما كان تشديدهم تقديرا من الله عز وجل وحكمة منه.
وكان السبب فيه: أن رجلا من بني إسرائيل كان بارا بأبويه، وبلغ من بره أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفا، وكان فيها فضل. فقال: إن أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه، فأمهلني حتى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأيقظه وأعطني الثمن. قال: ما كنت لأفعل، قال: أزيدك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجلت النقد. فقال: وأنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباه أبي؛ ففعل ولم يوقظ الرجل أباه؛ فأعقبه الله ببره أباه أن جعل البقرة تلك بعينها عنده.
وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.
وقال ابن عباس: (كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل؛ وكان له عجلة، فأتى بالعجلة إلى غيضة؛ وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر. ومات الرجل فنشأت العجلة في الغيضة وصارت عوانا؛ وكانت تهرب من كل من رآها، فلما كبر الابن وكان بارا بأمه، كان يقسم الليلة أثلاثا؛ يصلي ثلثا؛ وينام ثلثا؛ ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فإذا أصبح ذهب يحتطب على ظهره ويبيعه في السوق، ثم يتصدق بثلثه؛ ويأكل ثلثه؛ ويعطي أمه ثلثه.
فقالت له أمه يوما: إن أباك ورثك عجلة، وذهب بها إلى غيضة كذا واستودعها الله، فانطلق إليها وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك؛ فإن من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها.
فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى؛ فصاح بها وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه؛ فقبض على عنقها وقادها. فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى؛ وقالت: أيها الفتى البار بوالديه! اركبني فإن ذلك أهون عليك. قال: إن أمي لم تأمرني بذلك! ولكن قالت: قودها بعنقها، فقالت: وحق إله بني إسرائيل؛ لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمك!
فجاء بها إلى أمه فقالت: له: يا بني إنك فقير؛ وشق عليك الاحتطاب بالنهار؛ والقيام بالليل، فاذهب وبع هذه البقرة فخذ ثمنها. فقال: بكم؟ فقالت: بثلاثة دنانير؛ ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي! وكان ثمن البقرة في ذلك الوقت ثلاثة دنانير.
فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله ملكا في صورة بشر ليختبر كيف بر الفتى بوالديه! فقال الملك بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير؛ وأشرط عليك رضى والدتي. فقال الملك: بستة دنانير؛ ولا تستأذن أمك. فقال: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضاء والدتي! فردها إلى أمه. فقالت: بعها بستة دنانير على رضى مني. فانطلق بها وقال للملك: إنها أمرتني أن لا أنقصها من ستة دنانير على أن أستأمرها. فقال: الملك: أنا أعطيك اثنى عشر على أن لا تستأمرها، فأبى، ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك. فقالت: يا بني إن الذي يأتيك ملك في صورة بشر؛ فقل له: أتأمرنا أن نبيعها أم لا؟ فأتى إليه؛ فقال له ما قالت أمه. فقال له: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة، فإن موسى يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلا بملئ مشكها ذهبا. وقدر الله على بني إسرائيل ذبحها مكافأة له على بر والديه فضلا منه ورحمة).
وروي أنها كانت لرجل يبيع الجوهر، فجاءه إبليس بجراب من اللؤلؤ يساوي مائتي ألف، فعرضه عليه بمائة ألف، فوجد الجوهري المفتاح تحت رأس أبيه وهو نائم، وقال: كيف أوقظ أبي لربح مائة ألف؟! فكره أن يوقظه، فرجع وقال: إن أبي نائم والمفتاح تحت رأسه. فقال له إبليس: إذهب أيقظه فأنا أبيعك بخمسين ألفا. فذهب فلم يحتمل قلبه ذلك، فرجع، فلم يزل إبليس يحط من الثمن حتى بلغ عشرة دراهم، فلم يوقظ أباه وترك الشراء، فجعل الله في ماله البركة حتى اشتروا بقرته بملئ مشكها ذهبا.
قوله عز وجل: { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر }؛ وفي مصحف عبدالله: (سل لنا ربك يبين لنا). ومعنى الآية: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما } سنها؟. { قال } موسى: { إنه } يعني الله عز وجل { يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر } لا كبيرة ولا صغيرة. وارتفع { فارض } و { بكر } بإضمار (هي)؛ أي لا هي فارض ولا هي بكر.
قال مجاهد والأخفش: (الفارض : الكبيرة المسنة التي لم تلد. والبكر: الفتية الصغيرة التي لم تلد). قال السدي: (البكر: التي لم تلد قط إلا واحدا). وقيل: معناه لا فارض؛ أي ليست بكبيرة قد ولدت بطونا كثيرة، ولا بكرا؛ أي لم تلد.
قوله تعالى: { عوان بين ذلك }؛ أي وسط بين الصغيرة والكبيرة قد ولدت بطنا أو بطنين؛ وجمعها عون. قوله تعالى: { فافعلوا ما تؤمرون }؛ أي افعلوا ما تؤمرون به من الذبح، ولا تكثروا السؤال.
ثم عادوا في السؤال ف: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها }؛ موضع { ما } رفع بالابتداء؛ و { لونها } خبره. وقرأ الضحاك: (ما لونها) نصبا كأنه أعمل فيه التبيين وجعل { ما } صلة. { قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع لونها }؛ قيل: يعني سوداء مثل قوله:
جملت صفر
[المرسلات: 33] أي سود، كذا قال الحسن. والعرب تسمي الأسود أصفر. قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي
هن صفر أولادها كالزبيب
والصحيح: أنها صفراء؛ لأن السوداء لا تؤكد بالفاقع، وإنما تؤكد بالحالك، يقال في المبالغة في الوصف: أصفر فاقع؛ وأحمر قان؛ وأسود حالك؛ وأخضر ناضر؛ وأبيض ناصع. ويقال: أبيض نقي، فمعنى { فاقع } أي صاف شديد الصفرة. وقال ابن عباس: (صفراء فاقع لونها شديدة الصفرة). وقال العتيبي: (غلط من قال: الصفراء ها هنا السوداء؛ لأن هذا غلط في نعوت البقر، وإنما هو في نعوت الإبل).
قوله تعالى: { تسر الناظرين }؛ أي تعجب الناظرين إليها؛ لتمام خلقها؛ وكمال حسنها؛ ونصوع لونها. قال علي رضي الله عنه: (من لبس نعلا صفراء قل همه؛ لأن الله تعالى يقول { صفراء فاقع لونها تسر الناظرين } ). فإن قيل: لم أمروا بذبح البقرة دون غيرها؟ قيل: لأن القربان تكون من الإبل والبقر والغنم؛ وكانوا يحرمون لحم الإبل؛ كما قال تعالى:
إلا ما حرم إسرائيل على نفسه
[آل عمران: 93] يعني لحوم الإبل؛ وكان ذبح البقرة أفضل من ذبح الغنم فخصت بذلك.
قوله عز وجل: { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي }؛ أسائمة أم عاملة؟ قوله تعالى: { إن البقر تشابه علينا }؛ هذه قراءة العامة؛ وقرأ محمد الأموي: (إن الباقر) هو جمع البقر. قال قطرب: يقال في جمع البقرة: بقر وباقر وباقور وبقور. فإن قيل: لم قال { تشابه } والبقر جمع؛ ولم يقل تشابهت؟ قيل: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذكر لتذكير لفظ البقر كقوله:
أعجاز نخل منقعر
[القمر: 20]. وسئل عن هذا سيبويه فقال: (كل جمع حروفه أقل من حروف لفظ واحده؛ فإن العرب تذكره). وقال الزجاج: (معناه أنه أراد جنس البقر).
وقوله تعالى: { تشابه } فيه سبع قراءات: (تشابه) بفتح التاء والهاء وتخفيف الشين؛ وهي قراءة العامة. وقراءة الحسن: (تشابه) بالتخفيف وهاء مضمومة؛ يعني تتشابه. وقراءة الأعرج: (تشابه) بفتح التاء والتشديد وضم الهاء على معنى: تتشابه. وقرأ مجاهد: (تشبه) كقراءة الأعرج إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبي: (تشابهت) أنثه لتأنيث البقر. وقرأ ابن إسحاق: (تشابهت) بالتشديد. وقرأ الأعمش: (متشابه).
قوله تعالى: { وإنآ إن شآء الله لمهتدون }؛ يعني إلى وصفها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" واسم الله لو لم يستثنوا لما بينت لهم إلى آخر الأبد ".
قوله تعالى: { قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول }؛ أي لا مذللة بالعمل، { تثير الأرض }؛ أي ليست بحراثة، { ولا تسقي الحرث }؛ أي ليست ناضحة لا يسقى عليها الزرع. قوله تعالى: { مسلمة }؛ أي برية من العيوب. وقال الحسن: (مسلمة القوائم ليس فيها أثر العمل). قوله تعالى: { لا شية فيها }؛ أي لا عيب فيها. وقال قتادة (لا بياض فيها أصلا). وقال مجاهد: (لا بياض فيها ولا سواد). وقيل: ليس فيها لون يفارق سائر لونها. والذلول في الدواب: بمنزلة الذليل في الناس؛ يقال: رجل ذليل؛ ودابة ذلول.
وقوله تعالى: { قالوا الآن جئت بالحق }؛ أي بالوصف البين التام؛ فطلبوها؛ فلم يجدوها بكمال وصفها إلا عند الفتى البار بوالديه؛ فاشتروها منه بملئ مشكها ذهبا. وقال السدي: (بوزنها عشر مرات ذهبا). وقوله تعالى: { فذبحوها وما كادوا يفعلون }؛ أي من غلاء ثمنها. وقيل: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها. وقيل: لأن كل واحد منهم خشي أن يكون القاتل من قبيلته.
[2.72]
قوله عز وجل: { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها }؛ يعني: عاميل. وهذه الآية أول القصة؛ ومعناها: واذكروا إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها؛ أي اختلفتم فيها، كذا قال ابن عباس ومجاهد؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" كنت خير شريك لا تداري ولا تماري "
وقال الضحاك: (فادارأتم فيها؛ أي اختصمتم). وقال عبدالعزيز بن يحيي: (شككتم). وقال الربيع: (تدافعتم). وأصل الدرئ الدفع. يعني إلقاء ذاك على هذا؛ وهذا على ذاك يدافع كل واحد عن نفسه كقوله:
ويدرءون بالحسنة السيئة
[الرعد: 22]. وقوله تعالى: { والله مخرج ما كنتم تكتمون }؛ أي مظهر ما كتمتم من أمر القاتل.
[2.73]
قوله عز وجل: { فقلنا اضربوه ببعضها }؛ أي اضربوا المقتول ببعض البقرة؛ أي بعضو منها. واختلفوا في هذا البعض ما هو؟ فقال ابن عباس: (العضو الذي يلي الغضروف وهو المقتل). وقال الضحاك: (بلسانها). وقال سعيد بن جبير: (معجب ذنبها؛ وهو العصعص؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه؛ وهو أول ما يخلق وآخر ما يبلى). وقال مجاهد: (بدنها). وقيل: بفخذها. وقيل: فخذها الأيمن. وقال السدي: (البضعة التي بين كتفيها). ففعلوا ذلك، فلما ضربوه قام القتيل حيا بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دما. فسألوه: من قتلك فقال: فلان وفلان؛ لابني عم له. ثم اضطجع ميتا. فأخذا فقتلا. وفي الآية اختصار تقديره: { فقلنا اضربوه ببعضها } فضربوه فحيى.
قوله تعالى: { كذلك يحيي الله الموتى }؛ أي كما أحيى عاميل بعد موته كذلك يحيي الله الموتى. { ويريكم آياته }؛ أي عجائب قدرته ودلالته، { لعلكم تعقلون }؛ أي لكي تفهموا إحياء الموتى وغير ذلك. قال الواقدي: (كل شيء في القرآن { لعلكم } فهو بمعنى (لكي) غير الذي في الشعراء:
وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون
[الشعراء: 129] فإنه بمعنى كأنكم تخلدون فلا تموتون). والله تعالى كان قادرا على إحيائه بغير هذا السبب؛ إلا أن الله أمرهم بذلك؛ لأن إحياء الميت بالميت آكد دليلا وأبين قدرة.
[2.74]
قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } ، قال الكلبي: قالوا بعد ذلك: لم نقتله نحن؛ وأنكروا؛ ولم يكن أعمى قلبا ولا أشد تكذيبا منهم لنبيهم عند ذلك، فقال الله تعالى: { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }.
قال الكلبي: (قست؛ أي يبست وفسدت). وقال أبو عبيد: (حقدت). وقال الواقدي: (جفت فلم تلن). وقيل: اسودت. وقال الزجاج: (تأويل القسوة ذهاب اللين والخشوع والخضوع). وقيل: قست؛ أي غلظت.
وقوله تعالى: { من بعد ذلك } أي من بعد إحياء الميت: وقيل: من بعد هذه الآيات التي تقدمت من مسخ القردة والخنازير؛ ورفع الجبل؛ وخروج الأنهار من الحجر؛ وغير ذلك. { فهي كالحجارة }؛ في غلظها وشدتها ويبسها؛ { أو أشد }؛ يبسا وغلظا. ومعنى { أو أشد }: بل أشد، كقوله:
كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل: 77]. وقيل: (أو) بمعنى الواو؛ أي وأشد، { قسوة } ، وقوله تعالى:
بيوتكم أو بيوت ءابآئكم
[النور: 61] ومثل:
لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن
[النور: 31]، وقوله تعالى:
ءاثما أو كفورا
[الإنسان: 24]. وقرأ أبو حيوة: (أو أشد قساوة).
ثم عذر الله الحجارة وفضلها على القلب القاسي، فأخبر أن منها ما يكون فيه رطوبة؛ وأن منها لما يتردى من أعلى الجبل إلى أسفله مخافة الله عز وجل فقال تعالى: { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } ، وقرأ مالك بن دينار: (نتفجر) بالنون كقوله
فانفجرت
[البقرة: 60]. وفي مصحف أبي (منها الأنهار) رد الكناية إلى الحجارة. { وإن منها لما يشقق فيخرج منه المآء } ، قرأ الأعمش: (يتشقق).
وقوله تعالى: { وإن منها لما يهبط من خشية الله }؛ أي ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله من خشية الله؛ وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير. قيل: لا يهبط من الجبال حجر بغير سبب ظاهر إلا وهو مجعول فيه التمييز. قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ وعيد وتهديد؛ أي ما الله بتارك عقوبة ما تعملون؛ بل يجازيكم به.
[2.75]
قوله تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم }؛ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أفترجون أيها المؤمنون أن تصدقكم اليهود فيما آتاكم به نبيكم محمد، { وقد كان فريق }؛ أي طائفة، { منهم يسمعون كلام الله }؛ يعني التوراة، { ثم يحرفونه }؛ أي يغيرونه، { من بعد ما عقلوه }؛ أي من بعد فهموه وعلموه كما غيروا آية الرجم وصفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: { وهم يعلمون }؛ أي وهم يعلمون أنهم كاذبون، هذا قول مجاهد وعكرمة والسدي وقتادة.
وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: (نزلت هذه الآية في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه لما أخذتهم الرجفة وأحياهم الله تعالى بدعاء موسى؛ حين قالوا: يا موسى أسمعنا كلام الله؟ فطلب ذلك؛ فأجابه الله: مرهم أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ويصوموا؛ ففعلوا، ثم خرج بهم موسى حتى أتوا الطور؛ فلما غشيهم الغمام سمعوا صوتا كصوت الشبور؛ فسجدوا، فسمعوا كلام الله يقول: (إني أنا الله ربكم لا إله إلا أنا الحي القيوم، لا تعبدوا إلها غيري ولا تشركوا بي شيئا؛ وأوصيكم ببر الوالدين؛ وأن لا تحلفوني كاذبين؛ ولا تزنوا؛ ولا تسرقوا؛ ولا يقتل بعضكم بعضا؛ ولا يشهد بعضكم على بعض شهادة زور؛ وأطعموا المساكين؛ وصلوا القرابة؛ ولا تظلموا اليتيم؛ ولا تقهروا الضعيف). فلما سمعوا خرجت أرواحهم ثم ردت إليهم: فقالوا: يا موسى إنا لا نطيق أن نسمع كلام الله عز وجل يقول في آخر كلامه: (إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا، ولا بأس). والمعنى بهذه الآية تقر به الصحابة في أن اليهود إن كذبوا النبي فلهم سابقة في الكفر والتحريف.
[2.76]
قوله عز وجل: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا }؛ قرأ ابن السميقع (وإذا لاقوا) قيل: يعني المنافقين من أهل الكتاب في وقت موسى؛ فإنه كان في قومه منافقون، كما في أمتنا. وقيل: المراد به منافقو هذه الأمة، وإنما ذكرهم الله تعالى هنا مع اليهود؛ لأن أكثرهم كانوا منهم من اليهود قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
معناه: { وإذا لقوا } المنافقون من اليهود { الذين آمنوا } ، يعني أبا بكر وأصحابه من المؤمنين. قالوا: { آمنا } كإيمانكم وشهدنا بأن محمدا صادق ونجده في كتابنا بنعته وصفته، { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } ، أي وإذا خلوا إلى رؤسائهم، { قالوا }؛ قال لهم رؤساؤهم - كعب بن أشرف؛ وكعب بن أسد؛ ووهب بن يهودا - وغيرهم - من رؤساء اليهود: { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم }؛ أي تخبرونهم أنهم على الحق ليكون لهم الحجة عليكم عند الله في الدنيا والآخرة إذ كنتم مقرين بصحة أمرهم ولم تتبعوهم.
وقال الكلبي: (معناه: أتحدثونهم بما قضى الله عليكم في كتابكم أن محمدا حق وقوله صدق). ومنه قيل للقاضي: الفتاح. وقال الكسائي: بما بينه الله لكم. وقال الواقدي: بما أنزل الله عليكم؛ نظيره:
لفتحنا عليهم بركت من السمآء
[الأعراف: 96]؛ أي أنزلنا. وقال أبو عبيد والأخفش: (بما من الله عليكم وأعطاكم).
قوله تعالى: { ليحآجوكم به عند ربكم }؛ أي ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم عند ربكم. وقال بعضهم: هو أن الرجل من المسلمين يلقى قرينه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: إنه حق وهو نبي؛ فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك، وقيل: إن كعب بن الأشرف وغيره من رؤساء الكفار كانوا يقولون لعبدالله بن أبي وأصحابه: إذا أقررتم بنبوة هذا النبي وأن ذكره في التوراة حق؛ تأكدت حجته عليكم. وقال مجاهد:
" إن النبي صلى الله عليه وسلم سب يهود بني قريظة؛ فقال لهم: " يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت " فقال بعضهم لبعض: من أخبر محمدا بهذا؟ ما سمعه إلا منكم؛ أو ما خرج إلا منكم! ".
وأصل الفتح: فتح المغلق؛ ثم استعمل في مواضع كثيرة من فتح البلدان؛ وفتحك على القارئ. وقد يكون الفتح بمعنى الحكم؛ كما في هذه الآية ومنه قوله:
ربنا افتح بيننا
[الأعراف: 89]. ويسمى القاضي: الفاتح بلغة عثمان. وقد يكون الفتح بمعنى النصر مثل قوله تعالى:
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا
[البقرة: 89] أي يطلبون النصرة عليهم. وقوله تعالى: { أفلا تعقلون }؛ أي أفليس لكم ذهن الإنسانية.
[2.77]
قوله تعالى: { أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } أي ما يسرون من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم؛ وما يعلنون مع الصحابة من التصديق.
[2.78]
وقوله تعالى: { ومنهم أميون }؛ أي ومن اليهود من لا يحسن القراءة ولا الكتابة إلا أن يحدثهم كبارهم بشيء فيظنونه حقا؛ فيصدقونهم وهو كذب. قوله تعالى: { لا يعلمون الكتاب إلا أماني }. اختلفوا في معنى الأماني، قال الكلبي: معناه لا يعلمون إلا ما يحدثهم به علماؤهم. وقال أبو روق: (القراءة من ظهر القلب ولا يقرءون في الكتب) ودليل هذا قوله تعالى:
إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته
[الحج: 52] أي إلا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته. قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخره لاقى حمام المقادر
وقال مجاهد: (الأماني الكذب والأباطيل؛ كقول عثمان رضي الله عنه: (ما تمنيت منذ أسلمت) أي ما كذبت). وأراد بالأماني الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله تعالى من تغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: (معنى: يتمنون على الله الكذب والباطل مثل قوله:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة: 80] وقوله:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
[البقرة: 111] وقولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه
[المائدة: 18]).
قوله تعالى: { وإن هم إلا يظنون }؛ أي ما هم إلا يظنون ظنا وتوهما لا حقيقة ويقينا، قاله قتادة والربيع. وقال مجاهد: معناه: (وإن هم إلا يكذبون).
[2.79]
قوله تعالى: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله }؛ نزلت هذه الآية في علماء اليهود الذين غيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة فكتبوها: محمد سبطا؛ طويلا؛ أزرقا؛ شبط الشعر. وكانت صفته في التوراة: حسن الوجه؛ جعد الشعر؛ أسمر ربعة. فبدلوا وقالوا: هذا من عند الله، وإذا سئلوا عن صفته قرأوا ما كتبوه؛ فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه. وإنما فعلت اليهود ذلك؛ لأنهم خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فاحتالوا في تغيير صفته ليمنعوا الناس عن الإيمان به.
والويل: الشدة في العذاب. وقيل: الهلاك. وقيل: الخزي؛ ويكنى عنه ب (ويس) و(ويح). وقيل: هو واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يقع إلى قعره. وقيل: يسيل فيه صديد أهل النار. وقيل: لو جعلت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره.
وقوله تعالى: { ليشتروا به ثمنا قليلا }؛ يعني ما كان لهم من المأكلة والهدايا من أغنيائهم؛ ألحق الله بهم ثلاث ويلات فيما غيروا من الكتاب. وقوله تعالى: { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون }؛ أي مما يصيبون من المآكل والهدايا. ولفظ الأيدي للتأكيد كقولهم: مشيت برجلي؛ ورأيت بعيني. قال الله تعالى:
ولا طائر يطير بجناحيه
[الأنعام: 38].
[2.80]
قوله تعالى: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة }؛ اختلفوا في هذه الأيام ما هي؟ قال ابن عباس ومجاهد: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تقول: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة؛ وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا، ثم ينقطع العذاب عنا بعد سبعة أيام. فأنزل الله هذه الآية).
وقال قتادة وعطاء: (يعنون الأربعين يوما التي عبد آباؤهم فيها العجل؛ وهي مدة غيبة موسى عليه السلام).
وفي بعض التفاسير: اختلف في مقدار عبادتهم العجل؛ فقيل: عشرة أيام. وقيل: سبعة أيام. وقيل: أربعون يوما. فقال الله تعالى تكذيبا لهم: { قل }؛ يا محمد: { أتخذتم عند الله عهدا }؛ أي موثقا أن لا يعذبكم إلا هذه المدة، { فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون }.
وروي أنه يقال لهم عند مضي الأجل: يا أعداء الله قد مضى الأجل وبقي الأبد.
ولفظ ال { معدودة } للقلة كقوله:
بثمن بخس دراهم معدودة
[يوسف: 20]، وفي الصوم:
أياما معدودات
[البقرة: 184]. واحتج أصحابنا بقوله عليه الصلاة والسلام:
" المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها "
وقوله صلى الله عليه وسلم:
" دعي الصلاة أيام أقرائك "
أن أقل الأيام ثلاثة وأكثرها عشرة؛ لأنه يقال لما دون الثلاثة: يوم ويومان، وفيما زاد على العشرة أحد عشر؛ وليس لأحد أن يعترض على هذا بقوله في ليلة الصيام:
أياما معدودات
[البقرة: 184] أراد بها الشهر كله؛ لأنه ظاهر لفظ الأيام من الثلاثة إلى العشرة. إلا أنه قد يذكر ويراد به الزيادة وقد فسر الله تعالى أيام الصوم بالشهر، فانعقد بذلك التفسير. وأما أيام الحيض فمبهمة؛ فلا بد أن تكون محصورة؛ لأن الأحكام تختلف بحال الحيض والطهر، فكان حمل اللفظ على ظاهره وحقيقته أولى.
[2.81-82]
وقوله تعالى: { بلى من كسب سيئة }؛ أي ليس كما تقولون. قال الكسائي: (الفرق بين بلى ونعم: أن بلى إقرار بعد جحد؛ ونعم جواب، استفهام لغير جحد. فإذا قيل لك: أليس فعلت كذا؟ تقول: بلى. أو قيل لك: ألم تفعل كذا؟ تقول: بلى). وقال تعالى:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172]. وقال في غير الجحود:
فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم
[الأعراف: 44]. وإنما قال ها هنا: بلى؛ للجحود الذي قبله وهو قوله:
لن تمسنا النار
[البقرة: 80] والسبب هنا الشرك.
قوله تعالى: { وأحاطت به خطيئته }. قرأ أهل المدينة: (خطيئاته) بالجمع. وقرأ الباقون (خطيئته) على الواحد. والإحاطة: الإحداق بالشيء من جميع نواحيه؛ أي سدت عليه طريق النجاة؛ ومات على الشرك. وقيل: السيئة: الذنب الذي وعد عليه العقاب. والخطيئة: الشرك. ولا بد أن تكون الخطيئة أكبر من السيئة؛ لأن ما أحاط بغيره كان أكبر منه.
وأصل بلى: بل؛ وهو لرد الكلام الماضي؛ وإثبات كلام آخر مبتدأ؛ وإنما زيدت اللام لتحسين الوقف. وقيل: أصله: بل لا؛ فخففت. وقال الربيع بن خيثم في معنى قوله: { وأحاطت به خطيئته }: هو الذي يصر على خطيئة قبل أن يموت، ومثله قال عكرمة. وقال مقاتل: يعني أصر عليها. وقال الكلبي: معنى { وأحاطت به خطيئته } أي أوبقته ذنوبه.
قوله تعالى: { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } ظاهر المعنى.
[2.83]
قوله عز وجل: { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل }؛ أي أخذنا عليهم في التوراة العهد الشديد: { لا تعبدون إلا الله }؛ بالتاء قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي؛ وقرأ الباقون بالياء. قال أبو عمرو: والإنزاه { وقولوا للناس } فدلت المخاطبة على التاء. قال الكسائي: إنما ارتفع { لا تعبدون } لأن معناه: أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدون إلا الله. فلما ألقى (أن) رفع، ومثله: لا يسفكون دماءكم، ونظيره قوله تعالى:
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون
[الزمر: 64] يريد: أن أعبد؛ فلما حذف (أن) الناصبة عاد الفعل إلى المضارعة. وقرأ أبي بن كعب: (لا تعبدوا) جزما على النهي؛ أي وقل لهم : لا تعبدوا إلا الله.
ومعنى الآية: أمرناهم بإخلاص العبادة لله عز وجل، { وبالوالدين إحسانا }؛ أي وصيناهم بالوالدين إحسانا برا بهما؛ وعطفا عليهما. وإنما قال: { وبالوالدين } وأحدهما والدة؛ لأن المذكر والمؤنث إذا اقترنا غلب المذكر لخفته وقوته.
قوله عز وجل: { وذي القربى واليتامى والمساكين }؛ أي وبذي القربى. ووصيناهم بصلة الرحم. واليتامى: جمع يتيم؛ وهو الطفل الذي لا أب له. والمساكين: الفقراء. وقوله تعالى: { وقولوا للناس حسنا }؛ اختلف القراء فيه؟ فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو ونافع بضم الحاء وجزم السين؛ وهي قراءة أبي حاتم، ودليله قوله تعالى:
وبالوالدين حسنا
[النساء: 36] وقوله:
ثم بدل حسنا بعد سوء
[النمل: 11].
وقرأ ابن مسعود وحمزة والكسائي وخلف: (حسنا) بفتح الحاء والسين؛ وهو اختيار أبي عبيد. قال: إنما آثرناها؛ لأنها نعت بمعنى قولا حسنا. وقرأ عيسى بن عمر بضم الحاء والسين والتنوين؛ وهو لغة مثل (النصب والسحت). وقرأ عاصم الجحدري (إحسانا) بالألف. وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف (حسني) بالتأنيث مرسلة؛ ومجازه كلمة حسنى.
ومعنى الآية: أيها الرؤساء من اليهود قولوا للسفلة قولا حسنا؛ أي حقا وصدقا، وبينوا لهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في التوراة، ولا تكتموها، ولا تغيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم. هذا قول ابن عباس وابن جبير وابن جريج ومقاتل. ودليله قوله تعالى:
ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا
[طه: 86] أي صدقا. وقيل: معناه: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون }؛ { ثم توليتم } أي ثم أعرضتم عن العهد والميثاق. وقوله { إلا قليلا منكم } هو عبدالله بن سلام وأصحابه. وانتصب { قليلا } على الاستثناء.
[2.84]
وقوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم }؛ لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، وإنما قال ذلك لمعنيين: أحدهما: أن كل قوم اجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة. والآخر: وهو أن الرجل إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقاد ويقتص منه. وقرأ طلحة بن مصرف: (لا تسفكون) بضم الفاء وهما لغتان ، مثل: يعرشون ويعكفون. وقرأ بعضهم: (لا تسفكون) بالتشديد على التكثير.
قوله تعالى: { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم }؛ أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره؛ وقوله تعالى: { ثم أقررتم }؛ أي ثم اعترفتم بأن هذا العهد قد أخذ عليكم وعلى آبائكم وأنه حق، { وأنتم تشهدون } ، اليوم على ذلك يا معشر اليهود.
[2.85]
قوله تعالى: { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم }؛ أي ثم أنتم يا هؤلاء؛ فحذف حرف النداء للاستغناء بدلالة الكلام عليه. كقوله تعالى:
ذرية من حملنا مع نوح
[الإسراء: 3]. وقوله: { تقتلون أنفسكم } قرأ الحسن: (يقتلون) بالتشديد. { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } ، والآية خطاب ليهود قريظة والنضير؛ كانت بنو قريظة حلفاء الأوس؛ وبنو النضير حلفاء الخزرج، فكان كل فريق يقاتل الفريق الآخر وإذا غلبهم قتلهم وسبى ذراريهم وأخرجهم من ديارهم.
قوله تعالى: { تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } ، قرأ أهل الشام وأبو عمرو ويعقوب: (تظاهرون) بتشديد الظاء، ومعناه: يتظاهرون؛ فأدغم التاء في الظاء مثل: (اثاقلتم) و(اداركوا). وقرأ عاصم والأعمش وحمزة وطلحة والحسن والكسائي: (تظاهرون) بالتخفيف؛ حذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب مثل قوله تعالى:
ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
[المائدة: 2] و
ما لكم لا تناصرون
[الصافات: 25]. وقرأ أبي ومجاهد وقتادة: (تظهرون) بالتشديد من غير ألف؛ أي تتظهرون. ومعناهما جميعا واحد: تعاونون. والظهيرة العون؛ سمي بذلك لإسناده ظهره إلى ظهر صاحبه. وقوله تعالى: { بالإثم والعدوان } أي بالمعصية والظلم.
قوله تعالى: { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم }؛ متصل بقوله
ولا تخرجون أنفسكم
[البقرة: 84] لأن قوله: { وإن يأتوكم } داخل في الميثاق. ومعناه: فكوا أسراكم من غيركم بالفداء. وقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (أسارى) بالألف، و(تفدوهم) بغير ألف. وقرأ الحسن: (أسري) بغير ألف، (تفادهم) بالألف. وقرأ النخعي وطلحة والأعمش وحمزة (أسري تفدوهم) كلاهما بغير ألف. وقرأ شيبة ونافع وعاصم وقتادة والكسائي ويعقوب (أسارى تفادوهم) كلاهما بالألف.
والأسارى: جمع أسير؛ مثل: مريض ومرضى، وقريع وقرعى، وقتيل وقتلى. والأسرى: جمع أسير أيضا، مثل: سكارى وكسالى. ولا فرق بين الأسارى والأسرى في الصحيح. قال بعضهم: المقيدون المشدودون أسارى، والأسرى : هم المأسورون غير المقيدين. قوله تعالى: (تفدوهم) بالمال، و(تفادوهم) أي مفاداة الأسير بالأسير. و(أسرى) في موضع نصب على الحال.
ومعنى الآية ما قال السدي: (إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم؛ وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه. وكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتلون في حرب سمير؛ فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم؛ والنضير مع حلفائهم، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها؛ وإذا أسر رجل من الفريقين كلاهما جمعوا له حتى يفدوه فيعيرونهم العرب بذلك؛ فيقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقولون: إنا قد أمرنا أن نفديهم؛ وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن يستذل حلفاؤنا؛ فذلك حين عيرهم الله تعالى).
وقال: { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } وفي الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: { وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان } { وهو محرم عليكم إخراجهم } (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم).
وكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل؛ وترك الإخراج؛ وترك المظاهرة عليهم من أعدائهم؛ وفداء أسرائهم. فأعرضوا عن كل ما أمر الله تعالى به؛ إلا الفداء. فقال الله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }؛ وإيمانهم الفداء؛ وكفرهم القتل والإخراج والمظاهرة. وقال مجاهد: (يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته؛ وأنت تقتله بيدك؟!).
قوله تعالى: { فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا }؛ أي فما جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض إلا ذل وهوان في الدنيا. يعني بالخزي: قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بنو النضير عن منازلهم. يقال في السوء والشر: خزي يخزى خزيا. وفي الحياء: خزى يخزي خزاية.
قوله تعالى: { ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب }؛ وهو عذاب النار. وقرأ السلمي والحسن وأبو رجاء: (تردون) بالتاء. كقوله تعالى: { أفتؤمنون }. قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ " قرأ " بالياء مدني ومكي وأبو بكر ويعقوب. والباقون بالتاء.
[2.86]
قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة }؛ أي استبدلوا الدنيا بالآخرة، { فلا يخفف عنهم العذاب }؛ أي لا يهون، { ولا هم ينصرون }؛ من عذاب الله.
[2.87]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } ، أي أعطينا موسى التوراة جملة واحدة، وأردفنا وأتبعنا من بعده رسلا؛ رسولا من بعد رسول؛ يقال: قفى أثره وقفى غيره في التعدية مأخوذ من قفاء الإنسان؛ قال الله تعالى:
ولا تقف ما ليس لك به علم
[الإسراء: 36]. وقيل: إن الله تعالى أنزل التوراة على موسى جملة واحدة، وأمره أن يحملها فلم يطق؛ فبعث الله بكل آية ملكا، فلم يطيقوا حملها؛ فبعث الله بكل حرف ملكا، فلم يطيقوا، فخففها الله على موسى، فحملها وعمل بها.
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات }؛ يعني من إحياء الموتى؛ وإبراء الأكمه والأبرص؛ ونزول المائدة. ومعنى { البينات }: الدلالات اللائحات والعلامات الواضحات. وقوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس }؛ المد (آيدناهما) القوة؛ أي وأعناه بجبريل. خفف ابن كثير (القدس) وثقله الآخرون. وهما لغتان مثل (الرعب والسحت). قال السدي والضحاك وقتادة: (روح القدس: جبريل). قال الحسن: (القدس: هو الله عز وجل، وروحه: جبريل عليه السلام). وأضافه إلى نفسه تكريما وتخصيصا، نحو: بيت الله؛ وناقة الله؛ وعبدالله. وقال السدي: (القدس: البركة) وقد أعظم الله تعالى بركة جبريل إذ نزل عامة وحي أنبيائه على لسانه. وتأييد عيسى بجبريل عليه السلام أنه كان قرينه يسير معه حيثما سار؛ ورفعه إلى السماء حين أراد اليهود قتله. وقيل: سمي جبريل روح القدس؛ لأن بمجيئه يحيي الكفار بالإسلام.
والقدس: الظاهر. وقيل: المبارك. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: (روح القدس: اسم الله الأعظم، وبه كان يحيي الموتى؛ ويري الناس تلك العجائب).
وقال ابن زيد: هو الإنجيل جعله الله روحا كما جعل القرآن لمحمد روحا. قال الله تعالى:
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى: 52].
فلما سمعت اليهود بذكر عيسى؛ قالوا: يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت؛ ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت، فائتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا. فقال الله تعالى: { أفكلما جآءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم }؛ أي أفكلما جاءكم أيها اليهود رسول بما لا يوافق هواكم { استكبرتم } أي تكبرتم وتعظمتم عن الإيمان به، { ففريقا كذبتم }؛ مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، { وفريقا تقتلون } ، مثل زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والألف في { أفكلما } ألف استفهام معناه التوبيخ والزجر.
[2.88]
قوله تعالى: { وقالوا قلوبنا غلف }؛ أي قالت اليهود: قلوبنا ممنوعة من القبول؛ فرد الله عليهم بقوله: { بل لعنهم الله بكفرهم }؛ أي أنهم ألفوا كفرهم فاشتد إعجابهم به ومحبتهم له فمنعهم الله الألطاف والفوائد التي منح الله المؤمنين مجازاة لهم على كفرهم.
قرأ ابن محيصن: (غلف) بضم اللام. وقرأ الباقون بجزمها. فمن خفف فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصفر؛ وهو الذي عليه غشاوة وغطاء بمنزلة الأغلف غير المختون؛ والأقلف مثله، أي عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد! قاله قتادة ومجاهد؛ نظيره قوله تعالى:
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه
[فصلت: 5].
ومن ثقل (غلف) فهو جمع غلاف مثل: حجاب وحجب؛ وكتاب وكتب، ومعناه: قلوبنا أوعية لكل علم؛ فلا نحتاج إلى علمك وكتابك؛ فهي لا تسمع حديثا إلا وعته؛ إلا حديثك لا تعيه وكتابك؛ قاله عطاء وابن عباس. وقال الكلبي: (يريدون أوعية لكل علم فهي لا تسمع حديثا إلا وعته؛ إلا حديثك لا تعيه ولا تعقله. فلو كان فيه خير لفهمته ولوعته) قال الله تعالى: { بل لعنهم الله بكفرهم } وأصل اللعن: الطرد والإبعاد؛ فمعناه: طردهم الله؛ أي أبعدهم من كل خير. وقال النضر بن شميل: (الملعون: للمخزى وللملك).
قوله عز وجل: { فقليلا ما يؤمنون }؛ قال قتادة: (معناه ما يؤمن منهم إلا قليل؛ وهو عبدالله بن سلام وأصحابه؛ لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود). فعلى هذا القول { ما } صلة معناه: فقليلا يؤمنون. ونصب (قليلا) على الحال، وقيل: على معنى صاروا قليلا يؤمنون. وقيل: معناه: إيمانهم بالله قليل؛ لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وانتصب (قليلا) على هذا التأويل على معنى: إيمانا قليلا يؤمنون.
وقال معمر : (معناه لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديكم ويكفرون بأكثر) وعلى هذا القول يكون (قليلا) منصوبا بنزع الخافض، و(ما) صلة؛ أي فبقليل يؤمنون. وقال الواقدي وغيره: (معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا) وهذا كقول الرجل للآخر: ما أقل ما تفعل كذا! يريد لا يفعله البتة.
[2.89]
قوله عز وجل: { ولما جآءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم }؛ يعني القرآن موافقا لما معهم؛ يعني التوراة وسائر الكتب في التوحيد والدعاء إلى الله؛ وقوله تعالى: { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا }؛ أي وكانوا من قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنصرون بذكر القرآن ونبي آخر الزمان على الذين جحدوا توحيد الله؛ كانوا إذا قاتلوا المشركين؛ قالوا: (اللهم انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل على الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان؛ الذي نجد صفته في التوراة) وكانوا يرجون أن ذلك النبي منهم، وكانوا إذا قالوا ذلك نصروا، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: أطل زمان يخرج نبي فيصدق ما قلناه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقوله تعالى: { فلما جآءهم ما عرفوا }؛ أي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوه بصفته في كتابهم ولم يكن منهم، { كفروا به }؛ وغيروا صفته بغيا وحسدا لما بعث من غير بني إسرائيل مخافة زوال رئاستهم، { فلعنة الله على الكافرين }.
[2.90]
قوله تعالى: { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا } ، أي بئسما باعوا به أنفسهم من الهدايا بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم اختاروا الدنيا على الآخرة؛ باعوا أنفسهم بأن يكفروا، { بمآ أنزل الله }؛ يعني القرآن حسدا منهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حتى استبدلوا الباطل بالحق؛ والكفر بالإيمان. وقوله تعالى: { بغيا }؛ أصل البغي: الفساد، يقال: بغى الجرح إذا أفسد. ومعنى قولنا: بغيا؛ أي البغي.
وقوله تعالى: { أن ينزل الله من فضله على من يشآء من عباده }؛ يعني الكتاب والنبوة على محمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { فبآءو بغضب على غضب } ، قال قتادة: (الغضب الأول: حين كفروا بعيسى والإنجيل، والثاني: حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ واستوجبوا اللعنة على إثر اللعنة). وقال السدي: (الغضب الأول: بعبادتهم العجل؛ والثاني: كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتبديل صفته).
قوله تعالى: { وللكافرين عذاب مهين }؛ أي وللجاحدين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم عذاب مهين؛ يهانون فيه فلا يعزون.
[2.91]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله }؛ أي إذا قيل ليهود المدينة: صدقوا بالقرآن؛ { قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا }؛ يعنون التوراة، { ويكفرون بما ورآءه }؛ أي ويجحدون بما سوى الذي أنزل عليهم كقوله تعالى:
فمن ابتغى ورآء ذلك
[المؤمنون: 7] أي سواه. وقوله تعالى: { وهو الحق }؛ يعني القرآن، { مصدقا لما معهم }؛ أي موافقا للتوراة وسائر الكتب. ونصب { مصدقا } على الحال.
وقوله تعالى: { قل فلم تقتلون أنبيآء الله }؛ أي قل لهم يا محمد: إن كنتم تصدقون التوراة فلم تقتلون أنبياء الله، { من قبل }؛ وليس فيما أنزل عليكم قتل الأنبياء، قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ أي فلم تقتلون أنبياء الله إن كنتم مؤمنين بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم. وقوله (لم) أصله (لما) فحذفت الألف فرقا بين الخبر والاستفهام؛ كقوله (فيم) و(بم) و(مم) و(علام) و(حتى م).
[2.92]
وقوله عز وجل: { ولقد جآءكم موسى بالبينات }؛ أي الدلالات الواضحات والآيات التسع، { ثم اتخذتم العجل من بعده }؛ أي من بعد ذلك إلها؛ { وأنتم ظالمون }؛ أي كافرون بالله. وفائدة الآية: أن تكذيب الأنبياء من عادتكم؛ كما أن موسى جاءكم بالبينات ثم اتخذتم العجل إلها.
[2.93]
قوله تعالى: { وإذ أخذنا ميثاقكم }؛ أي أخذنا عليكم العهد في التوراة، { ورفعنا فوقكم الطور }؛ أي الجبل، { خذوا مآ ءاتينكم بقوة }؛ أي خذوا ما أعطيناكم بجد ومواظبة في طاعة الله تعالى. وقوله تعالى: { واسمعوا }؛ أي اسمعوا ما فيه من حلاله وحرامه؛ وما تؤمرون به؛ أي استجيبوا؛ أطيعوا. سميت الطاعة سمعا؛ لأنها سبب الطاعة والإجابة؛ ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده؛ أي أجابه. قال الشاعر:
دعوت الله حتى خفت أن
لا يكون الله يسمع ما أقول
أي يجيب.
وقوله تعالى: { قالوا سمعنا وعصينا }؛ أي سمعنا قولك وعصينا أمرك ولولا مخافة الجبل ما قبلنا. قالوا بعد ذلك بعدما رفع الجبل عنهم. قوله تعالى: { وأشربوا في قلوبهم العجل }؛ أي سقوا في قلوبهم حب العجل، { بكفرهم } ، وخالطها ذلك كإشراب اللون؛ لشدة الملازمة.
قوله تعالى: { قل بئسما يأمركم به إيمانكم }؛ أي قل لهم يا محمد: بشر ما يأمركم به إيمانكم من عبادة العجل من دون الله؛ أي بشر الإيمان إيمان يأمركم بالكفر. وقوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ أي إن كنتم مؤمنين بزعمكم؛ لأنهم قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، فكذبهم الله عز وجل.
[2.94-95]
قوله: { قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله }؛ هذا جواب قول اليهود:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى
[البقرة: 111] و
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة: 80]. وقولهم:
نحن أبناء الله وأحباؤه
[المائدة: 18] فكذبهم الله وألزمهم الحجة فقال: قل لهم يا محمد: { إن كانت لكم الدار الآخرة }؛ يعني الجنة؛ { خالصة }؛ أي خاصة: وقيل: صافية، { من دون الناس فتمنوا الموت }؛ أي فاسألوا الله الموت؛ فإن من كان بهذه الصفة فالموت خير له ولا سبيل إلى دخول الجنة إلا بعد الموت.
وقوله تعالى: { إن كنتم صادقين }؛ أي في قولكم؛ فقولوا: اللهم أمتنا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بعد نزول هذه الآية:
" إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه "
فأبوا أن يفعلوا ذلك.
قال ابن عباس: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو قالوا ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات "
فلما لم يقولوا ذلك أنزل الله عز وجل قوله تعالى: { ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم }؛ أي أسلفت من المعاصي وكتمان صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: { أبدا } يعني هي مدة العمر. وأما بعد ذلك فإنهم يتمنونه في الآخرة وقت مشاهدة العذاب. وإنما أضاف إلى الأيدي؛ لأن أكثر المعاصي تكون باليد. { والله عليم بالظالمين }.
[2.96]
قوله تعالى: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة }؛ اللام لام القسم؛ والنون توكيد القسم، تقديره: والله لتجدنهم يا محمد - يعني اليهود -. ومعنى الآية: لتعلمن اليهود أحرص الناس على البقاء. وفي مصحف أبي: (على الحياة). قوله تعالى: { ومن الذين أشركوا }؛ قيل: إنه متصل بالكلام الأول؛ معناه: وأحرص من الذين أشركوا. قال الفراء: (وهذا كما يقال: هو أسخى الناس ومن حاتم؛ أي وأسخى من حاتم). وقيل:هو ابتداء؛ وتمام الكلام عند قوله: { حياة }. ثم ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر { يود } اسما تقديره: ومن الذين أشركوا قوم، { يود أحدهم }. وقيل: معناه: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا؛ وأراد بالذين أشركوا المجوس ومن لا يؤمن بالبعث. وقوله: { لو يعمر ألف سنة }؛ أي أن يعمر. قوله تعالى: { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر }؛ أي وما أحدهم بمباعده من العذاب تعميره، ولا التعمير بمباعده من العذاب. { والله بصير بما يعملون }؛ تمام الآية مفسر.
[2.97-99]
قوله عز وجل: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله } ، قال ابن عباس:
" إن حبرا من الأحبار عالما من علماء اليهود، يقال له ابن صوريا، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف نومك؟ فإنا نعرف نوم النبي الذي يجتبى في آخر الزمان، قال: " تنام عيناي وقلبي يقظان " قال: صدقت. فأخبرنا عن الولد أمن الرجل أم من المرأة؟ قال: " أما العظم والعصب والعروق فمن الرجل؛ وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة ". قال: صدقت. فما بال الولد يشبه أعمامه ليس فيه شبه من أخواله، ويشبه أخواله ليس فيه شبه من أعمامه؟ فقال: " أيهما علا ماؤه على ماء صاحبه كان الشبه له " قال: صدقت. بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك واتبعتك! أي ملك يأتيك بالوحي؟ قال: " جبريل " قال: ذاك عدونا. ينزل بالقتال والشدة ورسولنا ميكائيل ينزل بالسرور والرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك آمنا بك وصدقناك. فقال: عمر رضي الله عنه: إشهدوا أن من كان عدوا لجبريل فإنه عدو لميكائيل. فقال: لا نقولن هذا "
فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل: إن اليهود قالت: إن جبريل عدونا أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا. وقال قتادة وعكرمة والسدي: كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة؛ ممرها على مدارس اليهود، وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم ويكلمهم، فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك؛ إنهم يمرون بنا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا وإنا لنطمع فيك! فقال عمر رضي الله عنه: (ما أحببتكم كحبكم إياي ولا أسألكم إني شاك في ديني، وإنما أدخل إليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم). فقالوا: من صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة؟ قال: (جبريل) قالوا: ذاك عدونا يطلع محمدا على سرنا وهو صاحب كل عذاب وخسف وشدة؛ وإن ميكائيل إذا جاء؛ جاء بالخصب والسلامة. فقال عمر: (تعرفون جبريل وتنكرون محمدا صلى الله عليه وسلم!) قالوا: نعم، فقال عمر رضي الله عنه: (أنا أشهد أن من كان عدوا لجبريل فهو عدو لميكائيل؛ ومن كان عدوا لهما فالله عدو له). ثم رجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد جبريل قد سبقه بالوحي؛ فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات. وقال: [لقد وافقك ربك يا عمر]. فقال عمر رضي الله عنه: (لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر).
قال الله تعالى تصديقا لعمر: { قل من كان عدوا لجبريل } أي قل لهم يا محمد: من كان عدوا لجبريل.
وإذ هو المنزل للكتاب علي، فإنه إنما أنزله على قلبي بأمر الله لا من تلقاء نفسه، وإنما أنزل ما هو، { مصدقا لما بين يديه } ، من الكتب التي في أيديكم، لا مكذبا لها، وإنه وإن كان فيما أنزل الأمر بالحرب والشدة على الكافرين، { وهدى وبشرى للمؤمنين }. وقيل: معناه: على وجه الترغيم؛ أي فإن جبريل هو الذي نزل عليك رغما لهم.
وفي جبريل سبع قراءات: (جبرئيل) مهموز مشبع مفتوح الجيم والراء؛ وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف. قال الشاعر:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة
مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
و(جبراييل) ممدود مشبع على وزن جبراعيل؛ وهي قراءة ابن عباس وعلقمة ابن وثاب. و(جبرائل) ممدود مختلس على وزن جبراعل؛ وهي قراءة طلحة بن مصرف. و(جبرئل) مقصور مهموز مختلس، وهي قراءة يحيى بن آدم. و(جبرال) مقصور مشدد اللام من غير ياء؛ وهي قراءة يحيى بن يعمر. و(جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همزة؛ وهي قراءة ابن كثير. و(جبريل) بكسر الجيم والراء من غير همزة؛ وهي قراءة علي رضي الله عنه وابن المسيب والحسن وأهل البصرة والمدينة. وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
و(جبريل) بلغة السريانية: عبدالله. وإن (جبر) هو العبد، و(ايل) هو الله. وعن معاذ رضي الله عنه قال: (إنما جبريل وميكائيل كقولك: عبدالله وعبد الرحمن). وقيل: جبريل: مأخوذ من جبروت الله؛ وميكاييل من ملكوت الله.
قوله تعالى: { فإنه نزله على قلبك } يعني: فإن جبريل { نزله على قلبك }. (على) كناية عن غير مذكور كقوله تعالى:
ما ترك على ظهرها من دآبة
[فاطر: 45]. و
حتى توارت بالحجاب
[ص: 32] يعني الشمس.
قال الله تعالى: { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل } معناه: من كان عدوا لهؤلاء فليكن، وهذا على التهديد، { فإن الله عدو للكافرين } ، يعني اليهود. وإنما قال: { عدو للكافرين } ولم يقل: عدو لهم؛ لأنه لو قال ذلك لم يعلم بذلك أن عداوة جبريل تكون كفرا، بل كان يجوز أن يتوهم متوهم أن عداوة جبريل فسقا ولا تكون كفرا؛ فأزال الله هذا الإشكال.
وفي ميكائيل أربع لغات: ممدود مشبع على وزن ميكاعيل؛ وهي قراءة أهل مكة والكوفة والشام. و(ميكائل) ممدود مهموز مختلس مثل ميكاعل؛ وهي قراءة أهل المدينة. (وميكئل) مهموز مقصور على وزن ميكعل؛ وهي قراءة الأعمش وابن محيصن. و(ميكال) بغير همز؛ وهي قراءة أبي عمرو.
و(ميكائيل) معناه عبدالله. (ميك) عبد؛ و(ايل) هو الله. وكذلك (إسرائيل) وهذه أسماء أعجمية رفعت إلى العرب فلفظت بها ألفاظ مختلفة. فإنما عطف جبرائيل وميكائيل على الملائكة بعد دخولهما في اسم الملائكة؛ لفضيلتهما، مثل قوله تعالى:
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح
[الأحزاب: 7] الآية. ومعنى الآية: من كان عدوا لأحد من هؤلاء فإن الله عدو له. الواو فيه بمعنى (أو). يعني: من كفر بالله أو ملائكته أو كتبه؛ لأن الكافر بالواحد كافر بالكل.
فقال ابن صوريا: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه؟ وما أنزل الله عليك من آية بينة! فأنزل الله قوله تعالى: { ولقد أنزلنآ إليك آيات بينات }؛ أي واضحات مفصلات بالحلال والحرام؛ والحدود؛ والأحكام.
قوله تعالى: { وما يكفر بهآ إلا الفاسقون }؛ وهم اليهود وغيرهم؛ سمى الكفر فسقا؛ لأن الفسق الخروج عن الشيء إلى شيء؛ واليهود خرجوا من دينهم بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، والفاسقون هم الخارجون عن أمر الله.
[2.100]
قوله تعالى: { أوكلما عاهدوا عهدا } ، (واو) العطف دخلت عليها الألف ألف الاستفهام كما تدخل على الفاء في قوله تعالى:
أفأنت تسمع الصم
[الزخرف: 40]
أفتتخذونه وذريته أوليآء
[الكهف: 50]. وعلى (ثم) كقوله:
أثم إذا ما وقع
[يونس: 51].
قرأ أبو السمال (أو كلما) ساكنة الواو على النسق. و(كلما) انتصب على الظرف. قوله تعالى: { عاهدوا عهدا } يعني اليهود. قال ابن عباس: [لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ما أخذ الله عليهم وما عهده إليهم فيه؛ قال مالك ابن المصفي: والله ما عهد إلينا في محمد عهدا ولا ميثاقا. فأنزل الله هذه الآية]. توضحه قراءة ابن رجاء أبي العطاردي: (أوكلما عوهدوا عهدا) فجعلهم مفعولين. ودليل هذا التأويل قوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
[آل عمران: 187] الآية.
وقال بعضهم: هو أن اليهود عاهدوا: لئن خرج محمد لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب وننفوهم من بلادهم. فلما بعث نقضوا العهد وكفروا به، دليله قوله تعالى:
ولمآ جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب كتب الله ورآء ظهورهم
[البقرة: 101] أي طرحوه وراء ظهورهم. { نبذه }؛ أي طرحه { فريق منهم }؛ أي طرحوه كأنهم لا يعلمون صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { بل أكثرهم لا يؤمنون }؛ أي أنهم يعلمون ذلك ولكنهم تجاهلوه كأنهم لا يعلمون.
[2.101]
قوله تعالى: { ولمآ جآءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب } ، يعني التوراة، { كتب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون }؛ يعني القرآن: وقيل: التوراة أيضا؛ لأنهم إذا نبذوا القرآن فقد نبذوا التوراة. والنبذ: الطرح. وقرأ ابن مسعود: (نقضه فريق). وقال عطاء: (هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود كفعل قريظة والنضير). والدليل قوله تعالى:
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة
[الأنفال: 56] وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا عليه أحدا؛ فنقضوا وأعانوا مشركي قريش عليه يوم الخندق. وإنما قال:
فريق منهم
[البقرة: 100] لأن علماءهم هم الذين نبذوا عنادا مع العلم به؛ وإنما قال:
بل أكثرهم
[البقرة: 100] لأن منهم من آمن وهو ابن سلام وكعب الأحبار وغيرهما.
والنبذ وراء الظهر مثل من يستخف بالشيء ولا يعمل به. تقول العرب: اجعل هذا خلف ظهرك؛ وتحت قدمك؛ ودبر أذنك؛ أي اتركه وأعرض عنه، قال الله تعالى:
واتخذتموه ورآءكم ظهريا
[هود: 92]. وأنشد الزجاج:
نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
[2.102]
قوله عز وجل: { واتبعوا ما تتلوا الشيطين }؛ يعني اليهود. وهو عطف على
نبذ فريق
[البقرة: 101] كأنه قال: انبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر، { على ملك سليمن }؛ ومعنى { ما تتلوا } يعني ما تلت قبلهم شياطين الجن والإنس { على ملك سليمن } أي على عهد ملك سليمان، قيل: معنى تتلو تكذب، يقال: فلان تلا من فلان؛ إذا صدق في الحكاية عنه، وتلى عليه إذا كذب عليه؛ كما يقال: تال عنه وتال عليه.
وقال ابن عباس: (تتلو؛ أي تتبع وتعمل). وقال عطاء: (تتحدث وتتكلم به). وقرأ الحسن: (الشياطون) بالواو في موضع الرفع في كل القرآن. وسئل أبو حامد الخارجي عن قراءة الحسن هذه فقال: (هي لحن فاحش عند أكثر أهل الأدب). غير أن الأصمعي زعم أنه سمع أعرابيا يقول: بستان فلان حوله (بساتون).
وقصة ذلك: أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجات على لسان آصف: هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك. ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان. فلما مات عليه السلام استخرجوها من تحت مصلاه وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا، فتعلموه. وأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان؛ فلا نتعلمه.
وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه؛ ورفضوا كتب أنبيائهم وقالوا: إنما تم ملكه بالسحر وبه سحر الجن والإنس والطير والرياح. فلم يزالوا على ذلك الاختلاف وفشت الملامة لسليمان حتى بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عذره على لسانه وأظهر براءته مما رمي به من الكفر تكذيبا لليهود، فقال عز وجل: { وما كفر سليمن ولكن الشيطين كفروا }؛ أي هم الذين كتبوا السحر وهم الذين يعلمونه الناس. هذا قول الكلبي.
وقال السدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع؛ فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيره؛ فيأتون الكهنة فيخلطون بما سمعوا كذبا وزورا في كل كلمة سبعين كذبة. ويخبرونهم بذلك؛ فالتفت الناس إلى ذلك وفشى في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيه، وقال: (لا أسمع أحدا يقول إن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه). فلما مات سليمان صلوات الله عليه ضل الناس وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان. فتمثل شيطان على صورة إنسان، وأتى نفرا من بني إسرائيل، وقال: هل أدلكم على كنز؟ قالوا: نعم، قال: احفروا تحت الكرسي، وذهب معهم فأراهم المكان فحفروا فوجدوا تلك الكتب؛ فلما أخذوها، قال الشياطين: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين بهذه الكتب، وأفشى في الناس أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان ساحرا.
واتخذ بنو إسرائيل الكتب. ولذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود. فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصمت اليهود بذلك، فبرأ الله سليمان وأنزل هذه الآية. قوله تعالى: { وما كفر سليمن } أي بالسحر؛ فإن السحر كفر { ولكن الشيطين كفروا }.
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما؛ وأهل الشام بتخفيف النون ورفع الشياطين؛ وكذلك في الأنفال:
ولكن الله قتلهم
[الأنفال: 17]
ولكن الله رمى
[الأنفال: 17]. وقرأ الباقون بالتشديد ونصب ما بعده.
قوله تعالى: { يعلمون الناس السحر }؛ قال بعضهم: السحر: العلم والحذق بالشيء؛ قال الله تعالى:
وقالوا يأيه الساحر
[الزخرف: 49] أي العالم. وقال بعضهم: هو التمويه بالشيء حتى يتوهم أنه شيء ولا حقيقة له كالسراب عند من رآه، قال الله تعالى:
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى
[طه: 66].
قوله تعالى: { ومآ أنزل على الملكين ببابل } ، محل (ما) نصب بإيقاع التعليم عليه، معناه: ويعلمون الذي أنزل على الملكين. ويجوز أن يكون نصبا بالاتباع؛ أي واتبعوا ما أنزل على الملكين. قرأ ابن عباس والحسن والضحاك ويحيى وابن كثير: بكسر اللام من (الملكين) وقال: هما رجلان ساحران كانا ببابل؛ لأن الملائكة لا يعلمون الناس السحر.
قوله تعالى: { ببابل }؛ هي بابل العراق. قوله تعالى: { هروت ومروت } اسمان سريانيان؛ وهما في محل الخفض على تفسير الملكين بدلا منهما، إلا أنهما فتحا لعجمتهما ومعرفتهما. وكانت قصتهما على ما حكاه ابن عباس والمفسرون: أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك زمن إدريس عليه السلام، فعيروهم بذلك؛ وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم؛ فهم يعصونك! فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لارتكبتم ما ارتكبوا. فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك. قال الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم؛ أهبطهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وماروت؛ وكانا من أعبد الملائكة وأصلحهم. فركب الله فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض؛ وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق؛ ونهاهما عن الشرك والقتل بغير حق والزنا وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم، وصعد به إلى السماء.
قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتى افتتنا، وذلك أنه اختصم إليهما ذات يوم الزهرة؛ وكانت من أجمل النساء، وكانت من أهل فارس، ملكة في بلدها. فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت؛ ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك، فأبت وقالت: لا؛ إلا أن تعبدوا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم؛ وتقتلا النفس؛ وتشربا الخمر. فقالا: لا سبيل إلى هذا، فإن الله تعالى نهانا عنها؛ فانصرفت. ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من الخمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها، فراوداها عن نفسها؛ فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم؛ وقتل النفس عزيز وأهون الثلاثة شرب الخمر؛ فشربا فانتشيا ووقعا بالمرأة وزنيا، فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه.
قال الربيع بن أنس: وسجدا للصنم. فمسخ الله عز وجل الزهرة كوكبا.
وقال السدي والكلبي: إنهما لما قالت لهما: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء؟ فقالا: بالاسم الأكبر. فقالت: ما أنتما مدركاني حتى تعلمانيه؟ قال أحدهما للآخر: علمها؟! قال: إني أخاف الله. قال الآخر: فأين رحمة الله؟ فعلماها ذلك فتكلمت به وصعدت إلى السماء؛ فمسخها الله كوكبا. فعلى قول هؤلاء: هي الزهرة بعينها، وقيدوها فقالوا: هي الكوكب الأحمر.
يدل على صحة هذا القول ما روي عن علي رضي الله عنه قال:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى سهيلا قال: لعن الله سهيلا إنه كان عشارا باليمن، وإذا رأى الزهرة قال: لعن الله الزهرة، فإنها فتنت ملكين "
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رأى الزهرة قال: (لا مرحبا ولا أهلا). وعن ابن عباس: أن المرأة التي فتنت هاروت وماروت مسخت، فهي هذا الكوكب الحمراء. يعني الزهرة.
وأنكر الآخرون هذا؛ وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله تعالى بها؛ فقال:
فلا أقسم بالخنس
[التكوير: 15] وإنما المرأة التي فتنت هاروت وماروت كان اسمها زهرة من جمالها؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين؛ فلعنها. وكذلك سهيل كان رجلا عشارا باليمن فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم ذكره؛ فلعنه؛ والله تعالى أعلم.
قال المفسرون: فلما أمسى هاروت وماروت بعدما أصابا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما، فقصدا إدريس النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه بأمرهما وأمراه أن يشفع لهما؛ وقالا: إنا رأيناك يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض، فاشفع لنا إلى ربك؟ ففعل إدريس؛ فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا؛ إذ علما أنه ينقطع، فهما ببابل يعذبان.
واختلف العلماء في عذابهما؛ فقال ابن مسعود: (هما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة). وقال قتادة: (كبلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما). وقال مجاهد: (أن جبا مليت نارا فجعلا فيها). وقيل: معلقان منكسان بالسلاسل. وقيل: منكوسان يضربان بسياط الحديد.
وروي أن رجلا أراد تعلم السحر فقصدهما؛ فوجدهما معلقين بأرجلهما؛ مزرقة أعينهما؛ مسودة وجوههما؛ ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا قدر أربع أصابع وهما معذبان بالعطش؛ فلما رأى ذلك هاله مكانهما؛ فقال: لا إله إلا الله. فلما سمعا كلامه، قالا: من أنت؟ قال: رجل من الناس. قالوا: ومن أي أمة؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قالا: أوقد بعث محمد؟ قال: نعم. قالا: الحمد لله وأظهرا الاستبشار. وقال الرجل: ومم استبشاركما؟ قالا: إنه نبي الساعة، وقد دنا انقضاء عذابنا.
قوله عز وجل: { وما يعلمان من أحد }؛ يعني الملكين؛ و { من } صلة؛ أي لا يعلمان أحدا السحر، { حتى }؛ ينصحاه أولا وينهياه و { يقولا إنما نحن فتنة } ، ومحنة؛ { فلا تكفر } ، بتعلم السحر. يقولان له ذلك سبع مرات. قال السدي وعطاء: (فإن أبى إلا التعلم! قالا له: ائت هذه الرماد فبل عليه؛ فإذا بال عليه خرج منه نور يسطع في السماء؛ فتلك المعرفة. وينزل شيء أسود حتى يدخل مسامعه يشبه الدخان؛ وذلك غضب الله).
وقوله عز وجل: { إنما نحن فتنة } { إنما } وحدها لأنها مصدر؛ والمصدر لا يثنى ولا يجمع مثل قوله:
وعلى سمعهم
[البقرة: 7]. وفي مصحف أبي : (وما يعلم الملكان من أحد). وتعلم السحر لا يكون إثما؛ كمن يقول لرجل: علمني ما الزنا، وما السرقة؟ فيقول: هو كذا وكذا؛ ولكنه حرام فلا تفعله. وهما كانا لا يصفان السحر لأحد حتى يقولا: إنما نحن اختبار وابتلاء للناس؛ فلا تكفر أيها المتعلم؛ أي لا تتعلم للعمل به.
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل تبغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته لتسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، فلما لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكت حتى رحمتها، وقالت: إني أخاف أن أكون قد هلكت؛ كان لي زوج فغاب عني، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك فأجعله يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كثيرا حتى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بكن؟ قلت: لنتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فقلت: لا، قالا: إذهبي إلى ذلك التنور؛ فبولي فيه. فذهبت ففزعت ولم أفعل فجئت إليهما، فقالا لي: فعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لا، قالا: كذبت، إنك لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك، إنما نحن فتنة فلا تكفري. فأبيت، قالا: إذهبي إلى تلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعر جلدي فرجعت إليهما، فقلت: قد فعلت: قالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لا، قالا: كذبت، لم تفعلي ارجعي إلى بلادك فلا تكفري. فأبيت. قالا: إذهبي إلى تلك التنور فبولي فيه، فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى لم أره، فجئتهما، فقلت: قد فعلت، فقالا لي: ما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنعا بالحديد، خرج مني فذهب في السماء حتى غاب، قالا: صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، إذهبي. فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين، ما فعلت شيئا قط ولآ أفعله أبدا.
قوله تعالى : { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } ، قيل: معناه: فيعمل به السامع؛ فيكفر بالعمل؛ فتقع الفرقة بينه وبين زوجته بالردة، إذا كانت مسلمة. وقيل: معناه: يسعى بينهما بالنميمة والإغراء والإفشاء وتمويه الباطل لكي يبغض كل واحد منهما صاحبه فيفارقه.
قرأ الحسن (بين المر) بالتشديد. وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة. وقرأ الباقون بفتح الميم والهمزة. { وما هم بضآرين به }؛ أي بالسحر، { من أحد }؛ أي أحدا؛ وقوله: { إلا بإذن الله }؛ أي بعلمه وقضائه ومشيئته.
قوله تعالى: { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم }؛ أي يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا. وقيل: معناه: يضرهم ولا ينفعهم كلاهما في الآخرة؛ لأن السحر كان ينفعهم في دنياهم، لأنهم يكتسبون به.
قوله تعالى: { ولقد علموا }؛ أي علمت اليهود، { لمن اشتراه }؛ أي لمن اختار السحر والكفر على الإيمان، { ما له في الآخرة من خلق }؛ أي من نصيب. وقال الحسن: (من دين ولا وجه عند الله). وقال ابن عباس: (من قوام).
وقيل: من خلاص. قال أمية: يدعون بالويل فيها؛ لا خلاق لهم إلا السرابيل من قطر وأغلال؛ أي لا خلاص لهم.
قوله تعالى: { ولبئس ما شروا به أنفسهم }؛ أي باعو به أنفسهم؛ حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق. وقيل: لبئس ما باع المستعملون السحر به أنفسهم بعقوبة الآخرة، { لو كانوا يعلمون }.
وذهب جماعة إلى أن قوله: { مآ أنزل على الملكين } عطف على { وما كفر سليمان } في معنى النفي، كأنه قال: لم ينزل على الملكين ولكن الشياطين هاروت وماروت وأتباعهما يعلمان الناس السحر. والغرض من هذه الآية أن بهت اليهود وكذبهم؛ حملهم على أخذ السحر من الشياطين، وادعوا أنهم أخذوه من سليمان، وأن ذلك اسم الله الأعظم ليكتسبوا به.
[2.103]
قوله تعالى: { ولو أنهم آمنوا واتقوا }؛ أي لو أن اليهود آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واتقوا اليهودية والسحر، { لمثوبة من عند الله خير }؛ أي لكان ثواب الله خيرا لهم من كسبهم بالكفر والسحر. { لو كانوا يعلمون }.
[2.104]
قوله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا }؛ وذلك أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: راعنا يا رسول الله، وارعنا سمعك، يعنون من المراعاة؛ وكانت هذه اللفظة شيئا قبيحا باليهودية. قيل: معناها عندهم اسمع لا سمعت؛ فلما سمعها اليهود اغتنموها؛ وقالوا فيما بينهم: كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا له الآن بالشتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد؛ ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ رضي الله عنه ففطن لها؛ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود لئن نسمعها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. قالوا: أولستم تقولونها؟! فأنزل الله هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } لكيلا تجد اليهود سبيلا إلى سب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل معناها: { ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا } للنبي صلى الله عليه وسلم { راعنا } أي اسمع إلينا نستمع إليك. وقيل: إن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إسمع إلى كلامنا حتى نسمع إلى كلامك؛ فنهى الله عنه؛ إذ لا يجوز لأحد أن يخاطب أحدا من الأنبياء إلا على وجه التوقير والإعظام.
قوله تعالى: { وقولوا انظرنا }؛ يحتمل أن يكون من النظر الذي هو الرؤية، ويحتمل أن يكون انظرنا حتى تبين لنا ما تعلمنا. وقال مجاهد: (معناه فهمنا) وقال بعضهم: معناه بين لنا. وقوله تعالى: { واسمعوا }؛ أي اسمعوا ما تؤمرون به. والمراد أطيعوا. وقوله تعالى: { وللكافرين عذاب أليم }؛ تفسيره قد تقدم.
[2.105]
قوله تعالى: { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير }؛ أي ما يتمنى الذين كفروا من يهود المدينة ونصارى نجران ولا مشركي العرب عبدة الأوثان أن ينزل عليكم أيها المؤمنون من خير، { من ربكم } ، من الوحي وشرائع الإسلام. قوله تعالى: { ولا المشركين } مجرور في اللفظ بالنسق على (من)، مرفوع في المعنى بفعله، كقوله:
وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه
[الأنعام: 38]. قوله تعالى: { من خير من ربكم } أي خير كما تقول: ما أتاني من أحد، ف (من ) فيه وفي إخوانه صلة، وهي كثيرة في القرآن.
قوله تعالى: { والله يختص برحمته من يشآء }؛ أي يختار برحمته للنبوة والإسلام من يشاء، ويختص بها محمد صلى الله عليه وسلم. والاختصاص آكد من الخصوص؛ لأن الاختصاص لنفسك؛ والخصوص لغيرك، { والله ذو الفضل العظيم }؛ على من اختصه بالنبوة والإسلام.
[2.106]
قوله عز وجل: { ما ننسخ من آية أو ننسها }؛ قيل: سبب نزول هذه الآية: أن اليهود كانوا يقولون حين حولت القبلة إلى الكعبة: إن كان الأول حقا فقد رجعتم، وإن كان الثاني حقا فقد كنتم على الباطل. وقيل: سببه: أن اليهود كانوا ينكرون نسخ الشرائع؛ ويقولون: إن النسخ سبب الندامة، ولا يجوز ذلك على الله. فنزلت هذه الآية ردا عليهم وبين أنه يدبر الأمر كيف يشاء.
ومعناه: ما نبدل من آية أو نتركها غير منسوخة نأت بخير من المنسوخة؛ أي أكثر في الثواب. وقيل: ألين، وأسهل على الناس؛ أو مثلها في المصلحة والثواب. قيل: إن قوله: { نأت بخير منها } ، مثل الأمر بالقتال؛ فرض الله في القتال أول ما فرض في الجهاد بأن يكون كل مسلم بدل عشرة من الكفار، وكان لا يحل له أن يفر من عشرة كما قال تعالى:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين
[الأنفال: 65] ثم نسخ بقوله:
الآن خفف الله عنكم
[الأنفال: 66] الآية. ولم يقل أحد إن بعض آيات القرآن خير من بعض في التلاوة والنظم؛ إذ جميعه معجز.
وأما قوله تعالى: { أو مثلها }؛ فهو مثل آية القبلة جعل الله ثواب الصلاة إلى الكعبة بعد النسخ مثل ثواب الصلاة إلى بيت المقدس قبل النسخ. وروي أن المشركين: قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا. فأنزل الله تعالى:
وإذا بدلنآ آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون
[النحل: 101]. وأنزل أيضا: { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها }.
قوله تعالى: { ما ننسخ } قرأ ابن عامر (ننسخ) بضم النون وكسر السين، ومعناه على هذه القراءة نجعله نسخة من قولك: نسخت الكتاب؛ إذا كتبته. وقرأ الباقون: (ننسخ) بفتح النون والسين.
وقوله { أو ننسها } قراءة سعيد بن المسيب وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (ننسيها) بضم النون وكسر السين، ومعناه: نأمره بتركها. وقرأ أبي ابن كعب (أو ننسك). وقرأ عبدالله (ما ننسك من آية أو ننسخها). وقرأ سالم مولى حذيفة: (أو ننسكها). وقرأ أبو حاتم: (أو ننسها) بالتشديد. وقرأ الضحاك: (أو تنسها) بضم التاء وفتح السين. وقرأ سعد بن أبي وقاص: (أو تنساها) بتاء مفتوحة. وعن القاسم بن ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ (أو تنسها)، فقلت: إن سعيد ابن المسيب يقرأ (أو تنساها) فقال: (إن القرآن لم ينزل على آل المسيب. قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم:
سنقرئك فلا تنسى
[الأعلى: 6]
واذكر ربك إذا نسيت
[الكهف: 24]).
وقرأ عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وابن كثير وأبو عمرو والنخعي: (أو ننسأها) بفتح النون الأولى وفتح السين وبعدها همزة مهموزة، ومعناها: نتركها، يقال: نسيت الشيء؛ إذا تركته، ومنه قوله تعالى:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67] أي فتركهم. وقيل: معناه نؤخرها فلا نبدلها ولا ننسخها، يقال: نسأ الله في أجله؛ وأنسأ الله في أجله، ومنه النسيئة في البيع.
قوله تعالى: { نأت بخير منها } أي بما هو أسهل وأنفع وأكثر أجرا، لا أن آية خير من آية؛ لأن كلام الله واحد، وكله خير. { أو مثلها } يعني في المنفعة والثواب. قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير }؛ أي من النسخ والتبديل. قال الزجاج: (لفظه استفهام، ومعناه التوقيف والتقرير).
[2.107]
قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض }؛ أي ألم تعلم يا محمد أن له ملك السماوات والأرض ومن فيهن، وأنه أعلم بوجوه الصلاح فيما يتعبده من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغير متروك. ويجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره. كقوله تعالى:
يأيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهن
[الطلاق: 1].
وقوله تعالى: { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } ، ويجوز أن يكون تطييبا لنفوس المؤمنين، وبيانا أنه وليهم وناصرهم، وأنهم بنصره إياهم يغلبون من سواهم، ويجوز أن يكون وعيدا لمن لا يؤمن بالناسخ والمنسوخ، أي ليس لكم قرائب تنفعكم ولا مانع يمنعكم من عذاب الله.
[2.108]
قوله تعالى: { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل }؛ قال ابن عباس: (نزلت في عبدالله بن أبي أمية المخزومي وفي رهط من قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد إجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا، ونحن نؤمن بك. وقالوا أيضا:
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا
[الإسراء: 90-91] فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: أتريدون، والميم صلة. وقيل: معناها: بل؛ وسألوا رؤية الله كما سألها السبعون رجلا من بني إسرائيل موسى. وقوله: { رسولكم } بمعنى محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ومن يتبدل الكفر بالإيمان }؛ أي من يختار الكفر على الإيمان ويستبدله به، { فقد ضل سوآء السبيل }؛ أي أخطأ قصد الطريق.
[2.109]
قوله تعالى: { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا } ، أنزلت في نفر من اليهود؛ قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار ابن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال لهم عمار: (كيف نقض العهد فيكم؟) قالوا: شديد. قال: (فإني عهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت) فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ. وقال حذيفة: (وأما أنا فقد رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا وبالاسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا). ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه بذلك فقال: [أصبتما الخير وأفلحتما] فأنزل الله تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم } يا معشر المؤمنين { من بعد إيمانكم كفارا } ونصب كفارا بالرد. وقيل: بالحال. وقوله تعالى: { حسدا } أي حسدا لكم لتشريف الله إياكم عليهم بوضع النبوة فيكم بعد ما كان في بني إسرائيل. وانتصب { حسدا } على المصدر؛ أي يحسدونكم حسدا. وقيل: بنزع الخافض. تقديره: للحسد.
قوله تعالى: { من عند أنفسهم } ، راجع إلى { ود كثير من أهل الكتاب } لا إلى قوله { حسدا } لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من قبله؛ فكأنه تعالى بين أن مودتهم ردكم إلى الكفر؛ لا لأن دينهم يأمرهم ذلك، ولكن ذلك من عند أنفسهم، { من بعد ما تبين لهم الحق } ، في التوراة وسائر الكتب: أن محمدا صلى الله عليه وسلم صدق، وأن دينه حق. وقيل: معنى { من عند أنفسهم } أي لم يأمرهم الله بذلك.
قوله تعالى: { فاعفوا واصفحوا }؛ أي اتركوهم وأعرضوا عنهم، { حتى يأتي الله بأمره }؛ أي حتى يأذن الله عز وجل لكم في مقاتلتهم وسبيهم وينصركم عليهم. وقد جاء الله تعالى بأمره حين استقرت آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ولم يؤمنوا؛ أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم بقوله:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر..
[التوبة: 29] الآية، إلى قوله:
وهم صاغرون
[التوبة: 29] وغير ذلك من الآيات، فقتلوا بني قريظة؛ وأجلوا بني النضير. وقيل: معناه { حتى يأتي الله بأمره }: قيام الساعة ويجازيهم بأعمالهم. { إن الله على كل شيء قدير }.
[2.110]
قوله تعالى: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، لما أمر الله تعالى بالصفح عن اليهود، علم أن ذلك يشق على المسلمين، فأمرهم الله بالاستعانة على ذلك بالصلاة والزكاة كما قال الله تعالى:
واستعينوا بالصبر والصلوة
[البقرة: 45].
قوله تعالى: { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله }؛ يعني من طاعة وعمل صالح تجدوا ثوابه ونفعه عند الله. وقيل: أراد بالخير المال، كقوله تعالى:
إن ترك خيرا
[البقرة: 180] ومعناه: وما تقدموا لأنفسكم من زكاة وصدقة الثمرة واللقمة تجدوه عند الله مثل أحد. { إن الله بما تعملون بصير } ، وفي الحديث:
" إذا مات العبد قال الناس : ما خلف؟ وقال الملائكة: ما قدم؟ ".
روي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه دخل المقابر، فقال: (السلام عليكم يا أهل القبور، أموالكم قسمت؛ ودياركم سكنت؛ ونسائكم نكحت، فهذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟) فهتف به هاتف: وعليكم السلام، ما أكلنا ربحنا؛ وما قدمنا وجدنا، وما خلفنا خسرنا.
[2.111-112]
قوله تعالى: { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } ، قال الفراء وأراد يهودا فحذفت الياء الزائدة. قال الأخفش: (الهود جمع هاد؛ مثل عائد وعود، وحائل وحول). وفي مصحف أبي: (إلا من كان يهوديا أو نصرانيا).
ومعنى الآية: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ولا دين إلا اليهودية. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، ولا دين إلا النصرانية. فأنزل الله تعالى: { تلك أمانيهم } ، يجوز أن تكون { تلك } كناية عن الجنة؛ ويجوز أن تكون المقالة. وأمانيهم: أباطيلهم بلغة قريش، وقيل: شهواتهم التي تمنوها على الله بغير الحق. { قل }؛ لهم يا محمد: { هاتوا برهانكم }؛ أي حجتكم على ذلك من التوراة والانجيل، { إن كنتم صادقين }.
ثم قال الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لهم: { بلى }؛ أي ليس كما قالوا، بل يدخل الجنة، { من أسلم وجهه لله }؛ أي من أخلص دينه لله. وقيل: من فوض أمره إلى الله. وقيل: من خضع وتواضع لله. وأصل الإسلام: الاستسلام: وهو الخضوع والانقياد. وإنما خص الوجه؛ لأنه إذا جاد بوجهه في السجود لم يبخل بسائر جوارحه.
وقوله تعالى: { وهو محسن } أي محسن في عمله، وقيل: معناه: وهو مؤمن مخلص، { فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم }؛ أي فيما يستقبلهم من أهوال القيامة، { ولا هم يحزنون }؛ على ما خلفوا في الدنيا؛ لأنهم يتيقنون بثوابهم عند الله.
[2.113]
قوله تعالى: { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء }. قال ابن عباس: (صدق كل واحد من الفريقين، ولو حلف على ذلك أحد ما حنث، وليس أحد من الفريقين على شيء). قوله تعالى: { وهم يتلون الكتاب }؛ أي وكلا الفريقين يقرأون كتاب الله، ولو رجعوا إلى ما معهم من الكتاب لما اختلفوا.
قوله تعالى: { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم }؛ أي للذين ليسوا من أهل الكتاب؛ نحو المجوس ومشركي العرب. يقولون أيضا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. وقيل: أراد بالذين لا يعلمون آباءهم الذين مضوا. وقال مقاتل: (هم مشركو العرب؛ قالوا في محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: ليسوا على شيء من الدين). وقال ابن جريج: (قلت لعطاء: كيف قال الذين لا يعلمون؟ من هم؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى) مثل قوم نوح؛ وقوم هود؛ وصالح؛ ولوط؛ وشعيب؛ ونحوهم. قالوا في أنبيائهم: ليسوا على شيء، وإن الدين ديننا.
قوله تعالى: { فالله يحكم بينهم يوم القيامة }؛ أي يقضي بين اليهود والنصارى والمشركين يوم القيامة؛ أي يريهم من يدخل الجنة عيانا؛ ومن يدخل النار عيانا. قوله تعالى: { فيما كانوا فيه يختلفون }؛ يعني من الدين.
[2.114]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه }؛ نزلت هذه الآية في ططوس بن استيسيانوس الرومي وأصحابه؛ وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم؛ وسبوا ذراريهم؛ وحرقوا التوراة؛ وخربوا بيت المقدس وألقوا فيه الجيف؛ وذبحوا فيه الخنازير، وكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر رضي الله عنه. ولم يدخل بيت المقدس بعد عمارتها رومي إلا خائفا مستخفيا لو علم به لقتل.
وقال قتادة والسدي: (نزلت في بختنصر وأصحابه غزوا اليهود وخربوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك ططوس الرومي وأصحابه النصارى من أهل الروم؛ وذلك لبغضهم اليهود). إلا أن هذا يشبه الغلط، والأول أظهر؛ لأنه لا خلاف أن بختنصر قبل مولد عيسى عليه السلام بدهر طويل، والنصارى إنما ينتمون إلى عيسى عليه السلام، فكيف يكونون مع بختنصر؟!
ومعنى الآية: { ومن أظلم } أي ومن أكفر عتيا { ممن منع مساجد الله } يعني بيت المقدس ومحاريبه. وقوله: { أن يذكر } موضع { أن } نصب على أنه مفعول ثان؛ لأن المنع يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت جعلته نصبا بنزع الخافض؛ أي بأن يذكر.
وقوله تعالى: { وسعى في خرابهآ أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين }؛ وقال قتادة ومقاتل: (لم يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة لو قدر عليه عوقب ونهك ضربا). قال السدي: (اختفوا بالجزية). وقال أهل المعاني: هذا خبر فيه معنى الأمر، يقول: أجهضوهم بالجهاد لئلا يدخلها أحد منهم إلا خائفا من القتل والسبي.
قوله تعالى: { لهم في الدنيا خزي }؛ أي عذاب وهوان؛ وهو القتل والسبي إن كانوا حربا، والجزية إن لم يكونوا حربا. قوله تعالى: { ولهم في الآخرة عذاب عظيم }؛ وهو النار. قال عطاء: (نزلت هذه الآية في مشركي مكة).
وأرادوا بالمساجد: المسجد الحرام؛ منعوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن ذكر الله فيه وصدوهم عنه عام الحديبية، فعلى هذا سعيهم في خرابها هو المنع عن ذكر الله فيها؛ لأن عمارة المساجد بإقامة العبادات فيها.
وقوله تعالى: { أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين } يعني أهل مكة، يقول الله: أفتحها عليكم حتى يدخلوها، ويكونوا أولى بها منهم، ففتحها الله عليهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي:
" ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك؛ ولا يطوفن بالبيت عريان "
فمنعوا منها، فهذا خوفهم. { لهم في الدنيا خزي } أي ذل وقتل ونفي { ولهم في الآخرة عذاب عظيم }.
وقيل: المراد بالآية: جميع الكفار الذين منعوا المسلمين من المساجد. وكل موضع يتعبد فيه فهو مسجد، قال عليه الصلاة والسلام:
" جعلت لي الأرض مسجدا "
فعلى هذا تقدير { ومن أظلم } الآية ممن خالف ملة الإسلام؛ { أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين }؛ أي يظهر الإسلام على جميع الأديان، ولا يدخل الكفار المساجد إلا خائفين بعد أن كانوا لا يتركوا المسلمين أن يدخلوا مساجدهم.
[2.115]
قوله عز وجل: { ولله المشرق والمغرب }؛ قيل: معناه لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله أن تذكروه حيث كنتم من أرضه. وقال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في نفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، فتحروا القبلة فصلوا؛ فمنهم من صلى قبل المشرق؛ ومنهم من صلى قبل المغرب. فلما ذهب الضباب استنار لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا؛ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية). وقال عبدالله بن عامر: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة؛ فنزلنا منزلا، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه، فلما أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فأنزل الله هذه الآية).
وقال عبدالله بن عمر: نزلت في صلاة المسافر يصلي حيثما توجهت به راحلته تطوعا؛
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر أينما توجهت به "
وقال عكرمة: (نزلت في تحويل القبلة إلى الكعبة لما صلى إليها المسلمون بعدما كانت قبلتهم بيت المقدس، قالت اليهود: يصلون مرة هكذا، ومرة يصلون هكذا! فأنزل الله هذه الآية).
فإن قيل: لم قال: { المشرق والمغرب } على التوحيد وله المشارق والمغارب؟ قيل: لأنه أخرجه مخرج الجنس كما يقال: أهلك الله الدينار والدرهم.
قوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }؛ أي رضى الله كقوله تعالى:
إنما نطعمكم لوجه الله
[الإنسان: 9] أي لرضاه. وقيل: معناه { فثم وجه الله } أي علمه محيط بهم. وقيل: معناه: فأينما تولوا وجوهكم أيها المؤمنون في سفركم وحضركم فثم قبلة الله التي وجهتكم إليها فاستقبلوها؛ يعني الكعبة.
وقال الكلبي: (معناه: فثم وجه الله تعالى يرى ويعلم). والوجه صلة كقوله:
تريدون وجه الله
[الروم: 39] أي تريدونه بالدعاء. وقوله:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88] أي إلا هو. وقوله:
ويبقى وجه ربك
[الرحمن: 27] أي يبقى ربك.
قوله تعالى: { إن الله واسع عليم }؛ قال الكلبي: (يعني: واسع المغفرة). وقال أبو عبيدة: (الواسع: الغني). يقال: فلان يعطي من سعته؛ أي من غناه. وقال الفراء: (الواسع: الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء). وقيل: الواسع: الرحيم؛ دليله
ورحمتي وسعت كل شيء
[الأعراف: 156]. وقيل: الواسع: العالم الذي يسع علمه كل شيء. وقال الله تعالى:
وسع كرسيه السموت والأرض
[البقرة: 255]. وقوله { عليم } أي عالم بنياتهم حيثما صلوا ودعوا.
[2.116]
قوله تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولدا سبحنه }؛ نزلت في يهود المدينة حيث قالوا: عزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا: المسيح ابن الله، وفي مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله. وقوله: { سبحنه } تنزيها نزه نفسه. قوله تعالى: { بل له ما في السموت والأرض }؛ عبيد وملك؛ أي من كان مالك السماوات والأرض؛ فإن الأشياء تضاف إليه من جهة الملك. قوله تعالى: { كل له قانتون }؛ أي مطيعون.
وهذا تأويل لا يستغرق الكل، فيكون لفظ عموم أريد به الخصوص. ثم سلكوا في تخصيصه طريقين؛ أحدهما: راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وهذا قول مقاتل. والطريق الثاني: راجع إلى أهل طاعته دون الناس أجمعين، وهذا قول ابن عباس والفراء. وقال بعضهم: هو عام في جميع الخلق.
ثم سلكوا في الكفار طريقين؛ أحدهما: أن ظلالهم تسجد لله وتطيعه؛ وهو قول مجاهد؛ ودليل قوله تعالى:
يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله
[النحل: 48]، وقال تعالى:
وظلالهم
[الرعد: 15]. والثاني: قالوا: هذا في القيامة، قاله السدي؛ وتصديقه قوله تعالى:
وعنت الوجوه للحي القيوم
[طه: 111]. وقال عكرمة ومقاتل: (معنى الآية: كل له مقرون بالعبودية). وقال ابن كيسان: (قائمون بالشهادة، وأصل القنوت القيام). وقيل: مصلون؛ دليله:
أمن هو قانت آنآء اليل
[الزمر: 9]. وقيل: داعون، ويسمى دعاء الوتر: قنوت، الآية يدعو قائما.
[2.117]
قوله عز وجل: { بديع السموت والأرض }؛ أي مبتدعهما ومنشؤهما على غير مثال يسبق، { وإذا قضى أمرا }؛ أي إذا أراد شيئا، { فإنما يقول له كن فيكون } ، وهذه الآية والتي قبلها جواب
" عن قول جماعة من النصارى ناظروا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى عليه السلام. قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " هو عبد الله ورسوله " قالوا: هل رأيت من خلق بغير أب؟ "
فأنزل الله هذه الآية وما قبلها جوابا لهم.
ومعناها: إن الله مبتدع السماوات والأرض وخالقهما، وإذا أراد أمرا مثل عيسى بغير أب أو غير ذلك، فإنما يقول له: كن، فيكون كما أراده. والإبداع: إيجاد الأشياء على غير مثال سبق؛ والبديع فعيل بمعنى مفعل، والبديع أشد مبالغة من المبدع. قوله تعالى: { فيكون } من رفعه؛ فمعناه: فهو يكون. ومن نصبه؛ فعلى جواب الأمر بالفاء. فإن قيل: قوله { كن } خطاب للموجود أو للمعدوم، ولا يجوز الأول؛ لأن الشيء الكائن لا يؤمر بالكون، والثاني لا يجوز أيضا؛ لأن المعدوم لا يخاطب؟ قيل: إنما قال ذلك على سبيل المثل، لأن الأشياء لسهولتها عليه وسرعة كونها بأمره بمنزلة ما يقول له كن فيكون. وهذا مثل قوله:
ائتيا طوعا أو كرها
[فصلت: 11] لم يرد بهذا أن السماء والأرض كانتا في موضع فقال لهما: ائتيا، فجاءا من ذلك الموضع، ولكن أراد به تكوينهما، فعلى هذا معنى { كن فيكون } أي يريده فيحدث.
[2.118]
قوله تعالى: { وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله }؛ أراد بالذين لا يعلمون يهود المدينة وغيرهم من الكفار، وقيل: النصارى. وقيل: مشركو العرب؛ قالوا: هلا يكلمنا الله عيانا بأنك رسوله. { أو تأتينآ آية }؛ أي علامة دالة على صدقك ونبوتك؛ يعنون قولهم:
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
[الإسراء: 90] الآية.
قوله عز وجل: { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم }؛ يعني اليهود الذين قالوا لموسى: أرنا الله جهرة. قوله تعالى: { تشابهت قلوبهم }؛ أي قلوب الأولين والآخرين منهم في القسوة والكفر. ويقال: تشابهت قلوب المشركين واليهود والنصارى في القسوة والكفر. قوله تعالى: { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } ، أي لمن أيقن وطلب الحق. والآيات مثل بيان نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة؛ وانشقاق القمر؛ وإعجاز القرآن وغير ذلك.
[2.119]
قوله تعالى: { إنا أرسلناك بالحق }؛ أي أرسلناك يا محمد بالصدق؛ من قولهم: فلان محق في دعواه إذا كان صادقا، دليله قوله تعالى:
ويستنبئونك أحق هو
[يونس: 53] أي صدق. وقال مقاتل: (معناه: لن نرسلك عبثا بغير شيء؛ بل أرسلناك بالحق) دليله قوله تعالى:
وما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق
[الحجر: 85] وهو ضد الباطل. قال ابن عباس: (بالقرآن) دليله قوله تعالى:
بل كذبوا بالحق لما جآءهم
[ق: 5]. وقال ابن كيسان: (بالإسلام) دليله قوله تعالى:
وقل جآء الحق وزهق الباطل
[الإسراء: 81].
قوله تعالى: { بشيرا ونذيرا }؛ أي بشيرا للمؤمنين بالثواب، ونذيرا للكافرين بالعقاب. وقوله تعالى: { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم }؛ أي لست تسأل في الآخرة عن أصحاب الجحيم، كما قال:
فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
[فاطر: 8] وقال:
فإنما عليك البلغ
[آل عمران: 20]. ومن فتح التاء فعلى النهي. وتأويله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم:
" ليت شعري، ما فعل بأبوي؟ "
فنزلت هذه الآية.
وفيه قراءتان: الجزم على النهي، وهي قراءة نافع وشيبة والأعرج ويعقوب. وقرأ الباقون بالرفع على النفي؛ يعني ولست تسأل عنهم. وقرأ أبي: (وما تسأل). وقرأ ابن مسعود: (ولن تسأل). والجحيم والجحم والجحمة: معظم الدار.
[2.120]
قوله تعالى: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }؛ وذلك أنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه في أن يتبعوه إن هادنهم، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على طلب رضاهم طمعا في أن يرجعوا إلى الحق. وقيل: كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المسالمة ويطمعونه في أنه إن هادنهم أسلموا؛ فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطيعهم ما طلبوا من الهدنة، وأخبر أنهم لا يرضون عنه بذلك، وهم يهود أهل المدينة ونصارى نجران.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((هذا في القبلة؛ وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم؛ فلما صرف الله تعالى القبلة إلى الكعبة؛ شق عليهم وآيسوا منه أن يوافقهم على دينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } أي دينهم، وقبلتهم بيت المقدس)).
قوله تعالى: { قل إن هدى الله هو الهدى }؛ أي الصراط الذي دعا الله إليه؛ وهو الذي أنت عليه هو صراط الحق. قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهوآءهم }؛ أي إن اتبعت ملتهم وصليت إلى قبلتهم، { بعد الذي جآءك من العلم }؛ أي بعدما ظهر لك أن دين الله الإسلام؛ وأن القبلة قد حولت إلى الكعبة، { ما لك من الله من ولي ولا نصير }؛ أي ما لك من الله من ولي ينفعك ويحفظك عن عقابه، ولا نصير يدفع مضرة عقابه عنك. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به عامة الناس؛ مثل قوله
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65]. وقد علم الله أنه لا يشرك؛ وهذا كما يقال في المثل: (إياك أعني فاسمعي يا جارة).
[2.121]
قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتب يتلونه حق تلاوته }؛ قال ابن عباس: (نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب؛ وكانوا أربعين رجلا؛ اثنان وثلاثون من الحبشة؛ وثمانية من رهبان الشام؛ منهم بحيرا). وقال الضحاك: (هم من آمن من اليهود: عبدالله بن سلام، وشعبة بن عمرو، وأسيد وأسد ابنا كعب، وابن يامين، وعبدالله بن صوريا). وقال عكرمة: (هم أصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: هم المؤمنون عامة.
وقوله تعالى: { يتلونه حق تلاوته } قال الكلبي: (يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس) وعلى هذا القول تكون الهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: هي عائدة إلى الكتاب. واختلفوا في معناه؛ قال ابن مسعود: { يتلونه حق تلاوته } أي يحللون حلاله ويحرمون حرامه ويقرأونه كما أنزل، ولا يحرفونه عن مواضعه. وقال الحسن: (معناه: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه؛ ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه). وقال مجاهد: (يتبعونه حق اتباعه).
قوله تعالى: { أولئك يؤمنون به }؛ أي بالقرآن ويقرون بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { ومن يكفر به }؛ أي بالقرآن ويجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، { فأولئك هم الخسرون } ، وهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
[2.122-123]
قوله تعالى: { يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } ، تقدم تفسيره، وفائدة تكرار القصص والألفاظ: أن الله تعالى أراد برحمته أن يشهر القصص في أطراف الأرض؛ ويلقيها في كل سمع؛ ويثبتها في كل قلب؛ ويزيد الحاضرين إفهاما؛ فإن القرآن نزل بلسانهم، ومن مذهبهم أن التكرار إرادة التوكيد وزيادة الإفهام. { وأني فضلتكم على العالمين * واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون }.
[2.124]
قوله تعالى: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن }؛ أي اختبره بما بعده من السنن؛ وهي عشر خصال: خمس في الرأس: وهي المضمضمة؛ والاستنشاق والسواك؛ وقص الشارب؛ وفرق الرأس. وخمس في الجسد: التقليم؛ والختان؛ والاستنجاء بالماء؛ وحلق العانة؛ ونتف الإبط. وقيل: معناه: ابتلاه الله بالمناسك التي تعبده بها وهي عرفة والمزدلفة والرمي والطواف والسعي. وقيل: معناه: ابتلاه الله بأمر عظيم؛ فصبر وأحسن الظن بالله. فأول ذلك الكوكب والقمر والشمس، ثم النار؛ فجعلها عليه بردا وسلاما، ثم بالهجرة من أهله وولده، ثم بالختان على رأس ثمانين سنة، ثم بذبح الولد، فاتخذه الله خليلا.
قوله تعالى: { فأتمهن } أي عمل بهن ولم يترك منهن شيئا. قوله تعالى: { قال إني جاعلك للناس إماما }؛ أي مقتدا بك، { قال }؛ إبراهيم: { ومن ذريتي }؛ أي ومن أولادي، فاجعل أئمة يقتدى بهم.
وأصل الذرية الأولاد الصغار؛ مشتق من الذرى لكثرته. وقيل: من الذرء؛ وهو الخلق. وفيه ثلاث لغات: (ذرية) بكسر الذال وهي قراءة زيد بن ثابت. و(ذرية) بفتح الذال وهي قراءة أبي جعفر. و(ذرية) بضم الذال وهي قراءة العامة.
قوله تعالى: { قال لا ينال عهدي الظالمين }؛ أعلمه الله تعالى أن في ذريته الظالم؛ والظالم لا يصلح إماما. وفيه ثلاث قراءات: (عهدي الظالمون) بالواو؛ وهي قراءة ابن مسعود. و { عهدي الظالمين } بإسكان الياء؛ وهي قراءة الأعمش وحفص وحمزة. (وعهدي) بفتح الياء؛ وهي قراءة العامة.
واختلفوا في هذا العهد. قال عطاء: (رحمتي). وقال الضحاك: (طاعتي) ودليله قوله تعالى:
وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم
[البقرة: 40]. وقال السدي: (بنبوتي). وقال حذيفة: (أمانتي) ودليله قوله تعالى:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم
[النحل: 91]. وقال أبو عبيد: (أماني) دليله قوله تعالى:
فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم
[التوبة: 4] وقال السدي: (ليس للظالم أن يطاع في ظلمه).
[2.125]
قوله تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا }؛ أي جعلنا الكعبة مثابة؛ أي مرجعا. وقال ابن عباس: (يعني معاذا وملجأ). وقال ابن جبير ومجاهد والضحاك: (يثوبون إليه من كل جانب، ويحجونه، ولا يملون منه، فما من أحد قصده إلا ويتمنى العود إليه). وقال قتادة وعكرمة: (مجمعا). وقال طلحة: (مثابا يحجون إليه ويثابون عليه). قوله تعالى: { وأمنا } وصف للبيت؛ والمراد به جميع الحرم، كما قال:
بالغ الكعبة
[المائدة: 95] والمراد الحرم لا الكعبة؛ لأنه لا يذبح فيها ولا في المسجد.
ومعنى { وأمنا } أي مأمنا يأمنون فيه. قال ابن عباس: (فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثم لجأ إليه أمن من أن يهاج فيه) أي لم يتعرض له، ولكن لا يبالغ ولا يخالط ويوكل به، فإذا خرج منه أقيم عليه الحد فيه. وهذا كانوا يتوارثونه من زمن إسماعيل إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك في الحرم، ويستعظم القتل فيه. كان الرجل منهم يؤوي إليه قاتل أبيه فلا يتعرض له. ومن الأمن الذي جعله الله فيه: اجتماع الصيد والكلب ولا يهيج الكلب الصيد، ولا ينفر الصيد من الكلب حتى إذا خرجا منه عدا الكلب على الصيد، وعاد الصيد إلى الهرب.
قوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }؛ قرأ شيبة ونافع وابن عامر والحسن: (واتخذوا) بفتح الخاء على الخبر. وقرأ الباقون بالكسر على الأمر. قال ابن كيسان:
" ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالمقام ومعه عمر رضي الله عنه؛ فقال: يا رسول الله؛ أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: " بلى ". قال: أفلا تتخذه مصلى؟ قال: " لم أومر بذلك ". فلم تغب الشمس من يومه حتى نزل: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ".
وعن أنس بن مالك قال: قال عمر رضي الله عنه:
" وافقني ربي في ثلاث: قلت: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }. وقلت: يا رسول الله؛ إنه يدخل عليك البر والفاجر؛ فهلا حجبت أمهات المؤمنين؟ فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاستفز منهن. أقول: لتكفن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين، فقالت أم سلمة: يا عمر؛ ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعظ نساءه حتى تعظهن. فأمسكت. فأنزل الله تعالى: { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } ".
واختلفوا في قوله تعالى: { من مقام إبراهيم }؛ قال النخعي: (الحرم كله من مقام إبراهيم).
وقيل: المسجد كله مقام إبراهيم. وقال قتادة ومقاتل والسدي: (هو الصلاة عند مقام إبراهيم؛ أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله).
وقصة ذلك: ما روي عن ابن عباس: [لما أتى إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وأمه هاجر؛ فوضعهما بمكة، ومضى مدة، وتزوج إسماعيل امرأة من الجرهميين، استأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر، فقال لامرأة إسماعيل: أين صاحبك؟ قالت: ليس هو ها هنا، ذهب يتصيد. وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصطاد، فقال لها إبراهيم: هل عندك من ضيافة من طعام أو شراب؟ قالت: لا!! فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه؛ فذهب. وجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفة بشأنه. قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج أخرى.
فلبث إبراهيم ما شاء الله، ثم استأذن سارة في زيارة إسماعيل، فأذنت له، واشترطت عليه أن لا ينزل. فجاء، فقال: لامرأة إسماعيل: أين ذهب صاحبك؟ قالت: يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله؛ فانزل يرحمك الله. قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم فدعا فيها بالبركة. ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله برا أو شعيرا أو تمرا. فقالت له: إنزل حتى أغسل رأسك. فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته في شقه الأيمن فوضع قدميه عليه، فبقي أثر قدميه عليه، فغسلت رأسه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلته، وبقي أثر قدميه عليه. فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلما جاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال: لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا. فقال: كذا، وقلت له: كذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدمه على المقام. قال: ذاك إبراهيم].
قال أنس بن مالك: (رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم). وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال: أشهد بالله ثلاث مرات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ".
وقيل: مقام إبراهيم الحج كله: عرفة؛ والمزدلفة؛ والرمي. وقيل: الحرم كله؛ وقيل: الحجر الأسود المعروف الذي وضعته امرأة إسماعيل تحت قدميه فغابت رجليه فيه، وهذا من معجزات إبراهيم عليه السلام.
وقوله عز وجل: { وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل }؛ أي أمرناهما وأوصيناهما، { أن طهرا بيتي }؛ أي مسجدي؛ يعني الكعبة من الأوثان والنجاسات.
وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله أوحى إلي أن أنذر قومك أن لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة؛ وألسنة صادقة؛ وأيد نقية؛ وفروج طاهرة. ولا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة؛ فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به؛ وبصره الذي يبصر به؛ ويكون من أوليائي وأصفيائي ".
وعن معاذ بن جبل؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" جنبوا مساجدكم صبيانكم؛ ومجانينكم؛ وسل سيوفكم؛ ورفع أصواتكم؛ وحدودكم؛ وخصومتكم؛ وبيعكم؛ وشراءكم. وجمروها يوم جمعكم؛ واجعلوا على أبوابها مطاهركم ".
وقرأ الحسن وحفص وهشام ونافع: (بيتي) بفتح الياء. والباقون بإسكانها. وإضافة الله عز وجل البيت لنفسه تخصيصا وتفصيلا.
قوله تعالى: { للطائفين }؛ وهم الغرباء؛ وقوله تعالى: { والعاكفين }؛ أي المقيمين والمجاورين؛ وقوله تعالى: { والركع السجود }؛ يعني المصلين. وقيل: أراد بذلك جميع المسلمين. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن لله في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ينزل على أهل البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين ".
[2.126]
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا }؛ يعني مكة والحرم آمنا من الجدب والقحط، وقيل: من الحرب. قوله تعالى: { وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر }؛ لا يكون إلا ويوجد فيه أنواع الثمرات، فأحب إبراهيم أن لا يأكل طعام الله إلا الموحدون؛ فأعلمه الله أن لا يخلق خلقا إلا يرزقه، فذلك قوله تعالى: { قال ومن كفر فأمتعه قليلا }؛ أي سأرزقه في الدنيا يسيرا. قيل: خشي إبراهيم أن لا يستجاب له في الرزق كما لم يستجب له في الإمامة؛ فخض المؤمنين في المسألة في الرزق، فأعلمه الله أن المؤمن والكافر في الرزق سواء.
قوله تعالى: { من آمن منهم } في موضع نصب بدل من { أهله } بدل بعض من كل كقوله تعالى:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
[آل عمران: 97]. وقوله تعالى: { ومن كفر فأمتعه قليلا }؛ أي فسأرزقه إلى منتهى أجله. قرأ ابن عامر: (فأمتعه) بفتح الألف وجزم العين، (ثم أضطره) موصولة الألف مفتوحة الراء على جهة الدعاء من إبراهيم عليه السلام، وقرأ الباقون بالتشديد. وقوله تعالى: { ثم أضطره إلى عذاب النار }؛ أي ألجئه إلى عذاب النار في الآخرة، { وبئس المصير }؛ أي بئس المرجع يصير إليه.
واختلفوا في مكة: هل كانت حرما آمنا قبل دعاء إبراهيم؛ أم صارت كذلك بدعائه؟ قيل: إنما صارت كذلك بدعائه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة "
والأصح: أنها كانت حرما آمنا قبل دعائه بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:
" إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ووضعها بين أخشبين "
أي جبلين؛ فعلى هذا كانت أمنا قبل دعائه من الخسف والاصطلام لأهله.
وكان الله قد جعل في قلوب الناس هيبة ذلك المكان حتى كانوا لا ينتهكون حرمة من كان فيه بمال ولا بنفس، ثم بدعاء إبراهيم صارت حرما آمنا بأن أمر الله الناس بتعظيمه على ألسنة الرسل. والواو في قوله { ومن كفر } دليل على إجابة الله دعوة إبراهيم خاصة.
[2.127-128]
قوله تعالى: { وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت وإسمعيل }؛ قيل: إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل أن يخلق الأرض بألفي عام، وكان ربوة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله آدم إلى الأرض كان رأسه يلمس السماء حتى صلع، وأورث أولاده الصلع. ونفرت من طوله دواب الأرض. وكان يسمع كلام أهل السماء وتسبيحهم، ويأنس إليهم. فاشتكت نفسه فقبضه الله إلى ستين ذراعا بذراع آدم. فلما فقد آدم ما كان يسمع من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش وشكى إلى الله، فأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة لها بابان من زمردة خضراء؛ باب شرقي وباب غربي، وفيه قناديل من الجنة، فوضعه على موضع البيت الآن. ثم قال: يا آدم إني أهبطت لك بيتا يطوف به كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي. وأنزل عليه الحجر ليمسح به دموعه وكان أبيض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الحجر ياقوتة من ياقوت الجنة، ولولا ما مسه المشركون بأنجاسهم ما مسه ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى "
فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا، وقيض له ملك يدله على البيت.
قيل: لمجاهد: يا أبا الحجاج؛ ألا كان يركب؟ قال: وأي شيء يحمله! فوالله إن خطوته مسيرة ثلاثة أيام، وكل موضع وضع عليه قدمه صار عمرانا، وما تعداه صار مفاوزا وقفارا. فأتى مكة وحج البيت وأقام المناسك؛ فلما فرغ تلقته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم، فلقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال ابن عباس: (حج آدم أربعين سنة من الهند إلى مكة على رجليه؛ فكانت الكعبة كذلك إلى أيام الطوفان، فرفعها الله إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وبعث الله جبريل حتى جاء الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له عن الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام، ثم أمر الله إبراهيم بعدما ولد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام أن يبني بيتا له يعبد ويذكر فيه. فلم يدر إبراهيم أين يبني؟ فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله إليه السكينة لتدله على موضع البيت؛ وهي ريح مجوج لها رأسان تشبه الحية، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة، فجعلت السكينة تطوف على موضع البيت كما تطوف الحية. وأمر إبراهيم أن يبني عليه لتستقر السكينة. فبناه) وهذا قول علي كرم الله وجهه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يسير في ظلها إلى أن وافت مكة ووقفت على موضع البيت، ونودي: يا إبراهيم إبن على ظلها لا تزيد ولا تنقص، فبنى بخيالها).
وقال بعضهم: أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت وذلك قوله تعالى:
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت
[الحج: 26]. فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت؛ كان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة والملائكة ينقلون الحجارة من خمسة أجبل: طور سيناء؛ وطور زيناء؛ والجودي؛ ولبنان؛ وحراء. قيل: إن قواعده من حراء.
فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علما؛ فأتاه بحجر؛ فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا؛ فمضى إسماعيل ليأتي بحجر فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود ووضعه مكانه.
وقيل: إن الله تعالى أمد إبراهيم وإسماعيل بتسعة أملاك يعينوهما على بناء البيت، فلما فرغا من بنائه جثيا على الركب وقالا: { ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم }. فقيل: قد فعل لكما، فقالا: { ربنا واجعلنا مسلمين لك }؛ فقيل: قد فعل لكما ذلك، فقالا: { ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك }؛ أي موحدين مخلصين.
والقواعد هي أساس الكعبة؛ كذا قال الكلبي. وقوله تعالى: { إنك أنت السميع العليم } أي بنياتنا. وقوله تعالى: { واجعلنا مسلمين لك } قرأ عوف: (مسلمين) على الجمع. وقوله تعالى: { ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك } أي واجعل من ذريتنا أمة مخلصة لك بالتوحيد والطاعة. { وأرنا مناسكنا }؛ أي عرفنا متعبداتنا وشرائع ديننا وأعلام حجنا. وأصل النسك العبادة، ويقال: للعابد: ناسك.
وقرأ ابن مسعود: (وأرهم مناسكهم) رده إلى الأمة. وقرأ قتادة وابن كثير بسكون الراء في جميع القرآن. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء. وقرأ الباقون بكسر الراء.
فأجاب الله دعاءهما؛ فبعث الله جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة، فلما بلغ عرفات قال: يا إبراهيم عرفت؟. قال: نعم؛ فسمي الوقت عرفة، والموضع عرفات.
قوله تعالى: { وتب علينآ }؛ أي وتجاوز عن ذنوبنا الصغائر؛ لأن ذنوب الأنبياء لا تكون إلا الصغائر. وقوله تعالى: { إنك أنت التواب الرحيم }؛ أي المتجاوز الرجاع بالرحمة على عباده.
[2.129]
قوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم }؛ أي وابعث في ذريتنا الأمة المسلمة؛ أي ذرية إبراهيم وإسماعيل من أهل مكة، { رسولا منهم } أي من أهل نسبهم، { يتلوا عليهم آيتك }؛ أي يقرأ عليهم كتابك، { ويعلمهم الكتب }؛ الذي ينزل عليه ومعانيه، { والحكمة }؛ أي فقه الحلال والحرام. وقال مجاهد: (فهم القرآن). وقال مقاتل: (هي مواعظ القرآن وبيان الحلال والحرام). وقال ابن قتيبة: (هي العلم والعمل، ولا يسمى الرجل حكيما حتى يجمعهما). وقال بعضهم: كل حكمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة؛ وقيل: الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. وقيل: هي السنة البينة.
قوله تعالى: { ويزكيهم }؛ أي يطهرهم من الكفر والفواحش والدنس والذنوب. وقيل: يصلحهم بأخذ زكاة أموالهم. وقال ابن كيسان: (أن يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ). قوله تعالى: { إنك أنت العزيز الحكيم }؛ العزيز: هو المنيع الذي لا يغلبه شيء. والحكيم: الذي يحكم ما يريد.
وقال ابن عباس: (العزيز: الذي لا يوجد مثله) دليله قوله:
ليس كمثله شيء
[الشورى: 11]. وقال الكلبي: (العزيز: المنتقم ممن أساء) دليله قوله تعالى:
والله عزيز ذو انتقام
[آل عمران: 4]. وقال الكسائي: (العزيز: الغالب) دليله قوله:
وعزني في الخطاب
[ص: 23] أي غلبي. وقال ابن كيسان: (العزيز: الذي لا يعجزه شيء). وقال المفضل: (العزيز: الممتنع الذي لا تناله الأيدي؛ ولا يرد له أمر؛ ولا غالب له فيما أراد). وقيل : العزيز: هو القوي ذو القدرة؛ دليله قوله:
فعززنا بثالث
[يس: 14] أي قوينا. وأصل العزة في اللغة: الشدة؛ يقال: عز علي كذا؛ إذا شق. والمراد بالرسول في هذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم. وبالكتاب القرآن.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أنا إنما دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى "
يعني قوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } وقوله:
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
[الصف: 6] فاستجاب الله دعاء إبراهيم عليه السلام وبعث فيهم محمدا سيد الأنبياء؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ".
[2.130]
قوله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } ، هذا تحريض من الله على ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي هي ملة إبراهيم؛ لأن إبراهيم وإسماعيل كانا سألا في دعائهما أن يجعل الله من ذريتهما في مكة رسولا؛ لأن الكلام كان في ذكر مكة ولم يكن أحد من أهل مكة من ذريتهما نبيا سوى محمد صلى الله عليه وسلم. وملة إبراهيم داخلة في ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع الزيادات التي في شرائع هذه الملة.
وسبب نزول هذه الآية: أن عبدالله بن سلام دعا ابني أخيه مسلمة ومهاجر إلى الإسلام، وقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: (إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد؛ ومن لم يؤمن به فملعون) فأسلم مسلمة وأبى مهاجر أن يسلم. فأنزل الله تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } أي يترك دينه وشريعته.
يقال: رغبت في الشيء؛ إذا أردته، ورغبت عنه؛ إذا تركته. والرغبة في اللغة: محبة ما للنفس فيه منفعة. ولهذا لا يجوز في صفات الله: راغب.
قوله تعالى: { إلا من سفه نفسه } أي خسر وهلك. وقال الكلبي: (ضل من قبل نفسه). وقال بعض أهل اللغة: سفه بمعنى يسفه، وقيل: { سفه نفسه } أي جهل نفسه بمعنى لم يتفكر في نفسه أن لها خالقا. وقيل: سفه في نفسه؛ إلا أنه حذف الخافض فنصب، مثل قوله تعالى:
ولا تعزموا عقدة النكاح
[البقرة: 235] أي على عقدة النكاح. ويقال: ضربته الظهر والبطن؛ أي على الظهر والبطن؛ وأصل السفه والسفاهة: الجهل وضعف الرأي.
قوله تعالى: { ولقد اصطفيناه في الدنيا }؛ أي للرسالة. وأصل الطاء فيه التاء، جعلت طاء لقرب مخرجها ولتطوع اللسان به. قوله تعالى: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين }؛ أي الفائزين. قاله الزجاج. وقيل: المستوجبين للكرامة. وقيل: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين، نظيره في سورة النحل:
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين
[النحل: 122].
[2.131]
قوله تعالى: { إذ قال له ربه أسلم }؛ أي استقم على الإسلام واثبت عليه؛ لأنه كان مسلما كقوله تعالى:
فاعلم أنه لا إله إلا الله
[محمد: 19] أي اثبت على علمك. وقال ابن عباس: (إنما قال ذلك حين خرج من السرب ورأى الكوكب والقمر والشمس، فألهمه الله الإخلاص فاستدل وعرف وحدانية الله فأسلم حينئذ، وقال:
إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض حنيفا ومآ أنا من المشركين
[الأنعام: 78-79]) وليس أنه كان حين أفلت الشمس كافرا؛ لأن الله تعالى لا ينبئ من كان كافرا قط.
ويجوز أن يكون معنى الإسلام: تسليم الأمور إلى الله تعالى والانقياد له من غير امتناع وعصيان. وقال الكلبي: (معناه: أخلص دينك لله بالتوحيد). وقال عطاء: (سلم نفسك إلى الله وفوض أمرك إليه). وقيل: اخضع واخشع.
قوله تعالى: { قال أسلمت لرب العالمين }؛ ظاهر المعنى.
[2.132-133]
قوله تعالى: { ووصى بهآ إبراهيم بنيه ويعقوب }؛ قرأ أهل المدينة وأهل الشام: (وأوصى) بالألف. وقرأ الباقون بالتشديد. وهما لغتان؛ يقال: أوصيته ووصيته؛ إذا أمرته مثل إنزل ونزل. وقوله تعالى: { بهآ } يعني بكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله. وقال أبو عبيدة: (إن شئت رددت الكناية إلى الملة؛ لأنه ذكر ملة إبراهيم؛ وإن شئت رددتها إلى الوصية). وقال المفضل: (بالطاعة كناية عن غير مذكور). وكناية الملة هنا أصح؛ لأن ردها إلى المذكور أولى من ردها إلى المدلول، وكلمة الإخلاص مدلول عليها في ضمن قوله تعالى: { قال أسلمت لرب العالمين }.
وبنو إبراهيم أربعة: إسماعيل؛ وإسحاق؛ ومدين؛ ومدائن. قوله تعالى: { ويعقوب } قيل: سمي بيعقوب؛ لأنه خرج على إثر العيص؛ وقد مضت قصتهما. وقيل: سمي بيعقوب لكثرة عقبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بعثت على إثر ثمانية آلاف نبي: أربعة آلاف من بني إسرائيل "
ومعنى الآية: وصى بها أيضا يعقوب بنيه الاثني عشر. وحكي عن مجاهد أنه حكى عن بعضهم: (ويعقوب) بالنصب عطفا على بنيه داخلا في جملتها الموصيين.
قوله تعالى: { يابني إن الله اصطفى لكم الدين }؛ أي الإسلام، { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون }؛ أي مؤمنون. وقيل: مخلصون. وقيل: محسنون بربكم الظن. وقيل: مفوضون.
روي أنه لما نزلت هذه الآية قال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية؟ فأنزل الله تعالى قوله: { أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب الموت }؛ أي أكنتم أيها اليهود حضورا حين حضر يعقوب الموت، { إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل }؛ الصادق، { وإسحاق }؛ الحليم.
والمراد بحضور الموت: حضور أسبابه؛ لأن من حضره الموت لا يتمكن من القول، وقد سمي سبب الشيء باسمه. كما قال تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40].
وقال الكلبي: (معنى الآية: أن يعقوب لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران؛ فجمع أولاده وخاف عليهم ذلك. وقال لهم: ما تعبدون من بعدي). وقال عطاء: (إن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الحياة والموت، فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل أولادي وأوصيهم؛ فجمع أولاده وأولاد أولاده وقال لهم: قد حضر أجلي، فما تعبدون من بعدي؟ أي من بعد موتي. { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك }. { إلها واحدا ونحن له مسلمون }.
قرأ يحيى بن معمر: (إله أبيك) على التوحيد؛ قال: لأن إسماعيل عم يعقوب لا أبوه. وقرأ العامة: (وإله آبائك) على الجمع. وقالوا: عم الرجل صنو أبيه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس :
" هذا بقية آبائي "
والعرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما. قال الله تعالى:
ورفع أبويه على العرش
[يوسف: 100] يعني يعقوب وليان؛ وهي خالة يوسف عليه السلام.
[2.134]
قوله تعالى: { تلك أمة قد خلت }؛ أي لا تتكلوا أيها اليهود على آبائكم وأسلافكم اعتمادا منكم على شفاعتهم عنكم فإنهم جماعة قد مضت. قوله تعالى: { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم }؛ أي لها جزاء ما عملت من خير أو شر ولكم جزاء ما عملتم. وقوله تعالى: { ولا تسألون عما كانوا يعملون }؛ أي إنما تسألون عن أعمالكم.
[2.135]
قوله تعالى: { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا }؛ قال ابن عباس: (نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر، وفي نصارى نجران السيد والعاقب وأصحابهما، خاصموا المسلمين في الدين، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء؛ وكتابنا التوراة أفضل الكتب؛ وديننا أفضل الأديان؛ وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء؛ وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب؛ وديننا أفضل الأديان؛ وكفرت بمحمد والقرآن. وقال كل واحد من الفريقين للمسلمين: كونوا على ديننا؛ فلا دين إلا ذلك؛ دعوهم إلى دينهم). فقال الله تعالى: { قل بل ملة إبراهيم حنيفا }؛ أي مسلما مخلصا مائلا عن كل دين سوى الإسلام، { وما كان من المشركين }؛ يعني إبراهيم عليه السلام.
والحنف: مثل أصابع القدمين. سمي إبراهيم حنيفا؛ لأنه حنف عما كان يعبد آباؤه؛ أي عدل. وقيل: الحنف: الاستقامة، وإنما سمي الرجل الأعرج أحنفا تأولا؛ كما يقال للأعمى بصيرا.
والفائدة في ذكر ملة إبراهيم (كونه) لا شك أنه حق عندنا وعند اليهود والنصارى، ولم يختلف الناس في أن ملته الإسلام والتوحيد. قال ابن عباس: (الحنيف: هو المائل عن الأديان كلها إلا دين الإسلام). وقال مقاتل: (الحنيف: المخلص). وانتصب حنيفا على القطع عند الكوفيين؛ لأن تقديره: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما سقطت الألف واللام لم يتبع النكرة المعرفة فانقطع منه، فنصب. وقال البصريون: انتصب على الحال.
[2.136-137]
قوله تعالى: { قولوا آمنا بالله }؛ الآية، وذلك أنه جاء أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: بمن نؤمن من الأنبياء؟ فأنزل الله: { قولوا آمنا بالله }؛ { ومآ أنزل إلينا }؛ يعني القرآن، { ومآ أنزل إلى إبراهيم }؛ وهي عشرة صحف، { وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط }؛ يعني أولاد يعقوب واحدهم سبط، سموا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة من الناس، وسبط الرجل: حافده، ومنه قيل للحسن والحسين: سبطين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب؛ والشعوب من العجم، فكان في الأسباط أنبياء؛ فلذلك قال الله تعالى { ومآ أنزل } إليهم؛ وقيل: هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء.
وقوله تعالى: { ومآ أوتي موسى }؛ يعني التوراة، { وعيسى }؛ يعني الإنجيل، { وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون }؛ أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن بجميع أنبياء الله وكتبه؛ فلما نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال:
" إن الله أمرني بهذا "
فلما سمعت اليهود بذكر عيسى أنكروا وكفروا وقالوا: لا نؤمن بعيسى. قالت النصارى: إن عيسى ليس بمنزلة الأنبياء ولكنه ابن الله، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: { فإن آمنوا بمثل مآ آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق }؛ أي فإن آمنوا بجميع ما آمنتم به كإيمانكم. قيل: معناه: فإن آمنوا بما آمنتم به.
و(مثل) هنا صلة، وهكذا كانوا يقرأونها. كان يقرؤها ابن عباس ويقول: إقرأوا (فإن آمنوا بما آمنتم به) فليس لله مثل. وقيل: بمعنى (على). وقيل: الباء زائدة. ومعنى الآية: إن آمنوا بالله ورسله وكتبه فقد اهتدوا.
وقوله تعالى: { وإن تولوا } أي وإن أعرضوا عن الإيمان بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم { فإنما هم في شقاق } أي خلاف وعداوة، يقال: فلان وفلان تشاقا؛ أي أخذ كل واحد منهم بشق غير شق صاحبه. دليله قوله تعالى حاكيا عن شعيب:
ويقوم لا يجرمنكم شقاقي
[هود: 89] أي خلافي. وقيل: مأخوذ مما أخذ كل واحد فيما يشق على صاحبه. وقال مقاتل: (معناه: فإنما هم في ضلال). وقال الكسائي: (معناه: فإنما هم في خلع الطاعة). وقال الحسن: (معناه: فإنما هم في بعاد وفراق إلى يوم القيامة).
وقيل: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: { ومآ أوتي موسى وعيسى } قالت النصارى: لن نؤمن بموسى ولا نؤمن بك، فأنزل الله تعالى:
قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن آمنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون
[المائدة: 59].
وإنما أضاف الله الإنزال إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنما كان الإنزال على آبائهم؛ لأنهم كانوا جميعا يعلمون ذلك، فأضاف الإنزال كما قال: { قولوا آمنا بالله ومآ أنزل إلينا } أي إلى نبينا.
قوله تعالى: { فسيكفيكهم الله }؛ يعني اليهود والنصارى؛ أي فسيكفيكهم الله يا محمد وسائر المسلمين شر اليهود والنصارى، { وهو السميع } ، لأقوالهم، { العليم } ، بأحوالهم، فكفاه الله أمرهم بالقتل والسبي في بني قريظة؛ والجلاء والنفي في بني النضير؛ والجزية والذلة في نصارى نجران.
[2.138]
قوله تعالى: { صبغة الله }؛ أي دين الله وفطرته؛ لأن دين الإسلام يؤثر في المتدين من الطهور والصلاة والوقار وسائر شعائر الإسلام كالصبغ الذي يكون في الثوب. ولا شيء في الأديان أحسن من دين الإسلام، قال الله تعالى: { ومن أحسن من الله صبغة }؛ وقيل: أراد بالصبغة الختان. وروي أن صنفا من النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد وأتى عليه سبعة أيام صبغوه؛ أي غمسوه في ماء لهم يقال له: المعمودي ليطهروه بذلك، وقالوا: هذا طهوره ومكان الختان. فقيل: لهم: { صبغة الله } أي التطهر الذي أمر الله به أبلغ في النظافة.
وأول من اختتن إبراهيم عليه السلام بالقدوم؛ وهي موضع ممره بالشام؛ وكان يومئذ ابن مائة وعشرين سنة، ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة.
ونصب { صبغة } على الإغراء؛ أي الزموا صبغة الله، أو اتبعوا. وقال الأخفش: (هو بدل من قوله تعالى:
بل ملة إبراهيم
[البقرة: 135]. وقال ابن كيسان: { صبغة الله } أي وجهة الله؛ بمعنى القبلة). وقال الزجاج: (معناه: خلقة الله، من صبغت الثوب إذا غيرت لونه وخلقته، فيكون المعنى أن الله تعالى ابتدأ الخلقة على الإسلام). دليله قول مقاتل في هذه الآية:
فطرت الله
[الروم: 30] أي دين الله. ويوضحه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " كل مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه، كما تنتجون البهيمة، فهل تجدون من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟ " قالوا: يا رسول الله أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " "
وقال أبو عبيدة: (معناه: سنة الله). قوله تعالى: { ونحن له عابدون }؛ أي مطيعون.
[2.139]
وقوله تعالى: { قل أتحآجوننا } ، وذلك أن اليهود كانوا يقولون: نحن أهل الكتاب الأول والعلم القديم. وكانوا يقولون هم والنصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه. فأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن { قل } لهم يا محمد: { أتحآجوننا } { في الله }؛ أي أتجادلوننا وتخاصموننا. وقرأ الأعمش والحسن: (أتحاجونا) بنون واحدة مشددة. وقوله تعالى: { في الله } أي في دين الله. وذلك أنهم قالوا: إن الأنبياء كانوا منا وعلى ديننا ولم يكونوا من العرب؛ فلو كنت نبيا لكنت منا على ديننا.
قوله تعالى: { وهو ربنا وربكم ولنآ أعمالنا ولكم أعمالكم }؛ أي لنا ديننا ولكم دينكم. وهذه الآية منسوخة بآية السيف. وقوله تعالى: { ونحن له مخلصون }؛ أي موحدون. قال عبدالواحد بن زيد:
" سألت الحسن عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت حذيفة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص ما هو؟ قال: " سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سر من سري أودعته قلب من أحببت من عبادي "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شيء من علم الله تعالى ".
وقال سعيد بن جبير: (الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحدا). وقال الفضيل: (ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما). وقال يحيى بن معاذ: (الإخلاص تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من الفرث والدم). وقال بعضهم: هو ما لا يكتبه الملكان؛ ولا يفسده الشيطان؛ ولا يظلم عليه الإنسان. وقيل: هو أن لا تشوبه الآفات؛ ولا تتبعه رخص التأويلات. وقيل: هو أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. وقيل: هو أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته. قال أبو سليمان: (للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده؛ وينشط إذا كان في الناس؛ ويزيد في العمل إذا أثني عليه).
[2.140]
قوله تعالى: { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } ، قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بالتاء للمخاطبة التي قبلها (قل أتحاجوننا) والتي بعدها: (قل أأنتم أعلم أم الله). وقرأ الباقون بالياء إخبارا عن اليهود والنصارى أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى. ومعنى الآية: أتحاجوننا بقولكم كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، وقولكم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، أم بقولكم: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى، مع علمكم بخلاف ذلك. وهذا استفهام بمعنى التوبيخ، فإنهم كانوا يزعمون أن الدين الصحيح هو اليهودية والنصرانية؛ وأن هؤلاء الأنبياء تمسكوا بها.
يقول الله تعالى: { قل } لهم يا محمد: { أأنتم أعلم أم الله } فإن الله قد أخبر أنهم كانوا مسلمين، وأنهم لم يكونوا يهودا ولا نصارى، فقالوا: ما هو كما قلت، وإنا على دين إبراهيم، وما أنت برسول الله؛ ولا على دينه. فأنزل الله تعالى قوله تعالى: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني علماء اليهود والنصارى؛ لأنهم علموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا حنفاء مسلمين؛ وأن رسالة نبينا حق بينه الله في التوراة والإنجيل، فكتموه حسدا وطلبا للرئاسة.
قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ يعني من كتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته؛ يجازيكم عليه في الآخرة.
[2.141]
قوله تعالى: { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون }؛ قد تقدم تفسيرها. فائدة التكرار: أن القرآن أنزل على لغة العرب، ومن عادتهم ذكر الجواب الواحد في أوقات مختلفة لأغراض مختلفة؛ يعدون ذلك فصاحة. وإنما يعاب تكرار الكلام في مجلس واحد لغرض واحد.
[2.142]
قوله تعالى: { سيقول السفهآء من الناس }؛ أي الجهال: { ما ولهم عن قبلتهم }؛ أي ما صرفهم وحولهم عن قبلتهم؛ { التي كانوا عليها }؛ يعني بيت المقدس. نزلت في اليهود ومشركي مكة ومنافقي المدينة؛ طعنوا في تحويل القبلة، وقال مشركو مكة: قد تردد على محمد أمره، واشتاق إلى مولده ومولد آبائه؛ وقد توجه نحو قبلتهم؛ وهو راجع إلى دينكم عاجلا. فقال الله تعالى: { قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم }؛ أي لله المشرق والمغرب ملكا وخلقا؛ والخلق عبيد يحولهم كيف يشاء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى الكعبة، وكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة أمر بأن يصلي إلى بيت المقدس لئلا يكذبه اليهود؛ لأن نعته في التوراة أن يكون صاحب قبلتين؛ يصلي إلى بيت المقدس نحو مدة سبعة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا، ثم يأمره الله تعالى بالتحويل إلى الكعبة ليمتحن أهل الإسلام، فيظهر من تبع الرسول من غيرهم من منافقي اليهود.
فلما حولت القبلة إلى الكعبة بعد إقامة الحجة على الكفار، علم أنهم يقولون في نسخ القبلة أشياء يؤذون بها النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر الله تعالى نبيه بما سيقولون في المستأنف؛ ليعجل السكن ويعرف أن ذلك من باب الوحي والغيب كما كان أخبر الله تعالى.
ومعناه: سيقول السفهاء وهم اليهود وكفار مكة: ما الذي صرف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن قبلتهم بيت المقدس؛ قل يا محمد: لله المشرق والمغرب { يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم } إلى طريق قويم؛ وهو الإسلام وقبلة الكعبة.
وقوله تعالى: { لله المشرق والمغرب } أي من كان مالك المشرق والمغرب لا يعترض عليه في جميع ما يأمر، ويجوز أن يكون معناه: أن الله خالق الأماكن كلها، فليس بعض ما خلق أولى أن يجعل قبلة في العقل من بعض، فوجب الانتهاء إلى أمر الله باستقبال ما شاء الله.
[2.143]
قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا }؛ أي عدلا؛ وقيل: خيارا، يقال في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: [هو أوسط قريش حسبا] ويقال: فلان وسيط في حسبه؛ أي كامل منته في الكمال؛ ولأن المتوسط في الأمور لا يفرط فيغلو ولا يقصر فيتضع، فهذه الأمة لم تغلو في الأنبياء كغلو النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله! ولم يقصروا كتقصير اليهود حيث كذبوا الأنبياء وقتلوهم. وأصله أن خير الأشياء أوسطها.
قوله تعالى: { لتكونوا شهدآء على الناس }؛ أي شهداء للنبيين صلوات الله عليهم بالتبليغ. وقد يقام مقام اللام في مثل قوله:
وما ذبح على النصب
[المائدة: 3] أي للنصب؛ وقوله تعالى: { ويكون الرسول عليكم شهيدا }؛ أي ويكون محمد صلى الله عليه وسلم عليكم شهيدا معدلا مزكيا لكم، وذلك أن الله تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يقول لكفار الأمم:
ألم يأتكم نذير
[الملك: 8]، فينكرون ويقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: قد بلغناهم. فيسألهم البينة إقامة للحجة عليهم؛ وهو أعلم بذلك، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم بالتبليغ، فتقول الأمم الماضية: من أين علموا ذلك وبيننا وبينهم مدة مديدة؟ فيقولوا: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى إيانا في كتابه الناطق على لسان رسول الله، فيؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيزكي أمته ويشهد بصدقهم.
قوله تعالى: { وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }؛ أي ما أمرتك يا محمد بالتوجه إلى بيت المقدس ثم بالتحويل منها إلى الكعبة إلا ليتميز من يتبع الرسول ممن يرجع إلى دينه الأول. وقيل: ومعناه: { وما جعلنا القبلة التي } أنت { عليهآ } وهي الكعبة لقوله تعالى:
كنتم خير أمة
[آل عمران: 110] أي أنتم؛ إلا لنرى ونميز من يتبع الرسول في القبلة ممن ينقلب على عقبيه فيرتد ويرجع إلى قبلته الأولى. قوله: { لنعلم } أي ليتقرر علمنا عندكم. وقيل: معناه: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأضاف علمه إلى نفسه تفصيلا وتخصيصا كقوله تعالى:
إن الذين يؤذون الله
[الأحزاب: 57].
قوله تعالى: { وإن كانت لكبيرة }؛ أي وإن كان اتباع بيت المقدس ثم الانتقال إلى الكعبة لشديد؛ { إلا على الذين هدى الله }؛ أي حفظ الله قلوبهم على الإسلام. قوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم }؛ أي تصديقكم بالقبلتين. وقيل: معناه: وما كان الله ليفسد صلاتكم إلى بيت المقدس؛ وذلك أن حيي ابن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس أكانت هدى أم ضلالة؟ فإن كانت هدى فقد تحولتم عنها! وإن كانت ضلالة فقد ذنبتم الله بها. ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة؛ وكان قد مات قبل التحويل إلى الكعبة سعد بن زرارة من بني النجار؛ والبراء بن معرور من بني سلمة ورجال آخرون.
فانطلقت عشائرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك، وقالوا: إن الله تعالى قد حولك إلى قبلة إبراهيم؛ فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس.
قوله تعالى: { إن الله بالناس لرءوف رحيم } ، الرءوف: شديد الرحمة؛ وهو الذي لا يضيع عنده عمل عامل. رحيم بهم حين قبل طاعتهم وتعبدهم في كل وقت بما يصلح لهم. والجمع بين الرحمة والرأفة في الآية للتأكيد كما في قوله:
الرحمن الرحيم
[الفاتحة: 3].
وفي (رءوف) ثلاث قراءات: مهموز مثقل؛ وهي قراءة شيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وحفص، واختاره أبو حاتم. قال الشاعر:
سنطيع رسولنا ونطيع رباه
هو الرحمن كان بنا رءوفا
و(رووف) مثقل غير مهموز؛ وهي قراءة أبي جعفر. و(رؤف) مهموز مخفف؛ وهي قراءة الباقين، واختاره أبو عبيد. قال جرير:
بت ترى للمسلمين عليك حقا
كفعل الوالد الرؤف الرحيم
والرأفة: أشد الرحمة.
[2.144]
قوله عز وجل: { قد نرى تقلب وجهك في السمآء }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام :
" " وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها؟ " فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا؛ فاسأل ربك أن يحولك عنها، فارتفع جبريل وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بما سأل؛ فأنزل الله هذه الآية: { قد نرى تقلب وجهك في السمآء } "
، { فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام }.
وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجروا إلى المدينة أمره الله أن يصلي إلى بيت المقدس؛ ليكون أقرب إلى تصديق اليهود له إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدون من صفته في التوراة. فروي أنه صلى الله عليه وسلم صلى هو وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا؛ وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في السبب الذي كان لأجله يكره قبلة بيت المقدس وهوي الكعبة. فقال ابن عباس: (لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام). وقال مجاهد: (من أجل أن اليهود قالوا: يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا).
وقال مقاتل:
" لما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، قالت: اليهود: يزعم محمد أنه نبي؛ وما نراه أحدث في نبوته شيئا! أليس يصلي إلى قبلتنا، ويستن بسنتنا! فإن كانت هذه نبوة فنحن أقدم وأوفر نصيبا. فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وازداد شوقا إلى الكعبة وقال: " وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فإني أبغضهم وأبغض موافقتهم " فقال جبريل عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك، ليس لي من الأمر شيء، فاسأل ربك. ثم عرج جبريل عليه السلام؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة، فأنزل الله تعالى: { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها } "
أي فلنلحقك إلى قبلة تحبها وتهواها، { فول وجهك شطر المسجد الحرام } أي نحوه وقصده. وهو نصب على الظرف. وقيل: شطر الشيء نصفه، فكأن الله أمره أن يحول وجهه إلى نصف المسجد الحرام؛ والكعبة في النصف منه من كل جهة.
قوله تعالى: { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ أي أينما كنتم من بر أو بحر أو جبل أو سهل أو شرق أو غرب فولوا وجوهكم نحوه. فحولت القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين.
وقال مجاهد: (نزلت الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من الظهر، فتحول في الصلاة فاستقبل الميزاب فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين. فلما حولت القبلة إلى الكعبة؛ قالت اليهود: يا محمد ما أمرت بهذا وما هو إلا شيء تبتدعه من نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس، وتارة تصلي إلى الكعبة، فلو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي كنا ننتظره، فأنزل الله تعالى قوله: { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم } ، يعني أمر الكعبة وأنها قبلة إبراهيم، أي وأن اليهود والنصارى ليعلمون أن استقبال الكعبة حق من ربهم؛ لأن نعت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة أن يكون صاحب القبلتين، ثم هددهم عز وجل: { وما الله بغافل عما يعملون }؛ أي لا يخفى عليه جحودهم.
[2.145]
قوله تعالى: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك }؛ يعني يهود المدينة ونصارى نجران، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فأنزل الله هذه الآية. وقوله { ما تبعوا قبلتك } يعني الكعبة، وقوله: { ومآ أنت بتابع قبلتهم }؛ أي وما أنت بمصل إلى قبلتهم بعد التحويل؛ { وما بعضهم بتابع قبلة بعض }؛ لأن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل المشرق.
قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم }؛ أي إن صليت إلى قبلتهم واتبعت ملتهم، { من بعد ما جآءك من العلم }؛ إنها حق وإنها قبلة إبراهيم، { إنك إذا لمن الظالمين }؛ أي الجاحدين الضارين لأنفسهم، وهذا وعيد على معصية علم الله أنها لا تقع منه كقوله:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65] وقد علم الله أنه لا يشرك.
[2.146]
قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب }؛ يعني مؤمني أهل الكتاب: عبدالله بن سلام وأصحابه، { يعرفونه }؛ أي يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم، { كما يعرفون أبناءهم } ، من بين الصبيان. روي عن ابن عباس أنه قال: [لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبدالله بن سلام: قد أنزل الله على نبيه عليه السلام: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } ، كيف يا عبدالله هذه المعرفة؟ قال: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشد معرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم مني لابني، فقال عمر: وكيف ذلك؟ قال: أشهد أنه رسول الله حق من الله تعالى وقد نعته الله في كتابنا. فقال له عمر: وفقك الله يا ابن سلام؛ فقد صدقت وأصبت].
قوله تعالى: { وإن فريقا منهم ليكتمون الحق }؛ مثل كعب بن الأشرف وأصحابه (يكتمون الحق) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر الكعبة، { وهم يعلمون }؛ أن ذلك حق. روي عن عبدالله بن سلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية:
" كنت يا رسول الله أشد معرفة لك مني بابني. قال له: " وكيف ذلك؟ " قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا يقينا؛ ولا أشهد بذلك لابني؛ لأني لا أدري ما أحدثت النساء. فقال له عمر: وفقك الله يا عبدالله ".
[2.147]
قوله تعالى: { الحق من ربك }؛ أي هذا القرآن حق. وقيل: جاءك بالحق من ربك يا محمد أن الكعبة قبلة إبراهيم تعلمها اليهود. وقرأ علي رضي الله عنه: (الحق) نصبا على الإغراء. قوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }؛ أي لا تكونن من الشاكين في أمر القرآن والقبلة. والخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والمراد به غيره، وكذلك كل ما ورد عليك من هذا فهذا سبيله.
[2.148]
قوله تعالى: { ولكل وجهة هو موليها }؛ أي لكل ملة من اليهود والنصارى قبلة هو موليها، أي مستقبلها؛ ومقبل إليها. يقال: وليته ووليت إليه إذا أقبلت إليه، ووليت عنه إذا أدبرت عنه. وقيل: معناه: الله موليها؛ أي يولي أهل كل ملة القبلة التي يريدونها. وقرأ ابن عباس وابن عامر وأبو رجاء: (ولكل وجهة هو موليها) أي مصروف إليها. وفي حرف أبي: (ولكل قبلة هو موليها). وفي حرف عبدالله: (ولكل جعلنا قبلة هو موليها).
قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات }؛ أي فبادروا بالطاعات أيها المسلمون فقد ظهر لكم الحق، واستبقوا إلى أوامر الله وطاعته مبادرة من يطلب الاستباق إليها، تقديره: فاستبقوا إلى الخيرات، فحذف الخافض كقول الشاعر:
ثنائي عليكم يا آل حرب ومن يمل
سواكم فإني مهتد غير مائل
يعني: ومن يمل إلى سواكم.
قوله تعالى: { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا }؛ أي أينما تكونوا أنتم وأهل الكتاب يقبض الله أرواحكم ويجمعكم للحساب فيجزيكم بأعمالكم، وإن كانت قد تفرقت بكم البقاع والملل. وقيل: هذا خطاب للمؤمنين الذين قد سبق في علم الله أنهم يصلون إلى الكعبة. ومعناه: أينما تكونوا في شرق الأرض وغربها، في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات يجمعكم الله تعالى إلى هذه القبلة. قوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }؛ أي من الخلق والبعث والحساب وغير ذلك.
[2.149]
قوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام }؛ هذا تأكيد لأمر التحويل إلى الكعبة؛ وبيان أنه لا يتغير فينسخ كما تغير بيت المقدس. و(حيث) مبني على الضم مثل (قط). وقيل: رفع على الغاية مثل (قبل، وبعد). وقرأ عبيد بن عمير: (ومن حيث) بالنصب؛ قال: لأنها ساكنة في الأصل، وإذا اجتمع ساكنان حرك الثاني بالفتح، لأنه أخف الحركات مثل (ليت، وكيف).
قوله تعالى: { وإنه للحق من ربك }؛ أي الأمر بالتوجه إلى الكعبة لصدق (من ربك). { وما الله بغافل عما تعملون }.
[2.150]
قوله تعالى: { ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }؛ بيان أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في التوجه إلى الكعبة في السفر والحضر سواء؛ لأنه كان يجوز أن يظن ظان الفرق بين المسافر والمقيم كالنفل على الراحلة، فبين الله تعالى أن المسافر كالمقيم في التوجه.
قوله تعالى: { لئلا يكون للناس عليكم حجة }؛ أي لئلا يكون لليهود عليكم حجة، ولأن المسلمين لو لم يصلوا إلى الكعبة لكان ذلك مخالفة للبشارة السابقة؛ فيكون ذلك حجة لهم بأن يقولوا: ليس هو النبي المبشر.
قوله تعالى: { إلا الذين ظلموا منهم }؛ أي لا يحاجكم أحد إلا من ظلم فيما وضح له؛ واحتج بغير الحق. وأراد بالذين ظلموا قريشا واليهود. وكانت حجة قريش الباطلة أن قالوا: إنما رجع إلى الكعبة لأنه علم أنها قبلة آبائه وهو الحق وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنه حق. وأما اليهود فإنهم يقولون: إن كانت قبلتنا ضلالة فقد صليت إليها سبعة عشر شهرا، وإن كانت هدى فقد انصرفت عنها. وقيل: لأن اليهود يقولون: إن محمدا لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنه حق إلا أنه إنما يفعل برأيه ويزعم أنه أمر به. وقيل: إن من حجة مشركي مكة أنهم قالوا لما قالوا لما صرفت القبلة إلى الكعبة: إن محمدا قد تحير في دينه وتوجه إلى قبلتنا وعلم أنا أهدى سبيلا منه وإنه لا يستغني عنا ولا شك أنه يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا. فأجابهم الله تعالى بهذه الآية { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم } نفى أن لا يكون لأحد حجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. بسبب تحويلهم إلى الكعبة. إلا الذين ظلموا من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا.
والحجة: الخصومة والجدال والدعوة الباطلة كقوله تعالى:
لا حجة بيننا وبينكم
[الشورى: 15] أي لا خصومة. وقوله تعالى:
قل أتحآجوننا في الله
[البقرة: 139] و
ليحآجوكم
[البقرة: 76] وحاججتهم؛ كلها بمعنى المخاصمة والمجادلة لا بمعنى الدليل والبرهان. وموضع (الذين) نصب بنزع الخافض، تقديره: إلا الذين ظلموا. وقال الفراء: موضعه نصب بالاستثناء. وإنما قال: (منهم) ردا إلى لفظ الناس؛ لأنه عام وإن كان كل واحد منهم غير الآخر. وقال بعضهم: هذا الاستثناء منقطع من الكلام الأول، ومعناه: لئلا يكون كلهم عليكم حجة؛ اللهم إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل ويجادلونكم بالظلم، وهذا كما يقدر في الكلام للرجل: الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم لك. وقولهم للرجل: ما لك عندي حق إلا أن يظلم. وما لك حجة إلا الباطل.
وقال أبو روق: (معنى الآية: { لئلا يكون للناس } يعني اليهود عليكم حجة).
وذلك أنهم قد عرفوا أن الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام وقد كانوا وجدوا في التوراة أن محمدا صلى الله عليه وسلم يحوله الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نجده سيحول إليها، ولم تحول أنت. فلما حول النبي صلى الله عليه وسلم ذهبت حجتهم. ثم قال: { إلا الذين ظلموا منهم } يعني إلا الذين يظلموكم فيكتموا ما عرفوا من ذلك. وكان أبو عبيدة يقول: (إلا) هنا بمعنى (ولا) كأنه قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا، والذين ظلموا لا يكونوا حجة لهم. قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني: والفرقدان أيضا يفترقان. وقال آخر:
ما بالمدينة دار غير واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا
يعني: ولا دار من دار وإنما حسن ذلك بعد قوله غير واحدة.
قوله عز وجل: { فلا تخشوهم واخشوني }؛ أي لا تخشوا الكفار في انصرافكم إلى الكعبة؛ وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمحاربة فإني وليكم أظهركم عليهم بالحجة والنصر، واخشوني في تركها ومخالفتها. قوله تعالى: { ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون }؛ عطف على قوله: { لئلا يكون للناس عليكم حجة } أي ولكي أتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام فيتم لكم الملة الحنيفية، وقال علي كرم الله وجهه: (تمام النعمة الموت على الإسلام). وروي عنه أنه قال: (النعم ست: الإسلام، والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والسنن، والعافية والغنى عما في أيدي الناس). قوله تعالى: { ولعلكم تهتدون } أي لكي تهتدوا من الضلالة.
[2.151]
قوله تعالى: { كمآ أرسلنا فيكم رسولا }؛ هذه الكاف للتشبيه وتحتاج إلى شيء يرجع إليه. واختلفوا؛ فقال بعضهم: هو راجع إلى ما قبله؛ تقديره :
فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم
[البقرة: 150] كما أرسلت فيكم رسولا، { منكم } ، فيكون إرسال الرسل مؤذنا بإتمام النعمة. والآية خطاب للعرب؛ أي ولأتم نعمتي عليكم كما ابتدأت النعمة بإرسال رسول منكم إليكم؛ لأن اختياره من العرب نعمة عظيمة وشرف لهم، واستدعاء إلى الإسلام؛ لأنه لو اختاره من العجم لكانت العرب مع عزمها ونجوتها لا تتبعه.
قوله تعالى: { يتلوا عليكم آياتنا } ، يعني القرآن؛ { ويزكيكم }؛ أي يصلحكم بأخذ زكاتكم؛ ويأمركم بأشياء تكونوا بها أزكياء؛ { ويعلمكم الكتاب والحكمة }؛ القرآن والفقه والمواعظ ومعرفة التأويل والسنة؛ { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ من الأحكام وشرائع الإسلام وأقاصيص الأنبياء وأخبارهم ما لم تكونوا تعلمون قبل إرساله؛ ونعمتي بهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
[2.152]
قوله عز وجل: { فاذكروني أذكركم }؛ متصل بما قبله؛ أي كما أنعمنا عليكم برسالة رجل؛ أي منكم إليكم فاذكروني. ومعنى الآية: قال ابن عباس: (تذكروني بالطاعة أذكركم بمعونتي). وقال ابن جبير: (معناه اذكروني بطاعتكم أذكركم بمغفرتي). وقال الفضيل: (اذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي).
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قل صيامه وصلاته. ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صيامه وصلاته وتلاوته القرآن "
وقيل: معناه اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالدرجات والجنان. وقال أبو بكر رضي الله عنه: (كفى بالتوحيد عبادة، وكفى بالجنة ثوابا). وقال ابن كيسان: (معناه اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة). وقيل: اذكروني على ظاهر الأرض أذكركم في بطنها.
وقال الأصمعي: (رأيت أعرابيا واقفا يوم عرفة بعرفات وهو يقول: إلهي عجت إليك الأصوات بضروب اللغات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلاء إذا نسيني أهل الدنيا). وقيل: معناه: اذكروني في الدنيا أذكركم في العقبى. وقيل: اذكروني بالطاعات أذكركم بالمعافاة، دليله قوله تعالى:
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
[النحل: 97].
وقيل: معناه اذكروني في الخلاء والملأ أذكركم في الخلاء والملأ. بيانه: ما روي في الخبر: أن الله تعالى قال في بعض الكتب:
" أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي عبدي ما شاء؛ فأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم؛ ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض خطيئة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يشرك بي شيئا ".
وقيل: معناه اذكروني في الرخاء أذكركم في الشدة والبلاء. وقيل: اذكروني بالسلم والتفويض أذكركم بأصلح الاختيار دليله قوله تعالى:
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
[الطلاق: 3]. وقيل: اذكروني بالشوق والمحبة أذكركم بالوصل والقربة. وقيل: اذكروني بالتوبة أذكركم بغفران الحوبة. وقيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالعطاء. وقيل: اذكروني بالسؤال أذكركم بالنوال. اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، اذكروني بالندم أذكركم بالكرم، اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، اذكروني بالإرادة أذكركم بالإفادة، اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص، اذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، اذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، اذكروني ذكرا فانيا أذكركم ذكرا باقيا، اذكروني بصفاء السر أذكركم بخلاص البر، اذكروني بالصفو أذكركم بالعفو، اذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم، اذكروني بالمناجاة أذكركم بالنجاة، اذكروني بترك الجفاء أذكركم بحفظ الوفاء، اذكروني بالجهد في الخدمة أذكركم بإتمام النعمة، اذكروني بالاستغفار أذكركم بالاغتفار، اذكروني بالمناجاة أذكركم بإعطاء الحاجات، اذكروني بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، ولذكر الله أكبر.
قال سفيان بن عيينة: إن الله عز وجل قال:
" لقد أعطيت عبادي ما لو أعطيت جبريل وميكائيل قد أجزلت لهما، قلت: اذكروني أذكركم. قلت لموسى: قل للظلمة لا يذكروني؛ فإني أذكر من ذكرني وإن ذكري إياهم أن ألعنهم "
وقال أبو عثمان الهندي: (إني لأعلم حين يذكرني ربي)، قيل: كيف ذلك؟ قال: (إن الله تعالى قال: { فاذكروني أذكركم } فإذا ذكرت الله ذكرني).
قوله تعالى: { واشكروا لي ولا تكفرون }؛ أي اشكروا لي نعم الدنيا والدين ولا تكفروا نعمتي وإحساني إليكم.
[2.153]
قوله تعالى: { يآأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين }؛ أي استعينوا على ما أكرمتكم من عبادة وشكر بالصبر على أداء الفرائض واجتناب المحارم؛ وبالمواظبة على الصلوات والاستكثار منها { إن الله مع الصابرين } على أداء الفرائض.
[2.154]
قوله تعالى: { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء }؛ نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلا؛ ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، كان الناس يقولون للرجل يقتل في سبيل الله: مات فلان، وكان الكفار يقولون للشهداء على طريق الطعن: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون أنفسهم في الحرب من غير سبب ثم يموتون فيذهبون، فنهى الله المسلمين أن يقولوا مثل هذا، ونبه على أن ذلك كذب بقوله: { بل أحياء }.
واختلفوا في حياتهم؛ والصحيح: أنهم اليوم أحياء على الحقيقة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في رياض الجنة وتأكل وتشرب من أنهارها وتأوي الليل إلى قناديل من نور معلقة بالعرش "
وقال الحسن: (إن الشهداء أحياء عند ربهم يصل إليهم الروح والفرح). وقيل: إن مساكن الشهداء سدرة المنتهى.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفر عنه كل خطيئة؛ ويرى مقعده من الجنة؛ ويزوج من الحور العين؛ ويؤمن من الفزع الأكبر؛ ومن عذاب القبر؛ ويحلى حلية الإيمان "
قوله تعالى: { ولكن لا تشعرون }؛ أي لا يشعرون أنهم كذلك.
[2.155-156]
قوله تعالى: { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع }؛ أي ولنختبرنكم يا أمة محمد بشيء من الخوف؛ يعني خوف العدو والفزع في القتال؛ وقحط السنين وقلة ذات اليد؛ { ونقص من الأموال }؛ أي هلاك المواشي وذهاب الأموال. وقوله تعالى: { والأنفس }؛ أراد به الموت والقتل والأمراض، وقوله تعالى: { والثمرات }؛ أي لا يخرج الثمار والزروع كما كانت تخرج من قبل؛ أو تصيبها آفة؛ وأراد بالثمرات الأولاد لأنهم ثمرة القلب وهم إذا هم شغلوا بالجهاد منعهم ذلك عن عمارة البساتين ومناكحة النساء؛ فيقل أولادهم وثمرة بساتينهم.
وقال بعضهم: معناه { ولنبلونكم بشيء من الخوف } أي خوف الله تعالى، { والجوع } يعني صوم رمضان؛ { ونقص من الأموال } أداء الزكاة الصدقات؛ { والأنفس } الأمراض؛ { والثمرات } موت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرة فؤاده؛ يدل عليه قوله عليه السلام:
" إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجعك، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ".
قوله تعالى: { وبشر الصابرين }؛ أي على هذه الشدائد والبلايا بالثواب لتطيب أنفسهم. ثم وصفهم فقال: { الذين إذآ أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون }؛ { الذين } نعت للصابرين؛ ومعناه: الذين إذا أصابتهم مصيبة من هذه المصائب؛ { قالوا إنا لله وإنآ إليه راجعون } عبيد وملك يحكم فينا بما يشاء من الشدة والرخاء، إن عشنا فإليه أرزاقنا، وإن متنا فإليه مردنا، وإنا إليه راجعون في الآخرة.
قال عكرمة:
" طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقيل: يا رسول الله أمصيبة هي، قال: " نعم، كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة " "
وقال ابن جبير: (ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطيت هذه الأمة - يعني الاستراجاع - ولو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألا تسمع إلى قوله تعالى في فقد يوسف:
يأسفى على يوسف
[يوسف: 84]). وقال صلى الله عليه وسلم:
" من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضا ".
[2.157]
قوله تعالى: { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }؛ قال ابن عباس: (مغفرة من ربهم ونعمة). قيل: الصلاة هنا الثناء والرحمة والبركة. وجمع الصلوات لأنه عنى بها الرحمة بعد الرحمة. { وأولئك هم المهتدون } إلى الاسترجاع. وقيل: إلى الجنة والثواب. وقيل: إلى الحق والصواب. وقيل: الرحمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله كما قال تعالى في آية أخرى:
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب
[الزمر: 10]. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: (نعم العدلان ونعم العلاوة). ويعني بالعدلين: قوله { صلوات من ربهم ورحمة } وبالعلاوة قوله: { هم المهتدون }. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يقول الله تعالى: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في أهله أو ولده أو بدنه فاستقبل ذلك منه بصبر جميل استحيت منه يوم القيامة أن أنشر له ديوانا أو أنصب له ميزانا ".
[2.158]
قوله تعالى: { إن الصفا والمروة من شعآئر الله }؛ أي من أعلام دينه ومتعبداته؛ وأراد بالشعائر ها هنا مناسك الحج. وسبب نزول هذه الآية: أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية فتركناه في الإسلام، فأنزل الله هذه الآية).
وقال ابن عباس: (كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له: إسافا، وعلى المروة صنم على صورة امرأة يقال لها: نائلة. وإنما ذكروا الصفا لتذكير إساف، وأنثوا المروة لتأنيث نائلة؛ وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله، فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى. وكان أمر الجاهلية إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوا الصنمين. فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، وقالت الأنصار: إن السعي من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى هذه الآية { إن الصفا والمروة من شعآئر الله } ).
قوله تعالى: { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما }؛ أي فلا إثم في الطواف بينهما لمكان الأصنام عليهما، فإن الطواف بينهما واجب. والجناح هو الإثم؛ وأصله يتطوف وأدغمت التاء في الطاء. وقرأ أبو حيوة: (يطوف بهما) مخففة.
واختلف العلماء في السعي؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: هو واجب وينجبر بالدم. وقال مالك والشافعي: هو فرض، ولا ينجبر بالدم كطواف الزيارة. وقال أنس بن مالك وابن الزبير ومجاهد: هو تطوع إن فعله فحسن، وإن تركه لم يلزمه شيء، واحتجوا بقراءة ابن عباس وابن سيرين: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما). وكذلك هو في مصحف عبدالله؛ ويقوله بعد ذلك: (ومن تطوع خيرا) وهذا دليل على أنه تطوع.
والجواب عنه: أن (لا) صلة كقوله:
ما منعك ألا تسجد
[الأعراف: 12] وقوله:
لا أقسم
[القيامة: 1]. وحجة من أوجبه: أن الله سماهما { من شعآئر الله }. وأما قوله: { ومن تطوع خيرا } فمعناه من زاد على الطواف الواجب. وحجة من قال إنه فرض: فتسمية الله له من شعائره. قلنا: هذا لا يدل على الفريضة؛ فإن الله سمى المزدلفة المشعر الحرام؛ ولا خلاف أن الدم يقوم مقامه.
وسمي الصفا؛ لأنه جلس عليه صفي الله آدم عليه السلام. وسميت المروة؛ لأنها جلست عليها امرأته حواء، وأصل السعي: أن هاجر أم إسماعيل لما عطش ابنها إسماعيل وجاع صعدت على الصفا فقامت عليه تنظر؛ هل ترى من أحد؟ فلم تر أحدا؛ فهبطت من الصفا حتى جاوزت الوادي ورفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي؛ ثم أتت المروة وقامت عليها؛ هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، فعلت ذلك سبع مرات.
قوله تعالى: { ومن تطوع خيرا }؛ قرأ حمزة والكسائي: (يطوع) بالياء وتشديد الطاء والجزم. وكذلك الثاني بمعنى يتطوع. وقرأ عبدالله: (يتطوع) وقرأ الباقون: (تطوع) بالتاء ونصب العين. ومعنى الآية: ومن زاد في الطواف الواجب. وقال ابن زيد: (ومن تطوع خيرا فاعتمر). وقيل: من تطوع بالحج والعمرة بعد حجته الواجب. وقال الحسن: (فعل غير المفروض عليه من زكاة وصلاة ونوع من أنواع الطاعات كلها)؛ { فإن الله شاكر عليم }؛ أي مجاز له بعمله عليم بنيته يشكر اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير.
[2.159]
قوله تعالى: { إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى }؛ هم علماء اليهود الذين كتموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة، وكتموا أمر القبلة والأحكام والحلال والحرام؛ { من بعد ما بيناه للناس في الكتاب }؛ أي من بعد ما أوضحناه للناس في التوراة والإنجيل؛ وأراد بالناس بني إسرائيل. قوله تعالى: { أولئك يلعنهم الله }؛ أي يبعدهم الله من رحمته. وأصل اللعن في اللغة: هو الطرد، { ويلعنهم اللاعنون }.
اختلف المفسرون في هؤلاء اللاعنين؛ فقال قتادة: (هم الملائكة). وقال عطاء: (الجن والإنس). وقال الحسن: (عباد الله أجمعون). وقال ابن عباس: (كل شيء إلا الجن والإنس). وقال مجاهد: (اللاعنون: البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسكت القطر، ويقولون: هذا لشؤم بني آدم). وقال عكرمة: (دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب، فيقولون: منعنا القطر لمعاصي بني آدم).
وإنما قال لهذه الأشياء اللاعنون ولم يقل اللاعنات؛ لأن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من البهائم والجمادات بما هو صفة للناس من قول أو فعل أن يخرجوه على مذهب بني آدم وجمعهم كقوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام:
والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين
[يوسف: 4] ولم يقل ساجدات وأشباه ذلك. وفي الآية دلالة على وجوب إظهار علوم الدين وزجر عن كتمانها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا السبب المخصوص.
[2.160]
قوله تعالى: { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا }؛ أي إلا الذين تابوا من اليهودية وأصلحوا أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم. وقيل: أصلحوا ما كانوا أفسدوه مما لا علم لهم به، وبينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابيهم، وشهدوا بالحق فيما عندهم من العلم؛ { فأولئك أتوب عليهم }؛ أي أتجاوز عنهم وأقبل التوبة منهم، قوله تعالى: { وأنا التواب الرحيم }؛ أي المتجاوز عن التائبين، الرحيم بهم بعد التوبة.
[2.161]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار }؛ هذا عام في جميع الكفار؛ { أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين }؛ أما المؤمنون فيلعنوهم في الدنيا والآخرة؛ وأما الكفار فيلعن بعضهم بعضا في الآخرة كما قال تعالى:
ويلعن بعضكم بعضا
[العنكبوت: 25]. وروي: أن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم الملائكة والناس أجمعون.
[2.162]
وقوله تعالى: { خالدين فيها }؛ أي في اللعنة والنار مقيمين. وقيل: إن اللعنة هنا النار؛ لأن اللعنة هي إبعاد الله من رحمته وذلك عذابه. قوله تعالى: { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون }؛ أي ولا هم يمهلون ويؤجلون. قال أبو العالية: (لا ينظرون فيعتذرون).
[2.163-164]
قوله عز وجل: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }؛ قال الكلبي: (نزلت هذه الآية في كفار مكة، قالوا: يا محمد صف لنا وانسب لنا ربك، فأنزل الله سورة الإخلاص وهذه الآية). وقال الضحاك: عن ابن عباس: (كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنما يعبدونهم من دون الله إفكا وإثما، فدعاهم الله إلى توحيده والإخلاص في عبادته، فقال: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم }. ويقال: نزلت هذه الآية في صنف من المجوس؛ ويقال لهم: الملكانية؛ يقولون: هما اثنان: خالق الخير، وخالق الشر.
ومعنى الآية: أن الذي يستحق أن تأله قلوبكم إليه في المنافع والمضار وفي جميع حوائجكم وفي التعظيم له إله واحد لا يستحق الإلهية أحد غيره. فلما نزلت هذه الآية عجب المشركون وقالوا: إن محمدا يقول: إن إلهكم إله واحد، فليأتنا بآية إن كان من الصادقين. فأنزل الله تعالى: { إن في خلق السموت والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس }؛ أي في تعاقب الليل والنهار؛ وفي الذهاب والمجيء.
والاختلاف مأخوذ من خلف يخلف بمعنى أن كل واحد منها يخلف صاحبه وإذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلافه؛ أي بعده. نظيره قوله تعالى:
وهو الذي جعل اليل والنهار خلفة
[الفرقان: 62]. وقال عطاء: (أراد اختلاف الليل والنهار في اللون والطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان). والليل: جمع ليلة مثل نخلة ونخل؛ والليالي جمع الجمع. والنهار واحد وجمعه نهر. وقدم الليل على النهار؛ لأنه هو الأصل والأقدم. قال الله تعالى:
وآية لهم اليل نسلخ منه النهار
[يس: 37].
قوله تعالى: { والفلك التي تجري في البحر } يعني السفن، واحده وجمعه سواء، قال الله تعالى في واحده:
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون
[يس: 41] وقال في جمعه:
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم
[يونس: 22]. ويذكر ويؤنث قال الله تعالى في التذكير:
الفلك المشحون
[يس: 41] وقال في التأنيث: { والفلك التي تجري في البحر }. قوله تعالى: { بما ينفع الناس } يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب.
قوله تعالى: { ومآ أنزل الله من السمآء من مآء }؛ يعني المطر، { فأحيا به الأرض بعد موتها }؛ أي بعد يبسها وجذوبتها، { وبث فيها من كل دآبة }؛ أي نشر وفرق من كل دابة من أجناس مختلفة، منهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع، { وتصريف الرياح }؛ أي تقليبها دبورا وشمالا وجنوبا وصبا. وقيل: تصريفها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (وتصريف الريح) بغير ألف على الواحد. وقرأ الباقون: (الرياح) على الجمع. قال ابن عباس: (الرياح للرحمة؛ والريح للعذاب)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول:
" اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ".
قوله تعالى: { والسحاب المسخر }؛ أي المذلل، { بين السمآء والأرض }؛ سمي سحابا لأنه ينسحب بالسير في سرعة. قوله تعالى: { لآيات لقوم يعقلون }؛ أي لعلامات دالة على وحدانية الله لقوم يعرفون لو كانت هذه الأمور إلى اثنين لاختلفا. وقيل: لآيات لقوم يعقلون فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقا وصانعا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها ويعتبر بها ".
قيل: إن السحاب كالمنخل يخرج منه المطر قطرة قطرة ولا تلتقي منه قطرتان في الجو؛ إذ لو خرج منهمرا سيالا لأغرق ما أتى عليه كما في طوفان نوح عليه السلام قال الله تعالى في طوفان نوح:
ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر
[القمر: 11].
[2.165]
قوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا }؛ وهم المشركون. والأنداد: هم الأصنام المعبودة من دون الله، قاله أكثر المفسرين، وقال السدي: (يعني سادتهم وقادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله).
قوله تعالى: { يحبونهم كحب الله }؛ أي كحب المؤمنين الله تعالى يقال: بعت غلامي كبيع غلامك؛ أي كبيعك غلامك. وأنشد الفراء:
أبيت ولست مسلما ما دمت حيا
على زيد كتسليم الأمير
أي كتسليمي على الأمير، وهذا قول أكثر العلماء. وقال الزجاج: (تقدير الآية: يحبونهم كحب الله؛ يعني يسؤون بين هذه الأصنام وبين الله تعالى في المحبة).
قوله تعالى: { والذين آمنوا أشد حبا لله }؛ أي يخلصون في محبة الله لا يشركون به غيره؛ وهم يشركون معه معبوداتهم. وقيل: إن المؤمنين يعبدون الله في كل حال؛ والكفار يعبدون الأوثان في الرخاء فإذا أصابتهم شدة تركوا عبادتها. وقال ابن عباس: (معناه أثبت وأدوم، وذلك أن المشركين كانوا يعبدون صنما فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوه وأقبلوا على عبادة الأحسن). وقال قتادة: (إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما قال تعالى:
فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين
[العنكبوت: 65] والمؤمن لا يعرض عن الله تعالى في السراء والضراء والشدة والرخاء). وقيل: لأن الكفار يرون معبودهم مصنوعهم؛ والمؤمنون يرون الله تعالى صانعهم.
قوله تعالى: { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب }. قرأ أبو رجاء والحسن وشيبة ونافع وقتادة ويعقوب وأيوب: (ولو ترى) بالتاء على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والجواب محذوف تقديره: ولو ترى يا محمد { الذين ظلموا } أي أشركوا { إذ يرون العذاب } لرأيت أمرا عظيما؛ ولعلمت ما يصيرون إليه، أو تعجبت منه. وقرأ الباقون بالياء؛ فمعناه: { ولو يرى الذين ظلموا } أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا، { أن القوة لله جميعا }؛ أو لآمنوا أو لعلموا مضرة الكفر. نظيره هذه الآية في المحذوف:
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض
[الرعد: 31] أي لكان هذا القرآن.
وقوله تعالى: { إذ يرون العذاب } قرأ ابن عامر: (إذ يرون العذاب) بضم الياء على التعدي. وقرأ الباقون بفتحه على اللزوم. وقيل: معنى الآية: ولو يرى عبدة الأوثان اليوم ما يرون حين رؤية شدة عذاب الله وقوته لتركوا عبادة الأوثان ومحبتها. وهذا التأويل على قراءة الياء. وقوله: { أن القوة لله جميعا } أي لأن القوة لله جميعا؛ { وأن الله شديد العذاب }؛ للرؤساء والأتباع من عبدة الأوثان.
وقرأ الحسن وقتادة وشيبة وسلام ويعقوب: (إن القوة لله جميعا وإن الله) بالكسر فيهما على الاستئناف. والكلام تام عند قوله: { يرون العذاب } مع إضمار الجواب؛ كما ذكرنا. وقرأ الباقون بفتحها على معنى بأن القوة لله جميعا معطوف على ما قبل. وقيل: على معنى لرأوا أن القوة لله جميعا، أو لأيقنوا.
[2.166]
قوله تعالى: { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ، متصل بقوله:
شديد العذاب
[البقرة: 165] أي شديد العذاب وقت تبرأ المتبعون من التابعين، { ورأوا العذاب } ، جميعا ودخلوا في النار جميعا وعاينوا ما فيها. قرأ مجاهد بتقديم الفاعلين على المفعولين؛ وقرأ الباقون بالضد. (والتابعون هم الأتباع والضعفاء والسفلة) قاله أكثر المفسرين. وقال السدي: (هم الشياطين يتبرأون من الإنس).
قوله تعالى: { وتقطعت بهم الأسباب } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: (يعني أسباب المودة والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا، فصارت محبتهم عداوة). وقال الكلبي: (يعني بالأسباب الأرحام). وقال أبو روق: (الحلف والعهود التي كانت بينهم في الدنيا؛ وتقطع بينهم الأسباب؛ أي لا سبب يبقى لهم إلى رحمة الله تعالى بوجه من الوجوه).
[2.167]
قوله تعالى: { وقال الذين اتبعوا }؛ أي قال السفلاء والخدم: { لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا }؛ أي قالوا: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم كما تبرأوا منا في الآخرة، يقول الله تعالى: { كذلك يريهم الله أعمالهم }؛ التي عملوها في الدنيا لغير الله؛ { حسرات عليهم }؛ أي كما أراهم العذاب؛ وكما تبرأ بعضهم من بعض كذلك يريهم الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا لغير الله حسرات عليهم؛ أي ندمات عليهم كما أراهم تبرأ بعضهم عن بعض. وقيل: أراد أعمالهم الصالحة التي عملوها. قال السدي: (ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى تبوئهم فيها لو أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك منازلكم لو أطعتم الله تعالى؛ ثم يمنعون عنها، فذلك حين يندمون). وقوله تعالى: { وما هم بخارجين من النار }؛ أي التابعون والمتبوعون.
[2.168-169]
قوله عز وجل: { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا }؛ أي من الزروع والأنعام وغير ذلك مما أحل الله لكم. والطيب صفة للحلال؛ وهما واحد، ويجوز أن يكون الحلال المستلذ. { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ أي لا تسلكوا طريقه التي يدعوكم إليها.
وقيل: نزلت هذه الآية في ثقيف وخزاعة وبني عامر بن صعصعة؛ كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وبعض الحروث.
ووجه دخول (من) التي هي للتبعيض: أن كل ما في الأرض لا يمكن أكله ولا يحل. وقوله تعالى { حلالا طيبا } انتصبا على الحال. وقيل: على المفعول؛ أي كلوا حلالا طيبا مما في الأرض.
وقوله: { خطوات الشيطان } قرأ شيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، والأعمش وحمزة وأبي عمرو؛ وابن كثير في رواية: بسكون الطاء في جميع القرآن. وقرأ قنبل وحفص: بضم الخاء والطاء في جميع القرآن. وقرأ علي رضي الله عنه وسلام عليه: بضم الخاء والطاء وهمزة بعد الطاء. وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير: (خطوات) بفتح الخاء والطاء.
فمن أسكن الطاء بقاه على الأصل؛ وطلب الخفة؛ لأنه جمع خطوة بإسكان الطاء، ومن ضم الطاء فإنه اتبع ضمة الخاء ضمة الطاء مثل ظلمة وظلمات وقربة وقربات. ومن همز الواو مع الضم ذهب بها مذهب الخطيئة، ومن فتح الخاء والطاء فإنه أراد جمع خطوة مثل ثمرات.
واختلف المفسرون في قوله: { خطوات الشيطان } فعن ابن عباس: (أن خطوات الشيطان عمله). وقال مجاهد وقتادة والضحاك: (خطاياه). وقال الكلبي والسدي: (طاعته). وقال عطاء: (زلاته وشهواته). وقال المؤرج: (آثاره). وقال القتبي والزجاج: (طرقه).
قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ أي بين العداوة، وقيل: مظهرها قد بان عداوته بإبائه السجود لأبيكم آدم وغروره إياه حين أخرجه من الجنة. ثم بين الله عداوته فقال: { إنما يأمركم بالسوء والفحشآء }؛ أي بالإثم والمعاصي، وقيل: السوء: ما يجب به التعزيز؛ والفحشاء: ما يجب به الحد. وقيل: كل ما كان في القرآن من الفحشاء فهو زنا، إلا قوله تعالى:
ويأمركم بالفحشآء
[البقرة: 268] فإنه منع الزكاة. وقيل: الفحشاء: ما قبح من القول والفعل. وقال طاووس: (الفحشاء: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة). وقال عطاء: (هي البخل). وقال السدي: (هي الزنا).
قوله تعالى: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }؛ من تحريم الحرث والأنعام وغير ذلك؛ ومن وصفكم الله تعالى بالأنداد والأولاد، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فإن قيل: كيف يصح أن يأمر الشيطان وهو لا يشاهد ولا يسمع صوته؟ قيل: معنى يأمركم يدعوكم ويرغبكم كما يقول الإنسان: نفسي تأمرني بكذا؛ أي تدعوني إليه.
[2.170]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله }؛ أي إذا قيل لهؤلاء الكفار: اتبعوا في التحليل والتحريم ما أنزل الله؛ { قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ }؛ أي ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأوثان وتحريم البحيرة والسائبة ونحو ذلك. يقول الله تعالى: { أولو كان آباؤهم لا يعقلون }؛ أي أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا لا يعقلون؛ { شيئا }؛ من الدين، { ولا يهتدون }؛ للسنة.
وقيل: إن هذه الآية قصة مستأنفة؛ وإنها نزلت في اليهود؛ فعلى هذا تكون الهاء والميم في قوله: { لهم } كناية عن غير مذكور. وعن ابن عباس قال: [دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله، فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا خيرا منا وأعلم؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية].
[2.171]
قوله تعالى: { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء }؛ هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار فوصفهم بعدما أمرهم ونهاهم؛ فلم يأتمروا ولم ينتهوا بصفة الدواب، معناه: مثلنا أو مثلك يا محمد مع الكفار أو مثل واعظ الذين كفروا. فحذف اختصارا كمثل الذي يصيح بها بما لا يدري ما يقال له إلا أنه يسمع الصوت، وهو الإبل والبقر والغنم ينزجر بالصوت ولا تفقه ما يقال لها؛ ولا تحسن جوابا؛ فكما أن البهائم لا تفهم كلام من يدعوها، فكذا هؤلاء الكفار لا ينتفعون بوعظ النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع وأكثر المفسرين، فإنهم قالوا المراد (بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) البهائم التي لا تعقل كالأنعام والحمير ونحوها.
وأضاف المثل إلى الكفار اختصارا لدلالة الكلام عليه؛ وتقديره؛ مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله تعالى كمثل الداعي الذي ينعق بهم؛ أي يصوت ويصيح بها، يقال: نعق ينعق نعقا ونعاقا؛ إذا صاح وزجر، قال الشاعر:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما
منتك نفسك في الخلاء ضلالا
فكما أن هذه البهائم تسمع الصوت ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها؛ كذلك الكافر لا ينتفع بوعظ إن أمرته بخير أو زجرته عن شر؛ غير أنه يسمع صوتك. وقال الحسن: (معناه: مثله فيما أتيتم به حيث يسمعونه ولا يعقلونه كمثل راعي الغنم الذي ينعق بها، فإذا سمعت الصوت رفعت رأسها فاستمعت إلى الصوت والدعاء ولا تعقل منه شيئا، ثم تعود بعد ذلك إلى مرعاها؛ لم تفقه ما ناداها به). وقال قوم: معنى الآية: مثل الكفار في دعائهم الأصنام وعبادتهم الأوثان كمثل الرجل يصيح في جوف الجبال، فيجيبه فيها صوت يقال لها الصدى؛ يجيبه ولا ينفعه.
قوله تعالى: { إلا دعآء وندآء }. وقيل: إن الدعاء والنداء واحد كما أن الحلال والطيب واحد. وقيل: الدعاء ما يكون للقريب، والنداء إنما يكون مد الصوت للبعيد.
قوله تعالى: { صم بكم عمي فهم لا يعقلون }؛ أي هم صم عن الخير لا يسمعون الحق؛ والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل بما يسمعه: كأنه أصم. وقوله تعالى: { بكم } أي خرس لا يتكلمون بخير؛ { عمي } لا يبصرون الهدى فهم لا يعقلون ما يؤمرون به.
[2.172-173]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }؛ أي من حلال ما رزقناكم من الحرث والأنعام وسائر المأكولات، قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا الطيب، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ".
قوله تعالى: { واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }؛ أي واشكروا لله على ما رزقكم وأباح لكم من النعم إن كنتم إياه تعبدون؛ أي إن كنتم تقرون أنه إلهكم ورازقكم، وهذا أمر إباحة وتخيير؛ أعني قوله تعالى: { كلوا } لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد؛ وقد يكون الأكل تعبدا في بعض الأحوال عند دفع ضرر النفس أو تقويتها على الطاعة، وعند مساعدة الضيف إذا امتنع عن الأكل.
فلما نزلت هذه الآية قالت الكفار: إذا لم تكن البحيرة والسائبة والوصيلة محرمة في المحرمات، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله }؛ قرأ السلمي: (إنما حرم عليكم) براء مضمومة مخففة (الميتة والدم ولحم الخنزير) رفعا .
وروي عن أبي جعفر أن قرأ: (حرم) بضم الحاء وكسر الراء وتشديدها ورفع ما بعدها. وقرأ إبراهيم بن أبي عبيلة: (إنما حرم عليكم الميتة) بنصب الحاء والراء وتشديد الراء ورفع الميتة وما بعدها، وجعل (ما) بمعنى الذي المنفصلة، ويكون موضع (ما) نصبا باسم إن؛ وما بعدها خبرها. كما قال:
إنما صنعوا كيد ساحر
[طه: 69]. وقرأه الباقون (حرم) بنصب الحاء وتشديد الراء ونصب (الميتة) وما بعدها، وجعلوا (إنما) كلمة واحدة تأكيدا وتحقيقا. والميتة: ما لم يذك، والدم: يعني المسفوح الجاري. وهذه الآية مخصوصة بالسنة؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد، والدمان: الكبد والطحال ".
قوله تعالى: { ولحم الخنزير } أراد جميع أجزائه وكل بدنه، فعبر ذلك باللحم؛ لأنه معظمه وقوامه. وقوله تعالى: { ومآ أهل به لغير الله } أي ما ذكر عليه عند الذبح اسم غير الله، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: (يعني ما ذبح للأصنام والطواغيت كلها) وأصل الإهلال رفع الصوت، ومنه إهلال الحج؛ وهو رفع الصوت بالتلبية، ومنه إهلال الصبي واستهلاله؛ وهو صياحه عند خروجه من بطن أمه.
قوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه }؛ قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وأبو عمرو: (فمن اضطر) بكسر النون فيه وفيما يشابهه مثل (أن اقتلوا) وأمثاله. وقرأ ابن محيصن: (فمن اضطر) بإدغام الضاد في الطاء حتى يكون طاء خالصة.
ومعنى الآية: فمن أحرج فالتجأ إلى ذلك بالمجاعة والإكراه، { غير باغ } أي غير طالب لذلك؛ أي غير طالب تلذذ، { ولا عاد } أي ولا متجاوز قدر ما يسد به رمقه، وقوله عز وجل: { غير باغ } نصب { غير } على الحال، وقيل: على الاستثناء، وإذا رأيت { غير } لا يقع في موضعها (إلا) فهي حال؛ وإذا يقع في موضعها (إلا) فهي استثناء؛ فقس على هذا.
وقال بعض المفسرين: على معنى { غير باغ } أي غير قاطع للطريق، { ولا عاد } أي ولا مفارق للأئمة ولا مشاق للأمة خارج عليهم بسيفه، ومن خرج يخيف السبيل؛ أو يفسد في الأرض؛ أو آبق من سيده؛ أو فر من غريمه؛ أو خرج عاصيا بأي وجه كان فاضطر إلى الميتة؛ لم يجز أكلها، واضطر إلى الخمر عند العطش؛ لم يحل له شربها، وهذا قول مجاهد وابن جبير والكلبي، وبهذا التأويل أخذ الشافعي رحمة الله، وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: ((يجوز ذلك لهم ولو كانوا بغاة خارجين على المسلمين كما يجوز لأهل العدل)).
قال ابن عباس والحسن ومسروق: (تفسير قوله: { غير باغ } أي غير باغ في الميتة؛ ولا عاد الأكل). وقال مقاتل: (أي غير باغ ومستحل، ولا عاد أي ولا متزود منها). وقال السدي: (غير باغ في أكله بشهوة وتلذذ، ولا عاد أي لا يأكل حتى يشبع منها، ولكن يأكل منها ما يمسك رمقه). وقال بعضهم: غير باغ؛ أي متجاوز للقدر الذي يحل له، ولا عاد؛ أي لا يقصر فيها فيما يحل له منها؛ فلا يأكله. قال مسروق: (بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكلها حتى مات دخل النار).
واختلف الفقهاء في حد الاضطرار إلى الميتة فيما يحل للمضطر أكله من الميتة، فقال بعضهم: إنه لا يجوز له الأكل إلا عند خوف التلف في آخر الرمق وهو الصحيح، وقال بعضهم: إذا كان يضعف عن الفرائض. وقال بعضهم: إذا كان بحيث لو دخل إلى سوق لا ينظر إلى شيء سوى المطعوم.
وأما مقدار ما يأكل عند الضرورة فقال أبو حنيفة: (لا يأكل إلا ما يسد رمقه)، وهو أحد قولي الشافعي.؟ وقال مالك: (يأكل حتى يشبع ويتزود منها، فإن وجد شيئا مباحا طرحها). وقال مقاتل: (لا يزيد على ثلاثة لقم).
قوله: { فلا إثم عليه } أي فلا حرج عليه في أكلها، { إن الله غفور }؛ لمن أكل من الحرام في حالة الاضطرار، { رحيم }؛ به حيث رخص له في ذلك، فإن قيل: قوله تعالى: { فلا إثم عليه } تناقض قوله: { إن الله غفور رحيم }؛ لأن الغفران يقتضي إثبات الإثم؟ قيل: لأنه بالغفران قد يسر بما لولا الإباحة لكانت معصية، وبرحمته جوز عند الضرورة إحياء النفس بتناوله.
[2.174]
قوله عز وجل: { إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب } ، نزل في علماء اليهود والنصارى، قال الكلبي: عن أبي صالح عن ابن عباس: (كان علماء اليهود يأخذون من سفلتهم الهداية، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم من غيرهم، خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رئاستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج في آخر الزمان، لا يشبه نعت هذا النبي الذي بمكة، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يتبعونه، فأنزل الله تعالى هذه الآية { إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب } يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته) { ويشترون به }؛ أي بالمكتوب، { ثمنا قليلا }؛ أي عوضا يسيرا؛ يعني المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم، { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار }؛ ذكر البطون ها هنا للتأكيد؛ ما يأكلون إلا ما يوردهم النار؛ وهي الرشوة والحرام، ومن الدين والإسلام، فلما كان عاقبته النار سماه في الحال نارا، كقوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
[النساء: 10] يعني أن عاقبته النار، وقال عليه السلام في الذي يشرب في الإناء الذهب والفضة:
" إنما يجرجر في بطنه نار جهنم "
أخبر عن المال بالحال.
قوله عز وجل: { ولا يكلمهم الله يوم القيامة }؛ أي لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم كما يكلم أولياءه من البشارة والرضا، وأما التهديد فلا بد منه لقوله تعالى:
فوربك لنسألنهم أجمعين
[الحجر: 92]. وقيل: معناه: لا يسمعهم كلام نفسه، بل يرسل إليهم ملائكة العذاب، فيكلمونهم بأمر الله، وإنما أضاف السؤال إلى نفسه؛ لأن سؤال الملائكة بأمره.
قوله تعالى: { ولا يزكيهم }؛ أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم؛ ولا يثني عليهم خيرا؛ ولا يصلح أعمالهم الخبيثة؛ { ولهم عذاب أليم }؛ أي مؤلم.
[2.175]
قوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فمآ أصبرهم على النار }؛ أي الذين مالوا إلى التحريف للتوراة والإنجيل هم الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، وقوله تعالى { والعذاب بالمغفرة } معناه: أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يوجب المغفرة؛ والكفر به يوجب العذاب؛ فيكون المستبدل للكفر بالإيمان مشتريا للعذاب بالمغفرة.
قوله تعالى: { فمآ أصبرهم على النار } قال الحسن وقتادة والربيع: (والله وما لهم عليها من صبر؛ ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار!). وقال الكسائي وقطرب: (ما أصبرهم على عمل أهل النار؛ أي ما أدومهم عليه). وقيل: معناه: ما ألقاهم في النار. وقال عطاء والسدي: (معناه: ما الذي أصبرهم على النار، وأي شيء صبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل).
وقيل: هو لفظ استفهام بمعنى التوبيخ لهم والتعجب لنا، كأنه قال: ما أجرأهم على فعل أهل النار مع علمهم. قالوا: وهذه لغة يمانية. وقال الفراء: (أخبرني الكسائي؛ قال: أخبرني قاضي اليمن: أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما؛ فحلف، فقال له خصمه: ما أصبرك على الله! أي ما أجرأك على الله).
[2.176]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق }؛ أي ذلك العذاب لهم في الآخرة. وقيل: ذلك الضلال { بأن الله نزل الكتاب بالحق } أي بالعذاب والصدق. واختلفوا فيه؛ فحينئذ يكون ذلك في موضع الرفع. وقال بعضهم: هو في محل النصب؛ معناه: فعلنا ذلك بهم؛ بأن الله أو لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وكفروا به؛ فنزع الخافض.
قوله تعالى: { وإن الذين اختلفوا في الكتاب }؛ قيل: هم اليهود والنصارى، وأراد بالكتاب: التوراة والإنجيل وما فيهما من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحة أمره ودينه.
وقيل: هم الكفار كلهم، وأراد بالكتاب القرآن واختلافهم فيه؛ لأن بعضهم قال: هو سحر، وبعضهم قال: هو قول البشر، وبعضهم قال: هو أساطير الأولين، { وإن الذين اختلفوا في الكتاب } { لفي شقاق بعيد }؛ أي خلاف طويل.
[2.177]
قوله عز وجل: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب }؛ قرأ حمزة وحفص: (ليس البر) بالنصب، ووجه ذلك: أنهما جعلا (أن) وصلتهما في موضع الرفع على اسم ليس، تقديره: ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله تعالى:
فكان عاقبتهمآ أنهما في النار
[الحشر : 17]. وقرأ الباقون بالرفع على أنه اسم (ليس).
واختلف المفسرون في هذه الآية: فقال قوم: أراد بها اليهود والنصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم أن البر في ذلك، فأخبر الله تعالى أن البر غير دينهم وعملهم، وعلى هذا القول قتادة والربيع ومقاتل.
وقيل: لما حولت القبلة إلى الكعبة كثر الخوض في أمر القبلة، فتوجهت. النصارى نحو المشرق، واليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، واتخذوهما قبلة وزعموا أنه البر، فأكذبهم الله تعالى بهذا وبين أن البر في طاعته واتباع أمره، وأن البر يتم بالإيمان. وقيل: معناه: ليس البر كله في الصلاة فقط، { ولكن البر } ، الذي يؤدي للثواب، { من آمن بالله واليوم الآخر } ، والإقرار بالملائكة أنهم عباد الله ورسله؛ لا كما قال بعض الكفار: أن الملائكة بنات الله. والإقرار بالنبيين كلهم.
فإن قيل لهم: جعل (من) خبر (البر) و(من) اسم و(البر) فعل، وهم لا يجبرون: (البر) زيد. قيل: معناه عند بعضهم: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل كقولهم: البر الصادق الذي يصل رحمه ويخفي صدقته، يريدون صلة الرحم وإخفاء الصدقة، فيكون (من) في موضع المصدر كأنه قال: ولكن البر من آمن بالله والبر بر من آمن بالله، كما يقال: الجود من حاتم؛ والشجاعة من عنتر؛ أي الجود جود حاتم، والشجاعة شجاعة عنتر، ومثله قوله تعالى:
وسئل القرية
[يوسف: 82]
أي أهل القرية.
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة
[لقمان: 28]؛ أي كخلق نفس. وقال أبو عبيدة: (معناه: ولكن البار من آمن بالله، كقوله:
والعاقبة للتقوى
[طه: 132] أي للمتقي). وقيل: معناه: ولكن ذا البر من آمن بالله، كقوله:
هم درجت عند الله
[آل عمران: 163] هم ذو درجات.
قوله تعالى: { والملائكة والكتاب والنبيين }؛ أي من آمن بالله والملائكة كلهم والكتاب يعني الكتب، والنبيين أجمع.
قوله تعالى: { وآتى المال على حبه }؛ اختلفوا في الهاء الذي في (حبه)؛ فقال أكثر المفسرين: الهاء في (حبه) راجع إلى المال؛ يعني إعطاء المال في صحته ومحبته إياه وصلته به، وهو صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، ولا يهمل حتى إذا بلغت الحلقوم فيقول: لفلان كذا أو لفلان كذا. أو قيل: هي عائدة إلى الله؛ أي على حب الله تعالى. وقيل: على حب الأنبياء.
قوله تعالى: { ذوي القربى }؛ أي أهل القربى؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" أفضل الصدقة على ذوي الرحم الكاشح "
و
" عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعتقت جارية لي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك؛ فقال: " آجرك الله، أما أنك لو أعطيتها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك " ".
وقوله تعالى: { واليتامى والمساكين } { وابن السبيل }؛ يعني المجتاز، قال مجاهد: (وهو المسافر والمنقطع عن أهله يمر عليك). وقال قتادة: (وهو الضيف ينزل بالرجل) قال: (لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" حق الضيافة ثلاث، فما فوق ذلك فهو صدقة "
وإنما قيل للمسافر والضيف: ابن السبيل؛ لملازمته الطريق كما يقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: ابن الليالي والأيام).
قوله تعالى: { والسآئلين }؛ يعني المستطعمين الطالبين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" للسائل حق وإن جاء على ظهر فرس "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" هدية الله للمؤمن السائل على بابه "
قوله تعالى: { وفي الرقاب }؛ يعني المكاتبين؛ كذا قال أكثر أهل التفسير. وقيل: فداء الأسارى. وقيل: عتق النسمة هو شراؤها للعتق وفك الرقبة.
قوله تعالى: { وأقام الصلاة }؛ يعني المفروضة، وقوله تعالى: { وآتى الزكاة }؛ يعني الواجبة، وقوله تعالى: { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا }؛ يعني فيما بينهم وبين الله، وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا أنجزوا؛ وإذا حلفوا بروا؛ وإذا نذروا أوفوا؛ وإذا قالوا صدقوا؛ وإذا ائتمنوا أدوا. وقيل: معناه الموفون بالعهود التي أمر الله بأوفائها من سائر المواثيق؛ مدحهم على الوفاء بما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصرته على الأعداء؛ ومظاهرته بالجهاد.
واختلفوا في رفع الموفين؛ فقال الفراء والأخفش: (هو عطف على محل { من } في قوله { ولكن البر من آمن } كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون). وقيل: هو رفع على الابتداء، والخبر تقديره: وهم الموفون.
قوله تعالى: { والصابرين في البأسآء والضرآء }؛ في انتصابه خلاف؛ قال الكسائي: (عطف على ذوي القربى، كأنه قال: وآتى الصابرين). وقال بعضهم: معناه: أعني الصابرين. وقال الخليل والفراء: (نصب على المدح، والعرب تنصب على المدح والذم، فالمدح مثل قوله تعالى:
والمقيمين الصلاة
[النساء: 162]، والذم مثل قوله تعالى:
ملعونين
[الأحزاب: 61]). وقوله تعالى: { في البأسآء } يعني الشدة والفقر، و { والضرآء } يعني المرض والزمانة، وفي هاتين الحالتين يعظم موقع الصبر على العبادة.
قوله تعالى: { وحين البأس }؛ أي وقت القتال وشدة الحرب، يقال: لا بأس عليك؛ أي شدة. وقوله تعالى: { أولئك الذين صدقوا }؛ أي في إيمانهم وجهادهم، { وأولئك هم المتقون }؛ محارم الله تعالى. قيل: [جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان؛ فقرأ هذه الآية].
[2.178]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى }؛ نزلت هذه الآية في الأوس والخزرج وكان بينهما قتلى وجراحات في الجاهلية، وكان لأحدهما طول على الآخر في الكثرة والشرف، فأقسموا ليقتلن بالعبد منا الحر منهم؛ وبالمرأة منا الرجل منهم؛ وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، فلم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم بالمساواة؛ فرضوا وسلموا.
قوله تعالى: { فمن عفي له من أخيه شيء }؛ قيل: إن (من) اسم القاتل من ترك له القود وصح عنه من القصاص في قتل العمد؛ فرضي منه بالدية، وقوله: { من أخيه } أي من أخ المقتول منه؛ فيسع العافي بالمعروف؛ أي بترفق في طلب الدية من القاتل ولا يعسر؛ وليؤد القاتل إليه بإحسان؛ أي لا يبخس ولا يماطل، هذا قول أكثر المفسرين. قالوا: العفو: أن يقبل الدية في قتل العمد، وقيل في تأويله: إن العفو في اللغة ما سهل وتيسر، قال الله تعالى:
خذ العفو
[الأعراف: 199]؛ أي ما سهل من الأخلاق، فعلى هذا يكون قوله تعالى: { فمن عفي له } أي ولي القتيل إذا بدل له من بدل أخيه شيء من المال من جانب القاتل؛ ف له { فاتباع بالمعروف }؛ أي فليقبله، { وأدآء }؛ أي ليؤد، { إليه } ، القاتل { بإحسان }.
قوله تعالى: { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة }؛ أي أن الصلح عن القصاص على شيء من الدية أو غير ذلك تسهيل من ربكم عليكم، رحمة رحمكم الله بها؛ وذلك أن الله كتب على أهل التوراة في النفس والجراح أن يقيدوا ولا يأخذوا الدية ولا يعفوا، على أهل الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدية، فخير الله هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو.
قوله تعالى: { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم }؛ أي إذا قتل الولي قاتل وليه بعد أخذ الدية منه فله عذاب أليم: القتل في الدنيا والنار في الآخرة، ومن قتل بعد أخذ الدية يقتل ولا يعفى عنه، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية ".
وفي هذه الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافرا ولا يخلد في النار؛ لأن الله تعالى خاطبهم فقال: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم } وقال في آخر الآية: { فمن عفي له من أخيه شيء } فسمى القاتل أخا للمقتول، وقال تعالى: { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } وهما يلحقان المؤمنين دون الكفار. ويروى أن مسروقا: (سئل هل للقاتل توبة؟ فقال: لا أغلق بابا فتحه الله).
[2.179]
قوله عز وجل: { ولكم في القصاص حيوة يأولي الألباب }؛ يعني أن الذي يريد قتل غيره إذا علم أنه إذا قتل قتل؛ أمسك عن القتل وارتدع؛ فيكون ذلك حياة له وحياة للذي هم بقتله، وفي بقائهما بقاء لمن يتعصب لهما؛ لأن الفتنة تنبئ بالقتل؛ فتؤدي إلى المحاربة التي لا منتهى لها. وقيل: أراد الآخرة بذلك لا من اقتص منه في الدنيا حي في الآخرة، وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتص منه في الآخرة؛ فمعنى الحياة سلامته في الآخرة. قوله تعالى: { يأولي الألباب } أي يا ذوي العقول، { لعلكم تتقون }؛ أي لكي تتقوا القتل مخافة القصاص.
[2.180]
قوله عز وجل: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت }؛ أي فرض عليكم إذا حضر أحدكم أسباب الموت من العلل والأمراض، { إن ترك خيرا }؛ أي مالا، { الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف }؛ وفي ارتفاع الوصية وجهان؛ أحدهما: اسم ما يسم فاعله؛ أي كتب عليكم الوصية، والثاني: بخبر الجار والمجرور. وفي قوله: { للوالدين }. وقوله تعالى: { بالمعروف } أي لا يزيد على الثلث؛ ولا يوصي للغني ويترك الفقير. كما قيل: الوصية للأحوج فالأحوج. وقوله تعالى: { حقا }؛ أي حقا واجبا وهو نعت على المصدر، معناه: حق ذلك حقا. وقيل: على المفعول؛ أي جعل الوصية حقا. وقوله تعالى: { على المتقين }؛ أي على المؤمنين.
وسبب نزول هذه الآية: أنهم كانوا في ابتداء الإسلام يوصون للأباعد طلبا للرياء، فأمر الله تعالى من { ترك خيرا } أي مالا. نظيره قوله تعالى:
وما تنفقوا من خير
[البقرة: 272] أي من مال، وقوله:
إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير
[القصص: 24] أي من مال،
وإنه لحب الخير لشديد
[العاديات: 8]. وقوله تعالى: { إذا حضر أحدكم الموت } أي إذا مرض أحدكم؛ لأنه إذا عاين الموت فقد شغل عن الوصية.
وهذه الآية منسوخة عند أكثر العلماء، واختلفوا بأي دليل نسخت؛ فقال بعضهم: بآية المواريث، وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى قال فيها:
من بعد وصية يوصي بهآ
[النساء: 11]. والصحيح: أنها نسخت بقوله عليه السلام:
" لا وصية لوارث "
وهذا الخبر وإن كان خبر واحد فقد تلقته الأمة بالقبول، فقد جرى مجرى التواتر، ويجوز نسخ القرآن بمثل هذه السنة، ولا تجب الوصية إلا على من عليه شيء من الواجبات لله تعالى أو لعباده، وتستحب لما لا شيء عليه بالوصية بالثلث لأقاربه الذين لا يرثونه بالرحم، وفي جهات الخير إذا لم يخف ضررا على ورثته، قال الضحاك: (من مات ولم يوص لذي قرابته، فقد ختم عليه بمعصيته). وقيل: لا يجب على أحد وصية، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه، وهذا قول علي وابن عمر وعائشة وعكرمة ومجاهد والسدي.
قال عروة بن الزبير: (دخل علي رضي الله عنه على مريض يعوده؛ فقال: إني أريد أن أوصي ، قال علي رضي الله عنه: إن الله عز وجل قال: { إن ترك خيرا } وإنما تترك شيئا يسيرا فدعه لعيالك، فإنه أفضل). وروى نافع عن ابن عمر: (أنه لم يوص، فقال: أما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد). وروي: (أن رجلا قال لعائشة رضي الله عنها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: إنما قال الله تعالى: { إن ترك خيرا } وهذا شيء يسير فاترك لعيالك). وقد روي عن عروة بن ثابت قال للربيع بن خيثم: (أوص لي بمصحفك، فنظر إلى ابنه، وقال:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
[الأنفال: 75]).
[2.182]
قوله تعالى: { فمن خاف من موص جنفا أو إثما }؛ لما توعد الله المبدل؛ خاف الأوصياء من التبديل، فكانوا ينفذون وصية الميت وإن جار في وصيته واستغرقت كل المال، فأنزل الله هذه الآية وبين أن الإثم في تبديل الحق بالباطل، وإذا غير الوصي من باطل إلى حق على طريق الإصلاح فهو محسن فلا أثم عليه.
ومعنى الآية: لمن علم من موص جنفا مثل قوله تعالى:
إلا أن يخافآ ألا يقيما
[البقرة: 229] أي إلا أن يعلما. وقوله تعالى: { جنفا } أي ميلا عن الحق على جهة الخطأ. وقوله تعالى: { أو إثما } أي ميلا إلى جهة العمد؛ بأن زاد في الوصية على الثلث؛ أو أقر بغير الواجب؛ أو جحد حقا عليه، { فأصلح بينهم }؛ أي الوصي بين ورثة الموصي وغرمائه، بأن رد الوصية إلى المعروف الذي أمر الله به، { فلا إثم عليه } ، في التبديل.
والهاء والميم في قوله تعالى: { بينهم } كناية عن الورثة، والكناية تصح عن المعلوم وإن لم يكن مذكورا؛ قوله تعالى: { إن الله غفور رحيم }؛ يعني غفور رحيم إذ رخص للوصي في خلاف الوصية على جهة الإصلاح.
قرأ مجاهد وعطاء وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشيبة ونافع وحفص: (موص) بالتخفيف، وقرأ الباقون: (موص) بالتشديد.
وقوله تعالى: { جنفا } أي جورا وعدولا عن الحق، والجنف: الميل في الكلام وفي الأمور كلها. وقرأ علي كرم الله وجهه: (حيفا) بالحاء والياء؛ أي ظلما. قال الفراء: (الفرق بين الجنف والحيف: أن الجنف عدول عن الشيء، والحيف حمل على الشيء حتى ينتقصه، وعلى الرجل حتى ينتقص حقه). قال المفسرون: الجنف الخطأ، والإثم العمد.
ومعنى الآية: من حضر مريضا وهو يوصي، فخاف أن يخطئ في وصيته ليفعل ما ليس له فعله، أو يتعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره أن يصلح بينه وبين ورثته؛ بأن يأمره بالعدل في وصيته وينهاه عن الجنف؛ فينظر للموصي وللورثة، وهذا قول مجاهد: قال: (هذا حين يحضره الموت، فإذا أسرف أمره بالعدل، وإذا قصر؛ قال: افعل كذا، أعط فلانا كذا).
وقال آخرون: هو إذا أخطأ الميت في وصيته وأحاف فيها متعمدا، فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمور المسلمين أن يصلح بعد موته بين الورثة وبين الموصى لهم، ويرد الوصية إلى العدل والحق، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
وروي عن عطاء أنه قال: (هو أن يعطي عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض مما سيرثونه بعد موته، فلا إثم على من أصلح بين الورثة).
وقال طاووس: (هو أن يوصي لبني ابنه يريد أبنه، أو لبني بنته يريد بنته، أو لزوج ابنته يريد ابنته، فلا حرج على من أصلح بين الورثة).
وقال السدي: (هو في الوصية للآباء والأقربين، يميل إلى بعضهم ويحيف على بعضهم، فالأصلح أن لا ينفذها؛ ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق، ينقص بعضا ويزيد بعضا).
قال ابن زيد: (فعجز الموصي أن يوصي للوالدين كما أمره الله تعالى، وعجز الموصى إليه أن يصلح، فانتزع الله ذلك منهم، وفرض الفرائض). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لم يرضى بملك مقرب، ولا بنبي مرسل حتى تولى قسمة مواريثكم ".
وقوله تعالى: { فأصلح بينهم } ولم يخير للورثة ولا للمختانين في الوصية ذكر؛ لأن سياق الآية وما تقدم من ذكر الوصية يدل عليه.
" روي أن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت مرضا أشرفت منه على الموت؛ فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن لي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا بنت واحدة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال " لا " فقلت: بشطر المال؟ قال: " لا ". قلت: فثلث مالي؟ قال: " نعم، والثلث كثير، إنك يا سعد إن تترك ولدك غنيا خيرا من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " ".
وروي أن جارا لمسروق أوصى فدعا مسروقا يشهده، فوجده قد زاد وأكثر، فقال: (لا أشهد، إن الله تعالى قد قسم بينكم فأحسن القسمة، فمن يرغب برأيه عن أمر الله فقد ضل، أوص لذي قرابتك الذين لا يرثون؛ ودع المال على قسم الله).
وقال: صلى الله عليه وسلم:
" من حاف في وصيته ألقي في اللواء؛ واللواء واد في جهنم "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ".
[2.183]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام }؛ قال الحسن: (إذا سمعت الله تعالى يقول: { يأيها الذين آمنوا } فارع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به ولنهي تنهى عنه). وقال جعفر الصادق: (لذة ما في النداء إزالة تعب العبادة والعناء).
قوله تعالى: { كتب عليكم الصيام } أي فرض عليكم الصيام، { كما كتب على الذين من قبلكم } ، كما فرض على الذين من قبلكم من الأنبياء والأمم، أولهم آدم عليه السلام. وهو ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال:
" أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم عند انتصاف النهار، فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: " يا علي، هذا جبريل يقرئك السلام " قلت: وعليه السلام يا رسول الله، قال: " يا علي، يقول لك جبريل: صم من كل شهر ثلاثة أيام؛ يكتب لك بأول يوم عشرة آلاف حسنة، وباليوم الثاني ثلاثون ألف حسنة، وباليوم الثالث مائة ألف حسنة " فقلت: يا رسول الله، ثواب لي خاصة أم للناس عامة؟ فقال: " يا علي، يعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك " قلت: يا رسول الله، وما هي ؟ قال: " أيام البيض؛ ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر " ".
قال عنترة: قلت لعلي رضي الله عنه: لأي شيء سميت هذه الأيام البيض؟ قال: [لما أهبط الله آدم عليه السلام من الجنة أحرقته الشمس، فاسود جسده، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا آدم أتحب أن تبيض جسدك، قال: نعم، قال: صم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر. فصام آدم عليه السلام أول يوم فابيض ثلث جسده، وصام اليوم الثاني فابيض ثلثاه، وصام اليوم الثالث فابيض كل جسده، فسميت أيام البيض].
قال المفسرون: فرض الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين صيام يوم عاشوراء وصوم ثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة، فكانوا يصومون إلى أن نزل صوم شهر رمضان قبل قتال بدر بشهر وأيام.
وقال الحسن: (أراد بالذي من قبلنا النصارى، فشبه صيامنا بصيامهم لاتفاقهما في الوقت والقدر؛ لأن الله تعالى فرض على النصارى صوم شهر رمضان، فاشتد ذلك عليهم؛ لأنهم ربما كان يأتي في الحر الشديد؛ وكان يضرهم في أسفارهم؛ فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف، فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا؛ فصار أربعين يوما). قال مجاهد: (أصابهم موتان عظيم؛ فقالوا: زيدوا في صيامكم؛ فزادوا عشرا قبل، وعشرا بعد، فصار خمسين يوما).
قوله تعالى: { لعلكم تتقون }؛ أي لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع في زمان الصوم.
وقيل: معناه لتكونوا أتقياء. وأصل الصيام والصوم في اللغة: الإمساك، يقال: صامت الريح إذا سكنت، وصامت الخيل إذا وقفت وأمسكت عن السير. قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ويقال: صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة؛ لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء وقفت وأمسكت عن السير سويعة. قال امرؤ القيس:
فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة
ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال آخر:
حتى إذا صام النهار واعتدل
وسال للشمس لعاب فنزل
ويقال للرجل إذا أمسك عن الكلام: صام ، قال الله تعالى:
إني نذرت للرحمن صوما
[مريم: 26] أي صمتا. فالصوم: هو الإمساك عن المفطرات.
[2.184-185]
قوله عز وجل: { أياما معدودات }؛ يعني شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا " وعقد الإبهام في الثالثة " والشهر هكذا وهكذا وهكذا " إتمام الثلاثين ".
ونصب { أياما } على الظرف؛ أي في أيام؛ وقيل: على خبر ما لم يسم فاعله؛ أي كتب عليكم الصيام أياما. وقيل: بإضمار فعل؛ أي صوموا أياما.
قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ أي فافطر فعدة كقوله:
فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية
[البقرة: 196] تقديره: فحلق أو قصر ففدية؛ فاختصر وتقديره: فعليه عدة.
قراءة أبي عبيد: (فعدة) بالنصب؛ أي فليصم عدة. و(أخر) في موضع خفض؛ إلا أنها لا تنصرف؛ لأنها معدولة عن جهتها فكان حقها (أخريات) فلما عدل إلى (فعل) لم يجز مثل عمر وزفر. ومعنى الآية: فليصم عدة من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
قوله عز وجل: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين }؛ قرأ ابن عباس وعائشة وعطاء وابن جبير وعكرمة ومجاهد (يطوقونه) بضم الياء وفتح الطاء والواو والتشديد؛ أي يكلفونه. وروي عن مجاهد وعكرمة بفتح الياء وتشديد الطاء والواو؛ أي يطوقونه بمعنى يتكلفونه. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قرأ: (يطيقونه) بفتح الياء وتشديد الطاء والياء الثانية وفتحها بمعنى يطيقونه. يقال: طاق وأطاق بمعنى واحد.
قوله تعالى: { فدية طعام مسكين } قرأ أهل المدينة والشام (فدية طعام) مضافا إلى (مساكين) جمعا؛ أضاف الطعام إلى الفدية وإن كانا واحدا لاختلاف اللفظين، كقوله تعالى:
وحب الحصيد
[ق: 9]. وقولهم: مسجد الجامع، وربيع الأول. وقرأ ابن عباس: (طعام مسكين) على الواحد، وهي قراءة الباقين غير نافع، فمن وحد فمعناه لكل يوم طعام مسكين واحد، ومن جمع رده إلى الجمع؛ أي عليه إطعام مساكين فدية أيام يفطر فيها.
ومعنى الآية: { وعلى الذين } يطيقون الصوم فلم يصوموا (فدية طعام مسكين) وذلك أنه كان يرخص في الصوم الأول لمن يطيق الصوم أن يفطر ويتصدق مكان كل يوم على مسكين؛ ثم نسخ بقوله: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } [البقرة: 185].
قوله عز وجل: { فمن تطوع خيرا فهو خير له }؛ قرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي: (يطوع) بالياء وتشديد الطاء وجزم العين على معنى يتطوع. وقرأ الآخرون بالتاء وفتح العين وتخفيف الطاء على الفعل الماضي. ومعنى الآية: فمن يتطوع خيرا؛ أي زاد على طعام مسكين واحد فهو خير له؛ { وأن تصوموا خير لكم }؛ من أن تطعموا وتفطروا، { إن كنتم تعلمون }؛ ثواب الله في الصوم.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها؛ فقال قوم: كان ذلك في أول ما فرض الله الصوم، وذلك أن الله عز وجل لما نزل فرض صيام شهر رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بذلك، شق عليهم الصوم؛ وكانوا قوما لم يتعودوا الصوم؛ فخيرهم الله تعالى بين الصيام والإطعام؛ فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بالطعام.
ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ونزلت العزيمة في إيجاب الصوم. وعلى هذا القول معاذ بن جبل وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة وعكرمة والشعبي والزهري وإبراهيم والضحاك. وهي إحدى الروايات عن ابن عباس.
وقال آخرون: بل هذا خاص للشيخ الكبير والعجوزة الكبيرة اللذين يطيقان الصوم ولكن يشق عليهما؛ رخص لهما إن شاءا أفطرا مع القدرة ويطعما لكل يوم مسكينا؛ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } وثبتت الرخصة للذين لا يطيقونه. وهذا قول الربيع بن أنس ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال الحسن: (هذا في المريض، كان إذا وقع عليه اسم المرض وكان يستطيع الصيام، فهو بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم حتى نسخ ذلك).
فعلى هذه الأقاويل: الآية منسوخة؛ وهذا قول أكثر الفقهاء والمفسرين. وقال قوم: لم تنسخ هذه ولا شيء منها، وإنما تأويلها: وعلى الذين يطيقونه في حال شفائهم وفي حال صحتهم وقوتهم، ثم عجزوا عن الصوم؛ فدية طعام مسكين؛ وجعلوا هذه الآية محكمة؛ وهذا قول سعيد بن المسيب والسدي؛ وإحدى الروايات عن ابن عباس: فجملة ما ذكرنا من الأقاويل على قراءة من قرأ (يطيقونه) من الإطاقة وهي القراءة الصحيحة التي عليها عامة أهل القرآن ومصاحف البلدان.
وأما على قراءة (يطوقونه) فيأولونه أنه الشيخ الكبير والعجوزة الكبيرة والمريض الذي لا يرجى برؤه؛ فهم مكلفون ولا يطيقونه، فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم مسكينا؛ وقالوا: الآية محكمة. قوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم } أي خير لكم من أن تفطروا وتطعموا. قوله تعالى: { إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم تعلمون ثواب الله تعالى في الصوم.
ثم بين الله تعالى أيام الصيام بقوله عز وجل: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }؛ قرأ العامة (شهر) بالرفع على معنى أتاكم شهر رمضان. وقال الفراء: (ذلكم شهر رمضان). وقيل: ابتداء وما بعده خبر. وقال الأخفش: (هو شهر رمضان). وقال الكسائي: (كتب عليكم شهر رمضان).
وقرأ الحسن ومجاهد: (شهر رمضان) نصب على معنى صوموا شهر رمضان. وقال الأخفش: (نصب على الظرف؛ أي كتب عليكم الصيام شهر رمضان). وقيل: نصب على الإغراء؛ أي التزموا شهر رمضان. وقيل: نصب على البدل من قوله: { أياما معدودات }.
وسمي الشهر شهرا لشهرته. واختلفوا في رمضان؛ فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله؛ فيقال: شهر رمضان كما يقال.
شهر الله؛ ويدل على ذلك ما روي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقولوا رمضان، انسبوه كما نسبه الله عز وجل في القرآن فقال: شهر رمضان ".
قال أبو عمر: (وإنما سمي رمضان لأنه رمضت فيه الفصال من الحر). وقيل: سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب؛ أي يحرقها. وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. وقال الخليل: (هو مأخوذ من الرمض؛ وهو مطر يأتي في الخريف؛ سمي به هذا الشهر لأنه يغسل الأبدان من الآثام غسلا ويطهر قلوبهم تطهيرا).
قوله تعالى: { الذي أنزل فيه القرآن } روي أن عطية بن الأسود قال لابن عباس: إنه قد وقع الشك في قوله تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقوله:
إنا أنزلناه في ليلة القدر
[القدر: 1] و
إنآ أنزلناه في ليلة مباركة
[الدخان: 3] وقد نزل في سائر الشهور قال الله تعالى:
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا
[الإسراء: 106]؟ فقال: (أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر في شهر رمضان، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي عليه السلام نجوما عشرين سنة، وذلك قوله عز وجل:
فلا أقسم بمواقع النجوم
[الواقعة: 75]).
وقيل: كان ينزل في كل شهر من شهر رمضان إلى سماء الدنيا ما كان ينزل في تلك السنة، فنزل من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة. وقال بعضهم: كان ابتداء إنزاله على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، فأضيف إنزال الكل إلى ذلك.
وعن واثلة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنزلت صحف إبراهيم في ثلاث ليال مضين من شهر رمضان، وأنزلت التوراة في ست ليال مضين من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل في ثلاث عشرة مضين من رمضان، وأنزل الزبور في ثماني عشرة ليلة مضت من رمضان. وأنزل الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم في الرابعة والعشرين من شهر رمضان "
وروي أن التوراة أنزلت في اثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، والإنجيل في ثماني عشرة من رمضان.
قوله تعالى: { هدى للناس }؛ أي أنزل الفرقان هاديا للناس من الضلالة، وانتصب { هدى } على القطع؛ لأن القرآن معرفة وهدى نكرة. قوله تعالى: { وبينات من الهدى والفرقان }؛ أي ودلالات واضحات من الهدى والفرقان بين الحق والباطل. وقيل: معناه: بينات من الحلال والحرام؛ والحدود والأحكام.
وعن سعيد بن المسيب عن سلمان رضي الله عنه قال:
" خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان؛ فقال: [يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم؛ شهر مبارك؛ شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة؛ وقيام ليله تطوعا، فمن تقرب بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيمن سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، وشهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبة من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا.
قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم؟ فقال: صلى الله عليه وسلم: " يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن أو تمر أو بشربة ماء، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يضمأ بعدها أبدا حتى يدخل الجنة، وكان كمن أعتق رقبة، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له فيه وأعتقه من النار. فاستكثروا فيه من أربع خصال؛ خصلتان ترضون بهما ربكم، وخصلتان لا غناء لكم عنهما: فأما اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما اللتان لا غناء لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار " ".
وعن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أبواب السماء وأبواب الجنة لتفتح أول ليلة من شهر رمضان، فلا تغلق إلى آخر ليلة منه، وليس من عبد يصلي في ليلة منها إلا كتب الله له بكل سجدة ألف حسنة وسبعمائة حسنة، وبنى له بيتا في الجنة من ياقوتة حمراء له سبعون ألف باب، لكل باب منها مصراعان من ذهب. فإذا صام أول يوم من شهر رمضان غفر الله له كل ذنب إلى آخر يوم من رمضان، وكان كفارة إلى مثله، وله بكل يوم يصومه قصر في الجنة له ألف باب من ذهب، واستغفر له سبعون ألف ملك من غدوه إلى أن تورى بالحجاب، وله بكل سجدة يسجدها من ليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ".
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، نادى الجليل جلت قدرته وعظمته: يا رضوان حلي جنتي وزينها للصائمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تغلقها حتى ينقضي شهرهم. ثم ينادي: يا مالك أغلق أبواب جهنم عن الصائمين من أمة محمد، ثم لا تفتحها حتى ينقضي شهرهم. ثم ينادي: يا جبريل انزل إلى الأرض فغل مردة الشياطين عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يفسدوا عليهم صيامهم. ولله عز وجل في كل يوم عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار عتقا يعتقهم من النار عبيد وإماء، وله في كل سماء ملك طرفه تحت العرش وقوائمه في تخوم الأرض السابعة، له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، ينادي: هل من تائب يتاب عليه؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ولو أذن الله للسماوات والأرض أن يتكلما لبشرتا من صام رمضان الجنة ".
وقال: صلى الله عليه وسلم:
" نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف ".
قوله عز وجل: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ، قرأ العامة بجزم اللام. وقرأ الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الأمر، وحقها الكسر إذا انفردت؛ كقوله تعالى:
لينفق ذو سعة من سعته
[الطلاق: 7]؛ وإذا وصلت بشيء ففيه وجهان: الجزم والكسر، وإنما الوصل بثلاثة أحرف؛ بالفاء كقوله تعالى:
فليعبدوا رب هذا البيت
[قريش: 3]، وبالواو كقوله تعالى:
وليوفوا نذورهم وليطوفوا
[الحج: 29] وب (ثم) كقوله تعالى:
ثم ليقضوا تفثهم
[الحج: 29].
واختلف العلماء في معنى هذه الآية: فقال بعضهم: معناها: فمن شهد بالغا عاقلا مقيما صحيحا مكلفا فليصمه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: معناه: فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فليصم الشهر كله غاب بعده فسافر أو أقام فلم يبرح، قاله السدي والنخعي. قال قتادة: (إن عليا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر فعليه الصوم).
قالوا: والمستحب له أن لا يسافر إذا أدركه رمضان مقيما إن أمكنه حتى ينقضي الشهر. وروي في ذلك عن إبراهيم بن طلحة: (أنه جاء إلى عائشة رضي الله عنها يسلم عليها. فقالت له: فأين تريد؟ قال: أريد العمرة، قالت: جلست حتى إذا دخل عليك شهر رمضان خرجت فيه؟ قال: قد خرج رحلي، قالت: اجلس حتى إذا أفطرت فاخرج، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له).
وقال آخرون: معناه: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } أي ما شهد منه وكان حاضرا؛ فإن سافر فله الإفطار إن شاء، قاله ابن عباس وعامة أهل التفسير؛ وهو أصح الأقاويل؛ ويدل عليه ما روى ابن عباس؛ قال: [خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح صائما في رمضان حتى إذا كان بالكديد أفطره]. وعن الشعبي: (أنه سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر). وعن أبي ميسرة: (أنه خرج في رمضان حتى إذا بلغ القنطرة دعا بماء فشرب).
قوله عز وجل: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }؛ أي من كان مريضا أو مسافرا فأفطر فعليه قضاء ما أفطر فيه.
واختلفوا في المرض الذي أباح الله فيه الإفطار؛ فقال قوم: هو كل مرض يسمى مرضا. قال طريف بن تمام: (دخلت على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه).
وقال آخرون: هو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة. وقال حسن وإبراهيم: (إذا لم يستطع المريض أن يصلي الفرائض فله أن يفطر). والأصل فيه أنه إذا لم يمكنه الصوم وأجهده أفطر، وإذا لم يجهده فهو بمعنى الصحيح الذي يطيق الصوم.
وقوله تعالى: { أو على سفر } واختلفوا في صيام المسافر، فقال قوم: الإفطار في السفر عزيمة واجبة وليس برخصة، فمن صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام؛ وهو قول أبي هريرة وابن عباس وعروة بن الزبير والضحاك، وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم:
" ليس من البر الصيام في السفر "
وعن عبدالرحمن بن عوف أنه قال: (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر).
وقال آخرون: الإفطار في السفر رخصة من الله عز وجل؛ والفرض الصوم، فمن صام ففرضه أدى؛ ومن أفطر فبرخصة الله أخذ، ولا قضاء على من صام إذا أقام. وهذا هو الصحيح؛ وعليه عامة الفقهاء؛ يدل عليه ما روى جابر قال: [كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنا المفطر ومنا الصائم؛ فلم يكن بعضنا يعيب ببعض].
وعن حمزة بن عمرو أنه قال:
" يا رسول الله، إني أجد في قوة على الصوم في السفر، فهل علي جناح؟ قال: " هي رخصة من الله عز وجل، فمن أخذها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " ".
فأما قوله صلى الله عليه وسلم:
" ليس من البر الصيام في السفر "
فإن أصله ما روى جابر:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء، فقال: " ما بال صاحبكم هذا؟ " قالوا: يا رسول الله، هو صائم. فقال: " ليس من البر أن تصوموا في السفر، فعليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم فاقبلوها " "
وكذلك تأويل قوله عليه السلام:
" الصيام في السفر، كالفطر في الحضر "
يدل عليه حديث مجاهد: (عن ابن عمر أنه مر برجل ينضح عليه الماء في وجهه وهو صائم، فقال له: أفطر ويحك! فإني أراك إن مت على هذا دخلت النار).
والذي يؤيد ما قلناه ما روي عن عروة وسالم: (أنهما كانا عند عمر بن عبدالعزيز إذ هو أمير على المدينة، فتذاكروا الصوم في السفر، فقال سالم: كان ابن عمر لا يصوم في السفر. وقال عروة: كانت عائشة تصوم في السفر، فقال سالم: إنما أحدثك عن ابن عمر، فقال عروة: إنما أحدثك عن عائشة، فارتفعت أصواتهما، فقال عمر بن عبدالعزيز: اللهم عفوا إن كان يسرا فصوموا وإن كان عسرا فأفطروا).
ثم اختلف في المستحب؛ فقال قوم: الصوم أفضل؛ وهو قول معاذ بن جبل وأنس وإبراهيم ومجاهد؛ وروي أن أنس بن مالك أمر غلامه أو غلاما له بالصوم في السفر، فقيل له في هذه الآية. فقال: (نزلت ونحن نرتحل يومئذ جياعا وننزل على غير شبع، فمن أفطر فرخصته، ومن صام فالصوم أفضل).
وقال آخرون: المستحب الإفطار لما روي عن جابر قال:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى إذا بلغ كراع الغميم فصام الناس، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناسا صاموا، فقال: " أولئك العصاة " ".
وعن يعلى بن يوسف؛ قال: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر، فقال: (أرأيت لو تصدقت على رجل فردها عليك، ألم تغضب؟) قلت: بلى، قال: (فإنها صدقة من الله تعالى تصدق بها عليكم).
قوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر }؛ أي حين رخص الإفطار للمريض والمسافر؛ { ولا يريد بكم العسر }؛ أي تكليف الصوم في المرض والسفر.
قرأ يزيد بن القعقاع: (اليسر) و(العسر) مثقلين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالتخفيف؛ وهو الاختيار وهما لغتان جيدتان.
قوله تعالى: { ولتكملوا العدة }؛ قرأ أبو بكر: بتشديد الميم. وقرأ الباقون بالتخفيف، وهو الاختيار لقوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة: 3]. والواو في قوله: { ولتكملوا العدة } واو العطف؛ واللام لام (كي)، تقديره: { يريد الله بكم اليسر } أي يريد لأن يسهل عليكم { ولتكملوا العدة }.
وقال الزجاج: (معناه: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ما أفطرتم في مرضكم وسفركم، إذا برأتم وأقمتم فقضيتموها). وقيل: ومعنى { ولتكملوا العدة } أي ولتتمموا مدة ما أفطرتم بالمرض والسفر. وقيل: معناه عدة ثلاثين يوما إذا غم عليكم هلال شوال.
قوله تعالى: { ولتكبروا الله على ما هداكم }؛ أي ولتعظموا الله بقلوبكم وأفواهكم وأعمالكم على ما هداكم لدينه وشريعته. ووفقكم ورزقكم شهر رمضان، وخصكم به دون سائر أهل الملل.
ويقال: أراد بذلك التكبير في صلاة عيد الفطر. وقال بعضهم: أراد به التكبير ليلة الفطر، قال ابن عباس: (حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا). وروي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وغيرهما: (أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بالتكبير).
قوله تعالى: { ولعلكم تشكرون }؛ أي لكي تشكروا الله على الرخصة ونعمة الهدى.
[2.186]
وقوله عز وجل: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب }؛ إلا أنه اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية؛ فقال ابن ((عباس)): (نزلت في عمر رضي الله عنه وأصحابه حين أصابوا من أهليهم في ليالي رمضان) وستأتي قصتهم إن شاء الله تعالى.
وروى الكلبي عن أبي صالح عنه قال: (قال يهود المدينة: يا محمد، كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؛ وأن غلظ كل سماء مثل ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية). وقال عطاء وقتادة: (لما نزل قوله تعالى:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60] قال رجل: يا رسول الله! كيف ندعو ربنا؟ ومتى ندعوه؟ فأنزل الله هذه الآية). وقال الضحاك: (سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية).
قال أهل المعاني: فيه إضمار كأنه قال: فقل لهم يا محمد وأعلمهم أني قريب منهم بالعلم.
قوله تعالى: { أجيب دعوة الداع إذا دعان }؛ فإن قيل: ما وجه هذه الآية وقوله:
ادعوني أستجب لكم
[غافر: 60] وقد يدعوه كثير من خلقه فلا يجيب دعاءه؟! قلنا: اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى الدعاء هنا الطاعة، ومعنى الإجابة الثواب. كأنه قال: أجيب دعوة الداعي بالثواب إذا أطاعني.
وقيل: معناه الخصوص؛ وإن كان اللفظ عاما، أي أجيب دعوة الداعي إن شئت، وأجيب دعوة الداعي إذا وافق القضاء، وأجيب دعوة الداعي إذا كانت الإجابة له خيرا. ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل دعوته؛ وإما أن يدخر له في الآخرة؛ وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها " ، قالوا: يا رسول الله إذن نكثر؟ قال: " الله أكثر " ".
و((قال)) بعضهم: هو عام وليس فيه أكثر من إجابة الدعوة؛ فأما إعطاء الأمنية وقضاء الحاجة، فليس بمذكور. وقد يجيب السيد عبده؛ والوالد ولده، ولا يعطيه سؤاله؛ فالإجابة كائنة لا محالة عند حصول الدعوة؛ لأن قوله: أجيب وأستجيب هو خبر؛ والخبر لا يعترض عليه النسخ؛ لأنه إذا نسخ صار المخبر كذابا، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ودليل هذا التأويل ما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من فتح له باب في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة "
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: [قل للظلمة لا يدعوني، فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني؛ وإني إذا أجيب الظالمين لعنتهم].
وقيل: إن الله تعالى يجيب دعاء المؤمن في الوقت، إلا أنه يؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته. يدل عليه ما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن العبد ليدعو الله تعالى وهو يجيبه؛ فيقول: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأخرها، فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته. وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه؛ فيقول: يا جبريل اقض لعبدي هذا حاجته وأعجلها؛ فإني أكره أن أسمع صوته ".
وبلغنا عن يحيى بن سعيد قال: ((رأيت رب العزة في المنام فقلت: يا رب، كم أدعوك فلم تستجب لي؟ فقال: يا يحيى، إني أحب أن أسمع صوتك)).
وقال بعضهم: إن للدعاء آدابا وشرائط هي أسباب الإجابة ونيل الأمنية، فمن راعاها واستكملها كان من أهل الإجابة، ومن أغفلها وأخل بها فهو من أهل الاعتداء في الدعاء. وقيل: ما من أحد يدعو الله تعالى على ما توجبه الحكمة إلا وهو يجيب دعاءه. والدعاء على شرط الحكمة أن يقول: اللهم افعل لي كذا، أو كذا إن لم يكن مفسدة في ديني وفيما يرضيك عني.
ويحكى أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قيل له: ما بالنا ندعو الله عز وجل فلا يستجيب لنا؟ فقال: (لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه؛ وعرفتم رسوله فلم تتبعوه؛ وعرفتم القرآن فلم تعملوا به؛ وأكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها ؛ وعرفتم الجنة فلم تطلبوها؛ وعرفتم النار فلم تهربوا منها؛ وعرفتم الشيطان فوافقتموه؛ وعرفتم الموت فلم تستعدوا له؛ ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم؛ وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس).
قوله عز وجل: { فليستجيبوا لي }؛ أي فليجيبوا لي بالطاعة؛ يقال: أجاب واستجاب بمعنى. قال الشاعر:
وداع دعاء من يجيب إلى النداء
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال رجاء الخرساني: (معناه فليدعوني). والإجابة من الله تعالى الإعطاء؛ ومن العبد الطاعة. وفي بعض التفاسير: الاستجابة أن تقول في بعض صلاتك: لبيك اللهم لبيك... إلى آخر التلبية.
وقوله تعالى: { وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }؛ الإيمان أن تقول: آمنت بالله وكفرت بالجبت والطاغوت؛ وعدك حق؛ ولقاؤك حق؛ وأشهد أنك واحد فرد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؛ وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها؛ وأنك تبعث من في القبور.
قال ابن عباس: (ما تركت هذه الكلمات بعد صلاة بعدما نزلت هذه الآية). قال الكلبي: (ما تركتها منذ أربعين سنة). فعلى هذا معنى الاستجابة: الإجابة بالطاعة والانقياد في كل ما ألزمه؛ وقوله: { لعلهم يرشدون } أي ليكونوا على رجاء الرشد في مصالح الدنيا والآخرة.
[2.187]
قوله عز وجل: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم }؛ قال المفسرون: كان الرجل في ابتداء الأمر إذا أفطر أحل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الأخيرة أو ترقد قبلها، فإذا صلى العشاء ورقد قبل الصلاة ولم يفطر، حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم
" إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء؛ فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، إني أعتذر إليك وإلى الله من نفسي هذه الخاطئة، إني راجعت أهلي بعدما صليت صلاة العشاء الأخيرة؛ فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي، فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما كنت جديرا بذلك يا عمر! " فقام رجال فاعترفوا بالذي كانوا صنعوا بعد العشاء "
، فنزلت في عمر وأصحابه { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم } أي أبيح لكم ليلة الصيام الرفث.
قرأ ابن مسعود والأعمش: (الرفوث) برفع الواو والفاء وبواو. والرفوث والرفث كناية عن الجماع. قال ابن عباس: (إن الله حيي كريم؛ فكل ما ذكر الله تعالى في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول، فإنما يريد به الجماع). قال الشاعر:
فضلنا هنالك في نعمة
وكل اللذاذة غير الرفث
وقال القتيبي: (الرفث هو الإفصاح عما تحب أن يكنى به عن ذكر النكاح؛ وأصله الفحش والقول القبيح). وقال الزجاج: (الرفث كل كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء).
قوله عز وجل: { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن }؛ أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن؛ قاله أكثر المفسرين. ونظيره قوله تعالى:
وجعلنا اليل لباسا
[النبأ: 10] أي سكنا، ودليله قوله تعالى:
وجعل منها زوجها ليسكن إليها
[الأعراف: 189].
وقال أهل المعاني: اللباس: الشعار الذي يلي الجلد من الثياب؛ فسمي كل واحد من الزوجين لباسا؛ لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد؛ وانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه. وقال بعضهم: يقال: لما ستر الشيء وواراه لباسا، فجاز أن يكون كل واحد منهما لصاحبه سترا عما لا يحل، كما روي في الخبر
" من تزوج فقد أحرز نصف دينه ".
قوله عز وجل: { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم }؛ أي علم الله أنكم كنتم تظلمون أنفسكم بمعصيتكم وجماعكم بعد العشاء الأخيرة في ليالي الصوم فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم على ذلك وعفا عنكم ذنوبكم. قوله تعالى: { فالآن بشروهن }؛ أي جامعوهن في ليالي الصوم فهو حلال لكم. سميت المجامعة مباشرة؛ لتلاصق بشرة كل واحد منهما لصاحبه.
وقوله تعالى: { وابتغوا ما كتب الله لكم }؛ أي واطلبوا ما قضى الله لكم من الولد. قال مجاهد: (إن لم تلد هذه فهذه). وقال ابن زيد: ((وابتغوا ما كتب الله لكم) أي " ما " أحل لكم من الجماع). وقرأ معاذ بن جبل: (وابتغوا ما كتب الله لكم من الاتباع) يعني ليلة القدر ، وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابن عباس. وقرأ الأعمش: (وأتوا ما كتب الله لكم) أي افعلوا.
وأشبه الأقاويل فظاهر الآية في تأويل قوله: (وابتغوا ما كتب الله لكم) قول من تأوله على الولد؛ لأنه عقيب قوله (فباشروهن) وهو أمر بإباحة الطلب وندب كقوله صلى الله عليه وسلم:
" تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط ".
وقال أهل الظاهر: هو أمر إيجاب وحتم يدل عليه ما روى أنس بن مالك:
" أن امرأة كان يقال لها الخولاء عطارة أهل المدينة، دخلت على عائشة رضي الله عنها؛ فقالت: يا أم المؤمنين، زوجي فلان أتزين له كل ليلة وأتطيب كأني عروس زفت إليه، فإذا أوى إلى فراشه دخلت في لحافه ألتمس بذلك رضى الله تعالى، فحول وجهه عني أراه قد أبغضني؟ فقالت: اجلسي حتى يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فبينما أنا كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما هذه الروائح التي أجدها، هل أتتكم الخولاء؟ ابتعتم منها شيئا؟ " قالت عائشة: لا والله يا رسول الله، فقصت عليه الخولاء قصتها، فقال لها: " اذهبي واسمعي له وأطيعي " فقالت: أفعل يا رسول الله، فما لي من الأجر؟ قال: " ما من امرأة رفعت من بيت زوجها ووضعته تريد الإحسان إلا كتب الله لها حسنة، ومحى عنها سيئة، ورفع لها درجة. وما من امرأة حملت من زوجها حين تحمل إلا كتب الله لها من الأجر مثل القائم ليلة الصيام نهاره والغازي في سبيل الله. وما من امرأة يأتيها طلق إلا كتب الله لها بكل طلقة عتق نسمة؛ وبكل رضعة عتق رقبة. فإذا فطمت ولدها نادى مناد من السماء: أيتها المرأة قد كفيتي بالعمل فيما مضى، فاستأنفي العمل فيما بقي " ".
قالت عائشة: قد أعطي النساء خيرا كثيرا، فما بالكم يا معشر الرجال؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلا كتب الله له حسنة؛ وإن عانقها فعشر حسنات؛ وإن قبلها فعشرون حسنة؛ وإن أتاها كان خيرا من الدنيا وما فيها، فإذا قام ليغتسل لم يمر الماء على شعرة من جسده إلا تمحى عنه سيئة ويعطى له درجة، ويعطى بغسله خيرا من الدنيا وما فيها، وإن الله عز وجل يباهي به الملائكة، يقول: أنظروا إلى عبدي قام في ليلة باردة يغتسل من الجنابة، يتيقن بأني ربه، اشهدوا أني قد غفرت له ".
قوله عز وجل: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر }؛ هذا أمر إباحة مثل
وإذا حللتم فاصطادوا
[المائدة: 2] وشبهه. نزلت في رجل من الأنصار يسمى صرمة بن أنس هكذا قال الكلبي. وقال معاذ بن جبل: (اسمه أبو صرمة). وقال عكرمة والسدي: (اسمه أبو أقيس بن صرمة). وقال مقاتل: (صرمة بن إياس).
وكانت قصته:
" أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى قال لأهله: قدمي الطعام، فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخنا، فأخذت تعمل له سخنية، وكان ذلك الوقت من صلى العشاء أو نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع، فلما فرغت من طبخ طعامه؛ إذ به قد نام فأيقظته فكره أن يعصي الله تعالى ورسوله، فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجهده الصوم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: [يا أبا قيس، ما لك طريحا!] قال: ظللت أمس في النخل نهاري كله أجر بالجريد حتى أمسيت. - وفي بعض النسخ: أجر الجريد - فأتيت أهلي، فأرادت امرأتي أن تطعمني شيئا سخنا، فأبطأت علي فنمت، فأيقظوني وقد حرم الطعام والشراب؟ فطويت فأصبحت قد أجهدني الصوم. فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } "
أي كلوا في ليالي الصوم واشربوا فيها حتى يتبين لكم بياض النهار وضوء يه من سواد الليل وظلمته، كذا قال المفسرون. وقيل: معناه حتى يتبين لكم الفجر الأول من الثاني، قال الشاعر :
الخيط الأبيض قبل الصبح منصدع
والخيط الأسود حين الليل مركوم
وعن عدي بن حاتم قال:
" علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام فقال: " صل كذا وكذا، وصم كذا وكذا، فإذا غابت الشمس فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ وصم ثلاثين يوما إلا أن ترى الهلال قبل ذلك " قال: فأخذت خيطين من حرير أبيض وأسود، وكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، فقال: " يا عدي، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " ".
وقوله: { من الفجر } يعني المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق؛ وهو الثاني؛ وهو الفجر الصادق الذي تحل فيه الصلاة؛ ويحرم فيه الطعام على الصيام. وأما الفجر الأول؛ وهو الذي يستطع في السماء مستطيلا كذنب السرحان ولا ينتشر؛ فذلك من الليل لا تحل الصلاة فيه، ولا يحرم الطعام فيه على الصائم؛ وهو الفجر الكاذب.
وعن سمرة بن جندب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يمنعكم من السحور أذان بلال، ولا الصبح المستطيل؛ ولكن الصبح المستطير في الأفق ".
قوله عز وجل: { ثم أتموا الصيام إلى الليل }؛ قال عبدالله بن أبي أوفى:
" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم؛ فلما غربت الشمس قال لرجل: " انزل فأخرج لي ماء؟ " فقال: يا رسول الله، لو أمسيت؟ قال: " انزل فأخرج لي ماء " فقال: يا رسول الله، إن علينا نهارا؟ فقال له الثالثة؛ فنزل فخرج له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، فقد أفطر الصائم ". وفي بعض الألفاظ: " أكل أو لم يأكل " ".
قوله عز وجل: { ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد }؛ أصل العكوف والاعتكاف الملازمة والاقامة؛ يقال: عكف بالمكان إذا أقام به، قال الله تعالى:
فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم
[الأعراف: 138] أي يقيمون. قال الفرزدق يصف القدور:
ترى حولهن المعتفين كأنهم
على صنم في الجاهلية عكف
والاعتكاف: هو حبس النفس في المسجد على عبادة الله تعالى.
واختلف العلماء في معنى المباشرة التي نهى المعتكف عنها؛ فقال قوم: هي المجامعة خاصة؛ معناه: ولا تجامعوهن وأنتم معتكفين في المساجد؛ قاله ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع. وقال قتادة ومقاتل والكلبي: (نزلت هذه الآية في نفر من الصحابة كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا أعرضت بالرجل منهم حاجة إلى أهله خرج إليها، فجامعها ثم يغتسل ويرجع إلى المسجد، فنهوا أن يجامعوا نساءهم ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم).
وقال ابن زيد: (المباشرة: الجماع واللمس والقبلة وأنواع التلذذ). والجماع مفسد للاعتكاف بالإجماع. وأما المباشرة غير الجماع فعلى ضربين: ضرب يقصد به التلذذ بالمرأة فهو مكروه ولا يفسد الاعتكاف عند أكثر الفقهاء؛ وقال مالك: (يفسده). والضرب الثاني: ما لا يقصد به التلذذ بالمرأة؛ فهو مباح كما جاء في خبر عائشة رضي الله عنها
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل إليها رأسه فترجله وهو معتكف "
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من اعتكف عشرا في رمضان كان بحجتين وعمرتين ".
قوله عز وجل: { تلك حدود الله }؛ أي المجامعة في الاعتكاف معصية: وقيل: جميع ما في هذه الآية إلى آخرها أحكام الله، { فلا تقربوها }؛ يعني المباشر في الاعتكاف. وقيل: أحكام الله لا تقربوها بالخلاف، { كذلك يبين الله } ، لكم هذه الأحكام؛ أي فهكذا يبين للناس سائر أدلته على دينه وشرائعه، وقيل: سائر أوامره ونواهيه لكي تتقوا معاصيه.
و(حدود الله) قال السدي: (شروط الله) وقال شهر بن حوشب: (فرائض الله). وقال الضحاك: (معصية الله). وأصل الحد في اللغة: المنع، وقيل منه للبواب: حداد. وقال الخليل بن أحمد: الحد: الجامع المانع، ومنه حدود الدار والأرض؛ وهي ما تمنع غيرها أن يدخل فيها غيرها. وسمي الحديد حديدا لأنه يمتنع به من الأعداء. ويقال: حدت المرأة وأحدت إذا منعت نفسها من الزينة. فحدود الله هي ما منع الله منها أو منع من مخالفتها والتعدي إلى غيرها.
قوله تعالى: { فلا تقربوها } أي فلا تأتوها، يقال: قربت من الشيء أقربه ، وقربته وقربت منه بضم الراء؛ إذا دنوت منه.
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله } أي هكذا يبين الله؛ { ءايته للناس لعلهم يتقون }؛ لكي تتقوها وتنجوا من سخط الله والعذاب.
[2.188]
قوله عز وجل: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }؛ أكل المال بالباطل على وجهين؛ أحدهما: أخذه على وجه الظلم بالغصب والخيانة وشهادة الزور واليمين الفاجرة؛ والثاني: أخذه من جهات محظورة مع رضاء صاحبه؛ مثل القمار وأجرة الغناء والملاهي والنائحة وثمن الخمر والخنزير والربا وأشباه ذلك. ومعنى الآية: ولا يأكل بعضكم أموال بعض بالباطل؛ أي من غير الوجه الذي أباحه الله تعالى. وأصل الباطل: الشيء الذاهب الزائل؛ يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا؛ إذا ذهب.
قوله تعالى: { وتدلوا بها إلى الحكام }؛ أي ولا تظهروا حجتكم للحكام بالباطل، فيحكم الحاكم في الظاهر مع علم المحكوم له أنه غير مستحق في الباطن. وأصل الإدلاء: هو إرساله الدلو في البئر؛ يقال: أدلى دلوه؛ إذا أرسلها، قال الله تعالى:
فأدلى دلوه
[يوسف: 19] ودلاها يدلوها؛ إذا أخرجها ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء، ومنه قيل للمحتج بدعواه: أدلى بحجته؛ لأن الحجة سبب وصوله إلى دعواه كالدلو سبب وصوله إلى الماء.
واختلف النحاة في محل قوله: { وتدلوا بها } قال بعضهم: الجزم لتكرر حرف النهي؛ أي لا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هو في حرف أبي بإثبات (لا). وقيل: هو نصب على الظرف كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إن فعلت عظيم
وقيل: نصب بإضمار (إن) المخففة. وقال الأخفش: (نصب على الجواب بالواو).
قوله عز وجل: { لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون }؛ أي لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالظلم والجور وأنتم تعلمون أنكم مبطلون في دعواكم. قال ابن عباس: (هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة؛ فيجحد المال ويخاصمهم فيه إلى الحكام؛ وهو يعرف أن الحق عليه ويعلم أنه إثم أكل حرام). وقال مجاهد: (معنى الآية: لا تخاصم وأنت ظالم). وقال الحسن: (هو أن يكون للرجل على صاحبه حق؛ فإذا طالبه به دعاه إلى الحاكم؛ فيحلف له ويذهب بحقه). وقال الكلبي: (هو أن يقيم شهادة الزور). وقال شريح لبعض الخصوم: (إني أقضي لك وأنا أظنك ظالما؛ ولا يسعني إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة؛ وإن قضائي لا يحل لك حراما).
وعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إنما أنا بشر مثلكم، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار ".
[2.189]
قوله عز وجل: { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } نزلت هذه الآية في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاريين، سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو رقيقا مثل الخيط، ثم يزداد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، ولا يكون على حالة واحدة. فأنزل الله تعالى: { يسألونك } يا محمد { عن الأهلة } وعن الحكمة في معناها. وهي جمع هلال مثل رداء وأردية؛ وسمي هلالا لأنه حين يرى يهل الناس بذكر الله. أي يرفعون أصواتهم كما يقال: أهل القوم بالحج؛ إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية.
قوله تعالى: { قل هي مواقيت للناس } أي هي بيان المواقيت التي يحتاج الناس إليها في صومهم وفطرهم وعدة نسائهم وآجال ديونهم ومدة إجاراتهم وحيض الحائض وعدة الحامل وغير ذلك، أخبرهم الله تعالى عن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه واختلاف أحواله؛ فلهذا خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حال واحد. وقوله: { والحج } أي وبيان وقت حجهم. ولو جعل القمر مدورا كالشمس أبدا لم تعرف المواقيت ولا السنون ولا الشهور.
وقوله عز وجل: { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }؛ قال المفسرون: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج والعمرة لم يدخل حائطا ولا دارا ولا بيتا من بابه؛ فإن كان من أهل المدر؛ أي البيوت نقب نقبا في ظهر بيته، ويتخذ سلما إليه يدخل منه ويخرج؛ ولا يدخل من الباب. وإن كان من أهل الوبر؛ أي الخيام والفساطيط خرج ودخل من خلف الخيمة والفساطيط؛ ولا يدخل في الباب ولا يخرج منه حتى يحل من إحرامه. ويرون ذلك برا إلا أن يكون الرجل من الحمس وهم: قريش؛ وكنانة؛ وخزاعة؛ وثقيف؛ وجثيم؛ وبنو عامر بن صعصعة؛ وبنو النضر بن معولة؛ سموا حمسا لتشددهم في دينهم وعلى أنفسهم، فإنهم كانوا لا يستظلون أيام منى ولا يسلون السمن ولا يأقطون الأقط. والحماسة الشدة والصلابة، إلا أنهم كانوا مع هذا يدخلون البيوت من أبوابها بخلاف الفريق الأول.
" فلما كان في زمن الحديبية أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فدخل بستانا من بابه قد خرب وهو محرم، فأتبعه عطية بن عامر السلمي من غير الحمس؛ فدخل معه من الباب وهو محرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم دخلت من الباب وأنت محرم من غير الحمس؟ " فقال: رأيتك يا رسول الله دخلت الباب وأنت محرم، فدخلت على أثرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا من الحمس " فقال الرجل: إن كنت أحمسيا يا رسول الله فأنا أحمسي؛ لأن ديننا واحد؛ رضيت بهديك وسنتك يا رسول الله "
، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الزهري: (كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لا يستظلون بشيء ولا يدخلون البيت كي لا يحول بينهم وبين السماء شيء ما داموا محرمين، حتى كان زمن الحديبية؛
" أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فدخل حجرة؛ فدخل رجل منهم على أثره من الأنصار. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم فعلت ذلك؟ " فقال: إني رأيتك يا رسول الله عليك السلام دخلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أحمس؛ والحمس لا يبالون بذلك " فقال الأنصاري: أنا أحمس؛ يعني أنا على دينك وسنتك "
، فأنزل الله هذه الآية { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } أي ليس من خلفها إذا أحرمتم).
قرأ حمزة والكسائي وعاصم ونافع وابن عامر وابن كثير: بكسر الباء (من البيوت) في جميع القرآن. وقرأ الباقون بضمها.
قوله تعالى: { ولكن البر من اتقى }؛ أي ليس البر بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم؛ ولكن البر من اتقى الشرك والمعاصي. قوله تعالى: { وأتوا البيوت من أبوابها }؛ أي ائتوا البيوت محرمين ومحلين من أبوابها، وقوله تعالى: { واتقوا الله لعلكم تفلحون }؛ أي اتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه لكي تنجوا من العقوبة وتفوزوا بالبقاء في الجنة.
وقد روي عن بعضهم أنه كان يقول في هذه الآية: (ليس البر أن تطلبوا المعروف من غير أهله، ولكن اطلبوه من أهله).
[2.190]
قوله عز وجل: { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم }؛ أي وقاتلوا في دين الله وطاعته الذين يقاتلونكم. قال الربيع وعبدالرحمن بن زيد: (هذه أول آية نزلت في القتال، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خرجوا في العام الذي أرادوا فيه العمرة فنزلوا بالحديبية قريبا من مكة). والحديبية اسم للبئر فسمي ذلك الموضع باسم البئر، فصده المشركون عن البيت، فأقام بالحديبية شهرا ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكة من العام القابل ثلاثة أيام، فيطوف وينحر الهدي ويفعل ما يشاء؛ وصالحوه على أن لا يكون بينه وبينهم قتال إلى عشر سنين. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما كان العام المقبل تجهز لعمرة القضاء؛ وكانوا يخافون أن لا تفي قريش بذلك؛ وكانوا يكرهون قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: وقاتلوا في طاعة الله الذين يبدأونكم بالقتال؛ { ولا تعتدوا }؛ أي ولا تنقضوا العهد بالبداءة بقتالهم قبل تقديم الدعوة، { إن الله لا يحب المعتدين }؛ أي المتجاوزين عن الحدود؛ أي لا يرضى عنهم عملهم. فلما نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه، حتى نزل قوله تعالى:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5] فنسخت هذه الآية وأمر بالقتال مع المشركين كافة.
وقال بعضهم: هذه الآية محكمة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ولم ينسخ شيء من حكم هذه الآية؛ فعلى هذا القول معنى قوله: { ولا تعتدوا } أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده عن قتالكم؛ فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد. فمعنى الآية: { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } أي الذين هم من أهل القتال دون النساء والولدان الذي لا يقاتلون. فعلى هذا القول الآية غير منسوخة.
وقال يحيى بن يحيى: (كتبت إلى عمر بن عبدالعزيز أسأله عن قوله تعالى: { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } فكتب إلي أن ذلك في النساء والذرية والرهبان ومن لم ينتصب للحرب منهم).
وقال الحسن: ( { ولا تعتدوا } أي لا تأتوا من نهيتم عنه). وقال بعضهم: الاعتداء ترك قتالهم. وقال بعضهم: نزلت هذه الآية والقتال كان محظورا قبل الهجرة كما قال تعالى:
وجدلهم بالتي هي أحسن
[النحل: 125] ثم أمر الله بالقتال بعد الهجرة لمن قاتلهم بهذه؛ ثم نزلت آية أخرى في الإذن بالقتال عامة لمن قاتلهم ولمن لم يقاتلهم، وهو قوله تعالى:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
[الحج: 39].
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث على سرية أو جيش أميرا أوصاه في نفسه خاصة بتقوى الله عز وجل وبمن تبعه من المسلمين خيرا. وقال: " أغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا " ".
[2.191-192]
قوله عز وجل: { واقتلوهم حيث ثقفتموهم }؛ أي اقتلوا الذين يبدأونكم بالقتال من أهل مكة حيث وجدتموهم؛ { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم }؛ أي كما أخرجوكم من مكة؛ قوله تعالى: { والفتنة أشد من القتل }؛ أي والشرك الذي هم فيه أعظم ذنبا من قتلكم إياهم في الحرم والأشهر الحرم والإحرام. هكذا قال عامة المفسرين. وقال الكسائي: (الفتنة ها هنا العذاب) وكانوا يعذبون من أسلم.
قوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم }؛ أي إذا بدأوكم في غير الحرم، ثم لجأوا إلى الحرم فكفوا عن قتالهم ولا تقاتلوهم في الحرم حتى يقاتلوكم فيه. فإن بدأوكم بالقتال في الحرم فاقتلوهم فيه، { كذلك جزآء الكافرين }.
قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: (ولا تقتلوهم) بغير ألف من القتل على معنى ولا تقتلوا بعضهم. تقول العرب: قتلنا بني تميم؛ وإنما قتلوا بعضهم. وقرأ الباقون كلها بالألف من القتال.
واختلفوا في حكم هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي منسوخة؛ نهوا عن الابتداء بالقتال، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة
[البقرة: 193]، وهذا قول قتادة والربيع. وقال مقاتل: { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي حيث أدركتموهم في الحل والحرم. لما نزلت هذه الآية نسخها قوله تعالى: { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } ثم نسختها آية السيف التي في براءة، فهي ناسخة منسوخة).
وقال آخرون: هذه آية محكمة؛ ولا يجوز الابتداء في القتال في الحرم. وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين. وسمي الكفر فتنة؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك كما أن الفتنة تؤدي إلى الهلاك. قوله تعالى: { فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم }؛ أي فإن انتهوا عن القتال والكفر فإن الله { غفور } لما مضى من جهلهم ولما سلف من كفرهم، { رحيم } بهم بعد توبتهم وإسلامهم.
[2.193-194]
قوله عز وجل: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة }؛ أي قاتلوا المشركين حتى لا يكون شرك؛ أي قاتلوهم حتى يسلموا، فليس يقبل من الوثني جزية ولا يرضى منه إلا بالإسلام، وليسوا كأهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية. والحكمة في ذلك: أن مع أهل الكتاب كتبا منزلة فيها الحق وإن كانوا قد أهملوها، فأمهلهم الله بحرمة تلك الكتب من القتل وأمر بإذلالهم بالجزية، ولينظروا في كتبهم وليدبروها فيقفوا على الحق منها فيتبعوه. وأما أهل الأوثان فليس لهم كتب ترشدهم إلى الحق وكان إمهالهم زائدا في شركهم؛ فأبى الله أن يرضى منهم إلا بالإسلام أو القتل.
قوله تعالى: { ويكون الدين لله }؛ أي وتكون الطاعة لله وحده وأن لا يعبدوا دونه شيئا. قوله تعالى: { فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين }؛ أي { فإن انتهوا } عن القتال والكفر { فلا عدوان } أي فلا سبيل ولا حجة في القتل في الحرم والشهر الحرام إلا على الظالمين. قال قتادة وعكرمة: (في هذه الآية الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله). وإنما سمي الكافر ظالما لوضعه العبادة في غير موضعها. وقيل: معناه: فلا عدوان إلا على الذين يبدأون بالقتال. ومن الدليل على أن هذه الآية غير ناسخة للأولى: أنها معها في خطاب واحد، ولا يصح النسخ إلا بعد التمكن من الفعل.
قال ابن عباس: فسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخلى له أهل مكة الحرم ثلاثة أيام؛ فدخل هو وأصحابه فطافوا ونحروا الهدي وأقاموا بمكة حتى قضوا حاجتهم من البيت، ثم رجعوا، فأنزل الله قوله تعالى: { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص }؛ أي الشهر الذي دخلت فيه مكة وهو ذو القعدة، واعتمرت فيه أنت وأصحابك وقضيتم من مكة فيه وطركم في سنة سبع بالشهر الحرام وهو ذو القعدة أيضا الذي صدوك فيه عن البيت أنت وأصحابك ومنعوكم من مرادكم في سنة ست.
وقوله تعالى: { والحرمات قصاص } أي اقتصصت لكم منهم في الشهر الحرام في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة مراغمة. { والحرمات قصاص } جمع الحرمة كالظلمات جمع الظلمة، والحجرات جمع حجرة. والحرمة: ما يجب حفظه وترك انتهاكه، وإنما جمع { الحرمات } لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام؛ وحرمة الإحرام. والقصاص: المساواة؛ وهو أن يفعل بالفاعل كما فعل.
قوله عز وجل: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } أي { فمن اعتدى عليكم } بالقتال في الحرم فكافئوه وقاتلوه كمثل ما فعل. وسمى الجزاء اعتداء على مقابلة اللفظ.
قوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين }؛ أي (اتقوا الله) في كل ما أمرتم به ونهيتم عنه { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصر والمعونة.
[2.195]
قوله عز وجل: { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }؛ وفي هذه الآية نهي عن البخل. معناه: تصدقوا يا أهل الميسرة ولا تمسكوا عن الإنفاق { في سبيل الله } فإن البخل؛ والإمساك عن ذلك هو الهلاك. وهذا قول حذيفة والحسن وعكرمة وعطاء والضحاك. قال ابن عباس في هذه الآية: (أنفق في سبيل الله وإن لم يكن لك إلا سهم واحد، ولا يقولن أحدكم أني لا أجد شيئا). وقال السدي: (أنفق في سبيل الله ولو عقالا).
وقوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } معناه: ولا تلقوا أنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل كقوله تعالى:
ذلك بما قدمت أيديكم
[آل عمران: 182] و
فبما كسبت أيديكم
[الشورى: 30]. وإنما حذف ذكر النفس هنا لأن في الباء دليلا عليه؛ والباء زائدة كقوله تعالى:
تنبت بالدهن
[المؤمنون: 20]. والعرب لا تقول: ألقى بيده إلا في الشر، والإلقاء في التهلكة معناه: ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة في الجهاد فتهلكوا. وقيل هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يبقي له شيئا يأكله فيتلف. وقيل: هو أن يخرج بين الصفين فيستقتل من غير قصد بنكاية العدو.
وقيل: معنى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أي لا يقل: ليس عندي شيء. وقال الحسن: (إنهم كانوا ينفرون للغزو ولا ينفقون من أموالهم، فأنزل الله هذه الآية). وقال مقاتل: (لما أمر الله تعالى بالإنفاق؛ قال رجل: أمرنا بالنفقة في سبيل الله؛ فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة، فقال الله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } يعني أنفقوا ولا تخشوا الفقر فإني رازقكم ومخلف عليكم).
وعن أبي الدرداء وأبي هريرة وعبدالله بن عمر وجابر وأبي أمامة والحسن بن علي بن أبي طالب وعمران بن الحصين؛ كلهم حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه فأنفق فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم. ثم تلا هذه الآية { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } "
أي
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون
[البقرة: 267].
وقال زيد بن أسلم: (إن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة؛ فإما أن يعطوهم؛ وإما كانوا عيالا ووبالا. فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله تعالى، فإذا لم يكن عندك ما تنفق فلا تخرج نفسك بغير نفقة ولا قوة فتلقي بيدك إلى التهلكة، فتهلك من الجوع والعطش أو من المشي). التهلكة: مصدر بمعنى الإهلاك؛ وهو تفعلة من الهلاك. ولم يجئ من كلام العرب مصدر على تفعلة بضم العين إلا هذا. وقال بعضهم: التهلكة: كل شيء عاقبته إلى الهلاك.
قوله عز وجل: { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }؛ أي (أحسنوا) في النفقة والإفضال على المحتاج. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنه: قال: (التهلكة: عذاب الله). فمعنى قوله: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } أي لا تتركوا الجهاد فتعذبوا، دليله قوله تعالى:
إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما
[التوبة: 39]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق "
وقال ابن سيرين: (الإلقاء في التهلكة: هو القنوط من رحمة الله). وقال أبو قلابة: (هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك).
وسئل بعضهم عن الإلقاء في التهلكة؛ أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيقول: قد أهلكت لا توبة لي. وقال الفضيل بن عياض في هذه الآية: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة }: (بإساءة الظن بالله، فأحسنوا الظن بالله؛ إن الله يحب المحسنين الظن بالله عز وجل).
[2.196]
قوله عز وجل: { وأتموا الحج والعمرة لله }؛ إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وقيل: إتمام العمرة إلى البيت، وإتمام الحج إلى آخر الحج كله. وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالا وينتهي عن جميع ما نهى الله عنه؛ ويأتي بجميع ما شرع الله من المشاعر والمواقف. وقيل: أتموا الحج والعمرة من المواقيت. { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي }؛ أي إن منعتم من البيت بعدما أحرمتم بحج أو عمرة؛ فأردتم الإحلال فعليكم مما تيسر من الهدي.
قال ابن عباس : (أعلاه بدنة؛ وأوسطه بقرة؛ وأدناه شاة، يبعث المحصر بها إلى مكة ويواعدهم اليوم الذي يذبحوه عنه. فإذا ذبح عنه حل ورجع إلى أهله. ثم يقضي ما كان أحرم به).
قوله عز وجل: { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله }؛ أي لا يحلق أحدكم رأسه ولا يحل من الإحرام حتى يبلغ الهدي الحرم؛ أي حتى يعلم أن الهدي قد ذبح عنه في الحرم.
قوله عز وجل: { فمن كان منكم مريضا }؛ أي من كان مريضا من المحرمين؛ محصرين أو غير محصرين، فلم يستطع الإقامة على شروط الإحرام، فعجل وفعل شيئا مما يفعله الحلال قبل أن ينحر عنه الهدي، { أو به أذى من رأسه }؛ أي أو كان في رأسه قمل يؤذيه لا يستطيع أن يصبر عليه، فحلق رأسه.
قوله تعالى: { ففدية من صيام }؛ أي فعليه فداء ما صنع صيام ثلاثة أيام، { أو صدقة }؛ على ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر، أو صاع من شعير، { أو نسك }؛ أي شاة يذبحها في الحرم.
" روي عن كعب بن عجرة: أنه قال: نزلت هذه الآية في؛ مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال له: " أتؤذيك هوام رأسك؟ " قلت: نعم، قال: " احلق رأسك وأطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صم ثلاثة أيام، أو أنسك بنسيكة " ".
قوله تعالى: { فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي }؛ أي فإذا أمنتم الموانع من المرض والعدو وكل مانع. ويقال: في الآية إضمار تقديره: فإذا أمنتم من العدو وبرئتم من المرض، فاقضوا ما كنتم أحرمتم به قبل الإحصار من حج أو عمرة.
قوله تعالى: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أي من بدأ بالعمرة في أشهر الحج؛ وأقام بمكة في عامه للحج؛ فحج من غير أن يرجع إلى أهله؛ فعليه ما تيسر من الهدي. وقوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم }؛ أي فمن لم يجد الهدي ولا عنه؛ فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج يصومها قبل يوم النحر متتابعات ومتفرقات؛ وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله.
ويقال: إذا رجع من منى. ويقال: إذا رجع إلى ما كان عليه؛ أي فرغ من أمر الحج.
قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة }؛ أي كاملة للثواب. وقيل: كاملة للهدي. قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }؛ أي ذلك التمتع والهدي لمن لم يكن أهله حاضري مكة. قوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }؛ أي اتقوا الله في جميع ما أمرتم به ونهيتم عنه.
وقد اختلف السلف في وجوب العمرة؛ فروي عن ابن مسعود والشعبي وإبراهيم النخعي: (إنها تطوع)، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك. وعن عائشة وابن عباس وابن عمر ومجاهد: (أنها واجبة)؛ وبه قال الشافعي. ولا دلالة في هذه الآية على الوجوب؛ لأن لفظ الإتمام يقتضي نفي النقصان عنها إذا فعلت؛ لأن ضد الإتمام هو النقصان.
وقرئ (والعمرة لله) بالرفع على معنى الابتداء. ومن نصب العمرة احتمل أن تكون للابتداء؛ لكن نصبها اتباعا للحج، كذا قال الزجاج. وقوله تعالى: { لله } فإن أهل الجاهلية كانوا يشركون في إحرامهم؛ كانوا يقولون: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فأمر الله تعالى بإخلاص القول والعمل لله تعالى.
وأما لفظ الإحصار فقد ذكر الكسائي وأكثر أهل اللغة: (أن الإحصار هو أن يكون بمرض أو عدو، والحصر: أن يكون بحبس عدو، يقال: أحصره المرض أو العدو فهو محصر. وحصره العدو فهو محصور) وهذا على مذهبنا مستمر. وقال الفراء: (لا فرق بين الحصر والإحصار، وهما شريكان في المعنى) وهذا قريب من مذهب الشافعي، فإن عنده لا يكون المريض محصرا ولا يكون الإحصار إلا بالعدو. فأما المريض فلا يتحلل بالهدي وإن لم يقدر على الذهاب. وأنكر المبرد والزجاج على الفراء وقالا: (إن الحصر والإحصار مختلفان في المعنى؛ ألا ترى أنك تقول: حبست الرجل؛ إذا جعلته في الحبس، وأحبسه إذا عرضته للحبس).
والهدي في اللغة : اسم لما يهدى إلى البيت؛ وهو جمع هدية كما يقال: جدي وجدية. وعن عائشة وابن عمر أنهما قالا: (إن الهدي إنما يكون بقرة أو بدنة). وفائدة قوله: { فما استيسر } على هذا القول التخير بين أعيان الإبل والبقر، ولا يجوز من كل شيء إلا الشيء فصاعدا، إلا الجذع من الضأن فإنه يجزي على ما ورد في الأضحية؛ وهو ما مضى له ستة أشهر. والثني: البالغ من كل شيء؛ وهو عند الفقهاء في الغنم ما له سنة؛ وفي البقر ما له سنتان؛ وفي الإبل ما له خمس سنين.
واختلفوا في المذكور في قوله { حتى يبلغ الهدي محله } قال ابن مسعود وابن عباس؛ وعطاء وطاووس ومجاهد: (محله: منحره؛ وهو الحرم) وقال مالك والشافعي: (محله: الموضع أحصر فيه؛ فيكون المعنى حتى يبلغ الهدي محله؛ أي ينحر الهدي فيحل أكله).
وظاهر الآية تقتضي أن (يبلغ الهدي) بعد الإحصار مبلغا لم يكن بالغا قبل ذلك؛ ولو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله لوقوع الإحصار، وأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية.
وأما قوله في شأن الحديبية
والهدي معكوفا
[الفتح: 25] أي يبلغ محله فهو حجة في أن المحل هو الحرم؛ وليس في تلك الآية بيان موضع الذبح أنه كان في الحل أو الحرم، فيحتمل أن الهدي كان ممنوعا عن الحرم؛ ولما وقع الصلح أطلقوا الهدي حتى ذبح في الحرم.
وذهب أبو يوسف ومحمد: إلى أن هدي المحصر بالحج مؤقت بيوم النحر؛ وليس في هذه الآية أن المراد بالمحل الزمان؛ لأن قوله تعالى: { فإن أحصرتم } عائد إلى الحج والعمرة المذكورين في أول هذه الآية. ولا خلاف أن هدي المحصر بالعمرة غير مؤقت بيوم النحر، وفي ظاهر قوله تعالى: { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } دليل على أن المحصر إذا لم يجد الهدي لا يحل حتى يجد الهدي فيذبح عنه. وقال عطاء: (يصوم عشرة أيام ويحل كالمتمتع إذا لم يجد).
فصل: وإذا لم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر - أعني المتمتع والقارن - فقد اختلفوا في ذلك؛ فقال عمر وابن عباس وابن جبير: (لا يجزيه إلا الهدي، ولا يحل إلا به). وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال ابن عمر وعائشة: (يصوم أيام منى) وهو قول مالك. وقال علي كرم الله وجهه: (يصوم أيام التشريق) وهو قول الشافعي.
والفائدة في قوله: { تلك عشرة كاملة } أنه كان يجوز أن يتوهم متوهم أن البدل لا يلحق بالمبدل في الثواب؛ فبين الله تعالى أنه في الكمال بمنزلة المبدل أن لو فعله. ويقال: إن (الواو) قد جاءت في القرآن بمعنى (أو) التي للتخيير كما في قوله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلث وربع
[النساء: 3] فربما يتوهم أن هذا مثل ذلك؛ فأكد الله تعالى صوم العشرة كلها بقوله: { تلك عشرة كاملة } لإزالة هذا الإشكال.
فصل: اختلفوا في حاضر المسجد الحرام؛ فقال عطاء ومكحول: (هم كل من دون المواقيت إلى مكة) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ إلا أن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: (أهل المواقيت بمنزلة من دونها؛ لأنهم في حكم أهل مكة يجوز لهم دخولها بغير إحرام). وقال ابن عباس ومجاهد: (هم أهل الحرم) وقال الحسن وطاووس ونافع: (هم أهل مكة). وقال الشافعي: (هم من كان داره دون الليلتين من مكة؛ وذلك مقدار أقرب المواقيت إلى مكة).
وظاهر قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } يقتضي الإشارة إلى الهدي والمتعة جميعا؛ فلا يباح المتعة والقران لأهل المواقيت ومن دونها إلى مكة. وذهب الشافعي إلى أن قوله: { ذلك } إشارة إلى الهدي دون المتعة والقران، فتجوز عنده المتعة والقران لأهل مكة، ولكن لا هدي عليهم.
[2.197]
قوله عز وجل: { الحج أشهر معلومات }؛ في هذه الآية تقدير حذف مبتدأ تقديره: مدة الحج أشهر معلومات. ويقال: الحج في أشهر معلومات. وقوله:
غدوها شهر ورواحها شهر
[سبأ: 12] أي مدة غدوها ومدة رواحها.
واختلفوا في هذه الأشهر: فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: (إنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة). وأما من قال: إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، فليس باختلاف لأن المراد بعض ذي الحجة؛ لأن الحج كله لا محالة في بعض هذه الأشهر لا في جميعها. ويجوز إضافته إلى جميع هذه الأشهر وإن كان هو في بعضها؛ ألا ترى إنك تقول: لقيت فلانا سنة كذا، وقمت يوم كذا؛ بمعنى بعض المدة.
قوله تعالى: { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج }؛ أي من أوجب فيهن الحج بالتلبية أو ما يقوم مقامها من ذكر أو سوق الهدي فلا يرفث ولا يفسق، وهذا لفظ خبر بمعنى النهي؛ كما أن قوله:
يتربصن
[البقرة: 228] و
يرضعن
[البقرة: 233] خبران لفظا؛ وأمران معنى.
والرفث: قال ابن عباس: (هو مراجعة النساء بذكر الجماع). والفسوق: قال ابن عمر: (هو ما نهى الله عنه في الإحرام). واختار بعضهم هذا القول؛ وقالوا: لو كان المراد به جميع المعاصي لكان لا يخص بالنهي عنها حالة الإحرام.
وقال ابن عباس وجماعة من المفسرين: (المراد بها جميع المعاصي). وفائدة تخصيص حالته هذه بالنهي فهو تعظيم حرمة هذه العبادة؛ كما يقال: لا تغتب في صومك؛ وكما قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا كان يوم صوم أحدكم؛ فلا يرفث؛ ولا يجهل، وإن جهل عليه فليقل: إني صائم ".
قوله تعالى: { ولا جدال في الحج } قال بعضهم: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه أو يغضبك. وقيل: كانت قريش تقف بالمزدلفة؛ وكانت اليمن وربيعة تقف بعرفة خارج الحرم؛ وكان كل فريق منهم يجادل صاحبه في الموقف؛ فنزلت هذه الآية.
قوله سبحانه وتعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }؛ أي ما تفعلوا من أسباب الحج وترك الرفث والفسوق والجدال يعلمه الله؛ أي يقبله منكم فيجزيكم عليه، والله تعالى عالم من دون أن يفعلوا، ولكن المراد به يعلمه الله مفعولا؛ وكان من قبله يعلمه غير مفعول. وأراد الله بهذا الحث على فعل الخير ودل به على العدل؛ إذ بين أنه لا يجازي العبد على ما يعلمه منه، وإنما يجازيه على ما يقع منه.
قوله عز وجل: { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }؛ أي تزودوا في سفر الحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة. نزلت في قوم كانوا يخرجون بأهاليهم بغير زاد ويتكلون على الناس؛ ويسمون أنفسهم المتوكلة، يقولون: نحج بيت ربنا والله رازقنا.
وقيل: نزلت في قوم يتركون أزوادهم ويصيبون في حجهم من أهل الطريق ظلما؛ فبين الله تعالى أن الزاد هو أن تتقوا ما لا يحل، لا أن تلقوا أزوادكم وتصيروا كلا على الناس.
ويقال: في الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: وتزودوا من الطاعات، { واتقون يأولي الألباب }؛ { فإن خير الزاد التقوى } ولا يمتنع أن يكون المراد به زاد الدنيا وزاد الآخرة. كأن الله خص على الزادين جميعا وأمر بالتزود لسفر الدنيا بالطعام ولسفر الآخرة بالتقوى؛ فإن النجاة من هلكات سفر الدنيا بالزاد، ومن سفر الآخرة بالعمل الصالح. قال الشاعر:
إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
واختلف العلماء في جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؛ فروي عن ابن عباس وجابر وعطاء ومجاهد وعكرمة أنهم قالوا: (لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج). وقال عطاء: (من فعل ذلك فيجعلها عمرة). وقال الشافعي: (تكون عمرة).
وعن إبراهيم النخعي: (جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج) وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ ومالك والليث؛ والثوري. وحجتهم: قوله عز وجل:
يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج
[البقرة: 189]. وهذا عموم في كون الأهلة كلها وقتا للحج؛ ومعلوم أن الأهلة ليست بميقات لأفعال الحج؛ فوجب أن يكون حكم ذلك اللفظ مستعملا في إحرام الحج.
أما قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات } فيحتمل أنه توقيت لأفعال الحج؛ فإن من قدم مكة قبل أشهر الحج محرما وطاف وسعى لم يكن ذلك السعي معتدا به في الحج. وذهب بعض أصحابنا إلى أن قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات } توقيت لاستحباب الإحرام؛ لأنه إذا قدم الإحرام على شوال امتد مكثه في الإحرام واضطر إلى شيء من محرمات الإحرام.
فصل: والنصب في قوله تعالى: { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } على التمييز؛ ويقرأ بالرفع والتنوين؛ فكلا الوجهين جائز في كلام العرب. وأما قوله تعالى: { ولا جدال في الحج } فأكثر القراء على نصبه؛ ولم ينقل فيه الرفع والتنوين إلا في رواية شاذة. ومن رفع الرفث والفسوق جعل ما بعده كلاما مبتدأ.
[2.198]
قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم }؛
" روي عن عبدالله ابن عمر: أن رجلا سأله فقال: إني لأكري أبلي إلى مكة، أفيجزئ حجي؟ فقال: أولست تلبي وتقف بعرفات وترمي الجمار؟) قال: بلى، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني عنه فلم يجبه حتى أنزل الله هذه الآية: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } ، فقال صلى الله عليه وسلم: " أنتم حجاج " ".
ومعنى الآية: ليس عليكم جناح أن تطلبوا رزقا في التجارة في أيام الحج. وكان ابن عباس يقرؤها (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص؛ وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين، وإذا كان عند جمرة العقبة غفر الله للسؤال، ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال: لا إله إلا الله، إلا غفر الله له ".
قوله عز وجل: { فإذآ أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند المشعر الحرام }؛ معناه: إذا دفعتم من عرفات فاذكروا الله باللسان عند المشعر الحرام؛ وهو الجبل الذي يقف عليه الناس بالمزدلفة. وقوله تعالى: { واذكروه كما هدكم }؛ أي اذكروه بالثناء والتوحيد والشكر ذكرا مثل هدايته إياكم؛ أي ذكرا يكون جزاء لهدايته، قوله تعالى: { وإن كنتم من قبله لمن الضآلين }؛ أي وإن كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين عن الهدى.
وقيل: إن المراد بالذكر الأول في هذه الآية صلاة المغرب والعشاء التي يجمع بينهما في وقت العشاء بالمزدلفة. والمراد بالذكر الثاني هو الذكر المفعول بالمزدلفة غداة جمع في موقف المزدلفة. فعلى هذا يكون الذكر الأول غير الثاني. وقد سمى الصلاة ذكرا على معنى أن الذكر ركن من أركانها.
والإفاضة: هي الدفع بالكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث؛ إذا تدافعوا فيه وأكثروا التصرف؛ وأفاض المرجل إناه؛ إذا صبه، وفاض الإناء إذا انصب منه الماء للامتلاء، وأفاض البعير بجرته؛ إذا رمي بها متفرقة كثيرة.
وعرفات: جمع عرفة؛ وهي مكان واحد ذكرها بلفظ الجمع؛ وإرادته جمع أجزائها. وسميت عرفات لارتفاعها من بشر الأرض، وقيل: سميت بذلك لأن آدم وحواء تعارفا بها بعد التفاقد. ويقال: لأن جبريل عرفها إبراهيم عليه السلام ليقف عليها حين كان يعلمه أمر المناسك؛ فقال إبراهيم: عرفت. وقال بعضهم: سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك الموقف بذنوبهم. وقيل: هي مأخوذة من العرف وهو الطيب، قال الله تعالى:
عرفها لهم
[محمد: 6] أي طيبها لهم.
[2.199]
قوله عز وجل: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }؛ قال عامة المفسرين: كانت قريش وحلفاؤها ومن دان بدينها وهم الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات؛ وكانوا يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن أهل الله وسكان حرمه؛ فلا يخلف الحرم ولا يخرج منه فلسنا كسائر الناس، كانوا يتعظمون أن يقفوا مع سائر العرب بعرفات. ويقول بعضهم لبعض: لا تعظموا إلا الحرم، فإنكم إن عظمتم غير الحرم تهاون الناس بحرمكم، فقفوا بجمع، فإذا أفاض الناس من عرفات أفاضوا من المشعر وهو المزدلفة. فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى المزدلفة مع سائر الناس فيكون المراد بالإفاضة في هذه الآية على هذا القول: الإفاضة من عرفات.
وكان سائر الناس غير الحمس يقفون بعرفات، فأنزل الله هذه الآية وأمر قريشا وغيرهم من الحمس أن يقفوا بعرفة حيث يقف الناس، ويدفعوا منها معهم. وإنما ذكر الناس وأراد قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس؛ لأن قريشا ومن دان بدينها كانوا قليلا بالإفاضة إلى سائر الناس.
قوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } على هذا التأويل راجع إلى أول الكلام، كأنه " قال "
فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
[البقرة: 197] { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }
فإذآ أفضتم من عرفت فاذكروا الله عند
[البقرة: 198] المسجد { الحرام }. فيكون في الآية تقديم وتأخير. ويكون الأمر بالإفاضة عطفا على الإحرام دون الإفاضة من عرفات؛ فكأنه قال: أحرموا كما أمركم الله { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }. وعلى هذا التأويل جمهور المفسرين.
وقال الضحاك: (معنى الآية: ثم أفيضوا من المزدلفة التي تفيض منها قريش). وإنما ذهب الضحاك إلى أن المراد بالإفاضة في هذه الآية الإفاضة من المزدلفة؛ لأن الله تعالى عطف هذه الآية على الإفاضة من عرفات؛ فعلم أن المراد بهذه الإفاضة الإفاضة من المزدلفة؛ إلا أن عامة المفسرين على الوجه الأول.
والمراد بقوله: { من حيث أفاض الناس } هم العرب كلهم غير الحمس، وقال الكلبي: (هم أهل اليمن). وقال الضحاك: (الناس هنا إبراهيم عليه السلام وحده؛ لأنه كان الإمام المقتدى به، فسماه الله ناسا كما قال الله تعالى في آية أخرى:
إن إبراهيم كان أمة
[النحل: 120] وقد يسمى الرجل الواحد باسم الناس كما قال الله تعالى:
أم يحسدون الناس
[النساء: 54] يعني محمدا صلى الله عليه وسلم). وكذلك قوله
الذين قال لهم الناس
[آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود الأشجعي
إن الناس قد جمعوا لكم
[آل عمران: 173] يعني أبا سفيان. وإنما يقال هذا لمن هو ندب يقتدى به أو يكون لسان قومه وإمامهم.
وقال الزهري: (الناس ها هنا آدم عليه السلام) ودليله قراءة ابن مسعود: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس يعني آدم).
وقال: (لأنه نسي ما عهد إليه؛ قال الله تعالى:
ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسي
[طه: 115].
وقوله تعالى: { واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } أي استغفروا الله هناك من ذنوبكم؛ أي في مواطن الحج، فإن الدعاء في تلك المواطن جدير بالإجابة. وقال بعضهم: هذا خطاب للحمس أمرهم الله بالاستغفار مما كان منهم في الجاهلية من مخالفة أمره بترك الوقوف بعرفات. { إن الله غفور } لذنوب عباده إذا تابوا، { رحيم } بهم بعد التوبة ويقال: معناه: إن الله غفور رحيم للحاج.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الحاج والعمار وفد الله تعالى، إن دعوا أجابهم، وإن استغفروا غفر لهم "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج ".
وقد اختلف العلماء في الوقوف بالمزدلفة، فذهب أكثرهم إلى أنه ليس بركن على ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم
" إنه قدم ضعفة أهله بليل "
وفي بعض الأخبار:
" أنه قدم أغيلمة بني عبدالمطلب بليل، وجعل يلطخهم بيده ويقول: " أي بني، لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين "
فلو كان الوقوف بها فرضا لما رخص في تركه للضعيف كالوقوف بعرفة.
[2.200-201]
قوله عز وجل: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبآءكم أو أشد ذكرا }؛ أي إذا فرغتم من متعبداتكم { فاذكروا الله } عز وجل بالخير { كذكركم آبآءكم } بل أشد ذكرا. وذلك أنهم كانوا يقفون بعد قضاء المناسك يوم النحر بين المسجد الذي في منى وبين الجبل، يتناشدون الأشعار ويتفاخرون بذكر فضائل آبائهم، يقول أحدهم: يا رب إن عبدك فلانا - يعني أباه - كان يفعل كذا وكذا من الخير. فأمرهم الله تعالى أن يذكروه فهو الذي فعل ذلك الخير إلى آبائهم، وأن أياديه عندهم أكثر وأعظم من أيادي آبائهم عليهم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد نزول هذه الآية:
" إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، إن الناس من آدم وإن آدم من تراب؛ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى "
ثم تلا
يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى...
[الحجرات: 13] الآية.
وقال بعضهم: معناه أذكروا الله بالتوحيد كما تذكرون آباءكم بذلك؛ فإنكم لا ترضون أن تنسبوا إلى أبوين، وكذلك لا ترضون من أنفسكم باتخاذ إلهين.
وعن عطاء والربيع والضحاك في قوله: { كذكركم آبآءكم }: (هو كقول الصغير أول ما يفقه الكلام (أبه أبه) أي استغيثوا بالله وافزعوا إليه في جميع أموركم؛ كما يفزع الصغير إلى أبيه في جميع أموره ويلتح بذكره). وعن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عباس رضي الله عنه: أخبرني عن قول الله عز وجل: { فاذكروا الله كذكركم آبآءكم } وقد يأتي على الرجل اليوم لا يذكر أباه، فقال ابن عباس: (ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما).
وأما وجه نصب { أشد } فقال الأخفش: (اذكروه ذكرا أشد ذكرا). وقال الزجاج: (هو في محل الخفض، ولكنه لا ينصرف لأنه صفة على وزن (أفعل). ونصب { ذكرا } على التمييز).
قوله عز وجل: { فمن الناس من يقول ربنآ آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق }؛ نزلت في مشركي قريش كانوا يقولون في عادتهم في الحج: اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا وإماء وأموالا. ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة والمغفرة، كانوا لا يرجون إلا نعيم الدنيا، ولا يخافون البعث والنشور. فبين الله تعالى بقوله: { وما له في الآخرة من خلاق } أي من نصيب ولا ثواب.
والمعنى: من يطلب بحجه أمور الدنيا لا يريد بذلك ثواب الله تعالى، فلا نصيب له في ثواب الآخرة. وقال أنس بن مالك: (كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون ويقولون: اللهم اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر). وقال قتادة: (هذا عبد نوى الدنيا؛ لها أنفق ولها عمل ولها نصب). فهي همه وسؤله وطلبه.
ثم بين الله تعالى دعاء المؤمنين بقوله عز وجل: { ومنهم من يقول ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }؛ واختلفوا في معنى الحسنتين؛ فقال علي كرم الله وجهه: { آتنا في الدنيا حسنة } أي امرأة صالحة، { وفي الآخرة حسنة } الحور العين، { وقنا عذاب النار } المرأة السوء). وقال الحسن: (معناه: آتنا في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة). قال السدي: (معناه: آتنا في الدنيا رزقا حلالا واسعا وعملا صالحا، وفي الآخرة مغفرة وثوابا). وقال عطية: (معناه: { آتنا في الدنيا } العلم والعمل به، { وفي الآخرة } تيسير الحساب ودخول الجنة). وقال مجاهد: (معنى الحسنة: النعمة، فكأنهم سألوا الله نعمة الدنيا والآخرة وأن يقيهم عذاب النار).
وقيل: معناه: آتنا في الدنيا التوفيق والعصمة، وفي الآخرة النجاة والرحمة. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا أولادا أبرارا، وفي الآخرة مرافقة الأنبياء. وقيل: معناه آتنا في الدنيا المال والنعمة، وفي الآخرة تمام النعمة، وهو الفوز من النار ودخول الجنة. وقيل: معناه آتنا في الدنيا: الدين واليقين، وفي الآخرة اللقاء والرضاء. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا الثبات على الإيمان، وفي الآخرة السلامة والرضوان. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا حلاوة الطاعة، وفي الآخرة لذة الرؤية. وقيل: معناه: آتنا في الدنيا الإخلاص، وفي الآخرة الخلاص.
وقال قتادة: (معناه: آتنا في الدنيا عافية، وفي الآخرة عافية). ودليل ذلك ما روي عن أنس:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد مريضا قد أضني ونحل جسمه حتى صار كالفرخ المنتوف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل كنت تدعو الله بشر أو تسأله شيئا؟ " قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال: " سبحان الله! إذن لا تستطيعه ولا تطيقه، إنك ضعيف لا تستطيع أن تقوم لعذاب الله، هلا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فدعا الرجل بذلك فشفاه الله عز وجل وأبرأه من مرضه ".
وقال سهل بن عبدالله: معنى الآية: { ربنا آتنا في الدنيا } السنة { وفي الآخرة } الجنة. وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: (عند الركن اليماني ملك قائم منذ خلق الله السماوات والأرض يقول: آمين، فإذا مررتم به فقولوا: { ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }. وقال عوف في هذه الآية: (من آتاه الله الإسلام والقرآن ومالا وولدا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة).
وروي أن قوما قالوا لأنس بن مالك: أدع لنا؛ فقال: { ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } فقالوا: زدنا، فأعادها، فقالوا: زدنا، فأعادها، فقالوا: زدنا، فقال: (ما تريدون! قد سألت الله لكم خير الدنيا والآخرة). قال أنس: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يدعو بها يقول:
" اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ".
[2.202]
قوله عز وجل: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب } معناه: إن الذين يسألون الله تعالى الدنيا والآخرة لهم حظ ونصيب وافر من الثواب والخير والجزاء اكتسبوه في حجهم؛ وفي هذا بيان استجابة دعائهم على القطع.
وعن ابن عباس في هذه الآية:
" أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أما كان ذلك يجزي؟ " قال: نعم، قال: " فدين الله أحق أن يقضى " ، قال: فهل لي من أجر؟ فأنزل الله عز وجل: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا }. يعني من حج عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت ".
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أكريت دابتي واشترطت عليهم أن أحج، فهل يجزيني ذلك؟ قال: (أنت من الذين قال الله فيهم: { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } ).
قوله تعالى: { والله سريع الحساب } يعني إذا حاسب فحسابه سريع لا يحتاج إلى عقد يد ولا إلى وعي صدر ولا رؤية ولا فكر. وقال الحسن: (أسرع من لمح البصر). وفي الخبر:
" أن الله تعالى يحاسب العباد في قدر حلب شاة؛ وأن محاسبة الله تعالى ليست كمحاسبة الناس بعضهم لبعض، يحاسبهم جميعا في لحظة واحدة، يظن كل واحد أنه يحاسبه خاصة، لا يشغله شيء عن شيء "
ومعنى الحساب: تعريف الله تعالى عباده مقادير الخير على أعمالهم، وتذكيره إياهم بما قد نسوه. يدل عليه قوله تعالى:
يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه
[المجادلة: 6]. وقيل: معناه سريع الحساب؛ أي سريع المجازاة، وفيه إخبار عن سرعة فناء الدنيا وقيام الساعة.
[2.203]
قوله عز وجل: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ يعني اذكروا الله تعالى بالتكبير إدبار الصلوات وعند الجمرات، يكبر مع كل حصاة؛ وغيرها من الأوقات. واختلفوا في الأيام المعدودات؛ فروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعطاء والضحاك والنخعي: (أن الأيام المعدودات: أيام التشريق؛ والأيام المعلومات: أيام العشر من ذي الحجة)؛ وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وروي أيضا عن ابن عباس: (أن الأيام المعدودات: أيام العشر، والأيام المعلومات: أيام النحر).
ولا شك أن في هذه الرواية غلطا وهي خلاف الكتاب؛ لأن الله تعالى عقب الأيام المعدودات بقوله: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه }؛ وليس في العشر حكم بتعليق يومين دون الثالث. وعن أبي يوسف: (أن المعلومات: أيام النحر، والمعدودات: أيام التشريق)؛ قال هذا القول استدلالا من الآيتين؛ لأن الله تعالى قال في ذكر الأيام المعلومات:
على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
[الحج: 28]. وقال في هذه الآية: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ، فيوم النحر على هذه الرواية من المعلومات دون المعدودات؛ وآخر أيام التشريق من المعدودات دون المعلومات؛ واليوم الثاني والثالث من أيام النحر من المعلومات والمعدودات جميعا.
والجواب عن استدلال أبي يوسف من الآيتين: أن لفظ المعلومات يقتضي الشهرة ولفظ المعدودات يقتضي تقليل العدد كما في قوله:
دراهم معدودة
[يوسف: 20] فاقتضى الظاهر أن المعدودات أقل من المعلومات؛ ويحتمل أن يكون معنى
على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
[الحج: 28] لما رزقهم كما قال الله تعالى:
ولتكبروا الله على ما هداكم
[البقرة: 185] أي لما هداكم، فكأن الله تعالى أراد بالمعلومات أيام العشر؛ لأن فيها يوم النحر وفيه الذبح، ويكون ذلك اليوم بتكرار سنين عليه أياما.
وأما الذكر المذكور في هذه الآية فهو الذكر عند رمي الجمار في أيام التشريق. وقال بعضهم: هو التكبير في إدبار صلاة العصر في هذه الأيام؛ يكبر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر آيام التشريق عند جماعة من الفقهاء. والتأويل الأول أصح وأقرب إلى ظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى عقب الذكر في هذه الآية بقوله: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي من تعجل الرجوع إلى أهله فلا إثم عليه في ترك الرمي في اليوم الثالث؛ { ومن تأخر }؛ إلى آخر النفر وأقام هنالك في اليوم الثالث، { فلا إثم عليه }.
قوله تعالى: { لمن اتقى }؛ أي لمن اتقى الإثم والفسوق والتفريط في حقوق الحج كلها. وأما من لم يتق فغير موعود له الثواب. وقال ابن عمر وابن عباس وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والنخعي والسدي: (معنى الآية: فمن تعجل في يومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق؛ فلا إثم عليه في تعجيله، ومن تأخر عن النفر في الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث؛ فلا إثم عليه في التأخير، فإن لم ينفر في اليوم الثاني وأقام حتى تغرب الشمس؛ فليقم إلى الغد من اليوم الثالث فيرمي الجمار ثم ينفر مع الناس).
وقال بعضهم: معنى الآية: فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه ولا ذنب، ومن تأخر فكذلك، وهو قول علي بن أبي طالب وأبي الدرداء وابن مسعود والشعبي. قال معاوية بن قرة: (خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وقال يحيى بن إسحاق: سألت مجاهدا عن ذلك فقال: (معناه: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه إلى قابل، ومن تأخر فلا إثم عليه أيضا إلى قابل).
وقوله تعالى: { لمن اتقى }؛ قال الكلبي: (معناه: لمن اتقى قتل الصيد، فإنه لا يحل له أن يقتل صيدا حتى يخلف أيام التشريق). وقال قتادة: (معناه: لمن اتقى أن يصيب في حجته شيئا مما نهى الله عنه). وقال أبو العالية: (معناه: فلا إثم عليه لمن اتقى الله فيما بقي من عمره). وكان ابن مسعود يقول: (إنما جعل مغفرة للذنوب لمن اتقى الله في حجه). قال ابن جريج: (وهي في مصحف عبدالله: فلا إثم عليه لمن اتقى الله). وعن ابن عباس: (معناه: لمن اتقى عبادة الأوثان ومعاصي الله). فإن قيل كيف قال الله تعالى: { ومن تأخر فلا إثم عليه }؛ ومعلوم أن من تأخر إنما تأخر لإقامة واجب، فلا يليق بحاله أن يقال: فلا إثم عليه، بل يليق أن يقال: ومن تأخر كان أعظم لأجره؟ قيل: هذا على مزاوجة الكلام.
وقيل: إن رمي الجمار لا يجوز أن يكون تطوعا؛ إذ المتنفل به يكون غائبا؛ فلما قال الله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أوهم ذلك كون الرمي في ذلك اليوم الثالث تطوعا؛ لأن هذا تخيير بين فعله وتركه، فقال تعالى: { ومن تأخر فلا إثم عليه } ليبين أن هذا واجب خير بين فعله.
فصل: والأيام المسماة في الحج ستة أيام: يوم التروية؛ ويوم عرفة؛ ويوم النحر؛ ويوم القر؛ ويوم النفر؛ ويوم الصدر. وسمي يوم التروية لأن جبرائيل عليه السلام قال لإبراهيم عليه السلام: [احمل ريك من الماء]. وأما عرفة فقد ذكرنا لم سمي به، ويوم النحر معلوم؛ ويوم القر لاستقرار الناس بمنى، ويوم النفر لأنهم ينفرون من منى إلى مكة، ويوم الصدر لأنهم يصدرون إلى أهاليهم. ورمي الجمار مشروع في يوم القر والنفر والصدر؛ وهي أيام التشريق.
قوله عز وجل: { واتقوا الله واعلموآ أنكم إليه تحشرون }؛ هذا أمر لهم بالتقوى في مستقبل أعمارهم؛ أي لا تتكلوا فيما أسلفتم من أعمال البر، ولكن زيدوا في الطاعة في باقي العمر. وقوله تعالى: { واعلموآ أنكم إليه تحشرون } أي في الآخرة يجازيكم بأعمالكم؛ إذ الحشر إنما يكون للمجازاة، ومن تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة؛ ولا بد من أحد أمرين: إما الجنة وإما النار، يدعوه بذلك إلى التقوى والتشديد.
والحشر في اللغة: هو الجمع للناس من كل ناحية؛ والمحشر هو المجمع؛ فيكون معنى الآية: { واعلموآ أنكم إليه تحشرون } أي تجمعون.
[2.204]
قوله عز وجل: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، كان حسن المنظر؛ حلو الكلام؛ فاجر السريرة؛ حلافا شديد الخصومة في الباطل، وكان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فيظهر له الحسن ويحلف بالله أنه يحبه ويتبعه على دينه؛ وكان صلى الله عليه وسلم يسمع كلامه فيعجبه، وكان يدنيه من مجلسه، فأظهره الله على نفاقه).
ومعنى الآية: { ومن الناس من يعجبك } كلامه وحديثه؛ أي يفرح بإظهاره الأيمان وتسر بقوله، { ويشهد الله على ما في قلبه } أي يقول: الله شهيد على ما في قلبي كما هو على لساني من الإيمان. وقوله تعالى: { وهو ألد الخصام } أي شديد الخصومة جدل بالباطل. والألد: مأخوذ من لدتي العنق؛ وهما صفحتاه. وتأويله: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة من يمين أو شمال غلبه في ذلك.
[2.205]
قوله تعالى: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد }؛ أي إذا أعرض عنك الأخنس يا محمد وفارقك أسرع مشيا في الأرض ليعصي فيها ويضر المؤمنين، وليهلك ما قدر عليه من زرع ونسل، { والله لا يحب الفساد } أي لا يرضى المعاصي.
روي: أن الأخنس خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع فأحرقه؛ وبحمار فعقره؛ فنزلت هذه الآية بما فيها من الوعيد، فحسبه جهنم، وصارت عامة في جميع المفسدين. وقيل: معنى الآية: { ليفسد فيها } أي ليوقع الفتنة بين الناس فيشتغلوا عن الزراعة وعن أعمالهم، فيكون في ذلك هلاك الحرث والنسل. وقيل: يخيف الناس حتى يهربوا من شره، فيخرب الضياع وينقطع نسل الناس والدواب.
وفي هذه الآية تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه الرجل من حلاوة المنطق، وأمر بالاحتياط في أمر الدين والدنيا حتى لا يقتصر على ظاهر أمر الإنسان خصوصا فيمن هو ألد الخصام؛ ومن ظهرت منه دلائل الريبة. ولهذا قالوا: إن علينا استبراء حال من نراه في الظاهر أهلا للقضاء والشهادة والفتيا والأمانة، وأن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل عنهم ويبحث عن أمرهم، إذ قد حذر الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين؛ ألا ترى أنه عقبه بقوله: { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } فيحتمل أن يكون المراد بالتولي: أن يتولى أمرا من أمور المسلمين؛ فأعلم الله بهذه الآية أنه لا يجوز الاقتصار على الظاهر دون الاحتياط والاستبراء.
[2.206]
قوله عز وجل: { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم }؛ أي إذا قيل لها المنافق: احذر عقوبة الله ولا تفسد، أخذته المنعة والحمية والأنفة بسبب الإثم الذي فيه والكفر الذي في قلبه؛ يعني أنه تكبر وقال: أمثلي يقال له: اتق. ويقال: حملته العزة على فعل ما يوجب الإثم.
وقوله تعالى: { فحسبه جهنم }؛ أي كفاه النار في الآخرة عقوبة ونكالا. قوله تعالى: { ولبئس المهاد }؛ أي لبئس القرار النار. والمهاد: الفراش الموطئ للنوم كما يمهد للطفل؛ فلما كان المعذب يلقى في نار جنهم، جعل ذلك مهادا له على معنى: أن جهنم للكافر مكان كالمهاد للمؤمن في الجنة.
ويحكى: أن يهوديا كانت له حاجة إلى هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه زمانا فلم يقض حاجته، فوقف يوما على الباب، فخرج هارون وهو يسعى بين يديه، فقال له: اتق الله يا أمير المؤمنين! فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا؛ فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت. فقيل له: يا أمير المؤمنين، نزلت عن دابتك لقول يهودي؟! قال: لا، ولكن ذكرت قول الله { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم }.
[2.207]
قوله عز وجل: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغآء مرضات الله }؛ قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في صهيب بن سنان وعمار بن ياسر وأمه سمية وأبيه ياسر وبلال وخباب بن الأرت وغيرهم، أخذهم المشركون في طريق مكة؛ فعذبوهم، فأما صهيب فقال لهم: أنا شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من عدوكم، أعطيكم جميع مالي ومتاعي وذروني وديني نشتريه منكم بمالي، ففعلوا؛ فأعطاهم ماله وتوجه إلى المدينة. فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال: ربح البيع يا صهيب، قال: وبيعك لا يخسر، وما ذاك يا أبا بكر! فأخبره بما نزل فيه؛ وهو قوله: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغآء مرضات الله }.
وأما سمية وياسر فقتلا، وكانا أول قتيلين قتلا من المسلمين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما بمكة:
" اصبروا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة "
وأما الآخرون؛ فإنهم أعطوا على العذاب بعض ما أراد المشركون من كلمة الكفر وسب الإسلام؛ وكانت قلوبهم مطمئنة بالإيمان، فتركوا وقدموا المدينة، وفيهم نزل قوله تعالى:
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
[النحل: 106].
ومعنى قوله: { ومن الناس من يشري نفسه } على هذا التأويل الذي ذكرناه: ومن الناس من يشري نفسه ودينه بماله. وعن عمر وعلي رضي الله عنهما: أنهما قالا في هذه الآية: (هو الرجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقتل عليه) فعلى هذا معنى قوله تعالى: { يشري نفسه } أي يبيع نفسه يبذلها في الجهاد في سبيل الله. وهذا من أسماء الأضداد، قال الشاعر في شريت بمعنى بعت:
وشريت بردا ليتني
من بعد برد كنت هامه
أي هلكت. وقوله تعالى: { ابتغآء مرضات الله } نصب على أنه مفعول له؛ كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله. وقوله تعالى: { والله رؤوف بالعباد }؛ أي رحيم بهم يرغبهم في الخير، ويثيبهم عليه رأفة بهم. ويقال إنه لرأفته ورحمته أمرهم ببيع أنفسهم لكي ينالوا من كريم ثوابه ما هو خير لهم.
[2.208]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب: عبدالله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم عظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، واتقوا أشياء كانوا يتقونها قبل أن يسلموا. وقالوا: يا رسول الله، إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم في صلاتنا بالليل؟ فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في جميع شرائع محمد صلى الله عليه وسلم).
ومعناها: { يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة } أي في الإسلام، وقال مجاهد: (في أحكام الدين وأعماله). وأصله من الاستسلام والانقياد؛ ولذلك قيل للصلح: سلم. وقال حذيفة في هذه الآية: (الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم. وقد خاب من لا سهم له).
وقال الحسن رضي الله عنه: (معنى الآية: { يأيها الذين آمنوا } تكلموا بكلمة الإيمان؛ أي أقيموا على الإيمان) حث الله تعالى بهذه الآية جميع المؤمنين على الإسلام والطاعة لمن يشري نفسه؛ ألا تراه قال بعد ذلك: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ أي لا تفعلوا فعل ألد الخصام. وقيل: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } أي لا تقتفوا آثاره ؛ لأن ترككم شيئا من شرائع الإسلام اتباع للشيطان.
قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ أي إنه عدو لكم ظاهر العداوة، فإن قيل: كيف قال الله تعالى: { إنه لكم عدو مبين } وهو لم يبد لنا شخصه؟ قيل: قد كان إبداؤه العداوة لأبينا آدم عليه السلام حين امتنع من السجود له وقال: أنا خير منه، فكان إبداؤه وإظهاره العداوة لأبينا آدم عليه السلام أبداء وإظهارا لنا.
قوله تعالى: { كآفة } أي جميعا مأخوذ من: ككفت الثوب؛ أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض. ومعنى كافة في اللغة: مشتق من كف الشيء يكفه؛ أي منعه. وسميت الراحة مع الأصابع كفا؛ لأنها يكف بها عن سائر البدن. ورجل مكفوف: أي كف بصره عن النظر. ومنه قيل لحاشية القميص: كفة؛ لأنها تمنع الثوب من أن ينتشر. وكل مستطيل فحرفه كفة بالضم، وكل مستدير فحرفه كفة بالكسر نحو: كفة الميزان.
واختلف القراء في السلم؛ فقرأ ابن عباس والأعمش: (السلم) بكسر السين هنا وفي الأنفال وسورة محمد. وقرأ أهل الحجاز والكسائي بالفتح، وقرأ حمزة وخلف في الأنفال بالفتح وسائرها بالكسر، وقرأ الباقون هنا بالكسر والباقي بالفتح، وهما لغتان.
[2.209]
قوله عز وجل: { فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم }؛ أي إن زللتم؛ أي إن عدلتم عن الطريق المستقيم بالخروج عن طاعة الله إلى المعصية. وقال ابن عباس: (معناه: فإن ملتم إلى أول شريعتكم من تحريم لحوم الإبل والسبت). { من بعد ما جآءتكم البينات } أي الدلالات والحجج؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وشرائعه، { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } أي غالب بالنقمة ولا يعجزه شيء من ذلك.
وقوله { حكيم } أي محكم في الفعل، حكيم في أمره. ويقال: عالم ذو حكمة فيما شرع لكم من دينه. وقال ابن حبان: (معنى: فإن زللتم؛ أي أخطأتم). وقال السدي: (فإن ضللتم). وقال ابن عباس: (يعني الشرك).
وقرأ أبو السمال العدوي: (فإن زللتم) بكسر اللام، وفي هذه الآية تشبيه العصيان بزلة القدم.
[2.210]
قوله عز وجل: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر }؛ افترق الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال؛ فرقة منهم يتأولونها على ظاهرها ويصفون الله بالإيتاء الذي هو زوال من مكان إلى مكان. وهذا القول غير مرض تعالى الله عنه. وفرقة يفسرون الإتيان تفسيرا مجملا لا يعدون ظاهر اللفظ، يقولون: يأتي كيف شاء بلا كيف. وهذا غير مرض أيضا.
وأما الفرقتان الأخريان من أهل السنة والجماعة؛ فإحداهما لا يفسرون هذه الآية ويقولون: نؤمن بظاهرها ونسكت عن الخوض في معناها؛ لما فيه من الاشتباه والتشبيه. وقال الكلبي: (هذا من المكتوم الذي لا يفسر). وقال ابن عباس: (نؤمن بها ولا نفسرها كما قال تعالى في المتشابهات:
وما يعلم تأويله إلا الله
[آل عمران: 7]).
وأما الفرقة الرابعة فيفسرونها ويردون مثل هذه المتشابهات إلى الآيات المحكمات ويقولون: معناها ما ينظر الكفار بعد قيام الحجة عليهم، إلا أن يأتيهم أمر الله وهو الحساب، أو أن يأتيهم عذاب الله؛ لأن الإتيان لفظ مشتبه يحتمل حقيقة الإتيان ويحتمل إتيان الأمر، وقد قامت الدلالة على أن الله تعالى لا يجوز عليه الإتيان والمجيء والانتقال والمزاولة؛ لأن ذلك من صفات الأجسام والمحدثين، والله تعالى منزه عن ذلك، قال علي رضي الله عنه: (من زعم أن الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد ألحد؛ لأنه لو كان من شيء لكان محدثا؛ ولو كان في شيء لكان محصورا؛ ولو كان على شيء لكان محمولا). وإذا كان لفظ الإتيان مشتبها وجب رده إلى المحكم نحو قوله تعالى في سورة النحل:
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك
[النحل: 33].
وقال بعضهم: معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام وبالملائكة أو مع الملائكة، فتكون في معنى الباء، فعلى هذا التأويل زال الإشكال وسهل الأمر. وأما ذكر الظلة في الآية، فإن الهول إذا بدا من الظلة المظلمة من الحساب كان أعظم وأشد، يدل قوله تعالى في قصة شعيب:
فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم
[الشعراء : 189].
وأما قوله: { والملائكة } قرأ أبو جعفر بخفض (الملائكة) عطفا على الغمام؛ أي (والظلل) من الملائكة؛ أي جماعة من الملائكة. قوله { والملائكة } وسماهم الله ظللا؛ لأن الملائكة لا تسير بالأقدام ولكنها تطير بالأجنحة كما تطير الطير. ومن قرأ: (والملائكة) بالرفع؛ وهي قراءة الجمهور والإجماع فتقديره: وتأتيهم الملائكة في ظلل، يدل عليه قراءة أبي وعبدالله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام). والغمام: هو السحاب الرقيق الأبيض، سمي بذلك لأنه يغم؛ أي يستر.
قوله تعالى: { وقضي الأمر } أي المعنى: الحكم بإنزال الفريقين منازلهم من الجنة والنار. قوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور }؛ أي عواقب الأمور ومصير الخلائق إلى الله تعالى، ومن قرأ (ترجع) برفع التاء فعلى ما لم يسم فاعله، ومن قرأ بنصب التاء فمعناه: وإلى الله تصير الأمور. ومن قرأ بالياء؛ فلأن تأنيث الأمور غير حقيقي.
[2.211]
قوله عز وجل: { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة }؛ أي سل يا محمد يهود أهل المدينة كم أعطيناهم؛ أي أعطينا أسلافهم وإمامهم من علامة واضحة مثل العصا، واليد البيضاء؛ وفلق البحر؛ وتظليل الغمام؛ وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما كان في وقت موسى عليه السلام من المعجزات، كما آتيتك من المعجزات فلم يؤمن أولئك كما لم يؤمن هؤلاء الكفار.
وهذا السؤال سؤال تقريع وإنكار للكفار وتقرير لقلب النبي صلى الله عليه وسلم لا سؤال استفهام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى السؤال. والمعنى: كما أن هؤلاء لم يؤمنوا بالآيات البينات التي أعطيتها فلا تغتمن. و { سل بني إسرائيل } أي أنظرها في آيات بني إسرائيل كم أعطيناهم من علامات واضحات في زمن موسى عليه السلام.
قوله عز وجل: { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جآءته فإن الله شديد العقاب }؛ أي من يغير حجة الله الدالة على أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من بعد ما جاءته حجة الله بأن يجحدها أو يصرفها عن وجهها، { فإن الله شديد العقاب } أي شديد التعذيب لمن استحقه، وسمى الله تعالى الحج نعمة؛ لأنها من أعظم النعم على الناس في أمر الدين.
[2.212]
قوله عز وجل: { زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة }؛ نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه، كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد، ويسخرون من المؤمنين الذين يرفضون الدنيا ويقبلون على الطاعة والعبادة، ويقولون: لو كان محمد نبيا لاتبعه أشرافنا، والله ما يتبعه إلا الفقراء مثل ابن مسعود وعمار وصهيب وسالم وأبي عبيدة بن الجراح وبلال وخباب وعامر بن فهيرة وغيرهم، هكذا قال الكلبي.
وقال مقاتل: (نزلت في المنافقين: عبدالله بن أبي وأصحابه)، كانوا يتنعمون في الدنيا بما بسط الله لهم فيها من الخير، ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم! وكانوا يعيرونهم بقلة ذات أيديهم. وقال عطاء: (نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم من بني قريظة والنضير، سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله تعالى أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال أسهل شيء وأيسره).
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من استذل مؤمنا أو مؤمنة أو حقره لفقره وقلة ذات يده، شهره الله تعالى يوم القيامة ثم يفضحه، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى على تل من نار حتى يخرج مما قال فيه، وإن المؤمن عند الله أعظم من ملك مقرب، وليس شيء أحب إلى الله تعالى من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة، وإن المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده "
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لا تحقرن أحدا من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير). وقال يحيى بن معاذ: (بئس القوم قوم إذا استغنى المؤمن بينهم حسدوه، وإذا افتقر بينهم استذلوه).
قوله عز وجل: { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } أي فوقهم في الدرجة، يعني الذين اتقوا الشرك والفواحش والكبائر فوق الكفار يوم القيامة، في الجنة يكون المؤمنون في عليين والكفار في الجحيم.
قوله عز وجل: { والله يرزق من يشآء بغير حساب }؛ قال ابن عباس: (يعني كثيرا بغير مقدار؛ أي يرزق رزقا كثيرا لا يعرف حسابه). وقال الضحاك: (يعني بغير تبعة، يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة).
وقيل: معناه: أن الله تعالى لا يحاسب على ما يرزق؛ لأنه لا شريك له فيمانعه ولا قسيم فينازعه، ولا يقال له: لم أعطيت هذا وحرمت هذا، ولا لم أعطيت هذا أكثر من هذا؛ لأنه عز وجل لا يسأل عما يفعل. وقيل: معناه: يعطي من غير أن يخاف نفاذ خزائنه، فلا يحتاج إلى حساب ما يخرج منها؛ إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قدر العطاء لئلا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به؛ فهو لا يحتاج إلى الحساب لأنه عالم غني لا يخاف نفاذ خزائنه؛ لأنها بين الكاف والنون.
وقيل: معناه: { والله يرزق من يشآء } من الكفار وغيرهم { بغير حساب } أي بغير مقدار لا يعرف حسابه.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله عز وجل: لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حرير ولصبيت الدنيا عليه صبا "
ومصداق ذلك قوله تعالى:
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
[الزخرف: 33]. وقال صلى الله عليه وسلم:
" لو أن الدنيا عند الله تزن جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ".
وعن قطرب: في قوله تعالى: { والله يرزق من يشآء بغير حساب }: (أي أن الله يعطي العدد المتناهي لا من عدد أكثر منه كما يفعله العباد، ولكن يعطي المتناهي من غير المتناهي). فإن قيل: أليس الله تعالى قال في آية أخرى:
جزآء من ربك عطآء حسابا
[النبأ: 36] فكيف قال في هذه الآية { بغير حساب }؟ قيل: العطاء من جهة الله عز وجل على ضربين؛ أحدهما: ثواب، والآخر: تفضل، فما كان ثوابا كان له حساب؛ لأنه يكون على قدر الاستحقاق بالعمل.
وأما التفضل فلا يكون له حساب كما قال تعالى:
ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله
[فاطر: 30]. والمراد بقوله:
عطآء حسابا
[النبأ: 36] الثواب دون التفضل، والمراد بقوله: { يرزق من يشآء بغير حساب } التفضل، فإن قيل: كيف قال: بغير حساب؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" حلالها حساب وحرامها عذاب ".
قيل: روي عن عائشة رضي الله عنها في معنى الحساب في المؤمنين: العرض، [ومن نوقش الحساب عذب].
فإن قيل: من الذي زين للذين كفروا الحياة الدنيا؟ قيل: ذهب بعض المفسرين إلى أن الذي زينها لهم إبليس كما قال الله تعالى في آية أخرى:
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم
[الأنفال: 48]. وعن الحسن أنه قال: (زينها والله لهم الشيطان، فلا أحد أذم للدنيا ممن خلقها قال الله تعالى:
قل متاع الدنيا قليل
[النساء: 77] وقال تعالى:
وما الحيوة الدنيآ إلا متع الغرور
[الحديد: 20]).
وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى هو الذي زينها لهم؛ إذ خلق فيها الأشياء المعجبة وركب الشهوات في قلوب العباد؛ فنظر الذين كفروا إلى الدنيا بأكثر من مقدارها؛ فاغتروا بذلك كما قال تعالى:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا
[الكهف: 7]. قالوا: إنما فعل الله ذلك؛ لأن التكليف لا يتم إلا مع الشهوة، فإن الإنسان لا يجوز أن يكلف إلا بأن يدعى إلى ما تنفر عنه نفسه أو يزجر عما تتوق إليه نفسه، وهو معنى قوله عليه السلام:
" حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات ".
وقرأ مجاهد وحميد: (زين للذين كفروا) بفتح الزاء، على معنى زينها الله عز وجل لهم.
[2.213]
قوله عز وجل: { كان الناس أمة وحدة }؛ قال ابن عباس: (معناه: كان الناس أهل ملة واحدة: كفارا كلهم في ابتداء عهد نوح عليه السلام وكذلك في عهد إبراهيم) يعني أن أمم الأنبياء عليهم السلام الذين بعث إليهم الأنبياء كانت كفارا كما كانت هذه الأمة. وجائز أن يقال: كانت أمة واحدة على الكفر وإن كان فيهم مسلمون؛ إذا كان المسلمون قليلين مقهورين في البقية؛ لانصراف اسم الأمة على الأعم الأكثر. وقال قتادة والضحاك: { كان الناس أمة وحدة } أي كانوا مؤمنين في زمن آدم عليه السلام وبعد وفاته إلى مبعث نوح عليه السلام، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى. قم اختلفوا في زمن نوح عليه السلام فبعث الله إليهم نوحا وكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيون. وقال الكلبي: (هم أهل سفينة نوح، كانوا كلهم مؤمنين، ثم اختلفوا بعد وفاة نوح، فبعث الله إليهم نبيه هود عليه السلام).
قوله عز وجل: { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }؛ أي مبشرين لمن أطاع الله تعالى بالجنة، ومنذرين بالنار والسخط لمن عصاه. قوله تعالى: { وأنزل معهم الكتب بالحق }؛ أي وأنزل عليهم الكتاب؛ إذ الأنبياء صلوات الله عليهم لم يكونوا منذرين حتى ينزل الكتاب معهم، وقوله: { بالحق } أي بالعدل.
وقوله: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ أي ليقضي الكتاب بينهم بالحكمة، وأضاف الحكم إلى الكتاب وإن كان الله تعالى هو الذي يحكم على جهة التفخيم لأمر الكتاب. وقوله: { فيما اختلفوا فيه } أي من أمر الدين.
قوله تعالى: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جآءتهم البينت بغيا بينهم }؛ أي ولم يختلف في أمر الدين وبعث النبيين إلا الذين أعطوا الكتاب من بعد ما جاءتهم الدلالات الواضحات من الله. وقوله: { بغيا بينهم } نصب على أنه مفعول له؛ أي لم يختلفوا إلا للبغي والحسد والتفرق؛ وذلك أن أهل الكتاب كانوا علموا حقيقة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم قبل مبعثه، فلما بعثه الله كفروا به إلا قليلا منهم.
قوله عز وجل: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه }؛ أي فأرشد الله المؤمنين { لما اختلفوا فيه من الحق } الذي اختلف فيه أهل الزيغ، { بإذنه } أي بتوفيقه وقضائه وعلمه. قوله تعالى: { والله يهدي من يشآء إلى صرط مستقيم }؛ أي والله يوفق لمعرفته من يشاء ممن كان أهلا لذلك إلى طريق واضح يرضاه الله تعالى.
والأمة في اللغة على وجوه؛ منها الجماعة كقوله تعالى:
وجد عليه أمة من الناس يسقون
[القصص: 23] وقوله:
أمم قد خلت من قبلكم
[الأعراف: 38] أي جماعات وقرون. ومنها الدين والملة كقوله تعالى:
إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة
[الزخرف: 22]. ومنها الحين والزمان كقوله تعالى:
وادكر بعد أمة
[يوسف: 45]. ومنها الرجل القدوة للناس في الخير قال الله تعالى:
إن إبراهيم كان أمة
[النحل: 120] ويسمى الإمام أمة أيضا؛ لأنه يجمع خصال الخير.
ومنها الرجل المنفرد بدين على حدة لا يشركه فيه غيره قال صلى الله عليه وسلم:
" يبعث زيد ابن عمرو بن نفيل أمة واحدة "
وكان قد أسلم قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بمكة يومئذ مؤمن غيره، ثم تابعه بعد ذلك ورقة بن نوفل، وعاش ورقة إلى وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها القامة؛ يقال: فلان حسن الأمة؛ أي القامة. والإمة بالكسر النعمة؛ يقال: فلان ذو إمة؛ أي ذو نعمة.
وأما الكتب المنزلة قبل القرآن فقد روي أن الله أنزل على شيث خمسين صحيفة وكان يعمل بها هو ومن معه ومن بعده إلى زمن إدريس، ثم أنزل الله على إدريس عليه السلام ثلاثين صحيفة فكان يعمل بها إلى زمن إبراهيم، ثم أنزل على إبراهيم عشر صحائف، فكان يعمل بها إلى زمن موسى، ثم أنزل على موسى عليه السلام عشر صحائف قبل التوراة، فكان يعمل بها إلى زمن موسى ومن معه إلى غرق فرعون، ثم أنزل الله التوراة، فكان يعمل بها إلى زمن داود، ثم أنزل الله تعالى الزبور على داود، فكان يعمل بها إلى زمن عيسى عليه السلام، ثم أنزل الله الإنجيل فكان يعمل بها إلى بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله الفرقان ناسخا لما قبله من الكتب.
[2.214]
قوله عز وجل: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء }؛ أي أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ولم تصبكم صفة الذين محنوا من قبلكم؛ أي ولم تبتلوا كما ابتلي الذين من قبلكم، { مستهم البأسآء } أي الشدة وهي القتل، { والضرآء } والبلاء والفقر والمرض. وقيل: البأساء: نقيض النعماء، والضراء: نقيض السراء.
قوله تعالى: { وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله }؛ أي حركوا وخوفوا { حتى يقول الرسول والذين آمنوا } أي جاهدوا حتى قال كل رسول بعث إلى أمته: متى فتح الله؟ يقول الله تعالى: { ألا إن نصر الله قريب }؛ يعني ألا إن نصر الله لك ولأمتك يا محمد قريب عاجل كما نصرت الرسل قبلك، والمثل قد يذكر بمعنى الصفة كما قال الله تعالى:
مثل الجنة
[الرعد: 35] أي صفة الجنة، ذهب السدي إلى أن هذه الآية نزلت بالمدينة يوم الخندق حين اشتدت مخافة المؤمنين من العدو.
ووجه إيصال هذه الآية بما قبلها: أن الله تعالى قال فيما تقدم:
يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة
[البقرة: 208] ثم قال:
فهدى الله الذين آمنوا
[البقرة: 213]. وكان المسلمون اتكلوا على مجرد اهتدائهم، فبين الله في هذه الآية أنه لا يجوز الاتكال على مجرد الإيمان من غير مكابدة ما قاساه السلف من المؤمنين كما قال تعالى:
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون
[العنكبوت: 2].
وأما القراءة في قوله تعالى: { حتى يقول الرسول } من نصب فعلى الأصل؛ لأن { حتى } تنصب الفعل. ومن قرأ بالرفع أدخل (حتى) على جملة ما بعده لا على الفعل خاصة؛ كأنه قال: حتى الرسول يقول، فلا يظهر عمل (حتى). قال الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبني
كان أباها نهشل أو مجاشع
[2.215]
قوله عز وجل: { يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل }؛ الآية قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية جوابا عن سؤال عمرو بن الجموح الأنصاري لما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة ورغب فيها الناس، وذلك قبل نزول الفرائض؛ قال عمرو: يا رسول الله، بماذا نتصدق؟ وعلى من يتصدق؟ فأنزل الله هذه الآية). ومعناه يسألونك أي شيء يتصدقون به، فقل لهم: ما تصدقتم به من مال: فعلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ والضيف النازل بكم.
قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم }؛ أي وما تفعلوه من خير من وجوه البر فإن الله به عليم يحصيه ويجازيكم عليه، لا يضيع عنده عمل عامل، فإن قيل: كيف يطابق في هذه الآية جواب هذا السؤال؛ لأن السؤال إنما وقع على المنفق، والجواب إنما وقع على المنفق عليه؟ قيل: إن الجواب مطابق لهذا السؤال؛ لأن قوله: و { مآ أنفقتم من خير } يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير، فكأن الجواب صدر عن القليل والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة؛ لأن المسؤول إذا كان حكيما يعلم ما يحتاج إليه السائل؛ أجاب عن كل ما يحتاج إليه، كما
" روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ماء البحر؛ فقال: " هو الطهور ماؤه؛ الحل ميتته "
وإنما قال ذلك لأنه علم أنهم لما جهلوا حكم ماء البحر، فإنهم أشد جهلا بحكم ما فيه من المأكول، كذلك هؤلاء لما جهلوا المنفق كان جهلهم بالمنفق عليهم أكثر؛ فلهذا ذكر الله المنفق عليهم مع ذكر المنفق.
واختلفوا في هذه النفقة المذكورة؛ هل هي واجبة أم لا؟ قال الحسن: (المراد بها التطوع على من لا يجوز وضع الزكاة فيه كالوالدين والمولودين؛ ووضع الزكاة فيمن يجوز وضعها فيهم). وقال السدي: (هذه الآية منسوخة بآية الزكاة). والصحيح أنها ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع؛ لأن الآية متى أمكن استعمالها لم يجز الحكم بنسخها، ويحتمل أن يكون المراد بها النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين.
[2.216]
قوله تعالى: { كتب عليكم القتال وهو كره لكم }؛ قال ابن ".... ": (لما كتب الله الجهاد على المسلمين شق ذلك عليهم، وكرهته نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأحب الله تعالى أن يطيب نفوسهم بهذه الآية).
وقيل في وجه اتصالها بما قبلها: أن ما قبلها ذكر التعبد بالنفقة التي تشق على البدن، وفي هذه الآية ذكر ما لا شيء في التعبد أشق منه وهو القتال. ومعنى الآية: فرض عليكم القتال وهو شاق عليكم، وأراد بالكراهة كراهة الطبع لا عدم الرضا بالأمر ، وهذا كما يكره الإنسان الصوم بالصيف من جهة الطبع، وهو مع ذلك يحبه ويرضاه من حيث إن الله أمره به.
قوله تعالى: { وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم }؛ أي لعلكم تكرهون الجهاد وهو خير لكم لما فيه من النصر لدين الله تعالى على أعداء الله؛ والفوز بالغنيمة مع عظم المثوبة، وإدراك محل الشهداء { وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم } أي لعلكم تحبون القعود عن الجهاد وهو شر لكم، تحرمون الفتح والغنيمة والشهادة، ويتسلط عليكم العدو.
قوله تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }؛ أي يعلم ما فيه مصلحتكم وما هو خير في عاقبة أموركم وأنتم لا تعلمون ذلك، فبادروا إلى ما أمرتم به إذ ليس كل ما تشتهون خيرا، ولا كل ما تحذرون شرا.
وفي هذه الآية دلالة على فرض القتال كما قال تعالى:
كتب عليكم الصيام
[البقرة: 183] وأراد به فرض الصيام. ثم لا يخلو القتال المذكور في هذه الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرفه المخاطبون وهو قوله تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم
[البقرة: 190] وقوله:
ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه
[البقرة: 191].
وتكون هذه الآية تأكيدا لذلك القتل المعهود الذي علم حكمه، فيكون القتال في هذه الآية راجعا إلى جنس القتال، فتكون هذه الآية مجملة مفتقرة إلى البيان؛ لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يأمر بالقتال الناس كلهم، فلا يصح اعتقاد العموم فيه، فكان بيان هذا المجمل بقوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[التوبة: 29] وقوله:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5].
[2.217-218]
قوله عز وجل: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله }؛ قال ابن عباس في سبب نزول هذه الآية:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابن عمته عبدالله بن جحش قبل قتال بدر، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وهو أميرهم، كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وقال له: " إذ نزلت منزلتين، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك به، ولا تكره أحدا من أصحابك على السير معك ".
فسار عبدالله حتى بلغ منزلتين، ثم فتح الكتاب فإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فسر على بركة الله بمن اتبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة، فترصد بها عير قريش، لعلك تأتينا منهم بخبر. والسلام. ". فقال عبدالله: سمعا وطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق القوم معه حتى وصلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فنزلوا هناك.
فبينا هم كذلك إذ مر بهم عمرو بن الحضرمي في عير لقريش في أول يوم من رجب، والمؤمنون يظنون أنها آخر يوم من جمادى الأخرى، فأمر عبدالله أن يحلقوا رأس عكاشة ليشرف على المشركين، فيظنوا أنهم عمار فيأمنوا. ففعل ذلك وأمنه المشركون، وقالوا: قوم عمار لا بأس عليكم منهم.
ورمى واقد بن عبدالله عمرو بن الحضرمي فقتله واستأسر بعض المشركين، وهرب بعضهم إلى مكة، واستاق المسلمون العير، فعيرهم المشركون بذلك وقالوا: استحل محمد الشهر الحرام، شهرا يأمن فيه الخائف ويطلق فيه الأسير. ووقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الغنيمة "
، فأنزل الله تعالى هذه الآية). ويقال: لما أمر الله المسلمين بالقتال، ظنوا عموم الأمر في جميع الشهور، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرفوا، فنزلت هذه الآية. والقول الأول أقرب إلى ظاهر القرآن.
ومعنى الآية: { يسألونك } عن قتال في { الشهر الحرام } لأن قوله: { قتال فيه } بدل الاشتمال عن الشهر الحرام، وقوله تعالى: { قل قتال فيه كبير } أي القتال في الشهر الحرام عظيم الذنب عند الله تعالى، ثم استأنف الكلام فقال: { وصد عن سبيل الله } أي منع الناس عن الكعبة أن يأتوها ويطوفوا بها { وكفر به } أي وكفر بالله تعالى، ويقال: بالحج، أو كفر بالمسجد الحرام.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله وإخراج أهل المسجد الحرام منه أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام، أي الكفار مع هذا الإحرام أولى بالعنت ممن قتل مشركا في الشهر الحرام كما قال تعالى: { والفتنة أكبر من القتل }؛ أي الشرك بالله أعظم عقوبة وإثما من القتال.
ومعنى كفرهم بالمسجد الحرام: أن الله جعل المسجد الحرام للمؤمنين ولعبادتهم إياه فيه، فلما جعله الكفار لأوثانهم ومنعوا المسلمين منه، كان ذلك كفرا منهم بالمسجد الحرام.
قوله عز وجل: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }؛ معناه: لا يزال أهل مكة يقاتلونكم أيها المسلمون حتى يصرفونكم عن دينكم الإسلام إلى دينهم الكفر إن قدروا على ذلك، ثم حذر الله المؤمنين ليثبتوا على الإسلام فقال عز وجل: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }؛ أي من يرجع منكم عن دين الإسلام فيمت على كفره، { فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أي التي عملوها للآخرة؛ أي لا يبقى لعمل من أعمالكم ثواب يجازون به في الدارين، الآية: { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } مقيمون دائمون.
والصد والصرف والمنع، يقال: صد يصد صدا؛ إذا صرف غيره عن الشيء، وصد يصد صدودا؛ إذا أعرض بنفسه. ومن قرأ (يرتدد) بدالين فهو لغة أهل الحجاز، أظهروا التضعيف حذرا من التقاء الساكنين، ومن قرأ (يرتد) بالتشديد فهو لغة بني تميم أدغموا الحرفين من جنس واحد وحركوه إلى الفتحة. وقوله: { فيمت } جزم بالعطف على (يرتد) ولو كان جوابا لكان رفعا. وأكثر الأمة على أن النهي عن القتال في الشهر الحرام منسوخ؛ نسخته سورة براءة، وهو قوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[التوبة: 29]؛ لأنها نزلت بعد حظر القتال في الشهر.
فإن قيل: إذا كان نفس الارتداد يحبط العمل حتى يبطل حجة الذي أداه، فأين فائدة قوله: { فيمت وهو كافر }؟ قيل: إنما ذكر الله تعالى في هذه الآية أمر الآخرة لا أمرا يرجع إلى إحباط عمله في الماضي؛ إذ المعلوم من حال المرتد أنه إذا عاد إلى الإسلام والتوبة والعمل الصالح ومات على ذلك لا يعاقب في الآخرة، فلما جمع الله في هذه الآية بين إحباط عمله فيما يتصل بالدنيا والآخرة حتى يزول ثوابه إلى العقاب الدائم، كذلك شرط موته على الكفر.
روي في التفسير: أنه لما نزلت هذه الآية قام عبدالله بن جحش وأصحابه؛ فقالوا: يا رسول الله، أنطمع من ربنا أن تكون لنا هذه غزوة في الجهاد، فنزل قوله تعالى: { إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم }؛ معناه أن الذين صدقوا وهاجروا من مكة إلى المدينة وجاهدوا في محاربة المشركين في طاعة الله تعالى أهل هذه الصفة، يعطون مغفرة الله تعالى وجنته، { والله غفور } لما كان منهم من القتال والأسر وأخذ الغنيمة في الشهر الحرام، { رحيم } بهم حين رفع إثم ذلك عنهم.
والمهاجرة: مفاعلة من الهجر، وفي هذا الموضع هجران الموطن والعشيرة في رضا الله تعالى، والهجر نقيض الوصل، وأطلق اللفظ في هذه الآية على المفاعلة، ويزاد ما ذكرناه؛ ونظيره المساعدة: وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد أخيه بالتقوية والمعونة. وأما المجاهدة: فهي بذل الرجل الجهد من نفسه مع إخوانه، ويجوز أن يراد بذلك أن يبذل الجهد في قتال عدوه، وقد فعل العدو مثل فعله، فيصير مفاعلة.
وإنما قال الله تعالى: { أولئك يرجون رحمت الله } لأن أحدا لا يعلم أنه صابر إلى أن يبلغ في الطاعة كل مبلغ؛ إلا بخبر الله تعالى أو بخبر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يدري لعله قصر في شيء من الواجبات، وما يدري ما الذي يكون منه وما بينه وبين موته، ولا يعلم أحد من المسلمين بما يختم له، ختم الله لنا بالسعادة والشهادة.
[2.219]
قوله عز وجل: { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنفع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما }؛ قال ابن عباس: (كان المسلمون يشربون الخمر في بدو الإسلام، وهي لهم حلال، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي في اليوم والليلة وقت الصلاة: ألا من كان سكرانا فلا يحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة؛ تعظيما للجماعة وتوقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بين لنا أمر الخمر، فإنها مهلكة للمال مذهبة للعقل، فنزلت هذه الآية { يسألونك عن الخمر والميسر }.
وأما الميسر فقد كان جماعة من العرب يجتمعون فيشترون جزورا؛ ثم يجعلون لكل واحد منهم سهما، ثم يقترعون عليها، فمن خرج سهمه برئ من ثمنها وأخذ نصيبه من الجزور وبقي آخرهم عليه ثمن الجزور كله ولا يذوق من لحمها شيئا، فتقتسم أصحابه نصيبه، وربما كانوا يتصدقون بذلك على الفقراء، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
والميسر: هو القمار، ويقال للقمار: ميسر، والمقامر الياسر، وقال مقاتل: (سمي ميسرا لأنهم كانوا يقولون: يسروا لنا ثمن الجزور)؛ وذلك أن أهل الثروة من العرب كانوا يشربون جزورا فينحرونها، ويجزئونها أجزاء، قال ابن عمر: (عشرة أجزاء) وقال الأصمعي: (ثمانية وعشرين جزءا) ثم يسهمون عليها بعشرة أقداح ويقال لها الأزلام والأقلام، سبعة منها لها أنصب؛ وهي القذولة نصيب واحد، والتوأم له نصيبان، والرقيب وله ثلاثة، والجليس وله أربعة، والنامس وله خمسة، والمسيل وله ستة، والمعلي وله سبعة. وثلاثة منها لا أنصب لها، وهي المسح والسفيح والوغد، ثم يجعلون القداح في خريطة سميت الربابة، قال أبو ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه
يسر يفيض على القداح ويصدع
ويضعون الربابة على يد واحد عدل عندهم ويسمى المجيل والمفيض، ثم يجيلها ويخرج منها قدحا باسم واحد منهم، فأيهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فإن كان خرج له سهم من هذه الثلاثة التي لا أنصب لها، اختلفوا فيه؛ قال بعضهم: كان لا يأخذ شيئا ويغرم ثمن الجزور كله، وقال بعضهم: لا يأخذ شيئا ولا يغرم، ويكون ذلك القدح لغوا فيعاد سهم ثانيا، فهؤلاء الياسرون، ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل منهم ويسمونه البرم .
فهذا أصل القمار التي كانت العرب تفعله، وإنما عنى الله تعالى بالميسر في هذه الآية أنواع القمار كلها، وقال طاووس ومجاهد وعطاء: (كل شيء فيه قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان الصغار بالجوز والكعاب).
وعن علي رضي الله عنه قال: (النرد والشطرنج من الميسر). قال القاسم: (كل شيء ألهاك عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر).
قال ابن عباس: (فلما نزلت هذه الآية ترك بعض الناس الخمر، وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير. ولم يتركها بعضهم وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها. وكانوا على ذلك حتى أصاب رجل من الصحابة خمرا فأنشا منها، فحضرت الصلاة فقام يصلي المغرب، فقرأ
قل يأيها الكافرون
[الكافرون: 1] على غير وجهها، قال: أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد. فنزل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون
[النساء: 43]). وكانوا يشربونها قبل الصلاة؛ وكانوا يتناشدون الأشعار في شربها ويفتخرون، فقال عمر: (اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر، فنزل قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
[المائدة: 90] إلى قوله:
فهل أنتم منتهون
[المائدة: 91]؛ فقال عمر: انتهينا يا رب) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمر حتى أمر بكسر الدنان تغليظا وتشديدا.
ومعنى الآية: يسألونك يا محمد عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم عظيم؛ لأن الخمر يوقع العداوة والبغضاء ويحول بين الإنسان وبين عقله الذي يعرف به ما يجب عليه لخالقه. والقمار يورث العداوة أيضا؛ فإن المقمور إذا رأى غيره قد فاز بماله من غير منفعة رجعت إليه؛ بغضه وعاداه. وقيل: معنى قوله تعالى: { قل فيهمآ إثم كبير } أي وزر عظيم من المشاتمة والمخاصمة وقول الفحش والزور وزوال العقل، والمنع من الصلاة، واستحلال مال الغير بغير حق.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما: (قل فيهما إثم كثير) بالثاء؛ وقرأ الباقون بالباء؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله تعالى: { وإثمهمآ أكبر من نفعهما } ولقوله تعالى:
إنه كان حوبا كبيرا
[النساء: 2]
قوله عز وجل: { ومنفع للناس } فالمنفعة في الخمر اللذة في شربها والتجارة فيها قبل التحريم. والمنفعة في الميسر: مصير الشيء الذي يصيبه من المال في القمار بلا كد ولا تعب.
قوله تعالى: { وإثمهمآ أكبر من نفعهما } قال المفسرون: إثم الخمر: هو أنه يشرب ويسكر ويؤذي الناس، وإثم الميسر: هو أن يقامر فيمنع الحق ويظلم. وقال الربيع: (المنافع قبل التحريم؛ والإثم بعد التحريم).
قوله عز وجل: { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو }؛ معناه: يسألونك أي شيء يتصدقون به؟ قل الفضل وما يسهل عليك إنفاقه؛ وهذا نزل جوابا عن قول عمرو بن الجموح: بماذا ننفق؟ وفي الآية المتقدمة جواب عن قوله: لمن نتصدق؟.
واختلفوا في معنى قوله تعالى: { قل العفو }؛ فقال ابن عمر وقتادة وعطاء والسدي: (هو ما فضله من المال عن العيال). وهو رواية عن ابن عباس. وقال الحسن: (هو أن لا يفنى مالك في النفقة، ثم تقعد تسأل الناس).
وقال مجاهد: (هو ما كان عن ظهر غنى). وقال الضحاك: (هو قدر الطاقة). وقال الربيع: (هو العفو، هو الطيب؛ كأنه قال: أفضل مالك وأطيبه).
وأصل العفو في اللغة: الزيادة والكثرة. قال الله تعالى:
حتى عفوا
[الأعراف: 95] أي كثروا. وقال صلى الله عليه وسلم:
" أعفوا اللحى "
والعفو أيضا: ما تأخذه وتعطيه سهلا بلا تكلف من قولهم: خذ ما أعفاك؛ أي ما أتاك سهلا من غير إكراه.
ونظيره هذه الآية من الأخبار ما روي:
" أن رجلا قال: يا رسول الله، عندي دينار، قال: " أنفقه على نفسك " قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على أهلك " ، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على ولدك " ، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على والديك " ، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على فرسك " ، قال: عندي آخر، قال: " أنفقه على قرابتك " ، قال: عندي آخر، قال: " أنت أبصر به " ".
وعن جابر قال:
" أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه صدقة فوالله ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه. فأتى من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من ركنه الأيسر، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: مغضبا: " هاتها " فأخذها منه فحذفه بها لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: " يجيء أحدكم بماله كله ليتصدق به ويجلس يتكفف الناس، أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول " ".
قال الكلبي: (كان الرجل بعد نزول هذه الآية إن كان من أهل الزرع والنخيل؛ نظر إلى ما يكفيه وعياله سنة؛ ويتصدق بما فضل. وإن كان من أهل التجارة أمسك رأس ماله ومن الربح ما يتقوت به ويحتاج إليه؛ ويتصدق بما فضل. وإن كان ممن يعمل بيده؛ أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك ويتصدق بسائره. وكانوا على ذلك إلى أن فرضت الزكاة مقدرة معلومة).
واختلفوا في قراءة قوله: { قل العفو } فقرأ الحسن وقتادة وأبو عمرو: (قل العفو) رفعا على معنى الذي ينفقونه هو العفو، أو على معنى قل هو العفو. ودليله قوله تعالى:
وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين
[النحل: 24]. وقرأ الباقون (العفو) بالنصب على معنى: قل أنفقوا العفو، ودليله قوله تعالى:
وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا
[النحل: 30].
قوله عز وجل: { كذلك يبين الله لكم الآيت لعلكم تتفكرون } أي مثل هذا البيان يبين الله لكم أوامره ونواهيه ودلائله في الدين { لعلكم تتفكرون في الدنيا } أنها دار فناء وبلاء لا يبقى إلا العمل الصالح، (و) في أمر (الآخرة) فإنها دار جزاء وبقاء لا ينفع فيها إلا سابق تقوى الله عز وجل.
وقال المفضل: { كذلك يبين الله لكم الآيت } في أمر النفقة { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معايش الدنيا، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقال بعضهم: معناه يبين لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها، فتزهدوا فيها؛ وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها؛ وهذا القول قريب من الأول.
قال الزجاج: (إنما قال: { كذلك يبين الله } وهو يخاطب الجماعة؛ وكان ينبغي أن يقول: كذلكم؛ لأن الجماعة معناها القبيل، كأنه قال: كذلك أيها القبيل). ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن خطابه مشتمل على خطاب أمته كما قال تعالى:
يأيها النبي إذا طلقتم النسآء
[الطلاق: 1]. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" تفكر ساعة خير من عبادة سنة ".
[2.220]
قوله عز وجل: { في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح }؛ قال ابن عباس: (لما نزل في أمر اليتامى
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن
[الأنعام: 152] وقوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
[النساء: 10] أشفق المسلمون من مخالطتهم؛ وكان كل من في حجره يتيم يجعل لليتيم بيتا وطعاما وخادما على حدة؛ وكانوا لا يخالطون اليتامى في شيء، فشق ذلك عليهم، فجاء عبدالله بن رواحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى أنزل في أمر اليتامى مما أنزل من الشدة، أفيصلح لنا يا رسول الله أن نخالطهم نستعير منهم الخادم والدابة ونشرب من لبن شاتهم؟ فأنزل الله هذه الآية). { ويسألونك عن اليتامى } أي عن مخالطة اليتامى، { قل إصلاح } لأموالهم خير الأشياء إذ هو خير من الإنفاق.
قوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم } أي وإن تشاركوهم وتخلطوا أموالهم بأموالكم في نفقاتكم ومطاعمكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم فتصيبوا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم وتكافئوهم على ما يصيبون من أموالكم، فهم إخوانكم في الدين.
وقرأ طاووس: (قل إصلاح لهم خير) بمعنى الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض منهم خير وأعظم أجرا. وقرأ أبو مخلد: (فإخوانكم) بالنصب؛ أي تخالطوا إخوانكم. قوله تعالى: { والله يعلم المفسد من المصلح } أي يعلم من كان غرضه بالمخالطة إصلاح أمر اليتامى، ومن يكون غرضه إفساد أمرهم.
قوله عز وجل: { ولو شآء الله لأعنتكم }؛ أي لأثمكم في مخالطتهم وضيق عليكم. والعنت: الإثم؛ ويسمى الفجور عنتا؛ لما فيه من الإثم. وأصل العنت: الشدة والمشقة؛ يقال: عقبة عنوت؛ أي شاقة كئود. وقال أبو عبيدة: (معناه: ولو شاء الله لأهلككم). قوله عز وجل: { إن الله عزيز حكيم }؛ أي منيع غالب لا يمانع فيما يفعل من المساهل والمشاق، ذو حكمة فيما أمركم به في أمر اليتامى وغير ذلك.
واسم اليتيم إذا أطلق انصرف إلى الصغير الذي لا أب له. والعرب تسمى المنفرد يتيما؛ يقولون: الدرة اليتيمة؛ يريدون بذلك أنها منفردة لا نظير لها.
وفي الآية ضروب من الأحكام: منها قوله تعالى: { قل إصلاح لهم خير } يدل على جواز خلط الوصي ماله بمال اليتيم في مقدار ما يغلب على ظنه أن اليتيم يأكل قدر طعام نفسه بغالب الظن. ويدل على جواز التصرف في ماله بالبيع والشراء؛ وجواز دفعه مضاربة إذا كان ذلك صلاحا. ويدل على أن لولي اليتيم أن يعاقد نفسه في ماله إذا كان فيه خير ظاهر لليتيم على ما قاله أبو حنيفة رحمه الله. ويدل على أن للوصي أيضا أن يؤجر اليتيم ممن يعلمه الصناعات والتجارات، أو يستأجر من يعلمه ما له فيه صلاح من أمر الدين والأدب؛ لأن كل ذلك من الصلاح.
وقوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم } فيه دليل على أن للولي أن يزوج اليتيم ابنته، أو يزوج اليتيمة ابنه، أو يتزوج اليتيمة لنفسه، فيكون قد خلط اليتيم بنفسه وعياله واختلط أيضا به. يقال: فلان خليط فلان؛ إذا كان شريكا له في المال. ويقال: قد اختلط فلان بفلان؛ إذا صاهره. ولا يكون التزويج إلا للولي الذي يكون ذا نسب من اليتيم؛ لأن الوصاية لا تستحق بها الولاية في النكاح.
[2.221]
قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }؛ قال عبدالله بن عباس: (نزلت هذه الآية في مرثد بن أبي مرثد الغنوي وكان شجاعا فورا، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا؛ فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها: عناق، وكانت خليلته في الجاهلية؛ فأتته وقالت له: يا مرثد، ألا تخلو بي؟ فقال: ويحك يا عناق! إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك. فقالت: هل لك أن تتزوج بي، فقال: نعم، لكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره ثم أتزوجك. فقالت: أنت تتبرم، ثم استعانت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله. فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها، فقال: يا رسول الله، أيحل لي أن أتزوجها؟ فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: ولا تتزوجوا المشركات حتى يصدقن بتوحيد الله.
قال المفضل: (أصل النكاح الوطء، ثم كثر ذلك حتى قيل لعقد التزويج: النكاح). فحرم الله نكاح المشركات عقدا ووطءا، ثم استثنى الحرائر الكتابيات، فقال تعالى:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
[المائدة: 5].
قوله عز وجل: { ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم }؛ أي نكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة ولو أعجبتكم الحرة المشركة بحسنها وجمالها ومالها. نزلت في أمة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان يقال لها خنساء، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملإ الأعلى مع سوادك ورمامتك، وأنزل الله ذلك في كتابه، فأعتقها حذيفة وتزوجها.
وقال السدي: "
" نزلت في أمة سوداء لعبدالله بن رواحة، كان قد غضب عليها عبدالله فلطمها، ثم فزع وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: " وما هي يا عبدالله؟ " فقال: هي تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وتصوم رمضان، وتحسن الوضوء فتصلي، فقال: " هذه مؤمنة " ، وقال عبدالله بن رواحة: والذي بعثك بالحق نبيا لأعتقها ولأتزوجها؛ ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: أتنكح أمة؛ وقد عرضوا عليه حرة مشركة وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رجاء إسلامهن، فأنزل الله هذه الآية ".
قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا }؛ أي لا تزوجوا المشركين مسلمة حتى يصدقوا بالله، { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }؛ أي ولو أعجبكم الحر المشرك بماله وحسن حاله.
قوله تعالى: { أولئك يدعون إلى النار }؛ يعني المشركين والمشركات يدعون إلى عمل أهل النار. قوله تعالى: { والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه }؛ أي والله يدعو إلى أسباب الوصول إلى الجنة والمغفرة ومخالطة المؤمنين وغير ذلك، { بإذنه } أي بأمره وعلمه الذي علم أنه به وصولكم إليهما.
قوله عز وجل: { ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون }؛ أي يبين أمره ونهيه في التزويج وغيره للناس لعلهم يتعظون ويرغبون في أهل الديانة والأمانة. واعلم: أن الظاهر أن اسم المشركات يتناول الوثنيات، وقال الله تعالى:
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين
[البقرة: 105] ففرق بينهما في اللفظ. وظاهر العطف يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه؛ فعلى هذا لا يكون تزويج المسلمين بالكتابيات داخلا في هذه الآية، لكن استفيد جوازه لهم بقوله تعالى في سورة المائدة:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
[المائدة: 5].
وعن ابن عباس والحسن ومجاهد: (أن هذه الآية عامة في جميع الكافرات؛ الكتابيات منهم وغير الكتابيات، ثم نسخت منها الكتابيات بآية المائدة). وعن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية، قال: (إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم شيئا من الشرك أكبر من أن تقول: ربها عيسى عليه السلام، أو عبد من عباد الله، والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم عدل في الإثم والجرم والإشراك بالله).
فإن قيل: في هذه الآية نهي عن نكاح المشركات بسبب وهو دعاء أهل الشرك إلى النار، وهذه العلة تعم الكتابيات وغيرهن، فكيف أبيح للمسلمين نكاح الكتابيات والعلة قائمة؟ قيل: يحتمل أن يكون قوله: { أولئك يدعون إلى النار } راجعا إلى قوله: { ولا تنكحوا المشركين } لا إلى قوله: { ولا تنكحوا المشركات }؛ لأن أولئك كناية عن الرجال دون النساء. ولا يجوز تزويج المسلمة من مشرك ولا كتابي.
[2.222]
قوله عز وجل: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له: أبو الدحداحة، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف نصنع بالنساء إذا حضن؛ هل نقربهن أو لا؟ فنزلت هذه الآية). فلما نزلت هذه الآية عمد المسلمون إلى النساء الحيض فأخرجوهن من البيوت كما كانت الأعاجم تفعل بنسائهم إذا حضن، وإذا فرغن واغتسلن ردوهن إلى البيوت، فقدم ناس من الأعراب المدينة، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزل النساء عنهم، وقالوا: يا رسول الله، إن البرد شديد والثياب قليلة وقد عزلنا النساء، فإن آثرناهن بالثياب هلك أهل البيت بردا، وإذا آثرنا أهل البيت هلك النساء الحيض، وليس كلنا يجد وسعة فيوسع عليهم جميعا، فقال صلى الله عليه وسلم:
" إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم تؤمروا أن تخرجوهن من البيوت "
وقرأ عليهم الآية.
وقال بعضهم: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة، لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت، ولم يجالسوها على فراش كفعل اليهود والمجوس، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: يا رسول الله، كيف نصنع بالحيض؟ فأنزل الله هذه الآية.
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها آية أخرى فيما تقدم " من " حديث نكاح من تحرم ومن تحل، فبين الله بعده حال التحليل والتحريم بهذه الآية.
وقال ابن عباس: (ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما سألوه إلا عن ثلاثة عشر مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن:
يسألونك عن الشهر الحرام
[البقرة: 217]
يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم
[البقرة: 215]
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو
[البقرة: 219]
يسألونك عن الأهلة
[البقرة: 189]
يسألونك عن الخمر والميسر
[البقرة: 219]
ويسألونك عن اليتامى
[البقرة: 220] { ويسألونك عن المحيض } [البقرة: 222]
يسألونك عن الساعة أيان مرسها
[الأعراف: 187]
وإذا سألك عبادي عني
[البقرة: 186]
يسألونك عن الأنفال
[الأنفال: 1]
ويسألونك عن الروح
[الإسراء: 85]
ويسألونك عن ذي القرنين
[الكهف: 83]
ويسألونك عن الجبال
[طه: 105]).
ومعنى الآية: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } أي الدم مستقذر نجس، وقال الكلبي: (الأذى ما يعم ويكره من كل شيء).
قوله تعالى: { فاعتزلوا النسآء في المحيض }؛ أي اعتزلوا مجامعتهن وهن حيض، { ولا تقربوهن حتى يطهرن }؛ أي ولا تجامعوهن حتى ينقطع عنهن الدم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من وطئ امرأته وهي حائض فقضي بينهما ولد فأصابه جذام فلا يلومن إلا نفسه؛ ومن احتجم يوم السبت أو الأربعاء فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه ".
فوطئ النساء الحيض حرام بنص القرآن، فإن وطأها زوجها أثم ولزمته الكفارة، روي عن ابن عباس:
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجل جامع امرأته وهي حائض؛ قال: " إن كان دما غليظا فليتصدق بدينار؛ فإن كان صفرة فنصف دينار "
ولا بأس باستخدام الحائض وبمباشرة بدنها إذا كانت متزرة، والاستمتاع بما فوق الإزار.
قال مسروق: قلت لعائشة رضي الله عنها: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: (كل شيء إلا الجماع).
" وروي أن عائشة رضي الله عنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعة في ثوب واحد، وأنها وثبت وثبة شديدة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما لك؟ لعلك نفست " يعني حضت؛ قالت: نعم، قال: " شدي عليك إزارك وعودي إلى مضجعك " ".
" عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة إذ حضت، فانسللت منها وأخذت ثياب حيضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنفست؟ " قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة ".
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: [كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان؛ وكنت أغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد وأنا حائض؛ وكان يأمرني إذ كنت حائضا أن أتزر ثم يباشرني].
وسئلت عائشة رضي الله عنها: هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ قالت: (نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني فآكل معه وأنا عارك؛ وكان يأخذ العرق فيضعه على فيه؛ وأغترف به ثم أضعه، فيأخذه ويشرب منه ويضع فمه حيث وضعت من المعدن، ويدعو بالشراب فيشرب ثم آخذ القدح فأشرب منه، ثم أضعه فيأخذه فيشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح).
فدلت هذه الآية أن المراد الاعتزال من الحيض جماعهن، وذلك أن اليهود والمجوس كانوا يجتنبون الحيض في كل شيء؛ وكانت النصارى يجامعونهن ولا يبالون بالحيض، فأمر الله تعالى بالاقتصاد بين هذين الآمرين (وخير الأمور أوسطها). قال أنس رضي الله عنه:
" لما أنزل الله تعالى: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افعلوا كل شيء إلا الجماع " فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه ".
قوله تعالى: { ولا تقربوهن حتى يطهرن } قرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: (يطهرن) بالتشديد؛ أي يغتسلن؛ يدل عليه قراءة عبدالله (حتى يتطهرن) بالتاء على الأصل. وقرأ الباقون (يطهرن) مخففا؛ أي حتى يطهرن من حيضهن وينقطع الدم.
واختلف الفقهاء في الحائض متى يحل وطؤها؛ فقال أبو حنيفة وصاحباه: (إذا طهرت لعشرة أيام جاز وطؤها دون الغسل؛ وإن طهرت لأقل من عشرة أيام لم يجز وطؤها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل).
وقال مجاهد وطاووس وعطاء: (إذا انقطع دمها وغسلت فرجها وتوضأت جاز وطؤها). وقال الشافعي: (لا يحل وطؤها إلا بشرطين: انقطاع الدم والاغتسال). فمن قرأ (يطهرن) بالتشديد كان حجة للشافعي ومن تابعه؛ ومن خفف كان حجة للمبيحين وطأها قبل الغسل.
قوله تعالى: { فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله }؛ أي فإذا اغتسلن فجامعوهن من حيث أمركم الله تنحية في الحيض وهو الفرج، قاله ابن عباس وقتادة والربيع. وقيل: معناه: فأتوهن من قبل النكاح والجهات التي يحل فيها أن يقرب المرأة في الشريعة. وقال مجاهد: (كانوا على استخارة إيتائهن في الأدبار في أيام الحيض؛ فأنزل الله هذه الآية وحرم بها ما كانوا يفعلونه)؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إتيان النساء في أعجازهن حرام "
وقال ابن كيسان: (معناه لا يأتونهن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات؛ وإيتاؤهن وغشيانهن لكم حلال).
قوله عز وجل: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين }؛ قال عطاء ومقاتل والكلبي: (معناه: إن الله يرضى عمل التوابين من الذنوب ومن إتيان النساء في وقت الحيض، ويحب المتطهرين بالماء عن الأحداث والحيض والنجاسات والجنابات). وقال مجاهد: (معناه: { إن الله يحب التوابين } عن الذنوب و { المتطهرين } عن أدبار النساء أن يأتوها)، وقال: (من أتى امرأة في دبرها فليس من المتطهرين).
وقال بعضهم: معناه: { التوابين } من الذنوب و { المتطهرين } من الشرك. وقال سعيد بن جبير: { التوابين } من الشرك، و { المتطهرين } من الذنوب). وعن عبدالرحيم: (معناه: { إن الله يحب التوابين } من الكبائر، و { المتطهرين } من الصغائر). وقيل: { التوابين } من الأفعال، و { المتطهرين } من الأقوال. وقيل: { التوابين } من الأقوال والأفعال، و { المتطهرين } من القعود والإضمار. وقيل: { التوابين } من الآثام، و { المتطهرين } من الإجرام. وقيل: { التوابين } من الذنوب، و { المتطهرين } من العيوب.
والتواب: هو الذي كلما أذنب تاب. والمحيض: مصدر يقال: حاضت المرأة حيضا ومحيضا ومحاضا؛ كل ذلك مصدر.
[2.223]
قوله عز وجل: { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم }؛ قال ابن عباس: (كانت اليهود يقولون: إنا لنجد في التوراة أن كل إتيان يؤتى النساء غير مستلقيات فإنه دنس عند الله؛ ومنه يكون الحول والخبل في الولد. فأكذبهم الله تعالى بهذه الآية).
وعن جابر بن عبدالله قال:
" كانت اليهود يقولون: من جامع امرأته ضحية من قفاها في قبلها كان ولدها أحولا!؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " كذبت اليهود "
فأنزل الله تعالى: { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم }.
وقال الحسن وقتادة ومقاتل والكلبي: (تذاكر المهاجرون والأنصار واليهود إتيان النساء؛ فقال المهاجرون: إنا نأتيهن باركات وقائمات ومستلقيات ومن بين أيديهن ومن خلفهن بعد أن يكون المأتى واحدا وهو الفرج. فقال اليهود: وما أنتم إلا كالبهائم؛ لكنا نأتيهم على هيئة واحدة، وإنا لنجد في التوراة أن كل إتيان يؤتى النساء غير مستلقيات فإنه دنس عند الله، ومنه يكون الحول والخبل. فذكر ذلك المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في جاهليتنا وبعدما أسلمنا نأتي النساء كيف شئنا؛ وإن اليهود عابت ذلك علينا؛ وزعمت أنا كذا وكذا؟ فأكذب الله تعالى اليهود؛ ورخص للمسلمين في ذلك فقال: { نسآؤكم حرث لكم }.
وعن ابن عباس قال: (كان هذا الحي من الأنصار مع هذا الحي من اليهود وهم أهل الكتاب؛ فكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم؛ وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم؛ وكان من شأن اليهود أن لا يأتوا النساء إلا على حرف واحد، وذلك أشد ما يكون على المرأة. وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا ذلك من فعلهم. وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات؛ فلما قدم المهاجرون إلى المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها كذلك، فأنكرت عليه! وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فإن شئت فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شري أمرهما. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } مقبلات ومدبرات ومستلقيات). والمعنى: { نسآؤكم حرث لكم } أي مزدرع لكم للولد.
وقال الزجاج: (معناه: نساؤكم ذوات حرث لكم؛ فبين كيف يحرثون للولد واللذة) أي { فأتوا حرثكم } كيف { شئتم } وحيث شئتم ومتى شئتم بعد أن يكون في موضع واحد وهو الفرج. قال أبو عبيد: (سميت المرأة حرثا على وجه الكناية؛ فإنها للولد كالأرض للزرع). وفي الآية دليل على تحريم الوطئ في الدبر؛ لأنه موضع الفرث لا موضع الحرث؛ وإنما قال الله تعالى: { نسآؤكم حرث لكم } وهذا من لطف كنايات القرآن.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: نساؤكم كحرث لكم، كقوله تعالى:
حتى إذا جعله نارا
[الكهف: 96] أي كنار؛ والعرب تسمي النساء حرثا؛ قال الشاعر:
إذا أكل الجراد حروث قوم
فحرثي همه أكل الجراد
يريد امرأتي.
وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب:
حبذا من هبة الل
ه البنات الصالحات
هن النسل والزر
وع وهن الشجرات
يجعل الله لنا في
ما يشاء البركات
إنما الأرحام أرض
ون لنا محرثات
فعلينا الزرع فيها
وعلى الله النبات
قوله تعالى: { أنى شئتم } أي كيف شئتم. وقال سعيد بن المسيب: (هذا في العزل، أي إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا). ودليل هذا ما روي عن عبدالله أنه قال: (تستأمر الحرة في العزل؛ ولا تستأمر الأمة).
وقد وهم بعض الناس في تأويل هذه الآية وتعلق بظاهرها وجوز إتيان المرأة في دبرها؛ وهذا لا يصح؛ لأن قوله تعالى: { نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } يقتضي إباحة إتيان المرأة في قبلها؛ والقول بجواز إتيان المرأة في دبرها باطل. والصحيح: أنه حرام؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ملعون من أتى المرأة في دبرها ".
وعن عبدالله بن الحسن عن أبيه: أنه لقي سالم بن عبدالله؛ فقال له: ما حديث يحدث به نافع عن ابن عمر؟ قال: وما هو؟ قال: زعم أن عبدالله بن عمر لم ير بأسا بإتيان النساء من أدبارهن! قال: كذب العبد وأخطأ، وإنما قال عبدالله: (يؤتون في فروجهن من أدبارهن).
والدليل على تحريم الوطئ في الدبر في قوله صلى الله عليه وسلم:
" ولا تأتوا النساء في أدبارهن "
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا ينظر الله تعالى إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها "
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ملعون من أتى المرأة في دبرها "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أتى حائضا أو امرأة في دبرها؛ أو أتى كاهنا فصدقه فيما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ".
قوله عز وجل: { وقدموا لأنفسكم }؛ أي قدموا من العمل الصالح لآخرتكم. وقيل: معناه: سموا الله تعالى عند الجماع، كما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل: بسم الله، اللهم جنبني الشيطان؛ وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان ".
وقيل: معنى: { وقدموا لأنفسكم }؛ النية الصالحة عند ذلك؛ وهو أن ينوي: ربما قضى الله ولدا يعبده.
وقيل: معناه: { وقدموا لأنفسكم } هو التزويج بالعفائف ليكون الولد صالحا طاهرا .
وقيل: هو تقديم الأفراط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم - الحنث - لم تمسه النار إلا تحلة القسم " فقالوا: يا رسول الله، واثنان. قال: " واثنان " ، فظننا أنه لو قيل له وواحد، قال: وواحد ".
وقال السدي والكلبي: (يعني العمل الصالح) دليله سياق الآية: { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه }؛ قوله تعالى: { واتقوا الله } أي اخشوه ولا تقربوهن في حال الحيض ولا على وجه لا يحل، { واعلموا أنكم ملاقوه } يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم. قوله تعالى: { وبشر المؤمنين }؛ أي المصدقين بالبعث والثواب بالجنة.
[2.224]
قوله عز وجل: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }؛ نزلت هذه الآية في عبدالله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه حلف ألا يدخل على ختنه بشير بن النعمان الأنصاري ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصمه؛ وجعل يقول: حلفت بالله أن أفعل ولا يحل لي إلا أن أبر في يميني؛ فنزلت هذه الآية؛ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه الآية، وقال:
" من حلف على يمين فرأى أن غيرها خير منها؛ فليأت الذي هو خير؛ وليكفر عن يمينه، افعلوا الخير ودعوا الشر "
وكفر ابن رواحة عن يمينه ورجع إلى الذي هو خير.
ومعنى الآية: { ولا تجعلوا الله } علة { لأيمانكم } أي لا تجعلوا اليمين بالله مانعة لكم من البر والتقوى؛ وهو أن يجعل الرجل اليمين معترضا بينه وبين ما هو مندوب إليه أو مأمور به من البر والتقوى والإصلاح؛ يفعل ذلك للامتناع من الخير؛ لأن المعترض بين الشيئين يمنع وصول أحدهما إلى الآخر. ومعنى { أن تبروا وتتقوا } أي لا تبروا ولا تتقوا القطيعة، ولا تصلحوا بين المتشاجرين كما قال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أراد بذلك: لا أبرح؛ وكان أبو العباس ينكر إضمار حرف النفي في هذه الآية ويقول: (هذا إنما يكون في تصريح اليمين) كقولك: والله أقوم؛ بمعنى والله لا أقوم. وأما في مثل هذا الموضع، فلا يجوز حذف حرف النفي. قال: (والصواب أن معناه: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم كراهة أن تبروا). فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه؛ ونظير هذا قوله تعالى:
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين
[النور: 22].
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } أي لا تعترضوا باليمين بالله تعالى في كل حق وباطل؛ وهو نهي عن كثرة الحلف، لما في ذلك من الجرأة على الله عز وجل والابتذال لاسمه في كل حق وباطل. يقال: هذه عرضة لك؛ أي عدة لك تبتذلها فيما تشاء. ومعنى { أن تبروا } على هذا الإثبات؛ أي لا تحلفوا في كل شيء لأن تبروا إذا حلفتم وتتقوا المآثم فيها.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: { أن تبروا } مبتدأ، وخبره محذوف تقديره، أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس؛ أي أولى. فعلى هذا يكون موضع { أن تبروا } رفعا. وعلى التأويل الأول يكون نصبا؛ لأن معناه: لأن تبروا، موضعه نصب بنزع الخافض.
وقال مقاتل: (نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف لا يصل ابنه عبدالرحمن حتى يسلم). وقال ابن جريج: (نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف لا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك).
قال المفسرون: هذا في الرجل يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يكلم قرابته، ولا يتصدق، ولا يصنع خيرا، ولا يصلح بين اثنين. فأمره الله تعالى أن يحنث في يمينه ويفعل ذلك الخير ويكفر عن يمينه. قوله تعالى: { والله سميع عليم }؛ أي سميع لأيمانكم عليم بما تقصدون باليمين عند الحلف.
[2.225]
قوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }؛ اختلف العلماء في لغو اليمين المذكور في هذه الآية؛ فقال قوم: هو ما يسبق به اللسان على سرعة وعجلة ليصل به كلامه من غير عقد ولا قصد؛ مثل قول الإنسان: لا والله؛ بلى والله؛ ونحو ذلك. فهذا لا كفارة فيه ولا إثم عليه، وعلى هذا القول عائشة رضي الله عنها والشعبي وعكرمة ومجاهد.
وقال أخرون: لغو اليمين هو أن يحلف الإنسان على شيء يرى أنه صادق فيه، ثم تبين له خلاف ذلك؛ فهو خطأ منه غير عمد، فلا إثم عليه ولا كفارة؛ وعلى هذا القول ابن عباس والزهري والحسن وإبراهيم النخعي وقتادة والربيع وزرارة بن أوفى ومحكول والسدي. وقال علي رضي الله عنه وطاووس: (اللغو اليمين في حالة الغضب والضجر من غير عقد ولا عزم)، ومثله مروي عن ابن عباس. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا يمين في غضب ".
وقال بعضهم: هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحنث في يمينه ويكفر، وبه قال سعيد بن جبير. وقال غيره: ليس عليه في ذلك كفارة. وقال مسروق في الرجل يحلف على المعصية: (كفارته أن يتوب عنها، وكل يمين لا يحل له أن يفي بها فليس فيها كفارة؛ ولو أمره بالكفارة لأمرته أن يتم على قوله). يدل عليه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية فلا يمين له ".
وعن إبراهيم النخعي قال: (لغو اليمين أن يصل الرجل كلامه بالحلف، كقوله: والله ليأكلن؛ والله ليشربن؛ ونحوها، لا يقصد بذلك اليمين ولا يريد به حلفا، فليس عليه فيه كفارة). يدل عليه ما
" روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون ومعهم رجل من أصحابه؛ فرمى رجل من القوم فقال: والله أصبت؛ والله أخطأت. فقال الرجل الذي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " ".
وقالت عائشة: (أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب). وقال زيد بن أسلم: (هو دعاء الحالف لنفسه، كقوله: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا).
قوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي بما تعمدتم الكذب ؛ وهو أن يحلف على شيء يعلم أنه ليس كذلك. والمعنى: { ولكن يؤاخذكم } بما عزمتم وقصدتم وتعمدتم؛ لأن كسب القلب العقد والنية. قوله تعالى: { والله غفور حليم }؛ أي { غفور } لمن تاب من اليمين الغموس، { حليم } عن الحالف إذ لم يعجل عليه بالعقوبة. وقيل: معناه: { والله غفور } لمن حنث وكفر عن يمينه، { حليم } حين رخص لكم في الحنث ولم يعاقبكم على اليمين على ترك البر.
واللغو في اللغة: الكلام الساقط الذي لا فائدة فيه ولا حكم له، يقال: ألغيت الشيء إذا طرحته. وقد يذكر اللغو ويراد به الكلام الفاحش القبيح، قال الله تعالى:
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه
[القصص: 55] وقال تعالى:
وإذا مروا باللغو مروا كراما
[الفرقان: 72].
[2.226]
قوله عز وجل: { للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءو فإن الله غفور رحيم }؛ قال ابن عباس: (إن العرب في الجاهلية كان الرجل منهم يكره امرأته ويكره أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يطأها أبدا ولا يخلي سبيلها إضرارا؛ فتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة، حتى يموت أحدهما. فأبطل الله ذلك من فعلهم، وجعل الأجل في هذا بعد هذا القول أربعة أشهر إذا تمت هذه المدة ولم يفئ إليها بانت بتطليقة).
وفي قراءة عبدالله: (للذين آلو من نسائهم) على لفظ الماضي؛ والإيلاء: الحلف؛ يقال: آلى يؤلي إيلاء؛ والاسم الألية، قال الشاعر:
علي الله وصيام شهر
أمسك طائعا إلا يكفي
وجمع الألية الألايا قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
إذا نذرت منه الإلية برت
والإيلاء في الشرع: هو الحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضي المدة. ومعنى الآية: للذين يحلفون من نسائهم لا يقربوهن أربعة أشهر. والتربص: التوقف. وقال بعضهم: التربص: التصبر.
قوله: { فإن فآءو فإن الله غفور رحيم } فإن رجعوا عما حلفوا عليه؛ فقرب الرجل امرأته أو كان عاجزا عن الوطء ففاء بلسانه، { فإن الله غفور رحيم } لذنب الإضرار بالامتناع عن الجماع، { رحيم } بهم إذ رخص لهم القربان بالكفارة. وفي قراءة ابن مسعود. (فإن فاءوا فيهن).
واختلف العلماء فيما يكون موليا على وجوه؛ ما روي عن علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم: (أن الإيلاء هو الامتناع من الجماع على جهة الغضب؛ والإصرار بتأكيد اليمين حتى لو كان له ولد رضيع يخشى أن يقرب أمه أن تحبل فيضر ذلك بالولد، فحلف أن لا يقربها لم يكن موليا).
وقال النخعي وابن سيرين والشعبي: (هو اليمين على أن لا يجامعها، سواء كان في الغضب أو في الرضا). وبهذا القول قال علماؤنا رحمهم الله تعالى حتى قال أبو يوسف وأبو حنيفة ومحمد: (كل يمين في زوجة منعت جماع أربعة أشهر من غير حنث يلزمه تعيين إيلاء؛ وفي أخرى فهو إيلاء).
والقول الثالث: ما روي عن سعيد بن المسيب: (أن الإيلاء هو اليمين في الجماع وغير ذلك من الضرر حتى لو حلف لا يكلمها كان موليا).
والقول الرابع: قول عبدالله بن عمر: (أنه إذا هجرها فهو إيلاء)، ولم يذكر الحلف.
والتربص: انتظار الشيء خيرا أو شرا يحل بك أو به؛ ولذلك سمي المحتكر متربصا لانتظاره غلاء السعر، قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها
تطلق يوما أو يموت حليلها
[2.227]
قوله عز وجل: { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم }؛ أي وإن حققوا الطلاق بالإقامة على حكم اليمين إلى تمام أربعة أشهر؛ { فإن الله سميع } لإيلائهم؛ { عليم } بهم وبنياتهم. والعزم في اللغة: هو العقد على فعل في المستقبل؛ يقال: عزم على كذا؛ إذا عقد قلبه عليه. والعزم الشرعي المذكور في هذه الآية على ثلاثة أوجه: قال ابن عباس: (عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة أشهر قبل أن يفيء من غير عذر)، وهو قول ابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان رضي الله عنهم؛ قالوا: (إنها تبين بعد هذه المدة بتطليقة)، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
وعن علي وابن عمر وأبي الدرداء رضي الله عنهم مثل القول الأول. وروي عنهم أيضا: (أنه يوقف بعد مضي المدة، فإما أن يفيء وإما أن يطلق) وهذا قول عائشة وآخرين. وبه قال مالك والشافعي؛ فإن امتنع عنهما؛ فللشافعي قولان؛ أحدهما: يحبسه الحاكم ولا يجبره على أحد الأمرين. والثاني: يطلق عليه الحاكم.
وقال ابن جبير وسالم والزهري وعطاء وطاووس: (إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة رجعية). فإن قيل: قوله تعالى: { فإن الله سميع عليم } يقتضي أن عزيمة الطلاق مسموعة ولا يكون كذلك إلا بقول من الزوج بعد الإيلاء؟ قلنا: هذا القول لا يصح؛ لأن الله تعالى لم يزل سميعا ولا مسموع وقد قال تعالى:
وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم
[البقرة: 244] وليس هناك قول.
[2.228]
قوله عز وجل: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }؛ وقال ابن عباس: (كان أهل الجاهلية يطلق الرجل امرأته، فإن كانت حبلى كان أحق برجعتها وإلا كانت أحق بنفسها، فكانت المرأة إذا أحبت الرجل قالت أنا حبلى، وليست حبلى ليراجعها. وإذا كرهته وهي حبلى قالت: لست حبلى؛ لكي لا يقدر على مراجعتها. فجعل الله عدة المطلقات ثلاثة قروء، ونهى النساء عن كتمان ما في أرحامهن من الحيض والحبل).
ومعنى الآية: { والمطلقات } ينتظرن { بأنفسهن } ماذا يصنع بهن أزواجهن من المراجعة وترك المراجعة. وقد اختلف السلف في القرء المذكور؛ قال أبو بكر وعمر وعثمان وابن عباس وابن مسعود وأبو موسى الأشعري: (هو الحيض)، وقالوا: (إن الزوج أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وبه أخذ أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة: (الأقراء هي الأطهار)، (وإذا دخلت في الحيضة الثالثة، فلا سبيل له عليها)، وبه قال مالك والشافعي.
وإنما اختلف السلف في هذه المسألة؛ لأن القرء في اللغة عبارة عن الحيض وعن الطهر؛ وهو من أسماء الأضداد، قال أبو عبيدة: (هو خروج من شيء إلى شيء؛ يقال: قرأ النجم إذا طلع؛ وقرأ النجم إذا غاب). والمرأة تخرج من الطهر إلى الحيض، ومن الحيض إلى الطهر. قال الشاعر:
يا رب ذي ضغن علي فارض
له قروء كقروء الحائض
وأراد بذلك الحيض؛ يعني: أن عداوته تهيج في أوقات معلومة كما أن المرأة تحيض في أوقات معلومة. وقال آخر:
أفي كل عام أنت جاشم غزوة
تشد لأقصاها عزيم عزائكا
ومورثة عزا وفي الحي رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وأراد بالقرء في هذا البيت الطهر؛ لأنه خرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فأضاع أقراءهن؛ أي أطهارهن.
فلما اختلف السلف واختلفت اللغة في هذا الاسم لم يجب حمله على الأمرين جميعا، ووجب حمله على حقيقته دون مجازه. واسم القرء حقيقة في الحيض؛ مجاز في الطهر؛ لأن كل طهر لا يسمى قرءا وإنما الطهر الذي يكون بين الحيضتين، فسمي بهذا الاسم لمجاوزته الحيض. فلو كان هذا الاسم حقيقة في الطهر لكان لا ينتفي عنه بحال؛ لأن الأسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها بحال؛ ووجدنا هذا الاسم ينتفي عن طهر الآيسة والصغيرة، فكان حمله على الحيض أولى من حمله على غيره.
فإذا اختلفت الأمة في ذلك كان المرجع إلى لغة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها "
وأراد بالأقراء الحيض بالإجماع، واتفق الصحابة أن عدة أم الولد بالحيض وكذلك الاستبراء.
وذهب الزجاج إلى أن القرء الجمع من قولهم: قرأت القرآن؛ أي لفظت به مجموعا. ويقال: قريت الماء في الحوض. ويسمى الحوض مقراة. قال: (وإنما يجتمع الدم في البدن في الطهر فهو القرء) غير أن الأمر لا يظهر في الحقيقة؛ لأن هذا من علم ما في الأرحام، وقد خص الله تعالى نفسه بعلم ما في الأرحام، ولا يمتنع أن يجتمع الدم في حالة الحيض قطرة أو قطرتين كالعبرة ونحوها؛ إذ لو اجتمع جملة لدر درورا لا ينقطع كالبول وسائر المائعات المجتمعة.
والمطلقة قبل الدخول مخصوصة من هذه الآية بآية أخرى وهو قوله تعالى:
إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
[الأحزاب: 49]. وكذلك الحامل مخصوصة بآية أخرى.
وروي أن رجلا من أشجع قال: يا رسول الله، طلقت امرأتي وهي حامل وقد ذهبت وأنا أخاف أن تنطلق فتتزوج من بعدي فيكون ولدي له، فأنزل الله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى آخر الآية. فردت امرأة الأشجعي إلى الأشجعي، فقام معاذ بن جبل فقال: يا رسول الله، أرأيت الكبيرة التي يئست من الحيض ما عدتها؟ فنزل:
واللائي يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر
[الطلاق: 4] فقال آخر: يا رسول الله، أرأيت الصغيرة التي لم تبلغ الحلم؛ ما عدتها؟ فأنزل
واللائي لم يحضن
[الطلاق: 4]. فقام آخر فقال: يا رسول الله، والحوامل ما عدتهن؟ فنزل:
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
[الطلاق: 4].
قوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } تخويفا من الله تعالى للمعتدات كي لا { يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } من الحبل فيخبرن بانقضاء العدة ثم يتزوجن فيلزمن الولد غير أبيه؛ ولا يكتمن الحيض فيمتنعن عن الإخبار بانقضاء العدة ليستوجبن النفقة على أزواجهن.
وفي هذه الآية دليل على أن قول المرأة يقبل على أمر رحمها حتى لو قالت: حضت؛ حرم على الزوج وطؤها؛ وإذا قالت: طهرت؛ حل له وطؤها؛ إذ لو لم يجب قبول قولها لم يكن لنهيها عن الكتمان معنى ولا فائدة؛ ولهذا إذا قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق؛ فقالت: حضت؛ طلقت، وكان قولها كالبينة في حق نفسها؛ لأنا قبلنا قولها فيما يخصها من انقضاء عدتها وإباحة وطئها وحظره.
وفرقوا بين هذا وبين سائر الشروط نحو قوله: إذا دخلت الدار أو كلمت زيدا؛ فقالوا: لا يقبل قولها فيه إلا ببينة. فأما إذا علق عتق عبده بحيضة زوجته؛ فقالت: حضت؛ لم تصدق؛ لأن ذلك حكم في غيرها لا يخصها ولا يتعلق بها؛ فهو كغيره من الشروط ولا تصدق.
قوله عز وجل: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا }؛ أي أزواجهن أحق بمراجعتهن في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه؛ إن أرادوا بمراجعتهن حسن الصحبة والمعاشرة دون الإضرار والعدوان.
قوله عز وجل: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }؛ أي لهن على أزواجهن من الحق والحرمة وحسن المعاشرة مثل ما للزوج عليهن من الحقوق بالمعروف. واسم المعروف عام في كل ما يعرف من إقامة الحق، يسمى بذلك لأن كل واحد يعرف بأنه حق.
قوله تعالى: { وللرجال عليهن درجة }؛ أي لهم زيادة فيما للنساء عليهم وهو الفضل بنفقتهن وقيامهم بما يصلحهن. والفضل في العقل والميراث أن يكون الرجل مسلطا على تأديب المرأة إذا نشزت. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو أذنت لبشر أن يسجد لبشر ولو صح ذلك؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه لشحب بالقيح والصديد ثم لحسته ما أدت حقه ".
قوله عز وجل: { والله عزيز حكيم }؛ أي ملك غالب يحكم ما أراد ويمتحن بما أحب فينتقم ممن عصاه، وهو ذو حكمة فيما يأمر من أمر الدين والدنيا؛ لا يأمر شيئا إلا لحكمة.
[2.229-230]
قوله عز وجل: { الطلق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن }؛ قال عروة بن الزبير وقتادة في معنى هذه الآية: (إن الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان؛ فإنه بعد الطلقة الثالثة لا يملك الرجعة). وفي الآية ما يدل على هذا؛ لأن الله عقبه بقوله: { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن }. وعن ابن عباس ومجاهد: (أن المراد بالآية بيان طلاق السنة).
وقوله: { الطلق مرتان } لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر والندب، وفي لفظ المرتين دليل على أن التفريق سنة؛ لأن من طلق اثنتين معا لا يقال طلقها مرتين، وليس في هذه الآية كيفية سنة التفريق. وقد فسره الله تعالى بقوله:
إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن
[الطلاق: 1] وأراد بذلك تفريق الطلاق على إظهار العدة؛ ألا ترى أنه تعالى خاطب الرجال إحصاء العدة، وذكر الرجعة في سياق الآية بقوله:
لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
[الطلاق: 1] وعلى هذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عمر حين طلق امرأته في حال الحيض:
" ما هكذا أمرك ربك؛ إنما أمرك أن تستقبل الطهر استقبالا، فطلقها لكل قرء تطليقة؛ فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق فيها النساء ".
قوله تعالى: { فإمساك بمعروف } أي عليكم إمساكهن بحسن الصحبة والمعاشرة إذا أردتم الرجعة، { أو تسريح بإحسن } أي يتركوهن حتى ينقضي تمام الطهر ويكن أملك لأنفسهن. والإحسان: أن يوفي الزوج حقها في المهر ونفقة العدة؛ وأن لا يطول العدة عليها.
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية؛ فقيل له: أين التطليقة الثالثة؟ فقال: " في قوله: { أو تسريح بإحسن } " ".
قوله عز وجل: { ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله }؛ قال ابن عباس:
" نزلت في جميلة بنت عبدالله بن أبي ابن سلول وفي زوجها ثابت بن قيس، كانت تبغضه بغضا شديدا لا تقدر على النظر إليه، وكان يحبها حبا شديدا لا يقدر على أن يصبر عنها؛ وكان بينهما كلام، فأتت أباها فشكت عليه وقالت: إنه يضربني ويسيء إلي! فقال لها: ارجعي إلى زوجك، فأتته الثانية وبها أثر الضرب، فشكت إليه فقال لها: ارجعي إلى زوجك. فلما رأت أنه لا يشكيها ولا ينظر في أمرها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليه وأرته أثر الضرب بها، فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا هو، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت وقال: " يا ثابت، ما لك ولأهلك؟ " قال: والذي بعثك بالحق نبيا؛ ما على الأرض شيء أحب إلي منها غيرك، لكنها لا تطيعني، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تقولين؟ " فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: ما كنت أحدثك اليوم حديثا ينزل عليك خلافه غدا، هو من أكرم الناس لزوجته لا أعيب عليه في دين ولا خلق، ولكني أبغضه لا أنا ولا هو. فقال ثابت: قد أعطيتها حديقة لي، قل لها فلتردها علي وأنا أخلي سبيلها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته وتملكين أمرك؟ " قالت: نعم، وزيادة. فأنزل الله قوله: { ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله } الآية، فقال صلى الله عليه وسلم : " أما الزيادة فلا " ثم قال لثابت: خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها، ففعل "
وكان ذلك أول خلع في الإسلام).
ومعنى الآية: { ولا يحل لكم أن تأخذوا } شيئا مما أعطيتموهن من مهر ولا غيره، { إلا أن يخافآ }. قال أبو عبيد: (معناه: معلما ومؤقتا حقيقته؛ أي إلا أن يكون الأغلب عليها على ما ظهر منهما من أسباب التباعد الخوف من أن لا { يقيما حدود الله } وهو ما فرض الله تعالى للزوج).
ومن قرأ (يخافا) على فعل ما لم يسم فاعله، كان المعنى إلا أن يخافا عليهما أن لا يقيما حدود الله، وهو ما فرض الله تعالى للزوج على المرأة، والمرأة على الزوج، وقد يذكر الخوف في معنى العلم كما قال أبو محجن الثقفي:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وأما قوله عز وجل: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }؛ أي علمتم بغالب ظنكم أن لا يكون بينهما صلاح ولا مقام على النكاح. { فلا جناح عليهما فيما افتدت به }؛ أي لا حرج عليهما في الأخذ والإعطاء. ويقال: معناه: لا حرج على الزوج أن يأخذ ما افتدت به المرأة نفسها مما أعطاها الزوج. قال الفراء: (هذا كقوله:
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان
[الرحمن: 22] وإنما يخرج ذلك من أحدهما؛ كذلك في هذه الآية أراد بقوله تعالى: { فلا جناح عليهما } نفي الحرج عن الزوج في الأخذ: فأما المرأة فهي مفتدية باختيارها ورضاها).
وإنما يباح للزوج أن يخلعها إذا كان النشوز من قبل المرأة؛ وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (لو اختلعت بكل شيء لها لأخذته).
وروي أن امرأة نشزت فرفعت إلى عمر رضي الله عنه فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعا بها فقال رضي الله عنه: (كيف وجدت مبيتك؟) فقالت: ما بت ليالي منذ كنت عنده أقر لعيني منهن. فقال عمر رضي الله عنه لزوجها: (اخلعها، ولو بقرطها).
قوله تعالى: { تلك حدود الله فلا تعتدوها }؛ الآية ؛ أي هذه الآيات المنزلة من الأوامر والنواهي فرائض الله وأحكامه { فلا تعتدوها } أي فلا تتجاوزوها، { ومن يتعد حدود الله }؛ أي من يتجاوز أحكام الله ويترك ما أمر الله به أو يعمل بما نهاه، { فأولئك هم الظلمون }؛ الضارون لأنفسهم بمعصيتهم. وإذا كان النشوز من قبل الزوج، فلا يحل له أخذه شيئا منها ديانة؛ لقوله تعالى:
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا
[النساء: 20].
واختلف السلف رضي الله عنهم في الخلع؛ هل هو طلاق أو فسخ؛ فذهب بعضهم إلى أنه فسخ؛ وهي رواية عن ابن عباس، واستدلوا بظاهر هذه الآية؛ فقالوا: إن الله ذكر الطلاق الثالث بعد هذا بقوله: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره }؛ فلو كان الخلع طلاقا لجعل الطلاق أكثر من ثلاث.
وأكثر فقهاء الأمصار قالوا: الخلع طلاق؛ وهو " رواية عن " عمر وعثمان وابن مسعود والحسن وإبراهيم النخعي وغيرهم. وليس في ظاهر الآية أن الخلع فسخ؛ لأن قوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا } حكم مبتدأ؛ إذ (الواو) للاستئناف؛ إلا أن يقوم دليل الجمع، فكأن الله تعالى ذكر في أول هذه الآية حكم الطلاق بغير بدل وخير الزوج بين أن يراجعها في العدة أو يتركها حتى تنقضي عدتها، ثم استأنف بيان حكم الطلاقين إذا كان على وجه الخلع، وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيها، ثم ذكر حكم الطلقة الثالثة بالآية التي بعد هذه الآية. وهذا مما يستدل به على أن المختلعة يلحقها الطلاق؛ لأن عامة الفقهاء اتفقوا على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على ما وصفناه؛ فحصلت التطليقة الثالثة بعد الخلع. شرط في إباحتها للأول؛ إلا ما روي عن سعيد بن المسيب رواية شاذة: أنه لم يجعله شرطا؛ ولم يتابعه أحد على ذلك.
وإنما جعل دخول الزوج الثاني بها شرطا لمفهوم الآية وورود السنة أما مفهوم الآية؛ فلأن الله تعالى قال: { حتى تنكح زوجا غيره } والنكاح هو الوطء في الحقيقة، وذكر الزوج يفيد العقد لاستحالة أن يكون زوجا من غير عقد، فكأن قوله { حتى تنكح زوجا } كناية مفهمة مغنية عن التصريح.
وأما السنة: فما
" روي أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها عبدالرحمن ابن الزبير، فجاءت إلى رسول الله تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال صلى الله عليه وسلم: " هل جامعك عبدالرحمن؟ " فقالت: ما الذي معه إلا كهدبة ثوبي هذا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أفتريدين أن ترجعي إلى زوجك الأول؟ " قالت: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: " لا؛ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " فندمت على مقالتها، فقالت: يا رسول الله قد طاف بي، فقال: " لا أصدقك الآن " ".
قوله عز وجل: { فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ } حكم الطلاقين إذا كان على وجه الخلع، وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيها، ثم ذكر حكم الطلقة الثالثة بالآية التي بعد هذه الآية. وهذا مما يستدل به على المختلعة يلحقها الطلاق؛ لأن عامة الفقهاء اتفقوا على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على ما وصفناه؛ فحصلت التطليقة الثالثة بعد الخلع؛ أي فإن طلقها الزوج الثاني بعدما دخل بها، فلا حرج على المرأة والزوج الأول أن يتراجعا؛ بأن يتزوجها مرة أخرى بعد انقضاء العدة.
قوله تعالى: { إن ظنآ أن يقيما حدود الله } أي إن علما بغالب ظنهما أنهما يقيمان حدود الله فيما بينهما؛ لأنهما قد افترقا؛ ورأى الزوج وحدته ورأت المرأة غربتها ووحشتها.
والحكمة في شرط دخول الزوج الثاني بها: أن الطلاق لما كان من أبغض المباحات إلى الله تعالى على ما ورد به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن من أبغض المباحات إلى الله تعالى الطلاق "
شرط الله في حرمة الطلقة الثالثة ما يكبر على الأزواج من غشيان غير تلك المرأة؛ حتى لا يعجلوا بالطلاق عند الغضب ولا يطلقوا إلا على وجه السنة.
قوله عز وجل: { وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون }؛ أي هذه الآية التي ذكرت أحكام الله وفرائضه يبينها في القرآن لقوم يعلمون أوامر الله تعالى؛ وإن ما يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق. وتخصيص العلماء في هذه الآية؛ لأنهم هم الذين يحفظون أوامر الله وأحكامه وينتفعون بالآيات. وقيل: خصهم الله بالذكر على جهة النباهة لهم كما خص جبريل وميكائيل من بين الملائكة على جهة النباهة لهما.
[2.231]
قوله عز وجل: { وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا }؛ نزلت في ثابت بن يسار الأنصاري؛ طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة؛ وكادت تبين منه راجعها، ثم طلقها ففعل بها مثل ذلك، حتى مضت لها سبعة أشهر مضارا لها بذلك. وكان الرجل إذا أراد ان يضار امرأته طلقها ثم تركها حتى تحيض الثالثة، ثم راجعها، ثم طلقها فتطول عليها العدة، فهذا هو الضرار؛ فأنزل الله هذه الآية.
ومعنى الآية: { وإذا طلقتم النسآء } تطليقة أو تطليقتين { فبلغن أجلهن } أي قاربن وقت انقضاء العدة { فأمسكوهن بمعروف } أي احبسوهن بالرجعة على أحسن الصحبة، لا على تطويل العدة، { أو سرحوهن بمعروف } أي اتركوهن بمعروف حتى ينقضي تمام أجلهن، { ولا تمسكوهن ضرارا } أي لا تحبسوهن في العدة إضرارا { لتعتدوا } عليهن؛ أي تظلموهن.
قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه }؛ أي من يفعل ذلك الاعتداء فقد عرض نفسه لعذاب الله بإتيان ما نهى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ملعون من ضار مسلما أو ماكره ".
قوله عز وجل: { ولا تتخذوا آيات الله هزوا }؛ أي لا تتركوا ما حد الله لكم من أمر الطلاق وغيره فتكونوا مقصرين لاعبين. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان الرجل يطلق امرأته أو يعتق عبده ثم يقول: إنما كنت لاعبا، فيرجع في العتق والنكاح؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:
" من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه "
أي نفذ عليه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ثلاث جدهن وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق، والنكاح "
وفي بعض الروايات:
" الطلاق، والنكاح، والرجعة "
وروي في الخبر:
" خمس جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق، والرجعة، والنكاح، والنذر ".
وعن أبي موسى الأشعري قال:
" غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأشعريين، فأتيته فقلت: يا رسول الله، غضبت على الأشعريين؟ قال: " يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، ثم يقول: قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل طهرها "
وقال الكلبي: (معنى { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } أي أمسكوا بمعروف أو سرحوا بإحسان).
قوله عز وجل: { واذكروا نعمت الله عليكم ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به }؛ أي احفظوا منة الله عليكم في أمر الدين. وقيل: { واذكروا نعمت الله عليكم } بالإيمان، { ومآ أنزل عليكم من الكتاب } يعني القرآن، { والحكمة } يعني مواعظ القرآن والحدود والأحكام. وقيل: الحكمة هي فقه الحلال والحرام. وقوله: { يعظكم به } أي ينهاكم عن الإضرار وسائر المعاصي.
قوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم }؛ أي اخشوه فيما أمركم به ونهاكم عنه، { واعلموا أن الله بكل شيء } من أعمالكم من العدل والجور، { عليم } أي عالم يجزيكم على الخير والشر.
ومن الناس من يحتج بقوله:
فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن
[البقرة: 229] في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته؛ لأن الله خيرهم بين أحد شيئين؛ فإذا عجز عن أحدهما تعين عليه الثاني. قلت: هذا الاحتجاج بعيد من الآية؛ لأن العاجز عن نفقة المرأة ممسك بالمعروف إذ لم يكلف الإنفاق في هذه الحالة، قال الله تعالى:
ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا مآ آتاها
[الطلاق: 7] وغير جائز أن يقال للمعسر: غير ممسك بالمعروف؛ إذ ترك الإمساك بالمعروف ذم؛ والعاجز غير مذموم.
[2.232]
قوله عز وجل: { وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف }؛ قال الحسن وقتادة: (نزلت هذه الآية في معقل بن يسار، كانت أخته جميل تحت أبي البداح طلقها تطليقة واحدة ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم على طلاقه إياها؛ فخطبها فرضيت المرأة بذلك وأحبت أن تراجعه، وأبى أخوها معقل وقال لها: إني اخترته على أشراف قومي فطلقك، ثم تريدين أن تراجعيه؟! وجهي من وجهك حرام أبدا لأن تزوجتيه. فأنزل الله هذه الآية ينهى معقلا عما صنع).
وروي أن أبا البداح لما طلقها وتركها حتى انقضت عدتها جاء يخطبها وأراد مراجعتها، وكانت المرأة تحب مراجعته، قال له أخوها: أفرشتك كريمتي وآثرتك على قومي فطلقتها ولم تراجعها حتى انقضت عدتها، وجئت تخطبها؟! والله لا أنكحها أبدا. فأنزل هذه الآية.
ومعناها: { وإذا طلقتم النسآء } واحدة أو اثنتين، { فبلغن أجلهن } يعني انقضت عدتهن، وأراد ببلوغ الأجل في هذه الآية حقيقة البلوغ بانقضاء العدة، { فلا تعضلوهن } أي لا تمنعوهن { أن ينكحن أزواجهن } يعني الذين كانوا أزواجا لهن من قبل.
وقوله تعالى: { إذا تراضوا بينهم بالمعروف } أي إذا تراضوا بنكاح جديد ومهر وشهود؛ وما لا يكون مستنكرا في عقل ولا عادة ولا خلق.
قوله عز وجل: { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر }؛ أي ذلك الذي ذكر من النهي عن العضل { يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله } ويؤمن بالبعث. قوله تعالى: { ذلكم أزكى لكم وأطهر }؛ أي أن لا تمنعوها خير لكم وأفضل وأدخل في التزكية من المنع لهن، وأطهر من الذنب وأبعد من الريبة؛ لأنه إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حب لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحل الله لهما.
وقوله تعالى: { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }؛ أي { والله يعلم } حب كل منهما لصاحبه، { وأنتم لا تعلمون } ذلك. { والله يعلم } ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، ويعلم ما يزكيكم مما يرديكم { وأنتم لا تعلمون } ذلك.
فلما نزلت هذه الآية دعا النبي صلى الله عليه وسلم معقلا فقرأ عليه الآية وقال:
" " إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تمنع أختك من أبي البداح " فقال: إني أؤمن بالله واليوم الآخر وأشهدك أني قد أنكحته "
وكفر عن يمينه.
والعضل في اللغة له معنيان؛ أحدهما: المنع؛ يقال: عضل الرجل المرأة يعضلها ويعضلها إذا منعها من الأزواج ظلما. وأعضل الداء الأطباء إذا أعياهم عن معالجته، ويقال: داء عضال؛ ومسألة معضلة . والآخر: التضييق؛ يقال: عضل القضاء بالجيش إذا ضاق بهم، وعضلت المرأة بولدها إذا عسر خروجه.
وفي الآية دليل على جواز نكاح المرأة على نفسها إذا عقدت بغير ولي؛ لأن الله تعالى أضاف العقد إليها ونهى الولي عن عضلها إذا تراضى الزوجان بالمعروف. ويدل على ذلك قوله:
فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ
[البقرة: 230]. وقوله:
فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف
[البقرة: 234].
[2.233]
قوله عز وجل: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة }؛ أي والمطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن المطلقين ولدنهم قبل الطلاق أو بعده؛ وقوله: { يرضعن أولادهن } لفظه لفظ الخبر ومعناه: الأمر، كأنه قال: لترضع الوالدات أولادهن، كما قال تعالى:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن
[البقرة: 228] يدل على ذلك أنه لو كان قوله: { يرضعن } خبرا لما وجد مخبره على خلاف ما أخبر الله به؛ فلما كان من الوالدات من لا ترضع؛ علم أنه لم يرد به الخبر؛ فكان هذا محمولا في حال قيام النكاح على الأوامر الواجبة من طريق الدين لا من جهة الحكم؛ فإنها إذا امتنعت من الإرضاع لم يكن للزوج أن يجبرها على ذلك من حيث الحكم، وإن أرضعت لم تستحق نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية، ولا يجتمع لها نفقتان.
وفي الآية إثبات حق الرضاع للأم، وبيان مدة الرضاع للمستحق على الولد، فإن الولد لو امتنع من الإرضاع في الحولين أجبر عليه كما قال تعالى في آية المطلقات:
فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن
[الطلاق: 6] وقال:
وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى
[الطلاق: 6].
فإن قيل: كيف قال الله تعالى: { حولين كاملين } والحولان لا يكونان إلا كاملين؟ قيل: لإزالة الإبهام؛ فإن الإنسان قد يقول: أقمت عند فلان سنتين؛ إذا كان قريبا من سنتين، وسرت شهرا؛ إذا كان قريبا من شهر، فبين الله تعالى أنهما حولان كاملان: أربعة وعشرون شهرا من يوم يولد إلى أن يفطم.
وقوله تعالى: { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي لمن أراد من الآباء أن يتم الرضاعة المفروضة عليه؛ أي هذا منتهى الرضاعة وليس فيما دون ذلك وقت محدود، وإنما هو على مقدار إصلاح الصبي وما يعيش به.
قرأ أبو رجاء: (الرضاعة) بكسر الراء؛ قال الخليل: (وهما لغتان مثل الوكالة والوكالة؛ والدلالة والدلالة). وقرأ مجاهد: (لمن أراد أن يتم الرضعة) وهي فعلة كالمرة الواحدة، وقرأ عكرمة: (لمن أراد أن يتم الرضاعة) على الفاعل. وقرأ ابن عباس: (لمن أراد أن يكمل الرضاعة).
قوله عز وجل: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها }؛ معناه: وعلى الأب نفقتهن وكسوتهن كما يعرف أنه العدل، يكون ذلك أجرة لهن على الرضاع إذا كان إرضاع الولد بعد الفراق.
وقوله تعالى: { لا تكلف نفس إلا وسعها } أي لا يجبر الأب على النفقة والكسوة إلا مقدار طاقته، والتكليف هو الإلزام، قال الضحاك: (هذا في المطلقات دون المزوجات؛ لأن الله تعالى قابل هذه النفقة بالإرضاع، ونفقة الزوجة لا تجب بالإرضاع وإنما تجب بسبب الزوجية).
قوله عز وجل: { لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده }؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وسلام برفع الراء مشددة على الخبر منسوقا على قوله: { لا تكلف نفس } وأصله: (لا تضارر) فأدغمت الراء في الراء.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: (لا تضار) مشددة منصوبة على النهي. وأصله (لا تضارر) فأدغمت الراء في الراء وحركت إلى أخف الحركات وهو النصب؛ ويدل عليه قراءة عمر: (لا تضارر) على إظهار التضعيف.
ومعنى الآية: { لا تضآر والدة بولدها } فينزع منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه؛ وألفها الطفل؛ { ولا مولود له بولده } أي لا تلقيه هي إلى أبيه بعد أن عرفها الولد لتضارر الأب بذلك. وقيل: معناه: { لا تضآر والدة بولدها } فتكره على إرضاعه إذا قبل من غيرها وكرهت هي رضاعه؛ لأن ذلك ليس بواجب عليها. { ولا مولود له بولده } فيحمل على أن يعطي الأم إذا لم يرضع إلا منها أكثر مما يجب لها عليه. وهذان القولان على مذهب الفعل المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بهما، والوالدة والمولود له مفعولان.
وأصل الكلمة (تضارر) بفتح الراء الأولى؛ ويحتمل أن يكون الفعل لهما ويكون على مذهب من قد سمي فاعله، والمعنى: لا تضارر والدة بولدها فتأبى أن ترضع ولدها لشفق على أبيه. { ولا مولود له بولده } أي ولا يضار الأب أم الصبي فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها؛ وهذا المذهب أصله (لا يضارر) بكسر الراء الأولى.
وجعل الزجاج قوله: (لا تضار) بالنصب نهيا للوالدة عن الإضرار بالولد. وقوله: { ولا مولود له بولده } نهيا للوالد عن الإضرار بولده. ومعنى ذلك: لا تترك الوالدة إرضاع ولدها غيضا على أبيه فتضر بالولد؛ لأن الوالدة أشفق بولدها من الأجنبية، ولا يأخذ الأب الولد من أمه قصدا إلى الإضرار بها فيضر بولده، ولا يمنعها الأجرة فيضر بولده.
قوله عز وجل: { وعلى الوارث مثل ذلك }؛ يعني على وارث الولد إذا لم يكن له أب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة وترك الإضرار. قال عمر والحسن: (إنه على العصبات دون أصحاب الفرائض). وقال قتادة: (إنه على الوارث من العصبات وأصحاب الفرائض جميعا؛ على كل واحد منهم بمقدار نصيبه من الميراث) إلا أنه لم يشرط أن يكون الوارث ذا رحم محرم من الولد، وقد شرط أصحابنا ذلك.
قوله عز وجل: { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما }؛ أي إن أراد الأبوان فطام الولد من اللبن دون الحولين بتراضيهما وبتشاورهما؛ فلا إثم عليهما في ذلك. وعن ابن عباس: (فطام الولد من اللبن دون حولين بتراضيهما وبمشاورتهما فلا إثم عليهما في ذلك). وعن ابن عباس: (معناه: إن أرادا فصالا قبل الحولين أو بعدهما بتراضيهما فلا جناح عليهما؛ فإن تشاقا رجعا إلى الحولين).
وإنما سمي الفطام فصالا؛ لانفصال المولود من الاغتذاء بثدي أمه إلى غير ذلك من الأقوات.
وأصل الفصل: القطع والتفريق.
قوله عز وجل: { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بالمعروف }؛ أي { وإن أردتم } يعني الآباء والأمهات { أن تسترضعوا أولادكم } غير الوالدة، فلا إثم عليكم، { إذا سلمتم } من الأجرة ما تراضيتم به. ولهذا قالوا: إن الأم إذا لم تختر أن ترضع الولد بعد الطلاق، واختارت أن يكون الولد عندها، أمر الزوج أن يستأجر ظئرا لترضعه في بيت أم الرضيع.
قوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير }؛ أي (اتقوا الله) في الضرار ومخالفة أمر الله، { واعلموا أن الله بما تعملون } من العدل والجور في أولادكم ونسائكم { بصير } عالم يجزيكم به.
وأما تأويل ذكر الحولين في مدة الرضاع، فأما أكثر مدته على قول أبي حنيفة؛ فعلى بيان مقدار استحقاق نفقة الرضاع وثبوت حكم الحرمة: فثلاثون شهرا على مذهبه. وعن ابن عباس أنه كان يقول في قوله:
وحمله وفصله ثلثون شهرا
[الأحقاف: 15] (بيان أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع؛ لأن الله تعالى قال في آية أخرى:
وفصاله في عامين
[لقمان: 14]). وكان يقول: (إذا كان الحمل لستة أشهر كان مدة الرضاع سنتين؛ وإذا كان الحمل تسعة أشهر كان الرضاع سنة وتسعة أشهر). وعلى هذا مهما زاد في الحمل شهرا نقص بإزائه من الرضاع؛ وهذا يقتضي أن الحمل إذا بلغ سنتين؛ أن المرأة لا ترضع ولدها إلا ستة أشهر. فكان أبو حنيفة يحمل قوله:
وحمله وفصله ثلثون شهرا
[الأحقاف: 15] على ذكر الحمل على الأيدي مع بيان مدة أكثر الرضاع.
[2.234]
قوله عز وجل: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }؛ معناه: إن الذين يموتون منكم ويتركون نساءهم من بعدهم؛ ينتظرون في عدتهن؛ معنى (أربعة أشهر وعشرا) لا يتزوجن ولا يتزين في هذه المدة.
وقوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن }؛ أي إذا انقضت عدتهن؛ { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف }؛ أي لا حرج عليكم في تركهن بعد انقضاء المدة ليتزين زينة لا ينكر مثلها، ويتزوجن من الأكفاء ويفعلن كل معروف. قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ أي بما تعملون من الخير والشر عالم يجزيكم به.
فإن قيل: (الذين) اسم موصول و(يتوفون) (ويذرون) من صلته، وجملته مبتدأ؛ و(يتربصن) فعل الأزواج لا فعل (الذين) ولا فيه ضمير عائد إلى (الذين)؛ فيبقى المبتدأ بلا خبر، والمبتدأ لا يخلو من خبر اسما كان أو فعلا؛ وليس من ذلك ها هنا شيء؟ قيل: قال أبو العباس السراج: (في الآية ضمير تقديره: أزواجهم يتربصن) لأن الفعل يدل على الفاعل. وقال الأخفش: (تقديره: يتربصن من بعدهم أربعة أشهر) حتى يكون الضمير عائدا إلى (الذين). وذكر الزجاج: أن النون في قوله (يتربصن) قائم مقام الأزواج كناية عنها لا محالة فصار كالتصريح، وهذا كما يقال: الذي يموت ويخلف ابنتين ترثان الثلثين؛ معناه يرث ابنتاه الثلثين.
قوله تعالى: { وعشرا } ظاهر لفظ العشر يتناول الليالي؛ ألا ترى أنه يقال للأيام: عشرة أيام؛ وإنما غلب لفظ التأنيث في الآية فقيل: (عشرا)؛ لأن العرب تقدم الليل على النهار ويعدون أول كل شهر من الليلة؛ ألا تراهم يصلون التراويح إذا رأوا الهلال ويدعونها إذا رأوا هلال شوال. ومن عادتهم أنهم إذا ذكروا أحد العددين على سبيل الجمع أرادوا مثله العدد الآخر؛ كما قال تعالى في قصة زكريا عليه السلام:
قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا
[آل عمران: 41] وقال في موضع آخر:
ثلاث ليال سويا
[مريم: 10] والقصة واحدة، فعبر تارة بالأيام عن الليالي، وتارة بالليالي عن الأيام.
ويقال: الحكمة في تقدير عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر ما روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: [يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، وأربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم ينفخ فيه الروح في عشرة أيام، فيكتب أجله ورزقه وأنه شقي أو سعيد]. فيجوز أن الله قدر هذه في عدة الوفاة؛ ليظهر أنها حامل أو حائل.
واختلفوا في عدة الحامل؛ فقال عمر وابن مسعود وعبدالله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: (أن الحامل تخرج من هذه العدة إذا وضعت. وإن كان زوجها على السرير) حتى قال ابن مسعود: (من شاء باهلته، إن قوله تعالى:
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
[الطلاق: 4] نزل بعد قوله: { أربعة أشهر وعشرا } ). وقال علي رضي الله عنه: (عدة الحامل المتوفى عنها زوجها تنقضي بأبعد الأجلين).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
" قلت يا رسول الله { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } في المطلقة أو المتوفى عنها زوجها؟ قال صلى الله عليه وسلم: " فيهما جميعا " ".
" وروي أن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد زوجها بأيام؛ فأرادت أن تتزوج، فمر بها أبو السنابل فقال: أتريدين أن تتزوجي؟ قالت: نعم، قال: كلا، إنه آخر الأجلين، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فقال صلى الله عليه وسلم: " كذب أبو السنابل، إذا أتاك من يريد ذلك فأعلميني "
وجميع أهل التفسير على أن هذه الآية ناسخة لقوله:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج
[البقرة: 240] وإن كانت هذه الآية متقدمة على تلك الآية في التلاوة.
وأجمع الفقهاء إلا أبا بكر الأصم أن { أربعة أشهر وعشرا } عدة الحرة دون الأمة؛ وأن عدة الأمة تنقضي بشهرين وخمسة أيام. وكان أبو بكر الأصم يقول: (إن عدتهما جميعا تنقضي بأربعة أشهر وعشرا؛ فإن ولد الأمة إنما ينفخ فيه الروح في الوقت الذي ينفخ فيه الروح في ولد الحرة). والجواب عن هذا أن يقال: إن خبر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه من أخبار الآحاد لا يوجب حقيقة العلم. ولما أجمعوا على أن الرق ينصف عدد الأقراء وعدة الشهور في الآيسة والصغيرة؛ وجب أن ينصف عدة الوفاة.
[2.235]
قوله عز وجل: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء أو أكننتم في أنفسكم }؛ الآية، قال ابن عباس: (التعريض: هو أن يقول الرجل للمعتدة: إني أريد النكاح وأحب المرأة من صفتها كذا وكذا؛ فيصفها بالصفة التي هي عليها حتى تعلم رغبته فيها). وقيل: هو أن يقول لها: إنك لتعجبينني وأرجو أن يجمع الله بيني وبينك، أو يقول: يا ليت لي مثلك وإن قضى الله أمرا كان.
ومعنى الآية: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء } اللواتي هن في عدة موت أو طلاق بائن أو ثلاث، قوله عز وجل: { أو أكننتم في أنفسكم } معناه: أو أضمرتم في قلوبكم العزم على النكاح.
قوله تعالى: { علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا }؛ أي { علم الله أنكم ستذكرونهن } في العدة لرغبتكم فيهن وخوفكم لسبق غيركم إليهن، { ولكن لا تواعدوهن سرا } أي لا يواعدها الخاطب في السر ولا يواثقها؛ أي أن لا يتزوج غيرها. وقيل: لا يواعدها في السر تصريحا. وقيل: المراد بالسر الجماع؛ لأنه لا يكون إلا في السر، كأنه يقول: لا يتعب الخاطب نفسه لها لرغبتها في نفسه.
قوله عز وجل: { إلا أن تقولوا قولا معروفا }؛ أي إلا أن يعرضوا بالخطبة كناية من غير إفصاح. قوله عز وجل: { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله }؛ أي لا تعزموا على عقد النكاح، حذف (على) للتخفيف كما يقال: ضربت فلانا ظهره وبطنه؛ أي على ظهره وعلى بطنه. ومعنى: { حتى يبلغ الكتاب أجله } أي حتى يبلغ فرض المطلقات أجله؛ أي حتى تنقضي العدة؛ فإن العدة فرض القرآن.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه }؛ أي يعلم ما في قلوبكم من الوفاء وغير ذلك فاحذروا أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم. قوله تعالى: { واعلموا أن الله غفور حليم }؛ أي { غفور } لمخالفتكم إن تبتم، { حليم } حين لم يعجل عليكم بالعقوبة.
والتعريض في اللغة: هو الإيماء والتلويح والدلالة على الشيء من غير كشف ولا تبيين، نحو أن يقول الرجل لغيره: ما أقبح البخل! يعرضه لذلك، والخطبة بكسر الخاء: هي الكلام الذي يستدعي به إلى النكاح. والخطبة بالضم: هو الكلام المؤلف إما بموعظة أو دعاء إلى شيء.
والكناية: هي الدلالة على الشيء مع العدول عن الاسم عن الاسم الأخص إلى لفظ آخر يدل عليه، نحو أن يكني عن زيد فيقول لغيره: ما أبخل صديقك، وما أبخل الذي كنا عنده. والإكنان: هو الستر، يقال في كل شيء سترته أكننته؛ وفيما يصونه كنية. قال الله تعالى:
كأنهن بيض مكنون
[الصافات: 49] أي مصون.
[2.236]
قوله عز وجل: { لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }؛ أي لا حرج عليكم إن طلقتم النساء ما لم تجامعوهن أو تسموا لهن مهرا؛ { ومتعوهن } أي متعوا اللاتي طلقتموهن قبل المسيس. والفرض على الغني بمقدار غناه، وعلى الفقير بمقدار طاقته.
قوله تعالى: { متاعا بالمعروف حقا على المحسنين }؛ أي ما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان { حقا على المحسنين } أي واجبا على المؤمنين. وانتصب { متاعا } على المصدر من قوله تعالى: { ومتعوهن }. ونصب { حقا } على الحال من قوله { بالمعروف حقا } تقديره: عرف حقا. ويجوز أن يكون: نصبا على معنى: حق ذلك عليهم حقا.
وفي الآية دلالة جواز النكاح بغير تسمية المهر؛ لأن الله تعالى حكم بصحة الطلاق مع عدم التسمية، والطلاق لا يصح إلا في نكاح صحيح. ومعنى { أو تفرضوا لهن فريضة } أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة. وقد تكون (أو) بمعنى الواو كقوله:
ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا
[الإنسان: 24] وكذلك قوله:
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من الغآئط
[النساء: 43]؛ المعنى: وجاء أحد منكم من الغائط.
وأعلى المتعة: خادم وثياب وورق، وأدناها: خمار ودرع وملحفة. ولا يجاوز بالمتعة نصف المثل بغير رضا الزوج. وقد اختلف السلف في أن هذه المتعة هل يجبر الزوج عليها أم لا؟ قال شريح: (إن القاضي يأمر الزوج بها من غير أن يجبره عليها). وكان شريح يقول للزوج: (إن كنت من المتقين أو من المحسنين فمتعها).
وأما عندنا فإن القاضي يجبر الزوج على المتعة للمرأة التي طلقها قبل المسيس والفرض؛ لأن الله تعالى قال: { حقا } وليس في ألفاظ الإيجاب آكد من قولهم: (حقا عليه). وفي قوله: { على المحسنين } بيان أنها من شروط الإسلام؛ وعلى كل أحد أن يكون محسنا كما قال تعالى:
هدى للمتقين
[البقرة: 2] وهو هدى للناس كلهم. وقيل: إنما خص المحسنين بالذكر تشريفا لهم؛ لأنه لا يجب على غيرهم، فوصف المؤمنين بالإحسان؛ لأن الإحسان أكثر أخلاقهم.
[2.237]
قوله تعالى: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون }؛ معناه: { وإن طلقتموهن من قبل } أن تجامعوهن وقد سميتم لهن مهرا ، فعليكم نصف ما سميتم من المهر، إلا أن يتركن ما وجب لهن من الصداق، بأن تقول إحداهن: ما مسني ولا قربني فأدع له المهر.
قوله: { أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح }؛ ذهب أكثر المفسرين إلى أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج؛ وعفوه أن يترك لها جميع الصداق ولا يرجع عليها بشيء منه إذا كان قد أعطاؤها مهرها؛ وإن لم يكن أعطاها فعفوه أن يتفضل عليها بأن يتم لها جميع مهرها. وقد يكون الصداق عبدا بعينه أو عرضا بعينه لا يمكن تمليكه بالإسقاط والإبراء من واحد من الجانبين، فيكون معنى العفو في ذلك الفضل؛ وفي الآية ما يدل على ذلك وهو قوله: { ولا تنسوا الفضل بينكم }. وإنما ندب الزوج إلى تتميم الصداق؛ لأنه إذا تزوجها ثم طلقها فقد فعل ما يشينها، فكان الأفضل أن يعطيها مهرها.
وذهب بعضهم إلى أن { الذي بيده عقدة النكاح } هو ولي المرأة حتى قال مالك لأبي البكر: أن يسقط نصف الصداق عن الزوج بعد الطلاق قبل الدخول. والصحيح: هو الأول؛ لأن قوله { عقدة النكاح } يقتضي عقدة موجودة، والزوج هو الذي يملك استدامة النكاح وحله، وهو الذي يملك العقد على نفسه من غير ولي يحتاج إليه. وتكون عقدة النكاح على الحقيقة بيد الزوج. وأما ولي المرأة فلا يملك العقد عليها إلا برضاها، ولا يملك إسقاط سائر حقوقها.
قوله عز وجل: { وأن تعفوا أقرب للتقوى }؛ ندب الله كل فريق من الزوج والمرأة إلى العفو، كأنه قال: أيهما عفا عن صاحبه فقد أخذ بالفضل. وقوله تعالى: { أقرب للتقوى } أي أقرب إلى أن يتقي أحدهما ظلم صاحبه، فإن من ترك حقه كان أقرب إلى أن لا يظلم غيره بطلب ما ليس له، ومن بذل النفل كان أقرب إلى بذل الفرض.
قوله تعالى: { ولا تنسوا الفضل بينكم }؛ أي لا تتركوا الإحسان والإنسانية فيما بينكم، { إن الله بما تعملون بصير }؛ أي بما تعملون من الفضل والإحسان بصير عالم يجزيكم به. ونسيان الفضل هو الاستقصاء في استيفاء الحق على الكمال حتى لا يترك شيئا من حقه على صاحبه. فظاهر هذه الآية يقتضي أن الزوج إذا كان سمى لها مهرا بعد عقد النكاح ثم طلقها ينتصف؛ وإليه ذهب مالك والشافعي؛ وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع إلى قول أبي حنيفة ومحمد. فكأن المراد بهذه الآية على قولهم: أن يكون الفرض في نفس العقد؛ لأن التسمية بعد تمام عقد النكاح تقدير لمهر المثل أو بدل عنه، فيسقط بالطلاق قبل الدخول؛ فتجب المتعة.
وقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المراد بقوله تعالى: { من قبل أن تمسوهن } نفس المسيس أو ما يقوم مقامه، فإنه إذا خلا بها خلوة صحيحة نحو أن لا يكون أحدهما محرما ولا مريضا ولا صائما صوم فرض، ولا تكون المرأة حائضا ولا رتقاء، ثم طلقها؛ وجب لها المهر كله وإن لم يدخل بها كما روي زرارة بن أوفى أنه قال: (أجمع الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق على امرأته بابا وأرخى سترا ثم طلقها؛ وجب لها الصداق كاملا، وعليها العدة). وفرق عمر رضي الله عنه بين العنين وامرأته وأوجب عليه المهر، وقال: (ما ذنبهن إذا جاء العجز من قبلكم).
[2.238]
قوله عز وجل: { حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى }؛ أي واظبوا وداوموا على الصلوات المفروضة في مواقيتها وشروطها.
قوله تعالى: { والصلوة الوسطى } اختلفوا فيها؛ فعن علي وابن عباس وأبي هريرة وعبدالله والحسن والنخعي وقتادة وأبي أيوب والضحاك والكلبي ومقاتل: (إنها صلاة العصر) يدل عليه ما روى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الصلاة الوسطى هي العصر "
وفي بعض الأخبار: هي التي فرط فيها سليمان.
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة رضي الله عنها: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر) { وقوموا لله قنتين }؛ وهكذا كان يقرؤها أبي بن كعب. وعن أبي يونس رضي الله عنه مولى عائشة رضي الله عنها؛ قال: أمرتني عائشة رضي الله عنها أن أكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت { حافظوا على الصلوت } فآذني، فلما بلغت أعلمتها فأملت علي: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر).
وروى نافع عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت ( { حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى } فأخبرني، حتى أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما بلغ إلى ذلك وأخبرها، فقالت له: اكتب، فإني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق:
" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبطونهم نارا "
وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا "
ثم صلاها بين العشائين
" وروي أن رجلا قال في مجلس عمر بن عبدالعزيز بن مروان: أرسلني أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأنا غلام صغير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن الصلاة الوسطى، فأخذ بإصبعي الصغيرة وقال: " هذه الفجر " وقبض التي تليها وقال: " هذه الظهر " ، ثم قبض الإبهام وقال: " هذه المغرب " ثم قبض التي تليها وقال: " هذه العشاء " ثم قال: " أي أصابعك بقي؟ " قلت: الوسطى، وقال: " وأي صلاة بقيت؟ " قلت: العصر، قال: " هي العصر " ".
قالوا: وإما كانت العصر هي الوسطى؛ لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار؛ وإنما خصها بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس بأمور البيت، فخصها بالذكر للحث عليها. روى بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بكروا بالعصر يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله "
وروى نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ".
وقال قبيصة بن دويب: (هي صلاة المغرب؛ لأنها أوسط صلاة وجبت على الناس). وقيل: لأنها وسط في عدد الركعات؛ لأنها بين الثنتين والأربع ولا تقصر في السفر، وهي وتر النهار. وإنما خصها بالذكر لأنها أول صلاة الليل الذي يرغب الناس عن الصلاة فيه.
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب لم يحطها عن مسافر ولا مقيم، فتح الله بها صلاة الليل وختم بها صلوات النهار، فمن صلاها وصلى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة، ومن صلى أربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين سنة "
أو قال
" أربعين سنة ".
وحكى الشيخ الإمام أبو الطيب السهل بن محمد بن سليمان: (أنها صلاة العشاء؛ لأنها بين صلاتين لا تقصران). روى أبو عمر عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى الفجر مع جماعة كان كقيام ليلة ".
وقال جابر بن عبدالله: (هي صلاة الفجر؛ لأنها تقع بين الظلام والضياء). وقال زيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وأسامة وعائشة رضي الله عنهم: (إنها صلاة الظهر) لأنها تقع في وسط النهار. وإنما خصها بالذكر؛ لأنها أول صلاة فرضت على الناس.
روى زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان من الناس، يكونون في قائلتهم وتجارتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم "
فنزل قوله تعالى: { حافظوا على الصلوت والصلوة الوسطى }.
وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا زالت الشمس سبح كل شيء لربنا، فأمر الله بالصلاة في تلك الساعة "
وهي الساعة التي تفتح فبها أبواب السماء، فلا تغلق حتى تصلى الظهر، ويستجاب فيها الدعاء؛ ولأنها أول صلاة توجه النبي صلى الله عليه وسلم فيها وأصحابه إلى الكعبة، وهي التي ترفع جميع الصلوات والجماعات لأجلها يوم الجمعة.
وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها بعينها. وسئل الربيع ابن خيثم عن الصلاة الوسطى، فقال للسائل: (إذا أنت علمتها أكنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟) قال: لا، قال: (فإنك إذا حافظت عليهن فقد حافظت عليها). وبه يقول أبو بكر الوراق؛ قال: (لو شاء الله تعالى لعينها، ولكنه سبحانه أراد تنبيه الخلق على أداء جميع الصلوات، فأخفاها الله تعالى في جملة الصلوات ليحافظوا على جميعها رجاء الوسطى كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء، وأخفى ساعة الإجابة في ساعات الجمعة؛ حكمة منه في فعله، ورحمة لخلقه).
قوله تعالى: { وقوموا لله قنتين } أي طائعين؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وابن جبير وقتادة وطاووس وعطية؛ وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. قال الضحاك ومقاتل والكلبي: (لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين؛ وقوموا أنتم في صلاتكم مطيعين). ودليل هذا التأويل ما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كل قنوت في القرآن فهو الطاعة ".
وقال عبدالله بن مسعود: (معناه: وقوموا لله ساكتين). كما روي عن زيد بن أرقم قال: [كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلم أحدنا من هو إلى جانبه؛ ويدخل الرجل فيسلم ويردون عليه السلام؛ ويسألهم كم صليتم؟ فيردون عليه كم صلوا؛ ويجيء خادم الرجل وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته كفعل أهل الكتاب. وكنا كذلك إلى أن نزل قوله تعالى: { وقوموا لله قنتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام]. قال مجاهد: (معناه: { وقوموا لله قنتين } خاشعين، فنهوا عن العبث والالتفات في الصلاة).
وقيل: معناه مطيلين القيام كما في قوله تعالى:
يمريم اقنتي لربك
[آل عمران: 43]. ويدل عليه أيضا حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصلوات أفضل؟ قال:
" طول القنوت "
وقيل: معناه: وقوموا لله مصلين. دليله قوله تعالى:
أمن هو قانت آنآء اليل
[الزمر: 9] أي مصل. وقال صلى الله عليه وسلم:
" مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم "
أي المصلي الصائم. وقال ابن عباس: (وقوموا لله داعين). والقنوت: هو الدعاء في الصلاة.
[2.239]
قوله عز وجل: { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا }؛ أي إذا خفتم من العدو ولم يمكنكم أن تقوموا قانتين موفين حق الصلاة؛ فصلوا قياما على أرجلكم؛ وحيثما توجهتم بالإيماء إذا يمكنكم استقبال القبلة وإقامة الركوع والسجود. { أو ركبانا } على دوابكم إذا لم يمكنكم استقبال القبلة وإقامة الركوع والسجود؛ ولم تستطيعوا النزول فصلوا ركبانا حيثما توجهت بكم لا عذر لكم في ترك الصلاة حالة الخوف.
وانتصب (رجالا) على الحال. وكان الحسن يقول: (فرجالا) أي قائمين ماشين.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنهم لا يصلون وهم يقاتلون أو يمشون؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه فاته يوم الخندق ثلاث صلوات، فقضاهن على الترتيب "
فلولا أن الاشتغال بالقتال يفسدها لما ترك الإيماء بها حال القيام.
قوله عز وجل: { فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }؛ أي إذا أمنتم من الخوف فصلوا لله تعالى كما أمركم قانتين مؤدين حقوق الصلاة وشرائطها. قوله: { كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } معناه: ما لم تكونوا تعلمونه قبل التعليم.
[2.240]
قوله عز وجل: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية قبل نزول آية المواريث وقبل استقرار العدة). وكانت المرأة في ابتداء الإسلام إذا احتضر زوجها أوصى لها في ماله بنفقة سنة من طعامها وشرابها وكسوتها وسكناها، وكان ذلك حظها من الميراث من مال زوجها، وإن كانت من أهل المدر سكنت بيت زوجها حتى تبني بيتا، وإن كانت من أهل الوبر سكنت بيت زوجها حتى تغزل بيتا فتتحول إليه. فإن خرجت من بيت زوجها أو تزوجت فلا نفقة لها ولا سكنى.
ثم نسخت الوصية بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا وصية لوارث "
ونسخ حكم الحول باعتبار أربعة أشهر وعشرا عدة الوفاة بقوله:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا
[البقرة: 234].
ومعنى الآية: { والذين يتوفون منكم ويذرون } نساء؛ أي يتركون نساء من بعدهم؛ فعليهم { وصية لأزواجهم }. ويقال: كتب عليهم وصية؛ وكانت هذه الوصية واجبة من الله تعالى لنسائهم أوصى الميت أو لم يوص كما قال تعالى في آية المواريث:
وصية من الله
[النساء: 12].
قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر والأصم والأعمش وحمزة وحفص: (وصية) بالنصب على معنى: فلتوصوا وصية. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: لأزواجهن وصية، أو كتب عليهم وصية.
وقوله: { متاعا } نصب على المصدر؛ أي متعوهن متاعا، وقيل: جعل الله ذلك لهم متاعا؛ وقيل: نصب على الحال. وقوله: { إلى الحول } أي متعوهن بالنفقة والسكنى والكسوة وما يحتاج إليه حولا كاملا. قوله تعالى: { غير إخراج } أي لا تخرجوهن من بيوت أزواجهن.
وإنما انتصب { غير } لأنه صفة للمتاع، وقيل: على الحال، وقيل: بنزع الخافض؛ أي من غير إخراج، وقيل: على معنى: لا إخراجا، كما يقال: أتيتك غير رغبة إليك.
قوله عز وجل: { فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف }؛ أي فإن خرجن من قبل أنفسهن قبل مضي الحول غير إخراج الورثة { فلا جناح عليكم } يا أولياء الميت { في ما فعلن في أنفسهن } من النشوز والتزين والتزوج بالمعروف إذا لم تكن المرأة حبلى من الميت. وقيل: معناه: { فإن خرجن } بعد انقضاء عدتهن، { فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن }.
وفي معنى رفع الجناح عن الرجال بفعل النساء وجهان؛ أحدهما: لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل تمام الحول. والثاني: لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج؛ لأن مقامها حولا في بيت زوجها غير واجب عليها؛ خيرها الله تعالى في ذلك إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشر؛ لأن ذلك لو كان واجبا عليها لكان واجبا على أولياء الزوج منعها من ذلك.
وقوله تعالى: { غير إخراج } يتضمن معنيين؛ أحدهما: وجوب السكنى في مال الزوج؛ وقد نسخ ذلك. والثاني: حظر الخروج والإخراج؛ وهو لزوم اللبث في البيت إلى انقضاء عدتها أربعة أشهر وعشرا؛ وذلك باق لم ينسخ، ولا يجوز لها أن تبيت بالليالي في غير منزلها، ولا يجوز لها أن تتزين؛ لأن
" امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها؛ أفتكحلها؟ فرخص لها ثم قال صلى الله عليه وسلم: " كانت إحداكن تجلس في أحلاس بيتها حولا لا تخرج حتى إذا مر بها كلب خرجت ورمته ببعرة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ".
عن زينب بنت أبي سلمة قالت: دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمسته ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا "
وعن ابن مسعود رضي الله عنه:
" أن نسوة قتلى أحد شكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة؛ فأمرهم أن يتزاورن بالنهار ولا يبتن بالليل إلا في منازلهن ".
قوله تعالى: { والله عزيز حكيم }؛ أي قادر على النقمة ممن خالف أمره وحكمه فيما حكم على الأزواج.
[2.241]
قوله عز وجل: { وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين }؛ قال سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري: (المراد بالمتاع في هذه الآية: المتعة؛ وهي واجبة لكل مطلقة). وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أن المتعة تجب للمطلقات كلهن من طريق الديانة بحكم هذه الآية؛ ولكن لا يجبر الزوج على المتعة إلا لمطلقة لم يدخل بها ولم يفرض لها مهرا للآية المتقدمة. وقال بعضهم: أراد بالمتاع في هذه الآية نفقة عدة الطلاق؛ لأن الله تعالى عطفه على قوله:
متاعا إلى الحول
[البقرة: 240] والمراد هناك النفقة والسكنى.
[2.242]
قوله عز وجل: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون }؛ أي مثل هذا البيان { يبين الله لكم } دلائله في المستقبل كما بين في الماضي من أمور دينكم ودنياكم؛ لكي تفهموا ما أمرتم به. ويقال: لكي تكمل عقولكم؛ فإن العقل الغريزي إنما يكمل بالعقل المكتسب، وحقيقة العاقل أن يعمل ما افترض عليه، وحقيقة العمل استعمال الأشياء المستقيمة.
[2.243]
قوله عز وجل: { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديرهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحيهم }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر بالخروج إلى قتال عدوهم؛ فخرجوا للقتال ثم جبنوا وكرهوا القتال، فقالوا لملكهم: إن الأرض التي تريدها فيها الوباء فلا تأتها حتى ينقطع عنها الوباء، فقال لهم الله: موتوا).
واختلفوا في عددهم؛ فقال مقاتل والكلبي: (كانوا ثمانية آلاف). وقال أبو روق: (عشرة آلاف). وقال أبو مالك: (ثلاثون ألفا). وقال السدي: (بضعة وثلاثون ألفا). وقال ابن جريج: (أربعون ألفا) وقال عطاء بن أبي رباح: (تسعون ألفا). وقال الضحاك: (كانوا عددا كثيرا). فقوله تعالى: { ألوف } دليل على كثرتهم؛ إذ لو كانوا كما قال مقاتل والكلبي لقال: وهم آلاف؛ لأن من عشرة آلاف إلى ما دونها يقال فيها: آلاف، ولا يقال فيها: ألوف؛ لأن الألوف جمع الكثير. والآلاف جمع القليل.
فمكثوا موتى ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موت أصحابهم، فخرجوا إليهم ليدفنوهم، فعجزوا عنهم من كثرتهم، فحظروا عليهم الحظائر، ثم أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام، فبقي فيهم من ريح النتن التي كانت فيهم بعد الموت حتى بقي في أولادهم إلى اليوم.
وقال السدي: (وقع الطاعون في بني إسرائيل، فخرج قوم منهم هاربين من ديارهم حتى انتهوا إلى مكان فماتوا وتفرقت عظامهم وتقطعت أوصالهم، فأتى عليهم مدة وقد بليت أجسادهم، فمر بهم نبي يقال له حزقيل ثالث خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام؛ لأنه كان بعد موسى يوشع بن نون، ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل. وكان يقال له: ابن العجوز، وذلك أن أمه كانت عجوزا فسألت الله تعالى الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله تعالى لها؛ فلذلك سمي ابن العجوز).
وقال الحسن ومقاتل: (هو ذو الكفل، وإنما سمي حزقيل ذا الكفل؛ لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل، فقال لهم: اذهبوا فإني إن قتلت كان خيرا من أن تقتلوا جميعا، فلما جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين، فقال لهم: ذهبوا ولم أدر أين هم. وحفظ الله ذا الكفل من اليهود. فلما مر حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم وجعل يفكر فيهم متعجبا، فقال : الحمد لله القادر على أن يحيي هذه الأجساد، فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك كيف أحيي الموتى؟ قال نعم، فقال: له: نادهم، فنادى: أيها العظام، ثم قال: ألا أيتها الأجساد البالية، إن الله يأمركن أن تكتسين لحما، فجعل اللحم يجري عليهن حتى صرن أجسادا من اللحوم، ثم قال: ألا أيتها الأجساد البالية الخاوية، إن الله يأمركن أن تقمن بإذن الله، فقاموا.
فرجعوا إلى بلادهم وأقاموا وتوالدوا، وكان أحدهم إذا اكتسى ثوبا صار عليه كفنا يكون فيه ريح الموت).
وقال وهب: (أصابهم بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم فقالوا: يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه. فأوحى الله تعالى إلى حزقيل: إن قومك قد صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم لو ماتوا استراحوا، وأي راحة في الموت؛ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت! فانطلق إلى موضع كذا، فإن فيه أمواتا، فقال الله تعالى: (يا حزقيل، نادهم. وكانت أجسادهم وعظامهم قد تفرقت؛ فرقتها الطير والسباع) فنادى حزقيل بالنداء الذي ذكرناه.
ومعنى الآية: ألم يعلم الذين، وقيل معناه: ألم ينته علمك إلى خبر هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، والمراد بالرؤية رؤية القلب لا رؤية العين. وقوله تعالى: { حذر الموت } أي خرجوا هاربين حذر الموت، وانتصب على أنه مفعول له. وظاهر هذا يقتضي أن خروجهم كان على جهة الفرار من الوباء على ما فسره السدي.
وقيل في معنى: { ألوف } أي مؤتلفوا القلوب لم يخرجوا من تباغض، ومعنى { فقال لهم الله موتوا } أي أماتهم، وقيل: أماتهم الله بشيء يسمعوه، وسمعت الملائكة.
قوله عز وجل: { إن الله لذو فضل على الناس }؛ أي متفضل على جميع الناس كما تفضل على هؤلاء بأن أحياهم بعد الموت وأراهم البصيرة لا غاية بعدها، { ولكن أكثر الناس لا يشكرون }؛ رب النعم. وفي الآية دلالة على أن الموت لا ينفع الهرب منه كما قال تعالى:
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة
[النساء: 78] وقال تعالى:
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل
[الأحزاب: 16]. وإذا كان الآجال مؤقتة محصورة لا يقع فيها تقديم وتأخير كما قدر الله تعالى؛ لم ينفع الفرار من الطاعون وغير ذلك.
وقد روي: أن عمر رضي الله عنه أراد أن يدخل الشام وبها طاعون، فاستشار أصحابه بذلك، فأشار إليه بعض المهاجرين بالرجوع، فعزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة: (يا أمير المؤمنين، أتفر من قدر الله تعالى؟!) فقال عمر رضي الله عنه: (لو كان غيرك يقولها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان؛ إحداهما خصبة والأخرى جدبة، ألست إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله). فجاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: (عندي في هذا علم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إذا وقع هذا الرجز في أرض فلا تدخلوها عليه، وإذا وقع وأنتم بها فلا تخرجوا عنها "
فحمد الله تعالى عمر رضي الله عنه ورجع.
فإن قيل: إذا كانت الآجال مقدرة لا تتقدم ولا تتأخر، فما وجه النهي منه صلى الله عليه وسلم عن دخول أرض بها طاعون؟ وأي فرق بين دخولها وبين إبقائه فيها؟ قيل: وجه النهي عن الدخول أنه إذا دخلها وبها طاعون فجائز أن يدركه أجل بها فيقول قائل: لو لم يدخلها ما مات، كما قال:
يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم
[آل عمران: 156] فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل أرضا فيها طاعون لما يخشى أن يموت فيها أحد بأجله، فيقول الجهال: لو لم يدخلها لم يمت.
[2.244]
قوله عز وجل: { وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم } قال أكثر المفسرين: هذا خطاب لهذه الأمة، معناه: قاتلوا في طاعة الله تعالى ولا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء الذين سمعتم خبرهم، فلا ينفعكم الهرب واعلموا أن الله سميع لما يقوله المنافق بعلمه: الهرب من القتال، عليم بما يضره. وقال بعضهم: هذه الآية خطاب للذين جبنوا، وهي متصلة بقوله تعالى:
فقال لهم الله موتوا ثم أحيهم
[البقرة: 243] وقال لهم: { وقتلوا في سبيل الله }.
[2.245]
قوله عز وجل: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضعفه له أضعافا كثيرة }؛ قال: (سبعين):
" لما أنزل الله قوله عز وجل: { من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها } قال صلى الله عليه وسلم: " رب زد أمتي " فنزل { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } فقال: " رب زد أمتي " فنزل { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ".
وفي الآية استدعاء إلى الانفاق والبر في سبيل الله بألطف الكلام وأبلغه، وسماه الله قرضا تأكيدا لاستحقاق الجزاء؛ لأنه لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق فيه. ومعنى الآية: من ذا الذي يتصدق بصدقة طيبة من نفس طيبة لا يمن بها على السائل ولا يؤذيه، قال الحسن: (هو النفقة في أبواب البر من النفل). وقال ابن زيد: (هو الإنفاق في الجهاد في سبيل الله). وقال الواقدي: (قرضا حسنا) يكون المال من الحلال. وقال سهل بن عبدالله: (هو أن لا يعتقد بقرضه عوضا).
وقوله تعالى: { فيضعفه له أضعافا كثيرة } قرأ عاصم وأبو حاتم (فيضاعفه) بالنصب، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب بغير ألف، وقرأ ابن كثير وشيبة بالتشديد والرفع، وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف ورفع الفاء. فمن رفعه عطفه على (يقرض)، ومن نصب جعله جواب الاستفهام بالفاء. والتشديد والتخفيف لغتان، ودليل التشديد قوله تعالى: { أضعافا كثيرة } لأن التشديد للتكثير.
قال الحسن والسدي: (هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله). قال أبو زيد: (معنى قوله تعالى: { فيضعفه له أضعافا كثيرة } أي يعطيه سبعمائة أمثاله). كما قال تعالى في آية أخرى:
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة
[البقرة: 261]. وعن أبي عثمان النهدي قال: أدخل أبو هريرة إصبعيه في أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" يضاعف الله للمؤمن حسنة إلى ألفي ألف حسنة ".
قوله عز وجل: { والله يقبض ويبسط }؛ أي يقتر ويوسع على من يشاء من خلقه، ومنه قوله تعالى:
ويقبضون أيديهم
[التوبة: 67] أي يمسكوها عن النفقة في سبيل الله، وقوله:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض
[الشورى: 27]. وقيل: معناه: يقبض الصدقات ويبسط، والله يسلب النعمة من قوم ويبسطها على قوم. وقيل: معناه: يقبض الصدقات ويبسط عليها الجزاء عاجلا وآجلا. وقيل: القبض والبسط الإحياء والإماتة، فمن أماته الله فقد قبضه، ومن مد له في عمره فقد بسط له.
قوله عز وجل: { وإليه ترجعون }؛ أي ترجعون في الآخرة فيجزيكم بما قدمتم، وقد جهلت اليهود معنى هذه الآية أو تجاهلت حتى قالت: إن الله يستقرض منا فهو فقير ونحن أغنياء كما قال تعالى:
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء
[آل عمران: 181] وعرف المسلمون معنى الآية ووثقوا بثواب الله ووعده.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية
" جاء أبو الدحداحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، أرى ربنا يستقرض مما أعطانا لأنفسنا، وإن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فلي مثلاها في الجنة. قال: " نعم ". وأم الدحداحة معي؟ قال: " نعم " قال: والصبية معي؟ قال: " نعم " فتصدق بأفضل حديقتيه وهي تسمى الحبيبة، فلما رجع إلى أهله وجد أم الدحداحة والصبية في الحديقة التي تصدق بها، فقام على بابها وتحرج أن يدخلها، ثم نادى: يا أم الدحداحة؛ يا أم الدحداحة، قالت: لبيك، قال: قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشترطت مثليها في الجنة وأم الدحداحة معي والصبية معي، قالت: بارك الله لك فيما اشتريت. ثم خرجوا منها ودفعوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى قد قبل منك، فأعطه اليتيمين اللذين في حجرك ". وقال: صلى الله عليه وسلم: " كم من نخل مدل عروقها في الجنة لأبي الدحداحة " ".
وعن أبي زيد بن أسلم قال:
" لما نزل قوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } الآية، قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟! قال: " نعم " ، يريد أن يدخلكم " الجنة " ، قال: فإني إن أقرضت ربي يضمن لي الجنة، قال: " نعم، من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة " ، قال: وزوجتي أم الدحداح معي؟ قال: " نعم " قال: وبنتي الدحداحة؟ قال: " نعم ". قال: والصبية معي؟ قال: " نعم ". قال: ناولني يدك، فناوله النبي صلى الله عليه وسلم يده المباركة، فقال: يا رسول الله، إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله ما أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا لله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعل إحداهما قرضا لله عز وجل، والأخرى لك ولعيالك " قال: إشهد يا رسول الله أني قد جعلت أحسنهما لله عز وجل، وهو حائط فيه ستمائة نخلة، قال: " إذن يجزيك به الله في الجنة ". قال: فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أم الدحداح وهي مع أولادها في الحديقة تدور تحت النخلة فأنشأ يقول:
* هداك ربي سبل الرشاد * إلى سبيل الخير والسداد *
* بيني من الحائط بالوداد * فقد مضى قرضا إلى التناد *
* أقرضته الله على اعتمادي * بالطوع لا من ولا نكاد *
* إلا رجاء الضعف في المعاد * فارتحلي بالنفس والأولاد *
* والبر لا شك فخير زاد * قدمه المرء إلى المعاد *
قالت أم الدحداح: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت. فأجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
* بشرك الله بخير وفرح * مثلك أدى ما لديه ونصح *
* إن لك الحظ إذ الحظ وضح * قد متع الله عيالي ومنح *
* بالعجوة السوداء والزهو البلح * والعبد يسعى وله ما قد كدح *
* طول الليالي وعليه ما اجترح *
ثم أقبلت أم الدحداح على أولادها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم وتطرح ما في ثيابهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم: " كم من عذق رداح ودار فياح في الجنة لأبي الدحداح " ".
قال أهل المعاني: في الآية اختصار وإضمار؛ تقديره: من ذا الذي يقرض عباد الله قرضا حسنا، وجاء في الحديث:
" إن الله تعالى يقول لعبده يوم القيامة: استطعمتك فلم تطعمني، واستسقيتك فلم تسقني، واستكسيتك فلم تكسني. فيقول العبد: وكيف ذلك يا سيدي! فيقول ربك: عبدي فلان الجائع وفلان العاري فلم يعد عليهم من فضلك، فلأمنعك اليوم فضلي كما منعتهم من فضلك ".
وقال يحيى بن معاذ: (عجبت لمن يبقي له مالا ورب العرش يستقرضه). وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رأيت على باب الجنة مكتوبا: القرض بثمانية عشر، والصدقة عشرة. فقلت: يا جبريل، ما بال القرض أكثر جزاء. قال: لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا محتاجا وربما وقعت الصدقة في غير أهلها "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أقرض أخاه المسلم، فله بكل درهم وزن ثبير وطور سيناء حسنات "
وهما جبلان.
[2.246]
وقوله عز وجل: { ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله }؛ أي ألم تعلم يا محمد بالملإ من بني إسرائيل. والملأ من القوم: أشرافهم ووجوههم يجتمعون للمشاورة. وجمعه الأملاء؛ واشتقاقه من ملأت الشيء؛ لا واحد له من لفظه كالإبل والخيل والجيش والقوم والرهط.
قوله تعالى: { من بعد موسى } أي من بعد وفاة موسى، وقوله: { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا } اختلفوا فيه من هو؟ قال قتادة: (هو يوشع بن نون بن افراتيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام). وقال السدي: (هو شمعون). وقد كان بعد يوشع، وإنما سمي سمعون لأن أمه دعت الله عز وجل أن يرزقها غلاما فاستجاب الله دعاءها، فولدت غلاما فسمته سمعون، وقالت: قد سمع الله دعائي، فلأجل ذلك سمته سمعون. والسين في لغة العبرانية شين، فهو بالعبرانية شمعون وبالعربية سمعون. وقال الكلبي ومقاتل وسائر المفسرين: (هو إشمويل بن هلقانا، وبالعربية يقال له: إسماعيل بن بالي وهو من نسل هارون عليه السلام).
وقال الكلبي: (وسبب مسألتهم إياه: أنه لما مات موسى عليه السلام خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله، ثم خلف فيهم حزقيل كذلك حتى قبضه الله، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث فنسوا عهد الله تعالى حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبيا فجعل يدعوهم إلى الله، ثم خلف بعد إلياس عليهم اليسع وكان فيهم ما شاء الله ثم قبضه الله؛ فعظمت فيهم الأحداث وكثرت فيهم الخطايا وظهر لهم عدو يقال له: البلساياء وهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل الروم بين مصر وفلسطين؛ وهم العمالقة. فظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من أراضيهم وسبوا كثيرا من ذراريهم، فضربوا عليهم الجزية ولقوا منهم بلاء شديدا. ولم يكن لهم نبي يدبر أمرهم، فكانوا يسألون الله تعالى أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا ولم يبق منهم إلا امرأة حبلى، فأخذوها وحبسوها في بيت خشية أن تلد أنثى فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته اشمويل أي إسماعيل. وكبر الغلام فتعلم التوراة في بيت المقدس وكفله شيخ منهم. فلما بلغ أن يبعثه الله نبيا أتى جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ، فدعاه: يا اشمويل، إذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله).
وإنما سألوا الملك لأنهم علموا أن كلمتهم لا تتفق وأمورهم لا تنتظم، ولا يحصل منهم الاجتماع على القتال إلا بملك يحملهم على ذلك ويجمع شملهم، فكان الملك هو الذي يجمع أمرهم والنبي يشير عليه ويرشده ويأتيه من ربه بالخبر.
فلما قالوا لاشمويل: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، قال لهم: لعلكم إذا بعث الله لكم ملكا وفرض عليكم القتال تجبنوا عن القتال فلا تقاتلوا!!
وإنما قال ذلك متعرفا ما عندهم من الحد وذلك قوله تعالى: { قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنآ ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا }؛ ومعناه: قال لهم نبيهم عسى ربكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك أن لا تفوا بما تقولون ولا تقاتلون معه، و { قالوا وما لنآ ألا نقاتل }؛ " قالوا: وأي شيء لنا " في ترك القتال في سبيل الله، وقيل معناه: وليس لنا أن نمتنع عن قتال عدونا في طلب مرضاة الله، { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا } أي وقد أخلونا من منازلنا وسبوا ذرارينا.
ومعنى الإخراج من الأبناء: أنه لما كان الإخراج من الديار يؤدي إلى مفارقة الأبناء قالوا: أخرجنا من ديارنا وأبنائنا. ويجوز أن يكون على وجه الاتباع كما يقال: متقلد سيفا ورمحا.
فإن قيل: ما وجه دخول (أن) في قوله { ألا نقاتل } والعرب ما تقول: ما لك أن لا تفعل كذا، وإنما يقولون: ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول (أن) وجد فيها لغتان فصيحتان. فدليل إثباتها قوله تعالى:
قال ما منعك ألا تسجد
[الأعراف: 12] و
ما لك ألا تكون مع الساجدين
[الحجر: 32]. ودليل حذفها قوله تعالى:
وما لكم لا تؤمنون بالله
[الحديد: 8].
واختلفوا في قراءة قوله تعالى: { ابعث لنا ملكا نقاتل } قرأ بعضهم (نقاتل) بالرفع على معنى فإنا نقاتل، وأكثرهم على (نقاتل) بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي: (يقاتل) بالياء والجزم؛ جعل الفعل للملك، كذلك قوله تعالى: { وقد أخرجنا من ديارنا } قرأ عمر (وقد أخرجنا) بفتح الهمزة والجيم؛ يعني العدو:
وقوله عز وجل: { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم }؛ فيه حذف؛ معناه: فبعث الله لهم ملكا وكتب عليهم القتال؛ { فلما كتب عليهم القتال }؛ أي لما فرض عليهم أعرضوا عنه وضيعوا أمر الله عز وجل إلا قليلا منهم، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا؛ هم الذين عبروا النهر، وسنذكرهم إن شاء الله في موضعهم.
قوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ أي عالم بالذين ظلموا أنفسهم بالمعصية وبعقوبتهم، وفي هذا تهديد لمن ولى عن القتال.
واختلفوا في قراءة (عسيتم) فقرأ نافع وطلحة والحسن: (عسيتم) بكسر السين في كل القرآن؛ وهي لغة. وقرأ الباقون بالفتح؛ وهي اللغة الفصيحة .
[2.247]
قوله تعالى: { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال }؛ وكان السبب فيه على ما ذكره المفسرون: أن اشمويل عليه السلام سأل الله تعالى أن يبعث لهم ملكا، فأتي بعصا وقرن فيه دهن، وقالوا له: إن صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، وقيل له: انظر إلى هذا القرن الذي فيه الدهن، فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن في القرن؛ فهو ملك بني إسرائيل فادهن به رأسه وملكه على بني إسرائيل. فقاسوا أنفسهم بالعصا؛ فلم يكن أحد منهم مثلها.
قال وهب: (وكان طالوت رجلا ديانا). وقال عكرمة والسدي: (كان يسقي على حمار له من النيل، فضل حماره؛ فخرج في طلبه). وقال بعضهم: ضلت حمولات لأبيه، فأرسله أبوه مع غلام له يطلبانها، فمرا ببيت اشمويل، فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن الحمولات ليرشدنا ويدعو لنا بخير. فقال طالوت: نفعل ذلك، فدخلا عليه، فبينما هما عنده إذ نش الدهن الذي في القرن فقام أشمويل وقاس طالوت بالعصا فكان على طوله، فقال لطالوت: قرب رأسك، فقربه، فدهنه بذلك الدهن، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم. فقال طالوت: أوما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال: بلى، قال: فبأي آية أكون أهلا لذلك؟ قال: بآية أنك ترجع إلى أبيك، وقد وجد أبوك حمولاته، فرجع فكان كذلك.
ثم قال أشمويل لبني إسرائيل: (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا فقالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه). وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان؛ سبط نبوة وسبط مملكة. وكان سبط النبوة لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة سبط يهودا بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان، ولم يكن طالوت من هؤلاء ولا من هؤلاء، وإنما هو من سبط بنيامين بن يعقوب، فمن أين يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه. ومع ذلك هو فقير لم يؤت سعة من المال ينفقه علينا كما يفعله الملوك.
{ قال } ، أشمويل: { إن الله اصطفاه عليكم }؛ أي اختاره عليكم للملك، { وزاده بسطة في العلم والجسم }؛ أي فضله عليكم بالعلم؛ وذلك أنه كان أعلمهم في وقته، فرفعه الله تعالى بعلمه. وقيل: كان عالما بأمر الحرب، وكان طويلا جسيما وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وإنما سمي طالوت لطوله وقوته، فأعلمهم الله تعالى أن العلم هو الذي يجب أن يقع به الاختيار، وأن الزيادة في الجسم مما يهيب به العدو.
وقوله تعالى: { والله يؤتي ملكه من يشآء }؛ أي يعطي ملكه من يشاء، وهو جل وعز لا يشاء إلا الحكمة والعدل، فلا تنكروا ملك طالوت مع كونه من غير أهل الملك، وأن الملك ليس بالوراثة وإنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء.
قوله تعالى: { والله واسع عليم }؛ أي يوسع على من يشاء ويعلم أين ينبغي أن يكون الملك والسعة، وإنما قال: { واسع } بمعنى موسع، كما يقال: أليم بمعنى مؤلم. وقيل: معناه واسع الفضل، إلا أنه حذف الفضل كما يقال: فلان كبير؛ أي كبير القدر. وأما طالوت وجالوت وداود، فاجتمع فيهم العجمة والتعريف؛ فلذلك لم ينصرف، فلو سميت رجلا باسم جاموس لا ينصرف وإن كان أعجميا؛ لأنه قد تمكن في العربية؛ لأنك تدخل عليها الألف واللام فتقول: الجاموس.
[2.248]
قوله عز وجل: { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة }؛ قال ابن عباس: (هذا جواب عن قولهم لنبيهم: والله ما نصدقك أن الله بعثه علينا، ولكنك أنت بعثته علينا ملكا مضارة لنا حين سألناك ملكا، وإلا فآتنا بآية أن الله قد بعثه علينا. فقال لهم: { إن آية ملكه } أي الدلالة على كون طالوت ملكا، أن يأتيكم التابوت الذي أخذه منكم عدوكم. وكان ذلك التابوت من عود الشمار الذي يتخذ منه الأمشاط المرصعة بالذهب عليه صفائح الذهب، وكانت السكينة في التابوت؛ وهي شبه دابة رأسها كرأس الهرة ولها ذنب كذنبها له رأسان، ووجه كوجه الإنسان ولها جناحان من زبرجد وياقوت، وكان فيها روح تكلمهم بالبيان فيما اختلفوا فيه، وكان لعينيها شعاع إذا نظرت إلى إنسان ذعر).
قال ابن عباس: (كانت بنو إسرائيل إذا حضر القتال قدموا التابوت بين أيديهم إلى العدو، فإذا أتت السكينة في التابوت وسمع من التابوت أنينها أقرب نحو العدو وهم يمضون معه أينما مضى، فإذا استقر ثبتوا خلفه، وكانت السكينة إذا صرخت في التابوت بصراخ هرة أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح، فلما عصت بنو إسرائيل الأنبياء صلوات الله عليهم، سلط الله عليهم عدوهم فقاتلهم وغلبهم على التابوت، ومضوا به إلى قرية من قرى فلسطين، وجعلوه في بيت صنم لهم، وجعلوا التابوت تحت الصنم، فأصبحوا من الغد والصنم تحته، وأصنامهم كلها أصبحت مكسرة، فأخرجوا التابوت من بيت الصنم، ووضعوه في ناحية من مدينتهم، فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتى هلك أكثرهم، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بنو إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوا التابوت إلى قرية أخرى، فبعث الله على أهل تلك القرية بلاء حتى كان الرجل منهم يبيت سالما ويصبح ميتا قد أكل ما في جوفه، فأخرجوه منها إلى الصحراء ودفنوه في مخراة لهم، فكان كل من تغوط هنالك منهم أخذه الباسور والقولنج، فتحيروا! فقالت لهم امرأة من بني إسرائيل كانت عندهم قد سبوها: اعلموا أنكم لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام التابوت فيكم فأخرجوه عنكم، فأتوا بعجل بإشارة تلك المرأة فحملوا عليها التابوت، ثم علقوها على ثورين ثم ضربوا جنوبها فأقبل الثوران يسيران، ووكل الله أربعة من الملائكة يسوقون الثورين، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان مقدسا، فأقبلا حتى وقعا على أرض بني إسرائيل فوضعوا التابوت في أرض بني إسرائيل، فلما رأى بنو إسرائيل التابوت كبروا وحمدوا الله وأطاعوا طالوت وأقروا بملكه، فذلك قوله: { تحمله الملائكة } أي تسوقه).
وقال ابن عباس: (جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته الملائكة عند طالوت).
وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش: (يحمله) بالياء. وعن علي رضي الله عنه: (أن السكينة كان ريحا هفافة لها وجه كوجه الإنسان).
وقوله تعالى: { وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } يعني أنه كان في التابوت أيضا رضاض الألواح لموسى وعصاه من آس وعمامة هارون وقفيزة من المن وهو الترنجبين الذي كان لبني إسرائيل في طست من ذهب. وقوله تعالى: { تحمله الملائكة } أي تسوقه الملائكة. وقال بعضهم: أرسل الله ريحا انتزعت التابوت من أيدي الكفار، ثم حملته الملائكة فألقته بين يدي طالوت.
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم }؛ أي إن في رجوع التابوت إليكم لعلامة أن الله ملك عليكم طالوت، { إن كنتم مؤمنين }؛ أي مصدقين بذلك.
[2.249]
قوله عز وجل: { فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر }؛ الآية، أي فلما خرج طالوت من البلد { بالجنود } يعني خرج بهم من بيت المقدس وهم سبعون ألف مقاتل؛ وقيل: ثمانون ألفا، ولم يختلف عنه إلا كبير لهرمه أو مريض لسقمه أو ضرير لضرره أو معذور لعذره. وذلك أنهم لما رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت وهو النصر لا شك فيه، فسارعوا إلى الجهاد، فخرج معه خلق كثير؛ فقال: لا حاجة لي في كل ما أرى، ولا أبتغي إلا كل شاب نشيط فارع، ولا يخرج معي صاحب تجارة ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوج امرأة لم يبن بها؛ لأنهم يكونون مشغولين. فاجتمع إليه ثمانون ألفا من شرطه. فخرج بهم في حر شديد، فأصابهم العطش؛ فسألوا الماء؛ فقال لهم طالوت: { إن الله مبتليكم بنهر } أي مختبركم بنهر جار؛ وهو نهر الأردن وفلسطين؛ ليرى طاعتكم وهو أعلم؛ { فمن شرب منه فليس مني }؛ أي فليس من أهل ديني وطاعتي، وليس معي على عدوي، { ومن لم يطعمه }؛ أي ومن لم يشربه، { فإنه مني }؛ ومعي على عدوي، وقد يطلق لفظ الطعم على الشرب، قال الله تعالى:
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا
[المائدة: 93].
قوله تعالى: { إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه }؛ قرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وابن كثير وشيبة ونافع وأبو عمرو وأيوب: (غرفة) بفتح الغين، وقرأ الباقون بضمها؛ وهي قراءة عثمان، وهما لغتان. قال الكسائي: (الغرفة بالضم: الذي يجعل في الكف من الماء إذا غرف. والغرفة بالفتح الاغتراف، فالضم اسم والفتح مصدر). وقال أبو حاتم: (الغرفة بالضم: ملئ الكف وملئ المغرفة، وبالفتح الواحدة من القليل والكثير). قال الكلبي ومقاتل: (كانت الغرفة ليشرب منها الرجل وخادمه ودابته).
قيل: ابتلاهم الله بذلك النهر ليميز الصادق من الكاذب، وكان أشمويل هو الذي أخبر طالوت بذلك؛ لأن الله تعالى:
فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول
[الجن: 26-27] فلا يجوز هذا القول إلا من نبي. قوله تعالى: { فشربوا منه } { إلا قليلا منهم }؛ نصب { قليلا } على الاستثناء. قرأ ابن مسعود: (إلا قليل) بالرفع، كقول الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمرو أبيك إلا الفرقدان
ومعنى الآية: أنه لما عرض لهم النهر وقد اشتد بهم العطش؛ وقعوا فيه فشربوا كلهم أكثر من غرفة إلا قليلا منهم؛ وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كعدة أهل بدر، قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأصحابه:
" أنتم على عدد أصحاب طالوت ".
قالوا: فمن اغترف غرفة قوي وصح إيمانه وعبر النهر سالما لكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وخادمه ودوابه.
وأما الذين أخذوا أكثر من ذلك وخالفوا اسودت شفاههم واشتدت عطشتهم فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ولم يشهدوا الفتح.
قوله تعالى: { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه }؛ يعني لما جاوز طالوت النهر هو والذين صدقوه وهم القليل الذين لم يشربوا إلا مقدار الغرفة، { قالوا }؛ أي قال الذين شربوا وخالفوا أمر الله وكانوا أهل شرك ونفاق: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }؛ وانصرفوا عن طالوت ولم يشهدوا قتال جالوت. قال بعض المفسرين: إن القوم كلهم جاوزوا النهر، ثم إن الذين خالفوا في الشرب من النهر اعتزلوا من المطيعين و { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده }.
قوله تعالى: { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }؛ معناه: قال الذين يوقنون ويعلمون أنهم ملاقو الله؛ وهم القليل الذين ثبتوا مع طالوت، { كم من فئة قليلة } أي كم من فرقة قليلة قهرت فرقة عدتها كثيرة بأمر الله ونصرته، وكانت فئة جالوت مائة ألف. والفئة جمع لا واحد له من لفظه.
قوله تعالى: { والله مع الصابرين }؛ أي معهم بالنصر والمعونة.
[2.250-251]
قوله تعالى: { ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا }؛ معناها: لما خرجوا واصطفوا لمحاربة جالوت وجنوده، قالوا: ربنا أصبب علينا الصبر صبا، { وثبت أقدامنا }؛ في أماكنها في الحرب بتقوية قلوبنا، { وانصرنا على القوم الكافرين }؛ أي أعنا على قوم جالوت بإلقاء الرعب في قلوبهم، { فهزموهم بإذن الله }؛ في هذا الحال؛ لأن ذكر الهزيمة بعد سؤال النصر يدل على إجابة الدعاء، كأن الله تعالى قال: فاستجاب الله دعاءهم فهزموهم.
قوله تعالى: { وقتل داود جالوت }؛ قال المفسرون: لما عبر طالوت ومن معه النهر، كان من جملة من عبر معهم أبو داود عليه السلام واسمه إيشا في ثلاثة عشر ابنا له وكان داود أصغرهم، ثم إن جالوت أرسل إلى طالوت: أن أرسل إلي من يقابلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته في ملككم. فشق ذلك على طالوت ونادى في عسكره: من قتل منك جالوت زوجته ابنتي وأعطيته نصف مملكتي، فلم يجب أحد منهم وهاب الناس جالوت، فسأل طالوت نبيهم أن يدعو الله، فدعا الله تعالى، فأتى بقرن فيه دهن فقيل له: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن، فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم، فلم يوافق ذلك منهم أحد، فأوحى الله إلى نبيهم أن في أولاد إيشا من يقتل جالوت، فدعا طالوت إيشا وقال له: اعرض علي أولادك، فأخرج له اثنا عشر رجلا أمثال الاسطوانات، وفيهم رجل فارع عليهم، فجعل يعرضهم على القرن، فلم ير شيئا، فلم يزل يردد القرن على ذلك الجسيم حتى أوحى إليه أنا لا نأخذ الرجال على قدر صورهم، بل على إصلاح قلوبهم، فقل لإيشا: هل لك ولد غيرهم؟ فقال: لا، فقال: رب إنه زعم أنه لا ولد له غيرهم، فقال: كذب. فقال له: إن ربك كذبك، فقال: صدق الله، إن لي ابنا صغيرا يقال له داود استحيت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فجعلته في الغنم يرعى وهو في شعب كذا، وكان داود عليه السلام قصيرا مشقا أزرقا، فخرج طالوت في طلبه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزريبة التي كان يريح إليها الغنم، فوجده يحمل شاتين يجوز بهما السيل ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم. فدعاه فوضع القرن على رأسه؛ ففاض، قال: هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك بابنتي وأعطيك نصف مملكتي، قال: نعم، قال له: فهل جربت نفسك في شيء، قال: نعم؛ وقع الذئب في غنمي فضربته ثم أخذت برأسه وجسده وقطعت رأسه من جسده، فقال له طالوت: إن الذئب ضعيف، فهل جربت نفسك في غيره، قال: نعم؛ دخل الأسد في غنمي؛ فضربته وأخذت بلحييه فشققتهما.
فمضى به طالوت إلى عسكره، فمر داود بثلاثة أحجار فقلن له: خذنا معك ففينا ميتة جالوت، فأخذهن ثم مضى. فلما تصافوا للقتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب إليه داود، فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فقال داود: إني لم أتعود القتال بهذا، ولكني أقاتله بالمقلاعة كما أريد، فأخذ داود المقلاعة ومضى نحو جالوت.
وكان جالوت من أشد الناس وأقواهم، وكان له بيضة هي ثلاثمائة رطل من حديد، فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه الرعب، وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام، قال: برزت إلي بالمقلاعة والحجر لتقتلني كما تقتل الكلب، قال: نعم، لأنك شر من الكلب. قال جالوت: لا جرم لأقسمن لحمك بين سباع الأرض وطيور السماء. فقال داود: بل يقسم الله لحمك، ثم قال داود: باسم إله إبراهيم، وأخرج حجرا ووضعه في مقلاعته، ثم أخرج الحجر الثاني وقال: باسم إله إسحق؛ ووضعه في مقلاعته، ثم أخرج الحجر الثالث، وقال: باسم إله يعقوب؛ ووضعه في مقلاعته، فصارت كلها حجرا واحدا ودور المقلاع ورمى به، فأصاب الحجر أنف البيضة وخلط دماغه وخرج من قفاه، وقتل من ورائه ثلاثين رجلا، وهزم الله الجيش وخر جالوت قتيلا.
فأخذه داود وجره حتى ألقاه بين يدي طالوت ثم قال له: أنجزني ما وعدتني وأعطني امرأتي، فقال له طالوت: أتريد ابنة الملك بغير صداق، قال: ما شرطت علي صداقا، وليس لي شيء. فزوجه ابنته، وأراد أن يدفع إليه نصف ملكه فقال له وزير: إن دفعت إليه ذلك نازعك في الملك وأفسد عليك ملكك، فامتنع طالوت من ذلك وقصد قتله، فهرب داود عليه السلام فندم طالوت فخرج في طلبه حتى أتى على امرأة من قدماء بني إسرائيل وهو يبكي على داود، فضرب بابها؛ فقالت: من هذا؟ قال: أنا طالوت، قالت: أنت أشقى الناس؛ طردت داود وقد قتل جالوت وهزم جنوده، قال: إنما أتيتك لأسألك ما توبتي؟ قالت: توبتك أن تأتي مدينة كذا وتقاتل أهلها، فإن فتحتها فهي توبتك، وإن قتلت فهي عقوبتك.
فانطلق طالوت إلى تلك المدينة فقاتل أهلها حتى قتل. فاجمع بنو إسرائيل فملكوا داود عليه السلام من بعده. فذلك قوله تعالى: { وآتاه الله الملك والحكمة }؛ أي جمع له بين الملك والنبوة. والحكمة هي النبوة، ولم يجتمع كلاهما لأحد إلا لداود وسليمان عليهم السلام. قوله عز وجل: { وعلمه مما يشآء }؛ أي علمه الدروع ومنطق الطير وغير ذلك من العلوم، { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }؛ أي ولولا دفع الله بأس المشركين بالغزاة والمجاهدين كما دفع بداود شر جالوت لفسدت الأرض بأهلها لغلبة الكفار. وقيل: معناه: لولا الأنبياء صلوات الله عليهم الداعون إلى سبيله الناهون عن الفساد؛ لفسدت أحوال الناس.
روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يقول الله تعالى: لولا رجال ركع؛ وصبيان رضع وبهائم رتع؛ لصب عليكم العذاب صبا "
وقال الحسن: (يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن، ولولا السلاطين والأمراء المسلطون على العيارين والدعارة لخرجوا على أهل الصلاح فاستولوا عليهم).
قوله تعالى: { ولولا دفع الله } من قرأ (دفاع) فهو من قولهم: دافع مدافعة ودفاعا؛ والدفع: الصرف. { ولكن الله ذو فضل على العالمين }؛ ذو من عليهم يدفع المفسدين عن المصلحين.
[2.252]
قوله عز وجل: { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق }؛ أي القرآن بما فيه من الأخبار الماضية آيات الله بتنزيل جبريل عليه السلام بها عليك لبيان الحق من الباطل، { وإنك لمن المرسلين }؛ لأنك أخبرت بهذه الآيات مع أنك لم تشاهدها ولم تخالط أهلها. وقيل في معنى هذه الآيات: إماتة الله الألوف دفعة واحدة وإحياؤهم دفعة واحدة وإعطاؤه الملك طالوت وهو من أهل الحمول الذي لا ينقاد له الناس، ونصر أصحاب طالوت مع قلة عددهم وضعفهم على جالوت وأصحابه مع شوكتهم وكثرتهم دلاله على قدرته وعلى نبوة أنبيائه صلوات الله عليهم. وقوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين } لأنك قد أعطيت من الآيات مثل ما أعطي الأنبياء صلوات الله عليهم وزيادة.
[2.253]
قوله عز وجل: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات }؛ معناه: إن الذي نزلنا عليك خبرهم في القرآن هم الرسل لم يكونوا في الفضل متساوين، ولكن { فضلنا بعضهم على بعض } في الدنيا والعقبى. ثم فسر فضيلة كل واحد منهم فقال: { منهم من كلم الله } وهو موسى عليه السلام كلمه الله من غير سفير، { ورفع بعضهم } فوق بعض { درجات }؛ أي اتخذ الله إبراهيم خليلا، وسخر لسليمان الريح والجن والشياطين وعلمه منطق الطير. وقال مجاهد: (وأراد بهذه الآية فضيلة محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء صلوات الله عليهم كما قال تعالى:
ورفعنا لك ذكرك
[الشرح: 4]. وقيل: هو إدريس كما قال تعالى:
ورفعناه مكانا عليا
[مريم: 57].
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس }؛ أي أعطيناه الدلالات على إثبات نبوته من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإنباء بما غاب عنه، { وأيدناه بروح القدس } أي قويناه وأعناه بجبريل الطاهر حين أرادوا قتله حتى رفعه الله إلى السماء. وقال الحسن: (الروح جبريل، والقدس هو الله تعالى؛ فيصير تقدير الآية: وقويناه بروح الله تعالى). وعن ابن عباس أنه قال: (القدس اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يحيي الموتى).
قوله تعالى: { ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }؛ أي لو شاء الله لم يقتتل الذين من بعد الرسل من بعد ما وضحت لهم الحجج والدلائل كما قال تعالى:
ولو شآء الله لجمعهم على الهدى
[الأنعام: 35]. وقيل: معناه: ولو شاء الله لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان وتمنعهم عن الكفر كما قال تعالى:
إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين
[الشعراء: 4].
وقوله تعالى: { ولكن اختلفوا } أي شاء اختلافهم فاختلفوا. ويقال: لم يلجئهم إلى الإيمان؛ لأن التكليف لا يحسن مع الضرورة، والجزاء لا يحسن إلا مع التلجئة. قوله تعالى: { ومنهم من كفر } أي بالكتب والرسل.
قوله تعالى: { ولو شآء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد }؛ أي ولو شاء الله لم يقتتلوا مع اختلافهم بأن يأمر المؤمنين بالكف عن القتال، وبأن يلجئهم جميعا إلى ترك القتال، { ولكن الله يفعل ما يريد } من تقدير الاتفاق والاختلاف وغير ذلك من ما توجبه الحكمة.
[2.254]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقنكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }؛ حث على الانفاق في الجهاد في سبيل الله. وقيل: هو الأمر بالزكاة المفروضة. وقوله تعالى: { من قبل أن يأتي يوم } يعني يوم القيامة { لا بيع فيه } أي ليس فيه فداء { ولا خلة } أي ليس فيه خلة لغير المؤمنين. وأما المؤمنون فتكون لهم خلة كما قال تعالى:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
[الزخرف: 67]. قوله تعالى: { ولا شفاعة } أي لغير المؤمنين، وأما المؤمنون فيشفع بعضهم لبعض ويشفع لهم الأنبياء والرسل عليهم السلام.
قوله تعالى: { والكفرون هم الظلمون }؛ أي هم الذين ظلموا أنفسهم حتى لا خلة لهم ولا شفاعة. وكان عطاء يقول: (الحمد لله الذي لم يقل: والظالمون هم الكافرون؛ لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافرا).
[2.255]
قوله عز وجل: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم }؛ ذكر وحدانية الله تعالى وصفته؛ ليعلم أن من كان بهذه الصفة لا يخفى عليه كفر من كفر ومعصية من عصى؛ فيجازي كل عابد على ما عمل. فأول هذه الآية نفي معبود الكفار وإثبات معبود المؤمنين؛ وإثبات الشيء مع نفي غيره أبلغ في الإثبات، كأنه قال: { الله لا إله إلا هو } دون غيره، وهو المعبود لا معبود للخلق سواه.
ومعنى { الحي القيوم } الدائم الذي لا يموت موصوف بالبقاء على الأبد، وبه حيى كل حي. وأما القيوم فهو القائم بتدبير الخلق في شأنهم وأرزاقهم وأعمالهم وآجالهم ومجازاتهم على عملهم، وقيل: معنى القيوم العالم بالأمور من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب؛ أي يحسنه ويعلم ما فيه. وقيل: معنى { الحي القيوم } الدائم الذي لا يزول.
قوله عز وجل: { لا تأخذه سنة ولا نوم }؛ أي لا يأخذه نعاس ولا نوم. والنعاس: اسم لأول ما يدخل في الرأس من النوم قبل وصوله إلى القلب. والنوم هو الذي يصل إلى القلب فيستثقل. ومعنى الآية: لا يغفل عن تدبير الخلق، فإن قيل: ما معنى نفي النوم بعد نفي النعاس؟ قلنا: مثل هذا اللفظ إنما يكون لنفي قليل النوم وكثيره، ونظيره قول العرب: فلان لا يملك قليلا ولا كثيرا.
قوله تعالى: { له ما في السموت وما في الأرض }؛ أي هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كلهم عبيده وإماؤه وتحت قبضته وقدرته.
قوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه }؛ هذا جواب عن قول المشركين في أصنامهم:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله
[يونس: 18] و
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر: 3]؛ أي لا يشفع أحد لأحد عند الله إلا بأمره ورضائه، كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض بالدعاء، وكما يشفع الأنبياء للمؤمنين.
قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ أي { يعلم ما بين أيديهم } من أمر الآخرة، { وما خلفهم } من أمر الدنيا. قال مجاهد: على العكس من هذا. وقيل: يعلم الغيب الذي تقدمهم والذي يكون بعدهم.
قوله تعالى: { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء }؛ أي لا يعلمون الغيب لا مما تقدمهم ولا مما يكون بعدهم إلا بما شاء الله أن يعلموه، وهو ما أنبأ به الأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله تعالى: { وسع كرسيه السموت والأرض }؛ قال ابن عباس: (كرسيه: علمه)، فلا يخفى عليه شيء مما في السماوات والأرض. وقيل: وسعت قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض. وقال الحسن: (الكرسي: هو العرش)، ويقال: هو سرير دون العرش، ويقال: هو مكان خلق الله فيه السموات والأرض. وقال عطاء والكلبي ومقاتل: (السماوات السبع والأرضون السبع تحت الكرسي في الصغر كحلقة في فلاة)
وقال الكلبي: (يحمل العرش أربعة أملاك، لكل ملك أربعة أوجه؛ وجه إنسان، ووجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر.
أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرضين بمسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء).
قوله عز وجل: { ولا يؤوده حفظهما }؛ أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض، وقوله تعالى: { وهو العلي العظيم }؛ أي العلي عن الأشباه والأمثال وصفات المحدثين، عظيم الشأن والسلطان والبرهان.
روى محمد بن الحنفية قال: (لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في دار الدنيا؛ وخر كل ملك في الدنيا على وجهه؛ وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين وضرب بعضهم على بعض حتى اجتمعوا إلى إبليس فأخبروه بذلك، فأمرهم أن يبحثوا؛ فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي نزلت).
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة؛ أعطاه الله قلوب الشاكرين وأعمال الصديقين وثواب النبيين، وبسط على يمينه بالرحمة، ولم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت فيدخلها، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه أمنه الله وجاره وجار جاره والدويرات حوله ".
[2.256]
قوله عز وجل: { لا إكراه في الدين }؛ الآية، اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال؛ قال السدي والضحاك: (إن هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين ، كما قال تعالى:
ادفع بالتي هي أحسن
[فصلت: 34]، وكان القتال غير مباح في أول الإسلام إلى أن قامت عليهم الحجة الصحيحة بصحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عاندوا بعد البيان أمر الله المسلمين بقتالهم لقوله تعالى:
فاقتلوا المشركين
[التوبة: 5] وغير ذلك من آيات القتال).
وقال الحسن وقتادة: (إن هذه الآية خاصة في أهل الكتاب أن لا يكرهوا على الإسلام بعد أن يؤدوا الجزية، وأما مشركو العرب فلا يقرون بالجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف).
والقول الثالث: أن معناه: من دخل في الإسلام بمحاربة المسلمين ثم رضي بعد الحرب فليس بمكره؛ أي لا يقولوا لهم: إنما أسلمتم كرها؛ فلا إسلام لكم.
ومعنى الآية: { لا إكراه } في الإسلام؛ أي لا تكرهوا على الإسلام، { قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله }؛ أي قد وضح الطريق المستقيم من الطريق الذي ليس بمستقيم بما أعطاه الله أنبيائه من المعجزات، فلا تكرهوا على { الدين }. ودخول الألف واللام في (الدين) لتعريف المعهود.
قوله تعالى: { فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها }؛ أي فمن يكفر بما أمر الله أن يكفر به، ويصدق بالله وبما أمر به، فقد عقد لنفسه من الدين عقدا وثيقا لا تحله حجة من الحجج لا انقطاع لها بالشبهة والشكوك. قوله تعالى: { والله سميع عليم }؛ أي سميع لما يعقده الإنسان في أمر الدين، عالم بنيته في ذلك.
والغي: نقيض الرشد. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، والطاغوت اسم للأصنام والشياطين وكل ما يعبد من دون الله تعالى.
[2.257]
قوله عز وجل: { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }؛ معناه: الله ولي المؤمنين في نصرهم وإظهارهم وهدايتهم في إقامة الحجة في دينهم، ومتولي خزانتهم على حسن عملهم، يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى.
وقوله تعالى: { والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }؛ معناه: والذين جحدوا توحيد الله أولياؤهم الذين يتولونهم الطاغوت.
ومعنى: { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } ، ولم يكن لهم نور؛ قيل: أراد به اليهود والنصارى الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام؛ خرجوا من التوحيد الذي كانوا فيه إلى الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
[2.258]
وقوله عز وجل: { ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك }؛ أي ألم تعلم يا محمد بالذي جادل إبراهيم في ربه؛ أي هل رأيت كالذي { حآج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك } أي بأن أعطاه الله الملك وأعجب بملكه وسلطانه وهو نمرود بن كنعان أول من تجبر في الأرض بادعاء الربوبية فخاصم إبراهيم في توحيده. وقيل: إن الهاء في قوله { آتاه } راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، و { الملك } هو النبوة ووجوب طاعته على الناس.
قوله تعالى: { إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت }؛ وذلك أن نمرود قال لإبراهيم: من ربك؟ قال: { إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } عند انقضاء الأجل. ف { قال }؛ نمرود: { أنا أحيي وأميت } قال إبراهيم: ائتني ببيان ذلك؟ فأتى برجلين من سجنه وجب عليهما القتل؛ فقتل أحدهما وترك الآخر. فقال: هذا قد أحييته، وهذا قد أمته. { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر }؛ أي تحير وانقطع بما ظهر عليه من الحجة، { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ أي لا يرشد المشركين إلى دينه وحجته.
فإن قيل: لم لم يثبت إبراهيم على الحجة الأولى؛ والانتقال من الحجة إلى حجة أخرى في المناظرة غير محمود؟ قيل: عنه أجوبة:
أحدها: أن إبراهيم كان داعيا ولم يكن مناظرا، فمى كان يراه أقرب إلى الهداية أخذ به.
والثاني: أنه روي أنه قال لنمرود: إنك أمت الحي ولم تحيي الميت، والانتقال بعد الإلزام محمود.
والثالث: أن نمرود كان عالما أن ما ذكره ليس بمعارضة وكان من حوله من أصحابه يوقنون بكذبه في قوله: { أنا أحيي وأميت } لكن أراد التمويه على أغمار قومه كما قال فرعون للسحرة حين آمنوا: أن هذا المكر مكرتموه في المدينة، كذلك فعل نمرود بقوله: { أنا أحيي وأميت }. فترك إبراهيم إطالة الكلام، وعدل إلى حجة مسكتة لا يمكنه التمويه فيها.
فإن قيل: فهلا قال نمرود لإبراهيم: إن مجيء الشمس هو العادة؟ فقل لربك حتى يأتي بها من المغرب! قيل: علم لما رأى من المعجزات التي ظهرت أنه لو سأله ذلك لأتى به. فكان يزداد فضيحة عند الناس. وقيل: خذله عن هذا القول، فلم يوفق للسؤال.
قوله تعالى: { فبهت الذي كفر } البهت في اللغة: هي مواجهة الرجل بالكذب عليه؛ يقال: بهت يبهت بهتانا، وباهت يباهت مباهتة. وفي الحديث:
" إن اليهود قوم بهت "
أي كذبة. والبهت الحيرة عند انقطاع الحجة أيضا. وفيه لغات: بهت وبهت وبهت، وأجودها بهت بضم الباء.
[2.259]
قوله عز وجل: { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها }؛ عطف هذه الآية على معنى الكلام الأول لا على اللفظ، كأنه قال: أرأيت كالذي
حآج إبراهيم في ربه
[البقررة: 258] { أو كالذي مر على قرية }.
قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عزير بن شريحيا، وكان من علماء بني إسرائيل، سباه بختنصر من بيت المقدس إلى أرض بابل حين سلطه الله عليه فخرب بيت المقدس، فخرج عزير في أرض بابل ذات يوم على حمار، فمر بدير هرقل على شاطئ دجلة، فطاف بالقرية فلم ير بها ساكنا وعامة شجرها حامل، فجعل يتعجب من خراب القرية وموت أهلها وكثرة حملها وهي ساقطة على سقوفها. وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان، ثم تقع الحيطان عليه، فأخذ شيئا من التين والعنب، وعصر العنب فشرب منه، ثم جعل فضل التين في سلة وفضل العنب في الأخرى وفضل العصير في الزق، ثم نظر إلى القرية ف { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها }؛ أي كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها وموت أهلها!؟
لم يكن هذا القول منه إنكارا للبعث، لكن أحب أن يرى كيف يحيي الله الموتى فيزداد بصيرة في إيمانه، فنام في ذلك الدير؛ { فأماته الله } في منامه؛ { مئة عام }؛ وأعمى عنه السباع والطير، ثم أحياه فنودي: يا عزير: { كم لبثت }؟ وكان أميت في صدر النهار، { ثم بعثه }؛ بعد مائة سنة في آخر النهار، فظن أن مقدار لبثه يوم، { قال كم لبثت }؟ ف { قال لبثت يوما } ، فلما نظر إلى الشمس قد بقي منها شيء، فقال: { أو بعض يوم }؛ فنودي؟. { قال بل لبثت مئة عام }؛ ميتا، { فانظر إلى طعامك } ، من التين والعنب، { وشرابك } ، العصير، { لم يتسنه }؛ أي لم يتغير طعمها بعد مائة عام ولم تغيرها السنون؛ فنظر فإذا بالعنب والتين كما شاهده وبالعصير طريا.
ثم قيل له: { وانظر إلى حمارك }؛ فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح قد تفرقت أوصاله، فسمع صوتا: (أيتها العظام البالية إني جاعل فيكن روحا فاجتمعن) فارتهشت العظام وسعى بعضها إلى بعض، قال: فرأيت الصلب يسعى كل فقرة منها إلى صاحبتها، ثم رأيت الوركين يسعيان إلى مكانهما؛ والساقين إلى مكانهما؛ والعطفين إلى مكانهما، ثم رأيت كل الأضلاع يسعى كل واحد منهم إلى فقرته، ثم رأيت الكعبين سعيا إلى مكانهما؛ والذراعين إلى مكانهما، ثم رأيت العنق يسعى كل فقرة منه إلى صاحبتها، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم رأيت العصب والعروق واللحم ألقي عليه، ثم بسط عليه الجلد، ثم دري عليه الشعر، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق. فخر عزير ساجدا لله تعالى؛ وقال عند ذلك: { أعلم أن الله على كل شيء قدير }.
قال ذلك حين تبين له من كمال القدرة البلاء في حماره؛ والموت في نفسه؛ والبقاء في العنب والعصير اللذين هما من أسرع الأشياء فسادا أو تغيرا، ثم مشاهدة البعث بعد الموت.
قال ابن عباس: (وبعث وهو شاب ابن أربعين سنة على السن الذي أميت عليها، وكان ابنه في ذلك الوقت ابن عشرين سنة، فصار لابنه مائة وعشرون سنة، ولعزير أربعين سنة على السن التي أميت عليها، فذلك قوله تعالى: { ولنجعلك آية للناس }؛ ثم إنه رجع إلى بني إسرائيل وهو يقرأ التوراة كلها عن ظهر قلبه، فأملاها عليهم لم يخرم منها حرفا واحدا، وكانت التوراة قد ذهبت عنهم، فجاءهم رجل من بني إسرائيل فانتسب لهم فعرفوه، قال: أخبرني جدي أنه قال: دفنت التوراة يوم سبينا في خابئة كرمي، فأروه كرم جده فأخرج التوراة فعارضوها بما أملاها عزير فما اختلافا في حرف واحد، فتعجبوا من كثرة علمه وحداثة سنه، فقال بعضهم: عزير ابن الله).
وقال الحسن وقتادة والربيع: (إن القرية المذكورة في هذه الآية هي بيت المقدس بعدما خربه بختنصر). وكان وهب بن منبه يقول: (كان المار بهذه القرية أرميا النبي عليه السلام).
وقيل: معنى { خاوية } أي خالية لا أنيس فيها، يقال: خوت الدار إذا خلت، وخوي البطن إذا جاع. وسمي السقف عرشا لارتفاعه عن أرضه، ويسمى السرير عرشا لارتفاعه عن الأرض.
قوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } ، { ننشزها } من قرأ بالراء المهملة فمعناه يحيها من النشر؛ يقال: أنشره الله إذا أحياه، ومنه قوله تعالى:
ثم إذا شآء أنشره
[عبس: 22]. ومن قرأ (ننشزها) بالزاء المعجمة فمعناه يرفعها ويعلي بعضها على بعض من النشز وهو المكان المرتفع، ومنه نشوز المرأة على زوجها: ترفعها عن طاعته.
قوله تعالى: { فلما تبين له قال أعلم أن الله }؛ من قرأ (أعلم) بقطع الألف؛ أي قال عزير: علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبا. ومن قرأ (أعلم) بالوصل فمعناه قال لنفسه: { أعلم أن الله } { على كل شيء قدير }.
[2.260]
قوله عز وجل: { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي }؛ تقدير الآية: ألم تر إذ قال إبراهيم؛ ويقال: واذكر إذ قال إبراهيم. قال ابن عباس: ((سبب هذه القصة: أن إبراهيم عليه السلام مر بجيفة على ساحل البحر، تنقض عليها طيور السماء فتأخذ منها بأفواهها فتأكله، ويسقط من أفواهها في البحر فيأكل منه الحيتان، وتجيء السباع فتأخذ منه عضوا. فوقف متعجبا!! وقال: { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن } أي أولم تصدق بأني أحيي الموتى؟ { قال بلى } عرفت، ولكن أحببت أن أعلم كيف تحيي هذه النفس التي أرى بعضها في بطون السباع؛ وبعضها في بطون الحيتان؛ وبعضها في حواصل الطير. فذلك قوله تعالى: { ولكن ليطمئن قلبي } ). وقيل: معنى { ولكن ليطمئن قلبي } أي ليسكن قلبي أنك أعطيتني ما سألتك. وقيل: إنك اتخذتني خليلا.
{ قال }؛ الله تعالى: { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا }؛ وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما مر بالجيفة وقد توزعتها الطيور والسباع والحيتان، تعجب وقال: يا رب قد علمت بأنك تجمعها من بطون السباع وحواصل الطير وبطون الحيتان، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك فأزداد يقينا؟ قال الله تعالى له: { أولم تؤمن قال بلى } يا رب آمنت وليس الخبر كالمعاينة والمشاهدة.
وقال ابن زيد: (مر إبراهيم عليه السلام بحوت ميت نصفه في البحر ونصفه في البر، فما كان في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان في البر فدواب البر تأكله، فقال إبليس لعنة الله عليه: يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟! فقال: { رب أرني كيف تحيي الموتى * قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } بذهاب وسوسة الشيطان ويصير الشيطان خاسئا صاغرا).
وروي أن نمرود قال لإبراهيم: أنت تزعم أن ربك يحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته، فقل له يحيي الموتى إن كان قادرا، وإلا أقتلك. فقال إبراهيم: { رب أرني كيف تحي الموتى * قال أولم تؤمن } بأني أحييهم، ف { قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } بقوة حجتي ونجاتي من القتل، فإن عدو الله توعدني بالقتل إن لم تحيي له ميتا.
وقال ابن عباس وابن جبير والسدي: (لما اتخذ الله إبراهيم خليلا، سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له، فأتى إلى إبراهيم وقال: يا إبراهيم، جئت أبشرك بأن الله اتخذك خليلا، فحمد الله تعالى؛ وقال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك. ثم انطلق ملك الموت، فقال إبراهيم: { رب أرني كيف تحيي الموتى * قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } أي ليعلم أنك تجيبني إذا دعوتك.
وتعطيني إذا سألتك وإنك اتخذتني خليلا).
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يرحم الله إبراهيم عليه السلام نحن أحق بالشك منه "
يعني إنما شك إبراهيم أيجيبه ربه إلى ما سأل أم لا؟
قوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير } مختلفة أجناسها وطباعها ليكون أبلغ في القدرة، وخص الطير من سائر الحيوان لخاصية الطيران. واختلفوا في تلك الأربعة من الطيور؛ فقال ابن عباس: (أخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا). وقال مجاهد وابن جريج: (أخذ غرابا وديكا وطاووسا وحمامة). وعن أبي هريرة: (أنه أخذ الطاووس والديك والغرنوق والحمامة). وقال عطاء: (أخذ قطاة خضرا وغرابا أسودا وحمامة بيضاء وديكا أحمر).
قوله تعالى: { فصرهن إليك } قرأ علي رضي الله عنه وأبو الأسود والحسن وعكرمة والأعرج وشيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم والكسائي وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: (فصرهن) بضم الصاد، معناه: أملهن إليك. يقال: صرت الشيء أصوره؛ أي أملته. ويقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق. ويقال: إني إليكم لأصور؛ أي لمائل مشتاق، وامرأة صوراء أي مشتاقة مائلة. قال الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا
يوم الفراق إلى جيراننا صور
وقال عطاء والمورج وعطية: (معنى { فصرهن } أي اجمعهن واضممهن إليك). يقال: صار يصور صورا إذا جمع. قال أبو عبيد وابن الأنباري: (معنى { فصرهن } أي قطعهن ومزقهن، يقال: صار يصير صيرا إذا قطع؛ وانصار الشيء ينصار انصيارا إذا انقطع). وأنشد بعضهم بيتا في اللغز:
وغلام رأيته صار كلبا
ثم في ساعتين صار غزالا
أي قطع.
وقرأ علقمة وسعيد بن جبير وقتادة ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف: (فصرهن) بكسر الصاد، معناه قطعهن. قال أبو العباس السراج: (هما لغتان للعرب). وعن ابن عباس روايتان؛ إحداهما: (فصرهن) مفتوحة الصاد مشددة الراء مكسورة من التصرية وهي الجمع ومنه المصراة. والأخرى: (فصرهن) بضم الصاد وفتح الراء والتشديد من الصر وهي في معنى الجمع.
فمن تأوله على القطع والتمزيق ففيه تقديم وتأخير، تقديره: فخذ أربعة من الطير إليك، فصرهن. ومن تأوله على الضم والإمالة؛ ففيه إضمار معناه: فصرهن إليك ثم قطعهن، فحذفه واكتفى بقوله: { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } لأنه يدل عليه، وهذا كما قال: خذ هذا الثوب واجعل منه على كل رمح علما.
قوله تعالى: { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } لفظه عام ومعناه خاص؛ لأن { أربعة من الطير } لا تبلغ الجبال كلها، ولا كان إبراهيم يصل إلى ذلك، وهذا كقوله تعالى:
وأوتيت من كل شيء
[النمل: 23] وقوله:
تدمر كل شيء
[الأحقاف: 25]. وقوله: { جزءا } قرئ برفع الزاء مثقل بالهمزة مخففا وهي لغات.
وقال المفسرون: أمر الله إبراهيم أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض، ففعل إبراهيم ذلك، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال.
واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، فقال ابن عباس وقتادة والربيع: (أمر أن يجعل كل طائر أربعة أجزاء ثم يعمد إلى أربعة أجبل، فيجعل على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يدعوهن: تعالين بإذن الله). وهذا مثل ضربه الله لإبراهيم وأراه إياه، يقول: كما بعثت الطيور من هذه الجبال الأربعة يبعث الناس يوم القيامة من بقاع الأرض ونواحيها.
وقال ابن جريج والسدي: (جزأها سبعة أجزاء ووضعها على سبعة أجبال، وأمسك رؤوسهن عنده ثم دعاهن: تعالين بإذن الله، فجعل الريش كل ريشة تطير إلى الأخرى، وكل قطرة من الدم تطير إلى الأخرى، وكل عظم يطير إلى الآخر، وكل قطعة تطير إلى الأخرى، وإبراهيم ينظر حتى التقت كل جثة بعضها إلى بعض حتى سواهن الله تعالى. ثم جئن يسعين على أرجلهن بغير رؤوس، فعلق عليهن إبراهيم رؤوسهن).
واختلفوا في معنى السعي؛ قال بعضهم: هو الإسراع في المشي. وقال بعضهم: مشيا على أرجلهن. والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبلغ في الحجة وأبعد من الشبهة؛ لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطيور، أو أن أرجلها غير سليمة.
قال أبو الحسن الأقطع: (صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لكل آية ظهر وبطن "
فظاهر هذه الآية ما ذكره المفسرون، وباطنها أن إبراهيم أمر بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكين اليأس كما ذبح في الظاهر الأربعة الطيور بسكين الحديد، فالنسر مثل لطول العمر والأمل؛ والطاووس زينة الدنيا وبهجتها، والغراب الحرص؛ والديك الشهوة).
قوله تعالى: { واعلم أن الله عزيز حكيم }؛ أي غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريد؛ { حكيم } فيما يريد لا يفعل إلا ما فيه حكمة، قال بعضهم: كانت هذه القصة قبل أن يولد لإبراهيم ولد؛ وقبل أن تنزل عليه الصحف، وكان يومئذ ابن خمس وتسعين سنة.
[2.261]
قوله عز وجل: { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة }؛ وجه اتصال هذه الآية بما قبلها آية أخرى فيما تقدم ذكر النفقة في الجهاد بقوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة: 245]، ثم ذكر ما كان من مسألة قوم أشمويل من الله أن يبعث له ملكا يقاتلون معه أعداءهم، وكانت الغلبة لهم مع قلة عددهم، ثم عقبه الله تعالى بذكر أمور تدل على واحدانيته، فبين أن الكفر بعد هذه الآيات أعظم وأشنع، فمن كفر بعد هذا فقاتلوه وأنفقوا في القتال، فإن النفقة في القتال تكون بسبعمائة.
وعن ابن عباس: (نزلت هذه الآية والتي بعدها في شأن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما. أما عثمان فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال: علي جهاز من لا جهاز له، وأشتري بئر رومة وأجعلها سبيلا للمسلمين. وأما عبدالرحمن فكان له ثمانية آلاف، فجاء بأربعة آلاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ثمانية آلاف؛ أمسكت نصفها لنفسي ولعيالي؛ وأقرضت نصفها لربي وهي هذه. فقال صلى الله عليه وسلم:
" بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت "
وأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضت منه).
ومعنى الآية: صفة { الذين ينفقون أموالهم في } طاعة الله كصفة { حبة } ألقيت في الأرض وأخرجت { سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة } أي كما تكون الحبة واحدة والمكتسب منها سبعمائة، فكذلك النفقة تكون واحدة والمكتسب بها سبعمائة ضعف.
قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشآء }؛ أي كما يضاعف الله في زرع الزراع الحادث من البذر الجيد في الأرض العامرة، كذلك يضاعف للمرء الصالح ثواب صدقته بالمال الطيب إذا وضعه في موضعه. يضاعف لمن يشاء من السبع إلى السبعين إلى سبعمائة إلى مائة ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف مما لا يعلمه إلا هو.
قوله تعالى: { والله واسع عليم }؛ أي غني بتلك الأضعاف { عليم } بمن ينفق. وقيل: معناه: { والله واسع } الفضل، جواد لا ينقصه ما يتفضل به من السعة والمضاعفة؛ { عليم } بمن يستحق الزيادة.
والفائدة في تخصيص السبع في الآية ما قالوا: إن السبع أشرف الأعداد كما روي عن ابن عباس أنه قال: (كادت الأشياء تكون كلها سبعا؛ فإن السماوات سبع؛ والأرضون سبع؛ والكواكب السيارة سبع؛ والبحار سبعة؛ وأيام الأسبوع سبعة؛ وسجود العبد على سبعة أعضاء).
وأجمع أهل التفسير إلا السدي: أن العدة المضاعفة بسبعمائة مختصة بالإنفاق في الجهاد؛ وأما غير ذلك من الطاعات؛ فالحسنة بعشر أمثالها كما قال الله تعالى:
من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها
[الأنعام: 160].
[2.262]
قوله عز وجل: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى }؛ نزلت في شأن النفقة التي يستحق بها الثواب المضاعف؛ معناه: { الذين ينفقون أموالهم في } طاعة الله { ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا } على السائل نحو أن يقول للسائل إذا وقع بينه وبينه خصومة: أعطيتك كذا، وأحسنت إليك، وما أشبهه مما يبغض على السائل. وأصله من القطع؛ يقال: مننت الشيء إذا قطعته؛ ومنه قوله تعالى:
فلهم أجر غير ممنون
[التين: 6] أي غير مقطوع، ويقال: جبل منين؛ أي مقطوع. وقيل: أصل المنة النعمة، يقال: من (يمن) إذا أعطى وأنعم، قال الله تعالى:
هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك
[ص: 39] أي أعط أو أمسك.
وقال الكلبي: (نزلت هذه الآية في عثمان وعبدالرحمن بن عوف، أما عثمان رضي الله عنه فجهز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحمالها).
" وروي أن عثمان جاء بألف مثقال في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يدخل يده فيها ويقلبها ويقول: " ما يضر عثمان ماذا عمل بعد اليوم ". وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: " يا رب، عثمان رضيت عنه فارض عنه " فما زال يدعو رافعا يديه حتى طلع الفجر "
، فأنزل الله هذه الآية. وأما عبدالرحمن بن عوف فقد ذكرنا صدقته.
قوله تعالى: { ولا أذى } أي لا يؤذي السائل؛ لا يعيره ولا يزجره؛ نحو أن يقول: أنت أبدا في فقر وما أبلانا بك، وأراحنا الله منك، وأعطيناك فما شكرت، وما أشبه ذلك. قال صلى الله عليه وسلم:
" المان بما يعطي لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم "
فحظر الله المن بالصنيعة على عباده واختص به صفة لنفسه؛ لأنه من العبد تعيير وتكدير؛ ومن الله تعالى إفضال وتذكير. قال بعضهم:
أفسدت بالمن ما قدمت من حسن
ليس الكريم إذا أعطى بمنان
قوله تعالى: { لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ أي { لا خوف عليهم } فيما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة، { ولا هم يحزنون } على ما خلفوا في الدنيا.
[2.263]
قوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى }؛ أي كلام حسن ورد جميل على السائل ولطف به ودعاء له بالسعة؛ وتجاوز عن مظلمة؛ وعدة حسنة { خير } عند الله { من صدقة يتبعهآ أذى } لأن الصدقة إذا أتبعها الآذى ذهب المال والثواب جميعا. وقال الضحاك: (معنى الآية: قول في إصلاح ذات البين).
قوله: { ومغفرة }؛ قال ابن جرير: (ومعنى { ومغفرة } أي ستر منه عليه لما علم من خلته وفاقته). وقيل: يتجاوز عن السائل إذا استطال عليه عند رده؛ علم الله أن الفقير إذا رد بغير شيء شق عليه ذلك، فربما دعاه ذلك إلى بذاءة اللسان وإظهار الشكوى، وعلم ما يلحق المانع منه فحثه على العفو والصفح.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوها عليه بوقار ولين وببذل يسير أو رد جميل، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظر كيف صنعكم فيما خولكم الله من النعم ".
قوله عز وجل: { والله غني حليم }؛ أي { غني } عن صدقات العباد، { حليم } إذا لم يعجل بالعقوبة على الذي " من " بصدقته. روى بشر بن الحارث؛ قال: رأيت عليا رضي الله عنه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تقول شيئا لعل الله ينفع به؟ فقال لي: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله عز وجل، وأحسن منه صبر الفقراء عن الأغنياء ثقة بالله عز وجل.
[2.264-265]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر }؛ أي تبطلوا صدقاتكم بذلك كإبطال من ينفق ماله مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقال: إنه سخي كريم صالح، يعني بذلك المنافق الذي ينفق ماله لا رغبة في الثواب ولا رهبة من العقاب، بل خوفا من الناس ورياء لهم أنه مؤمن. { فمثله }؛ أي مثل نفقة هذا المنافق المرائي؛ { كمثل صفوان }؛ أي كحجر أملس؛ { عليه تراب فأصابه وابل }؛ أي مطر كثير شديد الوقع فذهب بالتراب الذي كان " على " الحجر، وبقي الحجر يابسا لا شيء عليه.
قوله تعالى: { فتركه صلدا }؛ أي حجرا صلبا أملسا لا يبقى عليه شيء، وهو من الأرض ما لا ينبت، ومن الرؤوس ما لا شعر عليه. قال رؤبة:
...........................
براق أصلاد الجبين الأجله
وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي؛ يعني أن الناس يرون أن لهؤلاء أعمالا كما ترى التراب على هذا الصفوان، وإذا كان يوم القيامة اضمحل وبطل؛ لأنه لم يكن لله كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب، { فتركه صلدا } لا شيء عليه.
قوله تعالى: { لا يقدرون على شيء مما كسبوا }؛ أي لا يقدر المان بنفقته والمؤذي والمنافق على ثواب شيء مما أنفقوا، كما لا يقدر أحد من الخلق على التراب الذي كان على الحجر الأملس بعدما أذهبه المطر الشديد.
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين }؛ أي لا يهديهم حتى يخلصوا أعمالهم. وقيل: لا يهديهم بالمثوبة لهم كما يهدي المؤمنين.
وأصل الوابل من الوبيل وهو الشديد كما قال تعالى:
أخذا وبيلا
[المزمل: 16]. ويقال: وبلت السماء تبل؛ إذا اشتد مطرها. والصلد: الحجر الأملس الصلب، ويسمى البخيل صلدا تشبيها له بالحجر في أنه لا يخرج منه شيء. ويقال للأرض التي لا تنبت شيئا: صلدا، وصلد الزند صلودا إذ لم يور نارا.
وفي الآية دلالة على أن الصدقة وسائر القرب إذا لم تكن خالصة لله تعالى لا يتعلق بها الثواب، ويكون فاعلها كمن لا يفعل؛ ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز الاسئتجار على الحج وسائر الأفعال التي من شرطها أن تفعل على وجه القربة؛ لأن أخذ الأجرة عليها يخرجها من أن تكون قربة.
ثم ضرب جل ذكره لنفقة المخلصين المثيبين مثلا آخر أعلى من المثل الأول فقال: { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين }؛ أي صفة الذين ينفقون أموالهم لطلب رضا الله تصديقا وحقيقة. قال الشعبي والكلبي والضحاك: { يعني تصديقا من أنفسهم، يخرجون الزكاة طيبة بها نفوسهم).
وقال السدي وأبو صالح وأبو روق: (معناه ويقينا من أنفسهم؛ أي على يقين بإخلاف الله عليهم). وقال قتادة: (معناه: واحتسابا، وقيل: ثقة بالله). وقال مجاهد: (معناه: يتثبتون). قال الحسن: (كان الرجل إذا هم بصدقة ثبت؛ فإن كان لله أمضاه، وإن خالطه شك أمسك). وقال ابن كيسان: (معناه: إخلاصا وتوطنا لأنفسهم على طاعة الله). وقال سعيد بن جبير: (وتحقيقا في دينهم).
قوله: { كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين } أي كصفة بستان بمكان مرتفع أصابها مطر كثير شديد، فآتت ثمرتها ضعفين في الحمل. قال عطاء: (حملت في سنة ما يحمل غيرها في سنتين). وقال عكرمة: (حملت في السنة مرتين). قال الفراء: (إذا كان في البستان نخل فهو جنة، وإذا كان فيه كرم فهو فردوس).
وقرأ مجاهد: (كمثل حبة) بالحاء والباء، وقرأ السلمي والعطاردي والحسن وعاصم وابن عامر: (بربوة) بفتح الراء هنا وفي سورة المؤمنين وهي لغة بني تميم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: (بربوة) بضم الراء فيهما، واختاره أبو عبيدة لأنها أكثر اللغات وأشهرها. وقرأ ابن عباس وأبو إسحاق: (بربوة) بكسر الراء. وقرأ أشهب العقيلي: (برباوة) بالألف وكسر الراء. وهن جميعا للمكان المرتفع المستوي، والمطر على الروابي أشد ونبتها أحسن، وإنما سميت ربوة لأنها ربت وعلت فغلظت، من قوله ربى الشيء يربو إذا عظم.
قوله تعالى: { أكلها }. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف، وقرأ الباقون بضم الكاف. والأكل هو الثمر وهو اسم لما يؤكل.
قوله تعالى: { فإن لم يصبها وابل فطل }؛ أي فطل، والطل أضعف المطر مثل الرذاذ وهو المطر الدائم الصغار القطر لا يكاد يسيل منه الميازيب، كذلك المنفق لوجه الله إن كانت نفقته كثيرة فثوابها كثير؛ وإن كانت قليلة شيئا بعد شيء فبعددها.
وقال السدي: (الطل هو الندى). وروي عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: { فإن لم يصبها وابل فطل } قال: (هي أرض مصر إن لم يصبها مطر زكت أي أنبتت، وإن أصابها مطر أضعفت أي آتت ضعف ذلك). وهذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن المخلص، يقول: كما أن هذه الجنة تصلح في كل حال ولا تخلف ولا تخيب صاحبها، سواء أقل المطر أم كثر، كذلك يضاعف الله ثواب صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي؛ سواء أقلت صدقته أو كثرت ولا يخيب بحاله، { والله بما تعملون بصير }؛ أي بصير بما يعملونه من الرياء والإخلاص؛ يجزيكم على قدر نياتكم.
[2.266]
قوله عز وجل: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفآء }؛ الآية؛ هذا استفهام في الظاهر يقتضي في الحقيقة تقديرا: أي لا يود أحدكم كقوله تعالى:
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
[الحجرات: 12]. ومعنى الآية: يتمنى أحدكم أن يكون له بستان من نخيل وكرم؛ تجري من تحت شجرها ومساكنها وغرفها الأنهار ، له في الجنة من ألوان الثمار كلها، وأصابه الهرم والضعف وله أولاد ضعاف عجزة عن الحيلة، { فأصابهآ إعصار } ، يعني تلك الجنة. والإعصار: ريح عاصف تهب به من الأرض بالشدة كالعمود إلى نحو السماء، وتسميها العرب الزوبعة، وسميت إعصارا لأنها تعلو كثوب عصر.
قوله تعالى: { فيه نار فاحترقت }؛ أي الجنة. وهذا مثل ضربه الله لنفقة المنافق والمرائي، تقول عمل هذا المرائي في حسنه كحسن الجنة ينتفع بها كما ينتفع صاحب الجنة، فإذا كبر وضعف فصار له أولاد صغار ضعاف، أصاب جنته إعصار فيه نار، فاحترقت عندما هو أحوج إليها وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده عن أصلاحها لصغرهم؛ وعجزه وعجزهم من أن يغرسوا مثلها، لا يرد عليه شبابه وقوته ليغرس، فيحزن ويغتم ويهلك أسفا وتحسرا على ذلك، فلا هو يجد شيئا يعيشه ولا مع أولاده شيء يعودون به عليه، فبقي هو وأولاده فقراء عجزة متحيرين لا يقدرون على حيلة، فكذلك يبطل الله صدقة هذا المرائي والمنافق والمان بصدقته؛ حيث لا يسمع مستغيث لهما ولا توبة ولا إقالة، يحرم أجرها عند أفقر ما يكون إليها، ويرى في القيامة أعماله هباء منثورا، ولا يؤذن له في الرجوع إلى الدنيا ليتصدق وليكون من الصالحين.
قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } أي كهذا البيان الذي بين الله لكم فيما تقدم؛ ويبين لكم الدلالات والعلامات لكي تتفكروا فتعتبروا.
فإن قيل: قوله تعالى: { أيود أحدكم } فعل مستقبل، وقوله: { وأصابه الكبر } فعل ماض، فكيف عطف الماضي على المستقبل؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن (قد) ها هنا مقدرة؛ المعنى وقد أصابه الكبر، فيكون للحال كما قال في آية أخرى:
وإن كان قميصه قد
[يوسف: 27] أي قد قد.
والثاني: أن (يود) يقتضي أن يكون في خبره (لو) كما في قوله:
يود أحدهم لو يعمر
[البقرة: 96] وقوله:
ودوا لو تكفرون
[النساء: 89] ويقتضي أن يكون في أخبره (إن) كما في هذه الآية و(لو) للماضي، و(أن) للمستقبل. ثم قد تستعمل (لو) مكان (إن)؛ و(إن) مكان (لو) يقام أحدهما مقام الآخر، ويقول الإنسان: أنا أتمنى لو كان لي ولد، ويقول: أتمنى إن كان لي ولد. وإذا كان معنى التمني قد يقع على الماضي صح عطف الماضي عليه.
[2.267]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الأرض }؛ أي أنفقوا من خيار ما كسبتم، وخياره نظيره قوله تعالى:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران: 92]. وقال ابن مسعود ومجاهد: (من حلال ما كسبتم من الأموال) دليله:
يأيها الرسل كلوا من الطيبات
[المؤمنون: 51] وقال عليه السلام:
" إن الله طيب لا يحب إلا الطيب، لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيقبل منه؛ ولا ينفق فيبارك له فيه، ولا يتركه خلفه إلا كان زاده إلى النار، وإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحو الخبيث ".
وقوله تعالى: { وممآ أخرجنا لكم من الأرض } أي من أعشار الحبوب والثمار.
قوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ أي لا تعمدوا إلى الرديء من أموالكم منه تتصدقون، ولستم بقابضيه وقابليه { إلا أن تغمضوا فيه } ، يقول: لو كان لبعضكم على بعض حق فجاء بدون حقه، لم يأخذ منه إلا أن يتغامض له عن بعض حقه ويتسامح عن عيب فيه، فكيف تعطونه في الصدقة.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية
" أن النبي صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة وقال: " إن لله في أموالكم حقا ". فكان يأتي أهل الصدقة بصدقاتهم فيضعونها في المسجد، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فجاء رجل ذات يوم بعدما تفرق عامة أهل المسجد بعذق من حشف فوضعه في الصدقة، فلما أبصره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بئس ما صنع صاحب الحشف " فأمر به فعلق، فجعل كل من يراه يقول: بئس ما صنع صاحب الحشف "
، فأنزل الله هذه الآية.
وقال بعضهم: معنى: { ولا تيمموا الخبيث } أي لا تتصدقوا بالحرام. فيكون معنى { إلا أن تغمضوا فيه } على هذا التأويل: إلا أن تترخصوا في تناوله إن كان حراما. والإغماض: ترك النظر، يقال في المثل: أغمض في هذا وغمض؛ أي لا تستقص وكن كأنك لم تبصر.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله غني حميد }؛ أي { غني } عن صدقاتكم محمود في أفعاله، ولم يأمركم بالصدقة عن عوض ولكن بلاكم بما أمركم، فهو مستحق للحمد على ذلك وعلى جميع أمره.
وفي الآية إباحة الكسب وإخبار أن فيه ما هو طيب، قال صلى الله عليه وسلم:
" والخير عشرة أجزاء أفضلها التجارة إذا أخذ الحق وأعطى الحق "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" تسعة أعشار الرزق في التجارة، ولا يفتقر من التجار إلا تاجر حلاف "
" سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي كسب الرزق أفضل؟ قال: " عمل الرجل بيديه، وكل بيع مبرور "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" يا معشر التجار، إن هذا البيع يحضره اللغو والكذب، فشوبوه بالصدقة ".
[2.268]
قوله عز وجل: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء }؛ أي الشيطان يعدكم بالفقر فحذف الباء كقول الشاعر:
أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به
فقد تركت ذا مال وذا نشب
ويقال: وعدته خيرا؛ ووعدته شرا، وقال الله تعالى في الخير:
وعدكم الله مغانم كثيرة
[الفتح: 20] وقال في الشر:
النار وعدها الله الذين كفروا
[الحج: 72] وإذا لم تذكر الخير والشر؛ قلت في الخير: وعدته؛ وفي الشر: أوعدته. قال الشاعر:
وإني إذا أوعدته أو وعدته
لمخلف ميعادي ومنجز موعدي
ومعنى: { يعدكم الفقر } أي يخوفكم الفقر بالنفقة في وجوه البر وإنفاق الجيد من المال، وقوله تعالى: { ويأمركم بالفحشآء } أي بالبخل ومنع الزكاة، وزعم الكلبي أن كل فحشاء في القرآن فهو زنا إلا في هذه الآية، وإنما سمي منع الزكاة فحشاء؛ لأن العرب تسمي البخيل فاحشا؛ والبخل فحشاء. والفقر: سوء الحال وقلة ذات اليد، وفيه لغتان: الفقر والفقر، كالضعف والضعف.
قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلا }؛ أي { مغفرة } لذنوبكم بالإنفاق من خيار الأموال، { وفضلا } أي خلفا في الدنيا والآخرة، { والله واسع عليم }؛ يوسع الرزق والخلف والمثوبة، ويعلم حيث ينبغي أن تكون السعة ، قال ابن عباس وابن مسعود: (ثنتان من الله وثنتان من الشيطان؛ فمن الله المغفرة والفضل، ومن الشيطان الفقر والفحشاء). ووعد الشيطان وساوس وتخيل؛ أي يخيل إليك أنك إن أمسكت مالك استغنيت، وإن تصدقت به افتقرت.
[2.269]
قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشآء }؛ اختلفوا في تفسير الحكمة؛ قال ابن مسعود: (هي القرآن). وقال ابن عباس وقتادة: (علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ ومحكمه ومتشابهه؛ ومقدمه ومؤخره؛ وحلاله وحرامه؛ وأمثاله؛ وغيره). وقال السدي: (هي النبوة). وقال أبو العالية: (هي الفقه). وقال مجاهد وإبراهيم: (هي الإصابة والفهم). وقال الربيع: (هي خشية الله تعالى). وقال سهل بن عبدالله: (هي السنة). وقيل: هي سرعة الجواب مع إصابة الصواب، والله أعلم.
وقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا }؛ أي من يعط العلم فقد أعطي خيرا كثيرا يصل به إلى رحمة الله تعالى. قال بعض الحكماء: سمى الله العلم خيرا كثيرا، والدنيا متاعا قليلا، فينبغي لمن أوتي العلم أن يعرف قدر نفسه ولا يتواضع لأصحاب الدنيا لدنياهم. وقال الحسن: (ومن يؤت الحكمة؛ يعني الورع في دين الله).
قرأ الربيع: (تؤتي الحكمة ومن يؤت الحكمة) بالتاء، وقرأ يعقوب: (ومن يؤت الحكمة) بكسر التاء، أراد ومن يؤته الله؛ فحذف الهاء.
قوله تعالى: { وما يذكر إلا أولوا الألباب }؛ وما يتعظ إلا ذوو العقول؛ واللب من العقل ما صفي عن دواعي الهوى، وسمي العقل لبا لأنه أنفس ما في الإنسان كما أن لب الثمرة أنفس ما فيها.
[2.270]
قوله عز وجل: { ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه }؛ أي ما تصدقتم به من صدقة أو أوجبتموه على أنفسكم من فعل بر مثل صلاة أو صدقة أو صوم، فإن الله لا يخفى عليه ذلك ويقبله ويجازي عليه.
ويقال: معنى { فإن الله يعلمه } أي يحفظه، وإنما قال: { يعلمه } ولم يقل يعلمها؛ لأنه رده إلى الآخر منهما كقوله تعالى:
ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا
[النساء: 112]. وإن شئت حملته على (ما) التي قبله كقوله تعالى:
ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به
[البقرة: 231] ولم يقل: بهما.
قوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار }؛ أي وما للواضعين النفقة والنذر في غير موضعهما بالرياء والمعصية ونحوهما (من) أعوان يدفعون عنهم العذاب. والأنصار: جمع نصير مثل جنيب وأجناب وشريف وأشراف.
[2.271]
قوله عز وجل: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي }؛ وذلك أنهم قالوا: يا رسول الله، من أفضل؛ صدقة السر أو صدقة العلانية؟ فأنزل الله هذه الآية. ومعناها: إن تظهروا الصدقات وتعلنوها؛ فنعما الشيء صدقة العلانية.
وأصل { فنعما هي }: فنعما ما هي؛ فوصلت وأدغمت. وكان الحسن يقرأ: (فنعما ما هي) مفصولة عن الأصل؛ أي نعمت الخصلة. و(ما) في موضع الرفع و(هي) في محل النصب كما يقول: نعما الرجل رجلا، فإذا عرفت رفعت وقلت: نعم الرجل زيد.
وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة وعاصم وأبو عمرو بكسر النون وجزم العين، ومثله في سورة النساء، واختاره أبو عبيدة وذلك أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لعمرو بن العاص:
" نعم المال الصالح للرجل الصالح ".
وقرأ ابن عامر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون وكسر العين. وقرأ طلحة وابن كثير وورش وحفص ويعقوب وأيوب بكسر النون والعين. وهي لغات صحيحة.
قوله عز وجل: { وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم }؛ أي وإن تسروها وتعطوها الفقراء سرا فهو خير لكم وأفضل من العلانية، وكلاهما مقبول منكم إذا كانت النية صادقة، ولكن صدقة السر أفضل، قال صلى الله عليه وسلم:
" صدقة السر تطفئ غضب الرب، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وتدفع سبعين بابا من البلاء ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمسجد، ورجلان تحابا في الله؛ فاجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال؛ فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ".
قال أهل المعاني: هذه الآية في صدقة التطوع، ولإجماع العلماء أن الزكاة المفروضة إعلانها أفضل كالصلاة المفروضة في الجماعة أفضل من إفرادها، وكذلك سائر الفرائض؛ لمعنيين؛ أحدهما: ليقتدي به الناس، والثاني: لزوال التهمة؛ لئلا يسيء به الناس الظن، ولا رياء في الفرض.
وأما النوافل والفضائل فإخفاؤها أفضل لبعدها عن الرياء، يدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي جعفر في قوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } قال: (يعني الزكاة المفروضة وقوله تعالى: { وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء } يعني التطوع). وعن ابن عباس أنه قال: (جعل الله صدقة التطوع في السر تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة تفضل علانيتها سرها بخمس وعشرين ضعفا). وقال صلى الله عليه وسلم:
" المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة، والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة "
وذهب الحسن وقتادة إلى أن الإخفاء في كل صدقة أفضل؛ مفروضة كانت أم تطوعا.
قوله عز وجل: { ويكفر عنكم من سيئاتكم }؛ قرأ ابن عباس وعكرمة: (وتكفر) بالتاء؛ يعني الصدقات. وقرأ الحسن وابن عامر وحفص: (ويكفر) بالياء والرفع على معنى ويكفر الله. وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو بالنون ورفع الراء على الاستئناف؛ أي ونحن نكفر. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والأعمش وحمزة والكسائي بالنون والجزم عطفا على موضع الفاء التي في قوله: { فهو خير لكم } لأن موضعها جزم بالجزاء.
وقوله تعالى: { من سيئاتكم } أدخل (من) للتبعيض؛ ليكون العباد فيها على وجل فلا يتكلوا. وقال نحاة البصرة: معناه الإسقاط؛ ويكفر عنكم سيئاتكم.
قوله عز وجل: { والله بما تعملون خبير }؛ أي بما تعملون من الصدقة عالم يجزيكم به.
[2.272]
قوله عز وجل: { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشآء }؛ قال ابن عباس والكلبي: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء، وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجاءتها أمها قتيلة وجدها أبو قحافة يسألونها الصلة والعطية، فقالت: لا أعطيكم شيئا حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنكم لستم على دين؛ فاستأذنته في ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق عليهما). وقال محمد بن الحنفية: (كان يكبر على المسلمين التصدق على اليهود والنصارى، فأمروا بذلك في غير فريضة).
ومعنى الآية: ليس عليك يا محمد تحصيل الهدى لهم بأن تمنعهم من الصدقة لتحملهم على الإيمان، ولكن الله يثبت ويرشد ويوفق للخير من يشاء. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا من أهل الذمة يسأل على أبواب المسلمين، فقال: (ما أنصفناك؛ أخذنا منك الجزية وأنت شاب؛ ثم ضيعناك اليوم) فأمر أن يجزي عليه قوته من بيت المال.
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم }؛ أي ما تنفقوا من مال على بر أو فاجر فلأنفسكم ثوابه ونفعه عائد إليكم، { وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله }؛ أي علم الله أنكم لا تريدون بنفقتكم إلا طلب مرضاة الله وإن كان المتصدق عليه كافرا.
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } أي ما تتصدقوا به من مال يوف إليكم ثوابه في الآخرة، { وأنتم لا تظلمون } أي لا تنقصون شيئا من ثواب أعمالكم وصدقاتكم.
وظاهر الآية يقتضي جواز دفع الصدقات إلى الكفار إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم خص منها الزكاة؛ فقال:
" أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم ".
[2.273]
قوله عز وجل: { للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف }؛ قيل: معناه: ما أنفقتم من نفقة للفقراء، وقيل: معناه: عليكم بالنفقة للفقراء الذين حبسوا في طاعة الله؛ أي أحصرهم فرض الجهاد فمنعهم من التصرف والسير لطلب المعاش، وهؤلاء أصحاب الصفة حبسوا أنفسهم لطلب العلم؛ وفضل الجمعة؛ وخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحوا من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن ولا عشائر؛ كانوا معتكفين في المسجد في صفته؛ قالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، فحث الله على الصدقة عليهم، فكان الرجل إذا بقي عنده فضل أتاهم به.
وقوله تعالى: { لا يستطيعون ضربا في الأرض } الضرب في اللغة: السير، يعني لا يستطيعون سيرا في الأرض للتجارة وطلب المعيشة، ونظيره قوله تعالى:
وإذا ضربتم في الأرض
[النساء: 101] وقوله تعالى:
وآخرون يضربون في الأرض
[المزمل: 20]. وقال الشاعر:
لحفظ المال أيسر من فنائه
وضرب في البلاد بغير زاد
وقال ابن زيد: (من كثرة ما جاهدوا لا يستطيعون ضربا في الأرض، فصارت الأرض كلها حربا عليهم؛ لا يتوجهون فيها جهة إلا ولهم فيها عدو). وكان السدي يقول: (معنى { أحصروا } أي منعهم الكفار بالخوف منهم؛ فلا يستطيعون تفرقا في الأرض لمنع الكفار إياهم عن ذلك). وقيل: هذا لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لقال: حصروا، بغير ألف.
وقال سعيد بن جبير: (هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصاروا زمنا وأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض). فاختار الكسائي هذا القول لأنه يقال: أحصروا من المرض والزمانة عن الضرب في الأرض، ولو أراد الحبس قال: حصروا، وإنما الإحصار من الخوف أو المرض، والحصر: الحبس في غيرهما.
قوله تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف } قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة: (يحسبهم) بفتح السين في جميع القرآن، والباقون بالكسر.
ومعنى الآية: يظنهم الجاهل بأمرهم وشأنهم أغنياء من التعفف عن السؤال؛ لتجملهم باللباس وكفهم عن المسألة. والتعفف يذكر ويراد به ترك المسألة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من استغنى أغناه الله تعالى، ومن استعف أعفه الله ".
قوله تعالى: { تعرفهم بسيماهم }؛ أي تعرفهم أنت يا محمد بعلامة فقرهم ورثاثة حالهم. وقيل: بتخشعهم وتواضعهم. وقيل: بصفرة ألوانهم من الجوع وقيام الليل وصيام النهار. وقيل: بفرحهم واستقامة حالهم عند توارد البلاء عليهم.
قوله تعالى: { لا يسألون الناس إلحافا }؛ قال عطاء: (إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء، وإن كان عنده عشاء لا يسأل غداء). وقال أهل المعاني: { لا يسألون الناس إلحافا } ولا غير إلحاف؛ أي ليس لهم سؤال فيكون إلحافا، والإلحاف: الإلحاح، دليل هذا القول قوله تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف } أي من القناعة، ولو كانوا يسألون لكان يعرفهم بالسؤال لا بالسيماء.
وإنما يسمى الملح في السؤال ملحفا؛ لأنه يلصق بالمسؤول ويشتمل على وجود الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويكره البؤس والتباؤس، ويحب الحليم المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" " من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا أو خموشا أو خدوشا في وجهه " قيل: وما غناؤه؟ قال: " خمسون درهما " ".
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم }؛ أي ما يتصدقوا به من مال، { فإن الله به عليم } يجزيكم به.
[2.274]
قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ قال ابن عباس ومقاتل: (نزلت هذه الآية في علي رضي الله عنه؛ كانت له أربعة دراهم لم يملك غيرها؛ فتصدق بدرهم ليلا؛ وبدرهم نهارا؛ وبدرهم سرا؛ وبدرهم علانية، فنزلت هذه الآية).
وعن ابن عباس قال: (لما نزل قوله تعالى:
للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله
[البقرة: 273] بعث عبدالرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة حتى أغناهم؛ وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من التمر - والوسق ستون صاعا فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقة علي رضي الله عنه ونزل فيها قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية } أراد بالليل سرا صدقة علي رضي الله عنه وبالنهار علانية صدقة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه).
وروي أيضا عن ابن عباس في هذه الآية { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار }: يعني في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين تلا هذه الآية؛ فإذا مر بفرس أعجف سكت.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من ارتبط فرسا في سبيل الله وأنفق عليه احتسابا؛ كان شبعه وجوعه وريه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" المنفق في سبيل الله على فرسه كالباسط كفيه بالصرة ".
قوله تعالى: { فلهم أجرهم عند ربهم } قال الأخفش وقطرب: (جعل الخبر بالفاء؛ لأنه في معنى (من)، وجواب (من) بالفاء؛ كأنه قال: من أنفق كذا فله أجره عند ربه). وقوله تعالى: { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } قد تقدم تفسيره.
[2.275]
قوله تعالى: { الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس }؛ معناه: { الذين يأكلون الربوا } في الدنيا { لا يقومون } في الآخرة من قبورهم لعظم بطونهم، { إلا كما يقوم } في الدنيا الذي يضربه ويصيبه { الشيطان من المس } أي من الجنون. روي أنهم يبعثون يوم القيامة وقد انتفخت بطونهم كلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم وهم كالمجانين. قال الحسن: (هذه علامة أكل الربا؛ يعرفون بها يوم القيامة).
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا }؛ ومعناه: كان الرجل إذا حل ماله بعد الأجل طلبه؛ فيقول المطلوب: زدني في الأجل وأزيدك في مالك. فيفعلان ذلك؛ فإذا قيل لهم: إن هذا ربا؛ قالوا: هما سواء؛ والزيادة في آخر البيع بعد الأجل كالزيادة في أول البيع إذا بعت بالنسيئة سواء. وليس الأمر كما توهموا؛ لأن الزيادة في الثمن في آخر البيع لأجل الإبعاد في الأجل بعدما صار الثمن دينا في الذمة يكون عوضا عن الأجل؛ والاعتياض عن الأجل باطل، وأما الزيادة في الثمن في أصل العقد فتكون مقابلة للبيع، ويجوز بيع المبيع بثمن قليل وثمن كثير.
قوله تعالى: { وأحل الله البيع وحرم الربوا }؛ أي أحل الزيادة في أول البيع وحرم الزيادة في آخره؛ قوله تعالى: { فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }؛ أي فمن جاءه زجر من ربه ونهي عن الربا فانتهى فله ما مضى من أكله الربا قبل النهي؛ أي لا إثم عليه في ذلك، وأمره فيما بقي من عمره إلى الله؛ إن شاء عصمه وإن شاء لم يعصمه. وقيل: معناه: { فله ما سلف } أي له ما أخذ من الربا قبل التحريم، { وأمره إلى الله } في المستأنف في العفو والتجاوز.
وإنما لم يقل: فمن جاءته موعظة من ربه؛ لأن تأنيث الموعظة ليس بحقيقي، فيجوز تذكيره ويجوز أن ينصرف إلى المعنى، كأنه قال: فمن جاءه وعظ ونهي من ربه عن الربا.
قوله تعالى: { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } أي من عاد إلى أكل الربا { فأولئك أصحاب النار هم فيها } دائمون إلى ما شاء الله. وقيل: معناه: من عاد بعد النهي إلى قوله إنما البيع مثل الربا؛ فأولئك أهل النار هم فيها مقيمون؛ لأن مستحل الربا كافر لإنكاره آية من كتاب الله تعالى.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" سيأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، وإن لم يأكله أصابه من غباره "
وعن عبدالله بن مسعود قال: (آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده إذا علموا به؛ ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة). وقال صلى الله عليه وسلم:
" الربا بضع وسبعون بابا؛ أدناها كإتيان الرجل أمه ".
والخبط في اللغة هو الضرب على غير استواء؛ يقال: خبط البعير إذا ضرب بيده. والمس: الجنون، يقال: رجل ممسوس؛ أي مجنون.
[2.276]
قوله عز وجل: { يمحق الله الربوا ويربي الصدقت }؛ معناه: يهلك الله الربا ويذهب ببركته. والمحق: نقصان الشيء حالا بعد حال، ويقال: إن الربا ينقص حالا بعد حال إلى أن يتلف كله. قوله: { ويربي الصدقت } أي يقبلها ويعطي خلفها في الدنيا، ويضاعف ثوابه في الآخرة واحدة إلى عشر إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيبة، ويربيها لصاحبها كما يربي أحدكم مهره وفصيله حتى أن اللقمة تصير مثل أحد ".
قوله تعالى: { والله لا يحب كل كفار أثيم }؛ أي يبغض كل جاحد تحريم الربا؛ فاجر عاص بأكله واستحلاله. وإنما قال: { كفار } ولم يقل: كافر؛ ليبين أن مستحل الربا مع كونه كافرا كفار للنعمة. والأثيم: المادي في الإثم، والآثم: الفاعل للإثم.
[2.277]
قوله عز وجل: { إن الذين آمنوا وعملوا الصلحت وأقاموا الصلوة وآتوا الزكوة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ معناه: { إن الذين آمنوا } بالله وكتبه ورسله وتحريم الربا { وعملوا الصلحت } فيما بينهم وبين ربهم، وأتموا الصلوات الخمس، وأعطوا الزكاة المفروضة من أموالهم، فلهم جزاؤهم وثوابهم في الآخرة { عند ربهم ولا خوف عليهم } إذا ذبح الموت { ولا هم يحزنون } إذا أطبقت النار على أهلها.
[2.278]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في نفر من ثقيف ابن مسعود وحبيب وربيعة وعبد ياليل بني عمرو بن عمير الثقفي، كانت لهم ديون على بني المغيرة؛ وكان بنو المغيرة يربوهم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة وضع الربا كله، وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم من الناس يأخذونه، وما كان عليهم من ربا الناس فهو موضوع عنهم لا يؤخذ منهم، فقال صلى الله عليه وسلم:
" أكتب في آخر كتابهم: أن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم "
فلما حل الأجل طلبت ثقيف من بني المغيرة رباهم؛ فقالت بنو المغيرة: ما بالنا نكون أشقى الناس؛ وضع الربا عن الناس كلهم ويؤخذ منا خاصة! فقالت لهم ثقيف: إنا صالحنا على ذلك، فاختصموا إلى أمين مكة وهو عتاب بن أسيد، فلم يدر ماذا يقضي بينهم، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأنزل الله هذه الآية خطابا لثقيف).
ومعناها: { يأيها الذين آمنوا اتقوا } اخشوا الله واتركوا { ما بقي من الربوا } فإنه لم يبق غير رباكم { إن كنتم مؤمنين } أي مصدقين بتحريم الربا فهذا حكمه.
[2.279-280]
قوله عز وجل: { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله }؛ أي إن لم تقبلوا أمر الله ولم تقروا بتحريم الربا ولم تتركوه، فاعلموا أنكم كفار يحاربكم الله ورسوله؛ أي يعذبكم الله في الآخرة بالنار؛ ويعذبكم رسوله في الدنيا بالسيف. والإذن: الإعلام، ومن قرأ (فأذنوا) أي فأعلموا أصحابكم المتمسكين بمثل ما أنتم عليه: أن من عامل بالربا مستحلا له حاربهم الله ورسوله.
وقيل: معنى الآية: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه { فأذنوا بحرب من الله ورسوله }.
ومثل هذا اللفظ لا يوجب الإكفار؛ لأن لفظ محاربة الله ورسوله يطلق على ما دون الكفر كما في آية قطاع الطريق. وهذا الحكم في آية الربا إنما هو مستقيم إذا اجتمع أهل بلدة لهم منعة وقوة على المعاملة بالربا وكانوا محرمين له، فإن الإمام يستتيبهم؛ فإن تابوا وإلا قاتلهم. وأما إذا عامل واحد أو جماعة قليل عددهم معاملة الربا، فإن الإمام يستتيبهم؛ فإن تابوا وإلا زجرهم وحبسهم إلى أن يظهروا توبتهم. وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع فيمن أربا: (أن الإمام يستتيبه، فإن تاب وإلا قتله). فهذا محمول على أن يفعله مستحلا له؛ لأنه على خلاف بين العلماء أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه.
قوله تعالى: { وإن تبتم فلكم رؤوس أمولكم لا تظلمون ولا تظلمون }؛ أي فإن رجعتم عن استحلال الربا وأقررتم بتحريمه. ويقال: إن تبتم عن معاملة الربا { فلكم رؤوس أمولكم } التي أسلفتموها بني المغيرة، { لا تظلمون } بطلب الزيادة على رأس المال، { ولا تظلمون } بحبس رأس المال عنكم.
قال ابن عباس: (فلما نزلت هاتان الآيتان، كتب بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب، فقرأهما على ثقيف فقالوا: بلى، نتوب إلى الله فإنه لإيذان لنا بحرب الله ورسوله، ثم طلبوا رؤوس أموالهم من بني المغيرة، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عسر وأخرونا إلى أن تدرك الثمار، فأبوا أن يؤخروهم، فنزل قوله عز وجل: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }؛ أي إن كان المطلوب ذا ضيق وشدة؛ فتأخيره إلى سعة ويسار.
وروي عن ابن عباس وشريح وإبراهيم: (أن الإنظار إنما يجب في الدين، يعني دين الربا خاصة). وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون. وعن أبي هريرة والحسن والضحاك: (أن ذلك واجب في كل دين) وهذا هو الأصح؛ لأن نزول الآية في رأس مال الربا لا يمنع اعتبار سائر الديون بها بالاستدلال والقياس.
وذهب بعض النحويين: إلى أن الرفع في قوله { ذو عسرة } دليل على أنه ابتداء على معنى: وإن وقع ذو عسرة، أو وجد ذو عسرة، ولو كان مختصا هذا بالربا لقال: وإن كان ذا عسرة، بالنصب.
ويحتمل أن يكون تقدير الرفع { وإن كان ذو عسرة } غريما لكم.
ومن قرأ (ميسرة) بضم السين، فهي لغة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله في ظل عرشه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أحب أن تستجاب دعوته وتنكشف كربته؛ فلييسر على المعسر "
وعن أبي بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه فهو سارق "
وعن أبي قتادة:
" أن رجلا أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه؛ فقال: " هل عليه دين؟ " قالوا: نعم، فتأخر وقال: " صلوا على صاحبكم ". قال أبو قتادة: أنا أكفل به، فقال صلى الله عليه وسلم: " بالوفاء؟ " قال: بالوفاء، فصلى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهما أو تسعة عشر درهما ".
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من خطيئة أعظم عند الله عز وجل بعد الكبائر من أن يموت الرجل وعليه أموال الناس دينا في عنقه، لا يوجد لها قضاء ".
قوله عز وجل: { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون }؛ أي وإن تصدقوا من رأس المال فهو أفضل { إن كنتم تعلمون } ثواب من أنظر معسرا أو وضع عنه.
[2.281]
قوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله }؛ هذا تحذير من الله عز وجل أن يوافي العباد ذلك اليوم على غرة وغفلة وتقصير في أوامر الله ومخالفته فيما أحل الله وحرم، يقول: اخشوا عذاب يوم ترجعون فيه إلى جزاء الله.
قوله تعالى: { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }؛ أي توفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر، { وهم لا يظلمون } أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد في سيئاتهم.
قرأ أبو عمرو ويعقوب: (ترجعون) بفتح التاء، واعتبره بقراءة أبي (واتقوا يوما تصيرون فيه إلى الله). وقرأ الباقون (ترجعون) بضم التاء، اعتبارا بقراءة عبدالله: (واتقوا يوما تردون فيه إلى الله).
قال ابن عباس: (هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لما حج البيت نزل عليه جبريل عليه السلام وهو واقف بعرفة بقوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم
[المائدة: 3] الآية، ثم نزل بعد ذلك هذه الآية { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله }. قال: يا رسول الله، ضعها على رأس ثمانين ومائتي آية من سورة البقرة، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية بتسعة أيام).
قال المفسرون:
" لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنك ميت وإنهم ميتون } قال: " يا ليتني أعلم متى ذلك " فأنزل الله هذه الآية { إذا جآء نصر الله والفتح } ، قال: " أما إن نفسي نعيت إلي " ثم بكى بكاء شديدا، فقيل له: يا رسول الله، أتبكي من الموت وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: " وأين خوف المطلع، وأين ضيق القبر وظلمة اللحد، وأين القيامة والأهوال "
فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية عاما؛ ثم نزل قوله:
لقد جآءكم رسول من أنفسكم
[التوبة: 128] فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية عامها بستة أشهر.
ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع نزل عليه في الطريق
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة
[النساء: 176] إلى آخرها، ثم نزل بعدها وهو واقف بعرفة
أكملت لكم دينكم
[المائدة: 3] الآية ، فعاش بعدها إحدى وثمانين ليلة، ثم نزل بعدها آيات الربا. ثم نزل بعد ذلك { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } وهي آخر آية نزلت، فعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها إحدى وعشرين ليلة، قال ابن جريج: (تسع ليال). وقال ابن جبير ومقاتل: (سبع ليال). ثم مات يوم الاثنين لليلتين مضت من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة.
[2.282]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه }؛ قال ابن عباس: (لما حرم الربا أباح السلم) وظاهر الآية على كل دين من سلم وغيره. ومعنى الآية: { يأيها الذين آمنوا إذا } تبايعتم بالنسيئة إلى وقت معلوم فاكتبوا الدين بأجله وأشهدوا عليه كيلا تحدث نفس أحدكم بالطمع في حق صاحبه، ولا يقع شك في مقداره، ولا جحود ولا نسيان. والدين: ما كان مؤجلا، والعين: ما كان حاضرا.
واختلفوا في هذه الكتابة أنها فرض أو ندب؟ فذهب أبو سعيد الخدري والحسن والشعبي: (أن الكتابة والإشهاد على الديون الآجلة كانا واجبين بهذه الآية، ثم نسخا بقوله تعالى:
فإن أمن بعضكم بعضا
[البقرة: 283]. وقال ابن عباس: (لا والله، إن آية الدين محكمة ما فيها نسخ). وهو قول الربيع وكعب، وهذا هو الأصح؛ لأن الأمر بالكتابة والإشهاد إنما ورد مقرونا بقوله:
فإن أمن بعضكم بعضا
[البقرة: 283]، ويستحيل ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد، فكأن المراد بالأمر الندب.
والفائدة في قوله: { إلى أجل مسمى } بيان إعلام وجوب الأجل؛ فإن جهالة الأجل في المباعات تفسدها. وقال بعضهم: إن الكتابة فرض واجب.
وقال ابن جريج: (من أدان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد). يدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كان له دين فلم يشهد، ورجل أعطى سفيها مالا وقد قال تعالى: { ولا تؤتوا السفهآء أموالكم } ، ورجل كانت عنده امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ".
وقال قوم: هو مستحب؛ وإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس، كقوله تعالى:
وإذا حللتم فاصطادوا
[المائدة: 2] وقوله تعالى:
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا
[الجمعة: 10].
قوله تعالى: { وليكتب بينكم كاتب بالعدل }؛ قرأ الحسن: (وليكتب) بكسر اللام وهذه لام الأمر، وهي إذا كانت مفردة " سكنت " طلبا للخفة، ومنهم من يكسرها فليس فيها إلا الحركة، وإذا كان قبلها (واو) أو (فاء) أو (ثم) فأكثر العرب على تسكينها طلبا للخفة. ومنهم من يكسرها على الأصل.
ومعنى هذه الآية: وليكتب كاتب بين البائع والمشتري؛ والطالب والمطلوب بالحق والإنصاف، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، ولا يقدم الأجل ولا يؤخره.
قوله تعالى: { ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله }؛ أي لا يمتنع أن يكتب كما ألهمه الله شكرا لما أنعم عليه حيث علمه الكتابة وأحوج غيره إليه؛ { فليكتب }.
واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب؛ والشهادة على الشاهد؛ فقال مجاهد والربيع: (واجب على الكاتب أن يكتب). وقال الحسن: (ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره، فيضر بصاحب الدين إن امتنع، فإن الكتابة حينئذ عليه فريضة.
وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره). وقال الضحاك: (هذا " كان " واجبا، فنسخه قوله تعالى: { ولا يضآر كاتب ولا شهيد }. وقال السدي: (هو واجب عليه في حال فراغه). وقال الشعبي: (هو واجب على الكفاية كالجهاد). والصحيح: أن الكتابة غير واجبة في الأصل على المتداينين، فإذا لم تكن واجبة عليهم؛ فكيف تكون واجبة على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا العقد ولا سبب؟!
قوله تعالى: { وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا }؛ يعني المديون المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه ويملي على الكاتب. والإملال والإملاء: بمعنى واحد؛ وهما لغتان فصيحتان جاء بهما القرآن. ثم خوفه الله تعالى فقال: { وليتق الله ربه } أي وليخش الله ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا.
قوله عز وجل: { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل }؛ أي فإن كان المطلوب الذي عليه المال سفيها أو ضعيفا؛ أي خفيف العقل جاهلا بالإملاء؛ لا يميز تمييزا صحيحا، قاله مجاهد. وقال السدي: (يعني عاجزا لا يستطيع أن يمل لعجمة أو زمانة). وقوله تعالى: { ضعيفا } أي ضعيفا في العقل مثل الصبي والمرأة أو شيخا كبير السن. وقوله تعالى: { أو لا يستطيع أن يمل هو } يعني لمرض أو خرس أو حبس لا يمكنه حضور الكتاب أو يجهل ما له وعليه. قوله: { فليملل وليه بالعدل } أي وليه الذي يقوم بأمره.
وقوله تعالى: { بالعدل } أي بالحق. وقال ابن عباس والربيع ومقاتل: (فليملل ولي الحق) وهو صاحب الدين؛ لأنه أعلم بدينه يمل بالعدل والصدق والحق والإنصاف.
قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } يعني أشهدوا على الحق شهيدين من الأحرار البالغين دون الكفار والعبيد والصبيان، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأكثر الفقهاء. وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد، وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه.
قوله تعالى: { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }؛ الآية، أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين فليكن رجل وامرأتان. قوله: { ممن ترضون من الشهدآء }؛ أي ممن ترضون عدالته وأمانته. والمرضي: من يجتمع فيه ثلاثة أشياء:
أحدها: العدالة، وأصلها الإيمان واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق الله من الواجبات والمسنونات وصدق " الحديث " وأداء الأمانة.
والثاني: نفي التهمة؛ نحو أن لا يكون المشهود له ولدا ولا والدا ولا زوجة ولا زوجا، فإن شهادة هؤلاء غير مقبولة لما ذكرنا، وإن كانوا عدولا مرضيين.
الثالث: التيقظ وقلة الغفلة وأن لا يكون كثير الغلط.
قال النخعي: (الرجل العدل: هو من لم يظهر فيه ريبة. وقال الشعبي: (هو من لا يطعن عليه في بطن ولا فرج). وقال الحسن: (هو من لم يعلم له خيانة).
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة؛ ولا مجلود؛ ولا ذي حقد على أخيه؛ ولا من جرت عليه شهادة زور؛ ولا الخادم مع أهل البيت "
وعن ابن عباس قال:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهادة؟ فقال: " أترى هذه الشمس؟ " فقال: نعم، قال: " على مثلها فاشهد أو دع " ".
قوله تعالى: { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى }؛ معناه: أن تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت، ومعنى تضل: تنسى، كقوله تعالى:
قال فعلتهآ إذا وأنا من الضالين
[الشعراء: 20]. وقوله تعالى: { فتذكر } معطوف على { تضل }. وقرأ الأعمش: (إن تضل) بكسر الهمزة (فتذكر) بالرفع. ومعناه: الخبر أو الابتداء. وموضع { تضل } جزم بالجزاء، إلا أنه لا تبين فيه للتضعيف، (فتذكر) رفعا؛ لأن ما بعد (فاء) الخبر مبتدأ. وقيل في تفسير الآية: إن امتنعت إحدى المرأتين عن أداء الشهادة تعظها الأخرى حتى تشهد.
ومن قرأ (فتذكر) بالتخفيف فالإذكار والتذكير بمعنى واحد. وقيل في معنى التحقيق: تجعلها ذكرا؛ أي يقومان مقام رجل. قرأ زيد بن أسلم: (فتذاكر إحداهما الأخرى) من المذاكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: (فتذكر) بالتخفيف. وقرأ الباقون (فتذكر) بالتشديد.
قوله تعالى: { ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا }؛ أي لا يمتنعوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة عند الحكام، وهذا قول مجاهد وعطاء وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي. وقال بعضهم: هذا في تحمل الشهادة؛ وهو أمر إيجاب أيضا.
قال قتادة: (كان الرجل يطوف في الحي العظيم فيه القوم؛ فيدعوهم إلى الشهادة؛ فلا يتبعه أحد منهم؛ فأنزل الله هذه الآية).
وقال الشعبي: (هو مخير في تحمل الشهادة إذا وجد غيره، فإذا لم يوجد غيره وجب عليه التحمل). وقال بعضهم: هذا أمر ندب؛ وهو مخير في جميع الأحوال، وهو قول عطاء. وقال المغيرة: (قلت لإبراهيم: إني أدعى إلى الشهادة؛ وإني أخاف أن أنسى، قال: فلا تحمل إن شئت). وقال الحسن: (هذه الآية في التحمل والإقامة إذا كان فارغا).
قوله تعالى: { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله }؛ أي لا تملوا أن تكتبوا الحق قليلا كان أو كثيرا إلى محله، يقال: سأمت أسأم سئامة؛ إذا مللت، قال زهير:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وقال لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
و (أن) في موضع نصب من وجهين؛ إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا؛ وأوقعت السئامة عليه؛ تقديره: ولا تسأموا كتابته. وإن شئت نصبه بنزع الخافض، و(الهاء) راجعة إلى الحق؛ أي ولا تسأموا من أن تكتبوه.
وقرأ السلمي: (ولا يسأموا) بالياء، وقوله تعالى: { صغيرا أو كبيرا } انتصب من وجهين؛ أحدهما: على الحال من الهاء.
والثاني: أن يجعله خبرا ل (كان) المحذوفة؛ تقديره: صغيرا كان الحق أو كبيرا.
قوله عز وجل: { ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهدة وأدنى ألا ترتابوا } أي الكتاب أعدل عند الله وأحصى للأجل وأحفظ للشهادة وأقرب أن لا يشكوا في مقدار الحق ومقدار الأجل. وفي هذا دليل أنه لا يجوز إقامة الشهادة إلا مع زوال الريب، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ".
قوله تعالى: { إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها بينكم }؛ قرأ عاصم (تجارة) بالنصب على خبر كان. وأضمر اسمها؛ تقديره: إلا أن تكون المداينة تجارة أو المبايعة تجارة. وقرأ الباقون بالرفع لوجهين؛ أحدهما: أن يكون الكون بمعنى الوقوع؛ تقديره: إلا أن تكون تجارة؛ فحينئذ لا خبر له، والثاني: أن تجعل تجارة اسم يكون، والخبر (تديرونها)؛ تقديره: إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم.
ومعنى الآية: إلا أن تقع تجارة حالة يدا بيد، { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها }؛ في ترك الكتابة في تلك التجارة؛ لأنه ليس فيه أجل ولا نسيئة، وهذا توسعة من الله للعباد كيلا يضيق عليهم أمر بيعاتهم في المأكول والمشروب والأشياء التي تمس حاجتهم إليها في أكثر الأوقات. ويشق عليهم كتابة جميعها.
قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم }؛ أي أشهدوا على حقوقكم إذا بعتم واشتريتم، وهذا محمول على البياعات النفيسة، فأما القدر اليسير الذي ليس في العادة التوثيق بالإشهاد فيه نحو شراء الخبز والبقل وما جرى مجراه؛ فغير داخل في هذا الخطاب.
قال الضحاك: (قوله: { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا الإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره؛ ونقده ونسيئته ولو كان على تافه). وقال آخرون: هو أمر ندب؛ إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد.
قوله تعالى: { ولا يضآر كاتب ولا شهيد }؛ يحتمل وجهين؛ أحدهما: لا يضار الكاتب ولا الشاهد الطالب والمطلوب؛ يعني لا يكتب الكاتب إلا بالحق، ولا يشهد الشاهد إلا بالحق. تقديره: لا يضارر على النهي. والثاني: على اسم ما لم يسم فاعله؛ أي لا يدعى الكاتب وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه، وكذلك لا يدعى الشاهد ومجيئه يضر به.
قوله تعالى: { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم }؛ أي لا تقصدوا المضارة بعد نهي الله تعالى عنها، فإنه إثم وخروج من أمر الله. وقوله تعالى: { واتقوا الله ويعلمكم الله }؛ أي { واتقوا الله } في الضرار ولا تعصوه فيما أمركم به، { ويعلمكم الله } ما به قوام دينكم ودنياكم، { والله بكل شيء }؛ من أعمالكم، { عليم }؛ يعلم ما تعملون في الكتابة والشهادة.
[2.283]
قوله تعالى: { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهن مقبوضة } الآية، معناه: إذا كنتم مسافرين { ولم تجدوا كاتبا } يكتب الوثيقة بالحق، (ف) الوثيقة (رهان) يقبضها الذي له الحق.
قرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد: (كتابا) يعني الصحيفة والدواة؛ قالوا: لأنه ربما يجد الكاتب ولا يجد المراد والصحيفة والدواة. وقرأ الضحاك: (كتابا) على جمع الكاتب. وقرأ الباقون: (كاتبا) وهو المختار لموافقة المصحف.
وقوله تعالى: { فرهن مقبوضة } قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: (فرهن). وقرأ عكرمة وعبدالوارث: (فرهن) بإسكان الهاء. وقرأ الباقون: (فرهان) وهو جمع رهن مثل نعل ونعال؛ وجبل وجبال. والرهن: جمع رهان وهو جمع الجمع، قاله الفراء والكسائي. وقال أبو عبيد: (هو جمع رهن، مثل سقف وسفف).
قوله تعالى: { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه }؛ أي إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لثقته وحسن ظنه؛ { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } أي فليؤد المطلوب أمانته بأن لا يبخس ولا يجحد.
قوله تعالى: { ولا تكتموا الشهدة }؛ أي لا تكتموها عند الحكام ولا تمتنعوا عن أدائها، { ومن يكتمها فإنه آثم قلبه }؛ أي فاجر سريرته، وأضاف الإثم إلى القلب وإن كان الآثم هو الكاتم؛ لأن اكتساب الإثم بكتمان الشهادة يقع بالقلب؛ وهذا أبلغ في الوعيد وأحسن في البيان؛ لأن كاتم الشهادة يلحقه الإثم من وجهين؛ أحدهما: العزم على أن لا يؤدي. والثاني: ترك أدائها باللسان.
قوله تعالى: { والله بما تعملون عليم }؛ أي عليم بما تعملون به من كتمان الشهادة وإقامتها؛ وأداء الأمانة والخيانة فيها؛ عالم لا يخفى عليه شيء مما تفعلون.
ولا خلاف بين العلماء في جواز الرهن في الحضر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم
" اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه "
والفائدة في ذكر السفر في الآية: أن الأغلب من حال السفر عدم الشهود والكتاب؛ فخص الرهن بحال السفر. وعن مجاهد: (أنه كان يكره الرهن في الحضر).
[2.284]
قوله عز وجل: { لله ما في السموت وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }؛ اختلف المفسرون في هذه الآية؛ فقال قوم: هي خاصة؛ واختلفوا في خصوصها، فقال بعضهم: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها. يعني { وإن تبدوا ما في أنفسكم } أيها الشهود من كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان { يحاسبكم به الله }. وهذا قول الشعبي وعكرمة، ورواية مجاهد عن ابن عباس، يدل عليه قوله تعالى فيما قبلها:
ولا تكتموا الشهدة
[البقرة: 283] الآية.
وذهب بعضهم إلى أنها عامة في الشهادة وفي غيرها، ثم اختلفوا في وجه عمومها؛ فقال بعضهم: هي منسوخة.
" وروي أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبدالرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله، ما نزل علينا آية أشد من هذه؛ إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه - يعني يحدث نفسه بأمر من المعصية ثم لا يعمل بها - وإنا لمؤاخذون بما تحدث به نفوسنا إذا هلكنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " هكذا نزلت " ، فقالوا: كلفنا من العمل ما لا نطيق، فقال صلى الله عليه وسلم: " أفتقولون كما قالت اليهود: سمعنا وعصينا؟! " فقالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله. واشتد عليهم ذلك ؛ فمكثوا حولا، فأنزل الله عز وجل: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فنسخت ما قبلها. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا به "
وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة برواية ابن جبير وعطاء وابن سيرين وقتادة والكلبي وشيبان.
وقال بعضهم: لا يجوز أن تكون هذه الآية منسوخة؛ لأنها خبر من عند الله؛ والخبر لا يحتمل النسخ؛ لأنه خلف؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لكن المراد بالآية إظهار العمل وإخفاؤه. وقال الربيع: (هذه الآية محكمة لم ينسخها شيء، فإن الله تعالى يعرف عبده يوم القيامة، يقول: إنك أخفيت في صدرك كذا وكذا، يحاسبه على ما أسر وأعلن من حركة في جوارحه وهمه في قلبه، فهكذا يصنع بكل عباده، ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء).
وقيل: لا يؤاخذ المؤمن بما حاسبه من ذلك، فمعناه: وإن تظهروا ما في أنفسكم من المعاصي أو تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها { يحاسبكم به الله } أي يخبركم بها ويحاسبكم عليها، ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهذا قول الحسن والربيع ورواية الضحاك عن ابن عباس، يدل عليه قوله تعالى:
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
[الإسراء: 36].
وقال آخرون: معنى الآية: أن الله يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوا ويعاقبهم عليه؛ غير أن معاقبته إياهم على ما أخفوا مما لم يعملوا بها بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها؛ مثل الحمى وغير ذلك حتى الشوكة يشاكها والشيء يضيع فيفقده ويراع عليه، ثم يجده. وهذا قول عائشة رضي الله عنها.
وقال بعضهم: معناه: { وإن تبدوا ما في أنفسكم } من الأعمال الظاهرة، { أو تخفوه } من الأحوال الباطنة، { يحاسبكم به الله } العائد على أفعال العارف على أحواله.
وقال بعضهم: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: هذا يوم تبلى السرائر وتحرج الضمائر، وإن كتابي لم يكتبوا إلا ما ظهر من أعمالكم، وأنا المطلع على سرائركم مما لم يعلموه ولا يكتبوه، فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم؛ لتعلموا أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمالكم، ثم أغفر لمن شئت وأعذب من شئت. فأما المؤمنون فيخبرهم بذلك كله ويغفر لهم، ولا يؤاخذهم بذلك إظهارا لفضله. وأما الكافرون فيخبرهم ويعاقبهم عليها إظهارا لعدله. فمعنى الآية: { وإن تبدوا ما في أنفسكم } فتعملوا به، { أو تخفوه } مما أضمرتم وأسررتم ونويتم. { يحاسبكم به الله } ويعرفكم إياه ويغفر للمؤمنين، ويعذب الكافرين، يدل عليه قوله تعالى: { يحاسبكم به الله } ولم يقل: يؤاخذكم به الله. والمحاسبة غير المعاقبة فالحساب ثابت، والعقاب ساقط. وقال الحسن ابن مسلم: (يحاسب الله المؤمن بالمنة والفضل؛ والكافر بالحجة والعدل).
وقيل في تأويل الآية: أنها وردت فيما يؤاخذ به العبد فيما بينه وبين الله تعالى، وتأويل قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا به "
إنما ورد فيما يلزم العبد من أحكام الدنيا، فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا هبته بالنية ما لم يتكلم.
ومن نظائر هذه الآية:
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
[البقرة: 225] وقوله تعالى:
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم
[النور: 19]. ويدل على ذلك أن من أحب ما يبغضه الله، أو أبغض ما يحبه الله كان معاقبا على ذلك وإن لم يعمل إلا بقلبه.
وقال بعضهم: إن الإخفاء في هذه الآية أن يضمر على السوء ويهم به، ثم لا يصل إليه ولا يتمكن منه. وهذا القول حسن جدا اختاره جماعة من المفسرين.
قوله تعالى: { فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء }؛ رفعهما أبو جعفر وابن عامر والحسن وعاصم ويعقوب على الابتداء؛ أي فهو يغفر. ونصبهما ابن عباس على الصرف. وجزمهما الباقون عطفا على { يحاسبكم }. قوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }؛ يعني من المغفرة والعقوبة.
[2.285-286]
قوله عز وجل: { ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله }؛ الآية، لما سبق في السورة ذكر أحكام كثيرة أثنى الله على من آمن بها وقبلها، وقال عز من قائل: { ءامن الرسول } بجميع الأحكام التي أنزلها الله تعالى، وكذلك المؤمنون كلهم آمنوا بالله، وقوله تعالى: { وملائكته }؛ إنما أتى بالملائكة لأن حيا من خزاعة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فقال صلى الله عليه وسلم:
" والمؤمنون يقولون: إن الملائكة عباد الله ".
قوله: { وكتبه }؛ قرأ ابن عباس وعكرمة والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (وكتابه) بالألف. وقرأ الباقون (وكتبه) بالجمع، وهو ظاهر كقوله { وملائكته ورسله }. وللتوحيد وجهان؛ أحدهما: أنهم أرادوا القرآن خاصة، والثاني: أنهم أرادوا جميع الكتب؛ كقول العرب: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، يريدون الدراهم والدنانير. يدل عليه قوله تعالى:
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب
[البقرة: 213].
وقوله تعالى: { ورسله }؛ قرأ الحسن: (ورسله) بسكون السين لكثرة الحركات؛ { لا نفرق بين أحد من رسله }؛ أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض. وفي مصحف عبدالله: (لا يفرقون بين أحد من رسله). وقرأ جرير بن عبدالله وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر ويعقوب: (لا يفرق) بالياء، بمعنى لا يفرق الكل، ويجوز أن يكون خبرا عن الرسول. وقرأ الباقون بالنون على إضمار القول؛ تقديره: قالوا لا نفرق، كقوله تعالى:
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم
[الرعد: 23-24]؛ أي يقولون: سلام عليكم.
قوله عز وجل: { وقالوا سمعنا وأطعنا }؛ أي سمعنا قولك وأطعنا أمرك. وقيل: معنى { وأطعنا } قبلنا ما سمعنا؛ بخلاف ما قالت اليهود. وقوله تعالى: { غفرانك ربنا وإليك المصير }؛ أي اغفر غفرانك يا ربنا. وقيل: معناه: نسألك غفرانك. والأول مصدر، والثاني مفعول. وقوله تعالى: { وإليك المصير } أي نحن مقرون بالبعث. ومعنى قوله: { وإليك } أي إلى جزائك؛ وهذا كما قال عز وجل حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
إني ذاهب إلى ربي سيهدين
[الصافات: 99] أي إلى حيث أمر ربي.
قوله عز وجل: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }؛ قرأ إبراهيم بن أبي عبلة: (إلا وسعها) بفتح الواو وكسر السين على الفعل؛ يريد إلا وسعها أمره.
ومعنى الآية: { لا يكلف الله نفسا } فرضا من فروضها من صوم أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك من حديث النفس؛ إلا مقدار طاقتها كما قال صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين:
" صل قائما؛ فإن لم تستطع فقاعدا؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك تومئ إيماء ".
قال قوم: لو كلف الله العباد فوق وسعهم لكان ذلك له؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره، ولكنه أخبر أنه لا يفعله.
قوله تعالى: { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } يعني النفس لها جزاء ما عملت من الخير والعمل الصالح؛ أي لها أجره وثوابه؛ وعليها وزر ما اكتسبت من المعصية والعمل السيء لا يؤاخذ أحد بذنب أحد؛ ولا تزر وازرة وزر أخرى.
والفرق بين الكسب والاكتساب: أن الكسب فعل الإنسان لنفسه ولغيره، والاكتساب ما يفعله لنفسه خاصة. وقيل: لا فرق بينهما في اللغة. فعلى القول الأول وصف المسيء بالاكتساب؛ لأن وزره لا يعدوه؛ ومعصيته لا تضر غيره، ووصف المحسن بالكسب؛ لأن غيره يشاركه في ثوابه بالهداية والشفاعة.
قوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا }؛ أي لا تعاقبنا إن نسينا طاعتك أو أخطأنا في أمرك. وقال الكلبي: (إن جهلنا أو تعمدنا)، فذهب إلى الخطأ الذي هو ضد الصواب لا ضد القصد. يقال: خطأ إذا تعمد؛ وأخطأ إذا سهى، وقد يقال: أخطأ إذا تعمد. وقيل: معنى الآية: إن تركنا أمرا أو اكتسبنا خطيئة.
والنسيان بمعنى الترك معروف في الكلام كما في قوله تعالى:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67] أي تركوا ذكر الله وأمره فتركهم في العذاب. والمراد بالمؤاخذة والنسيان سقوط الإثم في الآخرة. فأما في حكم الدنيا فلا يرتفع التكليف منه إذا ذكره بعد النسيان كما قال صلى الله عليه وسلم:
" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "
وكذلك الخطأ مرفوع الإثم في الآخرة وهو تأويل الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
فأما في أحكام الدنيا فيتعلق به الحكم؛ لأن الله نص على لزوم قتل الخطأ في إيجاب الدية والكفارة.
قال الكلبي: (كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة، فيحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الدية، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم). وقال ابن زيد: (قوله تعالى: { إن نسينآ } شيئا مما افترضته علينا، { أو أخطأنا } شيئا مما حرمته علينا).
قوله عز وجل: { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا }؛ أي لا تحمل علينا ثقلا؛ ويقال: عهدا؛ كما حملته على بني إسرائيل بجرم منهم أمرتهم بقتل بعضهم بعضا؛ وحرمت عليهم الطيبات بظلمهم، وكما كانوا مأمورين بأداء ربع أموالهم في الزكاة ونحو ذلك من الأمور التي كانت تثقل عليهم. ومنه قوله تعالى:
وأخذتم على ذلكم إصري
[آل عمران: 81] أي عهدي.
قوله تعالى: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }؛ أي لا تحملنا ما يشق علينا من الأعمال، وهذا كما يقال: لا أطيق كلام فلان، ولا أطيق هذا الأمر؛ أي لا أحمله إلا بمشقة.
هذا هو معنى الآية؛ لأن الله تعالى لا يكلف أحدا شيئا لا يكون ذلك في قدرته. وقيل: معناه: { ما لا طاقة لنا به } من العذاب، وقيل: هو حديث النفس والوسوسة. وعن مكحول أنه (الغلمة). وعن بعضهم أنه كان يقول: اللهم أعذني وإخوتي من شر الغلمة، فإنها ربما جرت إلى جهنم. وقال ابن عبدالوهاب: (يعني العشق). وعن إبراهيم في قوله تعالى: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }: قال يعقوب: (يعني الحب).
وقال بعضهم: حضرت ذا النون المصري في مجلس له، فتكلم ذلك اليوم في محبة الله عز وجل، فمات أحد عشر نفسا في المجلس؛ فصاح رجل من المريدين فقال: ذكرت محبة الله، فاذكر محبة المخلوقين. فتأوه ذو النون تأوها شديدا وشق قميصه نصفين، وقال: آه.. علقت رهونهم؛ واستعبرت عيونهم؛ وخالفوا السهاد؛ وفارقوا الرقاد؛ فليلهم طويل؛ ونومهم قليل؛ أحزانهم لا تتغير؛ وهمومهم لا تفقد؛ باكية عيونهم؛ قريحة جفونهم.
وقال يحيى بن معاذ: (لو كانت العقوبة بيدي يوم القيامة لما عذبت العشاق؛ لأن ذنوبهم اضطرار لا اختيار). وقال بعضهم: { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } يعني شماتة الأعداء؛ قال الشاعر:
كل المصائب قد تمر على الفتى
فتهون غير شماتة الحساد
إن المصائب تنقضي أيامها
وشماتة الحساد بالمرصاد
وقيل: هو الفرقة والقطيعة، نعوذ بالله العظيم منهما، يقال: قطع الأوصال أيسر من قطع الوصال.
قوله عز وجل: { واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ }؛ أي تجاوز عن تقصيرنا وذنوبنا ولا تفضحنا { وارحمنآ }؛ فإننا لا ننال العمل بطاعتك إلا بمعونتك، ولا نترك المعصية إلا برحمتك. وقيل: معنى: { واعف عنا } أي اترك عنا العقوبة، ومعنى العفو: الترك. وقوله تعالى: { واغفر لنا } أي استر لنا ذنوبنا وعيوبنا، { وارحمنآ } أي أنعم علينا بالجنة والثواب، وقيل: معنى الآية: { واعف عنا } من المسخ { واغفر لنا } من الخسف { وارحمنآ } من الغرق؛ أي لا تفعل بنا ما فعلت ببعض من تقدمنا من الأمم. وقيل: معناه: { واعف عنا } الصغائر { واغفر لنا } الكبائر { وارحمنآ } بتثقيل الميزان. وقيل: معناه: { واعف عنا } في سكرات الموت { واغفر لنا } في ظلمة القبور { وارحمنآ } في أهوال القيامة.
قوله تعالى: { أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين }؛ أنت ولينا وناصرنا ومتولي أمورنا، { فانصرنا على القوم الكافرين } أي أعنا عليهم في إقامة الحجة وإظهار الدين كما وعدتنا.
روي عن عبدالله بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم
" لما قرأ { غفرانك ربنا وإليك المصير } قال قد غفرت لكم، فلما قرأ: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا } قال: لا أؤاخذكم، فلما قرأ { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } ، قال: لا أحمل عليكم، فلما قرأ { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال: لا أحملكم، فلما قرأ { واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين }. قال: قد عفوت عنكم؛ وغفرت لكم؛ ورحمتكم؛ ونصرتكم على القوم الكافرين ".
وكان معاذ بن جبل إذا ختم هذه السورة، قال: (آمين).
وعن الحسن والضحاك ومجاهد وجماعة من المفسرين: أن قوله تعالى: { ءامن الرسول... } إلى آخر السورة كان في قصة المعراج؛ قالوا:
" لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى قال له جبريل: إني لم أجاوز هذا المكان، ولم يؤمر أحد بالمجاوزة غيرك، فامض أنت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فمضيت حتى انتهيت إلى ما أراد الله تعالى " فأشار جبريل عليه السلام أن سلم على ربك، فقلت: " التحيات لله والصلوات والطيبات " فقال الله عز وجل: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأحببت أن يكون لأمتي حظ في السلام، فقلت: " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فقال جبريل وأهل السماوات كلهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فقال الله تعالى: { ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه }. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرك أمته في الكرامة والفضيلة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } الآية، قال الله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } الآية، فقال جبريل عليه السلام عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: سل تعط، فقال صلى الله عليه وسلم: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا } إلى آخر السورة. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوحى الله إليه بهذه الآيات ليعلم أمته بذلك أو يعلمهم كيف يدعون الله تعالى " ".
وقد تقدم فضل السورة والله الموفق.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-2]
قال ابن عباس معناه: (أنا الله أعلم)، ويقال: هو قسم أقسم الله بأنه واحد لا شريك له ولا معبود للخلق سواه، وقد تقدم تفسير الحروف المقطعة في أول سورة البقرة.
قال أنس رضي الله عنه:
" نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة يؤول أمرهم إليهم: العاقب أمير الجيش وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح، والثاني: اسمه الأيهم صاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة إمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد درس كتبهم حتى حسن علمه فيهم في دينهم.
فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده وقت صلاة العصر وعليهم ثياب الحبرات؛ جبب وأردية، فقاموا وأقبلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجهوا إلى ناحية المشرق، فقال صلى الله عليه وسلم للعاقب والأيهم: " أسلما ". فقالا: قد أسلمنا قبلك، فقال: " كذبتما، يمنعكما عن الإسلام دعواكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير " قالا: فإن لم يكن ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى عليه السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: " ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدا إلا وهو يشبه أباه؟ " قالوا: بلى، قال: " ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ " قالوا: بلى، قال: " ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ " قالوا: بلى، قال: " فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ " قالوا: لا، قال: " ألستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ " قالوا: بلى، قال: " فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا غير ما علمه الله؟ " قالوا: لا، قال: " فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ألستم تعلمون ذلك؟ " قالوا: بلى، قال: " ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل الناس المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة، ثم غذي كما يغذى الصبي، فكان يطعم ويشرب ويحدث؟ " قالوا: بلى، قال: " فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ " فسكتوا. "
فأنزل الله عز وجل فيهم أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية فيها).
فقال الله عز وجل: { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الحي: هو الدائم الذي لا ند له، الذي لا يموت ولا يزول، والقيوم: القائم على كل نفس بما كسبت.
وأكثر القراء على فتح الميم من (الم) وللفتح وجهان؛ أحدهما: أنه لما كانت الميم بعد ياء ساكنة استثقلوا فيها السكون فحركوها إلى الفتح؛ لأن ذلك أخف نحو : أين وكيف. والثاني: أنه ألقي عليها فتحة الهمزة من ألف (الله) وهذا جائز في الهجاء وإن كان لا يجوز مثله في الكلام الموصول من حيث إن حروف الهجاء مبنية على الوقف، ومن قرأ بتسكين الميم فعلى أصل حروف الهجاء أنها مبنية على الوقوف والسكون.
[3.3-5]
قوله عز وجل: { نزل عليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه } ، قرأ ابراهيم بن أبي عبلة: (نزل عليك الكتاب) بتخفيف الزاي، وقرأ الباقون بالتشديد، ونصب الياء لأن القرآن كان ينزل منجما شيئا بعد شيء، والتنزيل مرة بعد مرة. قال الله تعالى: { وأنزل التوراة والإنجيل }؛ لأنهما نزلتا دفعة واحدة. ومعنى الآية: نزل عليك يا محمد القرآن بالصدق لإقامة أمر الحق.
قوله تعالى: { مصدقا لما بين يديه }؛ أي موافقا لما تقدمه من التوراة والانجيل وسائر كتب الله تعالى في الدعاء إلى توحيد الله، وبيان أقاصيص الأنبياء والأمر بالعدل والإحسان وسائر ما لا يجري فيه النسخ وبعض الشرائع. وانتصب { مصدقا } على الحال من الكتاب.
قوله تعالى: { وأنزل التوراة والإنجيل } أي أنزل التوراة جملة على موسى، والإنجيل جملة على عيسى { من قبل } القرآن، { هدى للناس }؛ أي بيانا ونورا وضياء لمن تبعه. وموضع { هدى } نصب على الحال.
قوله تعالى: { وأنزل الفرقان }؛ يعني القرآن، وأما ذكره لبيان أنه يفرق بين الحق والباطل، ومتى اختلف فوائد الصفات على موصوف واحد لم يكن ذكر الصفة الثانية تكرارا، بل تكون الثانية في حكم المبتدلات لكل صفة فائدة ليست للأخرى، والصفة الأولى تفيد أن من شأنه أن يكتب، والصفة الثانية تفيد أن من شأنه أن يفرق بين الحق والباطل. وقيل: إن كل كتاب لله فهو فرقان.
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام } ، معناه: إن في كتب الله ما يدل على صدق قولك؛ فمن جحد بآيات الله وهي العلامات الهادية إليه الدالة على توحيده فأولئك لهم عذاب شديد، { والله عزيز ذو انتقام } أي ذو نقمة ينتقم ممن عصاه.
ثم حذرهم عن التلبس والاستتار عن المعصية، فقال: { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السمآء } ، أي لا يخفى عليه قول الكفار وعملهم، يحصي كل ما يعملونه فيجازيهم عليه في الآخرة.
وفائدة تخصيص الأرض والسماء وإن كان الله لا يخفى عليه شيء بوجه من الوجوه: أن ذكر الأرض والسماء أكبر في النفس وأهول في الصدر، فذكره على وجه الأهوال، إذ كان الغرض به التحذير.
[3.6]
قوله تعالى: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء }؛ أي خلقكم في أرحام الأمهات كيف يشاء من لون وطول وقصر وعظم وصغر وذكورة وأنوثة وحسن وقبح وسعيد أو شقي.
قوله تعالى: { لا إله إلا هو العزيز الحكيم }؛ أي لا مصور ولا خالق إلا هو. ومعنى العزيز: المنيع في سلطانه، لا يغالب ولا يمانع، ومعنى الحكيم: المحكم في تدبيره وقضائه في عباده، وأفعال الله كلها شاهدة بأنه الواحد القديم العالم القادر.
[3.7]
قوله عز وجل: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } ، قال ابن عباس: (معناه: هو الذي أنزل عليك القرآن منه آيات واضحات مبينات للحلال والحرام هن أصل الكتاب الذي أنزل عليك يعمل عليه في الأحكام، وهن أم في التوراة والإنجيل والزبور وكل كتاب) نحو قوله تعالى:
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم
[الأنعام: 151].
وقوله تعالى: { وأخر متشابهات } أي ومنه آيات أخر اشتبهت على اليهود مثل { الم } و { المص }. وقيل: يشبه بعضها بعضا.
واختلفوا في المحكم والمتشابه، فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي: (المحكم هو الناسخ الذي يعمل به، والمتشابه هو المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به). وعن ابن عباس قال: (محكمات القرآن: ناسخه، وحلاله؛ وحرامه، وحدوده؛ وفرائضه؛ وأوامره، والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه). وقال مجاهد وعكرمة: (المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه)، وقال بعضهم: المحكم هو الذي لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل وجوها.
وقال ابن زيد: (المحكم ما ذكره الله من قصص الأنبياء مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، والمتشابه هو ما اختلف فيه الألفاظ من قصصهم عند التكرار كما في موضع من قصة نوح
قلنا احمل
[هود: 40] وفي موضع آخر
فاسلك
[المؤمنون: 27]، وقال تعالى في العصا:
فإذا هي حية تسعى
[طه: 20]، وفي موضع آخر
فإذا هي ثعبان مبين
[الأعراف: 107]، وقوله تعالى:
فبأي آلاء ربكما تكذبان
[الرحمن: 13] ونحو
ويل يومئذ للمكذبين
[المرسلات: 15] ونحو ذلك).
وقال بعضهم: المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معانيه، والمتشابه ما ليس لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، نحو: خروج الدجال؛ ونزول عيسى؛ وطلوع الشمس من مغربها؛ وقيام الساعة؛ وفناء الدنيا ونحوها.
وقال ابن كيسان: (المحكمات حججها واضحة؛ ودلائلها واضحة؛ لا حاجة لمن سمعها إلى طلب معناها، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر، ولا تعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل).
وقال بعضهم: المحكم ما اجتمع على تأويله، والمتشابه ما ليس فيه بيان قاطع.
وقال محمد بن الفضل: (هو سورة الإخلاص لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط، والمتشابه نحو قوله
الرحمن على العرش استوى
[طه: 5] ونحو قوله
خلقت بيدي
[ص: 75]، ونحو ذلك مما يحتاج إلى تأويلها في الإبانة عنها).
ويقال: المحكم: نحو قوله تعالى:
ولقد خلقنا السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام
[ق: 38] والمتشابه: نحو قوله:
خلق الأرض في يومين
[فصلت: 9] ثم قال
وقدر فيهآ أقواتها في أربعة أيام
[فصلت: 10] ثم قال:
فقضهن سبع سموت في يومين
[فصلت: 12] فظن من لا معرفة له أن العدد ثمانية أيام ولم يعلم أن اليومين الأولين داخلان في الأربعة التي ذكرها الله من بعد.
وقال الزجاج: (المحكم ما اعترف به أهل الشرك مما أخبر الله به من إنشاء الخلق؛ وجعله من الماء كل شيء حي؛ وما خلق الله من الثمار وسخر لهم من الفلك والرياح. والمتشابه: ما تشابه عليهم من أمر البعث). وقد سمى الله جملة القرآن محكما؛ فقال:
كتاب أحكمت آياته
[هود: 1] فوصفه بالإحكام، وسماه كله متشابها في آية أخرى، فقال:
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها
[الزمر: 23] أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والتصديق.
قوله عز وجل: { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله }؛ معناه: { فأما الذين في قلوبهم } ميل عن الحق والهدى وهم اليهود فيتبعون ما اشتبه عليهم من أمر الحروف المقطعة، يحسبون ذلك بحساب الجمل { ابتغاء الفتنة }؛ أي طلب الكفر والشرك، { وابتغاء تأويله } في طلب تفسير منتهى ما كتب الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من المدة ليرجع الملك إلى اليهود، { وما يعلم } تفسير ما كتب الله لهذه الأمة { إلا الله }.
وقال الربيع: (
" إن هذه الآية نزلت في وفد نصارى نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح؛ فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه؟ قال: " بلى " قالوا: حسنا "
، فأنزل الله هذه الآية).
وقال ابن جريج: (الذين في قلوبهم زيغ؛ أي شك وهم المنافقون). وقال الحسن: (هم الخوارج)، وقال بعضهم: جميع المبتدعة، أعاذنا الله من البدعة.
ومعنى الآية: أن النصارى صرفوا كلمة الله إلى ما يقولون من قدم عيسى مع الله عز وجل، وصرفوا قوله
وروح منه
[النساء: 171] إلى أنه جزء منه كروح الإنسان، وإنما أراد الله تعالى بقوله
وكلمته
[النساء: 171] أن الله تعالى إنما صيره بكلمة منه وهي قوله
كن
[البقرة: 117] فكان، وسماه روحه لأنه خلقه من غير أب، بل أمر جبريل فنفخ في جيب مريم عليها السلام؛ فهو روح من الله أضافه إلى نفسه تشريفا له، كبيت الله وأرض الله.
وقيل: سماه روحا؛ لأنه كان يحيي الموتى، كما سمى القرآن روحا من حيث إن فيه حياة الناس في أمر دينهم، قال الله تعالى
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى: 52] فصرف أهل الزيغ قوله تعالى
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
[النساء: 171] إلى مذاهبهم الفاسدة طلب الكفر والضلال، ولم يردوا هذا اللفظ الذي اشتبه عليهم وشبهوه على أنفسهم إلى الآية المحكمة؛ وهو قوله عز وجل:
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب
[آل عمران: 59] فعلى هذا يكون: { وما يعلم تأويله إلا الله } أي ما يعلم تأويل جميع المتشابه حتى يستوعب علم المتشابهات إلا الله.
واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية، فقال قوم (الواو) في قوله تعالى: { والراسخون في العلم } ، واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، وهم مع علمهم: { يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب }؛ والمعنى والثابتون في العلم يعلمون تأويل ما نصب الله لهم الدلالة عليه إلى المتشابه وبعلمهم يقولون: ربنا آمنا به، فروي عن أبن عباس: { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } يعلمونه قائلين: آمنا به).
ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله { إلا الله }. وفي قراءة ابن مسعود آمنا (يقول الراسخون في العلم آمنا به) وهو مروي أيضا عن ابن عباس.
ولا يبعد أن يكون للقرآن تأويل ليستأثر الله بعلمه دون خلقه؛ لأنا لا نعلم مراد الله وحكمته في جميع أوامره ونواهيه؛ غير أنه ألزمنا العمل بما أنزله ولم يطالبنا بما لا سبيل لنا إلى معرفته، ولم يخف عنا علم ما غاب عنا، مثل قيام الساعة وغير ذلك إلا لما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا، وما علمناه فلم يعلمناه إلا لمصلحتنا ونفعنا فنعرف بصحة جميع ما أنزل الله؛ والتصديق بذلك كله ما علمنا منه وما لم نعلم.
وكان ابن عباس يقول: (أنا من الراسخين في العلم). وقرأ مجاهد هذه الآية؛ فقال: (أنا ممن يعلم تأويله). وروى عكرمة عن ابن عباس؛ قال: (كل القرآن أعلم تأويله إلا أربعا (غسلين) و (حنانا) و (الأواه) و (الرقيم)). وهذا إنما قاله ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسرها.
وممن اختار تمام الكلام عند قوله { إلا الله } واستئناف الكلام بقوله { والراسخون }: عائشة وعروة بن الزبير ورواية طاووس عن ابن عباس كذلك أيضا؛ واختاره الكسائي والفراء ومحمد بن جرير؛ وقالوا: (إن الراسخين لا يعلمون تأويله، ولكنهم يؤمنون به). والآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أجل هذه الأمة؛ ووقت قيام الساعة وفناء الدنيا؛ ووقت طلوع الشمس من مغربها؛ ونزول عيسى؛ وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج؛ وعلم الروح ونحوها مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه.
قوله تعالى: { وأخر متشابهات } أخر جمع أخرى، ولم ينصرف لأنه معدول عن أخر مثل عمر وزفر، وقوله تعالى: { والراسخون في العلم } قال بعضهم: هم علماء أهل الكتاب الذين آمنوا منهم؛ مثل عبدالله بن سلام وأصحابه، ودليله قوله تعالى
لكن الراسخون في العلم منهم
[النساء: 162] يعني الدارسين علم التوراة. وعن أبي أمامة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الراسخون في العلم؟ فقال:
" من بر في يمينه؛ وصدق لسانه؛ واستقام قلبه؛ وعف بطنه وفرجه؛ فذلك الراسخ في العلم ".
وسئل أنس بن مالك عن تفسير الراسخين في العلم من هم؟ فقال: (الراسخ: هو العالم العامل بما علم المتبع).
وقيل الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذللون في طلب مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحتقرون من دونهم.
وقال بعضهم: الراسخ في العلم من وجد في عمله أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
[3.8]
قوله عز وجل: { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا }؛ أي ويقول الراسخون في العلم ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق والهدى كما أزغت قلوب اليهود والنصارى، { بعد إذ هديتنا } أي لا تزغ قلوبنا بعد إذ أرشدتنا ونصرتنا ووفقتنا لدينك الحق، وقوله: { وهب لنا من لدنك رحمة }؛ أي أعطنا من عندك نعمة، وقيل: لطفا يثبت قلوبنا على الهدى. واسم الرحمة يقع على كل خير ونعمة، وقيل معناه: وهب لنا من لدنك توفيقا وتثبيتا على الإيمان والهدى. وقال الضحاك: (معناه: وهب لنا تجاوزا ومغفرة). وقيل: هب لنا لزوم خدمتك على شرط السنة.
وقوله تعالى: { إنك أنت الوهاب }؛ أي أنت المعطي والوهاب الذي من عادته الإعطاء والهبة، وإنما سمي القلب قلبا لتقلبه، وإنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات "
[3.9]
قوله عز وجل: { ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه }؛ أي يقولون ربنا إنك محيي الناس بأجمعهم بعد الموت جزاء؛ (ل) جزاء { يوم لا ريب فيه } أي لا شك فيه يعني يوم القيامة.
قوله عز وجل: { إن الله لا يخلف الميعاد }؛ أي لا يخلف الله ما وعد من البعث والحساب والميزان والجنة والنار.
[3.10]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا }؛ أراد بالذين كفروا اليهود الذين تقدم ذكرهم. وقيل: أراد بهم نصارى نجران، ويقال: عامة الكفار، ومعنى: { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } أي لا يدفع عنهم كثرة أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا يقبل منهم فداء ولا شفاعة. ويسمى المال غنى لأنه يدفع عن مالكه الفقر والنوائب، فأخبر الله أن أموال هؤلاء الكفار وأولادهم لا تقيهم من العذاب.
قرأ السلمي: (لن يغني عنهم) بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل، وقرأ الحسن (لن تغني) بالتاء وسكون الياء.
قوله تعالى: { وأولئك هم وقود النار }؛ أي حطب النار، والوقود بنصب الواو ما يوقد به النار، وفي هذا بيان أن أهل النار يحترقون في النار احتراق الحطب لا كما يحترق الإنسان بنار الدنيا، فإن نار الدنيا تسيل الصديد من الإنسان ولا تأخذه كما تأخذ الحطب، ومن قرأ (وقود) بضم الواو فهو مصدر وقدت النار وقودا، كما يقال ورد ورودا؛ فيكون المعنى: أولئك هم وقود النار.
[3.11]
قوله عز وجل: { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم }؛ الآية؛ المعنى أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الخالية أخذناهم وعاقبناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم. وقيل: معناه عادة هؤلاء الكفار في الكفر والتكذيب بالحق كعادة آل فرعون وعادة الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود؛ { كذبوا } بكتبنا ورسلنا فعاقبهم الله بكفرهم وشركهم، { والله شديد العقاب } إذا عاقب ، فعقابه شديد على الدوام، والتأبيد لا كعقوبة أهل الدنيا.
والدأب في اللغة: العادة، كذا قال النضر بن شميل والمبرد، فيكون معناه: كعادة آل فرعون. وقال الزجاج: (الدأب: الاجتهاد؛ أي كاجتهاد آل فرعون في كفرهم وتطايرهم على الباطل، يقال: دأب في كذا يدأب دأبا إذا أدام العمل فيه، ثم نقل معناه إلى الشأن والحال والعادة).
وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: (معناه: كفعل آل فرعون وصنعهم في الكفر والتكذيب) يقول: كفرت اليهود بمحمد ككفر آل فرعون والذين من قبلهم. وقال الربيع والكسائي: (معناه: كشبه آل فرعون). وقال سيبويه: (الكاف في { كدأب } في موضع رفع، فخبر المبتدأ تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون).
[3.12]
قوله عز وجل: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } ، أي قل يا محمد للذين كفروا ستهزمون وتقتلون وتحشرون بعد الموت إلى جهنم وبئس الفراش. قرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف بالياء فيهما، والباقون بالتاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الإخبار عنهم أنهم يغلبون ويحشرون، ومن قرأها بالتاء فعلى الخطاب؛ أي قل لهم إنكم ستغلبون وتحشرون.
واختلف المفسرون في هؤلاء الكفار؛ فقال مقاتل: هم كفار مكة، ومعناه: قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنم في الآخرة، فلما نزلت هذه " الآية " قال النبي صلى الله عليه وسلم للكفار يوم بدر
" إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم "
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: (إن المراد بهم يهود المدينة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هزم الكفار يوم بدر، قالت اليهود: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في التوراة بنعته وصفته، وإنه لا ترد له راية، وأرادوا تصديقه واتباعه؛ فقال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى، فلما كان يوم أحد وغلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما هو به، فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أبي سفيان بمكة ووافقوهم على أن تكون كلمتهم واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل الله هذه الآية).
وعن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: (لما أهلك الله قريشا يوم بدر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بسوق بني قينقاع، فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثلما نزل بقريش من الانتقام، فأبوا وقالوا: لسنا كقريش الأغمار الذين لم يعرفوا القتال ولم يمارسوه، لئن حاربتنا لنقتلن رجالا، وتعرف البأس والشدة، فأنزل الله هذه الآية). قوله تعالى: { إلى جهنم } اشتقاق جهنم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.
[3.13]
قوله عز وجل: { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين }؛ أي قد كان لكم أيها اليهود عبرة، ويقال: أيها الكفار على صدق ما أقول لكم في فرقتين التقتا يوم بدر؛ فرقة تقاتل في سبيل الله؛ أي في طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين علي رضي الله عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان جملة الإبل التي في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا، والخيل فرسين؛ فرس المقداد وفرس مرثد بن أبي مرثد، وقيل: فرس علي، وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف، وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
قوله تعالى: { وأخرى كافرة } أي فرقة أخرى كافرة؛ وهم كفار مكة سبعمائة وخمسون رجلا مقاتلين، ورئيسهم يومئذ عتبة بن ربيعة، وكانت خيلهم مائة فرس، وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { يرونهم مثليهم رأي العين } من قرأ بالياء؛ فالمعنى ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثليهم ظاهر العين؛ أي ظن المسلمون أن المشركين ستمائة ونيف، وإنهم يغلبوا المشركين كما وعدهم الله بقوله:
فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين
[الأنفال: 66] قلل الله المسلمين في أعين المشركين، والمشركين في أعين المسلمين حتى اقتتل الفريقان كما قال الله تعالى:
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم
[الأنفال: 44] ثم قذف الله الرعب في قلوب الكفرة حتى انهزموا بكف من تراب أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماه في وجوههم وقال: [شاهت الوجوه].
ومن قرأ (ترونهم) بالتاء فهو خطاب لليهود، يعني يرون كفار مكة قريشا والمؤمنين رأي العين، فإن قيل لم قال { قد كان لكم آية } ولم يقل قد كانت والآية مؤنثة؟ قيل: لأنه ردها إلى البيان، أي قد كان بيان، فذهب إلى المعنى وترك اللفظ.
قوله تعالى: { يرونهم مثليهم رأي العين } قرأ أبو رجاء والحسن وشيبة ونافع ويعقوب بالتاء، وقرأ الباقون بالياء.
وقوله تعالى: { والله يؤيد بنصره من يشآء }؛ أي يقوي ويشدد بقوته من يشاء. وقوله تعالى: { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }؛ أي في غلبة المؤمنين للمشركين مع قلة المؤمنين وشوكة المشركين، { لعبرة } لذوي الأبصار في الدين؛ أي لذوي بصارة القلوب، ويجوز أن يكون معناه: لعبرة لمن أبصر الجيش الجمعين بعينه يومئذ، وفي قوله تعالى: { فئة } قراءتان، من قرأها بالرفع فعلى معنى: إحداهما فئة تقاتل، ومن قرأها بالخفض فعلى البدل من فئتين، كما قال الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رماها الدهر بالحدثان
[3.14]
قوله عز وجل: { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث }؛ بين الله بهذه الآية إن ما بسط للمشركين من زهرة الدنيا وزينتها هو الذي يمنعهم من تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يدعوهم إليه.
والمعنى: حسن للناس حب اللذات والشهوات والمشتهيات من النساء والبنين، بدأ بالنساء لأنهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الإفتتان ويحملن الرجال على قطع الأرحام والآباء والأمهات وجمع المال من الحلال والحرام. وقوله تعالى: { والبنين } قال صلى الله عليه وسلم:
" هم ثمرة القلوب وقرة الأعين؛ وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة "
قوله تعالى: { والقناطير المقنطرة } من القناطير ، جمع قنطار، واختلفوا فيه، فقال الربيع: (القنطار هو المال الكثير بعضه على بعض). وقال ابن كيسان: (هو المال العظيم). وعن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" القنطار اثنا عشر ألف أوقية "
، وعن أنس:
" أن القنطار ألف مثقال "
وعن معاذ:
" ألف ومائتا أوقية "
وعن أنس أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألفا مثقال "
وعن عكرمة:
" مائة ألف ومائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم "
وقيل القنطار: ما بين السماء والأرض من المال، وقيل: ملء مسك ثور ذهبا وفضة، وقال ابن المسيب وقتادة: (ثمانون ألفا). وعن مجاهد: (سبعون ألفا). وعن الحسن أنه قال: (القنطار مثل دية أحدكم). وحاصله أن القنطار: هو المال الكثير.
وقوله تعالى: { المقنطرة }؛ قال قتادة: (أي المنضدة بعضها على بعض). وقال بعضهم: المقنطرة: المدفونة. وقال السدي: (المضروبة المنقوشة). قوله تعالى: { من الذهب والفضة } سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق.
قوله تعالى: { والخيل المسومة } الخيل جمع لا واحد له من لفظه، واحده فرس، والمسومة هي الرواتع من السوم وهو الرعي، قال الله:
شجر فيه تسيمون
[النحل: 10] أو تكون من السيما؛ وهي العلامة من الأوضاح والغرة التي تكون في الخيل. وقال السدي: (المسومة: هي الواقفة). وقال مجاهد: (الحسان) وقال الأخفش: (هي المعلمة). وقال ابن كيسان: (البلق).
روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما أراد الله أن يخلق الخيل قال للريح الجنوب: إني خالق منك خلقا فأجعله عزا لأوليائي؛ ومذلة لأعدائي؛ وجمالا لأهل طاعتي، ثم خلق منها فرسا وقال له: خلقتك وجعلت الخير معقودا بناصيتك؛ والغنائم مجموعة على ظهرك؛ وعطفت عليك صاحبك؛ وجعلتك تطير بلا جناح؛ وأنت للطلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني "
وقيل: خلق الله خيلا تلقى أعناقها كأعناق البخت، فلما أرسلها إلى الأرض واستوت أقدامها صهل فرس منها فقيل له: بوركت من دابة، أذل بصهيلك المشركين، أذل به أعناقهم واملأ به آذانهم، وأرعب به قلوبهم ، فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك، ما خلقت خلقا أعز إلي منك ومنه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة "
، وعن أنس قال:
" لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل "
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من فرس عربي إلا يؤذن له عند كل فجر بدعوة فيقول: اللهم من خولتني من بني آدم وجعلتني له، فاجعلني أحب أهله وماله إليه "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها، وعليكم بكل كميت أغر محجل أو أدهم أغر محجل "
وعن أبي هريرة:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل "
وهو أن يكون له ثلاث قوائم محجلة وأخرى مطلقة، أو يكون الثلاث مطلقة والرابعة محجلة، ولا يكون الشكال إلا في الرجل دون اليد.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" الخيل ثلاثة: فرس للرحمن؛ وفرس للإنسان؛ وفرس للشيطان، فالذي للرحمن ما اتخذ في سبيل الله وقوتل عليه أعداء الله، وأما فرس الإنسان فما استبطن وتحمل عليه، وأما فرس الشيطان فما روهن عليه أو قومر عليه "
قوله تعالى: { والأنعام والحرث } الأنعام جمع النعم، وأشهر النعم أكثر ما يستعمل في الإبل، وقد يقع على سائر المواشي من البقر والغنم والإبل، وقوله تعالى: { والحرث } بمعنى الزرع.
قوله تعالى: { ذلك متاع الحياة الدنيا }؛ أي هذا الذي ذكرت متاع الحياة الدنيا، أي شيء يستمتع به في الدنيا ثم يزول ويفنى. قوله تعالى: { والله عنده حسن المآب } ، أي حسن المرجع والمنقلب للمؤمنين وهو الجنة الباقية، ثم بين الله إنما أعد الله للمؤمنين في الآخرة خير من هبة الدنيا.
[3.15]
وقال عز وجل: { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها }؛ أي { قل } يا محمد: أخبركم بخير من الذي زين للناس في الدنيا للذين اتقوا الشرك والكبائر والفواحش؛ فلا يشتغلون بالزينة عن طاعة الله، لهم عند ربهم جنات؛ أي بساتين تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الماء والعسل والخمر واللبن، { خالدين فيها } أي مقيمين دائمين؛ أي ليست تلك المياه كمياه الدنيا تجري أحيانا وتنقطع أحيانا، بل تكون جارية أبدا.
قوله تعالى: { وأزواج مطهرة }؛ أي ولهم نساء مهذبات في الخلق والخلق. قوله تعالى: { ورضوان من الله }؛ أي لهم مع ذلك رضا الله عنهم وهو من أعظم النعم، قال الله تعالى:
ورضوان من الله أكبر
[التوبة: 72]، قوله تعالى: { والله بصير بالعباد }؛ أي عالم بأعمالهم وثوابهم.
واختلفوا في منتهى الاستفهام في قوله تعالى: { أؤنبئكم }؛ قال بعضهم: منتهاه عند قوله: { بخير من ذلكم } وقوله تعالى: { للذين اتقوا } استئناف الكلام، وقال بعضهم: منتهاه: { عند ربهم } وقوله تعالى: { جنات } استئناف كلام.
قرأ أبو بكر عن عاصم: (ورضوان) بضم الراء في جميع القرآن وهي لغة قيس وعيلان وتميم؛ وهما لغتان كالعدوان والطمعان والطعنان، وقرأ عامة القراء (ورضوان) بكسر الراء.
[3.16]
قوله تعالى: { الذين يقولون ربنآ إننآ آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } ، { الذين } في موضع خفض ردا على قوله { للذين اتقوا } أي للمتقين { الذين يقولون ربنآ إننآ آمنا } وصدقنا بالله وبالرسول فاغفر لنا خطايانا، وادفع عنا عذاب النار، ويجوز أن يكون موضع { الذين } رفعا على معنى هم { الذين يقولون ربنآ } كقوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم
[التوبة: 111] ثم قال في صفتهم مبتدئا:
التائبون العابدون
[التوبة: 112].
[3.17]
قوله تعالى: { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار }؛ { الصابرين } في موضع خفض بدل من { الذين يقولون }. وذهب بعضهم إلى { الصابرين } نصب بالمدح. ومعنى الآية: { الصابرين } على طاعة الله وعلى الشدائد والمصائب وعلى ارتكاب النهي وعلى البأساء والضراء، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم، فإن الصدق قد يقع في القول كما يقع في الفعل، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الجملة أي حقق. قال قتادة في تفسير الصادقين: (هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية). { والقانتين } أي القائمين بعبادة الله المطيعين، { والمنفقين } يعني في طاعة الله.
وقوله: { والمستغفرين بالأسحار } قال قتادة: (أراد به المصلين بالأسحار) قال أنس بن مالك: (أراد به السائلين المغفرة بالأسحار)، وقال الحسن: (انتهت صلاتهم إلى وقت السحر؛ ثم كان بعدها الاستغفار)، وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: (سمعت صوتا في ناحية المسجد سحرا يقول: إلهي دعوتني فأجبتك؛ وأمرتني فأطعتك؛ وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه).
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ثلاثة أصوات يحبهم الله: أصوات الديك، وصوت الذي يقرأ القرآن، وصوت المستغفرين بالأسحار "
وروي أن داود رضي الله عنه سأل جبريل: أي الليل أفضل؟ فقال: لا أدري إلا أن العرش يهتز في وقت السحر. وقال سفيان الثوري: (إن لله ريحا يقال لها الصبحة تهب وقت السحر؛ تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار)، وقال: (بلغنا أنه إذا كان أول الليل نادى مناد: إلا ليقم العابدون، فيقومون فيصلون ما شاء الله، ثم ينادي مناد في شطر الليل: ألا ليقم القانتون، فيقومون كذلك فيصلون، فإذا كان السحر نادى مناد: أين المستغفرون؟ فيستغفر أولئك؛ فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون؛ فيقومون من فراشهم كالموتى إذا نشروا من قبورهم). وقال لقمان لابنه: (يا بني لا يكونن الديك أكيس منك؛ ينادي بالأسحار وأنت نائم). والسحر: هو الوقت الذي قبل طلوع الفجر.
[3.18]
قوله تعالى: { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة }؛ روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة "
وعن سعيد بن جبير قال: (كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما؛ لكل حي من أحياء العرب صنم أو صنمان، فلما نزلت هذه الآية أصبحت تلك الأصنام كلها وقد خرت سجدا).
وعن ابن مسعود أنه قال: [من قرأ { شهد الله أنه لا إله إلا هو } إلى قوله: { إن الدين عند الله الاسلام } وقال: أنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة عنده؛ يجاء صاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد لي وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة].
ومعنى الآية: قال محمد بن السائب الكلبي:
" لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار اليهود من الشام، فقال أحدهما لصاحبه حين أبصر المدينة: ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: " نعم ". قالا: أنت أحمد؟ قال: " أنا محمد وأحمد ". قالا: فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك، قال: " اسألوا ". قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية { شهد الله أنه لا إله إلا هو } إلى آخرها، فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم "
قرأ أبو نهيك وأبو الشعث (شهد الله) بالمد والرفع على معنى: هم شهد الله الذين تقدم ذكرهم. وقرأ المهلب: (شهد الله) بالمد والنصب على المد. والآخرون (شهد الله) على الفعل أي قضاء الله، ويقال: أخبر الله. وقال مجاهد: (حكم الله). قرأ ابن السمؤل: (شهد الله أنه لا إله إلا هو). وقرأ ابن عباس: (إنه لا إله إلا الله) بكسر الألف جعله خبرا مستأنفا، وقال بعضهم بكسره لأن الشهادة قول وما بعد القول مكسور على الحكاية، تقديره: قال الله إنه لا إله إلا الله. قال المفضل: (معنى الشهادة { شهد الله }: الإخبار والإعلام، ومعنى الملائكة والمؤمنين بالإقرار؛ كقوله
شهدنا على أنفسنا
[الأنعام: 130] أي أقررنا).
قوله تعالى: { وأولوا العلم }؛ معناه الأنبياء، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: علماء المؤمنين أهل الكتاب: عبدالله بن سلام وأصحابه، وقال الكلبي والسدي: (علماء المؤمنين كلهم، فقرن الله شهادة العلماء بشهادته، لأن العلم صفة الله تعالى العليا ونعمته العظمى، والعلماء أعلام الإسلام والسابقون إلى دار السلام وشرح الأمكنة وحجج الأزمنة].
وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ساعة من عالم يتكئ على فراشه، وينظر في علمه خير من عبادة العابدين سبعين عاما "
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة والنار، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء. يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، يقتدى بهم وتقص آثارهم ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتهم تستغفر لهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع الأرض وأنعامها، والسماء ونجومها، ألا وإن العلم حياة القلوب عن العماء، ونور الأبصار من الظلمات، يبلغ بالعبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يعرف الحلال والحرام، وبه يوصل الأرحام، يلهمه الله السعدى، ويحرمه الأشقياء "
قوله تعالى: { قآئما بالقسط }؛ أي بالعدل، ونصب { قآئما } على الحال من شهد، وقيل: من قوله { لا إله إلا هو } ، ويجوز وقوع الحال المؤكد على الاسم في غير الإشارة، يقول: إنه زيد معروفا؛ وهو الحق مصدقا.
فإن قيل: الحال وصف هيئة الفاعل وذلك مما يقبل تغيير؛ فهل يجوز من الله أن يزول عنه قيامه بالقسط؟ قيل: هذا على مذهب الكوفيين لا يلزم؛ لأنهم يسمونه على لفظ القطع، يعنون بالقطع: قطع المعرفة إلى لفظ النكرة، مثل قوله:
الدين واصبا
[النحل: 52] كان أصله الواصب، وهذا كان أصله القائم، فلما قطعت الألف واللام نصب.
وأما عند البصريين فالحال حلال من باب حل في الشيء وصار فيه حال يأتي بعد الفعل يجوز عليه التغيير، وحال يأتي بعد الاسم لا يجوز عليه التغيير، وهذا من ذلك، وكذلك قوله:
وهذا بعلي شيخا
[هود: 72].
قوله تعالى: { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } ، قال جعفر الصادق: (إنما كرر الشهادة لأن الأولى وصف وتوحيد ، والثانية رسم وتعليم) أي قولوا { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } العزيز: الغالب المنيع، والحكيم: ذو الحكمة في أمره وسلطانه، وقوله: { قآئما بالقسط } أي قائم بالتدبير؛ أي يجري أفعاله على الاستقامة.
[3.19]
قوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام }؛ معنى الدين المرتضى؛ نظيره
ورضيت لكم الإسلم دينا
[المائدة: 3]، والإسلام: هو الدخول في السلم والانقياد والطاعة. وعن قتادة: (هو شهادة أن لا إله إلا الله؛ والإقرار بما جاء من عند الله؛ وهو دين الله الذي شرع لنفسه؛ وبعث به رسله؛ ودل عليه أولياءه؛ ولا يقبل غيره).
وقرأ الكسائي: (الدين عند الله) بالفتح على معنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهد أن الدين عند الله الإسلام.
قوله تعالى: { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم }؛ أي لم تقر اليهود والنصارى للإسلام ولم يتسموا باليهودية والنصرانية { إلا من بعد ما جآءهم العلم } في كتابهم حسدا بينهم.
روي: أن اليهود كانوا يسمون مسلمين؛ فلما بعث عيسى عليه السلام وسمى أصحابه مسلمين حسدت اليهود مشاركتهم في الاسم فسموا أنفسهم يهودا؛ فكانوا يسمون مسلمين ويهودا، فغيرت النصارى اسمهم وسموا أنفسهم نصارى. والبغي: هو طلب الاستعلاء بغير حق.
وقال بعضهم: معنى الآية: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم بيان نعته وصفته في كتبهم.
قوله تعالى: { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب }؛ أي من يجحد بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فإن الله سريع المجازاة، سريع التعريف للعامل عمله لا يحتاج إلى إثبات وتذكير.
[3.20]
قوله تعالى: { فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن }؛ أي فإن خاصموك يا محمد في الدين؛ فقل: انقدت لله وحده بلساني وجميع جوارحي، وإنما خص الوجه لأنه أكرم جوارح الإنسان وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشي فقد خضع له سائر جوارحه التي دون الوجه. قال الفراء: (معناه: أخلصت عملي لله، والوجه العمل).
قوله تعالى: { ومن اتبعن } في موضع رفع عطفا على إني أسلمت؛ أي أسلمت ومن اتبعني أسلم أيضا كما أسلمت، والأصل إثبات الياء في (تبعني) لكن حذفت للتخفيف.
قوله تعالى: { وقل للذين أوتوا الكتب والأميين أأسلمتم }؛ الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى؛ والأميون مشركو العرب؛ أي قل لهم أخلصتم كما أخلصنا، { فإن أسلموا } اخلصوا؛ { فقد اهتدوا }؛ من الضلال؛ { وإن تولوا }؛ عن الإسلام وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزيز ابن الله؛ { فإنما عليك البلغ }؛ بالرسالة.
قوله تعالى: { والله بصير بالعباد }؛ أي عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، لا يفوته شيء من أعمالهم التي يجازيهم بها.
قال الكلبي:
" لما نزلت هذه الآية ذكر ذلك لهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أهل الكتاب: أسلمنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: " تشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟ " قالوا: معاذ الله؛ ولكنه ابن الله. فذلك قوله تعالى: { وإن تولوا فإنما عليك البلغ } "
{ والله بصير بالعباد } أي عليم بصير بمن يؤمن وبمن لا يؤمن؛ وبأهل الثواب وبأهل العقاب.
فإن قيل: قوله: { ومن اتبعن } عطف على المضمر في قوله: { أسلمت } والعرب لا تعطف الظاهر على المضمر؟ قيل: إنما لا تعطف إذا لم يكن بين الكلامين فاصل، أما إذا كان بينهما فاصل جاز.
قوله { أسلمت } لفظه استفهام ومعناه أمر؛ أي أسلموا كقوله تعالى:
فهل أنتم منتهون
[المائدة: 91] أي انتهوا.
[3.21]
قوله تعالى: { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم }؛ معناه: إن الذين يجحدون بآيات الله وهم اليهود والنصارى. { ويقتلون النبيين بغير حق } قرأ الحسن (ويقتلون) بالتشديد فهما على التكثير، وقرأ حمزة (ويقاتلون الذين يأمرون).
وفي إضافتهم قتل الأنبياء هؤلاء الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان؛ أحدهما: رضاهم بقتل من سلف منهم النبيين نحو قتلهم زكريا ويحيى، والثاني: أن هؤلاء قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وهموا بقتله كما قال الله تعالى:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك
[الأنفال: 30]، وقرأ بعضهم: (يقاتلون النبيين بغير حق).
وعن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال:
" قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: " رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر " ثم قرأ هذه الآية؛ ثم قال: " يا أبا عبيدة؛ قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني اسرائيل؛ فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوهم جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم " فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل فيهم الآية ".
قوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } أي أخبرهم بعذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
[3.22]
قوله تعالى: { أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ، أي أهل هذه الصفة بطلت حسناتهم فلا يستحقون الثناء عليها في الدنيا، ولا يستحقون الثواب عليها في الآخرة؛ { وما لهم من ناصرين }؛ أي من ناصر يمنعونهم من العذاب إذا نزل بهم.
[3.23]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون }. قال الكلبي:
" وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر من اليهود فجرا وكان في كتابهم الرجم؛ فكرهوا رجمهما لشرفهما ورجوا أن يكون لهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة في أمرهما في الرجم فيأخذوا به. فرفع أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم عليهما بالرجم، فقال بعضهم: جرت علينا يا محمد! فقال صلى الله عليه وسلم: " بيني وبينكم التوراة، فمن أعرفكم بها " قالوا: ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فلما قدم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت ابن صوريا؟ " قال: نعم، قال: " أنت أعلم اليهود؟ " قال: كذلك يزعمون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من التوراة فيه آية الرجم - دله على ذلك ابن سلام - فقال لابن صوريا: إقرأ؛ فلما أتى على آية الرجم فوضع كفه عليها؛ ثم قام ابن سلام وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قد جاوزها ووضع كفه عليها، ثم قام ابن سلام فرفع كفه عنها، وقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة؛ فيسأل عن البينة، فإن كانوا عدولا رجم، وإن كانت المرأة حبلى يتربص بها حتى تضع ما في بطنها). فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما فرجما، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا ورجعوا كفارا "
فذلك قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } معناه: ألم تعلم يا محمد بالذين أعطوا حظا من التوراة.
وقوله: { يدعون إلى كتاب الله } قال ابن عباس: (هو التوراة دعي إليها اليهود فأبوا لعلمهم بلزوم الحجة، وأن فيه البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن وقتادة: (أراد به القرآن، فإنهم دعوا إلى القرآن لموافقته التوراة في أصول الديانة). وعن الضحاك في هذه الآية: (أن الله تعالى جعل القرآن حكما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحكم القرآن على اليهود والنصارى بأنهم على غير الهدى فأعرضوا). وقال قتادة: (هم اليهود دعوا إلى حكم القرآن واتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأعرضوا وهم يجدونه مكتوبا عندهم في كتبهم).
قوله تعالى: { ثم يتولى فريق منهم } أي يعرض؛ جمع كثر منهم من الداعي وهم معرضون عن العمل بالمدعو إليه، وقيل: معناه: ثم يتولى فريق منهم بعد علمهم أنها في التوراة، وإنما ذكر الإعراض بعد التولي؛ لأن الإنسان قد يعرض عن الداعي ويتأمل ما دعاه إليه فينكر أنه حق أو باطل، وهم لم يتأملوا ولم يتفكروا فيما دعوا إليه.
[3.24]
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات }؛ أي { ذلك } الإعراض والكذب { بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } يعنون الأربعين يوما التي عبد آباؤهم فيها العجل. قوله تعالى: { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون }؛ أي غرهم افتراؤهم على الله أنه لا يعذبهم إلا أياما معدودات، ويقال: غرهم افتراؤهم أنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه.
[3.25]
قوله تعالى: { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه }؛ أي كيف يحتالون وكيف يصنعون إذا جمعناهم بعد الموت لجزاء يوم لا شك فيه. قوله تعالى: { ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }؛ أي أعطيت كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا، { وهم لا يظلمون } أي لا ينقصون من حسنة ولا يزادون على سيئة. قال الضحاك عن ابن عباس: (أول راية ترفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود؛ فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار).
[3.26]
قوله تعالى: { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء }. قال علي رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لما أراد الله تعالى أن ينزل الفاتحة؛ وآية الكرسي؛ وشهد الله؛ وقل اللهم مالك الملك، تعلقن بالعرش وقلن: تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك؟! فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي؛ ما من عبد قرأكن في دبر كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حضرة العرش على ما كان منه، وإلا نظرت إليه كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة، وأعذته من كل عدو ونصرته عليه، ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت "
ومعنى الآية: قال ابن عباس: (لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم، هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى أطمع نفسه في ملك فارس والروم).
ويقال في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: إن اليهود قالوا: لا نتبعك؛ فإن النبوة والملك لم يزل في أسلافنا بني إسرائيل، فأنزل الله هذه الآية. ومعناها: قل يا محمد: يا الله يا مالك الملك.
وإنما زيدت الميم لأنها بدل عن (يا) التي هي حرف النداء، ألا ترى أنه لا يجوز في الإخبار إدخال الميم؛ لا يقال: غفر اللهم لي كما يقال في النداء اللهم اغفر ((لي))؛ ولهذا لا يجوز الجمع بين ((ما كان)) الميم في آخره والنداء في أوله، لأنه لا يجوز الجمع بين العوض والمعوض، وإنما شددت الميم لأنها عوض عن حرفين، فإن النداء حرفان، وهذا اختيار سيبويه. وقال الفراء: (معنى قول القائل: اللهم يا الله أم بخير؛ أي أقصد. طرحت حركة الهمزة على الهاء).
قوله تعالى: { مالك الملك } أي مالك كل ملك، هذه صفة لا يستحقها أحد غير الله، وقيل: معناه: مالك أمر الدنيا والآخرة. وقال مجاهد: (أراد بالملك هنا النبوة)، وقيل: إن هذا لا يصلح لأنه قال: { وتنزع الملك } والله تعالى لا ينزع النبوة من أحد؛ لأنه لا يريد لأداء الرسالة إلا من يعلم أنه يؤدي الرسالة على الوجه، وأنه لا يغير ولا يبدل، لأنه عالم بعواقب الأمور.
ومعنى: { تؤتي الملك من تشآء } أي تعطي الملك من تشاء أن تعطيه. وقال الكلبي: { تؤتي الملك من تشاء } يعني محمدا وأصحابه، { وتنزع الملك ممن تشاء } أي من أبي جهل وأصحابه). وقيل معناه: { تؤتي الملك من تشاء } يعني العرب، { وتنزع الملك ممن تشاء } يعني الروم والعجم وسائر الأمم.
وقال بعضهم: { تؤتي الملك } أي العافية، قال صلى الله عليه وسلم:
" من أصبح آمنا في سربه؛ معافى في بدنه؛ عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها "
وقيل: هو القناعة. وقال ابن المبارك: (دخلت على سفيان الثوري بمكة فوجدته مريضا شارب الدواء وبه غم شديد، فسلمت عليه وقلت: ما لك يا أبا عبدالله؟ فقال: أنا مريض شارب الدواء وبي غم شديد، فقلت: أعندك بصلة؟ فقال: نعم، فقلت: ائتني بها، فكسرتها ثم قلت له: شمها؛ فشمها فعطس عند ذلك، فقال: الحمد لله رب العالمين، فسكن ما به، فقال: يا ابن المبارك؛ أنت فقيه وطبيب! فقلت: مجرب يا أبا عبدالله. قال: فلما رأيته سكن ما به وطابت نفسه، قلت: إني أريد ((أن)) أسألك حديثا، قال: سل ما شئت، قلت: أخبرني من الناس؟ قال: الفقهاء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، وقلت: فمن الأشراف؟ قال: الأتقياء، قلت: فمن السفلة؟ قال: الظلمة. ثم ودعته فخرجت).
وقيل: معنى: { تؤتي الملك من تشآء } يعني ملك المعرفة كما أوتي سحرة فرعون، { وتنزع الملك ممن تشآء } كما نزع من إبليس وبلعام. وقيل: معنى الملك: الجنة كما أوتي المؤمنون. قال الله تعالى:
وملكا كبيرا
[الإنسان: 20]. { وتنزع الملك ممن تشآء } كما نزع من الكفار. وقيل: أراد بالملك توفيق الإيمان والطاعة. وقيل: هو قيام الليل. وقال الشلبي: (هو الاستغناء من المكون عن الكونين).
قوله تعالى: { تعز من تشآء وتذل من تشآء } قال عطاء: { تعز من تشاء } يعني المهاجرين والأنصار، { وتذل من تشآء } يعني فارس والروم. وقيل: { تعز من تشاء } محمدا وأصحابه حتى دخلوا مكة بعشرة آلاف ظاهرين عليها { وتذل من تشآء } أبا جهل وأصحابه حتى جزت رؤوسهم وألقوا في القليب.
وقيل: { تعز من تشآء } بالإيمان والمعرفة، { وتذل من تشآء } بالكفر والنكدة، وقيل: { تعز من تشاء } بالطاعة، { وتذل من تشاء } بالمعصية، وقيل: { تعز من تشاء } بالتوفيق والمعرفة، { وتذل من تشاء } بالحرمان والخذلان، وقيل: { تعز من تشاء } بالتمليك والتشديد، { وتذل من تشاء } بسلب الملك وتسليط العدو عليه، وقيل: { تعز من تشاء } بقهر النفس ومخالفة الهوى، { وتذل من تشاء } من أتباع الهوى، وقيل: { تعز من تشاء } بأن يقهر الشيطان، { وتذل من تشاء } بأن يقهره الشيطان، وقيل: { تعز من تشاء } بالطاعة والرضا، { وتذل من تشاء } بالحرص والطمع.
قال بعضهم: الحر عبد ما طمع، والعبد حر ما قنع. وقال الشافعي رحمه الله:
ألا يا نفس إن ترضي بفوت
فأنت عزيزة أبدا غنيه
وقال آخر:
أفاد مني القناعة كل عز
وهل عز أعز من القناعه
فصيرها لنفسك رأس مال
وصير بعدها التقوى بضاعه
وقال بعضهم: معناه: { تعز من تشاء } بالاخلاص، { وتذل من تشاء } بالرياء، وقيل: { تعز من تشاء } بالجنة والرؤية، { وتذل من تشاء } بالنار والحجاب.
وقوله تعالى: { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }؛ أي بيدك الخير والشر، فاكتفى بذكر الخير لأنه الأفضل ولأنه إنما قال ذلك على وجه الرغبة، والرغبة إنما تقع في الخير لا في الشر، وفي ذكر أحد الأمرين دليل على الآخر كما قال تعالى:
سرابيل تقيكم الحر
[النحل: 81] ولم يذكر البرد؛ والمعنى تقيكم الحر والبرد، وقيل: معنى الآية: { بيدك الخير } أي النصر والفتح والفيء والغنيمة وغير ذلك من خير الدنيا والآخرة. قوله تعالى: { إنك على كل شيء قدير } أي من الإعطاء والنزع والعز والذل.
[3.27]
قوله تعالى: { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } ، أي يدخل من الليل في النهار حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، وأقصره تسع ساعات، ويدخل النهار في الليل حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، وأقصره تسع ساعات، فما نقص من أجزاء أحدهما دخل في الآخر، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال بعضهم: معناه: تذهب بالليل وتجيء بالنهار، وتذهب بالنهار وتجيء بالليل.
قوله تعالى: { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } ، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك وابن جبير والسدي: (معناه: تخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، وتخرج النطفة من الحيوان وهي حي، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة). وقال بعضهم: يخرج النخلة من النواة، والنواة من النخلة، وتخرج السنبلة من الحبة، والحبة من السنبلة.
وقال الحسن: (معناه: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والعالم من الجاهل؛ والجاهل من العالم). دليله قوله تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه
[الانعام: 122] الآية.
وحكاية عن الزهري:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه فإذا هو بامرأة حسنة الهيئة، فقال: " من هذه؟ " قالت: إحدى خالاتك، قال: " أي خالاتي هذه؟ " قالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال صلى الله عليه وسلم: " سبحان الذي يخرج الحي من الميت " ، وكانت امرأة صالحة، وكان مات أبوها كافرا ".
قال أهل الإشارة: معناه: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تسكن فيه، والمسقطة من قلب العارف. قوله تعالى: { وترزق من تشآء بغير حساب } أي بغير تقدير، وقد تقدم تفسير ذلك.
[3.28]
قوله تعالى: { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي وأصحابه المنافقين؛ كانوا مع إظهارهم الإيمان يتولون اليهود ويأتيهم بأخبار المؤمنين، ويرجون أن يكون لهم الظفر على المؤمنين؛ فأنزل هذه الآية ينهى المؤمنين عن مثل فعلهم، وينهى المنافقين أيضا؛ أي إن كنتم مؤمنين، فلا تتخذ الكفار أولياء من دون المؤمنين).
وقال الضحاك عن ابن عباس: (نزلت في عبادة بن الصامت؛ وكان بدريا نقيبا؛ وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج رسول الله يوم الأحزاب؛ قال عبادة: يا رسول الله؛ إن معي خمسمائة رجل من اليهود؛ وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو، فأنزل هذه الآية).
قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء }؛ أي من يواليهم في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين، فليس من الله في شيء. قال السدي: (فليس من الولاية في شيء، فقد برئ الله منهم). كما قال الله تعالى في آية أخرى:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم
[المائدة: 51] معنى أن ولي الكافر راض بكفره، والرضى بالكفر كفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنا برئ من كل مسلم مع مشرك "
قوله تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقة }؛ أي إلا أن يحصر المؤمن في أيدي الكفار يخاف على نفسه فيداهنهم فيرضيهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان فهو مرخص له في ذلك، كما روي: أن مسيلمة الكذاب لعنه الله أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، وقال للآخر: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، فأعاد عليه السؤال ثلاثا، فأجاب في كل مرة هذا الجواب، فضرب مسيلمة عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" أما المقتول فمضى على صدقه ويقينه فهنيئا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه "
فمعنى الآية: إلا أن تخافوا منهم مخافة. قرأ الحسن والضحاك ومجاهد: (تقية). وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة. وقرأ الباقون بالتفخم، فكل ذلك لغات فيها، ومعناه واحد.
قوله تعالى: { ويحذركم الله نفسه }؛ أي يخوفكم عقوبته وبطشه على موالاة الكفار وارتكاب المنهي عنه. وقال الزجاج: (معناه: ويحذركم الله إياه). وخاطب الله العباد على قدر عملهم وعقلهم، ومعنى قوله تعالى:
تعلم ما في نفسي
[المائدة: 116] أي تعلم حقيقة ما عندي ولا أعلم حقيقة ما عندك. قوله تعالى: { وإلى الله المصير } ، زيادة في الإبعاد وتذكير بالمعاد؛ أي إن فعلتم ما نهيتكم عنه فمرجعكم إلي.
[3.29]
قوله تعالى: { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله }؛ أي قل إن تسروا ما في قلوبكم من التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم والعداوة للمؤمنين والمودة للكافرين أو تظهروه بالشتم والطعن والحرب يعلمه الله فيجازيكم عليه، وإنما ذكر الصدر مكان القلب؛ لأنه مشتمل على القلب.
قوله تعالى: { ويعلم ما في السموت وما في الأرض }؛ أي لا يخفى عليه شيء من عمل أهل السموات وأهل الأرض، فلا يغرنكم الإخفاء، فإن الإخفاء والإبداء عنده سواء. قوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }؛ أي على جزاء عمل السر والعلانية قادر.
[3.30]
قوله تعالى: { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا }؛ نصب { يوم } بنزع الخافض لأن أول هذه الآية منصرف إلى قوله: { ويحذركم الله نفسه } في: { يوم تجد } ، وقيل: بإضمار فعل؛ أي اذكروا { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } أي حاضرا مكتوبا في ديوانهم لا يقصر فيه. وقرأ عبيدة بن عمر (محضرا) بكسر الضاد، ويعني عمله يحضره الجنة.
قوله تعالى: { وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا }؛ أي والذي عملت من سوء يتمنى أن يكون بينه وبين ذلك أجل طويل بعد ما بين المشرق والمغرب، ليته لم يعمل، جعل بعضهم (ما) جزاء في موضع النصب واعمل فيه الوجود أي وتجد عملها، وجعل بعضهم جزاء مستأنفا.
قوله تعالى: { ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد }؛ أي رحيم بالمؤمنين خاصة؛ هكذا قال ابن عباس، وقيل: إن أول هذه الآية عدل، وأوسطها تهديد وتخويف، وآخرها رأفة ورحمة.
[3.31-33]
قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }؛ لما نزلت الآيات المتقدمة قالت اليهود: نحن أبناء الله واحباؤه، وإنما يقول الله مثل هذه الآيات في أعدائه، وأرادوا بقوله أحباؤه: نحبه ويحبنا؛ فأنزل الله هذه الآية.
والمحبة: في الحقيقة هي الإرادة، وهو أن تريد نفع غيرك فيبلغ مراده في نفعك إياه، وأما العشق: وهو إفراط المحبة في هذا المعنى. وأما محبة الطعام والملاذ؛ فهو شهوة وتوقان النفس. وأما محبة العباد لله تعالى، فالله يستحيل عليه المنافع، فلا يصح أن يراد بمحبه هذه الطريقة لكي يراد بها إعظامه وإجلاله وطاعته ومحبة رسله وأوليائه، ومحبة الله إياهم إثابته إياهم على طاعتهم؛ وإنعامه عليهم؛ وثناؤه عليهم؛ ومغفرته لهم.
ومعنى الآية: إن كنتم تحبون طاعة الله والرضا بشرائعه فاتبعوني على ديني يزدكم الله حبا، { ويغفر لكم ذنوبكم }؛ في اليهودية؛ { والله غفور رحيم }.
وروى الضحاك عن ابن عباس وقال:
" وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر قريش؛ والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم " وقالت قريش: إنما نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى؛ فأنزل الله هذه الآية "
).أي قل لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، فأنا رسول الله إليكم، وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم. فلما نزلت هذه الآية عرضها عليهم فلم يقبلوا.
وقيل: لما نزلت هذه الآية عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهودي، فقال عبدالله بن أبي سلول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى عليه السلام؛ فأنزل الله تعالى قوله عز وجل: { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين }؛ أي فإن لم يفعلوا ما تدعوهم إليه من إتباعك وطاعة أمرك فإن الله تعالى لا يحب الكافرين؛ أي لا يغفر لهم ولا يثني عليهم.
فلما نزلت هذه الآية قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ونحن على دينهم، فأنزل الله قوله تعالى: { إن الله اصطفى ءادم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين }؛ معناه: أن الله اصطفاهم بالإسلام، وإن آدم كما لم ينفع أولاده المشركين كذلك سائر الأنبياء عليهم السلام لا ينفعونهم. وصفوة الله: هم الذين لا دنس فيهم بوجه من الوجوه؛ لا في اعتقاد ولا في الفعل، والاصطفاء: هو الاختيار، والصفوة: هو الخالص من كل شيء، فمعناه: { اصطفى ءادم } أي اختاره واستخلصه.
واختلفوا في آل عمران في هذه الآية؛ قيل: أراد بهم موسى وهارون عليهما السلام، وقيل: أراد مريم عليها السلام.
[3.34]
قوله تعالى: { ذرية بعضها من بعض }؛ إنتصب على البدل، وقيل: على التكرار، واصطفى ذرية بعضها من بعض، وقيل: على الحال؛ أي اصطفاهم حال كون بعضهم من بعض، { والله سميع عليم }؛ أي سميع لقولهم؛ عليم بهم وبمجازاتهم.
[3.35]
قوله تعالى: { إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم }؛ قال أبو عبيد: ((إذ) زائدة في الكلام وكذلك في سائر الآي). وقال جماعة من النحويين: معناه: واذكر إذ قالت، وكان اسم امرأة عمران (حنة) وهي أم مريم، وكان لها إبنان احداهما انشاع؛ وعمران بن ماثان؛ بينه وبين عمران أبي موسى عليه السلام ألف وثمانمائة سنة.
قوله تعالى: { رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } أي أوجبت لك على نفسي أن أجعله عتيقا لخدمة بيت المقدس، وكانوا يحررون أولادهم أي يعتقونها عن أسباب الدنيا، يجعلون الولد خالصا لله، لا يستعملونها في منافعهم، ولم يكونوا يحررون إلا الذكران، وكان المحررون سكان بيت الله يتعهدونه ويكسونه، فإذا بلغوا خيروا؛ فإن أحبوا أقاموا في البيت، وإن أحبوا ذهبوا. و { محررا } نصب على الحال.
قوله تعالى: { فتقبل مني } أي تقبل مني نذري { إنك أنت السميع } لدعائي، { العليم } بنيتي وإخلاصي.
[3.36]
قوله عز وجل: { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتهآ أنثى }؛ وذلك أنها كانت تظن وقت النذر أن ما في بطنها ذكرا؛ فلما ولدت أنثى توهمت أن لا تقبل منها؛ ف { قالت رب إني وضعتهآ أنثى } ، وكان هذا القول منها على وجه الاعتذار؛ لأن سعي الأنثى أضعف وعقلها أنقص، { والله أعلم بما وضعت } ، وكانوا لا يحررون النساء لخدمة البيت لما يلحقهن من الحيض والنفاس.
قوله عز وجل: { وليس الذكر كالأنثى }؛ هو من قول المرأة؛ معناه: ليس الذكر كالأنثى في خدمة البيت؛ لأن الأنثى عورة فلا تصلح لما يصلح له الذكر.
قوله تعالى: { وإني سميتها مريم }؛ أي خادم الرب بلغتهم.
قوله تعالى: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }؛ أي إني أمنعها وولدها بك إن كان لها ولد من الشيطان الرجيم. الرجيم: المرجوم وهو المطرود من رحمة الله تعالى. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما من مولود إلا وللشيطان طعنة في جنبه حين يولد فيستهل صارخا من الشيطان الرجيم، إلا مريم وابنها عليه السلام، إقرؤا إن شئتم: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "
قرأ علي والنخعي وابن عامر: (وضعت) بضم التاء.
[3.37-38]
قوله عز وجل: { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا }؛ أي استجاب الله دعاء (حنة)، وقبل نذرها، وجعل مريم صوامة وقوامة، رباها الله تربية حسنة. قوله تعالى: { وكفلها زكريا }؛ أي ضمها للقيام بأمرها، قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بإصبعيه "
وكان عمران قد مات و(حنة) حاملة بمريم. قرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وشيبة ونافع وعاصم وأبو بكر وابن عامر: (وكفلها زكريا) مخففا، وزكريا في موضع رفع؛ أي ضمها إلى نفسه، وتصديق هذه القراءة قوله تعالى:
أيهم يكفل مريم
[آل عمران: 44]. وروي عن ابن كثير: (وكفلها زكريا) بكسر الفاء؛ أي ضمها، وقرأ الباقون: (وكفلها) بالتشديد وزكريا بالنصب؛ أي ضمها الله زكريا فضمها إليه بالقرعة، وفي مصحف أبي: (وأكفلها) بالألف.
وكان زكريا وعمران تزوجا أختين؛ فكانت إشياع بنت فاقود أخت حنة عند زكريا، وكانت حنة بنت فاقود أم مريم عند عمران.
قال المفسرون: فلما وضعت حنة مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون عليه السلام وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة؛ فتنافس فيها الأحبار لأنها كانت بنت إمامهم، فقال لهم زكريا عليه السلام: أنا أحق بها لأن خالتها عندي، فقالت له الأحبار: لا تفعل؛ فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها، ولكنا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه.
قوله عز وجل: { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يمريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء }؛ أي عندما رأى زكريا أمر الله في مريم طمع أن الذي يأتي مريم بالفاكهة في الشتاء يصلح له عقر زوجته، فدعا عند ذلك وقال: { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } أي ولدا صالحا، والذرية تكون واحدا وجمعا؛ ذكرا أو أنثى، وهو ها هنا واحد، ويدل عليه قوله:
فهب لي من لدنك وليا
[مريم: 5] ولم يقل أولياء، وإنما أتت { طيبة } لأنه على لفظ ذرية كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى
وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث (ولدته) لتأنيث الخليفة.
قوله تعالى: { إنك سميع الدعآء } أي سامع الدعاء ومجيبه، وقولهم: (سمع الله لمن حمده) أي أجاب، وأنشد:
دعوت الله حتى خفت أن لا
يكون الله يسمع ما أقول
[3.39]
قوله عز وجل: { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى }؛ قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وقتادة: (فناداه)، وقرأ الباقون: (فنادته)، وإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار؛ إن شئت أنثت؛ وإن شئت ذكرت.
ومعنى الآية: فناداه جبريل عليه السلام وهو قائم يصلي في المسجد بأن الله يبشرك بولد اسمه يحيى. والمراد بالملائكة هنا جبريل وحده؛ ونظيره قوله تعالى:
وإذ قالت الملائكة يمريم
[آل عمران: 42] يعني جبريل وحده، وقوله:
ينزل الملائكة بالروح
[النحل: 2] يعني جبريل وحده، { بالروح } أي بالوحي، يدل عليه قراءة ابن مسعود: (فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب).
وقوله تعالى: { أن الله يبشرك } قرأ ابن عامر والأعمش وحمزة: (إن الله) بكسر الألف على إضمار القول؛ تقديره: فنادته الملائكة فقالت: إن الله، لأن النداء قول، وقرأ الباقون بالفتح بوقوع النداء عليه كأنه قال: فنادته الملائكة بأن الله. قوله تعالى: { يبشرك } قرأ حمزة والكسائي (يبشرك) بفتح الياء وجزم الباء وضم الشين، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الباء وتشديد الشين وكسرها.
قوله تعالى: { مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا }؛ انتصب على الحال في قوله: { بكلمة من الله } يعني عيسى عليه السلام؛ أن يحيى مصدقا بعيسى، وكان يحيى أول من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة الله وروحه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، وقيل: بستة أشهر.
واختلفوا في تسمية يحيى بهذا الاسم؛ فقال ابن عباس: (لأن الله تعالى حيى به عقر أمه). وقال قتادة: (لأن الله أحيا قلبه بالإيمان). وقيل: بالنبوة.
وقيل: إن الله تعالى أحيى قلبه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية. قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من أحد يلقى الله عز وجل إلا وقد هم بخطية أو عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم بها ولم يعملها "
وقال بعضهم: سمي بذلك لأنه استشهد، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. قال صلى الله عليه وسلم:
" من هوان الدنيا على الله عز وجل أن عيسى قتلته امرأة، وقتل يحيى قبل رفع عيسى عليه السلام "
قوله تعالى: { بكلمة من الله } إنما سمي عيسى كلمة؛ لأن الله تعالى قال له كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة. قوله تعالى: { وسيدا } السيد في اللغة وفي الحقيقة: من تلزم طاعته ويجب على الناس الاقتداء والقفا به في العلم والحلم والعبادة. وقال الضحاك: (السيد: الحسن الخلق). وقال ابن جبير: (السيد: الذي يطيع ربه عز وجل). وقال ابن المسيب: (السيد: الفقيه العالم). وقال سفيان: (هو الذي لا يحسد)، وقال عكرمة: (هو الذي لا يغضب)، وقال ذو النون: (الحسود لا يسود)، وقال الخليل: (سيدا أي مطاعا)، وقيل: السيد: القانع بما قسم الله، وقيل: هو الراضي بقضاء الله، وقيل: المتوكل على الله.
وقال أبو يزيد البسطامي: السيد هو الذي قد عظمت همته؛ ونبل قدره أن يحدث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السخي.
" قال صلى الله عليه وسلم: " من سيدكم يا بني سلمة؟ " قالوا: جد بن قيس إلا أنه بخيل: قال: " وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح ".
قوله تعالى: { وحصورا } الحصور: هو الذي لا يأتي النساء، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء والسدي والحسن؛ يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات. وقال ابن المسيب والضحاك: (هو العنين الذي ما له ذكر قوي)، ودليل هذا التأويل ما روى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" " كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا؛ فإنه كان سيدا وحصورا؛ { ونبيا من الصالحين } ". ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: " كان ذكره مثل هذه القذاة " ".
وقال المبرد: الحصور: هو الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وقد يسمى كاتم السر حصورا، والذي لا يدخل مع الناس في الميسر حصورا لامتناعه من ذلك، وأصله من الحصير وهو الجسد؛ يقال: حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحصر في قرانه إذا امتنع من اللقواة فلم يقدر عليها، ومنه إحصار العدو، قال الله تعالى:
وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
[الإسراء: 8] أي محبسا. ويسمى الحصير حصيرا لأنه أدخل بعضه في بعض بالنسج وحبس بعضه على بعض. وأولى ما قيل في تفسير قوله تعالى: { وحصورا }: هو الذي لا يأتي النساء، يحبس نفسه عن ذلك اختيارا، فهذا التأويل أولى من تأويل بعضهم أنه لا شهوة له؛ لما في هذا من إضافة عيب العنة إليه.
[3.40]
قوله عز وجل: { قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشآء }؛ معناه: قال زكريا لجبريل حين سمع البشارة يا سيدي كيف يكون لي غلام وقد أدركني الهرم وامرأتي ذات عقر لا تلد، قال له جبريل مثل ذلك (يفعل الله ما يشاء)؛ أي الذي شاءه . وقال بعضهم: أراد زكريا بالرب الله عز وجل؛ أي قال يا رب كيف يكون لي غلام.
قال الكلبي: (كان زكريا يوم بشر بالولد ابن تسعين سنة). وقيل: ابن تسع وتسعين سنة. وروى الضحاك عن ابن عباس: (أنه كان ابن مائة وعشرين سنة). وكانت امرأته بنت ثماني وتسعين سنة، فذلك قوله تعالى حاكيا عنه: { وامرأتي عاقر } أي عقيم لا تلد.
يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف يعقر عقرا، ويقال: تكلم فلان حتى عقر بكسر القاف؛ إذا بقي لا يقدر على الكلام، وإنما حذف (الهاء) من عاقر لاختصاص الآيات بهذه الصفة كما يقال امرأة مرضع.
وقوله تعالى حاكيا عن زكريا: { وقد بلغني الكبر } هذا المقلوب؛ أي وقد بلغت الكبر وشخت، فإن قيل: هل يجوز أن يقول الإنسان بلغنا البلد كما يقول بلغت البلد؟ قيل: لا يجوز ذلك بخلاف قوله: { بلغني الكبر } بمعنى بلغت الكبر، والفرق بينهما أن الكبر طالب للإنسان لإتيانه عليه بحدوثه فيه، والإنسان كالطالب للكبر لبلوغه إياه بمرور السنين والأعوام عليه، وأما البلد فلا يكون طالبا للإنسان، كما يكون الإنسان طالبا للبلد.
فإن قيل: كيف قال زكريا { أنى يكون لي غلام } فاستبعد أن يعطيه الله ولدا على كبر السن من امرأة عاقر بعدما بشرته الملائكة بذلك؟ قيل: لم يكن هذا القول منه على جهة الاستبعاد ولكن من شأن من بشر بما يتمناه أن يحمله فرط سروره به على الزيادة في الاستكشاف والاستثبات، كما يقول الإنسان إذا رأى شيئا من الأمور العظيمة: كيف كان هذا؟! على جهة الاستعظام لقدرة الله تعالى لا لشك في القدرة.
وقيل: معناه: على أي حال يكون الولد أيردني الله وامرأتي إلى حال الشباب، أم على هذه الحالة؟! وقيل: معناه: أيرزقني الله الولد من امرأتي هذه أو من امرأة غيرها شابة؟ فقيل له { كذلك الله يفعل ما يشآء }؛ أي كإثمار السعفة اليابسة؛ يفعل الله ما يشاء.
[3.41]
قوله تعالى: { قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا }؛ أي قال زكريا يا رب اجعل لي علامة إذا حملت امرأتي عرفت ذلك منها، أراد بهذا القول تعجيل السرور قبل ظهور الولد بالولادة. قال: علامة ذلك أن لا تطيق الكلام مع أحد من الناس منذ ثلاثة أيام من غير خرس { إلا رمزا } أي الا إشارة بالعينين والحاجبين واليدين، وقيل: الرمز: تحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة صوت، فذلك علامة حبل امرأتك.
قوله تعالى: { واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار }؛ أي اذكر ربك كثيرا في هذه الأيام الثلاثة؛ { وسبح بالعشي والإبكار } أي صل غدوا وعشيا كما كنت تصلي من قبل، يقال: فرغت من سبحتي؛ أي من صلاتي، وسميت الصلوات سبحا لما فيها من التوحيد والتحميد والتنزيه من كل سوء. وقيل: أراد بالتسبيح التسبيح المعروف فيما بين الناس، وقرأ الأخفش (رمزا) بفتح الميم مصدرا مثل طلبا.
[3.42]
قوله تعالى: { وإذ قالت الملائكة يمريم إن الله اصطفك وطهرك واصطفك على نسآء العلمين } ، معطوف على { إذ قالت امرأت عمران } ، والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على ما تقدم. ومعنى { إن الله اصطفك } أي اختارك لطاعته وعبادته، { وطهرك } من الكفر بالإيمان والطاعات، كما قال:
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا
[الأحزاب: 33] أراد طهارة الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: وطهرك من الأدناس كلها؛ من الحيض والنفاس وغير ذلك.
وقوله تعالى: { واصطفك على نسآء العلمين } أي اختارك على أهل زمانك بولادة عيسى من غير أب. وقيل: معنى الآية: وطهرك من مسيس الرجل.
فإن قيل: كيف يجوز ظهور الملائكة لمريم وذلك معجزة لا يجوز ظهورها على غير نبي، ومريم لم تكن نبيا؟ قيل: لأنها وإن لم تكن نبيا؛ فإن ذلك كان في وقت زكريا عليه السلام، ويجوز ظهور المعجزات في زمن الأنبياء عليهم السلام لغيرهم، ويكون ذلك معجزة له. وقيل: كان ذلك إلهاما لنبوة عيسى، كما كانت الشهب وتظليل الغمام وكلام الذئب إلهاما لنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
[3.43]
قوله عز وجل: { يمريم اقنتي لربك واسجدي }؛ أي اخلصي لعبادة ربك، وقيل: أديمي الطاعة لذلك، وقيل: أطيلي القيام في الصلاة. وقيل: معنى قوله تعالى: { واركعي مع الراكعين }؛ أي صلي مع الجماعة في بيت المقدس؛ لأنها كانت تخدم المسجد.
وفي الآية دليل على أن الواو لا توجب الترتيب؛ لأن الركوع مقدم على السجود في المعنى؛ وقد تقدم السجود في هذه الآية في اللغة.
[3.44]
قوله عز وجل: { ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون }؛ أي ذلك ما قصصناه عليك يا محمد من أمر زكريا ويحيى ومريم وعيسى من أخبار ما غاب عنك نرسل جبريل به، وما كنت عندهم يا محمد إذ يطرحون أقلامهم في نهر أيهم يضم مريم للقيام بأمرها وما كنت عندهم إذ يختصمون في أمرها للتربية.
[3.45]
قوله عز وجل: { إذ قالت الملائكة يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم }؛ أي إعلم واذكر { إذ قالت الملائكة } يعني جبريل { يمريم إن الله يبشرك بكلمة منه } يعني عيسى عليه السلام سماه كلمة؛ لأنه كان بكلمة من الله ألقاها إلى مريم؛ ولم يكن بوالد. قوله تعالى: { اسمه المسيح } إنما ذكر بلفظ التذكير؛ لأن معنى الكلمة الولد فلذلك لم يقل اسمها.
واختلفوا في تسميته مسيحا، قال ابن عباس: (المسيح: الممسوح بالبركة) فالمسيح فعيل بمعنى مفعول، وقال بعضهم: سمي مسيحا بمعنى الماسح، كان يمسح على ذوي العلل فيبرؤن. وقيل: إنه كان يمسح الأرض مسحا ولا يطوفها؛ أي يسيح فيها، وقيل: إنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: مسحه جبريل بجناحيه من الشيطان حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل.
وقال الكلبي: (المسيح: الملك الذي لا حاجة له إلى أحد من المخلوقين). روي عن ابن عباس أنه عليه السلام كان يقول:
" الشمس ضياء والقمر سراج "
وإنه كان يقول:
" الشمس سراجي والقمر ضيائي "
، ويقول:
" البرية طعامي، أبيت حيث يدركني الليل، ليس لي ولد يموت ولا دار تخرب ولا مال يسرق، أصبح ولا غداء لي، وأمسي ولا عشاء لي، وأنا من أغنى الناس "
قوله تعالى: { وجيها في الدنيا والآخرة }؛ أي ذا قدر ومنزلة في الدنيا عند أهلها، وفي الآخرة عند ربه، والوجيه الذي لا يرد قوله، ولا مسألته. قوله تعالى: { ومن المقربين } ، أي من المقربين إلى ثواب الله في جنة عدن وهي الدرجة العليا، والتقرب إلى الله تقرب إلى ثوابه.
[3.46]
قوله تعالى: { ويكلم الناس في المهد }؛ أي في مضجع الرضاع. قال مجاهد: (قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدثته وحدثني، فإذا شغلني إنسان؛ يسبح في بطني وأنا أسمع).
قوله تعالى: { وكهلا }؛ أي يكلم الناس بعدما دخل في السن؛ يعني قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسن: (وكهلا أي بعد نزوله من السماء). قوله تعالى: { ومن الصالحين }؛ أي ومن المرسلين.
وقال الكلبي: (أراد بالمهد: الحجر). روي أنهم لما قالوا لها:
يمريم لقد جئت شيئا فريا
[مريم: 27] كلمهم وهو في حجرها فقال:
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت
[مريم: 30-31] ، وكان يومئذ ابن أربعين يوما.
فإن قيل: الكلام في حال كونه في المهد يعجب الناس منه، وأما الكلام في الكهولة فليس بعجب، فكيف ذكره الله؟ قيل: في ذلك الكلام وفي الكهولة بشارة لمريم في أن عيسى يعيش إلى وقت الكهولة.
وقيل: تكلم في المهد ببراءة أمه مما رماها به اليهود، وتكلم بالكهولة بإبطال ما ادعاه النصارى من كونه إلها؛ لأنه كان طفلا ثم صار كهلا، ومن يكون بهذه الصفة لا يكون إلها.
والكهل في اللغة: من جاوز حد الشباب ولم يبلغ حد الشيخوخة، يقال: اكتهل النبات إذا قوي واشتد. وقيل: الكهل: هو الذي يكون ابن أربع وثلاثين سنة.
[3.47]
وقوله عز وجل: { قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر }؛ أي ولم يصبني رجل بالنكاح ولا بالسفاح، وكان هذا القول منها على جهة الاستعظام لقدرة الله تعالى، لا على وجه الاستبعاد كما تقدم ذكره.
قال الله تعالى: { قال كذلك الله يخلق ما يشآء }؛ أي يكون لك ولد من غير بشر. قوله تعالى: { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }؛ أي إذا أراد أن يخلق ما يشاء وحكم بتكوين شيء فإنما يقول له كن فيكون كما أراده الله تعالى. وهذا إخبار عن سرعة كون مراد الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في وهم العباد شيء أسرع من كن، وإنما ذكره بلفظ الأمر لأنه أدل على القدرة، ونصب بعض القراء فيكون على جواب الأمر بالألف، ورفعه الباقون على إضمار هو يكون.
[3.48]
قوله تعالى: { ويعلمه الكتب والحكمة }؛ قرأ نافع ومجاهد والحسن وعاصم بالياء؛ كقوله تعالى:
كذلك الله يخلق ما يشآء
[آل عمران: 47]. وقال المبرد: ردوه على قوله { إن الله يبشرك }. وقرأ الباقون بالنون على التعظيم، وردوه على قوله: { نوحيه إليك }.
قوله تعالى: { ويعلمه الكتب والحكمة }؛ أي الخط، وقيل الزبور وغيره من الكتب سوى التوراة والإنجيل. وقوله تعالى: { والحكمة } أي الفقه؛ وهو فهم المعاني.
قوله تعالى: { والتوراة والإنجيل }؛ قيل: علمه الله تعالى التوراة في بطن أمه، والإنجيل بعد خروجه.
[3.49]
قوله تعالى: { ورسولا إلى بني إسرائيل }؛ أي ويجعله بعد ثلاثين سنة رسولا إلى بني إسرائيل؛ { أني قد جئتكم بآية }؛ بعلامة؛ { من ربكم }؛ لنبوتي، وقيل: { ورسولا } عطفا على { وجيها }. وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف عليه السلام وآخرهم عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: { أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه }؛ قرأ نافع (إني) بالكسر على الاستئناف وإضمار القول، وقرأ الباقون بالفتح.
ومعنى الآية: أني أقدر لكم من الطين صورة كهيئة الطير فأنفخ في الطين كنفخ النائم فيصير طيرا يطير بين السماء والأرض بأمر الله عز وجل، ويقرأ (طائرا) إلا أن هذا أحسن؛ لأن الطائر يراد به الحال. قرأ الزهري وأبو جعفر (كهية الطير) بالتشديد، وقرأ الآخرون بالهمز. والهيئة: الصورة المهيئة من قولهم: هيأت الشيء إذا أصلحته. وقرأ أبو جعفر: (كهيئة الطائر) بالألف.
قوله تعالى: { فيكون طيرا بإذن الله }؛ قرأ عامة القراء (طيرا) على الجمع لأنه يخلق طيرا كثيرة، وقرأ أهل المدينة (طائرا) بالألف على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يخلق إلا الخفاش، وإنما خص الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا؛ وهي تحيض وتطهر ، قال وهب: (وهي تطير ما دام الناس ينظرون إليها، فإذا غابت عن أعينهم سقطت، ولأنها تطير بغير ريش وتلد ولا تبيض).
وروي أنهم ما قالوا لعيسى أخلق لنا خفاشا إلا متعنتين له؛ لأجل مخالفته الطيور بهذه الأخبار التي ذكرناها. فلما قالوا له أخلق لنا خفاشا؛ أخذ طينا ونفخ فيه فإذا هو خفاش يطير بين السماء والأرض، فقالوا: هذا سحر؛ فقال: أنا؛ { وأبرىء الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله }؛ فقالوا: إن إبراء الأكمه والأبرص يفعله أطباؤنا، فذهبوا إلى جالينوس فأخبروه بذلك، فقال: إن الذي ولد أعمى لا يبصر بالعلاج، والأبرص الذي لو غرزت إبرة لا يخرج منه الدم لا يبرأ بالعلاج، وإن كان يحيي الموتى فهو نبي. فجاؤا بأكمه وأبرص فمسح عليهما فبرءا، فقالوا: هذا سحر؛ فإن كنت صادقا فأحيي الموتى، فأحيا أربعة من الموتى: العازر وكان صديقا له، فأرسلت أخته إلى عيسى: أن أخاك العازر مات فأتاه، وكان بينهما مسيرة ثلاثة أيام، فأتى هو وأصحابه فوجدوه قد دفن منذ ثلاثة أيام؛ فقام على قبره وقال: اللهم رب السماوات السبع والأرضين السبع أحيي العازر من قبره وودكه يقطر، فخرج وبقي مدة طويلة وولد له. وأحيا ابن العجوز، مر به وهو على سرير يحمل على أعناق الرجال إلى المقابر، ودعا الله تعالى أن يجيبه، فجلس على سريره وأنزل عن أعناق القوم، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه، ورجع إلى أهله فبقي مدة وولد له.
وأحيا ابنة العاشر بعد موتها بثلاثة ليال، فعاشت مدة وولدت.
فقالوا له: إنك تحيي من كان قريبا موته ولعلهم لم يموتوا فأحيي لنا سام بن نوح، فقال: دلوني على قبره فدلوه، فدعا الله تعالى أن يحييه فخرج من قبره، فقال له عيسى عليه السلام: من أنت؟ قال: سام بن نوح، قال: ومن أنا؟ قال: عيسى روح الله وكلمته، قال: كيف شبت يا سام ولم يكن في زمانكم شيب، قال: سمعت صوتا يقول أجب روح الله فظننت أن القيامة قد قامت فشاب رأسي من هول ذلك، وكان سام قد عاش خمسمائة سنة، ومات وهو شاب، فقال له عيسى عليه السلام: يا سام أتحب أن أسأل الله حتى تعيش معنا؟ قال: لا، قال: لم لا؟ قال: لأن مرارة الموت لم تذهب من قلبي إلى الآن. وكان له من يوم مات أكثر من أربعة آلاف سنة ثم مات مكانه.
فآمن بعيسى بعضهم وكذبه بعضهم، وقالوا: هذا سحر، فأخبرنا بأكلنا وادخارنا، فكان يقول: أنت يا فلان أكلت كذا وادخرت كذا، وأنت يا فلان أكلت كذا وادخرت كذا. فذلك قوله: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم }؛ أي بما تأكلونه وما تدفعوه في بيوتكم حتى تأكلوه.
قوله تعالى: { وأبرىء الأكمه } اختلفوا في الأكمه، قال مجاهد والضحاك: (هو الذي يبصر بالنهار دون الليل)، وقال ابن عباس وقتادة: (هو الذي ولد أعمى ولم يبصر شيء قط). وقال الحسن والسدي: (هو الأعمى المعروف). (والأبرص): هو الذي به وضح. وقال وهب: (ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء على شرط الإيمان). قال الكلبي: (كان عيسى يحيي الموتى ب (يا حي يا قيوم)).
قوله تعالى: { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون } أي أخبركم بما تأكلون غدوة وعشيا وما تدفعون من الغداء إلى العشاء، ومن العشاء إلى الغداء. وقرأ مجاهد (وما تذخرون) بذال معجمة ساكنة وفتح الخاء.
قال السدي: (كان عيسى إذا كان في الصبيان مع المعلم يحدث الصيبان بما يصنع آباؤهم ويقول للصبي: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا وهم يأكلون الساعة كذا، فينطلق الصبي إلى أهله وهو يبكي ويطلب منهم ذلك الشيء حتى يعطوه إياه، فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا أولادهم عنه وقالوا لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا له: ليسوا هنا، قال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، فقال عيسى: كذلك يكونون إن شاء الله، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير بأجمعهم، فهموا بعيسى أن يقتلوه، فلما خافت عليه أمه حملته على حمار لها وخرجت به هاربة إلى مفازة).
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }؛ أي إن ما قلت لكم علامة لكم في نبوتي إن كنتم مصدقين بالله عز وجل.
[3.50-51]
قوله تعالى: { ومصدقا لما بين يدي من التوراة }؛ معناه: وجئتكم { مصدقا لما بين يدي من التوراة } أي أتيت بالتوراة وأحكامها وصدقتها، وقيل: يعني بالتصديق أن في التوراة البشارة بي، فإذا خرجت فقد صدقت ذلك، ولا يجوز أن يكون { ومصدقا } عطفا على { ورسولا } لأنه لو كان ذلك لقال ومصدقا لما بين يديه.
قوله عز وجل: { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم }؛ لأنه كان في التوراة أشياء محرمة حلل عيسى بعضها وهو العمل في يوم السبت؛ وشحوم البقر والغنم وسائر ما حرم عليهم بظلمهم. وقيل: معناها: ولأحل لكم كل الذي حرم عليكم أحباركم لا ما حرم أنبياؤكم، ويكون البعض بمعنى الكل، واستدل صاحب هذا القول بقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
قيل: معناه: كل النفوس. وقال الزجاج: (لا يجوز أن يكون البعض عبارة عن الكل؛ لأن بعض الشيء جزء منه). قال: (ومعنى قول لبيد: أو ما يعتلق نفسي حمامها؛ لأن نفسه بعض النفوس). وقرأ النخعي: (ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم) أي صار حراما.
قوله عز وجل: { وجئتكم بآية من ربكم }؛ أي أحل لكم شيئا مما حرم عليكم من غير برهان، بل أتيتكم بعلامة نبوتي. قوله تعالى: { فاتقوا الله وأطيعون }؛ أي اتقوا الله فيما أمركم ونهاكم وأطيعون فيما أبينه لكم؛ { إن الله ربي وربكم فاعبدوه }؛ أي قال لهم عيسى إن الله خالقي وخالقكم فوحدوه؛ { هذا صراط مستقيم }؛ أي هذا الذي أدعوكم إليه طريقي في الدين فلا عوج له، من سلكه أداه إلى الحق.
[3.52]
قوله عز وجل: { فلمآ أحس عيسى منهم الكفر }؛ أي لما وجد عيسى، وقيل: لما علم منهم الكفر والقصد إلى قتله؛ { قال من أنصاري إلى الله }؛ أي من أعواني مع الله، وقيل: معناه: من أنصاري إلى سبيل الله، وقيل: من أنصاري لله، { قال الحواريون نحن أنصار الله }؛ أي قال المخلصون في النصرة والتصديق: نحن أعوان دين الله معك؛ { آمنا بالله }؛ أي صدقنا بتوحيد الله؛ { واشهد }؛ يا عيسى؛ { بأنا مسلمون }؛ والإحساس هو العلم من خلجاتهم.
واختلف المفسرون في الحواريين، قال بعضهم: هم المخلصون الخواص كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي "
أي هو من أمتي، وكان الحواريون لعيسى اثنى عشر رجلا من أصحابه، مكان العشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، سموا الحواريين من الحور وهو الخلوص. يقال: عين حوراء إذا اشتد بياض بياضها وقلص؛ واشتد سواد سوادها وخلص، ومنه وفيه يقال: دقيق حواري للذي لم يبق منه إلا لبابه. وقال بعضهم: سموا حواريين من الحوار وهو البياض، إلا أنهم اختلفوا في بياضهم. قيل: كانوا قصارين يبيضون الثياب فمر بهم عيسى عليه السلام فقال: ألا أدلكم على تطهير أنفع من هذا؟ قالوا: نعم، قال: تعالوا حتى نطهر أنفسنا من الذنوب، فبايعوه على ذلك. وقيل: كانوا بيض الثياب، وقيل: كانوا بيض القلوب من الفساد.
وقال بعضهم: كانوا صيادين، قال لهم عيسى عليه السلام: ألا أدلكم على اصطياد أنفع من هذا؟ قالوا: بلى، قال: تعالوا حتى نصطاد أنفسنا من شرك إبليس؛ فبايعوه.
كأنهم ذهبوا في هذا إلى اشتقاقه من الحور الذي هو الرجوع، ومنه سمي المحور لأنه راجع إلى المكان الذي زال منه، وقيل: لأنه بدورانه ينصقل حتى يبيض. والمحور عود الخباز، وقيل: المحور الذي تدور عليه البكرة، وربما كان من حديد.
وأما ما روي في الحديث:
" نعوذ بالله من الحور بعد الكور "
فمعناه: من الرجوع والخروج من الجماعة بعد أن كنا فيها، يقال، كار عمامته إذا لفها على رأسه؛ وحارها: إذا نقضها.
قال مصعب: (لما اتبع الحواريون عيسى عليه السلام وهم اثنا عشر رجلا، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده الأرض سهلا كان أو جبلا، فيخرج لكل إنسان رغيفين فيأكلهما. فإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا، فيضرب بيده الأرض فيخرج الماء فيشربون، قالوا: يا روح الله؛ من أفضل منا إذا شئنا أطعمنا وإن شئنا أسقينا، وآمنا بك واتبعناك؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، قال: فصاروا يغسلون الثياب بالكري).
وقال ابن المبارك: (سموا حواريين لأنه كان يرى بين أعينهم أثر العبادة ونورها وحسنها). قال النضر بن شميل: (الحواري خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه). وعن قتادة قال: (الحواري: الوزير).
[3.53]
قوله تعالى: { ربنآ آمنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشهدين }؛ أي قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت في كتابك؛ يعني: الإنجيل على عيسى، واتبعنا عيسى { فاكتبنا مع الشهدين } أي مع المصدقين لأنبيائك الذين يشهدون بصدق الأنبياء من قبلنا، وقال عطاء: (معناه: فاكتبنا مع النبيين). وقال ابن عباس: (معناه: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته).
[3.54]
قوله عز وجل: { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين }؛ يعني مكر الكفار الذين لم يؤمنوا بقصدهم قتل عيسى عليه السلام، والمكر: هو الاحتيال في تدبير الشر. وقوله: { ومكر الله } أي جازاهم الله على ما تقدم أن الجزاء على المكر يسمى مكرا، كما في الاعتداء والسيئة والاستهزاء.
قوله تعالى: { والله خير الماكرين } أي هو أفضل الصانعين حين يجازي الكفار على صنعهم؛ وخلص الممكور به؛ وذلك أن عيسى عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين، ودعاهم إلى الإسلام فهموا بقتله وتواطأوا عليه، وذلك مكرهم، فلما أجمعوا على قتله هرب منهم إلى بيت فدخله فرفعه جبريل من الكوة إلى السماء. فقال ملك اليهود واسمه يهودا، لرجل خبيث منهم يقال له طيطانوس: أدخل عليه البيت، فدخل فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فلما لم يجد عيسى خرج؛ فرأوه على شبه عيسى فظنوا أنه عيسى؛ فقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ فوقع بينهم قتال، فقتل بعضهم بعضا.
وقال وهب: (لما طرقوا عيسى في بعض الليل ونصبوا له خشبة ليقتلوه ؛ أظلمت عليهم الأرض فصلبوا رجلا منهم يقال له يهودا ظنوا أنه عيسى عليه السلام، وهو الذي دلهم عليه، وذلك أن عيسى جمع الحواريين في تلك الليلة ثم قال: ليمكرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك، ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه؛ فأتى أحد الحواريين وقال لليهود: ما تجعلون لمن يدلكم على عيسى؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلهم عليه، فلما دخلوا البيت ورفع عيسى، ألقى الله شبه عيسى على الذي دلهم عليه؛ فقتلوه وصلبوه، فروي أنه لما أخذوه ليقتلوه قال لهم: أنا الذي دللتكم عليه, فلم يقبلوا منه ولم يلتفتوا إليه وصلبوه وهم يظنونه عيسى).
قال أهل التواريخ: (حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى لمضي خمس وستين سنة من غلبة الاسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين، ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين).
والمكر: هو السعي بالفساد في ستر ومناجاة، وأصله من قول العرب: مكر الليل وأمكر؛ إذا أظلم. والمكر من المخلوقين: الخب والخديعة والغيلة، وهو من الله استدراجه العباد، قال الله تعالى:
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
[الأعراف: 182] قال ابن عباس: (كلما أحدثوا خطيئة تجددت لهم نعمة). وقال الزجاج: (مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمي الجزاء باسم الابتداء كقوله تعالى:
الله يستهزىء بهم
[البقرة: 15] وقوله:
وهو خادعهم
[النساء: 142]). وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وسأل رجل جنيدا: كيف رضي الله المكر لنفسه وقد عاب به غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني:
فديتك قد جبلت على هواك
فنفسي لا ينازعني سواكا
أحبك لا ببعض، بل بكل
وإن لم يبق حبك لي حراكا
ويقبح من سؤاك الفعل عندي
وتفعله فيحسن منك ذاكا
فقال الرجل: أسألك عن آية في كتاب الله تعالى وتجيبني بشعر فلان؟! فقال: ويحك! قد أجبتك إن كنت تعقل، ومكر الله بهم خاصة في هذه الآية إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام.
[3.55]
قوله عز وجل: { إذ قال الله يعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة }؛ أول هذه الآية متصل بقوله: { خير الماكرين }. وقيل: معناه: واذكروا { إذ قال الله يعيسى إني متوفيك ورافعك إلي }. قال الضحاك: (كسا الله عيسى الريش وألبسه النور؛ وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار في الملائكة).
واختلف المفسرون في معنى التوفي في هذه الآية؛ فقال الحسن والكلبي والضحاك وابن جريج: (معناه: إني قابضك ورافعك من الدنيا من غير موت). فعلى هذا القول للتوفي ثلاث تأويلات: أحدها: إني رافعك إلي وافيا لن ينالوا منك شيئا؛ من قولهم: توفيت كذا واستوفيته؛ إذا أخدته تاما، والأخذ معناه: إني مسلمك؛ من قولهم: توفيت كذا إذا سلمته. وقال الحسن: (معناه: إني منيمك ورافعك إلي من نومك). يدل عليه قوله تعالى:
وهو الذي يتوفكم باليل
[الأنعام: 60] أي ينيمكم؛ لأن النوم أخو الموت.
وروي عن ابن عباس أن معنى الآية: (إني مميتك) يدل عليه قوله تعالى:
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم
[السجدة: 11] وله على هذا القول تأويلان؛ أحدها: قال وهب بن منبه: (توفاه الله ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه إليه). والآخر: قال الضحاك: (إن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ معناه: إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا؛ ومتوفيك بعد إنزالك من السماء) قال الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق
عليك ورحمة الله السلام
أي عليك السلام ورحمة الله.
قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل على أمتي وخليفتي فيهم. فإذا رأيتموه فاعرفوه؛ وإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر كأن شعره يقطر وإن لم يصبه بلل، يدق الصليب ويقتل الخنزير، ويقاتل الناس على الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها، ويهلك الله في زمانه الدجال، ويقع أمنه في الأرض حتى ترتعي الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، ويلبث في الأرض أربعين سنة "
وفي رواية كعب:
" أربعة وعشرين سنة، ثم يتزوج ويولد له ثم يموت، ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ".
وقيل للحسن بن الفضل: هل تجد نزول عيسى من السماء في القرآن؟ قال: (نعم؛ قوله تعالى:
ويكلم الناس في المهد وكهلا
[آل عمران: 46] وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما رفع وهو شاب، وإنما معناه وكهلا بعد نزوله من السماء).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كيف تهلك أمة أنا في أولها؛ وعيسى في آخرها؛ والمهدي من أهل بيتي في وسطها؟! "
وقال ابن عمر:
" رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم في الطواف، فقيل له في ذلك؛ فقال: " استقبلني عيسى في الطواف ومعه ملكان " ".
وقوله عز وجل: { ومطهرك من الذين كفروا } أي مخرجك من بين أظهرهم ومنجيك منهم، فإنهم كانوا أرجاسا. وكان تطهير عيسى منهم إزالتهم عنه برفعه، فإن التطهر إزالة الأنجاس عن الثوب والبدن. قوله عز وجل: { ورافعك إلي } أي إلى السماء، وقيل: إلى كرامتي كما قال إبراهيم عليه السلام: (إني ذاهب إلى ربي) أي حيث أمرني ربي.
قوله عز وجل: { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } معناه: جاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا بك؛ أي فوقهم في العز والغلبة؛ لا ترى يهوديا حيث كان إلا أذل من النصراني. قالوا: وهذا يدل على أنه لا يكون لليهود ملك كما هو للنصارى.
وقيل: أراد بقوله { فوق الذين كفروا } فوقهم بالحجة والبرهان، قال ابن عباس والربيع وقتادة والشعبي ومقاتل والكلبي: (المراد بالذين اتبعوا عيسى أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين صدقوه فيما قال؛ فوالله ما تبعه من ادعاه ربا؛ تعالى الله عز وجل وتقدس أن يكون له ولد). قال الضحاك: (يعني الحواريين).
قوله تعالى: { ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون }؛ أي مرجع الكفار والمؤمنين إلي؛ { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين وأمر عيسى عليه السلام.
[3.56]
قوله تعالى: { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة }؛ أي أعاقبهم عقوبة شديدة في الدنيا بالقتل والسبي والجزية، وفي الآخرة بالنار، { وما لهم من ناصرين }؛ أي مانعين يمنعونهم من عذاب الله.
[3.57]
قوله عز وجل: { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم }؛ قرأ الحسن وحفص (فيوفيهم أجورهم) بالياء، ومعناه: الذين صدقوا وعملوا الصالحات نكمل لهم ثواب أعمالهم بالطاعة؛ { والله لا يحب الظالمين }؛ أي لا يرحمهم ولا يغفر لهم.
[3.58]
قوله عز وجل: { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم }؛ أي ما جرى من القصص ننزل به عليك يا محمد فيتلوه عليك جبريل بأمرنا. وإنما أضاف التلاوة إلى نفسه؛ لأنه حصل بأمره، { والذكر الحكيم } أي ومن القرآن ومن الحكمة بالتأليف والنظم، وسماه حكيما لأنه بما فيه من الحكمة كأنه ينطق بالحكمة. ويقال: معنى الحكيم المحكم وهو فعيل بمعنى مفعول.
[3.59]
قوله عز وجل: { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }؛ قال ابن عباس:
" وذلك أن وفد نصارى نجران: أسيد والعاقب وغيرهم من علمائهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " أسلموا " فقالوا: أسلمنا قبلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " يمنعكم من الإسلام ثلاث: أكلكم الخنزير؛ وعبادتكم الصليب، وقولكم لله عز وجل ولد " فقالوا له: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: " وما أقول؟ " قالوا: تقول إنه عبد الله، قال: " أجل؛ هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول " فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟! "
فأنزل الله عز وجل: { إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب } أي صفة خلق عيسى بلا أب كصفة خلق آدم، خلقه من تراب من غير أب ولا أم ثم قال لآدم: كن؛ فكان. وأراد الله تعالى بهذه الآية أن كون الولد من غير أب ليس بأعجب من كون الإنسان لغير أب وأم، وقد خلق الله آدم من غير أب وأم.
وفي هذه الآية دلالة على صحة القياس؛ لأنه لو لم يصح القياس لم يكن الله يجيب به، وفيها دليل على جواز قياس الشيء بالشيء من وجه دون وجه؛ لأن الله عز وجل إنما شبه عيسى بآدم في كونه من غير أب؛ لا في كونه من غير أم؛ ولا في خلقه من التراب.
فإن قيل: هلا قال الله تعالى: (كن فكان) فإن آدم قد انقضى كونه وقد أخبر عنه بالمستقبل؟ قيل: إن الفعل الماضي منقطع والمضارع متصل؛ وذلك يقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل كذا فكان فعل كن لأنه لا يقتضي التكرار، وما روي أنه كان يفعل كذا فإنه على التكرار دون الانقطاع. ثم فعل الله يبنى على المهلة ويحدث على التدريج، ألا ترى أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكذلك بدت الحياة في آدم على التدريج، وكذلك أمر عيسى على التدريج كان يبدأ شيئا فشيئا؛ فأخبر الله عز وجل عن ذلك بفعل دائم.
[3.60]
قوله عز وجل: { الحق من ربك فلا تكن من الممترين }؛ قال الفراء: (رفع بخبر ابتداء محذوف تقديره: هو الحق أو هذا الحق). وقيل: تقديره: هذا الذي أنبأتك به هو الحق والصدق في أمر عيسى، { فلا تكن من الممترين } أي من الشاكين؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكا في أمر عيسى عليه السلام قط، وهذا كما قال تعالى:
يأيها النبي إذا طلقتم النسآء
[الطلاق: 1]. وقال بعضهم: معناه: لا تكن أيها السامع لهذا النبأ من الشاكين.
[3.61]
قوله عز وجل: { فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم }؛ أي فمن خاصمك وجادلك يا محمد في أمر عيسى من بعد ما جاءك من البيان بأنه عبد الله ورسوله، ولم يكن ابن الله ولا شريكه؛ { فقل تعالوا }؛ يا معشر النصارى؛ { ندع أبناءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم }؛ لنخرج إلى فضاء من الأرض؛ { ثم نبتهل }؛ أي نلتعن، والبهلة: اللعنة؛ يقال: بهله الله؛ أي لعنه الله وباعده. ويقال: معنى { نبتهل }: نجتهد ونتضرع في الدعاء على الكاذب. ثم فسر الابتهال فقال تعالى: { فنجعل لعنت الله على الكاذبين }؛ أي نقول: لعنة الله على الكاذبين في أمر عيسى.
قرأ الحسن وأبو واقد وأبو السمال العدوي: (تعالوا) بضم اللام. وقرأ الباقون: (تعالوا) بفتح اللام، والأصل فيه: تعاليوا؛ لأنه تفاعلوا من العلو، فاستثقلت الضمة على الياء فسكنت ثم حذفت وبقيت اللام على فتحها، ومن ضم فقد نقل حركة الياء المحذوفة إلى اللام. قال الفراء: (معنى تعال: ارتفع).
فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على نصارى نجران وقال لهم:
" " إن الله أمرني أن أباهلكم إن لم تقبلوا " قالوا له: يا أبا القاسم؛ بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فنعلمك، فرجعوا وخلا بعضهم ببعض، وقال السيد للعاقب: قد والله علمت أن الرجل نبي مرسل، ولئن لاعنتموه يا معشر النصارى ليستأصلنكم، وما لاعن نبي قوما قط فعاش كثيرهم ولا ثبت صغيرهم، وإن أنتم أبيتم إلا دينكم فواعدوه وارجعوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغدو وقد خرج بنفر من أهله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن؛ وفاطمة تمشي على إثرهم وعلي بعدها وهو يقول لهم: " إذا أنا دعوت فأمنوا ". فقال واحد من النصارى: والله إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم؛ قد رأينا أن لا نلاعنك ونتركك على دينك ونثبت على ديننا، فقال صلى الله عليه وسلم: " فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ". فأبوا؛ فقال: " إني أنابذكم " فقالوا: ما لنا بحرب العرب من طاقة، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا؛ على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة؛ ألف في صفر وألف في رجب. فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال لهم: " وإن كان كيد باليمن أعنتمونا بثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليكم ".
وكتب لهم كتاب الأمان والصلح: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد رسول الله لنجران في كل صفراء وبيضاء وسوداء أو رقيق فاضلا عنهم؛ ترك ذلك كله على ألفي حلة، في كل صفر ألف حلة، وفي كل رجب ألف حلة يمن كل حلة وقية، وما زادت الحلل على الأواق فبحسابها، وما نقص من درع وخيل أو ركاب فبحسابه. وعليهم عارية ثلاثون درعا وثلاثون فرسا وثلاثون بعيرا إن كان كيدا باليمن، ولنجران وحاشيتها جوار الله تعالى وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ومالهم. وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير لا يغير ما كانوا عليه، ولا يغير أسقف من أسقفه، ولا راهب من رهبانيته، ولا يحشرون من بلادهم، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم حبش. وما سأل منهم حقا فله النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منه برية، لا يؤخذ منهم رجل يطلب آخر، لهم جوار الله وذمة رسوله أبدا حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيها عليهم غير مثقلين بظلم ".
شهد الشهود أبو سليمان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف وغيرهم. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاذ بن جبل ليقضي بالحق فيما بينهم، ورجعوا إلى بلادهم. فقال صلى الله عليه وسلم: " لو باهلوني لاضطرم الوادي عليهم نارا، ولم ير نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة "
وفي بعض الروايات أنه قال:
" لو التعنوا لهلكوا كلهم حتى العصافير في سقوفهم "
وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" والذي نفسي بيده، إن العذاب يدلى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير؛ ولاضطرم الوادي عليهم نارا؛ ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير والشجر، وما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا "
فدل هذا الخبر على أن امتناعهم عن المباهلة لم يكن إلا لعلمهم أن الحق مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يعلموا ذلك لباهلوه.
[3.62]
قوله عز وجل: { إن هذا لهو القصص الحق }؛ أي هذا الذي أوحينا إليك من الحجج والآيات لهو الخبر الحق بأن عيسى لم يكن إلها ولا ولد الله ولا شريكه. والقصص: هو الخبر الذي يتلوا بعضه بعضا. قوله تعالى: { وما من إله إلا الله }؛ أي ما إله إلا الله واحد بلا ولد ولا شريك. ودخول (من) في قوله { وما من إله إلا الله } لتوكيد النفي في جميع ما ادعاه المشركون أنهم آلهة.
قوله تعالى: { وإن الله لهو العزيز الحكيم }؛ أي العزيز بالنقمة لمن لا يؤمن به، ذو الحكمة في خلق عيسى عليه السلام من غير أب؛ وفي أمره ألا تعبدوا إلا الله تعالى.
[3.63-64]
قوله تعالى: { فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين }؛ أي إن أعرضوا عما أتيت به من البيان؛ فإن الله عالم بالمفسدين الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غير الله يجازيهم على ذلك.
ثم دعاهم الله إلى التوحيد فقال عز وجل: { قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا }؛ أي قل لهم يا محمد: يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
وفي { سوآء } ثلاث لغات: سواء وسوى وسوا، ولا يمد فيها إلا المفتوح، قال الله تعالى:
مكانا سوى
[طه: 58]. ثم فسر الكلمة فقال تعالى: { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به } أحدا من المخلوقين، وموضع (أن) رفع على إضمار (هي). وقيل: موضعها نصب بنزع الخافض، وقيل: موضعها خفض بدلا من الكلمة؛ أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله.
قوله تعالى: { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله }؛ أي نرجع إلى معبودنا وهو الله عز وجل لا شريك له؛ وأن عيسى بشر كما أننا بشر فلا تتخذوه ربا، وسمى الله هذه الثلاثة الألفاظ كلمة لأن معناها: نرجع إلى واحد، وهي كلمة العدل: لا إله إلا الله.
قال بعض المفسرين: ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله كما فعلت اليهود والنصارى؛ فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله؛ أي أطاعوهم في معصية الله. قال عكرمة: (هو سجود بعضهم لبعض)، وقيل: معناه: لا نطيع أحدا في المعاصي، وفي الخبر:
" من أطاع مخلوقا في معصية الله فكأنما سجد سجدة لغير الله "
قوله تعالى: { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون }؛ أي فإن أبوا التوحيد فقولوا اشهدوا بأنا مقرون بالتوحيد مسلمون لما أتانا به الأنبياء صلوات الله عليهم من الله تعالى.
[3.65]
قوله تعالى: { يأهل الكتاب لم تحآجون في إبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } ، قال الكلبي: (وذلك أن اليهود والنصارى اجتمعوا في بيت مدرسة اليهود، وكل فريق يقول: إن إبراهيم منا وعلى ديننا، فأتاهم رسول الله عليه السلام فقالوا: اقض بيننا أينا أولى بإبراهيم ودينه، فقال صلى الله عليه وسلم:
" كل الفريقين منكم بريء من إبراهيم ودينه، إن إبراهيم كان حنيفا مسلما وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإسلام "
فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: يا أيها اليهود والنصارى لم تتخاصموا في ابراهيم ودينه { ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } { أفلا تعقلون } ، أي أفليس لكم ذهن الإنسانية فتعلموا أن اليهودية ملة محرفة عن شريعة موسى عليه السلام، وأن اليهود سموا بهذا الاسم لأنهم من ولد يهودا، والنصرانية ملة محرفة عن شريعة عيسى عليه السلام، سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام يقال لها: ناصرة. ويقال: معناه: أفلا تعقلون وتنظرون أنه ليس في التوراة والانجيل أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أو نصرانيا.
قوله تعالى: { ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } أي من بعد مهلك إبراهيم عليه السلام بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة. أفلا تعقلون دحوض حجتكم وبطلان قولكم.
[3.66]
قوله عز وجل: { هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم } ، معناه: وأنتم يا هؤلاء يا معشر اليهود والنصارى حاججتم فيما لكم به علم من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في كتابكم، فلم تخاصمون فيما ليس لكم به علم وهو أمر إبراهيم عليه السلام، { والله يعلم } ، دين إبراهيم وشأنه، { وأنتم لا تعلمون }.
و (الهاء) في { هأنتم } تنبيه، و { أنتم } اسم للمخاطبين، و { هؤلاء } إشارة إليهم، كأنه يقول: انتبهوا أنتم الذين حاججتم. قرأ أهل المدينة والبصرة بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكنة، وقرأ أهل مكة مهموز مقصور على وزن هعيتم، وقرأ أهل الكوفة وابن عامر بالمد والهمز، وقرأ الباقون بالمد دون الهمز.
[3.67]
قوله عز وجل: { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا }؛ هذا تكذيب من الله للفريقين في قولهم: إن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا. وقوله تعالى: { ولكن كان حنيفا مسلما }؛ أي مائلا عن اليهودية والنصرانية مخلصا مستسلما لأمر الله عز وجل؛ { وما كان من المشركين }؛ على دينهم.
والحنيف: هو المائل عن كل دين سوى الإسلام، يشبه بالأحنف الذي تكون صدور قدميه مائلة عن جهة الخلقة. وقيل: الحنيف: الذي يوحد الله ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة، وهو أسهل الأديان وأحبها إلى الله تعالى، وأهله أكرم الخلق على الله.
[3.68]
قوله عز وجل: { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا }؛ قال ابن عباس والكلبي: (وذلك أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد علمت يا محمد أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد لنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية). ومعناها: إن أحق الناس بموالاة إبراهيم للذين اتبعوه في دينه في زمانه، ولم يغيروا ولم يبدلوا، { وهذا النبي } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا } يعني أصحابه الذي اتبعوه. قوله عز وجل: { والله ولي المؤمنين }؛ أي في النصر والمعرفة.
[3.69]
قوله عز وجل: { ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم }؛ يعني كعب بن الأشرف وأصحابه دعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ وحذيفة وعمار بن ياسر الى دينهم اليهودية، وقد مضت قضيتهم في سورة البقرة. ومعناه: تمنت جماعة من أهل الكتاب أن يهلكوكم بإدخالكم في الضلال، { وما يضلون إلا أنفسهم }؛ أي وما يرجع وبال إضلالهم إلا على أنفسهم، { وما يشعرون }؛ وما يعلمون أن وبال ذلك يعود عليهم، وقيل: ما يعلمون أن الله يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على فعلهم.
[3.70]
قوله عز وجل: { يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون }؛ أي لم تجحدون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأنتم تعلمون في كتابكم أنه نبي مرسل، يعني أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل. والأصل في { لم تكفرون }: لما تكفرون؛ أي لأي شيء تكفرون، حذفت الألف للتخفيف وفتحت الميم دليلا على سقوط الألف، وعلى هذا
لم تقولون
[الصف: 2] و
فبم تبشرون
[الحجر: 54] و
عم يتسآءلون
[النبأ: 1].
[3.71]
قوله عز وجل: { يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون }؛ معناه: لم تخلطون الإسلام باليهودية والنصرانية، وقيل: إنهم أقروا ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضه، وقيل: معناه: لم تغطون الحق بباطلكم، وتغطيتهم الحق بالباطل تحريفهم للتوارة والإنجيل وتأويلهم على غير وجهه.
وقوله تعالى: { وتكتمون الحق } يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم كتموها وهم يعلمون أنه رسول الله ودينه حق.
قرأ أبو مخلد (تلبسون) بالتشديد، وقرأ عبيد بن عمر: (لم تلبسوا) بغير نون ولا وجه له.
[3.72]
قوله عز وجل: { وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره }؛ قال مجاهد ومقاتل والكلبي: (هذا في شأن القبلة لما صرفت القبلة إلى الكعبة، شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالذي أنزل على محمد في شأن الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار، وارجعوا إلى قبلتكم صخرة بيت المقدس). { لعلهم يرجعون }؛ أي لعلهم يقولون هؤلاء أصحاب كتاب، وهم أعلم منا، فربما يرجعون إلى قبلتنا، فحذر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مكر هؤلاء القوم وأطلعه على سرهم.
وقال بعضهم: إن علماء اليهود قالوا فيما بينهم: كنا نخبر أصحابنا بأشياء قد أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، فإن نحن كفرنا بها كلها اتهمنا أصحابنا، ولكن نؤمن ببعض ونكفر ببعض لنوهمهم أنا نصدقه فيما نصدقه، ونريهم أنا نكذبه فيما ليس عندنا. ويقال: إنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فقالوا: أنت الذي أخبرنا في التوراة إنك مبعوث، ولكن أنظرنا إلى العشي لننظر في أمرنا.
فلما كان العشي أتوا الأنصار فقالوا لهم: كنا أعلمناكم أن محمدا هو النبي الذي هو مكتوب في التوراة، إلا أنا نظرنا في التوراة فإذا هو من ولد هارون عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بن إبراهيم، فليس هو النبي الذي هو عندنا. وإنما فعلوا ذلك لعل من آمن به منهم يرجع، لأن هذا يكون أقرب عندهم إلى تشكيك المسلمين.
ووجه الشيء أوله، يقال لأول الثوب وجه الثوب، ويسمى أول النهار وجهه لأنه أحسنه.
[3.73]
قوله عز وجل: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم }؛ حكاية قول كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا لليهود: لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية، وصلى إلى قبلتكم نحو بيت المقدس.
قوله تعالى: { قل إن الهدى هدى الله }؛ قال بعضهم: هذا كلام معترض بين كلامي اليهود، ويجوز دخول العارض بين الكلامين اذا احتيج إليه كما دخل على قوله تعالى:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا
[الكهف: 30] ثم عاد إلى أول الكلام فقال تعالى:
أولئك لهم جنات عدن
[الكهف: 31] كذا قوله تعالى: { قل إن الهدى هدى الله } عارض ثم عاد إلى كلام اليهود، فقال تعالى: { أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم }؛ أي قالوا لا تصدقوا أن يعطى أحد من الكتاب والعلم مثل ما أعطيتم؛ { أو يحآجوكم عند ربكم }؛ أي يحاجكم أحد، { قل }؛ لهم يا محمد إن الهدى هدى الله و؛ { إن الفضل بيد الله }؛ فلا تنكروا أن يؤته غيركم.
وقال بعضهم: ليس في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: قالت اليهود: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل يا محمد إن الهدى هدى الله؛ فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجكم أحد عند ربكم، (قل): إن الفضل بيد الله، { يؤتيه من يشآء }؛ أي النبوة والكتاب والهدى بقدرة الله تعالى يعطيه من يشاء، { والله واسع عليم }؛ أي واسع الفضل والقدرة، عليم بمن هو من أهل الفضل.
وقيل معنى الآية: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أي ملتكم، ولا تؤمنوا إلا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة؛ والكتاب والحجة؛ والمن والسلوى؛ وفلق البحر وغيرها من الكرامات، ولا تؤمنوا إلا أن يجادلوكم عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم، وهذا قول مجاهد.
وقال ابن جريج: (معناه: أن اليهود قالت لسفلتهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فأي فضل يكون لكم عليهم حيث عملوا ما عملتم، وحينئذ يحاجوكم عند ربكم فيقولون: عرفتم أن ديننا حق؛ فلا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فلا يحاجوكم عند ربكم). ويجوز أن تكون (إلا) على هذا القول مضمرة لقوله تعالى:
يبين الله لكم أن تضلوا
[النساء: 176] ويكون تقديره: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم؛ لئلا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ لئلا يحاجوكم به عند ربكم.
وقرأ الحسن والأعمش (إن يؤتى) بكسر الألف، وجه هذه القراءة: أن هذا من قول الله عز وجل بلا اعتراض، وأن يكون كلام اليهود منتهيا عند قوله { إلا لمن تبع دينكم }. ومعنى الآية: قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد أو يحاجوكم؛ يعني: إلا أن يحاجوكم أي يجادلوكم اليهود بالباطل فيقولوا نحن أفضل منكم.
وقوله تعالى: { عند ربكم } أي عند فعل ربكم ذلك، وتكون (أن) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي؛ أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والحجة حتى يجادلوكم عند ربكم. قرأ ابن كثير: (أأن يؤتى أحد) بالمد، وحينئذ في الكلام اختصار تقديره: ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب تحسدونهم ولا تؤمنون به، وهذا قول قتادة والربيع؛ قالا: (هذا من قول الله عز وجل: قل يا محمد إن الهدى هدى الله؛ لما أنزل كتابا مثل كتابكم ونبيا مثل نبيكم حسدتموه وكفرتم به).
ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله تعالى:
لعلهم يرجعون
[آل عمران: 72]، فيكون قوله تعالى: { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } إلى آخر الآية من كلام الله عز وجل، وذلك أن الله تعالى قال مثبتا لقلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبس اليهود في دينكم، ولا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا لمن تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل، ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم، أو يقدرون عليه، فإن الهدى هدى الله، وإن عند تلبس اليهود عليهم لئلا يزلوا أو يرتابوا، يدل عليه قول الضحاك: (إن اليهود قالوا: إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا). بين الله أنهم هم المدحضون المغلوبون، وأن المؤمنين هم الغالبون. وقال أهل الإشارة في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم، فإن من لم يوافقكم لا يرافقكم.
[3.74]
قوله تعالى: { يختص برحمته من يشآء }؛ أي يختص بدينه الإسلام من يشاء، وقيل: يختص بالنبوة من يشاء؛ { والله ذو الفضل العظيم } ، على من اختصه بالإسلام والنبوة.
[3.75]
قوله عز وجل: { ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما }؛ في الآية دليل وبيان أن أهل الكتاب فيهم أمانة وفيهم خيانة، فمنهم من إن تأمنه تبايعه بملء مشك ثور تؤده ذهبا، يؤده إليك بلا عناء ولا تعب، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا بعد عناء وتعب. وقال الضحاك: (هو فنحاص بن عازوراء اليهودي؛ أودعه رجل دينارا فخانه). والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل.
وقال الضحاك عن ابن عباس: (معنى الآية: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك؛ وهو عبد الله بن سلام؛ أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه؛ فمدحه الله تعالى، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك؛ وهو فنحاص ابن عازوراء اليهودي ؛ أودعه رجل من قريش دينارا فخانه). وفي بعض التفاسير: أن الذي يؤدي الأمانة في هذه الآية هم النصارى؛ والذين لا يؤدونها هم اليهود.
قرأ الأشهب العقيلي (تيمنه بقنطار) بكسر التاء وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف ابن مسعود: (ما لك لا تيمنا)، وقراءة العامة (تأمنه) بالألف.
وقوله تعالى { يؤده } فيه خمس قراءات، فقرأها كلها أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة ساكنة الهاء، وقرأ أبو جعفر ويعقوب مختلسة مكسورة مشبعة، وقرأ سلام مضمومة مختلسة، وقرأ الزهري مضمومة مشبعة، وقرأ الآخرون مكسورة مشبعة.
قوله تعالى: { إلا ما دمت عليه قآئما } قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وطلحة بكسر الدال، ومعنى الآية: { إلا ما دمت عليه قآئما } أي ملحا، كذا قال ابن عباس، وقال مجاهد: { إلا ما دمت عليه قآئما } ملازما. وقال ابن جبير: (مرابطا). وقال الضحاك: (مواظبا). وقال قتادة: (معناه: إلا ما دمت عليه قائما: بقبضه). وقال السدي: (قائما على رأسه، فإن سألته إياه حين دفعته إليه رده عليك، وإن أخرته أنكر). وذهب به ذلك إلى الاستحلال والخيانة، { ذلك بأنهم قالوا }؛ أي فإنهم قالوا: { ليس علينا في الأميين سبيل }؛ أي وقال العرب نظيره قوله تعالى:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم
[الجمعة: 2]. والسبيل هو الإثم والحرج؛ دليله قوله تعالى:
ما على المحسنين من سبيل
[التوبة: 91] وذلك أن اليهود قالوا: لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلها الله لنا؛ لأنهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم.
وقال الكلبي: (قالت اليهود: إن الأموال كلها لنا؛ وما كان في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنما ظلمونا وغصبونا عليها ولا سبيل علينا في أخذنا إياها منهم). فأكذبهم الله بقوله: { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون }؛ فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة؛ فإنها مؤداة إلى البر والفاجر "
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } أي ذلك الاستحلال والخيانة منهم بقولهم : ليس علينا في مال العرب والذين لا كتاب لهم حجة ولا مأثم. وقوله تعالى: { ويقولون على الله الكذب } أي يقولون لم يجعل لهم علينا في كتابنا حرمة كحرمتنا، { وهم يعلمون } أن الله تعالى قد أنزل عليهم في كتابهم الوفاء وأداء الأمانة لمن ائتمنهم وخالطهم.
[3.76]
قوله عز وجل: { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين }؛ أي ليس الأمر كما يزعمون، لكن من أتم عهد الله الذي عاهده الله تعالى في التوراة واتقى ظلم الناس في ترك الوفاء ونقض العهد، فإن الله يحب المتقين لنقض العهد وترك الوفاء. قال صلى الله عليه وسلم:
" ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام: من إذا حدث كذب، وإذا أوعد أخلف، وإذا ائتمن خان "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من ائتمن على أمانة فأداها ولو شاء لم يؤدها؛ زوجه الله من الحور العين ما شاء "
[3.77]
قوله تعالى: { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية فيما كان بين امرئ القيس وعبدان بن الأشوع من الخصومة في أرض غلبه عليها امرؤ القيس؛ فاستحلفه عبدان فهم بالحلف؛ فنزلت هذه الآية فامتنع أن يحلف، وأقر لعبدان بحقه ودفعه إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:
" لك عليها الجنة "
). وقيل: نزلت هذه الآية في اليهود لكتمانهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية: إن الذين يجتازون على عهدي الذي عهدت به في الدنيا، أولئك لا نصيب لهم في الآخرة؛ { ولا يكلمهم الله }؛ بكلام خير ولا رحمة، وقيل: لا يسمعهم كلامه كما يكلم أولياءه بغير سفير.
قوله تعالى: { ولا ينظر إليهم يوم القيامة }؛ أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يقول لهم خيرا؛ { ولا يزكيهم }؛ أي لا يثني عليهم خيرا؛ { ولهم عذاب أليم } ، في أنها هذه الأحوال { عذاب أليم } أي موجع. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " من اقتطع شيئا من مال مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة " قال رجل: ولو كان شيئا يسيرا؟ قال: " ولو كان قضيبا من أراك " "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إياكم واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار بلاقع "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" اليمين الفاجرة تسقم الرحم "
، وهي
" منفقة للسلعة ممحقة للكسب "
[3.78]
قوله عز وجل: { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله }؛ روي: أن جماعة من اليهود أولي فاقة وفقر قدموا المدينة من الشام ليسلموا، فلقيهم كعب بن الأشرف فقال لهم: أتعلمون أن محمدا نبي؟ قالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا، قالوا: فإنه يشهد أنه عبد الله ورسوله، فقال كعب بن الأشرف: لقد منعكم الله خيرا كثيرا، كنت أريد أن أمير لكم وأكسوا عيالكم فحرمكم الله، فقالوا: رويدك حتى نلقاه، فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ونعتا سوى نعته، ثم انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلموه وسألوه، ثم رجعوا إلى كعب فقالوا: كنا نرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا؛ وجدنا نعته مخالفا للذي عندنا؛ وأخرجوا الذي كتبوه فنظر إليه كعب ففرح وأخذ إقرارهم وخطوطهم ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية قمص من الكرباس وخمسة آصع من الشعير، فنزلت الآية.
ومعناها: وإن من أهل الكتاب طائفة يحرفون الكتاب ثم يقرأون ما حرفوه ليظن المسلمون أن ذلك من التوراة؛ وما هو منها، ويقولون هو من عند الله نزل وما هو من عند الله نزل؛ { ويقولون على الله الكذب }؛ بادعائهم أن ذلك المحرف من التوراة؛ { وهم يعلمون }؛ أنهم يكذبون، ولي اللسان هو العدول عن الصدق والصواب.
[3.79]
وقوله عز وجل: { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله }؛ وذلك أنه لما كثرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الإسلام وقامت عليهم الحجج؛ قالوا: إن هذا الرجل يريد أن نتبعه ونعبده كما كان عيسى من قومه حتى عبدوه، فكذا كلم الله عز وجل بهذه الآية، ومعناها: ما كان بشر من الأنبياء مثل عيسى وعزير وغيرهم أن يعطيه الله الكتاب وعلم الحلال والحرام والنبوة؛ { ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } أي لا يجمع لأحد النبوة والقول للناس: كونوا عبادا لي، وليس هذا على وجه النهي، ولكنه على وجه التنزيه لله عز وجل؛ لأنه لا يختار نبيا يقول مثل هذا القول للناس. ويجوز أن يكون هذا على وجه تعظيم الأنبياء صلوات الله عليهم.
وقال الضحاك ومقاتل: (معناه: { ما كان لبشر } يعني عيسى عليه السلام { أن يؤتيه الله الكتاب } يعني الإنجيل؛ نزلت في نصارى نجران). وقال ابن عباس وعطاء: ( { ما كان لبشر } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { أن يؤتيه الله الكتب } يعني القرآن. وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود، والريس من نصارى نجران، قالوا: يا محمد؛ نريد أن نصيرك ونتخذك ربا؟! فقال صلى الله عليه وسلم:
" معاذ الله أن يعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني الله عز وجل ولا بذلك أمرني "
فأنزل الله هذه الآية). والبشر جمع بني آدم لا واحد له من لفظه، كالقوم والجيش، ويوضع موضع الواحد والجمع.
قوله تعالى { والحكم } يعني الفهم والعلم، وقيل: الأحكام. قوله عز وجل: { ولكن كونوا ربنيين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون } ، أي ولكن يقول: { كونوا ربنيين } أي علماء عاملين، وقيل: فقهاء معلمين. قفال مرة بن شرحبيل: (كان علقمة من الربانيين يعلمون الناس القرآن). وعن سعيد بن جبير: (معناه: حكماء أتقياء). وقيل: متعبدين مخلصين. وقيل: علماء نصحاء لله عز وجل في خلقه.
وقيل: (الرباني: هو العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي؛ والعارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون). وقال علي كرم الله وجهه: (هو الذي يرب علمه بعمله) أي يصلح علمه بعمله وعمله بعلمه. وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس: (مات رباني هذه الأمة).
قوله تعالى: { بما كنتم تعلمون الكتب } معناه: بما أنتم تعلمون كقوله:
وكانت امرأتي عاقرا
[مريم: 5] أي وامرأتي عاقر. وقوله:
من كان في المهد
[مريم: 29] أي من هو في المهد صبيا. وقوله تعالى: { تعلمون الكتب } ، قرأ السلمي والنخعي وابن جبير والضحاك وابن عامر والكوفيون: (بما كنتم تعلمون) بالتشديد من التعليم، وقرأ الباقون بالتخفيف: من العلم.
قال أبو عمرو: (وتصديق هذه القراءة: (وبما كنتم تدرسون) ولم يقل: تدرسون). وقرأ الحسن: (بما كنتم تعلمون) بفتح التاء والعين وتشديد اللام؛ على معنى: تتعلمون. وقرأ أبو حيوة: (تدرسون) بالتشديد، وقرأ الباقون (تدرسون): من الدرس.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مؤمن ذكر ولا أنثى ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه فيه "
ثم تلا هذه الآية: { ولكن كونوا ربنيين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون }. وإنما قيل للفقهاء: ربانيين؛ لأنهم يربون بالعلم؛ أي يقومون به. وزيدت الألف والنون للمبالغة، كما يقال رجل كثير اللحية: لحياني، والذي جمعه جماني. وعن ثعلب أنه قال: (يقال: رجل ربي ورباني؛ أي عالم عامل معلم).
[3.80]
قوله تعالى: { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } ، قرأ الحسن وعاصم وحمزة وابن عامر: (ولا يأمركم) بنصب الراء عطفا على (ثم يقول) مردود على البشر، وقرأ الباقون بالرفع والاستئناف والانقطاع من الكلام الأول. واختلفوا فيه على هذه القراءة. فقال الزجاج: (معناه: ولا يأمركم الله). وقال ابن جريج وجماعة: (ولا يأمركم محمد صلى الله عليه وسلم)، وقيل: ولا يأمركم البشر أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا كفعل قريش وخزاعة؛ حيث قالوا: الملائكة بنات الله. واليهود والنصارى حيث قالوا: عزير والمسيح ابن الله.
قوله تعالى: { أيأمركم بالكفر } استفهام بمعنى الإنكار؛ أي الله عز وجل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى الإسلام؛ فكيف يدعو إلى الكفر بعد أن كانت فطرتكم على الإسلام؟. ويقال: إن كنتم مقرين بالتوحيد.
[3.81-82]
قوله عز وجل: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه }؛ قرأ سعيد بن جبير (لما) بتشديد الميم، وقرأ حمزة (لما) بكسر اللام والتخفيف، وقرأ الباقون بالفتح والتخفيف. فمن فتح وخفف فهي لام الابتداء أدخلت على (ما)، كقول القائل: لزيد أفضل من عمرو، و (ما آتيتكم) اسم، والذي بعده صلة. وجوابه: { لتؤمنن به } ، وإن شئت جعلت خبر (ما) من كتاب، وتكون (من) زائدة معناه: لما آتيتكم كتابا وحكمة. ثم ابتدأ فقال: { ثم جآءكم رسول } أي ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، اللام لام القسم؛ تقديره: والله لتؤمنن به، فوكده في أول الكلام بلام التوكيد وفي أجزاء الكلام بلام القسم كأنه استحلفهم: والله لتؤمنن به. وأخذ الميثاق في معنى التحليف؛ لأن الحلف وثيقة، وموضع (ما) في قوله (لما) نصب بقوله (آتيتكم)، كأنه قال: للذي اتيتكموه من كتاب. وقال الزجاج: (هذه لام التخفيف دخلت على (ما) للجزاء؛ ومعناه: لهما آتيتكم). ودخول اللام في الشرط والجواب للتوكيد كما في قوله تعالى:
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك
[الإسراء: 86] وكما يقول: لئن جئتني لأكرمتك.
ومن قرأ (لما) بالكسر والتخفيف فهي لام الإضافة دخلت على (ما) التي هي بمعنى الذي؛ ومعناه: للذي أتيتكم؛ يعني: الذي أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتيناهم من كتاب وحكمة؛ ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم.
قوله تعالى: (لمآ آتيناكم من كتاب): قرأ نافع بالألف والنون على التعظيم؛ لأن عظم الشأن قد يعبر عن نفسه بلفظ الجمع. وقرأ الآخرون (آتيتكم). واختلف المفسرون في المعني بهذه الآية، فقال قوم: إنما أخذ الميثاق على الأنبياء عليهم السلام: أن يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، فذلك معنى النصرة بالتصديق، وهذا قول ابن جبير وطاووس وقتادة والحسن والسدي، يدل عليه ظاهر الآية. قال علي رضي الله عنه: (لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد من محمد وأمته، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به؛ ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه).
وقال بعضهم: إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب؛ وهو قول مجاهد والربيع قالوا: (ألا ترى إلى قوله: { ثم جآءكم رسول مصدق } إنما كان محمد مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين). وقال بعضهم: إنما أخذ العهد على النبيين وأممهم؛ واكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم؛ لأن أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع، وهذا قول ابن عباس وهو أولى بالصواب.
قوله عز وجل: { قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري }؛ أي قال الله تعالى لأنبيائه: أقررتم بما أمرتكم به على ما قلت لكم وقبلتم على ذلكم عهدي.
ومعنى { أخذتم } أي قبلتم؛ نظيره قوله تعالى:
إن أوتيتم هذا فخذوه
[المائدة: 41] أي فاقبلوه، وقوله:
ولا يؤخذ منها عدل
[البقرة: 48] أي لا يقبل، وقوله:
ويأخذ الصدقات
[التوبة: 104] أي يقبلها.
والإصر في اللغة: الثقل؛ لكن يراد به العهد لما فيه من الثقل. وقال بعضهم: لفظ الأخذ يحتمل وجهين؛ أحدهما: قبلتم على ذلكم عهدي، والثاني: أخذتم العهد على ذلكم بذلك على أممكم.
قوله تعالى: { قالوا أقررنا }؛ أي قالت الأنبياء صلوات الله عليهم: أقررنا بالعهد، { قال } الله؛ تعالى؛ { فاشهدوا }؛ أي يشهد بعضكم على بعض بذلك، واشهدوا على أتباعكم. وقيل: معنى { فاشهدوا } أي بينوا لمن يكون بعدكم؛ لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، ثم قال تعالى: { وأنا معكم من الشاهدين }؛ أي أنا من الشاهدين عليكم وعلى أممكم. وقيل: معنى: { فاشهدوا } أي قال للملائكة: فاشهدوا على إقرارهم.
وشهادة الله للنبيين تبينة أمر نبوتهم بالمعجزات، { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }.
[3.83]
قوله عز وجل: { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموت والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون }؛ قرأ أبو عمرو: (يبغون) بالياء، و (ترجعون) بالتاء، قال: (لأن الثاني أعم، والأول خاص، ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى). وقرأ الحسن ويعقوب وسلام وحفص: (يبغون) بالياء، و (يرجعون) بالياء أيضا. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب.
ومعنى الآية: أبعد هذه الوثائق الجارية بينهم وبين الله في أمر النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون دينا سوى ما عهده الله إليهم. قال الكلبي: (وذلك أنه لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حين اختلفوا في دين إبراهيم عليه؛ كل فرقة قد زعمت أنها أولى بدينه، فقال صلى الله عليه وسلم:
" كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم "
فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية).
قوله تعالى: { وله أسلم من في السموت والأرض طوعا وكرها } أي له أخلص وخضع. قال الكلبي: (أما أهل السماوات ومن ولد في الإسلام من أهل الأرض أسلموا طائعين، ومن أبى قوتل حتى يدخل في الإسلام كرها؛ يجاء بهم أسارى في السلاسل ويكرهون على الإسلام). وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" عجب ربكم من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل "
قوله تعالى: { وإليه يرجعون } أي إلى جزائه ترجعون في الآخرة، فبادروا إلى دينه ولا تطلبوا غير ذلك، وقيل معنى: { وله أسلم من في السموت والأرض } أي أقروا له بالألوهية كما قال الله تعالى:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله
[الزخرف: 87]. وقال الزجاج: (معناه: أن كلهم خضعوا لله من جهة ما فطرهم الله عليه). قال الضحاك: (هذا حين أخذ منه الميثاق وأقر به).
وقال الكلبي: (معناه: الذي أسلم طوعا أي الذي ولد في الإسلام، وبالذي أسلم كرها يعني الذي أجبر على الإسلام، فيؤتى بهم في السلاسل فيكرهون على الإسلام). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كل الملائكة أطاعوا في السماء؛ والأنصار في الأرض "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ولا تسبوا أصحابي فإنهم أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف سيوفهم "
وقال الحسن: (الطوع: لأهل السماوات خاصة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعا؛ ومنهم من أسلم كرها).
وقرأ الأعمش: (كرها) بضم الكاف. وأما انتصاب (طوعا) و (كرها) فلأنهما مصدران وضعا موضع الحال كما يقال: جئت ركضا وعدوا؛ أي راكضا وماشيا بسرعة؛ كأنه قال: وله أسلم من في السماوات والأرض طائعين وكارهين. وعن ابن عباس أنه قال: (إذا استضعنت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية: { أفغير دين الله يبغون } إلى آخرها).
[3.84]
قوله عز وجل: { قل آمنا بالله ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم }؛ الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر له أن يقول عن نفسه وعن أمته { آمنا بالله }. قوله عز وجل: { لا نفرق بين أحد منهم }؛ أي من الرسل، لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود، بل نؤمن بهم جميعا. قوله عز وجل: { ونحن له مسلمون }؛ أي مخلصون لله في التوحيد والطاعة.
[3.85]
قوله عز وجل: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الآية، قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية إلى قوله:
لن تنالوا البر
[آل عمران: 92] في عشرة رهط ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، منهم طعمة بن أبيرق ووحوح بن الأسلت والحارث بن سويد وغيرهم، وندم الحارث وأرسل إلى أخيه الحلاس ابن سويد المسلم: أني قد ندمت على ما صنعت، فسل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من توبة وإلا أذهب في الأرض. فأنزل الله هذه الآيات).
ومعناها: من يطلب دينا غير دين الإسلام فلن يقبل منه ما أقام عليه؛ أي لن يثاب ولن يثنى عليه. ويقال: هذه الآية نزلت في المرتدين. وقوله تعالى: { وهو في الآخرة من الخاسرين }؛ أي من المغبونين حيث ترك منزله في الجنة، واختار منزله في النار.
[3.86]
قوله تعالى: { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم }؛ أي كيف يهديهم وقد كفروا بعد إذ آمنوا؛ و؛ بعد أن؛ { وشهدوا أن الرسول حق } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم؛ { وجآءهم البينات }؛ أي دلالات صدقه ونبوته، فكيف يستحقون هداية الله تعالى. قوله تعالى: { وشهدوا أن الرسول حق } عطف على قوله { إيمانهم } دون قوله { كفروا } ، وقد يعطف الفعل على المصدر، كما يقال: أعجبني ضرب زيد وإن غضب، وتقدير الآية: بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق.
قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ أي لا يرشد المشركين ومن لم يكن أهلا لذلك، فإن ظاهر الآية يقتضي أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله، وأن الظالمين لا يهديهم الله. وكثير من المرتدين أسلموا ومن الظالمين تابوا. وقيل: معناه: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم، فإذا جاهدوا وقصدوا الرجوع إلى الحق وفقهم الله كما قال تعالى:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69]. وقيل: معنى الآية: كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة.
[3.87-88]
قوله تعالى: { أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله }؛ أي أهل هذه الصفة { جزآؤهم أن عليهم لعنة الله } أي عذابه، واللعنة من الله الإبعاد، وأما لعنة الملائكة والناس فدعاؤهم على الكفار بأن يبعدهم الله من رحمته. فإن قيل: كيف قال الله: { والملائكة والناس أجمعين } ومن الناس من يوالي الكافر ويوافقه ولا يلعنه؟ قيل: إنهم في الآخرة يلعن بعضهم بعضا. وقوله تعالى: { خالدين فيها }؛ أي مقيمين في اللعنة، وقيل: في العذاب؛ { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون }؛ حين ينزل بهم.
[3.89-90]
قوله تعالى: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا }؛ استثناء من قول الله عز وجل { أن عليهم لعنة الله }؛ ومعناه: { إلا الذين تابوا من } الكفر والشرك بعد ارتدادهم؛ { وأصلحوا } أي لم يكتفوا بمجرد الإيمان. ويقال: أصلحوا أعمالهم بالتوبة، وقيل: أصلحوا ما أفسدوه من الناس ممن تبعهم، { فإن الله غفور رحيم }؛ أي يتجاوز عنهم، رحيم بهم بعد التوبة.
قال ابن عباس: (لما نزلت قال للحارث بن سويد: [الرخصة في التوبة] أرسل أخوه الجلاس إليه: أن الله عز وجل قد فرض عليكم التوبة؛ فارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليه. فرجع وتاب، وقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أصحابه الذين بمكة؛ فقالوا: نتربص بمحمد ريب المنون؛ فإن بدا لنا الرجعة إليه ذهبنا كما ذهب الحارث فيقبل توبتنا) فأنزل الله تعالى: { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم }؛ إن الذين كفروا بالله وبالرسول بعد تصديقهم ثم ازدادوا كفرا بقولهم: نقيم بمكة ما بدا لنا، لن تقبل توبتهم، { وأولئك هم الضآلون }؛ أي عن الإسلام.
وفي هذه الآية دليل على أن هؤلاء لم يكونوا محققين؛ لأنه قال: { وأولئك هم الضآلون }. وكانت هذه الآية خاصة في قوم علم الله أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، ومات طعمة كافرا، ولو كانوا يحققون التوبة قبل المعاينة لقبلت توبتهم. ويجوز أن يكون بمعنى: { لن تقبل توبتهم } أي التوبة التي يتوبونها عند الموت. قوله عز وجل: { ثم ازدادوا كفرا }. قال الحسن وقتادة وعطاء: (نزلت هذه الآية في اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم؛ ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن).
[3.91]
وقوله تعالى: { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به }؛ أي إن الذين كفروا وماتوا على كفرهم لو كان لأحدهم في الآخرة ملء الأرض ذهبا فافتدى به لن يقبل منه، كما روي: أنه يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به من العذاب؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت ما هو أيسر عليك من هذا فلم تفعل؟
وقوله تعالى: { ذهبا } نصب على التفسير في قول الفراء، ومعنى التفسير: أن يكون الكلام تاما وهو مبهم كقوله: عندي عشرون فالعدد معلوم والمعدود مبهم، فإذا قلت: عشرون درهما؛ فسرت العدد؛ ولذلك إذا قلت: هو أحسن الناس؛ فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في أي شيء. فاذا قلت: وجها أو فعلا؛ فقد بينته ونصبت على التفسير، وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلما خلا من هذين نصب؛ لأن النصب أخف الحركات؛ فجعل لكل ما لا عامل له.
وقال الكسائي: (نصب على إضمار (من ذهب) كقوله تعالى:
أو عدل ذلك صياما
[المائدة: 95] أي من صيام). وقد يقال: نصب على التمييز ثلاثة أشياء: تمييز جملة مبهمة كما في قوله:
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا
[الكهف: 34]، وتمييز عدد مبهم كقولك: عشرون درهما، وتمييز مقدار مبهم كما يقال: عندي ملء زق عسلا.
وأما دخول الواو في قوله: { ولو افتدى به }؛ فقال بعضهم: هي زائدة. وقال الزجاج: (ليست بزائدة؛ وإنما هي لتعميم النفي لوجوه القبول، ولو لم تكن واوا لأوهم الكلام؛ لأن ذلك لا يقبل في الإفتداء، ويقبل على غير وجه الإفتداء).
قوله تعالى: { أولئك لهم عذاب أليم }؛ أي أهل هذه الصفة لهم عذاب وجيع في الآخرة، { وما لهم من ناصرين }؛ أي من مانع يمنعهم من العذاب.
[3.92]
قوله تعالى: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }؛ قال ابن عباس: (معناه: لن تنالوا الجنة)، وقال عطاء: (لن تنالوا الطاعة). وقال أبو روق: (معناه: لن تنالوا الخير)، وقال مقاتل: (لن تنالوا التقوى)، وقال الحسن: (لن تكونوا أبرارا حتى تتصدقوا مما تحبون من الأموال؛ أي من كرائم أموالكم وأحبها إليكم، طيبة بها أنفسكم؛ صغيرة في أعينكم)، وقال مجاهد والكلبي: (هذه الآية منسوخة؛ نسختها الزكاة). وروى الضحاك عن ابن عباس: (أراد بهذه الآية: حتى تخرجوا زكاة أموالكم)، وقال عطاء: (معناه: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء تأملون الغنى وتخشون الفقر). ويقال: معناه: لن تبلغوا حقيقة التوكل والتقوى حتى تخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم.
وذهب أكثر المفسرين إلى أن المقصود من هذه الآية: الحث على صدقة النفل والفرض بأبلغ وجوه القرب؛ لأن قوله: { مما تحبون } يدل على المبالغة فيه. روي عن عبدالله بن عمر: أنه اشترى جارية كان يهواها، فلما ملكها أعتقها ولم يصب منها، فقيل له في ذلك، فقال: { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }. وعن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يشتري أعدال السكر فيتصدق بها، فقيل له: هلا تصدقت بثمنه؟ فقال: (لا، لأن السكر أحب إلي؛ فأردت أن أنفق مما أحب).
وروي: أن سائلا وقف على باب الربيع بن خيثم؛ فقال: أطعموه سكرا، فقيل له: ما يصنع بالسكر؟ هلا تطعمه خبزا أنفع له؟ قال: ويحكم! أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر. ووقف سائل على باب الربيع في ليلة باردة؛ فخرج إليه فرآه كأنه مقرور، فقال: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، فنزع برنسا فأعطاه إياه.
قوله عز وجل: { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم }؛ أي ما تتصدقوا من صدقة فإن الله بها ويزيادتكم عليم يجزيكم على ذلك في الآخرة.
[3.93-95]
قوله تعالى: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة }؛ قال ابن عباس: (معناه: كل الطعام الحلال اليوم وهو ما سوى الميتة والدم ولحم الخنزير كان حلا لبني يعقوب عليه السلام، من قبل أن تنزل التوراة على موسى عليه السلام؛ إلا الطعام الذي حرمه يعقوب على نفسه؛ وهو لحم الإبل وألبانها).
وذلك أن يعقوب عليه السلام كان يمشي إلى بيت المقدس فلقيه ملك من الملائكة وهو خلف الأثقال، فظن يعقوب أنه لص؛ فعالجه ليصارعه فكان كذلك حتى أضاء الفجر، فضمر الملك فخذ يعقوب فهاج به عرق النسا، فصعد الملك إلى السماء، وجاء يعقوب يعرج حتى لحق الأثقال؛ فكان يبيت الليل ساهرا من وجعه وينصب نهاره، فأقسم لئن شفاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب على نفسه؛ فشفاه الله من ذلك، فحرم أحب الطعام والشراب إليه، وكان ذلك لحوم الإبل وألبانها، ثم استن ولده سبيله. فذلك قوله: { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة }.
فلما نزلت هذه الآية؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود:
" ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ " قالوا: كل شيء حرمناه اليوم على أنفسنا؛ فإنه كان محرما على نوح عليه السلام فهلم جرا حتى انتهى إلينا، وأنت يا محمد وأصحابك تستحلونه، وادعوا أن ذلك مسطور في التوراة ".
وقال الكلبي: (كان هذا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" " أنا على ملة إبراهيم عليه السلام " قال اليهود: كيف وأنت تأكل الإبل وألبانها؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله ". قالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه؛ فإنه كان حراما على إبراهيم ونوح، وهلم جرا حتى انتهى إلينا. "
فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه }
. قوله تعالى: { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } ، وذلك أن اليهود قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
" " ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ " قالوا: كل شيء نحرمه اليوم على أنفسنا. قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } "
أي فاقرأوها؛ هل تجدون فيها تحريم كل ذي ناب وظفر وتحريم شحوم البقر والغنم وغير ذلك مما حرم الله عليكم من الطيبات بعد نزول التوراة بظلمكم وبغيكم، كما قال تعالى:
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم
[النساء: 160].
فأبوا أن يأتوا بالتوراة خوفا من الفضيحة لعلمهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى قوله تعالى: { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون }؛ أي من اختلق على الله الكذب بأن ينزل عليه ما لم ينزله في كتاب من بعد ذلك، يقال من بعد قيام الحجة عليه: فأولئك هم الظالمون لأنفسهم.
قوله عز وجل: { قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا }؛ أي قل لهم يا محمد صدق الله في أن كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، { فاتبعوا ملة إبراهيم } في استباحة لحوم الإبل وألبانها وافعلوا ما كان يفعله من الصلاة إلى الكعبة وحج البيت، { وما كان من المشركين }؛ أي لم يكن إبراهيم على دين المشركين، ولم يفعل كما كان يفعله اليهود في ادعائهم أن عزيرا ابن الله؛ ولا كما يقول النصارى إن المسيح ابن الله. وهذه الآيات حجة على اليهود في إنكارهم نسخ الشريعة.
[3.96]
قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين }؛ قال مجاهد: (تفاخر المسلمون واليهود؛ فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنها مهاجر الأنبياء وهي الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية: { إن أول بيت وضع للناس }. وقرأ ابن السميقع: (وضع) بفتح الواو والضاد بمعنى وضعه الله. { للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين }
فيه ءايت بينت مقام إبرهيم
[آل عمران: 97]؛ وليس ذلك بيت المقدس، وكتب على الناس حج البيت وليس ذلك بيت المقدس.
واختلفوا في قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس }؛ قال بعضهم: هو أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الله السماوات والأرض، خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام، وكان ربوة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته، وهذا قول ابن عمر ومجاهد وقتادة والسدي. وقيل: معناه: أول بيت بناه آدم في الأرض، قاله ابن عباس. وقال الضحاك: (معناه: أول بيت وضع فيه البركة واختير من الفردوس الأعلى).
وقيل: هو أول بيت جعل قبلة للمسلمين. وعن أبي ذر قال:
" سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس، فقال: " المسجد الحرام؛ ثم بيت المقدس " فقيل له: كم بينهما؟ قال: " أربعون عاما " ".
وقال الحسن: (معناه: إن أول بيت وضع لعبادة الناس على وجه الأرض الكعبة؛ بناها إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى:
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت
[الحج: 26]. وأما بناء بيت المقدس فقد كان بعد الكعبة بدهر طويل؛ بناه سليمان بن داود عليهما السلام).
قال الكلبي: (كان آدم عليه السلام حين أخرج من الجنة بنى الكعبة فطاف بها، فلما كان في زمن طوفان نوح عليه السلام رفعها الله إلى السماء السادسة بحيال موضع الكعبة؛ وهي البيت المعمور يقال له الضراح؛ يدخله كل يوم سبعون ألف ملك). وروي أن الله تعالى أنزل الكعبة من السماء وهي من ياقوتة حمراء، وكانت الملائكة تحجها قبل آدم عليه السلام، فلما كثرت الخطايا رفعها الله تعالى.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الكعبة كانت خشعة على وجه الماء فدحيت الأرض من تحتها "
والخشعة: مثل الصبرة متواضعة.
قوله تعالى: { ببكة } ، قال الضحاك: (هي مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم فتقول: ضربة لازب، وضربة لازم). وقال ابن شهاب: (بكة المسجد والبيت، ومكة الحرم كله) ومثله قال الزهري. وسمي المسجد بكة؛ لأن البك هو الرحمة، في اللغة يقال: بكه إذا رحمه. وسمي المسجد بكا لأن الناس يتباكون فيه؛ أي يزدحمون للطواف. وقال أبو عبيد: (بكة اسم لبطن مكة، ومكة لما بقي).
وقال عبدالله بن الزبير: (سميت البلد بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة؛ ما قصدها جبار إلا قصمه الله كأصحاب الفيل وغيرهم). وسميت مكة لاجتذابها الناس من كل أفق. يقال امتك الفصيل في ضرع الناقة اذا استقصى فلم يدع شيئا منه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (ما أعلم على وجه الأرض بلدة الحسنة فيها بمائة ألف إلا مكة، ولا درهما يتصدق به يكتب لديه ألف درهم إلا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة فيها شراب الأبرار ومصلى الأخيار إلا مكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا الرجل فيها بدعاء أمن الملائكة على دعائه إلا مكة, ولا أعلم على وجه الأرض بلدة يموت فيها الميت فيكون تكفيرا لخطاياه إلا مكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة صدر إليها جميع النبيين والمرسلين إلا مكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كل يوم من روح الجنة ورائحتها ما ينزل إلا بمكة، والركعة الواحدة فيها بمائة ألف ركعة).
قوله تعالى: { مباركا } نصب على الحال؛ أي الذي استقر بمكة، والبركة بثوب الخير ونموه. وقوله تعالى: { وهدى للعالمين } أي قبلة للمؤمنين. وقيل: بيان ودلالة للعالمين على الله بإهلاك من قصده من الجبابرة، وباستئناس الطير فيه بالناس، وبأن لا يعلوه طائر إعظاما له، وبإمحاق ما يرمى فيه من الجمار في كل سنة، فلولا أن ما يقبل منها يرفع كما قال ابن عباس، وإلا كان قد اجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال. ويجوز أن يكون المراد بالهدى أنه طريق الجنة.
[3.97]
قوله عز وجل: { فيه ءايت بينت مقام إبرهيم }؛ أي فيه علامات واضحات، وهن ما تقدم ذكره ومقام إبراهيم أيضا، والآية في مقام إبراهيم: أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله تعالى صار الحجر كالطين حتى غاصت قدماه فيه ثم عاد حجرا صلدا ليكون ذلك دلالة على صدق نبوته عليه السلام. قرأ ابن عباس: (فيه آية بينة) على الواحد وأراد مقام إبراهيم وحده. وقرأ الباقون بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها.
قوله تعالى: { ومن دخله كان آمنا }؛ قال الحسن: (عطف الله قلوب العرب في الجاهلية على أن كل من لاذ بالحرم وإن كان جانيا لا يهاج فيه، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال:
رب اجعل هذا بلدا آمنا
[البقرة: 126] وكان في الجاهلية من دخله أمن من القتل؛ ولم يزده الإسلام إلا شدة. وقيل: إن أول من لاذ بالحرم: الحيتان الصغار من الكبار في الطوفان، وقيل: من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان آمنا، بيانه: قوله تعالى:
لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين
[الفتح: 27].
قال أهل المعاني: صورة الآية خبر؛ ومعناها: أمر؛ تقديرها: ومن دخله فأمنوه، لقوله:
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال
[البقرة: 197] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. وقيل: معناه: من دخله لقضاء النسك معظما لله عارفا بحقوقه متقربا إلى الله تعالى كان آمنا يوم القيامة. وقال الضحاك: (معناه: من حجه فدخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك). وقال جعفر الصادق: (من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمنا من عذابه).
قال أبو النجم القرشي: كنت أطوف بالبيت؛ فقلت: (يا سيدي قد قلت: (ومن دخله كان آمنا) من أي شيء؟ فسمعت قائلا من ورائي يقول: آمنا من النار؛ فالتفت فلم أر شيئا). يدل على هذا ما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينتشران في الجنة "
وهما مقبرتا مكة والمدينة. وقال صلى الله عليه وسلم:
" من صبر على حر مكة ولو ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام؛ وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام "
وقال وهب بن منبه: (مكتوب في التوراة: أن الله عز وجل بعث سبعمائة ألف من الملائكة المقربين إلى البيت، بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب، فيقول لهم: اذهبوا إلى البيت الحرام، قرموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر؛ فيأتون به بسبعمائة سلسلة من ذهب؛ ثم يقودونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري، فتقول: لست سائرة حتى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء سلي، فتقول: يا رب شفعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين، فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك، فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمون؛ فيجتمعون حول الكعبة ثم يلبون، ثم تقول الملائكة: سيري يا كعبة الله؛ فتقول: لست سائرة حتى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي، فتقول: يا رب؛ عبادك المذنبين الذين وفدوا إلي من كل فج عميق شعثا غبرا؛ قد تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا زائرين مسلمين طائعين حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وشفعني فيهم وتجمعهم حولي، فينادي مناد: إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصر على الكبائر حتى وجبت له النار، فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام، فيقول الله تعالى: قد شفعتك فيهم وأعطيتك سؤلك.
ثم ينادي مناد: ألا من زار الكعبة، فيعزل من بين الناس فيعتزلون؛ فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار، يطوفون ويلبون. ثم ينادي ملك من جو السماء يا كعبة الله سيري، فتقول الكعبة: لبيك لبيك؛ والخير في يديك؛ لبيك لا شريك لك لبيك؛ إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك. ثم يشيعونها إلى المحشر).
قوله عز وجل: { ولله على الناس حج البيت }؛ قال عكرمة: (لما نزل قوله تعالى:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران: 85] قالت اليهود: نحن مسلمون؛ فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين). واللام في قوله (لله) لام الإيجاب والإلزام؛ أي لله فرض واجب على الناس حج البيت.
قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وحفص: (حج البيت) بكسر الحاء هذا الحرف وحده خاصة. وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر، وهي لغة نجد. وقرأ الباقون بالفتح في كل القرآن، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد. وقال بعضهم هو بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.
قوله عز وجل: { من استطاع إليه سبيلا }؛ بدل من الناس، وهو بدل البعض من الكل، قال عبدالله بن عمر: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستطاعة في هذه الآية فقال:
" السبيل إلى البيت: الزاد والراحلة "
ومثله عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبدالله وأنس بن مالك.
قوله تعالى: { ومن كفر فإن الله غني عن العلمين }؛ معناه: من أنكر فريضة الحج فلم ير واجبا فإن الله غني عن من حج وعن من لم يحج؛ أي لم يتعبد الناس بالعبادات لحاجته إليها، وإنما تعبدهم به لعلمه بمصالحهم فيها. وقد روي: أنه لما نزل فرض الحج؛ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين اليهود والنصارى ومشركي العرب، فقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا "
فلم يقبله إلا المسلمون فأنزل الله تعالى: { ومن كفر فإن الله غني عن العلمين }.
وأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أدرك حجة الإسلام فلم يحج، ولم يمنعه حاجة ظاهرة؛ ولا إمام جائر ظالم؛ ولا سجن حابس حتى يموت على ذلك؛ فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا "
ولا يجوز الحكم بكفره بأخبار الآحاد، وتأويل الخبر: أنه لم ير الحج فرضا عليه وقد وجد الاستطاعة. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" معنى ومن كفر؛ أي ومن كفر بالله واليوم الآخر "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من مات ولم يحج لم يقبل الله له يوم القيامة عملا "
[3.98]
قوله عز وجل: { قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون }؛ أي قل يا محمد لليهود والنصارى: لم تكفرون بالحج ومحمد والقرآن والله عالم بما تعملون، وإنما قال في هذا الموضع: { قل يأهل الكتاب } ، وقال من قبل:
يأهل الكتاب
[آل عمران: 65] أنه تعالى خاطبهم أولا على جهة التلطف في استدعائهم إلى الإيمان ثم أعرض عن خطابهم إذلالا وإهانة لهم، وأمر غيره بمخاطبتهم.
[3.99]
قوله عز وجل: { قل يأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهدآء }؛ نزلت يوم بدر في اليهود كانوا يدعون عمارا وأصحابه رضي الله عنهم إلى اليهودية، وكانوا يسعون في إحياء الضغائن التي كانت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وكانت قد ماتت في الإسلام. ومعنى الآية: قل يا محمد: لم تصرفون من آمن عن دين الله وعن الطريق التي هي الموصلة إلى رضا الله من الإسلام والحج وغير ذلك، { تبغونها عوجا } أي تطلبون لها ميلا. قال أبو عبيد: (العوج بالكسر في الدين والقول والعمل، والعوج بالفتح في الجدار والحائط والعصا).
قوله تعالى: { وأنتم شهدآء } أي وأنتم شهداء تقديم البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في كتبكم، وقيل: معناه: وأنتم عقلاء كما في قوله تعالى:
أو ألقى السمع وهو شهيد
[ق: 37]. قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون }؛ تهديد لهم على الكفر أي لا يخفى على الله شيء مما تعملون من الجحد والكتمان.
[3.100]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }؛ قال زيد بن أسلم: (أن شاس بن قيس اليهودي وكان شيخا كبيرا عظيم الكفر؛ شديد الطعن على المسلمين؛ شديد الحسد لهم؛ مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، فقال: والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معهم؛ فقال: اعمد إليهم واجلس إليهم؛ ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله؛ وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار؛ وما كان يعلن - بالعين المهملة - يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج؛ ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي؛ أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، وتقولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها جذعة الآن، وغضب الفريقان جميعا وقالا : موعدكم الحرة، فخرجوا إليها بالسلاح، وانضمت الأوس إلى الأوس، والخزرج إلى الخزرج، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج بمن معه من المهاجرين إليهم فقال:
" يا معشر المسلمين أتدعون إلى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وقطع عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم "
فعلموا أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، وألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وتعانق بعضهم بعضا، ثم رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين. فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: { يأيها الذين آمنوا } يعني الأوس والخزرج، { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } يعني شاسا وأصحابه؛ إن تطيعوهم في إحياء الضغائن التي كانت بينكم بالعصبية وجهالة وحمية الجاهلية يردوكم الى الشرك والكفر بعد تصديقكم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. قال جابر بن عبدالله: (ما كان من طالع أكرم إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما رأيت يوما قط أقبح أولا ولا أحسن آخرا من ذلك اليوم).
[3.101]
قوله عز وجل: { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله }؛ هذا على طريق التعجب والاستبعاد أن يقع منهم الكفر مع معرفتهم بدلالات الله؛ أي كيف تكفرون وأنتم يتلى عليكم القرآن ومعكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لكم الآيات؟! قوله تعالى: { ومن يعتصم بالله }؛ أي يستمسك بدينه وطاعته ويمتنع به من غيره؛ { فقد هدي إلى صراط }؛ أي أرشد إلى طريق؛ { مستقيم }؛ قائم يرضاه الله وهو الإسلام، والعصمة: المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصم، قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم
إذا ما أعظم الحدثان نابا
[3.102]
قال عز وجل: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }؛ معناه: يا أيها الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن أطيعوا الله حق طاعته، واثبتوا على الإسلام حتى لا يدرككم الموت إلا وأنتم مسلمون. قال الكلبي: (حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر). وقال ابن عباس: (هو أن لا يعصى طرفة عين). وقال مجاهد: (معناه: جاهدوا في الله حق جهاده؛ ولا يأخذكم في الله لومة لائم؛ وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم).
فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من يقوى على تقوى الله حق تقاته، وشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى:
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن: 16].
فصار ابتداء هذه الآية منسوخا به، وإلى هذا ذهب قتادة ومقاتل وجماعة من المفسرين. قال قتادة: (وليس في آل عمران من المنسوخ إلا هذه الآية). وقال بعضهم: لا يجوز أن يكلف الله عباده ما لا يطيقون، وليست هذه الآية منسوخة، وإنما معناه: اتقوا الله فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه؛ وهو ما فسره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى.
قوله تعالى: { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي مؤمنون، وقيل: مخلصون مفوضون أمركم إلى الله تعالى. وقال الفضيل: (محسنون الظن بالله). وعن أنس رضي الله عنه قال: (لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه).
[3.103]
قوله عز وجل: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } الآية. قال مقاتل: (كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال؛ حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعد ذلك رجلان: ثعلبة بن غنم الأوسي؛ وسعد بن زرارة الخزرجي، فقال الأوسي: منا خزيمة ذو الشهادتين؛ ومنا حنظلة غسلته الملائكة؛ ومنا عاصم بن ثابت حمى الدين؛ ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز العرش لموته ورضي بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب؛ ومعاذ بن جبل؛ وزيد بن ثابت؛ وأبو زيد سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم. فجرى الحديث بينهم؛ فغضبوا، فقال الخزرج: أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي صلى الله عليه وسلم لقتلنا سادتكم واستعبدنا أبناءكم ونكحنا نساءكم بغير مهر، فقال الأوس: قد كان والله الإسلام متأخرا كثيرا، فهلا فعلتم ذلك حين ضربناكم حتى أدخلناكم البيوت، وتكاثرا وتشاتما ثم تبادءا واقتتلا حتى اجتمع الأوس والخزرج ومعهم السلاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم في أناس من المهاجرين وقد نهض بعضهم إلى بعض. قال جابر: فما كان طالع يومئذ أكرم علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلينا فكففنا فوقف بيننا، فقرأ:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا
[آل عمران: 102-103] إلى قوله تعالى:
وأولئك لهم عذاب عظيم
[آل عمران: 105] فألقى الفريقان السلاح وأطفأوا الحرب، فلم يكن في الأرض شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية، ومشى بعضهم إلى بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعانق بعضهم بعضا يبكون، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ).
قوله تعالى: { بحبل الله } أي تمسكوا بدين الله، وقيل: بالجماعة. وقال مجاهد وعطاء: (بعهد الله). وقال قتادة والسدي والضحاك: (معناه: واعتصموا بالقرآن). وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كتاب الله هو الحبل المتين؛ والذكر الحكيم؛ وهو الصراط المستقيم "
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن هذا القرآن هو حبل الله المتين؛ وهو النور المبين؛ والشفاء النافع؛ وعصمة من تمسك به؛ ونجاة من تبعه "
وقال مقاتل: (معنى الآية: واعتصموا بأمر الله وطاعته). وقال أبو العالية: (بإخلاص التوحيد لله). وقال ابن زيد: (بالإسلام).
قوله تعالى: { ولا تفرقوا } أي تناصروا في دين الله ولا تتفرقوا فيه كما تفرقت اليهود والنصارى.
قال صلى الله عليه وسلم:
" " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، فإن أمتي ستتفرق على اثنين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة " فقيل: يا رسول الله؛ وما هذه الفرقة الواحدة؟ فقبض يده وقال: " الجماعة " ثم قرأ: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى رضي لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا؛ واسمعوا وأطيعوا لمن ولاه الله أمركم. وكره لكم قيل وقال؛ وإضاعة المال؛ وكثرة السؤال ".
قوله تعالى: { واذكروا نعمت الله عليكم } أي احفظوا منة الله عليكم إذ كنتم أعداء في الجاهلية، يقتل بعضكم بعضا، فجمع الله بين قلوبكم بالإسلام المحرم للأنفس والأموال إلا بحقها، فصرتم بنعمة الله إخوانا في الدين.
قال محمد بن اسحاق: (كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بينهم عداوة بسبب سمير وحاطب، وذلك أن سمير بن زيد أحد بني عمرو بن عوف قتل خليطا لمالك بن العجلان الخزرجي يقال له حاطب بن الحرث؛ فوقع الحرب بين القبيلتين؛ فتطاولت بينهم تلك العداوة مائة وعشرون سنة، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب مثل ما كان بينهم. واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألف بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث وظهر بمكة آمن به الأوس والخزرج وهم بالمدينة، فلما هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقعت الألفة بينهم وزالت العداوة من قلوبهم وقد كادوا يتفانون، وقد كان سبب ألفتهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالموسم وهو بمكة يعرض نفسه على قبائل العرب، فبينما هو عند العقبة إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا؛ وهم ستة نفر: أسعد بن زرارة؛ وعوف بن عفراء؛ ورافع بن مالك؛ وقطبة بن عامر؛ وعقبة بن عامر؛ وجابر بن عبدالله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أنتم؟ " فقالوا: نفر من الخزرج، فقال: " أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ " قالوا: بلى؛ فجلسوا؛ فدعاهم إلى الله عز وجل فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان معهم بالمدينة يهود أهل كتاب ذكروا لهم أن نبيا مبعوثا قد دنا زمانه، فلما كلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي ذكره اليهود؛ فلا يسبقنكم إليه أحد، فأجابوه وصدقوه وأسلموا؛ وقالوا: يا رسول الله؛ إن معنا قوما بينهم من العدواة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمع كلمتهم بك؛ فأقدم إليهم وادعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد أسلموا، فلما وصلوا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم؛ فلم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم منهم اثنا عشر رجلا: أسعد بن زرارة؛ وعوف ومعاذ ابنا عفراء، وعقبة بن عامر؛ وقطبة بن عامر؛ ورافع بن مالك؛ وذكوان بن عبد قيس؛ وعبادة بن الصامت؛ ويزيد بن ثعلبة؛ والعباس بن عبادة، فهؤلاء الخزرجيون، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم ابن ساعدة من الأوس. فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة الأولى؛ فبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئا، " قال: " فإن وفيتم فلكم الجنة. وكان ذلك قبل أن يفرض الجهاد، فلما رجعوا إلى المدينة بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ابن هاشم، وأمره أن يقرءهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.
فكان مصعب يسمى في المدينة (المقرئ) وكان نزوله في بيت أسعد بن زرارة، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق بنا إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا فسفها ضعفاءنا وأخرجوهم؛ فإن أسعد ابن خالتي ولولا ذلك لكفيتك، وكان سعد وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشركان.
فأخذ أسيد بن حضير حربته وأقبل إلى أسعد ومصعب وهما جالسان في حائط، فلما رأى أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. فلما وقف عليهما أسيد شتمهما وقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما في السلامة حاجة، قال مصعب: إجلس واسمع؛ فإن رضيت أمرا قبلته؛ وإن كرهته كففنا عنك ما تكرهه، قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس عندهما فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، ثم قال: ما أحسن هذا وأجله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا: اغتسل وطهر ثوبك ثم اشهد شهادة الحق (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم ركع ركعتين.
ثم قال: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف أحد من قومه - يعني سعد بن معاذ - وسأرسله إليكما، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا؛ قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلما وصل إلى عندهم، قال له سعد: ما فعلت؟! قال: كلمت الرجلين؛ فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا: نفعل، وحدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه لما عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك.
فقام سعد مغضبا مبادرا للذي ذكره فأخذ الحربة منه ثم قال: والله ما رأيتك أغنيت شيئا؛ ومضى إليهما؛ فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا ما فعل ذلك إلا ليستمع منهما، فوقف عليهما متبسما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة؛ لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني تغشانا في ديارنا بما نكره، فقال له مصعب: أقعد واسمع؛ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عدلنا عنك ما تكرهه، فركز حربته وجلس؛ فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالوا: تغتسل؛ وتطهر ثوبك؛ وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ وتصلي ركعتين، فقام واغتسل وغسل ثوبه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى ركعتين.
ثم أخذ حربته ومضى إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير الأوسي، فلما وقف عليهم؛ قال: يا بني عبد الأشهل؛ كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فما أمسى في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعون الناس إلى الإسلام، فلم يبق دار من الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا من حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق؛ وهي بيعة العقبة الثانية، قال كعب بن مالك: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبدالله بن عمرو ابن حرام أبو جابر أخبرناه؛ وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا إيماننا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر؛ إنك سيد من ساداتنا وإنا نرغب لك فيما نرغب لأنفسنا، ودعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد معنا العقبة وكان نقيا، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين؛ حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب من نساء بني النجار؛ وأسماء بنت عمرو بن عدي من نساء بني سلمة، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس وهو يومئذ مشرك إلا أنه أحب أن يحضر مع ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول من تكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي الأوس والخزرج باسم الخزرج - إعلموا أن محمدا منا حيث قد علمتم؛ هو في عز من قومه ومنعة في بلده؛ وأراه قد أبى إلا اللحوق بكم والانقطاع إليكم، فلما كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه؛ فإنكم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم؟ فمن الآن فدعوه؛ فإنه في عز ورفعة ومنعة.
قال: فقلنا: سمعنا قولك، فتكلم يا رسول الله؛ وخذ لنفسك وربك ما شئت، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلى القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، وقال:
" " أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون أنفسكم ونساءكم وأبناءكم ". قال: فأخذ البراء بن معرور بيده؛ ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا نمنعك مما نمنع أبناءنا، بايعنا يا رسول الله؛ فنحن أهل الحرب ونحن أهل الحلقة ورثناها صاغرا عن كابر. ثم قال أبو الهيثم بن التبهان: يا رسول الله؛ إن بيننا وبين الناس عهودا ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " بل الدم الدم؛ والهدم الهدم، وأنتم منا وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم ".
ثم قال: " أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلا على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين بعيسى عليه السلام ". فأخرجوا إثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج؛ وثلاثة من الأوس، فلما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عباس بن عبادة الأنصاري: يا معشر الخزرج؛ هل تدرون على ما تبايعون؛ إنما تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا انتهكت أموالكم بالأخذ، وأشرافكم بالقتل أسلمتموه؟! فمن الآن؛ فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعاكم إليه على نهيكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: " لكم الجنة ". قالوا: أبسط يدك؛ فبسط يده، فبايعوه.
فأول من ضرب على يده: البراء بن معرور؛ ثم بايع القوم واحدا واحدا، قال: فلما بايعنا صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته أحياء كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا عدو الله شيطان العقبة " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمضوا إلى رحالكم ". فقال العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق نبيا؛ لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال صلى الله عليه وسلم: " لم أؤمر بذلك، إرجعوا إلى رحالكم ".
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فبتنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، فقالوا لنا: يا معشر الخزرج؛ بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا لتستخرجوا ابن أخينا من بين أظهرنا وبايعتموه على حربنا، وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان هذا شيء وما علمنا، وصدقوا لأنهم لم يعلموا على بيعتنا، فجعل بعضنا ينظر إلى بعض.
ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدوا العقد، فلما قدموا أظهروا الإسلام بها، وبلغ ذلك قريشا، فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إن الله قد جعل لكم إخوانا ومنزلا ودارا تأمنون فيها "
فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار، فأول من هاجر إلى المدينة: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي؛ ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة؛ ثم عبدالله بن جحش؛ ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا إلى المدينة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أذن له.
فقدم المدينة؛ فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم برسوله، ورفع عنهم العداوة القديمة، وألف بينهم). وذلك قوله عز وجل: { ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم } أي بالإسلام { فأصبحتم بنعمته إخوانا } أي فصرتم، ونظيره:
فأصبح من الخاسرين
[المائدة: 30]
فأصبح من النادمين
[المائدة: 31]
إن أصبح مآؤكم غورا
[الملك: 30].
وقوله تعالى: { بنعمته } أي بدين الإسلام، وقوله تعالى: { إخوانا } أي في الدين والولاية، نظيره قوله تعالى:
إنما المؤمنون إخوة
[الحجرات: 10]، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تنابزوا ولا تناجشوا؛ وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله، التقوى ها هنا - وأشار بيده إلى صدره - حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم "
قوله عز وجل: { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها }؛ أي كنتم في الجاهلية على طرف هوة من النار؛ أي كنتم أشرفتم على النار؛ وكدتم تقعون فيها، أو أدرككم الموت على الكفر؛ فأنقذكم الله منها؛ أي خلصكم من النار والحفرة بالنبي صلى الله عليه وسلم والإيمان. قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون }؛ التي مثل هذا البيان الذي تلي عليكم يبين الله لكم الدلالات والحجج في الأوامر والنواهي لكي تهتدوا من الضلالة، وتكونوا على رجاء الهداية.
[3.104]
قوله عز وجل: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف }؛ أي ليكن منكم جماعة يدعون إلى الصلح والإحسان، ويأمرون بالتوحيد واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الطاعات الواجبة؛ { وينهون عن المنكر }؛ والشرك وسائر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، { وأولئك هم المفلحون } ، أي الناجون من السخط والعذاب، وإنما قال: { ولتكن منكم } ولم يقل: وليكن منكم جميعكم؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ويجوز أن يكون المراد بالأمة العلماء في هذه الآية الذين يحسنون ما يدعون إليه.
وذهب بعض المفسرين الى أن المعنى: ولتكونوا كلكم، لكن (من) هنا دخلت للتوكيد وتخصيص المخاطبين من سائر الأجناس كما في قوله تعالى:
فاجتنبوا الرجس من الأوثان
[الحج: 30] أي فاجتنبوا الأوثان فإنها رجس؛ لا أن المراد: فاجتنبوا بعض الأوثان دون بعض، واللام في { ولتكن } لام الأمر.
وقوله: { يدعون إلى الخير } أي إلى الإسلام، ثم النهي عن المنكر على مراتب؛ أولها: الوعظ والتخويف، فإن زال بذلك لم يجز للناهي أن يتعدى عنه إلى غيره ما فوقه، ثم بالإيذاء والنعال، ثم بالسوط، ثم بالسلاح والقتال؛ لأن المقصود زوال المنكر.
فأما إذا كان الناهي عن المنكر خائفا على نفسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه؛ وخليفة رسوله؛ وخليفة كتابه "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أؤمروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله "
وقال علي رضي الله عنه: (أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنأن الفاسقين). وقال أبو الدرداء: (لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر؛ وإلا ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم، ويدعو أخياركم فلا يستجاب لهم؛ يستنصرون فلا ينصرون؛ ويستغفرون فلا يغفر لكم). وقال حذيفة: (يأتي على الناس زمان لأن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر)، وقال الثوري: (إذا كان الرجل محبوبا في جيرانه محمودا عند إخوانه، فاعلم أنه مداهن).
[3.105-106]
قوله عز وجل: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جآءهم البينات }؛ أي ولا تكونوا كاليهود والنصارى الذين اختلفوا فيما بينهم وصاروا فرقا وشيعا، { من بعد ما جآءهم البينات } الكتاب في أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ { وأولئك لهم عذاب عظيم }؛ على تفريقهم واختلافهم. قال بعضهم: لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا، قال: وهم المبتدعة من هذه الأمة.
ثم بين الله تعالى وقت العذاب العظيم الذي يصيبهم؛ فقال تعالى: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه }؛ معناه: { وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وهو يوم القيامة، وانتصب على الظرف أي في يوم. قرأ يحيى بن وثاب: (تبيض) (وتسود) بكسر التاء على لغة تميم. وقرأ الزهري (تبياض) و (تسواد).
ومعنى الآية: تبيض وجوه المخلصين لله بالتوحيد؛ أي تشرق فتصير كالثلج بياضا والشمس ضياء، وتسود وجوه الكفار والمنافقين من الحزن حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وعن ابن عباس قال: (معناه: يوم تبيض وجوه أهل العلم والسنة، وتسود وجوه أهل البدعة). وقال بعضهم: البياض من الوجوه إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وبثواب الله، واسودادها لحزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعقاب ربها.
قوله عز وجل: { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }؛ جوابه محذوف؛ أي يقال لهم: { أكفرتم بعد إيمانكم } قيل: هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، فذلك قوله تعالى: { أكفرتم بعد إيمانكم }. وقيل: هم من كفر بالله يوم الميثاق حين أخرجوا من صلب آدم عليه السلام. وقيل: هم الخوارج وأهل البدع كلها، وقيل: هم أهل الردة.
[3.107]
قوله عز وجل: { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون }؛ وهم المؤمنون الذين ابيضت وجوههم في الآخرة في جنة الله تعالى، صاروا إليها برحمته هم فيها مقيمون دائمون. وفي الآية بيان أن الجنة لا تنال إلا برحمة الله وإن اجتهد المجتهد في طاعته.
[3.108]
قوله عز وجل: { تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق }؛ أي هذه حجج الله ينزل بها جبريل عليه السلام فيقرأها عليك بالصدق؛ { وما الله يريد ظلما للعالمين }؛ أي للجن والإنس.
[3.109]
قوله عز وجل: { ولله ما في السموت وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور }؛ معناه: جميع ما في السماوات والأرض من الخلق عبيد الله ومخلوقه فلا يريد ظلمهم، فإن من بلغ غناه هذا المبلغ لا يحتاج إلى الظلم. قوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور } أي عواقب الأمور في الآخرة.
[3.110]
قوله عز وجل: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }؛ خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعم سائر أمته. قال الحسن: (نحن آخر الأمم وأكرمها على الله). وقيل معنى { كنتم خير أمة } أي كنتم في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم مذ كنتم، وقيل: الكاف زائدة؛ أي أنتم خير أمة. قوله تعالى: { تأمرون بالمعروف } أي بالتوحيد واتباع الشريعة، { وتنهون عن المنكر } أي عن الشرك والظلم.
وقوله تعالى: { وتؤمنون بالله } أي توحدون الله تعالى بالإيمان بالله وتصديق رسله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يوحد الله تعالى، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: { ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم }؛ أي لو صدق اليهود والنصارى مع إيمانهم بالله تعالى إيمانهم بنبيه صلى الله عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإقامة على دينهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أنتم تتمون على سبعين أمة؛ أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
إن الجنة محرمة على الأمم حتى تدخلها أمتي
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أمتي أمة مرحومة؛ إذا كان يوم القيامة أعطي كل رجل من هذه الأمة رجلا من الكفار؛ فيقال له: هذا فداؤك من النار "
وقيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله؛ هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: نعم؛ أمة أحمد صلى الله عليه وسلم علماء حكماء حلماء؛ أبرار أتقياء كأنهم من العفة أنبياء؛ يرضون من الله باليسير من الرزق؛ ويرضى الله تعالى منهم باليسير من العمل؛ يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله عز وجل: { منهم المؤمنون }؛ يعني أهل الكتاب منهم المؤمنون عبدالله بن سلام وأصحابه، وسائر من أسلم من أهل الكتاب. { وأكثرهم الفاسقون }؛ أي الكافرون الخارجون عن أمر الله، وهم الذين لم يسلموا منهم.
[3.111]
قوله عز وجل: { لن يضروكم إلا أذى }؛ أي لن يصلوا إلى ضرركم أيها المسلمون إلا أن يؤذوكم باللسان بقولهم: عزير ابن الله؛ والمسيح ابن الله؛ وثالث ثلاثة؛ والبهت والتحريف. وقال مقاتل: (إن رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف؛ وأبو رافع، وأبو ياسر؛ وابن صوريا وغيرهم عمدوا إلى مؤمنيهم كعبدالله ابن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله عز وجل { لن يضروكم إلا أذى } أي باللسان؛ يعني وعيدا وطعنا بألسنتهم ودعاء إلى الضلالة وكلمة كفر تسمعونها منهم فتتأذون بها).
قوله تعالى: { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون }؛ أي يعطوكم الأدبار منهزمين؛ يعني لا يمنعكم أحد من سبيكم إياهم وقتلكم نفوسهم، وقوله تعالى: { ثم لا ينصرون } جواب الشرط، إلا أنه استئناف لأجل رأس الآي؛ لأنها على النون كقوله تعالى:
ولا يؤذن لهم فيعتذرون
[المرسلات: 36] وتقديره: ثم هم لا ينصرون، وقال في موضع آخر:
لا يقضى عليهم فيموتوا
[فاطر: 36] إذ لم يكن رأس آية. قال الشاعر:
ألم تسأل الربع القديم فينطق
........................
أي فهو ينطق.
[3.112]
قوله عز وجل: { ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس }؛ معناه: جعلت عليهم مذلة القتل والسبي أينما وجدوا أخذوا. قوله تعالى: { إلا بحبل من الله } أي إلا أن يعتصموا بعهد الله وهو الإسلام. وقوله: { وحبل من الناس } أي عهد وأمان وعقد ذمة المسلمين عليهم؛ يؤدون إليهم الخراج ليؤمنوهم. وفي الآية اختصار؛ تقديره: إلا أن يعتصموا بحبل من الله.
قوله تعالى: { وبآءوا بغضب من الله }؛ أي انصرفوا بغضب؛ أي استوجبوه من الله عز وجل. قوله تعالى: { وضربت عليهم المسكنة }؛ أي جعل عليهم زي الفقر والبؤس حتى صاروا من الذلة إلى ما لا يبلغه أهل ملة بعد أن كانوا ذوي عز ويسار ومنعة، فترى الرجل منهم عليه البؤس والمسكنة وأنه لغني، ولم يبق لليهود منعة في موضع من المواضع.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبيآء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }؛ أي ذلك الذل والغضب عليهم من الله بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ورضاهم بقتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم ومجاوزاتهم الحد.
[3.113]
قوله عز وجل: { ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قآئمة يتلون آيات الله آنآء الليل وهم يسجدون }؛ قال ابن عباس ومقاتل: (لما أسلم عبدالله ابن سلام؛ وثعلبة بن سعية؛ وأسيد بن سعية؛ وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود؛ قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، لو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم، ثم قالوا لهم: قد خسرتم حين استبدلتم دينكم بدين غيره. فأنزل الله هذه الآية).
وقيل: لما ذكر الله في الآيات المتقدمة من آمن من أهل الكتاب، ومن لم يؤمن. قال عز وجل: { ليسوا سوآء } أي ليس الفريقان سواء، وهذا وقف تام، ثم استأنف قوله تعالى: { من أهل الكتاب أمة قآئمة } أي عادلة مستقيمة مهتدية. وقال الأخفش: (ذو أمة قائمة؛ أي ذي طريقة قائمة)، قال: (والأمة الطريقة).
ومعنى قوله: { يتلون آيات الله آنآء الليل } يعني يقرأون القرآن في ساعات الليل، { وهم يسجدون } أي وهم يصلون؛ لأن القرآن لا يكون في السجود، نظيره قوله تعالى:
وله يسجدون
[الأعراف: 206] أي يصلون، وقوله تعالى:
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن
[الفرقان: 60] أي صلوا. وإنما ذكرت الصلوات باسم السجود، لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أراد به صلاة العتمة). وقيل: أراد به ما بين المغرب والعشاء. واختلف النحاة في واحد الأنا؛ قال بعضهم: أناء مثل معاء وأمعاء. وقال بعضهم: إني مثل نحى وأنحى.
وقال بعض المفسرين: في الآية اختصار وحذف؛ تقديره: من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، وترك الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين؛ قالوا: وهذا فعل مجموع مقدم كقولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. وقال آخرون: تمام الكلام عند قوله { ليسوا سواء } يعني المؤمنين والفاسقين؛ لأن ذكر الفريقين قد جرى في قوله:
منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون
[آل عمران: 110]. ثم وصف الفاسقين فقال:
لن يضروكم إلا أذى
[آل عمران: 111]، ووصف المؤمنين فقال { أمة قآئمة } الآية.
[3.114]
قوله عز وجل: { يؤمنون بالله واليوم الآخر }؛ قال ابن عباس: (لما أسلم عبدالله بن سلام ومن معه؛ قالت اليهود: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فأنزل الله هذه الآية، إلا أنها وإن نزلت فيهم فمن حق كل مسلم أن يكون على هذه الصفة). ومعنى الآية: يصدقون بالله وبالبعث بعد الموت. { ويأمرون بالمعروف }؛ أي باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، { وينهون عن المنكر }؛ أي عن اتباع الجبت والطاغوت ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ويسارعون في الخيرات }؛ أي يبادرون إلى الطاعات والأعمال الصالحة، { وأولئك من الصالحين }؛ أي من المؤمنين المخلصين وهم أبو بكر وعمر وسائر الصحابة.
[3.115]
قوله عز وجل: { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه }؛ أي فلن تجحدوه، يعني تجزون به وتثابون عليه . قرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وحفص وخلف: { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } بالياء فيهما إخبارا عن الأمة القائمة. وقيل: راجع إلى قوله { الصالحين }. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله
كنتم خير أمة
[آل عمران: 110]. قوله تعالى: { والله عليم بالمتقين }؛ أي عالم بأعمالهم وثواب أعمالهم.
[3.116]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا }؛ معناه: إن الذين جحدوا بمحمد والقرآن لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }؛ أي مقيمون دائمون.
[3.117]
قوله عز وجل: { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته }؛ معناه: مثل ما ينفق اليهود في اليهودية على رؤسائهم وعلمائهم، وما ينفق أهل الأوثان على أصنامهم في تظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم وإهلاكهم مال أنفسهم { كمثل ريح فيها } برد شديد. ويقال: الصر: صوت لهب النار التي تحرق الزرع، وقيل: الصر: ريح فيها صوت ونار.
قوله تعالى: { أصابت حرث قوم } أي زرع قوم ظلموا { أنفسهم } بالكفر والمعصية. ومنع حق الله عليهم { فأهلكته } أي أحرقته الريح فلم ينتفعوا منه بشيء في الدنيا، كذلك من ينفق في غير طاعة الله لا ينتفع بنفقته في الآخرة، كما لا ينتفع صاحب هذا الزرع من زرعه في الدنيا. قوله تعالى: { وما ظلمهم الله }؛ بإهلاك زرعهم؛ { ولكن أنفسهم يظلمون }؛ بمنع حق الله فيه وكفرهم ومعصيتهم.
[3.118]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا }؛ نزلت الآية في الأنصار؛ كانوا قد ظاهروا اليهود حتى صار كأن بينهم نسبا، وكانوا يواصلونهم ويعاطفونهم حتى كان الرجل من الأنصار يتزوج فيهم فيختارهم على قومه، فلما جاء الله بمحمد صلى الله عليه وسلم والإسلام وآمن الأنصار بغضهم اليهود، وكان الأنصار يخالطونهم ويشاورونهم، كما كانوا يفعلون قبل الإسلام للرضاعة والمصاهرة التي كانت بينهم، فنهى الله الأنصار بهذه الآية وما بعدها.
ومعناها: لا تتخذوا دخلا من غيركم يعني اليهود. وبطانة الرجل : خاصته وأهل سره الذين يستبطنون أمره، سموا بذلك على جهة التشبه ببطانة الثوب التي تلي جلد الإنسان. وحرف { من } في قوله: { من دونكم } للتبيين؛ أي لا تتخذوا الذين هم أسافل وأراذل بطانة. قوله تعالى: { لا يألونكم خبالا } أي لا يبقون غاية، ولا يتركون الجهد في إلقائكم في الفساد، يقال: ما ألوت في الحاجة جهدا؛ أي ما قصرت، ونصب { خبالا } على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، وإن شئت بنزع الخافض؛ أي بالخبال. والخبال: الفساد، ومثله الخبل أيضا؛ يقال: رجل خبل الرأي؛ فاسد الرأي؛ والانخبال: أي الجنون. وقال مجاهد: (نزلت في قوم مؤمنين كانوا يصافحون المنافقين ويخالطوهم؛ فنهاهم الله عز وجل عن ذلك).
قوله عز وجل: { ودوا ما عنتم }؛ أي تمنوا إثمكم وضركم وهلاككم، والعنت في اللغة: المشقة، يقال: أكمة عنوت؛ أي طويلة شاقة المسلك. وقرأ عبدالله: (قد بدأ البغضاء من أفواههم) بالتذكير؛ لتقدم الفعل؛ ولأن معنى البغضاء: البغض. قوله تعالى: { قد بدت البغضآء من أفواههم }؛ أي قد ظهرت العداوة من ألسنتهم بالشتم والطعن، { وما تخفي صدورهم أكبر }؛ أي وما يضمرون في قلوبهم من القتل لو ظفروا بكم أعظم مما أظهروا لكم. قوله تعالى: { قد بينا لكم الآيات }؛ أي أخبرناكم بما أخفوا وأبدوا بالدلالات والعلامات، { إن كنتم تعقلون }؛ العدو من الولي.
[3.119]
قوله تعالى: { هآأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم }؛ أي أنتم يا هؤلاء المؤمنين تحبون اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والرضاع والقرابة والجوار، { ولا يحبونكم } لما بينكم وبينهم من مخالفة الدين، هذا قول أكثر المفسرين. وقال بعضهم: معناه: تحبونهم؛ أي تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء، ولا يحبونكم لأنهم يدعونكم إلى الكفر وهو الهلاك. قوله تعالى: { وتؤمنون بالكتاب كله }؛ أي تؤمنون بالتوراة والانجيل وسائر كتب الله، ولا يؤمنون هم بذلك كله، يعني لا يؤمنون بكتابكم.
قوله تعالى: { وإذا لقوكم قالوا آمنا }؛ يعني منافقي أهل الكتاب، إذا لقوهم قالوا آمنا بمحمد أنه رسول صادق فيما يقول، { وإذا خلوا }؛ فيما بينهم؛ { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ }؛ أي أطراف الأصابع من الحنق عليكم لما يرون من ائتلافكم وإصلاح ذات بينكم، وهذا مثل ضربه الله لشدة عداوة اليهود للمؤمنين. وواحد الأنامل: أنملة بفتح الميم وضمها. قوله تعالى { قل موتوا بغيظكم }؛ ليس على طريق الإيجاب؛ لأنه لو كان على طريق الإيجاب لماتوا كلهم من ساعتهم، لكن معناه: تموتون بغيظكم ولا تبلغون أمانيكم من قهر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قوله تعالى: { إن الله عليم بذات الصدور }؛ أي عالم بما في القلوب من البغض والعداوة وغير ذلك. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تستضيئوا بنار المشركين "
أي لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم.
[3.120]
قوله تعالى: { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها }؛ قرأ السلمي: بالياء، ومعنى الآية: إن تصبكم أيها المؤمنون حسنة بظهوركم على عدوكم وغلبتكم لهم أو الغنيمة والخصب تسؤهم تلك الحسنة؛ أي تحزنهم؛ يعني اليهود، وإن تصبكم محنة من جهة أعدائكم ونكبة أو جدب يعجبوا بها.
قوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا }؛ أي وإن تصبروا على أذى اليهود والمنافقين وتتقوا معصية الله وتخافوا ربكم، { لا يضركم كيدهم شيئا }؛ أي لا يضركم احتيالهم لإيقاعكم في الهلاك، { إن الله بما يعملون محيط }؛ أي أحاط علمه وقدرته بأعمالكم وبأعمالهم.
قرأ أبو عمرو وابن كثير: (لا يضركم) بكسر الضاد والتخفيف، وهو جزم على جواب الجزاء. وقرأ الضحاك: (لا يضركم) بالضم وجزم الراء؛ من ضار يضار يضور. وذكر القراء عن الكسائي: أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ولا يضورني. وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء: من ضر يضر ضرا. وفي رفع { يضركم } وجهان؛ أحدهما: أنه أراد الجزم؛ وأصله (يضرركم) فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد، وضمت الراء الأخيرة اتباعا لأقرب الحركات إليها وهي الضاد طلبا للمشاكلة، والوجه الثاني: أن (لا) بمعنى (ليس)، ويضمر الفاء فيه؛ تقديره: وإن تصبروا فليس يضركم، والضير والضر والضرر بمعنى واحد؛ قال الله تعالى:
قالوا لا ضير
[الشعراء: 50] وقال:
وإذا مسكم الضر
[الاسراء: 67]. وقوله تعالى (إن الله بما تعملون محيط) أي عالم. قرأ الحسن والأعمش بالتاء. وقرأ الباقون بالياء.
[3.121]
قوله عز وجل: { وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم }؛ قال مجاهد والكلبي:
" غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة يمشي على رجليه إلى أحد، وصف أصحابه للقتال كما يصفهم للصلاة، وذلك أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه؛ فقال أكثرهم: يا رسول الله؛ أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فإن أقاموا هناك أقاموا في شر مجلس، وإن دخلوا إلينا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ورجعوا كما جاءوا، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي. وقال: بعض الصحابة: يا رسول الله؛ أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنه جبنا عنهم وضعفا. وأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله؛ لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق نبيا لأدخلن الجنة، فقال له: " بم؟ " قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأني لا أفر من الزحف، فقال: " صدقت " فقتل يومئذ شهيدا.
فقال صلى الله عليه وسلم: " إني قد رأيت في منامي أن في ذبابة سيفي ثلما فأولتها هزيمة، ورأيت أني أدخل يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فكرهت الخروج إليهم، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم، فإن أقاموا أقاموا على شر مقام، وإن دخلوا المدينة قاتلناهم فيها " وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا المدينة فيقاتلوا في الأزقة، فقال رجال من المسلمين ممن فاتهم يوم بدر وأراد الله لهم الشهادة يوم أحد: أخرج بنا إلى أعدائنا يا رسول الله، فكره الخروج إليهم وأمر بتبوئة المقاعد للقتال إلى أن يوافيهم المشركون - والمقاعد هي المواطن والأماكن - فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يحثونه على لقائهم حتى دخل بيته، فلبس لامته وعزم على الخروج، فندم المسلمون وقالوا: بئسما صنعنا؛ نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت يا رسول الله، فقال: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل "
وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت من النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أحد ما كان؛ فذلك قوله عز وجل: { وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } أي واذكر إذ غدوت من أهلك؛ من عند أهلك من المدينة تهيئ للمؤمنين مواضع للحرب لقتال المشركين يوم أحد. وقال الحسن: (نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب؛ الأكلب: موضع منها قريب من المدينة).
[3.122]
قوله عز وجل: { إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما }؛ أي أن تجبنا وتضعفا ويتخلفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: بنو سلمة من الخزرج؛ وبنو حارثة من الأوس، وكانوا جناحي العسكر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد في ألف رجل، وقيل: في تسعمائة وخمسين رجلا، وقد وعد أصحابه بالنصر والفتح إن صبروا، فلما بلغوا إلى بعض الطريق اعتزل عبدالله بن أبي سلول بثلث الناس ورجع بهم، فرجع في ثلاثمائة؛ وقال: علام نقتل أولادنا وأنفسنا، فتبعهم أبو جابر وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم، فقال عبدالله: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالإنصراف معه، فعصمهم الله تعالى ولم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت الله قلوبهما فلم يرجعا، فذكرهم الله تعالى عظيم نعمته فقال: { إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } أي حافظهما وناصرهما.
وقرأ ابن مسعود: (وليهم)؛ لأن الطائفة جمع كقوله تعالى:
هذان خصمان اختصموا في ربهم
[الحج: 19]، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }؛ في أمورهم. قال جابر بن عبدالله: (والله ما سرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به؛ ولقد أخبرنا الله تعالى أنه ولينا).
[3.123]
قوله عز وجل: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة }. بدر: اسم موضع بين مكة والمدينة وهو من بلاد غفار، كان وقعة بدر أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجملة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون غزوة، وكان غزوة بدر الخامسة منهن؛ قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد عشر غزوة منهن بدر الكبرى؛ وأحد؛ والخندق، وغزوة بني قريظة؛ وغزوة بني المصطلق؛ وغزوة بني لحيان؛ وخيبر والفتح؛ وحنين؛ والطائف؛ وتبوك.
فأما بدر الكبرى فكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة على رأس تسعة عشر شهرا من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وغزوة أحد في شوال سنة ثلاث، والخندق وبني قريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين والطائف في شوال سنة ثمان. فأول غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر الكبرى، وآخرها تبوك، وكانت سراياه ستا وثلاثين سرية.
ومعنى الآية: { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } وأنتم قليل في العدد، وذلك أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كان المهاجرون منهم سبعة وسبعين، ومن الأنصار مائتين وستة وثلاثين، وكان علي رضي الله عنه صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعد بن معاذ صاحب راية الأنصار، وكان عدد الكفار تسعمائة ونيفا. قوله عز وجل: { فاتقوا الله لعلكم تشكرون }؛ أي أطيعوه فيما يأمركم لتقوموا بشكر النعم التي أنعمها الله عليكم.
[3.124]
قوله تعالى: { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ءالف من الملائكة منزلين }؛ وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يوم أحد بعد انصراف عبدالله بن أبي سلول بثلث الناس: سبعمائة؛ وكان المشركون ثلاثة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من السماء "
قرأ الحسن ومجاهد وابن عامر (منزلين) بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف.
[3.125]
قوله تعالى: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ءالف من الملائكة مسومين }؛ معنى قوله: { بلى } تصديق لوعد الله تعالى، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، { تصبروا } لعدوكم مع نبيكم { وتتقوا } مخالفته { ويأتوكم } أهل مكة من وجههم هذا؛ { يمددكم ربكم بخمسة ءالف من الملائكة مسومين } أي معلمين بالصوف الأبيض، وقيل: بالأحمر في نواصي الخيل وأذنابها؛ أي بين لهم من السماء معلمين بهذه العلامة. ويجوز أن يكون معنى (مسومين) مرسلين من الإسامة وهي الإرسال. ومن قرأ (مسومين) بكسر الواو فلأنهم سوموا خيولهم.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم أحد:
" تسوموا؛ فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم "
وقال قتادة: (كان على الملائكة يوم بدر سيماء القتال، وكانوا على خيل بلق). وقال ابن عباس: (كانت يوم بدر سيماء الملائكة عمائم بيض مرخية على أكتافهم)، قال: (ولم يصبر المؤمنون يوم أحد للقتال إلا قليل منهم، ولو صبروا لنزلت عليهم الملائكة وأتاهم ما وعدهم الله، ولكنهم لم يصبروا، فلم تنزل عليهم الملائكة). قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: (مسومين) بكسر الواو، وقرأ الباقون بالفتح.
[3.126]
قوله تعالى: { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به }؛ أي ما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم؛ ولتطمئن قلوبكم به، فلا تجزع من كثرة عددهم وقلة عددكم حتى تثبتوا لأعدائكم. قوله تعالى: { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم }؛ أي وإن أمدكم بالملائكة وقوى قلوبكم، فليس النصر لكثرة العدد وقلته، ولكنه { من عند الله العزيز الحكيم } أي المنيع في سلطانه، الحكيم في أمره.
وفي الآية بيان أن الإنسان لا يستغني في حال من الأحوال عن الله وإن كثر عدده واجتمع ماله. قال ابن عباس: (إن الملائكة لم يباشروا القتال إلا يوم بدر، فأما ما سوى ذلك فإنها تحضر الصف وتكثره ولا تقاتل). وقال بعض المفسرين: إن الملائكة لم تقاتل أصلا ولم يبعثوا إلا بالبشارة، فلو بعثوا للقتال لكان ملك واحد يكفيهم، كما فعل جبريل عليه السلام يوم لوط. وقال بعضهم: إن الملائكة كانت تقاتل وكان علامة ضربهم اشتعال النار في موضع ضربهم، والله أعلم.
[3.127]
قوله تعالى: { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم }؛ معناه: ينصركم ليقتل ويستأسر جماعة من الذين كفروا بنقضهم ذلك أو بهزمهم، { فينقلبوا خآئبين }؛ أي فيرجعوا منقلبين منقطعين عن آمالهم. والكبت: هو الوهن في القلب، ويصرع المرء على وجهه لأجله. ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر { ليقطع طرفا من الذين كفروا } أي لكي يهلك طائفة من الذين كفروا. وقال السدي: معناه: (ليهدم ركنا من أركان المشركين بالقتل والأسر، فقتل من ساداتهم يوم بدر سبعون وأسر منهم سبعون).
وقوله تعالى: { فينقلبوا خآئبين } أي لم ينالوا شيئا مما كانوا يرجون من الظفر بكم. وقوله تعالى { أو يكبتهم } قال الكلبي: (أو يهزمهم)، وقال النضر بن شميل: (يغيظهم). وقال السدي: (يلعنهم). وقال أبو عبيدة: (يهلكهم). وقرئ في الشاذ: (أو يكبدهم)، يقال: كبده؛ إذا رماه فأصاب كبده، والمكبود: المتلهف.
[3.128]
قوله عز وجل: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }؛ وذلك أنه لما شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، وقتل سبعون من أصحابه، جعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول:
" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم "
وهم أن يلعنهم ويلعن الذين انصرفوا مع عبدالله بن أبي سلول، فأنزل الله هذه الآية ينهاه عن اللعن، وبين أن فلاحهم ليس إليه وأنه ليس له من الأمر شيء إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين.
قال عكرمة وقتادة:
" أدمى رجل من هذيل يقال له عبدالله بن قمئة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله. وشج عتبة بن أبي وقاص وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فقال: " اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا " قال: فما حال عليه الحول حتى مات كافرا "
، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الكلبي: (لما شج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصيبت رباعيته؛ هم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله هذه الآية لعلمه أن كثيرا منهم سيتوبون). يدل عليه ما روى أنس أنه قال: لما كان يوم أحد شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن حاجبه، وكسرت رباعيته، وجرح في وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم "
فأنزل الله هذه الآية.
وقال سعيد بن المسيب: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه وعلت عالية من قريش على الجبل، فقال عليه السلام: " لا ينبغي لهم أن يعلونا " فأقبل عمر رضي الله عنه ورهط من الأنصار حتى أهبطوهم من الجبل، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وقد ظاهر بين درعين فلم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتى استوى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أوجب طلحة " ".
ووقفت هند والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجذعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة رضي الله عنه فلاكتها؛ فلم تستطع فلفظتها ثم علت صخرة مشرفة؛ فصرخت ثم قالت:
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمه وبكري
شفيت صدري وقضيت نذري
شفيت وحشي غليل صدري
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما نزل بأصحابهم من جذع الآذان والأنوف، وقطع المذاكير؛ قالوا: لئن أنالنا الله فيهم لنفعلن مثل ما فعلوا؛ ولنمثلن مثلة بهم لم يمثلها أحد قط، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال عطاء:
" أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد يدعو على بطن من هذيل يقال لهم بني لحيان، وعلى بطن من سليم يقال لهم رعل وذكوان، وكان يقول: " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف " فقحطوا حتى أكلوا أولادهم، وأكلوا الميتة والعظام المحرقة، "
ثم أنزل الله هذه الآية.
وعن أبي سالم قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية "
فأنزل الله تعالى { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } فأسلموا وحسن إسلامهم).
ومعنى قوله { ليس لك من الأمر شيء } أي ليس إليك من الأمر بهواك شيء، وقد تكون اللام بمعنى (إلى)، كقوله تعالى:
مناديا ينادي للإيمان
[آل عمران: 193] أي إلى الإيمان، وقوله:
الذي هدانا لهذا
[الأعراف: 43] ونحوه. وقال بعضهم: قوله: { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض بين الكلام؛ وتقدير الآية: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون؛ ليس لك من الأمر شيء، وهذا وجه حسن. وقال بعضهم: (أو بمعنى (حتى). وقال بعضهم: نصب بإضمار (أن) تقديره: أو أن يتوب عليهم.
[3.129]
قوله عز وجل: { ولله ما في السموت وما في الأرض }؛ أي له جميع ما فيهم من الخلائق؛ كلهم عباد الله وفي ملكه، { يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء }؛ على الذنب الصغير إذا أصر على ذلك، { والله غفور رحيم }؛ في قبول توبتهم، وتأخير العذاب عنهم، وإنما ختم الله هذه الصفة بالمغفرة والرحمة؛ لأنه وإن كان على التعذيب قادرا، لكن الغالب على أمره ما يريد بخلقه الرحمة والمغفرة.
[3.130]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعفا مضعفة } قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في أهل الطائف، كانت بنو المغيرة يربون لهم، فإذا حل الأجل وعجزوا عن ذلك، زادوا في المال، وازدادوا في الأجل؛ فنهاهم الله عن ذلك). ومعنى { مضعفة }: هو أن الرجل إذا كان له على آخر مال، فإذا حل الأجل طالبه به فيعجز عنه، فيقول المطلوب: أخر عني وأزيدك في مالك، فيفعلان ذلك؛ فنهاهم الله عنه. ومعنى { أضعفا }: لا تأكلوا أضعاف ما أوتيتموه؛ أي لا تأخذوا إلا المثل. ومعنى { مضعفة }: لا تضعفوا المال بالزيادة في الأجل.
وقوله: { واتقوا الله لعلكم تفلحون }؛ أي اتقوا الله في الربا، ولا تستحلوه لكي تنجوا من العذاب في الآخرة، ثم صارت هذه الآية عامة في جميع الناس، وإنما أعاد الله تحريم الربا بعد ما ذكره في سورة البقرة لتأكيد التحريم بتصريح النهي عنه، ويجوز أن يكون المراد في سورة البقرة: ربا النسيئة؛ وهنا ربا الفضل.
[3.131]
قوله تعالى: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين }؛ أي اخشوا النار في أكل الربا التي خلقت للكافرين بالله، وبتحريم الربا. فإن قيل: إذا كانت النار معدة للكافرين؛ فكيف يعذب بها غير الكافرين؟ قيل: فائدة تخصيص الكافرين بالذكر؛ لأنهم هم العمدة في إعداد النار لهم وقد يدخلها غير الكافرين على طريق التبع، كما قال في الجنة
أعدت للمتقين
[آل عمران: 133] وإن كان الأطفال والمجانين يدخلونها تبعا للمتقين. وقيل: معناه: واتقوا النار في استحلال الربا، فإن من استحله فهو كافر.
[3.132-133]
قوله تعالى: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون }؛ أي أطيعوا الله ورسوله في تحريم الربا لكي ترحموا فلا تعذبوا. قوله عز وجل: { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم }؛ معناه بادروا إلى ما يوجب لكم مغفرة من ربكم وهو التوبة. وقال ابن عباس: (الإسلام). وقال أبو العالية: (معناه: سارعوا إلى الهجرة). وقال علي رضي الله عنه: (إلى أداء الفرائض). وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (إلى الإخلاص) وقال أنس: (إلى التكبيرة الأولى). وقال سعيد بن جبير: (إلى أداء الطاعة). وقال الضحاك: (إلى الجهاد). وقال عكرمة: (إلى التوبة). وقال الوراق: (إلى ائتمار الأوامر والإنتهاء عن الزواجر). وقال سهل بن عبدالله: (إلى السنة). وقال بعضهم: إلى الصلوات الخمس. وقال بعضهم: إلى الجمعة والجماعات. قرأ نافع وابن عامر: (سارعوا) بحذف الواو على سبيل الابتداء لا على سبيل العطف.
قوله عز وجل: { وجنة عرضها السموت والأرض }؛ قال ابن عباس: (الجنان أربع: جنة عدن وهي العليا، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم، ثم في كل جنة منها جنات عدد نجوم السماء، قطر المطر كل جنة منها في العرض والسعة لو ألصقت السماوات السبع والأرضون السبع بعضهن ببعض لكانت الجنة الواحدة أعرض منها).
وإنما خص العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الغالب أكثر من عرضه، يقول: هذه صفة عرضها فكيف طولها! يدل عليه قول الزهري: (إنما وصف عرضها، فأما طولها فلا يعلمه إلا الله). وهذا مثل قوله تعالى:
على فرش بطآئنها من إستبرق
[الرحمن: 54] فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأنفس من البطائن.
وقال بعض المفسرين: ليس المراد بهذه الآية التقدير، لكن المراد بها أوسع شيء رأيتموه. قال إسماعيل السدي: (لو كسرت السماوات والأرض وصرن خردلا كان بكل خردلة لله تعالى عرضها السماوات والأرض).
قوله تعالى: { أعدت للمتقين }؛ أي خلقت للمتقين الشرك والمعاصي، فإن قيل: إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ قيل: إن الله خلق الجنة عالية، والنار سافلة، والشيئان إذا كان أحدهما عاليا والآخر سافلا لا يمتنعان؛ لأنهما يوجدان في مكانين متغايرين. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا السؤال فقال:
" سبحان الله! إذا جاء النهار فأين الليل "
[3.134]
قوله تعالى: { الذين ينفقون في السرآء والضرآء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس }؛ أول هذه الآية نعت للمتقين، ومعناها: الذين يتصدقون في حال اليسر والعسر والضراء والشدة والرخاء، يعني أنهم ينفقون على الدوام لا يمنعهم قلة المال ولا كثرته عن الإنفاق، فأول ما ذكر الله من أخلاق المتقين الموجبة لهم الجنة: السخاء؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" الجنة دار الأسخياء، والسخي قريب من الله؛ قريب من الجنة؛ بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله؛ بعيد من الجنة؛ قريب من النار. والجاهل السخي أحب إلى الله من العالم البخيل "
قوله تعالى: { والكاظمين الغيظ } أي الكافين غيظهم عن إمضائه، يردون غيظهم في أجوافهم ويصبرون، والكظم: الحبس والشد، يقال: كظمت القربة؛ إذا ملأتها ثم شددت رأسها على الإمتلاء. والغيظ: هو انتفاض الطبع ما يكرهه، ولهذا لا يجوز الغيظ على الله وإن كان يجوز عليه الغضب؛ لأن الغضب هو إرادة العقاب.
قوله تعالى: { والعافين عن الناس } معناه: الذين يعفون عن المذنبين من الأحرار والمملوكين. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه فلم ينفذه؛ زوجه الله من الحور العين حيث شاء، وما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا، ولا نقصت صدقة مالا قط؛ فتصدقوا، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة "
قوله تعالى: { والله يحب المحسنين }؛ أي يثني على المحسنين إلى الناس، ويرضى عملهم. قال عيسى عليه السلام: ليس الأحسن أن تحسن إلى من أحسن إليك، ذاك مكافأة! إنما الأحسن أن تحسن إلى من أساء إليك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه:
" أن أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل؛ فكان يشتم أبا بكر وهو ساكت والنبي صلى الله عليه وسلم يتبسم، ثم رد أبو بكر على الرجل بعض الذي قال، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله؛ شتمني وأنت تبتسم، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " إنك حين كنت ساكتا كان معك ملك يرد عليه، فلما تكلمت وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد في مقعد فيه الشيطان "
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رأيت قصورا مشرفة على الجنة، فقلت: يا جبريل لمن هذه!؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين "
[3.135]
قوله عز وجل: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم }؛ متصل بقوله
والعافين عن الناس
[آل عمران: 134]. قال ابن مسعود رضي الله عنه:
" قال المسلمون: يا رسول الله؛ كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا، كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على بابه: إجدع أنفك؛ إجدع أذنك؛ إفعل كذا إفعل كذا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بخير من ذلك " وقرأ عليهم هذه الآيات "
وقال عطاء: (نزلت في أبي مقبل التمار؛ أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا، فقال: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه؟ فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته وضمها وقبلها، فقالت له: اتق الله سبحانه، فتركها وندم على ذلك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك؛ فنزلت هذه الآية).
وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي: (آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين؛ أحدهما من الأنصار؛ والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف الأنصاري على أهله، فاشترى لهم لحما ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذ منه؛ دخل على إثرها؛ فدخلت بيتا فتبعها، فاتقته بيديها، فقبل ظاهر كفها، ثم ندم واستحيا؛ فانصرف، فقالت له: والله ما حفظت غيبة أخيك؛ ولا والله تنال حاجتك. فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه، وهام على وجهه يسيح في الجبال ويتعبد، فلما رجع المسلمون من غزاهم لم ير الثقفي أخاه، فسأل امرأته فقالت: لا كثر الله في الإخوان مثله، وأخبرته فعله، فخرج الثقفي في طلبه، فسأل عنه الرعاء في الجبال والفيافي حتى دل عليه، فوافاه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي، فقال: يا فلان؛ قم فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن يجعل لك مخرجا. فأقبل معه حتى قدم المدينة، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا توبة لك، أما تعلم أن الله يغار للغازي في سبيله ما لا يغار للمقيم، فقام على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله؛ الذنب الذنب، فقال له مثل ما قال الصحابة، فخرج يسيح في الجبال؛ لا يمر على حجر ولا مدر ولا سهلة حارة إلا تجرد وتمرغ فيها، حتى كان ذات يوم عند العصر نزل جبريل بتوبته بهذه الآية).
ومعناها: { والذين إذا فعلوا } كبيرة { أو ظلموا أنفسهم } بفعل الصغيرة مثل النظرة واللمس والغمز والتقبيل، ذكروا مقامهم بين يدي الله وعقابه.
وقيل: معناه: ذكروا اسم الله، فقالوا ربنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا. وقال السدي: (قوله: { فعلوا فاحشة } يعني الزنا) وقوله { أو ظلموا أنفسهم } قال الكلبي: (يعني لما دون الزنا مثل القبلة واللمس والنظرة فيما لا يحل). وقيل: { فعلوا فاحشة } أي فعلوا الكبائر؛ وقوله { أو ظلموا أنفسهم } يعني الصغائر. وقيل: { فعلوا فاحشة } فعلا { أو ظلموا أنفسهم } قولا.
قوله تعالى: { ومن يغفر الذنوب إلا الله }؛ أي ليس أحد يقدر على غفران الذنب إلا الله. قوله عز وجل: { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون }؛ معناه: ولم يقيموا على ما فعلوا من المعصية، فإن الاستغفار باللسان بغير ندامة القلب توبة الكذابين. قوله تعالى: { وهم يعلمون } أي يعلمون أنها معصية، فإنهم اذا لم يعلموا أنها خطيئة كان إثما موضوعا عنهم؛ مثل أن يتزوج أمه من الرضاعة أو أخته من الرضاعة وهو لا يعلم، أو يشتري جارية فيطأها، ثم تستحق الجارية كان إثم ذلك موضوعا عنه. وقيل: معناه: وهم يعلمون أن لهم ربا يغفر الذنوب.
قال قتادة: (إياكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدما لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرمه الله؛ ولا يتوبون من ذنب أصابوه حتى أتاهم الموت وهم على ذلك). وقال السدي: (الإصرار السكوت وترك الاستغفار). قال صلى الله عليه وسلم:
" لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار "
وأصل الإصرار الثبات على الشيء. وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أذنب ذنبا وعلم أن له ربا يغفر الذنوب؛ غفر له الله وإن لم يستغفر "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة، يقول الله تعالى: من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي "
[3.136]
قوله عز وجل: { أولئك جزآؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين }؛ أي أهل هذه الصفة ثوابهم ستر من ربهم لذنوبهم؛ وحط العقاب عنهم، وبساتين تجري من تحت شجرها وغرفها الأنهار مقيمين دائمين فيها، ونعم أجر التائبين في التوبة، فوضع عنهم ما كان مكتوبا على بني إسرائيل؛ فإنه كان إذا أذنب أحدهم يرى توبته مكتوبة على بابه: إجذع أنفك؛ إجذع أدنك، فوضع ذلك عن هذه الأمة واكتفى منهم بالندم والاستغفار.
قوله تعالى: { ونعم أجر العاملين } أي ثواب المطيعين. قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: (يا موسى؛ ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، يا موسى؛ كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي). وقال شهر بن حوشب: (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب).
[3.137]
قوله عز وجل: { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين }؛ معناه: { قد خلت } مضت { من قبلكم سنن } وهي الطرائق في الخير والشر. وقيل: معناه: { قد خلت من قبلكم سنن } بإهلاك المكذبين لرسلنا، فسافروا في الأرض، فانظروا كيف صار آخر المكذبين بالرسل والكتب؛ أي اتعظوا بالآثار التي بقيت منهم في الأرض مثل ديار قوم لوط وعاد وغيرهم.
[3.138]
قوله عز وجل: { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين }؛ أي هذا القرآن بيان للناس من الضلالة وهدى من العمى ونهي للمتقين من الفواحش. والبيان: كل ما يظهر به المعنى، والهدى: بيان طريق الرشد دون طريق الغي، والموعظة: ما يدعو إلى فعل الحسنة من ترغيب أو ترهيب.
[3.139]
قوله عز وجل: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون }؛ هذا عائد إلى ما تقدم ذكره من حديث حرب أحد، معناه: لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن قتال عدوكم لما نالكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة، وكان قتل يؤمئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب؛ ومصعب بن عمير؛ وعبدالله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعثمان بن شماس؛ وسعد مولى عتبة، والأنصار سبعون رجلا.
وقوله تعالى: { وأنتم الأعلون } أي في الحجة، وقيل: وأنتم الغالبون في العاقبة؛ أي تكون لكم العاقبة بالنصر. قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ أي مصدقين بوعد الله بالنصر.
[3.140]
قوله عز وجل : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله }؛ أي إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مس القوم قرح مثله يوم بدر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعون رجلا وأسروا سبعين، وقتل يوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سبعون وجرح سبعون.
وقرأ محمد بن السميقع (قرح) بفتح القاف والراء على المصدر. وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: بضم القاف فيهما؛ وهي قراءة ابن مسعود. وقرأ الباقون بفتح القاف وهي قراءة عائشة رضي الله عنها، وهما لغتان مثل الجهد والجهد، وقال بعضهم: (القرح) بفتح القاف: الجراحات واحدتها قرحة، و(القرح) بالضم وجع، يقال قرح الرجل إذا وجع.
قوله عز وجل: { وتلك الأيام نداولها بين الناس }؛ أي تارة لهم وتارة عليهم، وأدال المسلمون على المشركين يوم بدر، حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأدال المشركون يوم أحد، حتى جرحوا سبعين وقتلوا خمسة وسبعين. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه يومئذ، وعليه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحها بيده وهي تلتئم بإذن الله فكأنها لم تكن).
قوله تعالى: { وليعلم الله الذين آمنوا }؛ بين الله عز وجل المعنى الذي لأجله يداول الأيام بين المؤمنين والكفار، فقال { وليعلم الله الذين آمنوا } معناه: ليرى من يقيم على الإيمان ممن لا يقيم؛ فيظهر المؤمن المخلص؛ والذي في قلبه مرض. وقال الزجاج: (معناه: ليعلم الله علم مشاهدة بعد ما كان علمه علم الغيب؛ لأن العلم الذي علمه الله قبل وقوع الشيء لا يجب به المجازاة ما لم يقع). وأما الواو في قوله: { وليعلم }: واو العطف على خبر محذوف؛ تقديره: { وتلك الأيام نداولها بين الناس } بضروب من التدبير، { وليعلم الله } المؤمنين متميزين من المنافقين.
وقوله تعالى: { ويتخذ منكم شهدآء }؛ أي يكرمهم بالشهادة، وقال بعضهم: معناه: ويجعلكم شهداء على الناس على معاصيهم لإجلالكم وتعظيمكم، ثم قال تعالى : { والله لا يحب الظالمين }؛ أي لا يفعل الله ذلك لحب الظالمين، فإنه لا يحب الظالمين، وفي هذا بيان أن الله لا ينصر الكافرين على المسلمين، إذ النصرة تدل على المحبة، والله لا يحب الكفار، ولكن قد ينصر المسلمين في بعض الأوقات على الكفار، وفي بعض الأوقات يكل المسلمين إلى حولهم وقوتهم لذنب كان حصل منهم، وإنما جعل الله الدنيا متقلبة لئلا يطمئن المسلمون إليها لتقلبها، ولكنهم يسعون للآخرة التي يكون نعيمها إلى الأبد.
[3.141]
قوله تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا }؛ معطوف على قوله
ويتخذ منكم شهدآء
[آل عمران: 140]؛ ومعناه: ويطهر الذين آمنوا من ذنوبهم، يقال: محصت الشيء أمحصه محصا؛ إذا أخلصته من العيب، ومحص الجمل يمحص محصا إذا ذهب عنه الوبر لكد العمل فصار أملس. قوله تعالى: { ويمحق الكافرين }؛ أي يعنيهم ويهلكهم وينقصهم؛ لأنهم يحتربون فيخرجوا للحرب مرة أخرى فيستأصلهم، وهذا تأويل مداولة الأيام.
[3.142]
قوله عز وجل: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين }؛ معناه: أظننتم يا معشر المؤمنين { أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله } جهاد المجاهدين ولا صبر الصابرين واقعا فيهم مشاهدة، وهذا استفهام بمعنى الإنكار لظنهم وحسبانهم. قوله تعالى: { ولما يعلم الله } أي ولم يعلم الله، يقول الرجل لما يفعل معناه: لم يفعل؛ انضم إليه حرف (ما)، وقرأ الحسن (ويعلم الصابرين) بالكسر عطفا على قوله { ولما يعلم }. وأما قراءة النصب فهو نصب على الظرف؛ يعني على صرف آخر الكلام عن أوله على تقدير: وأن يعلم الصابرين، وهو قول الكوفيين. وأما البصريون فيسمونه نصبا على الجمع. قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
أي لا يكن منك النهي عن خلق مع إتيان مثله، ويقال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؛ أي لا يكون منك الجمع بينهما.
[3.143]
قوله عز وجل: { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون }؛ قال ابن عباس: (ذلك لما أخبرهم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما فعل شهداؤهم يوم بدر من الكرامة والثواب في الجنة رغبوا في ذلك وقالوا: اللهم أرنا قتالا لعلنا نستشهد به فنلحق بإخواننا في الجنة، فأراهم الله تعالى يوم أحد فلم يثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وانهزموا إلا من شاء الله منهم ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقتل بعضهم وجرح بعضهم؛ فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: ولقد كنتم تمنون الموت بعد وقعة بدر من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد؛ { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } إلى السيوف فيها الموت، وهذا تعيير لهم لفشلهم عند الحرب مع صدق رغبتهم في الشهادة. ومعنى { فقد رأيتموه } رأيتم أسبابه.
[3.144]
قوله عز وجل: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }؛ الآية، قال المفسرون: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد حتى نزل بالشعب من أحد في سبعمائة رجل، وأمر عبدالله بن جبير من بني عمرو بن عوف على الرماة وهم خمسون رجلا، وقال: (أقيموا بأصل الجبل وأنضحوا عنا بالنبل لا يأتون من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا من مكانكم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم) فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار، وكانت هند تقول:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
إن تغلبوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم، وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء المشركين، وأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزبير: فرأيت هندا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتهبون الغنيمة؛ أقبلوا يريدون النهب واختلفوا فيما بينهم، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: ما بقي في الأمر شيء. ثم انطلق عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة؛ صاح في المشركين ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته فشجه في وجهه وأنفه، وتفرق عنه أصحابه صلى الله عليه وسلم.
" وكان مصعب بن عمير يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل، فظن قاتله أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنادى: قتلت محمدا، وأقبل عبدالله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال: إني قتلت محمدا؛ وصرخ إبليس لعنه الله: ألا إن محمدا قد قتل. وانكفأ الناس عنه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: " إلي عباد الله؛ إلي عباد الله " فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه وكشفوا المشركين عنه، وأصيبت يد طلحة بن عبدالله فيبست وبها كان يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عيني قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته؛ فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فعادت أحسن ما كانت.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فقال القوم: ألا يعطف عليه رجل منا يا رسول الله؟! فقال: " دعوه ". حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة؛ ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن نفسه وهو يخور كما يخور الثور، وهو يقول: قتلني محمد، وحمله أصحابه وقالوا له: ليس عليك بأس، قال: لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم، أليس قال: " أقتلك ": فلو بزق علي بعد تلك المقالة قتلني، فلم يلبث إلا يوما حتى مات ".
" وكان أبي قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا: عندي فرس أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: " بل أنا أقتلك إن شاء الله " "
فأصدق الله قول نبيه صلى الله عليه وسلم.
وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ، قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان؟! وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق: إن كان قد قتل محمد فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم؛ إن كان محمد قد قتل؛ فإن رب محمد حي لم يقتل وهو الله عز وجل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقاتلوا على ما قاتل عليه؛ وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء القوم - يعني المسلمين - وأبرأ مما جاء به هؤلاء المنافقون. ثم حمل سيفه فقاتل حتى قتل.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، وأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال: عرفت عينه تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين؛ أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار إلي: أن اسكت، فانحازت الطائفة إليه من أصحابه فلامهم على الفرار، فقالوا: يا رسول الله؛ أتانا الخبر بأنك قتلت؛ فرغبت قلوبنا فولينا مدبرين. فأنزل الله تعالى هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }.
أكرم الله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم اشتق من اسمه المحمود، فسماه محمدا وأحمد، وفيه يقول حسان:
ألم تر أن الله أرسل عبده
ببرهانه والله أعلا وأمجد
شق له من اسمه ليجله
فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة
من الدين والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله نورا منيرا وهاديا
يلوح كما لاح الصقيل المهند
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا سميتم محمدا فأكرموه ووسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها، وما من قوم كانت لهم مشورة؛ فحضر معهم من اسمه محمد وأحمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خار الله لهم، وما من يد وضعت مخصرها من كان اسمه محمدا وأحمدا إلا قرس في كل يوم ذلك المنزل مرتين "
قوله تعالى: { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } معناه: أفإن مات على فراشه، أو قتل في طاعة الله رجعتم إلى دينكم الأول وقلتم: إن كان نبيا لما قتل.
قوله تعالى: { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا }؛ أي من يرجع إلى دينه الشرك فلن ينقص من ملك الله شيئا ومن سلطانه، وإنما يضر نفسه، { وسيجزي الله الشاكرين }؛ أي المؤمنين المجاهدين، وإنما سمي الإرتداد انقلابا على العقب؛ لأن الردة رجوع إلى أقبح الأديان، كما أن الانقلاب على القهقري أقبح ما يكون من المشي. ويسمى المطيع شاكرا؛ لأن الطاعات كلها شكر لله عز وجل.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر رضي الله عنه وقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وإن رسول الله لم يمت، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه الخبر؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بردة؛ فكشف عن وجهه ثم انكب عليه فقبله؛ وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ثم رد الثوب على وجهه وخرج، فإذا هو بعمر يكلم الناس، فقال له: على رسلك يا عمر؛ أنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت؛ أقبل على الناس؛ فحمد الله وأثنى عليه؛ وقال: أيها الناس؛ من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } قال عمر: ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها إلا عقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي؛ وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات).
[3.145]
قوله تعالى: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتبا مؤجلا }؛ قال الأخفش: (اللام في النفس منقولة)، تقديره: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله، كتب الله عز وجل { كتبا مؤجلا } أي إلى أجل لرزقه وعمره، فكل نفس لها أجل تبلغه ورزق تستوفيه؛ لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره. في هذه تحريض للمؤمنين على القتال؛ أي لا تتركوا الجهاد خشية الموت والقتل؛ فإنهم لم يملكوا قتلكم. وانتصب قوله { كتبا مؤجلا } على المصدر كقوله تعالى:
وعد الله حقا
[النساء: 122] و
رحمة من ربك
[الكهف: 82 ، والقصص: 46 ، والدخان: 6 ، وغيرها] و
صنع الله
[النمل: 88] و
كتب الله عليكم
[النساء: 24]. قوله تعالى: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها }؛ يعني من يرد بعمله وطاعته المدحة والرياء لا يحرم حظه المقسوم له في الدنيا من غير أن يكون له حظ في الآخرة، يعني نؤته من الدنيا ما شاء مما قدرنا له، نزل ذلك في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة.
قوله تعالى: { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها }؛ أي من يرد بعمله الآخرة نعطه منها ما نقسم له في الدنيا من الرزق، نزل في الذين ثبتوا مع أميرهم عبدالله بن جبير حتى قتلوا. قوله تعالى: { وسنجزي الشكرين }؛ أي المطيعين، يجزيهم الجنة في الآخرة. وقرأ الأعمش: (وسيجزي الشاكرين) بالياء، يعني الله عز وجل.
[3.146]
قوله تعالى: { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير }؛ قرأ الحسن وأبو جعفر: (وكاين) مقصورا من غير همز ولا تشديد حيث وقع. وقرأ مجاهد وابن كثير ممدودا مهموزا خفيفا على وزن فاعل. وقرأ الباقون مشددا مهموزا على وزن كعين، وكلها لغات صحيحة بمعنى واحد. ومعناه: وكم من نبي قاتل معه جماعات كثيرة، { فما وهنوا }؛ أي فما فروا فيما بينهم { لمآ أصابهم في سبيل الله }؛ في طاعة الله، { وما ضعفوا وما استكانوا }؛ أي ما جبنوا عن قتال عدوهم وما خضعوا لعدوهم؛ { والله يحب الصابرين }؛ على قتال عدوهم لدين الإسلام.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (قتل معه). وقرأ الباقون: (قاتل معه)، لقوله { فما وهنوا } ويستحيل وصفهم بقلة الوهن بعد ما قتلوا.
وأما تأويل قتله فله ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون القتل واقعا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله (قتل)، ويكون هناك إضمار، وتقديره: و { معه ربيون كثير }. والثاني: أن يكون القتل بالنبي ومن معه من الربيين، ويكون معناه: قتل بعض من كان معه. يقول العرب: قتلنا بني تميم؛ وإنما قتل بعضهم. وقوله { فما وهنوا } راجع إلى الباقين. والثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير.
وقوله تعالى: { ربيون }: قرأ ابن مسعود والحسن وعكرمة: (ربيون) بضم الراء، وقرأ الباقون بالكسر وهي لغة فاشية، وهي جمع الربة وهي الفرقة. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: (جموع كثيرة). وقال ابن مسعود: (الربيون: الألوف). وقال الضحاك: (الربية الواحدة ألف). وقال الكلبي: (الربية الواحدة عشرة آلاف). وقال الحسن: (الربيون هم العلماء الفقهاء الصبراء). وقال ابن زيد: (الربانيون الولاة، والربيون الرعية). وقال بعضهم: الربيون الذين يعبدون الرب، كما ينسب البصريون إلى البصرة. وقيل: الربيون المنيبون إلى الله تعالى.
[3.147]
قوله تعالى: { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا }؛ حكاية قول الربيين؛ أي ما كان قولهم عند قتالهم (إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا) الصغائر والكبائر. والإسراف في اللغة: مجاوزة الحد بارتكاب الذنوب العظام. قوله تعالى: { وثبت أقدامنا }؛ أي ثبتها للقتال بتقوية قلوبنا. { وانصرنا على القوم الكافرين }؛ أي أعنا عليهم بإلقاء الرعب في قلوبهم أي هلا قلتم أيها المؤمنون كما قال الربيون؛ وهلا قاتلتم كما قاتلوا.
قرأ الأعمش: (وما كان قولهم) بالرفع على أنه اسم (كان) والخبر ما بعد (إلا). وقرأ الباقون بالنصب على خبر (كان)، والاسم ما بعد (إلا) كما في قوله:
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا
[الأعراف: 82] و
ما كان حجتهم إلا أن قالوا
[الجاثية: 25] ونحوهما.
[3.148]
قوله تعالى: { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة }؛ أي أعطاهم الله النصر والغنيمة والفتح والثناء الحسن في الدنيا؛ والجنة في الآخرة. { والله يحب المحسنين }؛ أي المجاهدين. وفي الآية دلالة: أنه قد يجوز اجتماع الدنيا والآخرة لواحد، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (من عمل لدنياه أضر بآخرته، ومن عمل لآخرته أضر بدنياه، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام).
[3.149-150]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا }؛ يعني اليهود والنصارى فيما يقولون لكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو كان حقا لما ظهر عليه المشركون، { يردوكم على أعقابكم }؛ أي دين الشرك، { فتنقلبوا خاسرين }؛ أي فترجعوا مغبونين إلى دينكم الأول؛ { بل الله مولاكم }؛ أي وليكم وناصركم، { وهو خير الناصرين }؛ المانعين من الكفار، لأن أحدا لا يقدر أن ينصر كنصره، ولا أن يدفع كدفاعه. وقرئ في الشواذ: (بل الله) بالنصب على معنى: بل أطيعوا الله.
[3.151]
قوله تعالى: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بمآ أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا }؛ قال السدي: (ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، فلما بلغوا بعض الطريق ندموا؛ وقالوا: بئس ما صنعنا؛ قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا اليسير ثم تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك؛ ألقى الله الرعب في قلوبهم حتى رجعوا عما هموا به - وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله تعالى - فأنزل الله هذه الآية).
وقرأ أبو أيوب: (سيلقي) بالياء يعني (الله مولاكم). وقرأ الباقون بالنون على التعظيم؛ أي سنقذف في قلوب الذين كفروا الخوف، وثقل (الرعب) ابن عامر والكسائي، وخففه الآخرون. قوله تعالى: { بمآ أشركوا بالله } بإشراكهم بالله ما لم ينزل به كتابا فيه عذر وحجة لهم. وقيل: معنى قوله { سلطانا } أي حجة وبيانا وبرهانا.
قوله تعالى: { ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين }؛ أي مصيرهم في الآخرة النار، وبئس مقام الظالمين النار في الآخرة. وروي في الخبر:
" أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا " فمكث أبو سفيان ساعة، ثم قال: أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ أين محمد؟ فقال عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر، فقال أبو سفيان: نشدتك الله يا ابن الخطاب؛ أمحمد في الأحياء؟ قال: إي والله يسمع كلامك، فقال: أين الموعد؟ يعني أين نحارب بعد هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " قل: ببدر الصغرى " "
وكانت وقعة بدر الصغرى بعد أحد بسنة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لبدر الصغرى على الموعد، ورعب المشركون فلم يتجاسروا على الحضور.
وروي أن أبا سفيان ركب الجبل يوم أحد فقال: أعل هبل؛ أعل هبل! فقال عمر رضي الله عنه: الله أعلا وأجل، فقال أبو سفيان: يوم بيوم؛ وإن الأيام دولة والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
[3.152]
قوله تعالى: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون }؛ وذلك: أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم: قال أناس منهم: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟! فأنزل الله هذه الآية { ولقد صدقكم الله وعده } الذي وعد بالنصر والظفر يوم أحد وهو قوله:
وإن تصبروا وتتقوا
[آل عمران: 120] الآية.
" وقول النبي صلى الله عليه وسلم للرماة: " لا تبرحوا من مكانكم " ، وكان صلى الله عليه وسلم قد جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة، وأقام الرماة فيما يلي خيل المشركين، وأمر عليهم عبدالله بن جبير الأنصاري، وقال لهم: " احموا ظهورنا، وإن رأيتمونا قد عشنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " "
وأقبل المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرماة يترشقون خيل المشركين بالنبل، والمسلمون يضربونهم بالسيف؛ حتى ولوا هاربين وانكشفوا مهزومين، فذلك قوله { إذ تحسونهم بإذنه } أي تقتلونهم قتلا ذريعا شديدا في أول الحرب بأمره وعلمه { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد مآ أراكم ما تحبون } أي إلى أن فشلتم جعلوا (حتى) بمعنى (إلى) فحينئذ لا جواب له، وقيل: (حتى) بمعنى: فلما، وفي الكلام تقديم وتأخير.
قالوا: وفي قوله { وتنازعتم } مقحمة تقديره : حتى اذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم؛ أي جبنتم وضعفتم. وكان { تنازعتم } أن الرماة لما انهزم المشركون وقع المسلمون في الغنائم؛ قالوا: قد انهزم القوم وأمنا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت عبدالله بن جبير في نفر يسير من الصحابة دون العشرة؛ قيل: ثمانية، وانطلق الباقون ينتهبون، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك؛ حملوا على الرماة من قبل ذلك الشعب في مائتين وخمسين فارسا من المشركين، وكان خالد يومئذ مشركا؛ فقتل عبدالله بن جبير ومن بقي معه من الرماة، وأقبلوا على المسلمين من خلفهم، وتفرق المسلمون وانتقضت صفوفهم واختلطوا، وحمل عليهم المشركون حملة رجل واحد، وصار المسلمون من بين قتيل وجريح ومنهزم ومدهوش، ونادى إبليس: ألا إن محمدا قد قتل، فذلك قوله تعالى: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر } أي لما اختلفتم في الأمر الذي أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثبات على المركز، وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبون من النصر على عدوكم والظفر والغنيمة. قال بعض المفسرين: جواب { إذا فشلتم } ها هنا مقدر، كأنه قال: إذا فشلتم وتنازعتم امتحنتم بما رأيتم من القتل والبلاء.
قوله تعالى: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }؛ معنى: من الرماة من يريد الحياة؟ وهم الذين تركوا المركز ولم يثبتوا فيه ووقعوا في الغنائم، { ومنكم من يريد الآخرة } يعني: الذين ثبتوا في المركز مع عبدالله بن جبير وباقي الرماة حتى قتلوا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما شعرنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد).
قوله تعالى: { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم }؛ أي صرفكم الله عن المشركين بالهزيمة ليبتليكم، قبل: المراد بالصرف في هذه المواضع رفع النصر. قوله تعالى: { ولقد عفا عنكم }؛ أي لم يعاقبكم عند ذلك فلم تقتلوا جميعا. وقال الكلبي: (تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم)، { والله ذو فضل على المؤمنين }؛ أي ذو من عليهم بالعفو والتجاوز.
[3.153]
قوله تعالى: { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخركم فأثبكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصبكم }؛ راجع إلى قوله
ولقد عفا عنكم
[آل عمران: 152] لأن عفوه عنهم لا بد أن يتعلق بذنب منهم؛ وذلك الذنب ما بينه بقوله { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } أي ولقد عفا عنكم { إذ تصعدون } أي إذ تبعدون هربا في الأرض بالهزيمة. والإصعاد: السير في مستوى الأرض.
وقرأ الحسن وقتادة: (تصعدون) بفتح التاء والعين. قال أبو حاتم: يقال: أصعدت؛ إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت؛ إذا رقيت على جبل أو غيره. والإصعاد: السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب. والصعود: الارتفاع على الجبل والسطوح والسلالم والمدرج، وكلا القراءتين صواب. وقد كان يومئذ منهم صاعد مصعد؛ أي صاعد إلى الجبل، ومصعد هارب على وجهه، والرسول يدعوهم:
" إلي يا معشر المسلمين؛ ويا أصحاب البقرة وآل عمران أنا رسول الله "
فلم يلتفت إليه منهم أحد حتى أتوا على الجبل. ويحتمل أنهم ذهبوا في بطن الوادي أولا؛ ثم صعدوا الجبل، فلا تنافي حينئذ بين القرائتين.
قوله تعالى: { ولا تلوون على أحد } أي لا تعرجون ولا تقيمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقيم بعضكم على بعض ولا يلتفت بعضكم إلى بعض. وقرأ الحسن: (ولا تلون) بواو واحدة، كما يقال: استحيت واستحييت. قال الكلبي: (يعني بقوله (على أحد) النبي صلى الله عليه وسلم). قوله تعالى: { والرسول يدعوكم في أخركم } أي من خلفكم، وذلك أنه لما انهزم المسلمون لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلا، خمسة من المهاجرين: أبو بكر؛ وعلي؛ وعبدالرحمن بن عوف؛ وطلحة بن عبدالله؛ وسعد، وثمانية من الأنصار.
قوله تعالى: { فأثبكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا مآ أصبكم } أي جزاكم غما متصلا بغم؛ فأحد الغمين الهزيمة وقتل أصحابهم، والثاني: إشراف خالد في فم الشعب مع خيل المشركين. وقيل: الغم الأول هو القتل والجراح، والثاني: سماعهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل؛ فأساءهم الغم الأول بقوله { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } أي إذ أنالكم غم النبي صلى الله عليه وسلم نلتم به كل غم من فوت الغنيمة والهزيمة. وقيل: معناه: من ترادفت عليه الغموم واعتاد في ذلك يقل حزنه وتأسفه على ما يفوته من الدنيا.
وقال الزجاج: (معنى قوله { غما بغم } أي جزاكم غما بما غممتم النبي صلى الله عليه وسلم بمفارقة المكان الذي أمركم بحفظه). وقال الحسن: (معنى هذا الغم بغم المشركين يوم بدر). ويقال: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } متصل بقوله
ولقد عفا عنكم
[آل عمران: 152]، وقيل: معناه: { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } بمعنى الغنيمة والفتح. { لا مآ أصبكم }: (ما) في موضع خفض؛ أي ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة. وقال بعضهم: (لا) زائدة؛ معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم؛ عقوبة لكم في خلافكم وترككم المركز. قوله تعالى: { والله خبير بما تعملون }؛ أي عالم بأعمالكم من إغتمام المسلمين وشماتة المنافقين.
[3.154]
قوله تعالى: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا }؛ الآية؛ وذلك أنه لما افترق الفريقان؛
" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه في إثر المشركين وقال له: " انظر؛ فإن هم جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ". فخرج علي في إثرهم فإذا هم ركبوا الإبل وقادوا الخيل، فرجع علي رضي الله عنه وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعتهم يقولون إنا قد اجتمعنا لنحارب ثانيا، فقال صلى الله عليه وسلم: " كذبوا؛ فإنهم أرادوا الإنصراف إلى مكة " "
فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمن المسلمون، وألقى الله عليهم النوم؛ فما بقي منهم أحد إلا وقد ضرب ذقنه صدره؛ إلا معتب بن قشير وأصحابه الذين كانوا يشكون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما علم الله من باطنهم خلاف ما علم من باطن المؤمنين منعهم ما أعطى المؤمنين؛ فترددوا في الخوف على أنفسهم وسوء الظن بربهم؛ يئسوا من نصره وشكوا في صادق وعده وصادق عهده.
ومعنى الآية: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } الذي كنتم فيه أمنا. قوله: { نعاسا } بدل من { أمنة } أي أمنكم أمنا تنامون معه؛ لأن الخائف لا ينام، ومن هنا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (النعاس في الصلاة من الشيطان، وفي القتال من الرحمن).
قوله تعالى: { يغشى طآئفة منكم }؛ قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (تغشى) بالتاء؛ ردوه إلى الأمنة، وقرأ الباقون بالياء؛ ردوه إلى النعاس؛ لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أوفى منه مما بعد منه، وهذا قوله تعالى:
ألم يك نطفة من مني يمنى
[القيامة: 37] بالياء والتاء، والمراد بالطائفة التي غشيهم النعاس أهل الصدق واليقين. قال أبو طلحة رضي الله عنه: (رفعت رأسي يوم أحد؛ فجعلت ما أرى أحدا من الناس إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس) قال أبو طلحة: (كنت ممن أنزل الله عليه النعاس يومئذ؛ وكان السيف يسقط من يدي ثم آخذه؛ ثم يسقط من يدي ثم آخذه).
والمراد بقوله تعالى: { وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم }؛ المنافقون: معتب ابن قشير وأصحابه أمرتهم أنفسهم وحملتهم على الغم، يقال لكل من خاف وحزن في غير موضع الحزن والخوف: أهمته نفسه.
قوله: { يظنون بالله غير الحق ظن الجهلية }؛ يعني هذه الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم؛ يظنون بالله أن لا ينصر محمدا وأصحابه، وقيل: ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، وقوله تعالى: { ظن الجهلية } أي كظن أهل الجاهلية والشرك، وقيل: كظنهم في الجاهلية، { يقولون هل لنا من الأمر من شيء }؛ أي ما لنا من الأمر من شيء، لفظة استفهام ومعناها: الجحد؛ يعنون النصر.
وقيل: معناه: هل نطمع أن يكون لنا شيء من الظفر والدولة. وقيل: معناه: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، ولكن أخرجنا إلى القتال مكرهين.
قوله تعالى: { قل } ، لهم يا محمد: { إن الأمر كله لله } ، إن النصر والظفر والدولة كل ذلك لله عز وجل.
من نصب (كله) جعله توكيدا للأمر، ومن رفعه جعله خبر (إن). قرأ أبو عمرو ويعقوب (كله) بالرفع على الإبتداء ؛ وخبره (لله)، وهذا المبتدأ وخبره خبر ل (إن). وقرأ الباقون بالنصب.
وروى الضحاك عن ابن عباس في قوله { يظنون بالله غير الحق ظن الجهلية }: (يعني التكذيب بالقدر) لأنهم تكلموا بالقدر فقال الله تعالى: { قل إن الأمر كله لله } يعني القدر خيره وشره من الله؛ وهو قولهم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا).
وذلك أن المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول ما خرجنا مع محمد لقتال أهل مكة؛ ولم يقتل رؤساؤنا، فقال الله: (قل) لهم: { لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل } أي لخرج الذين قضي عليهم القتل { إلى مضاجعهم } إلى مصارعهم.
قوله تعالى: { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك }؛ أي المنافقون يسرون ويضمرون في قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم؛ { يقولون }؛ سرا: { لو كان لنا من الأمر } ، من النصر والدولة، { شيء } ، وكان دين محمد حقا، { ما قتلنا ههنا } ، ما قتل أصحابنا هنا في اتباعه. وقيل: معناه: لو لم يخرجنا رؤساؤنا إلى الحرب { ما قتلنا }.
قوله تعالى: { قل لو كنتم في بيوتكم }؛ أي قل للمنافقين: لو تخلفتم أنتم في بيوتكم، { لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم }؛ لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى مصارعهم ومواضع قتلهم لا محالة لنفوذ قضاء الله. ويقال: معناه: لو كنتم في بيوتكم لما أخطأكم ما كتب عليكم. وقيل: معناه: لو كنتم أيها المنافقين في بيوتكم لبرز الذين فرض عليهم القتال وهم المؤمنون المخلصون إلى مواضع القتال صابرين محتسبين. قرأ أبو عبلة: لبرز بضم الباء وتشديد الراء. قرأ قتادة: (القتال).
قوله تعالى: { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم }؛ أي وليختبر الله ويظهر ما في قلوبكم بأعمالكم؛ لأنه علمه غيبا فيعلمه مشاهدة. ومعنى { وليمحص ما في قلوبكم } أي يبين ما في قلوبكم، فيذهب نفاق من شاء منكم، { والله عليم بذات الصدور }؛ أي بما في القلوب من خير وشر.
[3.155]
قوله تعالى: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا }؛ أي إن الذين انهزموا منكم يا معشر المؤمنين يوم التقى الجمعان؛ جمع المسلمين وجمع المشركين، إنما استزلهم الشيطان عن أماكنهم ببعض ما كسبوا؛ وهو مفارقة المكان الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه.
قوله تعالى: { ولقد عفا الله عنهم }؛ حين لم يستأصلهم. ويقال في معنى هذه الآية: إنهم لم يفروا على جهة المعاندة والفرار من الزحف، ولكن أذكرهم الشيطان خطاياهم التي كانت منهم؛ فكرهوا لقاء الله إلا على حالة يرضونها، ولذلك عفا الله عنهم.
قوله تعالى: { إن الله غفور حليم }؛ أي متجاوز لذنوبهم لم يعجل بالعقوبة عليهم. روي: (أن رجلا من الخوارج أتى عبدالله بن عمر رضي الله عنه فسأله عن عثمان رضي الله عنه: أكان شهد بدرا؟ قال: (لا)، قال: شهد بيعة الرضوان؟، قال: (لا)، قال: فكان من الذين تولوا يوم التقى الجمعان؟ قال: (نعم). فولى الرجل يهز فرحا، فلما علم ابن عمر بغضه لعثمان قال له: (ارجع)؛ فرجع، فقال له: (أما تخلفه يوم بدر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على ابنته رقية يقوم عليها، كانت مريضة فتوفيت يوم بدر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزو، وعثمان رضي الله عنه في تكفين ابنة رسول الله ودفنها والصلاة عليها؛ فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم جعل أجره كأجرهم وسهمه كسهمهم.
وأما بيعة الرضوان؛
" فقد بايع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على اليمنى، وقال: " هذه عن عثمان " ويسار رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يمين عثمان رضي الله عنه "
)). وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان؛ فقد عفا الله عنهم والله غفور حليم؛ فاجهد على جهدك، فقام الرجل حزنان ناكسا رأسه.
[3.156]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا }؛ معناه: { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا } كمنافقي أهل الكتاب عبدالله بن أبي وأصحابه؛ قالوا لإخوانهم في النفاق إذا ساروا في الأرض تجارا مسافرين فماتوا في سفرهم أو كانوا في الغزو فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا في سفرهم، وما قتلوا في الغزو.
وغزا جمع غاز مثل راكع وركع، وقد يجمع غاز على غزاة، مثل قاض وقضاة.
وقوله: { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم }؛ أي ليجعل الله ما ظنوا حزنا يتردد في أجوافهم. ثم أخبر الله أن الموت والحياة إليه لا يقدمان لسفر ولا يؤخران لحضر. قوله تعالى: { والله يحيي ويميت }؛ يحذرهم عن التخلف عن الجهاد وخشية الموت والقتل؛ لأن الإحياء والإماتة إلى الله تعالى في السفر والحضر؛ وحال القتال وحال غير القتال.
قوله تعالى: { والله بما تعملون بصير }؛ ترغيب في الطاعة، وتحذير من المعصية. قرأ ابن كثير والأعمش والحسن وحمزة والكسائي وخلف: بالياء، والباقون بالتاء.
[3.157]
قوله تعالى: { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون }؛ معناه: لو قتلتم في طاعة الله أو متم فيها { لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } من الأموال. وإنما قال هكذا وإن كان هو معلوما؛ لأن من الناس من آثر الدنيا على الجهاد وخشية القتل.
قرأ حفص: (يجمعون) بالياء على الخبر؛ خير لكم أيها المؤمنون مما يجمع المنافقون في الدنيا. وقرأ نافع وأكثر أهل الكوفة: (متم) بكسر الميم من مات يمات. وقرأ الباقون بضمها من مات يموت.
[3.158]
قوله تعالى: { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون }؛ معناه: لئن متم على فرشكم، أو قتلتم في الغزو فإلى الله ترجعون في الآخرة، كيف ما دارت القصة فإن مصيركم إلى الله، ولئن تصيروا إلى الله بالقتل الذي تستحقون عليه العوض خير من أن تصيروا إليه بالموت الذي لا يستحقون عليه العوض. قال علي رضي الله عنه:
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت
فمقتلها بالسيف في الله أفضل
واللام في (لئن) لام القسم، وتصلح أن تكون للابتداء والتأكيد، واللام في { لمغفرة } جواب القسم، وتصلح أن تكون مؤكدة جواب الشرط.
[3.159]
قوله تعالى: { فبما رحمة من الله لنت لهم }؛ أي فبرحمة عظيمة من الله لنت لهم حتى صار لينك لهم سببا لدخولهم في الدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أتاهم بالحجج والبراهين مع لين وخلق عظيم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" إنما أنا لكم مثل الوالد لولده "
و (ما) في قوله زائدة لا يمنع الباء من عملها، مثل قولهم
فبما نقضهم ميثاقهم
[النساء: 155] قال بعضهم: يحتمل أن تكون (ما) استفهامية للتعجب؛ تقديره: فبما رحمة من الله سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك؛ فلم تغضب عليهم فيما كان منهم يوم أحد.
قوله: { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك }؛ أي لو كنت يا محمد خشنا في القول سيء الخلق قاسي القلب لتفرقوا من حولك، فلم تر منهم أحدا، ولكن الله جعلك سمحا سهلا طلقا لطيفا لينا برا رحيما.
قوله تعالى: { فاعف عنهم واستغفر لهم }؛ أي فاعف عنهم ما أتوه يوم أحد؛ وتجاوز عنهم الجريمة التي تكون بينك وبينهم، وكانوا عصوا النبي صلى الله عليه وسلم في ترك المركز، وترك الآية لدعوته: [ارجعوا ارجعوا]، فندب الله النبي صلى الله عليه وسلم إلى العفو عنهم. قوله تعالى: { واستغفر لهم } أي في الذنب الذي يكون منهم حتى أشفعك فيهم.
قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر }؛ أي إذا أردت أن تعمل عملا مما لم يكن عندك فيه وحي فشاورهم فيه، واعمل أبدا بتدبيرهم ومشورتهم، وكان صلى الله عليه وسلم مستغنيا عن مشورتهم، فإنه كان أرشدهم وأكملهم رأيا، لكن الله إنما أمره بالمشاورة لتقتدي به الأمة، وليكون فيه تطييب لنفوس المؤمنين، ورفع لأقدارهم وثناء عليهم. قال مقاتل وقتادة: (كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم في الأمر؛ فإنه أطيب لأنفسهم، وإذا شاورا عرفوا إكرامه لهم).
قوله تعالى: { فإذا عزمت فتوكل على الله }؛ أي أعزمت على شيء فثق بالله، وفوض إليه ولا تتكل على مشورتهم، { إن الله يحب المتوكلين }؛ على الله.
واختلف العلماء في معنى التوكل، فقال سهل بن عبدالله: (أول مقام التوكل: أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف يشاء، والرجاء لا يكون له حركة ولا تدبير، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس). وقال إبراهيم الخواص: (التوكل إسقاط الخوف والرجاء مما سوى الله).
قال بعضهم: المتوكل الذي إذا أعطي شكر، وإذا منع صبر، وأن يكون العطاء والمنع عنده سواء، والمنع مع الشكر أحب إليه لعلمه باختيار الله ذلك. وقال ذو النون: (التوكل إنقطاع المطامع مما سوى الله)، وقال: (هو معرفة معطي أرزاق الخلائق، ولا يصح لأحد حتى تكون السماء عنده كالصفر؛ والأرض كالحديد؛ لا ينزل من السماء مطر؛ ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى له ما ضمن من رزقه بين هذين).
قال بعضهم: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله؛ وأن تقبل بالكلية على ربك، وتعرض عمن دونه.
وقال الثوري: (إن تيقن تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبرا). وقال بعضهم: هو السكون عن الحركات اعتمادا على خالق السموات. وقيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: (على أربع خصال؛ علمت أن رزقي ليس يأكله غيري؛ فلست أشتغل به، وعلمت أن عملي ليس يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا أستحي منه).
[3.160]
قوله: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم }؛ معناه: إن يمنعكم الله تعالى من عدوكم فلا غالب لكم من العدو، مثل يوم بدر؛ { وإن يخذلكم }؛ بأن يكلكم إلى أنفسكم ويرفع نصره عنكم كيوم أحد؛ { فمن ذا الذي ينصركم من بعده }؛ أي من بعد خذلانه إياكم، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }؛ في النصرة.
[3.162]
قوله تعالى: { أفمن اتبع رضوان الله كمن بآء بسخط من الله }؛ استفهام بمعنى تقدير حال الفريقين، يقول: ليس من اتبع رضوان الله؛ أي من ترك الغلول والحرام وأخذ الحلال من الغنيمة كمن استوجب سخط الله بأخذ الغلول والحرام، وقيل: معنى الآية: { أفمن اتبع رضوان الله } بالجهاد في سبيل الله { كمن بآء بسخط من الله } بالفرار من الجهاد. قوله تعالى: { ومأواه جهنم }؛ راجع إلى { من باء بسخط من الله }. { وبئس }؛ النار؛ { المصير }.
[3.163]
قوله تعالى: { هم درجت عند الله }؛ معناه: إن الذين يتبعون رضوان الله ذوو درجات رفيعة، والآخرون ذوو دركات خسيسة، فإن لأحد الفريقين درجات في الجنة، وللآخر دركات في النار، والمعنى: أن من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعذاب الأليم. وقال بعضهم: هذه الآية خاصة في المؤمنين؛ أي هم طبقات بعضهم أرفع من بعض في الجنة. قوله تعالى: { والله بصير بما يعملون }؛ أي عالم بمن غل ومن لا يغل.
[3.164-165]
قوله تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم }؛ أي لقد أنعم على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ بعثه الله من العرب، معروف النسب، عرفوه بالصدق والأمانة، وكان يسمى (الأمين) قبل الوحي، وقيل: بعثه الله من جنس بني آدم، ولم يبعثه من الملائكة؛ لأنه إذا كان من جنسهم كان تعلمهم منه أسهل عليهم. وقرأ في الشواذ: (من أنفسهم) بنصب الفاء؛ أي أشرفهم؛ لأن العرب أفضل من غيرهم، وقريش أفضل العرب.
قوله تعالى: { يتلوا عليهم آياته }؛ أي يقرأ عليهم القرآن بما فيه من أقاصيص الأمم السالفة، وهو أمي لم يقرأ الكتب. قوله تعالى: { ويزكيهم }؛ أي يطهرهم من الشرك والذنوب، ويأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها. قوله تعالى: { ويعلمهم الكتاب والحكمة }؛ أي القرآن والفقه، { وإن كانوا من قبل }؛ أن يأتيهم محمد صلى الله عليه وسلم { لفي ضلال مبين }؛ من الهدى.
والخطاب يبين قوله تعالى: { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها }؛ أي لما أصابتكم مصيبة يوم أحد قد أصبتم مثليها يوم بدر؛ أي قتلتم يوم بدر سبعين، وأسرتم سبعين، وقتل منكم يوم أحد سبعون، ولم يؤسر منكم أحد.
قوله تعالى: { قلتم أنى هذا }؛ القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا والوحي ينزل علينا، وهم مشركون، { قل }؛ يا محمد: { هو من عند أنفسكم }؛ لمخالفتكم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج عن المدينة، وقد كان أمركم بالمقام فيها ليدخل عيلكم الكفار فتقلوهم في أزقتها. وقيل: إنما أصابكم هذا من عند قومكم بمعصية الرماة بتركهم ما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، { إن الله على كل شيء قدير }؛ أي على كل شيء من النصر وغير ذلك قادر.
[3.166-167]
قوله تعالى: { ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله }؛ معناه: ما أصابكم يا معشر المسلمين يوم أحد يوم التقى جيش المسلمين، وجيش المشركين يوم أحد من القتل والجروح والهزيمة فبعلم الله وقضائه وإرادته، ويقال: أراد بالإذن: التخلية بين المؤمنين والكفار، وإلا فالله لا يؤذن بالمعصية.
قوله تعالى: { وليعلم المؤمنين * وليعلم الذين نافقوا }؛ أي ليري المؤمنين؛ وقيل: لتعلموا أنتم أن الله قد علم نفاقهم، وأنتم لم تكونوا تعلمون ذلك، والمعنى: ليرى الله إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويرى المنافقين بفشلهم، وقلة صبرهم على ما ينزل به في ذات الله تعالى. { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم }؛ ذلك أن عبدالله بن أبي وأصحابه لما رجعوا إلى المدينة قال لهم عبدالله بن جبير: (تعالوا إلى أحد وقاتلوا في طاعة الله وادفعوا في أنفسكم وأهلكم وحريمكم)، فقال المنافقون: لا يكون قتال اليوم، ولو نعلم أن يكون قتال لكنا معكم.
قوله تعالى: { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان }؛ أي كانوا قبل ذلك القول عند المؤمنين أقرب إلى الإيمان بظاهر حالهم؛ ثم هتكوا سترهم وأظهروا ميلهم إلى الكفر؛ فصاروا في ذلك اليوم أقرب إلى الكفر. قوله تعالى: { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم }؛ كناية عن كذبهم في قولهم { لو نعلم قتالا لاتبعناكم }. قوله تعالى: { والله أعلم بما يكتمون }؛ أي بما يخفون من الشرك.
[3.168]
قوله تعالى: { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا }؛ معناه: الذين قالوا لإخوانهم من المنافقين بالمدينة وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد: لو أطاعونا المسلمون الذين خرجوا إلى القتال ما قتلوا في الغزو، { قل }؛ لهم يا محمد: { فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين }؛ في مقالتكم: لو لم يخرجوا إلى القتال ما قتلوا. قال الفقيه أبو الليث: (سمعت بعض المفسرين يقول: لما نزلت هذه الآية مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين).
[3.169]
قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون }؛ قال ابن عباس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما أصيب إخوانكم يوم أحد؛ جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنة؛ وتأكل من ثمارها؛ وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب منقلهم ومطعمهم ومشربهم، وما أعطى الله من الكرامة؛ قالوا: يا ليت إخواننا علموا ما أعد الله لنا من الكرامة، وما نحن فيه من النعيم، فلم ينكلوا عند اللقاء ولم يجبنوا في الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم؛ فأنزل الله هذه الآية "
" وقال جابر بن عبدالله الأنصاري: قتل أبي يوم أحد وترك علي ثلاث بنات؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أبشرك يا جابر؟! " قلت: بلى يا رسول الله، قال: " إن أباك حين قتل أحياه الله تعالى وكلمه كفاحا؛ فقال: يا عبدالله؛ سلني ما شئت، قال: أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيها ثانية، فقال: يا عبدالله؛ إني قضيت أن لا أعيد إلى الدنيا خليقة قبضتها، قال: يا رب فمن يبلغ قومي ما أنا فيه من الكرامة؟ قال الله: أنا، فأنزل الله هذه الآية " ".
ومعنى الآية: ولا تظنن يا محمد الشهداء المقتولين في طاعة الله. { أمواتا } نصب على المفعول؛ لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، { بل أحياء عند ربهم يرزقون } الجنة، سماهم أحياء؛ لأنهم يأكلون ويتمتعون ويرزقون كالأحياء. وقيل: سماهم أحياء؛ لأنهم يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة، ويشركون في فضل كل جهاد إلى يوم القيامة. وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة كأرواح الأحياء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في الأرض ولا يتغير في القبر. ويقال: أربعة لا تبلى أجسادهم: الأنبياء؛ والعلماء؛ والشهداء؛ وحملة القرآن .
وعن عبدالله بن عبدالرحمن: (أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبدالله بن عمرو بن الحرام الأنصاريين كانا قد أخرب السيل قبريهما وكانا في قبر واحد؛ وهما ممن استشهد يوم أحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فوجدا في قبرهما لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان بين أحد وبين خراب السيل ست وأربعون سنة).
وقيل: سموا أحياء؛ لأنهم لم يغسلوا كما تغسل الأحياء. قال صلى الله عليه وسلم:
" زملوهم بدمائهم وكلومهم؛ فإنهم يحشرون يوم القيامة بدمائهم؛ اللون لون الدم؛ والريح ريح المسك "
قرأ الحسن وابن عامر (قتلوا) بالتشديد.
[3.170]
قوله تعالى: { فرحين بمآ آتاهم الله من فضله }؛ أي من رزقه وثوابه، وانتصب على الحال. وقرأ ابن السميقع: (فرحين) وهما لغتان كالفرة والفارة، والطمع والطامع، والحذر والحاذر. قوله تعالى: { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ أي يطلبون السرور بقدوم من لم يقدم عليهم من إخوانهم، يقولون: ليت إخواننا قتلوا كما قتلنا؛ فينالوا من الكرامة والثواب ما نلنا. وقال السدي: (يؤتى الشهيد بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله؛ فيقال: يقدم عليك فلان يوم كذا؛ ويقدم عليك فلان يوم كذا؛ فيستبشر بذلك كما بشر إنسان بقدوم غائب؛ يتعجل السرور به قبل قدومه).
وأصل الاستبشار: من البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه. ومعنى الآية: يستبشرون بأن لا خوف عليهم وعلى إخوانهم الذين يأتونهم من بعدهم؛ وأنهم لا يحزنون في الآخرة.
[3.171]
قوله تعالى: { يستبشرون بنعمة من الله وفضل }؛ أي بجنة وكرامة، ويستبشرون أن الله لا يضيع ثواب الموحدين. قوله تعالى: { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين }؛ قرأ الكسائي والفراء: (وإن الله) بالكسر على الاستئناف ودليله قراءة ابن مسعود (والله لا يضيع أجر المؤمنين).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما يجد الشهداء من القتل في سبيل الله إلا كما يجد أحدكم من القرصة "
وفي حديث آخر:
" عضة النملة أشد على الشهيد من مس السلاح "
وفي حديث آخر:
" إن الضربة والطعنة على الشهيد مثل شرب الماء البارد "
[3.172]
قوله تعالى: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح }؛ يجوز أن يكون أول هذه الآية في موضع الخفض على النعت للمؤمنين، والأحسن أن يكون في موضع الرفع على الابتداء أو خبره للذين أحسنوا. ومعنى الآية: الذين أجابوا الله بالطاعة والرسول بالخروج إلى بدر الصغرى من بعد ما أصابهم الجراح؛ { للذين أحسنوا منهم }؛ أي وافوا الميعاد، { واتقوا }؛ سخط الله ومعصيته، { أجر عظيم } ، لهم ثواب وافر في الجنة.
قال ابن عباس:
" وذلك أنهم تواعدوا يوم أحد أن يجتمعوا ببدر الصغرى في العام القابل، فلما حضر الأجل ندم المشركون، فلقي أبو سفيان نعيم بن مسعود؛ وكان يخرج إلى المدينة للتجارة؛ فقال: إذا أتيت المدينة فخوفهم كيلا يخرجوا ولك عشر من الإبل إن رددتهم، فلما قدم نعيم إلى المدينة؛ وكان أصحاب رسول الله يريدون موافاة أبي سفيان؛ قال: بئس الرأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراركم، ولم ينفلت منهم إلا الشريد؛ تريدون أن تأتوهم في ديارهم وقد جمعوا لكم، أما إن الرجل الواحد منهم يطيق عشرة منكم، إذا والله ما ينفلت منكم إلا الشريد. فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وتثاقلوا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم قال: " والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم، وإن لم يخرج معي منكم أحد " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للميعاد، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبدالله بن مسعود وحذيفة وأبو عبيدة في سبعين رجلا حتى انتهوا إلى بدر؛ فلم يخرج أبو سفيان ولم يلقوا بها أحدا من المشركين، فتسوقوا من السوق حاجتهم ثم انصرفوا، فذلك قوله تعالى: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد مآ أصابهم القرح } "
قالت عائشة رضي الله عنها لعبدالله بن الزبير: (يا ابن أختي؛ أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر - لمن الذين قال الله فيهم { الذين استجابوا لله والرسول } الآية).
[3.173]
قوله تعالى: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا }؛ معناه: الذين قال لهم نعيم بن مسعود إن أبا سفيان وأصحابه قد جمعوا لكم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم؛ فزادهم هذا القول تصديقا ويقينا وجرأة على القتال. { وقالوا حسبنا الله }؛ أي يقينا بالله، وكافينا الله أمرهم. { ونعم الوكيل }؛ أي الناصر الحافظ، وموضع (الذين) خفض مردود على (الذين) الأول. وقد ذكر الله نعيما بلفظ الناس؛ لأن الواحد قد يذكر بلفظ الجماعة على معنى الحسن، ولهذا قالوا: من حلف وقال: إن كلمت الناس فعبدي حر، فكلم رجلا واحدا حنث.
[3.174]
قوله تعالى: { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }؛ أي فانصرفوا بأجر من الله وفضل؛ وهو ما تسوقوا به من السوق. وروي أنهم اشتروا أدما وزيتا وأشياء وغير ذلك بسعر رخيص فربحوا على ذلك. ومعنى { لم يمسسهم سوء } لم تصبهم جراحة ولا قتل، { واتبعوا رضوان الله }؛ في الخروج إلى المشركين؛ { والله ذو فضل عظيم }؛ بدفع المشركين عن المؤمنين.
[3.175]
قوله تعالى: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه }؛ أراد بالشيطان نعيم بن مسعود؛ وكل عات متمرد فهو شيطان. وقيل: معناه: ذلك التخويف من عمل الشيطان ووسوسته، وقوله { يخوف أولياءه } يعني المنافقين ومن لا حقيقة في إيمانه. { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }؛ أي خافوني في ترك أمري.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى:
الذين استجابوا
[آل عمران: 172] أنزلت في حرب أحد، وذلك:
" أنه لما رجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة؛ قال لهم: " رحم الله قوما انتدبوا لهؤلاء المشركين ليعلموا أنا لم نستأصل " فانتدب قوم ممن أصابهم الجراح في ذلك اليوم فشدوا على المشركين حتى كشفوهم عن القتلى بعد أن مثلوا بحمزة، وقد كان هموا بالمثلة بقتلى المسلمين، فقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فانهزموا.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتلى ودفنهم، فجاء أناس من العرب وقد مروا بأبي سفيان وأصحابه بموضع يسمى حمراء الأسد، فقالوا للمسلمين: تركناهم متأهبين للرجوع إلى المدينة لقتل بقيتكم، فعند ذلك قال المسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمسير إليهم، فلما ساروا إلى حمراء الأسد وهي على رأس ثمانية أميال من المدينة لم يروا المشركين هناك؛ فانصرف المسلمون إلى المدينة بنعمة من الله وفضل؛ وهي كفايته لهم شر قريش حتى لم ينلهم منهم سوء "
وفي قوله
والله ذو فضل عظيم
[آل عمران: 174] بيان أنه تعالى تفضل عليهم من بعد بنعيم الدنيا والآخرة.
[3.176]
قوله تعالى: { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا }؛ قرأ نافع (يحزنك) بضم الياء وكسر الزاي في جميع ما كان في هذا الفعل في جميع القرآن إلا آية في الأنبياء
لا يحزنهم الفزع
[الأنبياء: 103]. وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان. وقرأ طلحة بن مصرف: (يسرعون في الكفر) والباقون (يسارعون).
ومعنى الآية: لا يحزنك يا محمد الذين يبادرون الجحد والتكذيب؛ وهم اليهود كانوا يكتمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وكان يشق على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: يعني كفار قريش كانوا يكذبونه، وكان الناس يقولون: لو كان حقا لاتبعه أقرباؤه، وكان ذلك يشق عليه. وقيل: نزلت هذه الآية في قوم ارتدوا عن الإسلام فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { إنهم لن يضروا الله شيئا } أي لم ينقصوا شيئا من ملك الله وسلطانه؛ { يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة }؛ نصيبا من الجنة؛ { ولهم عذاب عظيم }.
[3.177]
قوله عز وجل: { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا }؛ أي الذين اختاروا الكفر على الإيمان لا ينقص من ملك الله شيئا، وإنما أضر من أنفسهم حيث استوجبوا العذاب؛ { ولهم عذاب أليم }؛ أي وجع في الآخرة.
[3.178]
قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم }؛ قرأ حمزة بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لا تظنن يا محمد اليهود والنصارى والمنافقين إن إملاءنا لهم خير لهم من أن يموتوا كما مات شهداء أحد. وقيل: معناه: لا تحسبن يا محمد أملى لهم لخير وتوبة تقع منهم، { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } ، إنما إملاؤنا لهم لتكون عاقبة أمرهم أن يزدادوا بذلك معصية على معصية؛ { ولهم عذاب مهين }؛ يهانون فيه.
وقيل: إن المراد بالذين كفروا كفار مكة؛ أي لا تظنن ما أصابوه يوم أحد من الظفر خير لأنفسهم، وإنما كان ذلك ليزدادوا معصية فيزاد في عقوبتهم. وقرأ الباقون: (ولا تحسبن) بالتاء معناه: لا تحسبن الكفار إملاءنا إياهم خير لهم، والإملاء في اللغة: إطالة المدة والإمهال والتأخير، ومنه قوله
واهجرني مليا
[مريم: 46] أي دهرا طويلا. قال ابن مسعود: (ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة، أما الفاجرة فقد قال الله: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما }؛ وأما البرة فقد قال الله تعالى:
وما عند الله خير للأبرار
[آل عمران: 198].
[3.179]
قوله تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين على مآ أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشآء }؛ اختلفوا في تأويلها؛ قال الكلبي: (قالت قريش: يا محمد؛ تزعم أن من خالفك فهو في النار؛ والله عليه غضبان، ومن اتبعك على دينك فهو في الجنة؛ والله عنه راض، فخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: لم يكن الله ليترك من كان في علمه السابق أنه يؤمن، على ما أنتم عليه من الكفر حتى يميز الكافر والمنافق من المؤمن المخلص { وما كان الله ليطلعكم } يا أهل مكة على من يصير منكم مؤمنا قبل أن يؤمن، ولكن الله يصطفي بالنبوة والرسالة من يشاء فيوحي إليه بما يشاء؛ لأن الغيب لا يطلع عليه إلا الرسل بوحي من الله ليقيموا البرهان على أن ما أتوا به من عند الله؛ { فآمنوا بالله ورسله }؛ أي صدقوا، { وإن تؤمنوا وتتقوا }؛ الشرك والمعصية؛ { فلكم أجر عظيم }؛ في الجنة.
وقال بعضهم: الخطاب للكافرين والمنافقين، معنى الآية: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } يا معشر الكفار والمنافقين من الكفر والنفاق { حتى يميز الخبيث من الطيب }. وقيل: الخطاب للمؤمنين؛ أي ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق حتى يميز الخبيث.
قرأ الحسن وقتادة والكوفيون إلا عاصما: (يميز) بضم الياء والتشديد، وكذلك في الأنفال. والباقون بالتخفيف وفتح الياء من الميز وهو الفرق، ويسمى العاقل مميزا لأنه يفرق بين الحق والباطل، معناه: حتى تميز المنافق من المخلص، فيميز الله المؤمنين يوم أحد من المنافقين حين أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: معنى الآية: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } من الإقرار حتى يفرض عليهم الجهاد والفرائض ليميز بها من يثبت على إيمانه ممن ينقلب على عقبيه، وما كان ليطلعكم على الغيب؛ لأنه لا يعلمه إلا الله، ولكن الله يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على بعض علم الغيب.
وروي: أن الحجاج بن يوسف كان عنده منجم، فأخذ الحجاج حصيات بيده قد عرف عددها، فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب المنجم فأصاب، ثم اغتفله الحجاج فأخذ حصيات لم يعدها، قال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب المنجم فأخطأ، ثم حسب فأخطأ، فقال: أيها الأمير: أظنك لا تعرف عدده، قال: لا، فقال: إن ذلك الأول أحصيت عدده فخرج عن حد الغيب، فأصبت في حسابه. وهذا لم تعرف عدده فصار غيبا، والغيب لا يعلمه إلا الله.
[3.180]
قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون بمآ آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم }؛ من قرأ: { ولا تحسبن } بالتاء فمعناه: ولا تظنن يا محمد بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله من المال؛ فيمنعون من ذلك حق الله في الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر التي وجبت عليهم، لا تظنن ذلك خيرا لهم. وقوله (هو خير) للفصل، ويسميه الكوفيون العماد، ومعنى { بل هو شر لهم } أي بخلهم بحق الله شر لهم. ومن قرأ بالياء والفعل المباخلين؛ كأنه قال: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم.
قوله تعالى: { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }؛ أي سيأتون يوم القيامة بما بخلوا به من الزكاة ونفقة الجهاد كهيأة الطوق في أعناقهم، قال صلى الله عليه وسلم:
" يأتي كنز أحدكم شجاعا أقرع فيتطوق في عنقه يلدغه؛ حية في عنقه يطوق بها؛ وتقول: أنا الزكاة التي بخلت بي في الدنيا "
وقال بعضهم: يجعل ما بخل به من الزكاة حية في عنقه يطوق بها - أي يوم القيامة - تنهشه من قرنه إلى قدمه؛ وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك، ولا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس والشعبي والسدي.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما من ذي رحم يأتي إلى ذي رحمه يسأله من فضل ما أعطاه الله فيبخل به عليه؛ إلا أخرج الله له من جهنم شجاعا يتلمظ حتى يطوقه. ثم تلا هذه الآية "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" مانع الزكاة في النار "
وذهب بعضهم إلى أن المراد بهذه الآية اليهود؛ بخلوا بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى { سيطوقون } على هذا القول: وزره ومأثمه. والأظهر في هذه الآية: أنه البخل بالمال.
قوله تعالى: { ولله ميراث السموت والأرض }؛ تحريض الإنفاق؛ ومعناه: يموت أهل السموات وأهل الأرض كلهم من الملائكة والجن والإنس ولا يبقى إلا الله، وإذا كانت الأموال لا تبقى للإنسان ولا يحملها مع نفسه إلى قبره؛ فالأولى به أن ينفقها في الوجوه التي أمر الله بها؛ فيستوجب بها الحمد والثواب. قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ أي عالم بمن يؤدي الزكاة ومن يمنعها.
[3.181]
قوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء }؛ قال مجاهد: (لما نزل قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة: 245] قالت اليهود: إن الله يستقرض منا ونحن أغنياء). قال الحسن: (إن قائل هذه المقالة حيي ابن أخطب). قال عكرمة والسدي ومقاتل:
" كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى اليهود يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرض الله قرضا حسنا، فدخل أبو بكر مدارسهم؛ فوجد ناسا كثيرا منهم قد اجتمعوا على رجل يقال له فنحاص بن عازورا؛ وكان من علمائهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص: إتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل؛ فآمن وصدق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض منا أموالنا، وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقا فإن الله فقير ونحن أغنياء. فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والذي نفسي بيده؛ لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد؛ انظر ما صنع بي صاحبكم؟ فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: " ما حملك على ما صنعت؟ " فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال قولا عظيما زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فغضبت لله تعالى وضربت وجهه. فجحد فنحاص، فأنزل الله هذه الآية ردا على فنحاص، وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنيآء } ".
قوله تعالى: { سنكتب ما قالوا }؛ أي سيكتب الكاتبون الكرام عليهم بأمرنا قولهم؛ { وقتلهم الأنبياء بغير حق }؛ بلا جرم لهم فيجازيهم به. وقرأ حمزة والأعمش (سيكتب) بياء مضمومة وفتح التاء (وقتلهم الأنبياء) بالرفع. { ونقول }؛ بالياء اعتبارا بقراءة ابن مسعود، وقال: { ذوقوا عذاب الحريق }؛ أي النار، وإنما قال (الحريق) لأن النار اسم للملتهبة وغير الملتهبة، والحريق اسم منها.
[3.182]
قوله تعالى: { ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد }؛ أي يقال للكافرين ذلك بما قدمت أيديكم على الكفر وقتل الأنبياء صلوات الله عليهم، وقوله: { وأن الله ليس بظلام للعبيد } لا يعذب أحدا بغير ذنب ولا يمنع أحدا جزاءه حسب استحقاقه خيرا فعله أو شرا.
[3.183]
قوله تعالى: { الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار }؛ قال الكلبي: (نزلت في كعب بن الأشرف ومالك ابن الصيف ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازورا؛ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أتزعم يا محمد أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وأن الله قد عهد إلينا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك. فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: وسمع الله قول الذين قالوا إن الله عهد إلينا، ومحل { الذين } خفض ردا على { الذين } الأول؛ ومعناها: عهد إلينا: أمرنا وأوصانا في كتبه وعلى ألسنة رسله أن لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله { حتى يأتينا بقربان } وهو ما يتقرب به إلى الله من صدقة، وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل، وكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة فتقبل منهم؛ جاءت من السماء نار ولها دخان ولها دوي وخفيق فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة، فيكون ذلك علامة القبول، واذا لم يقبل بقي إلى حاله، فقال هؤلاء اليهود: (إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) كما كان في زمن موسى وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم السلام.
وكان هذا القول منهم كذبا على الله واعتلالا ومدافعة في الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لا إحتجاجا صحيحا؛ فاحتج الله عليهم بقوله: { قل قد جآءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم }؛ أي قل يا محمد قد جاءكم رسل من قبلي بالعلامات الواضحات والمعجزات { وبالذي قلتم } من أمر القربان، { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين }؛ في مقالتكم. وكانوا قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم، وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم.
[3.184]
قوله تعالى: { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك }؛ فإن كذبوك يا محمد فلست بأول رسول كذب، فقد كذب نوح وهود وصالح وغيرهم؛ { جآءوا بالبينات }؛ أي بالعلامات الواضحات؛ { والزبر }؛ وهو جمع زبور؛ وهو كل كتاب ذي حكمة؛ يقال: زبرت إذا كتبت؛ وزبرت إذا قرأت. وأما { والكتاب المنير }؛ فهو الكتاب المبين للحلال والحرام.
[3.185]
قوله تعالى: { كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة }؛ قرأ الأعمش: (ذائقة) بالتنوين، ونصب (الموت)، قال ابن عباس: (لما نزل قوله تعالى :
كل من عليها فان
[الرحمن: 26] قالت الملائكة: هلك أهل الأرض. فلما نزلت هذه الآية أيقنت الملائكة بالهلاك). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما خلق الله آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها؛ فوعدها أن يرد إليها ما أخذ منها، فما من أحد إلا يدفن في التربة التي أخذ منها "
ورأى أبو هريرة قبرا جديدا، فقال: (سبحان الله! انظروا كيف سبق هذا العبد إلى تربته التي خلق منها).
قوله تعالى: { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } أي تعطون جزاء أعمالكم يوم القيامة، إن خيرا فخير؛ وإن شرا فشر، لا تغتروا بنعم الكفار، ولا تحزنوا لشدائد المؤمنين، فإن كلا الفريقين يتفرقون؛ فلا بؤس يبقى ولا نعيم في الدنيا.
قوله تعالى: { فمن زحزح عن النار }؛ أي أبعد عنها؛ { وأدخل الجنة فقد فاز }؛ أي نجا وسعد وظفر بما يرجو. قوله تعالى: { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور }؛ متاع الدنيا مثل القدر والقصعة والفأس، يتمتع بهذه الأشياء؛ أي ينتفع بها ثم تذهب فتفنى، كذلك الحياة الدنيا. وقيل: { متاع الغرور } ما يغر به الإنسان في الحال، فكما أن التاجر يهرب من متاع الغرور وهو ما يسرع إليه الفساد مثل الزجاج، والذي يسرع إليه الكسر ويصلحه الجبر؛ كذلك ينبغي للحي أن يهرب من الدنيا الفانية إلى متاع الآخرة.
وعن عبد الله بن عمر؛ قال: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سجيناه بثوب، وجلسنا حوله نبكي، فأتانا آت نسمع صوته ولا نرى شخصه، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقلنا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقال: { كل نفس ذائقة الموت } إلى آخر الآية، ثم قال: إن في الله خلفا لكل هالك؛ وعزاء من كل مصيبة؛ ودركا من كل فائت، فبالله فاتقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب). قال: (فتحدثنا أنه جبريل عليه السلام).
[3.186]
قوله تعالى: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم }؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر الجنة أتى عقبها بما يدعو إليها ويوجبها فقال: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } أي لتختبرن بالنقص والذهاب في الأموال، وفي أبدانكم بالأمراض والأوجاع. ويقال: إن المراد بالإبتلاء فرائض الدين مثل الجهاد في سبيل الله والإنفاق فيه.
قوله تعالى: { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا }؛ معناه: ولتسمعن من اليهود والنصارى ومشركي العرب كلام أذى كثيرا. أما من اليهود فقولهم: عزير ابن الله، وقولهم: إن الله فقير ونحن أغنياء. ومن النصارى قولهم: المسيح ابن الله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة. ومن المشركين قولهم: الملائكة بنات الله، وعبادتهم الأوثان ونصبهم الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والأذى: ما يكره الإنسان ويغتم به.
قال الزهري:
" نزلت في كعب بن الأشرف؛ وذلك أنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سمره حتى آذاهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " من لي بابن الأشرف؟ " فقال محمد بن مسلمة الأنصاري: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله، قال: " أفعل إن قدرت على ذلك " ، قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا بد لنا أن نقول؟ قال: " قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك ".
واجتمع محمد بن مسلمة، وأبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، وهو سلكان بن سلامة بن وقش، وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس، وأبو عبس ابن جبر، ومشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم، فقال: " انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم ".
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، فأتوا حتى انتهوا إلى حصنه؛ فقوموا أبا نائلة لأنه أخوه من الرضاعة، فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال: يا كعب؛ إني جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتمها علي، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء علينا؛ عادتنا العرب فرمونا عن قوس واحدة؛ وانقطعت عنا السبيل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب ابن الأشرف: أما والله لقد أخبرتك أن الأمر سيصير إلى هذا. فقال أبو نائلة: إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا من طعامك ونرهنك ونوثق لك سلاحا، وقد علمت حاجتنا اليوم إلى السلاح، فقال: هاتوا سلاحكم، وأراد أبو نائلة يذكر السلاح حتى لا ينكر السلاح إذا رآه، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره، فأقبلوا إليه حتى انتهوا إليه، وكان كعب حديث عهد بعرس.
فبادأه أبو نائلة فوثب في ملحفه؛ فأخذت امرأته بناصيته وقالت: إنك رجل محارب وصاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة، فقال: إن هؤلاء وجدوني نائما ما أيقظوني؛ وإنه أبو نائلة أخي، قالت: فكلمهم من فوق الحصن، فأبى عليها، فنزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا له: يا ابن الأشرف؛ هل لك أن نتماشى ونتحدث ساعة؟ فمشى معه ساعة، ثم إن أبا نائلة جعل يده على رأس كعب ثم شمها وقال: ما شممت طيب عرس قط مثل هذا! قال كعب: إنه طيب أم فلان؛ يعني امرأته.
ثم مشى ساعة، فعاد أبو نائلة لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة، ثم عاد بمثلها، ثم أخذ بفود رأسه حتى استمكن، ثم قال لأصحابه: اضربوا عدو الله؛ فاختلفت عليه أسيافنا فلم تغن شيئا، قال محمد بن مسلمة فركزت مغولا في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فصاح صيحة لم يبق من حولها حصن إلا وقد أوقد نارا، فوقع عدو الله على الأرض، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه؛ أصابه بعض أسيافنا، فنزفه الدم وأبطأ علينا؛ فوقفنا له ساعة، ثم احتملناه وجئنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا؛ فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه، وتفل على جرح صاحبنا فبرأ، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدو الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " من ظفرتم به من رجل يهود فاقتلوه ".
قوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور }؛ أي إن تصبروا على أذى الكفار وتتقوا معصية الله فإن ذلك من عزم الأمور وخيرها؛ أي من حقيقة الإيمان.
[3.187]
قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه }؛ أي قد أخذ الله ميثاق أهل الكتاب ليبين الكتاب بما فيه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته للناس ولا يخفون شيئا من ذلك. قرأ عاصم وأبو عمرو وابن كثير بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيها.
قوله تعالى: { فنبذوه ورآء ظهورهم }؛ أي ضيعوه وتركوا العمل به، يقال للذي ترك العمل به: جعله خلف ظهره. قوله تعالى: { واشتروا به ثمنا قليلا }؛ أي اختاروا بكتمان نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته عرضا يسيرا من المآكل والهدايا التي كانت لعلمائهم من رؤسائهم، { فبئس ما يشترون }؛ أي يختارون الدنيا على الآخرة.
[3.188]
قوله تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون بمآ أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا }؛ قرأ اهل الكوفة: (يحسبن) بالياء، وقرأ غيرهم بالتاء، فمن قرأ بالياء فمعناه: لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب، ومن قرأ بالتاء فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: { فلا تحسبنهم } إعادة توكيد. قرأ الضحاك بالتاء وضم الباء أراد محمدا وأصحابه. وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمر بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين؛ أي لا يحسبن أنفسهم.
واختلفوا فيمن نزلت، فقال مجاهد وعكرمة: (نزلت في اليهود وكانوا يقولون: نحن أهل الصلاة والصوم والكتاب الأول والعلم الأول، يريدون الفخر والسمعة والرياء لكي يثني عليهم ويحمدهم سفلتهم على ما يفعلون من بيان صفة كتابهم). وقال عطاء: (نزلت في المنافقين؛ كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويخالطون المسلمين ويراؤن بالأعمال التي يحبون أن يحمدوا ويمدحوا على ذلك).
قوله تعالى: { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب }؛ أي لا تظنهم يا محمد بمنجاة؛ أي بعد من العذاب، { ولهم عذاب أليم }؛ وجيع في الآخرة، وتكرار { لا تحسبن } لطول القصة. ويجوز أن يكون خبر { لا تحسبن } الأول مضمرا تقديره: لا يحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لن يفعلوا ناجين، ومن قرأ (بما أوتوا) بالمد؛ فمعناه: بما أعطوا من النفقة والصدقة. ومن قرأ (بما أتوا) بما أعطوا من الدنيا.
[3.189]
قوله تعالى: { ولله ملك السموت والأرض والله على كل شيء قدير }؛ أي ولله خزائن السماوات والأرض، فخزائن السماوات المطر، وخزائن الأرض النبات، ووجه اتصال هذه الآية بما سبق أن في هذا تكذيب اليهود في قولهم: إن الله فقير، ونحن أغنياء، وبيان أن من كان مالك السماوات والأرض قادر على الانتقام من الكفار، والإثابة للمؤمنين وعلى كل شيء.
[3.190]
قوله تعالى: { إن في خلق السموت والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب }؛ معناه إن في خلق السماوات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم، والأرض بما فيها من الجبال والشجر والنبات والدواب واختلاف الليل والنهار في المجيء والذهاب واللون لعلامات واضحات لذوي العقول على توحيد الله.
[3.191]
قوله تعالى: { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم }؛ بيان لصفة أولي الألباب، ومعنى الذكرالمطلق؛ أي يذكرون الله في جميع أحوالهم، وقيل: المراد به الصلاة؛ أي لا يتركون الصلاة؛ صحوا أو مرضوا، يصلون قياما إن استطاعوا؛ أو جلوسا إن لم يستطيعوا القيام؛ ومضطجعين إن لم يستطيعوا الجلوس.
قوله تعالى: { ويتفكرون في خلق السموت والأرض }؛ أي في عظم شأنهما ومن فيهما من الآيات والعبرات؛ القائلين: { ربنآ ما خلقت هذا باطلا }؛ أي ما خلقت هذا الخلق للباطل والعبث؛ بل خلقته دليلا على وحدانيتك وصدق ما أتت به أنبياؤك.
قوله تعالى: { سبحانك }؛ أي تنزيها لك وبراءة لك من أن تكون خلقتهما باطلا؛ { فقنا }؛ فادفع؛ { عذاب النار }؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ذكر الله علم الإيمان؛ وبراءة من النفاق؛ وحصن من الشيطان؛ وحرز من النيران "
قوله تعالى: { ويتفكرون في خلق السموت والأرض } أي لهما صانع قادر مريد حكيم، وكان سفيان الثوري يبول الدم من طول حزنه وفكرته، وكان إذا رفع رأسه إلى السماء فرأى الكواكب غشي عليه.
وانتصب قوله { باطلا } بنزع الخافض؛ أي ما خلقته للباطل، فقيل على المفعول الثاني، وقوله: { ما خلقت هذا باطلا } ذاهبا به إلى لفظ الخلق، ولو رده إلى السماء والأرض لقال: هذه.
[3.192]
قوله تعالى: { ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته }؛ أي فقد أهنته وذللته؛ وقيل: أهلكته؛ وقيل: فضحته؛ { وما للظالمين من أنصار }؛ أي ما لهم من مانع يمنعهم مما يراد دونهم من العذاب.
[3.193]
قوله تعالى: { ربنآ إننآ سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا }؛ أي يقولون ربنا إننا سمعنا محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إلى الإيمان أن آمنوا بربكم فأجبنا إلى ما دعانا إليه وأمرنا به. وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي هو القرآن؛ يدعو الناس كلهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقوله: { للإيمان } أي إلى الإيمان، كقوله
لما نهوا عنه
[الأنعام: 28].
قوله تعالى: { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا }؛ أي اغفر لنا الكبائر وما دونها؛ { وكفر عنا سيئاتنا }؛ أي شركنا في الجاهلية، { وتوفنا مع الأبرار }؛ أي اجعل أرواحنا مع أرواح الأنبياء والصالحين الذين كانوا قبلنا.
[3.194]
قوله تعالى: { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك }؛ أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك، { ولا تخزنا يوم القيامة }؛ أي لا تعذبنا، { إنك لا تخلف الميعاد }؛ من الثواب والجنة للمؤمنين، فإن قيل: ما فائدة قولهم { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } وقد علموا أن الله لا يخلف الميعاد؟ قيل: فائدته التعبد والخضوع ورفع الحاجة إليه في عموم الأحوال.
[3.195]
قوله تعالى: { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض }؛ قال الكلبي: (معنى في الدين والنصرة والموالاة). وقيل: حكم جميعكم في الثواب واحد، وقيل: كلكم من آدم وحواء. وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله؛ إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة، ولا يذكر النساء بشيء، فأنزل الله هذه الآية { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض }. قال الضحاك: (معناه: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطاعة).
قوله تعالى: { فالذين هاجروا وأخرجوا من ديرهم وأوذوا في سبيلي }؛ الآية أي الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وأخرجوا من أوطانهم وأوذوا في طاعتي، { وقتلوا }؛ المشركين مع محمد صلى الله عليه وسلم، وقتلهم العدو.
قوله تعالى: { وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم }؛ ذنوبهم، { ولأدخلنهم جنت تجري من تحتها الأنهر }؛ أي بساتين تجري من تحت شجرها ومساكنها الأنهار، { ثوابا }؛ جزاء، { من عند الله }؛ انتصب (ثوابا) على المصدر؛ معناه: لآتينهم ثوابا. قوله تعالى: { والله عنده حسن الثواب }؛ أي حسن الجزاء للموحدين المطيعين.
قرأ محارب بن دثار: (وقاتلوا وقتلوا) بالفتح. وقال يزيد بن حازم: (سمعت عمر بن عبدالعزيز يقرأ: وقتلوا وقتلوا؛ يعني أنهم قتلوا المشركين، ثم قتلهم المشركون). وقرأ أبو رجاء وطلحة والحسن: (وقتلوا وقتلوا) بالتشديد. وقرأ عاصم وأبو عمرو ونافع: (وقاتلوا وقتلوا) بالتخفيف أي قاتلوا ثم قتلوا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (وقتلوا وقاتلوا) أي وقاتل من بغى منهم، وقيل معناه: وقاتلوا وقد قاتلوا؛ وأضمر فيه (قد).
[3.196-197]
قوله تعالى: { لا يغرنك }؛ أي لا يحزنك ولا يعجبك، { تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل }؛ إمتداد هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والمراد به أصحابه؛ كأنه قال: لا يغرنك أيها السامع ذهاب اليهود ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض؛ منفعة يسيرة في الدنيا تنقطع وتفنى؛ { ثم مأواهم }؛ مصيرهم إلى؛ { جهنم وبئس المهاد }؛ أي بئس الفراش النار.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغره شيء لتحذير الله إياه عن الاغترار بشيء وتأديبه إياه. وقيل: نزلت في مشركي العرب؛ كانوا في رخاء من العيش، وكانوا ينحرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير؛ ونحن قد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية.
وقرأ يعقوب: (لا يغرنك) بإسكان النون. قوله تعالى: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } أي تصرفهم في الأرض للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب. وقوله: { متاع قليل } أي متاع قليل فان. قال النخعي: (إن الدنيا جعلت قليلا؛ وما بقي منها إلا قليل من قليل).
[3.198]
قوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله }؛ تقدير هذه الآية مع ما قبلها: لا يعجبك يا محمد تقلب أولئك الكفار في نعيم الدنيا، بل ما أعطي المتقون في الآخرة أفضل، فإن { الذين اتقوا ربهم } أي وحدوه وأطاعوه { لهم جنات } أي بساتين تجري من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار مقيمين فيها.
قوله تعالى: { نزلا } أي رزقا وثوابا لهم، وهذا نصب على التفسير؛ كما يقال للشيء: هبة أو صدقة. ويجوز أن يكون نصبا على المصدر على معنى: انزلوا نزلا، والنزل: ما يهيأ للنازل من كرامة وبر وطعام وشراب ومنظر حسن.
قوله تعالى: { وما عند الله خير للأبرار }؛ أي من عند الله من الجزاء والثواب خير للصالحين من ما لهم في الدنيا. قرأ أبو جعفر: (لكن الذين) بالتشديد. وقرأ الحسن والنخعي: (نزلا) ساكنة الزاي.
روى أنس بن مالك قال:
" دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على سرير، وتحت رأسه وسادة من أدم وحشوها ليف، فدخل عليه عمر رضي الله عنه فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم انحرافة؛ فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: " ما يبكيك يا عمر؟ " فقال: وما لي لا أبكي يا رسول الله! وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال: " يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ " فقال: بلى، قال: " هو كذلك " ".
[3.199]
قوله تعالى: { وإن من أهل الكتب لمن يؤمن بالله ومآ أنزل إليكم ومآ أنزل إليهم }؛ معناه: إن من أهل الكتاب لمن يصدق بالله والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب الله، وهم: عبدالله بن سلام وأصحابه؛ { خشعين لله }؛ أي ذليلة أنفسهم لله؛ { لا يشترون بآيت الله }؛ بمحمد والقرآن؛ { ثمنا قليلا }؛ عرضا يسيرا كما فعله رؤساء اليهود؛ { أولئك لهم أجرهم عند ربهم }. وقال قتادة:
" نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة؛ لما مات نعاه جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي في اليوم الذي مات فيه؛ فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ". قالوا: ومن هو؟ قال: " النجاشي " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة؛ فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه واستغفر له؛ وقال لأصحابه: " استغفروا له ". فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط، وليس على دينه! "
فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: { خشعين لله } تنصب على الحال. قوله تعالى: { لا يشترون بآيت الله ثمنا قليلا } أي لا يحرفون كتبهم، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل المآكل والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود. قوله تعالى: { إن الله سريع الحساب }؛ فقد تقدم تفسيره.
[3.200]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله }؛ أي { اصبروا وصابروا ورابطوا } أي اصبروا على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وصابروا أعداءكم في الجهاد في مقاتلتهم، ورابطوا خيولكم على الجهاد. والرباط والمرابطة: أن يربط كل واحد من الفريقين خيولهم في الثغر. وقيل: المرابطة: المحافظة على الصلوات.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " إسباغ الوضوء على المكاره؛ وكثرة الخطا إلى المساجد؛ وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط " ".
وقال الضحاك: (معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا اصبروا على أمر الله). وقال الكلبي: (اصبروا على البلاء)، وقالت الحكماء: الصبر ثلاثة أشياء: ترك الشكوى؛ وصدق الرضا؛ وقبول القضاء. وقيل: الصبر: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
قوله تعالى: { وصابروا } الكفار { ورابطوا } بمعنى داوموا وأثبتوا. قال صلى الله عليه وسلم:
" من رابط يوما في سبيل الله كان كصيام شهر وقيامه، ومن توفي في سبيل الله أجرى الله له أجره حتى يقضي بينه وبين أهل الجنة وأهل النار، ومن رابط يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار سبعة خنادق؛ كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين "
قال بعضهم في هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } عند قيام النفير على احتمال الكرب، { وصابروا } على مقاساة العناء والتعب، { ورابطوا } في دار أعدائي بلا هرب، واتقوا عدوكم من الألتفات الى السبب لكي تفلحوا غدا بلقائي عند بساط القرب. وقال السري السقطي: (اصبروا على الدنيا رجاء السلامة، وصابروا عند القتال بالثبات والاستقامة، ورابطوا هوى النفس اللوامة، واتقوا ما يعقب لكم الندامة، { لعلكم تفلحون }؛ غدا على بساط الكرامة.
وقيل: معناه: اصبروا على بلائي، وصابروا بالشكر على نعمائي، ورابطوا في دار أعدائي، واتقوا محبة من سواي لعلكم تفلحون بلقائي. وقيل: اصبروا على البغضاء؛ وصابروا على البأساء والضراء؛ ورابطوا في دار الأعداء؛ واتقوا إله الأرض والسماء؛ لعلكم تفلحون في دار البقاء. وعن جعفر الصادق قال: (معنى هذه الآية: اصبروا على المعاصي؛ وصابروا مع الطاعات؛ ورابطوا الأرواح بالمساجد، واتقوا الله لكي تبلغوا مواقف أهل الصدق؛ فإنها محل الفلاح). والله أعلم.
[4 - سورة النساء]
[4.1]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها }؛ قال ابن عباس: (قد يكون { يأيها الناس } عاما؛ وقد يكون خاصا لأهل مكة؛ وهو ها هنا عام لجميع الناس، ومعناه: أجيبوا ربكم وأطيعوه). وقوله تعالى: { خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم، وإنما أتت النفس لاعتبار اللفظ دون المعنى. قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى
وأنت خليفة ذاك الكمال
فقال: ولدته أخرى؛ لأن لفظ الخليفة مؤنث.
وإنما من الله علينا بأن خلقنا من نفس واحدة؛ لأن ذلك أقرب إلى أن يعطف بعض على بعض، ويرحم بعضنا بعضا لرجوعنا في القرابة إلى أصل واحد.
قوله تعالى: { وخلق منها زوجها } أي وخلق من نفس آدم زوجها حواء؛ خلقها من ضلع من أضلاعه اليسرى وهي القصرى بعد ما ألقي عليه النوم فلم يؤذه، ولو آذاه لما عطف عليها أبدا. قال صلى الله عليه وسلم:
" إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن أردت أن تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها على عوج "
قوله تعالى: { وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء }؛ أي بشرا وفرقا، وأظهر من آدم وحواء خلقا كثيرا من الرجال والنساء. قوله تعالى: { واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام }؛ أي اتقوا معاصي الله، { #1649;لذي تسآءلون به } أي يتساءل بعضكم بعضا من الجوارح والحقوق؛ يقول الرجل للرجل: أسألك بالله افعل لي كذا.
قرأ أهل الكوفة: (تساءلون) مخففا، وقرأ الباقون بالتشديد. قوله تعالى: { والأرحام } قرأ عامة القراء بنصب (الأرحام) على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
وقرأ النخعي وقتادة والأعمش وحمزة بالخفض على معنى: وبالأرحام على معنى: تساءلون بالله وبالأرحام؛ فيقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم. والقراءة الأولى أفصح؛ لأن العرب لا تعطف بظاهر على مضمر مخفوض إلا بإعادة الخافض، لا يقولون: مررت به وزيد، ويقولون: به وبزيد، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر:
قد كنت من قبل تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب
قوله تعالى: { إن الله كان عليكم رقيبا }؛ أي حفيظا لأعمالكم، والرقيب هو الحافظ، وقال بعضهم: عليما؛ والعليم والحافظ متهاديان؛ لأن العليم بالشيء حافظ له.
[4.2]
قوله تعالى: { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب }؛ قال مقاتل والكلبي:
" نزلت هذه الآية في رجل من غطفان؛ كان في يده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله، فمنعه العم فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: { إنه كان حوبا كبيرا }. فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: أطعنا الله وأطعنا الرسول ونعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع ماله إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: " من يوق شح نفسه ويطيع ربه هكذا فإنه يحل داره إلى جنة " فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " ثبت الأجر وبقي الوزر " فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: " ثبت الأجر للغلام؛ وبقي الوزر على والده " لأن الوالد كان مشركا ".
وإنما سمى الله تعالى البالغ يتيما، ولا يتم بعد البلوغ استصحابا بالاسم الأول، كما قال تعالى:
وألقي السحرة ساجدين
[الأعراف: 120] ولا سحر مع السجود، ولأنه قريب عهد باليتم.
قوله تعالى: { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموال اليتامى. قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك: (كان أوصياء اليتامى وأولياؤهم يأخذون الجيد من مال اليتيم، ويجعلون مكانه الرديء، وربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم، ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويجعل مكانه الزيف ويقول: درهم بدرهم؛ فذلك تبديلهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك).
وقال مجاهد: (معنى الآية: لا تجعل رزقك الحلال حراما؛ تتعجله بأن تستهلك مال اليتيم، فتنفقه على نفسك، وتحر فيه لنفسك وتعطيه غيره، فيكون ما يأخذه من مال اليتيم حراما خبيثا، وتعطيه مالك الحلال، ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها). وفي هذا دليل على أنه لا يجوز لولي اليتيم أن يستقرض مال اليتيم ولا أن يستبدله من نفسه، وقيل: معنى { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي لا تجعل الزيف بدل الجيد؛ ولا المهزول بدل السمين.
قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }؛ كقوله تعالى:
من أنصاري إلى الله
[آل عمران: 52] أي مع الله، وقيل معناه: لا تأكلوا أموالهم مضيفين إلى أموالكم؛ لأنهم كانوا يخلطون أموال اليتامى بأموالهم حتى يصير دينا عليهم، ثم كانوا يبيعونها مع أموالهم ويربحون عليها ويستبدون بتلك الأرباح. قوله تعالى: { إنه كان حوبا كبيرا }؛ أي إثما عظيما، وفيه ثلاث لغات: قراءة العامة: (حوبا) بالضم وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهي لغة أهل الحجاز، وقراءة الحسن (إنه كان حوبا) بفتح الحاء وهي لغة تميم، وقراءة أبي بن كعب: (حابا) على المصدر مثل القال، ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد، ويقال للذنب: حوب وحوب وحاب.
[4.3]
قوله تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النسآء مثنى وثلث وربع }؛ قال ابن عباس: (لما نزل قوله تعالى:
إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما
[النساء: 10] الآية، خاف الناس أن لا يعدلوا في أموال اليتامى - وكانوا يتزوجون من النساء ما شاءوا - فنزلت هذه الآية).
ومعناها: إن خفتم أن لا تعدلوا في أموال اليتامى؛ فخافوا في النساء إذا اجتمعن عندكم أن لا تعدلوا بينهن، فتزوجوا ما حل لكم من النساء، ولا تنكحوا إلا ما يمكنكم إمساكهن: ثنتان ثنتان؛ وثلاث ثلاث؛ وأربع أربع، ولا يزيدوا على أربع حرائر. وقيل: معنى الآية: إن خفتم أن لا تعدلوا يا معشر الأولياء في اليتامى إذا تزوجتم بهن؛ فانكحوا ما حل لكم من النساء غيرهن. وقال مجاهد: (معناه: إن خفتم في ولاية اليتامى إيمانا وتصديقا؛ فخافوا في الزنا، وانكحوا الطيب من النساء).
وقال بعضهم: كانوا يتحرجون عن أموال اليتامى، ويترخصون في النساء، ولا يعدلون فيهن ويتزوجون منهن ما شاءوا فربما عدلوا، وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن أموال اليتامى، أنزل الله تعالى
وآتوا اليتامى أموالهم
[النساء: 2]، وأنزل { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } ، أي كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى وهمكم ذلك؛ فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن؛ ولا تزوجوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن والقيام بحقهن؛ لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز، فما لكم تراقبون الله في شيء، وتعصونه في مثله، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي، ورواية ابن عباس.
والإقساط في اللغة: العدل، يقال: أقسط؛ إذا عدل، وقسط؛ إذا جار، وإنما قال: (ما طاب) ولم يقل من طاب؛ لأن (ما) مع الفعل بمنزلة المصدر، كأنه قال: فانكحوا الطيب، يعني الحلال من النساء. وقرأ ابن أبي عبلة: (من طاب)؛ لأن (ما) لما لا يعقل و (من) لمن يعقل، إلا أن عامة القراء والعلماء يقولون: إن العرب تجعل (ما) بمعنى (من)؛ و (من) بمعنى (ما)، وقد جاء القرآن بذلك: قال الله تعالى:
والسمآء وما بناها
[الشمس: 5]، وقال تعالى:
فمنهم من يمشي على بطنه
[النور: 45]، وقال تعالى:
قال فرعون وما رب العالمين
[الشعراء: 23].
قوله تعالى: { مثنى وثلث وربع } بدل من (طاب لكم) وهو مما لا ينصرف، لأن { مثنى } معدول عن اثنين وذلك نكرة، و (ثلاث) معدول عن ثلاثة.
وذهب بعض الروافض إلى استحلال تسع استدلالا بهذه الآية، وليس ذلك بشيء، فإن الواو هنا بمعنى (أو)،
" وروي عن قيس بن الحارث: أنه كان عنده ثماني نسوة ، فلما نزلت هذه الآية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك أربعا ويفارق أربعا، وقال صلى الله عليه وسلم لغيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة: " أمسك منهن أربعا؛ وفارق سائرهن " ".
قوله تعالى: { فإن خفتم ألا تعدلوا فوحدة أو ما ملكت أيمنكم }؛ معناه: وإن خفتم أن لا تعدلوا في القسمة والنفقة بين النساء الأربع التي أحل الله لكم؛ فتزوجوا امرأة واحدة لا تخافون الميل في أمرها، واقتصروا على الإماء حتى لا تحتاجوا إلى القسم بينهن يعني السراري. وقول الحسن وأبي جعفر: (فواحدة) بالرفع؛ أي فواحدة كافية؛ أو فلتكن واحدة. وقرأ العامة نصبا أي فانكحوا واحدة. قوله تعالى: { أو ما ملكت أيمنكم } ذكر الأيمان توكيدا؛ تقديره: أو ما ملكتم.
قوله تعالى: { ذلك أدنى ألا تعولوا }؛ أي التزوج بالواحدة، والإقتصار على ملك اليمين أقرب إلى أن لا تعولوا. قال: أن لا تجوروا وأن لا تميلوا: ألا تجور. والعول: مجاوزة الحد، ومنه العول في الفرائض: مجاوزة مخرج الفرائض. روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { ألا تعولوا } قال:
" ألا تجوروا، أو أن لا تميلوا "
وأما من قال معنى: أن لا تعولوا: لا تكثر عيالك، وهذا محكي عن الشافعي رحمه الله، فقد قيل: إنه خطأ في اللغة؛ لأنه لا يقال في كثرة العيال: عال يعول، وإنما يقال: عال يعيل إذا صار ذا عيال، وفي الآية ما يبطل هذا التأويل وهو قوله تعالى: { أو ما ملكت أيمنكم } لأن إباحة كل ما ملك اليمين أزيد في العيال من أربع نسوة. وقرأ طاووس: (أن لا يعيلوا) من العيلة؛ يقال: عال الرجل يعيل؛ إذا افتقر، والعيلة: الفقر. قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه
وما يدري الغني متى يعيل
[4.4]
قوله تعالى: { وآتوا النسآء صدقتهن }؛ قال الكلبي: (هذا خطاب للأولياء، كان الولي إذا زوج امرأة، فإن كان زوجها معهم في العشيرة لم يعطها الولي من مهرها قليلا ولا كثيرا، وإن كان زوجها غريبا حملوها على بعير إلى زوجها، ولا يعطونها من مهرها غير ذلك البعير، فنهاهم عن ذلك وأمرهم أن يعطوها الحق أهله). وقال مقاتل وأكثر أهل التفسير: (هذا خطاب للأزواج، كان الرجل يتزوج المرأة فلا يعطيها مهرها، فأمروا أن يعطوا نساءهم مهورهن التي هي أثمان فروجهن) وهذا القول أضح وأوضح. والصدقات: المهور، واحده صدقة بضم الدال.
وقوله تعالى: { نحلة } قال قتادة: (فريضة واجبة)، وقال ابن جريج: (فريضة مسماة)، وقال الكلبي: (عطية وهبة)، وقال أبو عبيدة: (عن طيب نفس)، قال الزجاج: (تدينا). وقيل: معناه: عطية من الله تعالى للنساء حيث جعل المهر لهن، ولم يوجب عليهن شيئا من القوم مع كون الاستمتاع مشتركا بينهن وبين الأزواج. وقيل معنى { نحلة }: ديانة، فانتصب { نحلة } على المصدر، وقيل: على التفسير.
وروي عن رسول الله أنه قال:
" من ادان دينا وهو ينوي أن لا يؤديه لقي الله سارقا، ومن أصدق امرأة صداقا وهو ينوي أن لا يوفيها لقي الله زانيا "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج "
قوله تعالى: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا }؛ أي إن أحللن لكم عن شيء من المهر، وإن وهبن لكم منه شيئا. ونصب { نفسا } على التمييز إذا قيل { طبن لكم } لم يعلم في أي صنف وقع الطيب، فكأنه قال: إن طابت أنفسهن بهبة شيء من المهر فكلوا الموهوب لكم هنيئا لا إثم فيه، مريئا لا ملامة فيه. قال الحضرمي: (إن ناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساق إلى امرأته). قال الله تعالى: { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } من غير إكراه ولا خديعة { فكلوه هنيئا مريئا } أي شافيا طيبا.
وقيل معناه: فكلوه دواء شافيا، وقيل: الهنيء: الطيب المساغ الذي لا يغصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة الذي لا يضر ولا يؤذي، تقول: لا تخافون في الدنيا منه مطالبة، ولا في الآخرة بتبعة، يقال: هنأني لي الطعام ومرأني، فإذا أفرد يقال: أمرأني ولا يقال إهنأني، وهنيئا مصدر.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (إذا كان أحدكم مريضا فليسأل امرأته درهمين من مهرها تهب له بطيبة نفسها؛ فليشتر بذلك عسلا، ويشربه مع ماء المطر، فقد اجتمع الهنيء والمريء والشفاء والماء المبارك). لأن الله تعالى سمى المهر هنيئا مريئا إذا وهبته المرأة لزوجها؛ وسمى العسل شفاء؛ وسمى المطر ماء مباركا، فإذا اجتمعت هذه الأشياء يرجى له الشفاء.
[4.5]
قوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهآء أموالكم التي جعل الله لكم قيما }؛ أي لا تعطوا الجهال بمواضع الحق - وهم النساء والصبيان - أموالكم التي جعل الله لكم قوام أمركم ومعيشتكم؛ أي جعلكم تقومون به قياما إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة، وأن ولده سفيه مفسد، فلا ينبغي له أن يسلط أحدا منهما على ماله الذي هو قوام أمره. ومن قرأ (قيما) فمعناه: التي جعلها الله لكم قيمة للأشياء فبها تقوم أموركم.
وقال مجاهد: (نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وهن سفهاء؛ كن أزواجا، أو بنات أو أمهات). وعن الضحاك: (النساء من أسفه السفهاء) يدل على هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم:
" ألا إنما خلقت النار للسفهاء - قالها ثلاثا - ألا إن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها "
وعن أنس رضي الله عنه قال:
" جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله؛ بلغني أنك تقول فينا كل شيء، قال: " أي شيء قلت فيكن؟ " قالت: سميتنا السفهاء، قال: " الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه " قالت: وسميتنا النواقص، قال: " فكفى نقصا أن تترك كل واحدة منكن الصلاة في كل شهر خمسة أيام لا تصلي فيها " - يعني أيام حيضها - ثم قال صلى الله عليه وسلم: " أما يكفي إحداكن إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله، فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة عتق رقبة من ولد إسماعيل، فإذا سهرت كان لها بكل سهرة عتق رقبة من ولد إسماعيل، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير " فقالت السوداء: أيا له فضلا لولا ما تبعه من الشروط ".
وروي: أن امرأة مرت بعبدالله بن عمر لها شارة وهيئة، فقال لها ابن عمر: { ولا تؤتوا السفهآء أموالكم }. وقال معاوية بن مرة: (عودوا نساءكم (لا)، فإنهن سفيهات، إن أطعت المرأة أهلكتك).
وعن أبي موسى الأشعري قال: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه، ورجل أعطى سفيها ماله، وقد قال الله تعالى: { ولا تؤتوا السفهآء أموالكم } أي الجهال بمواضع الحق).
قوله تعالى: { التي جعل الله لكم قيما }. قرأ ابن عمر (قواما) بفتح القاف والواو، وقرأ عيسى بن عمر (قواما) بكسر القاف وهما لغات. وقرأ الأعرج ونافع وابن عامر (قيما) بكسر القاف من غير ألف. وقرأ الباقون (قياما) بالألف.
قوله تعالى: { وارزقوهم فيها واكسوهم }؛ أي أطعموا النساء والأولاد واكسوهم من أموالكم. { وقولوا لهم قولا معروفا }؛ أي عدوهم عدة حسنة، نحو أن يقول الرجل: سأفعل كذا إن شاء الله، وقيل: ردوا عليهم ردا جميلا، وقولوا لهم قولا لينا تطيب به أنفسهم. والرزق من الله تعالى: العطية غير المحدودة، ومن العباد الشيء الموظف لوقت محدود. وإنما قال { فيها } ولم يقل: منها؛ لأنه أراد: اجعلوا لهم حظا فيها أي رزقا فيها.
[4.6]
قوله تعالى: { وابتلوا اليتامى }؛ أي اختبروهم في عقولهم وتدبيرهم وديانتهم حتى إذا بلغوا مبلغ النكاح وهو الحلم، وهذا دليل جواز الإذن للصبي في التجارة. قوله تعالى: { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا }؛ أي علمتم منهم ووجدتم إصلاحا في عقولهم وحفظا في أموالهم { فادفعوا إليهم أموالهم }؛ التي عندكم. نزلت هذه الاية في ابن رفاعة وعمه، وكان رفاعة قد توفي، وترك ابنه صغيرا، فأتى عمه ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن ابن أخي يتيم في حجري، فمتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: { ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا }؛ أي لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق. والإسراف: مجاوزة الحد. قوله تعالى: { ومن كان غنيا فليستعفف }؛ أي ليتورع بغناه عن مال اليتيم ، ولا ينقص شيئا من ماله، والعفة: الامتناع عما لا يحل فعله. قوله تعالى: { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف }؛ اختلفوا في معنى ذلك، قال عمر بن الخطاب وسعيد بن جبير وعبيدة السلماني: (معناه: فليأخذ من مال اليتيم على جهة القرض مقدار حاجته، فإذا أيسر رد عليه مثله). وهكذا روى الطحاوي عن أبي حنيفة، فمعنى قوله تعالى: { بالمعروف } بالقرض، نظيره قوله تعالى:
إلا من أمر بصدقة أو معروف
[النساء: 114] أي أو قرض.
وقال مكحول وعطاء وقتادة: (إن لولي اليتيم أن يأخذ من مال اليتيم قدر ما يستر عورته ويسد جوعته لا على جهة القرض). قال الشعبي: (لا يأكل إلا أن يضطر إليه كأن يضطر إلى الميتة). وقال بعضهم: (فليأكل بالمعروف) أي يأكل من غير إسراف، ولا قضاء عليه فيما أكل.
واختلفوا في كيفية هذا بالمعروف، فقال عكرمة والسدي: (يأكل ولا يسرف في الأكل ولا يكتسي منه). وقال النخعي: (لا يلبس الكتان ولا الحلل، ولكن ما يسد الجوعة ويواري العورة). وقال بعضهم: معنى: { فليأكل بالمعروف } هو أن يأكل من تمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة إذا أخذ منه شيئا رد بدله. قال الضحاك: (المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئا).
وعن ابن عباس: (أن رجلا جاء إليه فقال له: إن في حجري أموال أيتام؛ أفتأذن لي أن أصيب منها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها، وتهنا جرباها، وتلوط حوضها فاشرب غير مضر بالنسل ولا ناهك في الحلب). عن ابن عباس رواية أخرى أن معنى الآية: (فليأكل من مال نفسه بالمعروف حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئا).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لا يأكل من مال اليتيم قرضا وغيره) وهذا قول أبي حنيفة. وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال: (لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما، فإن خرج في تقاض دين لليتيم أو إلى ضياع له، فله أن ينفق ويكتسي ويركب، فإذا رجع رد الثياب والدابة إلى اليتيم).
وعنه لأبي يوسف رواية أخرى: (أن قوله { فليأكل بالمعروف } يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى:
لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجرة عن تراض منكم
[النساء: 29]).
فحاصل هذه الروايات؛ أن الأصح على مذهب أبي حنيفة وأصحابه: أنه ليس للوصي أن يأكل من مال اليتيم قرضا ولا غيره؛ إلا أن يضطر إلى شيء منه فيأخذه بالضرورة، ثم يرد إذا وجد. وعن ابن عباس قال:
" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن في حجري يتيما فأضربه، قال: " ما كنت ضاربا منه ولدك ".
قوله تعالى: { فإذا دفعتم إليهم أموالهم }؛ إذا دفعتم إليهم أموالهم بعد بلوغهم وإيناس الرشد، { فأشهدوا عليهم }؛ وثيقة لكم، { وكفى بالله حسيبا }؛ أي شهيدا ومجازيا لها إلا أن الإشهاد فيما بين الناس من أحكام الدنيا لضروب من المصلحة، وانتصب { حسيبا } على القطع، وكفى بالله الحسيب حسيبا.
[4.7]
قوله تعالى: { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنسآء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا }؛ وذلك أن العرب كانت لا تورث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن المال وحاز الغنيمة، فأعلم الله تعالى أن حق الميراث للرجال والنساء. قال ابن عباس:
" " توفي أوس بن ثابت الأنصاري وترك ثلاث بنات له، وترك امرأة يقال لها أم كجة وهي أمهن، فقام رجلان من بني عمه قتادة وعرفطة وكانا وصيين له فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا من المال، فجاءت أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن أوس بن ثابت توفي وترك ثلاث بنات، وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند قتادة وعرفطة ولم يعطياني ولا لبناتي شيئا، هن في حجري لا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس، فقال صلى الله عليه وسلم: " ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله فيهن " فرجعت إلى بيتها، فأنزل الله هذه لآية " ".
ومعناه: للرجال حظ مما ترك الولدان والأقربون، وللنساء كذلك أيضا، مما قل من المال أو كثر، { نصيبا مفروضا } أي معلوما مقدرا، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتادة وعرفطة:
" " أن لا تقربا من مال أوس شيئا، فإن الله قد أنزل لبناته نصيبا، ولم يبين كم هو، أنظركم يبين الله تعالى لهن " فأنزل الله بعد ذلك { يوصيكم الله في أولدكم } إلى قوله { ذلك الفوز العظيم } فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتادة وعرفطة: " أن ادفعا إلى أم كجة ثمن جميع المال إدفعا إليها لبناتها الثلثين ولكم باقي المال " ".
وانتصب قوله تعالى (نصيبا) لخروجه مخرج المصدر كقول القائل: عندي حقا؛ ولك معي درهم هبة.
[4.8]
قوله تعالى: { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه }؛ أي حضر قسمة المواريث ذو قرابة الميت في الرحم الذين لا يورثون واليتامى المحتاجون والمساكين فأعطوهم شيئا من المال قبل القسمة، { وقولوا لهم قولا معروفا }؛ أي عدوهم عدة حسنة، وقيل: اعتذروا عند قلة المال وقولوا لهم: كنا نحب أن يكون أكثر من ذلك.
وعن ابن عباس روايتان؛ إحداهما: (أن هذه الآية محكمة غير منسوخة) وهو قول عطاء ومجاهد والزهري وجماعة، حتى روي عن عبيدة السلماني: (أنه ذبح للأقرباء شاة من أموال اليتامى وأعطاهم؛ وقال: إني أحب أن يكون ذلك من مالي لولا هذه الآية). وعن ابن سيرين أنه فعل مثل ذلك. وقال قتادة عن الحسن: (ليست منسوخة، ولكن الناس شحوا وبخلوا، وكان التابعون يعطون الأواني والشيء الذي يستحيا من قسمته).
والرواية الثانية: (أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث) وهو قول سعيد بن المسيب والسدي وأبي مالك وأبي صالح والضحاك؛ لأنها لو كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم لنقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث للزوم الحاجة إلى ذلك، لكن يستحب ذلك في حق الورثة لحضور البالغين. وحديث عبيدة السلماني محمول على أن الورثة كانوا بالغين؛ فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم.
[4.9]
قوله تعالى: { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا }؛ قال عامة المفسرين: (كان الرجل إذا حضره الموت يقول له من حضره عند وصيته: أنظر لنفسك؛ فإن أولادك وذريتك لا يغنون عنك شيئا، قدم لنفسك، أعتق وتصدق، أوص لفلان بكذا ولفلان بكذا، فلا يزالون كذلك حتى يذهب عامة ماله، ويبقى عياله بغير شيء، فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأمرهم أن يتركوا أموالهم لورثتهم).
" روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص يزوره، فقال سعد: " يا رسول الله؛ إني ذو مال وليس لي إلا بنت واحدة، أفأوصي بالثلثين؟ قال: " لا " قال: فبالشطر؟ قال: " لا " فبالثلث؟ قال: " والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس " ".
قال بعض المفسرين: هذه الآية خطاب لمن يتصرف بأموال اليتامى؛ معناه: وليخش الذين يخافون الضياع على ورثتهم الضعاف بعد موتهم، فلا يفعلون في أموال اليتامى إلا بما يحبون أن يفعل في أولادهم من بعد موتهم. والقول السديد: هو الذي لا خلاف فيه من جهة الفساد، مأخوذ من سد الثلمة، وهو العدل والصواب من القول.
[4.10]
قوله تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا }؛ نزلت في حنظلة بن الشمردل؛ كان يأكل من مال اليتيم في حجره ظلما. ومعناها: إن الذين يأكلون أموال اليتامى بغير حق، إنما يأكلون في بطونهم حراما. ويسمى الحرام نارا؛ لأن الحرام يوجب النار فسماه باسمها على معنى أن أجوافهم تمثل نارا في الآخرة. قال السدي: (من أكل من مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة، ولهب النار يخرج من فيه وأذنيه وعينيه وأنفه، كل من رآه عرف أنه أكل مال اليتيم ظلما).
قوله تعالى: { وسيصلون سعيرا }؛ أي سيصلون النار في الآخرة ويلزمونها، والصلاء: ملازمة النار للاحتراق والإنضاج. قرأ العامة: (وسيصلون) بفتح الياء أي يدخلونها كقوله تعالى:
إلا من هو صال الجحيم
[الصافات: 163] وقوله تعالى:
لا يصلاهآ إلا الأشقى
[الليل: 15].
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم الياء على معنى: وسيدخلون النار على ما لم يسم فاعله، ونظيره
سأصليه سقر
[المدثر: 26] و
فسوف نصليه نارا
[النساء: 30]. وقرأ حمزة بن قيس: (وسيصلون) بتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل؛ أي مرة بعد مرة، نظيره
ثم الجحيم صلوه
[الحاقة: 31] والكل صواب، يقال: صلت شياء إذا شويته. وفي الحديث: (أتي بشاة مصلية) وأصليته: ألقيته في النار، وصليته مرة بعد مرة.
السعير: النار المسعورة أي الموقودة. قال صلى الله عليه وسلم:
" رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل؛ إحداهما قالصة على منخره، والأخرى على بطنه، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها ثم يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما "
[4.11]
قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين }؛ قال ابن عباس: (كان المال للبنتين؛ وكانت الوصية للوالدين والأقربين إلى أن نزلت هذه الآية ثم صار ذلك منسوخا بها). ومعناها: يعهد الله إليكم ويفرض عليكم في أولادكم إذا متم: للذكر الواحد من الأولاد مثل نصيب الأنثيين في الميراث، واسم الولد يتناول ولده من صلبه حقيقة ولد ولده في النسبة والتعصيب، ولكنهم من ذوي الأرحام مجازا، فإذا كان للميت ولد من صلبه وجب حمل اللفظ على الحقيقة، وإن لم يكن له ولد من صلبه حمل على من كان من صلب بنيه مجازا، وأما ولد البنات فلا يعد من ولده في النسبة والتعصب، ولكنهم من ذوي الأرحام. قال الشاعر:
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
وعن هذا قال أصحابنا: فمن أوصى لولد فلان أن ذلك لولده لصلب، فإن لم يكن له ولد من صلبه فهو ولد ابنه، ولا يدخل أولاد البنات في هذه الوصية على أظهر الروايتين.
قوله تعالى: { فإن كن نسآء فوق اثنتين }؛ أي إن كان الأولاد نساء أكثر من اثنتين ليس معهن ذكر؛ { فلهن ثلثا ما ترك }؛ من المال، والباقي للعصبة. قوله تعالى: { وإن كانت واحدة فلها النصف }؛ قرأ العامة بالنصب على خبر كان، وقرأ نافع وحده بالرفع على أن معناه: وإن وقعت واحدة؛ فحينئذ لا خبر له، وقراءة النصب أجود، وتقديره: فإن كانت المولودة واحدة.
فإن قيل: لم أعطيتم البنتين الثلثين وفي الآية إجاب الثلثين لأكثر من الابنتين؟ قيل: في فحوى الآية دليل على أن فرض الابنتين الثلثان؛ لأن في أولها { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، فيقتضي أن للابنة الواحدة مع الابن الثلث، فإن كان لها معه الثلث كانت تأخذ الثلث مع عدمه أولى، فاحتجنا إلى بيان حكم ما فوق الأنثيين؛ فذلك نص على حكم ما فوقهما، ويدل عليه أنه اذا كان للابن الثلثان، وللابنة الثلث دل أن نصيب الأنثيين الثلثان بحال؛ لأن الله تعالى جعل للذكر مثل حظ الأنثيين.
وجواب آخر: أن الله تعالى جعل للأخت من الأب والأم النصف في آخر هذه السورة، كما جعل للابنة النصف في هذه الآية، وجعل للأختين هناك الثلثين، فأعطينا الاثنين الثلثين قياسا على الأختين في تلك الآية؛ وأعطينا جملة الأخوات الثلثين قياسا على البنات في هذه الآية.
قوله تعالى: { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك }؛ أي لأبوي الميت كناية عن غير المذكور لكل واحد منهما السدس؛ { إن كان له ولد }؛ أو ولد ابن. قوله تعالى: { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث }؛ أي إن لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، ولا ولد ولد فلأمه الثلث، والباقي للأب.
وروي عن ابن مسعود: (أن الولد يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، وإن لم يرثوا نحو أن يكونوا كفارا أو مملوكين أو قاتلين؛ لأن الله لم يفرق في الآية بين الولد الكافر والمسلم، فقال: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد).
وقال عمر وعلي وزيد بن ثابت: (للأم الثلث)، وجعلوا الكافر والرقيق بمنزلة الميت، وحملوا الآية على ولد يحوز الميراث. قرأ أهل الكوفة إلا عاصما وخلفا: (فلإمه) بكسر الهمزة استثقالا لضمة بعد كسر. وقرأ الباقون بالضم على الأصل.
قوله تعالى: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس }؛ ذكره بلفظ الجمع، وأقله ثلاثة ولا خلاف، وإن الحجب يقع بثلاثة من الإخوة والأخوات وإن ذلك لا يقع بالواحد، ثم قال عامة الصحابة: (إن حكم الاثنين في هذا حكم الثلاثة كما في أنثيين والأختين). وعن ابن عباس: (أنه كان لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة إخوة)، وهذا القول غير مأخوذ به. وروي عنه أيضا: أنه جعل للابنتين النصف كنصيب الواحدة بظاهر قوله تعالى { فوق اثنتين } ولم يقل بهذا آخر غيره فلا يعتد به.
وروي أن جدة جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه، وطلبت ميراثها؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه: (لا أجد لك في كتاب الله شيئا) فقام المغيرة بن شعبة وشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى جدة أم الأم السدس، فقال: (إئت معك بشاهد آخر) فجاء محمد بن مسلمة وشهد بمثل شهادته، فأعطى أبو بكر رضي الله عنه السدس.
قوله تعالى: { من بعد وصية يوصي بهآ أو دين }؛ إن هذه القسمة بعد فضل المال على الدين، وبعد إمضاء الوصية من الثلث إن كان الميت أوصى بها. قرأ ابن كثير وابن عامر: (يوصى بها) بفتح الصاد. وقرأ الباقون بكسر الصاد.
فإن قيل: كيف ذكر الله الوصية قبل الدين؛ والدين مقدم على الوصية؟ قيل: إن كلمة (أو) لا توجب الترتيب، لكنها توجب تأخير قسمة الميراث في هذه الآية عن أحدهما إذا انفرد، وعن كل واحد منهما إذا اجتمعا. روى علي كرم الله وجهه عن رسول الله
" أنه قضى بالدين قبل الوصية "
وهذا شيء قد اجتمعت عليه الأمة حتى روي عن ابن عباس: أنه قيل له: ما لنا نقدم أفعال العمرة على أفعال الحج وقد قال الله تعالى:
وأتموا الحج والعمرة لله
[البقرة: 196]؟ كما تقدمون الدين على الوصية، وقد قال الله تعالى: { من بعد وصية يوصي بهآ أو دين }.
قوله تعالى: { آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا }؛ معناه: إن المذكورين في الآية آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فقد يكون الولد أكثر نفعا لوالده، وقد يكون الوالد أكثر نفعا لولده.
وأما في الآخرة، فإن الأب أرفع درجة في الجنة يسأل الله تعالى أن يرفع ابنه إليه فيرفع، وإن كان الابن أرفع سأل الله أن يرفع أباه إليه.
وفي هذا جواب طعن الملحدين عن قولهم: هلا كان الرجال أولى بالميراث لكونهم قوامين على النساء؟ وعن جواب آخرين منهم لم جاز تفضيل الذكر على الأنثى في قسمتها الميراث؛ والأنثى أولى بالزيادة بعجزها عن التصرف؟ فبين الله تعالى أنه فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة ومصلحة لهم، ولو وكل ذلك إليكم لما تعلموا أيهم أنفع، فوضعتم الأموال في غير حكمة. وقيل معناه: لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله، أم الولد أقرب وفاة فينتفع والده بماله.
قوله تعالى: { فريضة من الله }؛ نصب على الحال والتوكيد من قوله { يوصيكم } ، وقيل: مصدر. قوله تعالى: { إن الله كان عليما حكيما }؛ أي لم يزل عالما بالمواريث وغيرها، حكيما حين بين قسمة المواريث على الحكمة. وعن الحسن أن معناه: (كان الله عالما بالأشياء قبل خلقها، حكيما فيما يقدر من تدبيره فيها).
[4.12]
قوله تعالى: { ولكم نصف ما ترك أزوجكم إن لم يكن لهن ولد }؛ أي لكم يا معشر الرجال: نصف ما ترك نساؤكم إن لم يكن لهن ولد ذكر أو أنثى أو من غيركم أو ولد ولده؛ { فإن كان لهن ولد }؛ أي ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم أو ولد ولده؛ { فلكم الربع مما تركن }؛ من المال، { من بعد وصية يوصين بهآ أو دين }؛ أي من بعد قضاء الدين عليهن أو إمضاء وصية أوصين بها من الثلث.
قوله تعالى: { ولهن الربع مما تركتم }؛ أي مما تركتم أيها الأزواج من المال، { إن لم يكن لكم ولد }؛ ذكر أو أنثى أو ولد ابن منهن أو غيرهن؛ { فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم }؛ ذلك، { من بعد وصية توصون بهآ أو دين }؛ قضاء دين عليكم، إو إمضاء وصية أوصيتم بها من الثلث.
قوله تعالى: { وإن كان رجل يورث كللة أو امرأة }؛ الآية وإن كان رجل، أو امرأة يورث { كللة } وهو نصب على المصدر، وقيل على الحال، وقيل: على خبر ما لم يسم فاعله؛ تقديره: وإن كان رجل يورث ماله كلالة، قاله ابن عباس. وقرأ الحسن: (يورث) بكسر الراء؛ جعل الفعل له.
واختلفوا في الكلالة، قال ابن عباس: (هو من لا ولد له ولا والد). وعن ابن عباس وعمر وجابر وأبي بكر وقتادة والزهري: (الكلالة اسم لما عدا الوالد والولد). وقال الشعبي: (سمعت أن أبا بكر رضي الله عنه قال في الكلالة: أقضي فيها، فإن كان صوابا فمن الله تعالى، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء منه: هو ما دون الوالد والولد، يقول كل وارث دونهما كلالة). قال: (فلما كان عمر بعده، قال: إني أستحي من الله أن أخالف أبا بكر رضي الله عنه، هو ما خلا الوالد والولد). وقال طاووس: (هو ما دون الولد) وقال الحكم: (هو ما دون الأب).
قوله تعالى: { وله أخ أو أخت }؛ إنما لم يقل ولهما؛ لأن من عادة العرب أن الرجل والمرأة ربما أضافت إليهما، وربما أضافت إلى أحدهما، وكلاهما جائز، ومعنى: وله أخ أو أخت من أم، وفي قراءة أبي وسعد بن أبي وقاص: (وله أخ أو أخت من أم)، { فلكل واحد منهما السدس }؛ مما ترك الميت من المال.
قوله تعالى: { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء في الثلث }؛ أي أكثر من واحد فهم كلهم سواء في الثلث لا يفضل الذكر على الأنثى. قوله تعالى: { من بعد وصية يوصى بهآ أو دين }؛ قد تقدم.
قوله تعالى: { غير مضآر }؛ نصب على الحال؛ أي يوصي بها الميت غير مضار في حال وصية بأن يزيد على الثلث، ويفضل بعض الورثة على بعض. قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة "
قوله تعالى: { وصية من الله }؛ نصب على المصدر؛ { والله عليم حليم }؛ عليم بما دبره من هذه الفرائض؛ حليم على من عصاه بأن أخره وقبل التوبة.
[4.13]
قوله تعالى: { تلك حدود الله }؛ أي هذه فرائض الله التي أمركم بها في المواريث وأموال اليتامى. والحدود: هي الأمكنة التي لا ينبغي أن يتجاوزها. قوله تعالى: { ومن يطع الله ورسوله }؛ أن من يقيم حدود الله، وحدود رسوله في أمر الميراث وغيره، { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ قرئ (ندخله) بالنون في الموضعين، والياء أقرب من لفظ الآية.
قوله تعالى: { خالدين فيها }؛ نصب على الحال أي ندخل المقدرين للخلود فيها. { وذلك الفوز العظيم }؛ أي النجاة الوافرة فازوا بها في الجنة.
[4.14]
قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده }؛ أي قسمة الميراث فلن يقسمها؛ لأن المنافقين كانوا لا يقرون للنساء والصبيان الصغار من قسمة المواريث بشيء. قوله تعالى: { يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين }؛ ظاهر المعنى.
[4.15]
قوله تعالى: { واللاتي يأتين الفحشة من نسآئكم }؛ أي اللاتي يزنين من حرائركم الثيبات المحصنات، { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ، فاطلبوا عليهن أربعة من الشهود من أحراركم المسلمين العدول، { فإن شهدوا }؛ عليهن بالزنا، فاحبسوهن في البيوت، وهي السجون، بيوت معروفة في المدينة، { فأمسكوهن في البيوت }؛ بالحبس، { حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } ، مخرجا من الحبس قبل الموت.
وإنما كان هذا قبل نزول الحدود؛ كانت المرأة في أول الإسلام إذا زنت حبست في البيت حتى تموت، وإن كان لها زوج كان مهرها له، حتى نزل قوله تعالى:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة
[النور: 2] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خذوا عني؛ خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام "
فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية، وهو الإمساك في البيوت، وبقي منها محكما وهو الإشهاد.
وكان في هذا النسخ نسخ القرآن بالسنة، ثم تغريب في البكر بقوله تعالى:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة
[النور: 2] لأن ظاهر تلك الآية يقتضي أن الجلد بيان لجميع الحكم المتعلق بالزنا، إذ لو لم يجعل ذلك كذلك لكان قصورا في البيان في مواضع الحاجة، ونسخ جلد الزنا المحصن الثيب بحديث ماعز:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه ولم يجلده ".
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لولا أن الناس يقولون زاد عمر في كتاب الله؛ لكتبت في حاشية المصحف: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله ويتوب الله على من تاب). وقال الشافعي رحمه الله: (جلد الثيب المحصن منسوخ، وتغريب البكر غير منسوخ)، وعند داود ومن تابعه من أصحاب الظواهر: (ليس بشيء منهما منسوخ).
[4.16]
قوله تعالى: { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما }؛ يعني الرجل والمرأة إلا أن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر، والهاء راجعة إلى الفاحشة. قال المفسرون: (هاء) البكر إن يزنيان فآذوهما بالشتم والتعيير؛ يقال لهما: زنيتما؛ فجرتما؛ انتهكتما حرمات الله. وقيل: بهاء اللذين لم يحصنا. وقال عطاء وقتادة: (معنى: { فآذوهما } أي عنفوهما باللسان: أما خفتما الله! أما استحييتما منه!). قال ابن عباس: (أراد بالأذى الضرب بالنعال والأيدي).
قوله تعالى: { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهمآ }؛ أي فإن تابا عن الزنا واصلحا العمل بعد التوبة فأعرضوا عنهما؛ لا تسبوهما ولا تعيروهما.
" وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال أحدهما: إقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: أجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم، قال: " تكلم " فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا - أي أجيرا - فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة وجارية، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته! فقال صلى الله عليه وسلم: " أما والذي نفسي بيده؛ لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك " وجلد ابنه بمائة وغربه عاما، وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الرجل؛ فاعترفت فرجمها "
قوله تعالى: { إن الله كان توابا رحيما }؛ أي لم يزل متجاوزا عن الناس رحيما بهم بعد التوبة.
[4.17]
قوله تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة }؛ معناه: إنما التجاوز من الله للذين يعملون المعصية بجهالة ، { ثم يتوبون من قريب }؛ أي ثم يتوبون من قبل أن ينزل بهم سلطان الموت لا في وقت المعاينة، { فأولئك يتوب الله عليهم }؛ يقبل الله توبتهم؛ { وكان الله عليما }؛ بأهل التوبة؛ { حكيما }؛ حكم بقبول التوبة، قيل: إن (على) في قوله: { على الله } بمعنى (عند) أي إنما التوبة عند الله. وقيل: بمعنى (من) أي من الله.
واختلفوا في قوله: { بجهالة }. قال مجاهد والضحاك: (الجهالة العمد). وقال الكلبي: (لم يجهل أنه ذنب، ولكنه جهل عقوبته). قال سائر المفسرين: (يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته). وقال قتادة: (أجمع الصحابة أن كل من عصى ربه فهو جاهل عمدا كان أو خطأ). وقال الزجاج: (معنى قوله { بجهالة }: اختيارهم اللذة الفانية).
قوله تعالى: (ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم) أي ثم يتوبون قبل إصابتهم بأسباب الموت، سمى ذلك قريبا لأن كل ما هو آت قريب؛ لأن المرء لا يأمنه في كل وقت وساعة، وكل ما يكون هذا صفته فهو موصوف بالقرب.
قال صلى الله عليه وسلم:
" " من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه " ثم قال: " إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه " ثم قال: إن الشهر لكثير، ثم قال: " من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه " ثم قال: " إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه " ثم قال: " إن اليوم لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه " ثم قال: " إن الساعة لكثير، من تاب من قبل أن يغرغر نفسه تاب الله عليه " ".
وقال الكلبي: (قوله: { من قريب } القريب ما دام في الصحة قبل المرض والموت). وقال أبو موسى الأشعري: (هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة).
[4.18]
قوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار }؛ أي وليس قبول التوبة للذين يعملون المعاصي مقيمين عليها حتى إذا عاين أحدهم أسباب الموت والسوق والنزع ومعاينة الموت، إني تبت الآن، ولا على الذين يموتون على الكفر، { أولئك أعتدنا لهم }؛ هيأنا لهم؛ { عذابا أليما }؛ مؤلما وهو النار التي مصيرهم إليها.
وذهب الربيع إلى أن المراد بالذين يعملون السيئات: المنافقون، ثم عطف الكافرين المجاهرين بالكفر على المنافقين. وحاصل هذه الآية أن من وقع في النزع وقال: إني تبت الآن، فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه، ولا من عاص توبته، وقوله: ولا الذين يموتون موضع خفض.
[4.19]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها }؛ الآية، قال ابن عباس:
" كانوا في الجاهلية وأول الإسلام إذا مات رجل وله امرأة؛ جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته الذي يرثه، فألقى ثوبه على تلك المرأة فورث نكاحها بصداق الأول، يقول: أنا ولي زوجك فورثتك، فإن كانت جميلة أمسكها ودخل لها، وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي بنفسها منه بما ترث من الميت أو تموت فيرثها، فإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ثوبه فهي أحق بنفسها.
فكانوا يفعلون ذلك حتى توفي أبو قيس بن الأسلت، وترك امرأته كبشة بنت معن الأنصارية، فقام لها ابن من غيرها يقال له حصين بن أبي قيس؛ فطرح ثوبه عليها فولي نكاحها ثم تركها ولم يقربها ولم ينفق عليها فضارها بذلك لتفتدي منه بمالها، فأتت كبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إن أبا قيس توفي وورث ابنه نكاحي؛ وقد أضرني وطول علي، فلا هو ينفق علي، ولا هو يخلي سبيلي، فقال صلى الله عليه وسلم: " أقعدي في بيتك حتى يأتيني فيك أمر الله " فانصرفت، وسمع بذلك نساء المدينة، فأتينا رسول الله عليه السلام فقلن: يا رسول الله؛ ما نحن إلا كهيئة كبشة، فأنزل الله هذه الآية ".
ومعناها: يا أيها الذين أقروا وصدقوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء جبرا؛ { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن }؛ أي لا تمنعوهن تخلية سبيلهن حتى يفتدين ببعض ما لهن؛ { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }؛ فحينئذ يحل لكم ضرارهن ليفتدين منكم، وهو أنها إذا زنت المرأة جاز لزوجها أن يسألها الخلع.
قال عطاء: (كان الرجل إذا زنت امرأته أخذ منها ما يساق إليها وأخرجها، فنسخ الله ذلك بالحدود). قال قتادة والضحاك: (الفاحشة النشوز؛ يعني إذا نشزت المرأة حل لزوجها أن يأخذ منها الفدية). وقوله تعالى: (مبينة)؛ بخفض الياء أي مبينة فحشها.
قرأ حمزة والكسائي وخلف والأعمش: (كرها) بضم الكاف هنا وفي التوبة، وقرأ الباقون بالفتح وهما لغتان. وعن الضحاك: (أن هذه الآية نزلت في الرجل يكون في حجره يتيمة؛ فيكره أن يزوجها لمالها، فيتزوجها لأجل مالها، أو يكون تحته عجوز، ونفسه تتوق إلى شابة فيكره فراق العجوز ويتوقع موتها ليرثها وهو يعزل فراشها).
قوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف }؛ أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالجميل، وهو أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والمبيت وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها والعبوس في وجهها بغير ذنب منها.
قوله تعالى: { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا }؛ فيه بيان أن الخيرة ربما كانت للعبد في الصبر على ما يكرهه؛ يقول: لعلكم أيها الأزواج أن تكرهوا صحبتهن ويجعل الله في ذلك خيرا كثيرا بأن يرزقكم منهن الأولاد، فتظهر بعد ذلك الألفة والموافقة، وتنقلب الكراهة صحبة؛ والنفور ميلا.
وقيل: يعني بالخير الكثير: ما يحصل له من الثواب في الآخرة في الإنفاق عليها. وقيل: معناه: عسى الله أن يقضي بالفراق على وجه يحمد، فيستبدل به المرأة من هو خير لها منه، ويستبدل هو بها من هي خير له منها.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله؛ واستحللتم فروجهن بكلمة الله؛ لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق "
قال صلى الله عليه وسلم:
" تزوجوا، ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات "
[4.20]
قوله تعالى: { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج }؛ الآية ؛ أي إن أردتم تخلية امرأة، ولم يكن من قبلها نشوز وإتيان فاحشة؛ { وآتيتم إحداهن قنطارا }؛ أي مالا عظيما، وتقدم تفسير القنطار؛ { فلا تأخذوا منه شيئا }؛ مما أعطيتموها، { أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا }؛ أي ظلما وذنبا ظاهرا، والبهتان: هو الباطل الذي يتحير من بطلانه، ومن ذلك سمي الكذب العظيم لأنه يباهت به محيره، ويتحير المكذوب عليه لعظمه، وأصل البهت: التحير: قال الله تعالى:
فبهت الذي كفر
[البقرة: 258] أي تحير لانقطاع حجته، وإنما سمى الله تعالى أخذ المهر بغير حق بالبهتان؛ لأن الزوج لما استعمل المكر والخداع في أخذ ما أعطاها، صار في الوزر بمنزلة من يكذبوهم أن الذي قاله حق.
[4.21]
قوله تعالى: { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا }؛ أي كيف تستحلون أخذ شيء منه، وقد وصل بعضكم إلى بعض. قال ابن عباس: (الإفضاء كناية عن الجماع).
وقال جماعة من أهل التفسير: إذا كان معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها فقد وجب المهر. وعن زرارة بن أوفى أنه قال: (قضى الخلفاء الراشدون المهديون: أنه من أغلق على امرأة بابا، أو أرخى سترا، وكشف خمارا فقد وجب المهر والعدة). وذكر الفراء: (الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول) كأنه ذهب إلى أن الإفضاء مأخوذ من الفضاء، وهو المكان المتسع الذي ليس فيه بناء ولا حاجز عن إدراك ما فيه، فسميت الخلوة فضاء لحصول الزوج إلى جميع ما يقصده من الوطئ، والدخول في موضع لا مانع فيه من ذلك.
قوله تعالى: { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } أي عهدا وثيقا وهو ذكر المهر في النكاح، وقيل: هو ما أشرط الله تعالى للنساء على الرجل من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وقال الشعبي وعكرمة والربيع: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" أخذتموهن بأمانة الله؛ واستحللتم فروجهن بكلمة الله "
فصل: فيما ورد من الأخبار في الرخصة في المغالاة بالمهور، قال عطاء:
" خطب عمر رضي الله عنه إلى علي كرم الله وجهه ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له علي رضي الله عنه: إنها صغيرة، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري " فلذلك رغبت في هذا، فقال علي كرم الله وجهه: فإني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها، فأرسلها إليه، فجاءته فقالت: إن أبي يقول لك هل رضيت هذه الحلة؟ فقال: قد رضيتها، فأنكحه علي؛ فأصدقها عمر أربعين ألف درهم "
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه كان يزوج المرأة من بناته على عشرة آلاف درهم). وتزوج ابن عباس امرأة على عشرة آلاف درهم.
فصل: في أقل المهر. روي عن عمر رضي الله عنه: أنه خطب الناس؛ فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: (ألا لا تغالوا في صداق النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم). من يمن المرأة أن يسر صداقها وأن يسر رحمها. وعن أبي هريرة قال: (كان صداقنا منذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر أواق أربعمائة درهم). وعن أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة على عشرة دراهم).
[4.22]
قوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النسآء إلا ما قد سلف }؛ روي أنهم كانوا بعد قوله:
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها
[النساء: 19] إذا رضيت المرأة أمسكها ولي الميت، وبرضاها على حكم النكاح، فإذا سخطت تركها فحرم الله ذلك عليهم بهذه الآية. ومعناها: لا تزوجوا ما تزوج آباؤكم من النساء، ويقال: لا تطأوا ما وطئ آباؤكم.
واسم النكاح يقع على العقد والوطئ جميعا. قوله تعالى: { إلا ما قد سلف } معناه إلا ما قد سلف في الجاهلية من نكاح منكوحة الأب كان ذلك معفوا لكم لا تؤاخذون به. وقال قطرب: (هو استثناء منقطع؛ تقديره: لكن ما قد سلف فدعوه فاجتنبوا).
قوله تعالى: { إنه كان فاحشة ومقتا }؛ يعني أن نكاح امرأة الأب كان فاحشة فيما سلف؛ لأنهم كانوا يسمونه في الجاهلية (نكاح المقت) وكان المولود يقال له المقتي، فأعلمهم الله تعالى أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم، والمقت: هو البغض على أمر قبيح ركبه صاحبه، وقيل المقت: هو أشد البغض، والفاحشة اسم لما يرتفع ذكر قبيحته فيما بين الناس. قوله تعالى: { وسآء سبيلا }؛ أي نكاح امرأة الأب طريق سوء؛ لأنه يؤدي إلى جهنم، و { سبيلا }؛ نصب على التمييز.
[4.23]
قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهتكم وبنتكم وأخوتكم وعمتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت } ، قال ابن عباس: (حرم الله من النساء أربعة عشر صنفا؛ سبعة بالنسب؛ وسبعة بالسبب، وتلا هذه الآية ثم قال: والسابعة في قوله تعالى:
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النسآء
[النساء: 22]). والجدات - وإن بعدت - محرمات؛ لأن اسم الأمهات يشملهن، كما أن اسم الآباء يتناول الأجداد وإن بعدوا، واسم البنات يتناول بنات الأولاد وإن سفلن، وقوله تعالى: { وأخوتكم } يشمل الأخوات من الأب والأم ومن الأب ومن الأم، قوله تعالى: { وعمتكم وخالتكم } يتناول عمات الأب والأم وخالات الأم والأب.
قوله تعالى: { وأمهتكم التي أرضعنكم وأخوتكم من الرضعة }؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" تحرم الجرعة والجرعتان ما يحرم الحولان الكاملان "
" وعن عائشة رضي الله عنها: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها بعد نزول آية الحجاب وكان عمها من الرضاعة؛ قالت: فأبيت أن آذن له حتى أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ليلج عليك؛ فإنه عمك " فقالت: إنما أرضعتني المرأة، ولم يرضعني الرجل! فقال صلى الله عليه وسلم: " ليلج عليك فإنه عمك " ، وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها ".
قوله تعالى: { وأمهت نسآئكم }؛ قال ابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير: [إن أم المرأة مبهمة تحرم على زوج ابنتها بنفس العقد]. قوله تعالى: { وربائبكم التي في حجوركم من نسآئكم التي دخلتم بهن }؛ لا خلاف بين أهل العلم أن كونها في حجوره لا يكون شرطا في تحريمها وإنما ذكره الله تعالى على عادة الناس أن الربيبة تكون في حجر زوج الأم، فخرج الكلام على وفق العادة دون الشرط، وهذا كقوله:
ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد
[البقرة: 187] ومعلوم أن المعتكف لا يحل له الجماع وإن كان قد خرج من المسجد لحاجة، إلا أن الغالب من حال العاكف أن يكون في المسجد، فقرنه بذكر المسجد.
وأما قوله تعالى: { من نسآئكم التي دخلتم بهن } فمن الناس من رد هذا الشرط على قوله { من نسآئكم } وعلى قوله { وأمهت نسآئكم } فشرط الدخول بالنساء في المسألتين في بيوت التحريم المذكور في الآية؛ على معنى أن الله عطف حكما على حكم وعقبهما بشرط الدخول بقوله: { التي دخلتم بهن } وهو قول بشر بن غياث؛ إلا أن هذا لا يصح؛ لأن قوله { وأمهت نسآئكم } جملة مستقلة بنفسها.
وقوله تعالى: { وربائبكم } بما فيه من شرط الدخول جملة أخرى مستقلة بنفسها فلم يجز بناء إحدى الجملتين على الأخرى، ولو جعلنا شرط الدخول راجعا إلى الأول، لخصصنا عموم اللفظ الأول بالشك.
قوله تعالى: { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم }؛ أي فإن لم تكونوا دخلتم نساءكم، فلا حرج عليكم في تزويج الربائب إذا طلقتم أمهاتهن قبل الدخول، أو ماتت أمهاتهن قبل دخول الزوج بهن. قوله تعالى: { وحلئل أبنائكم }؛ أي ونكاح نساء أبنائكم؛ { الذين من أصلبكم }؛ وإنما سميت امرأة الابن حليلة؛ لأنها تحل معه في الفراش، وقيل: لأنها حلال له، وأما أمة الابن فلا تسمى حليلة، ولا تحرم على الأب ما لم يطأها الابن.
وقوله تعالى: { من أصلبكم } ليس هو على ما ظن بعض الناس أنه من شرط الصلب في هذه الآية؛ أخرج امرأة الابن في الرضاع من التحريم، بل امرأة الابن في الرضاع بمنزلة امرأة الابن من الصلب في الحرمة، وإنما شرط الله تعالى كون الابن من صلبه لإخراج امرأة الابن من التبني عن التحريم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج امرأة زيد بن الحارثة بعدما فارقها زيد ؛ تكلم فيه المشركون وقالوا: إن محمدا تبنى هذا ثم تزوج امرأته، وكانوا يجعلون المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة، فأنزل الله هذه الآية، وقوله:
ادعوهم لآبآئهم
[الأحزاب: 5]. قوله تعالى: { وأن تجمعوا بين الأختين }؛ في موضع رفع؛ ومعناه: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، وصورة الجمع أن يتزوج أختين، أو في عقدين لا يدري أيتهما كانت هي الأولى، وأما إذا تزوج امرأة ثم تزوج بعد ذلك أختها وهو يعلم الثانية؛ فنكاح الثانية حرام دون الأولى؛ لأن الجمع حصل بالثانية، ويحرم عليه أيضا بين وطئ الأختين بملك اليمين، ويحرم عليه أيضا تزوج إحداهما والأخرى معتدة منه في طلاق بائن، أو رجعي. قوله تعالى: { إلا ما قد سلف }؛ إلا ما مضى في الجاهلية فإنه معفو لكم إذا تبتم عنه. قوله تعالى: { إن الله كان غفورا رحيما }؛ أي لا يؤاخذكم بما كان منكم قبل التحريم.
[4.24]
قوله تعالى: { والمحصنت من النسآء إلا ما ملكت أيمنكم }؛ هذه الآية عطف على ما تقدم؛ أي وحرم عليكم المحصنات وهن ذوات الأزواج اللاتي أحصن بالأزواج، { إلا ما ملكت أيمنكم } أي إلا ما أفاء الله عليكم من السبايا. وروي عن أبي سعيد الخدري:
" أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين؛ فتأثم المسلمون من وطئهن؛ وقالوا: لهن أزواج في دار الحرب فأنزل هذه الآية، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا توطأ الحبال حتى يضعن، ولا غير الحبال حتى يستبرئن بحيضة " ".
وذهب بعض الصحابة وهو أبي بن كعب، وأنس وجابر رضي الله عنهم: (أن الأمة إذا خرجت من ملك مولاها إلى ملك رجل آخر؛ حرمت على زوجها بأي سبب خرجت) حتى روي عن ابن عباس أنه قال: (طلاق الأمة يثبت طلاقها وبيعها وهبتها وميراثها وسبيها وصدقتها).
وأنكر ذلك علي وعمر وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم؛ وقالوا: (إنما نزلت الآية في السبايا خاصة بدليل ما روي أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وأعتقتها؛ فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زوجها عبدا أسود يسمى مغيثا).
قوله تعالى: { كتب الله عليكم }؛ نصب على المصدر؛ أي كتب الله عليكم كتاب الله، وقيل نصب على الإغراء؛ أي إلزموا كتاب الله، واتبعوا كتاب الله. قوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم }؛ قرأ أهل الكوفة (وأحل) على ما لم يسم فاعله، نسقا على قوله (حرمت)، وقرأ الباقون بالفتح على أنه قد ذكر الله بقوله: (كتاب الله)، والمعنى: أحل لكم نكاح ما سوى ما ذكرت لكم من المحرمات.
قوله تعالى: { أن تبتغوا بأمولكم محصنين غير مسفحين }؛ بدل من (ما)، فمن رفع أحل فموضعها رفع، ومن نصب فموضعها نصب. وقال الكسائي: (موضعه نصب في القرائتين بنزع الخافض، يعني لئن تبتغوا بأموالكم؛ أي تطلبوا بأموالكم إما بنكاح أو بملك يمين محصنين؛ أي ناكحين أعفاء غير زناة، وأصله من: سفح المذي والمني). في هذا دليل أن بدل البضع لا يجوز أن يكون صداقا، وكذلك خدمة الزوج لا يكون صداقا عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وأصل الإحصان في اللغة: ما يمنع، ومنه يسمى الحصن حصنا؛ لأنه يمنع من العدو، ومنه الدرع الحصينة؛ أي المنيعة، والحصان بكسر الحاء: الفحل من الخيل يمنعه راكبه من الهلاك، والحصان بفتح الحاء: العفيفة من النساء لمنعها فرجها؛ منه قال حسان في عائشة:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والإحصان في القرآن يقع على معان مختلفة منها: نكاح كما في أول هذه الآية؛ ومنها: الجزية كما في قوله تعالى:
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
[المائدة: 5]، ومنها الإسلام كما في قوله تعالى:
فإذآ أحصن فإن أتين بفحشة
[النساء: 25] أي اذا أسلمن، ومنها: الفقه كما في قوله تعالى:
والذين يرمون المحصنات
[النور: 4].
قوله تعالى: { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن }؛ اختلفوا في معنى ذلك. قال الحسن ومجاهد: (يعني فما استمتعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح فآتوهن مهورهن) وهو قول ابن عباس: أنه سئل عن المتعة؛ أسفاح أم نكاح؟ فقال: (لا سفاح ولا نكاح) قيل: فما هي؟ قال: (المتعة كما قال الله تعالى) قيل له: هل لها من عدة؟ قال: نعم؛ حيضة) قيل: هل يتوارثان؟ قال: (لا). ثم روي عنه أنه رجع عن القول بالمتعة، وقال عند موته: (اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة، وقولي من الصرف في درهم بدرهمين يدا بيد).
وعن عمر رضي الله عنه أنه خطب حين ولي فقال: (أيها الناس؛ إن الله تعالى أحل لنا المتعة ثلاثا ثم حرمها؛ وأنا أقسم بالله لا أحد تمتع إلا رجمته). وعنه أيضا أنه قال: (لا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة). وعن ابن مسعود: (أن المتعة كانت رخصة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في غزاة شكوا فيها الغربة، ثم نسختها آية النكاح).
وقد أجمع سائر الفقهاء والعلماء والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة، ومتعة النساء حرام. روى الربيع عن سبرة الجهني عن أبيه قال:
" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة؛ فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغربة، فإذا هو يقول: " يا أيها الناس؛ إن الله سبحانه حرم ذلك إلى يوم القيامة ". قال بعضهم: سألت الحسن عن نكاح المتعة، فقال: " إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهى عنه " ".
قوله: { فآتوهن أجورهن } أي مهورهن، يسمى المهر أجرا؛ لأنه ثمن البضع، أو لأنه بدل من المنافع، كما يسمى بدل منفعة الدار والدابة أجرا. وقوله تعالى: { فريضة }؛ أي أعطوهن أجورهن فريضة من الله لهن عليكم، والفرض ما يكون في أعلى مراتب الإيجاب عن الله تعالى، ولهذا لا يجوز إسقاط المهر في ابتداء العقد.
قوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما ترضيتم به من بعد الفريضة }؛ أي لا إثم عليكم فيما تراضيتم به من الزيادة والنقصان في المهر من بعد الفريضة في ابتداء النكاح. قوله تعالى: { إن الله كان عليما حكيما }؛ أي عليما بما يصلح أمر العباد، حكيم فيما أمركم به ونهاكم عنه.
[4.25]
قوله تعالى: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنت المؤمنت فمن ما ملكت أيمنكم من فتيتكم المؤمنت }؛ قال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد: (الطول الغنى والسعة) أي ومن لم يستطع منكم غنى وقدرة، ولم يجد مالا يتزوج به الحرائر؛ فليتزوج بعضكم من إماء بعض. وقال جابر ابن زيد وربيعة والنخعي: (الطول الهوى) أي من لم يقدر منكم على نكاح الحرائر هوى وعشقا بأمة من الإماء لا يتسع قلبه لنكاح الحرة، فليتزوج بالأمة التي يهواها من الإماء المؤمنات. قرأ الكسائي: (المحصنات) بكسر الصاد في كل قراءة إلا الأول وهو قوله:
والمحصنت من النسآء
[النساء: 24].
قوله تعالى: { والله أعلم بإيمنكم }؛ أي بحقيقة الإيمان وأنتم تعرفون الظاهر، وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن. قوله تعالى: { بعضكم من بعض }؛ أي في الدين، وقيل: من النسب؛ أي كلكم ولد آدم عليه السلام، وإنما قال ذلك؛ لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب وتعير بالهجنة، وتسمي ابن الأمة (الهجين)، فأعلم الله أن الأمة في جواز نكاحها كالحرة لذلك.
قوله تعالى: { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن }؛ أي انكحوا الإماء بإذن مواليهن واعطوهن مهورهن؛ يعني بإذن أهلهن، وقوله تعالى: { بالمعروف }؛ أي مهر غير مهر البغي وهو أن يكون عشرة دراهم فما فوقها. قوله تعالى: { محصنت غير مسفحت }؛ أي عفائف غير زوان معلنات بالزنا، { ولا متخذت أخدان }؛ أي أخلاء في السر؛ وذلك لأن أهل الجاهلية كان فيهم زوان بالعلانية لهن رايات مضروبة، وبعضهن اتخذت أخدانا في السر حتى قال ابن عباس: (كان فيهم من يحرم ما ظهر من الزنا، ويستحل ما خفي فيه، فنهى الله تعالى عن نكاح الفريقين جميعا.)
قوله تعالى: { فإذآ أحصن فإن أتين بفحشة فعليهن نصف ما على المحصنت من العذاب }؛ معناه: أن الإماء إذا أسلمن وتزوجن، ومن قرأ (أحصن) بضم الهمزة فمعناه: اذا زوجن وأحصن بالأزواج، { فإن أتين بفحشة } يعني الزنا فعليهن نصف قدر الحرائر: خمسون جلدة. والمراد بهذه الآية: نصف الجلد؛ لأن الرجم لا نصف له.
وذهب عامة الفقهاء إلى أن الإسلام والتزوج لا يكونا شرطا في وجوب الجلد على الأمة؛ فإنها وإن لم تكن محصنة بالإسلام والتزويج أقيم عليها نصف حد الحرة إن زنت؛ فقال صلى الله عليه وسلم:
" إن زنت فاجلدوها؛ ثم إن زنت فاجلدوها؛ ثم إن زنت فبعها "
واستدلوا بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن (فبيعوها) "
قوله تعالى: { ذلك لمن خشي العنت منكم }؛ أي تزويج الإماء والرضا بنكاحهن عند عدم طول الحرة لمن خشي الزنا منكم، وقيل: لمن خشي الضرر في الدين والدنيا، { منكم }؛ عن نكاح الإماء، { وأن تصبروا خير لكم } ، وإنما قال ذلك؛ لأن ولد الأمة رقيقا لمولى الأمة، وله استخدام الأمة في الحاجات وبين أيدي الرجال الأجانب.
قوله تعالى: { والله غفور رحيم }؛ أي غفور لما أصبتم من الحرمات يغفر لكم بعد التوبة، رحيم لا يعجل بالعقوبة على المذنبين.
فإن قيل: ما فائدة شرط الإحصان في قوله تعالى: { فإذآ أحصن } والأمة تحد حد الزنا سواء كانت محصنة بالإسلام والزوج أم لا؟ قيل: فائدة ذكر إحصان الإماء في الآية: أن حد الحرة يختلف بالإحصان وعدم الإحصان، فكان يجوز أن يتوهم متوهم أن حد الأمة يختلف أيضا بالإحصان بالإسلام والزوج، كما يختلف حد الحرة بذلك؛ فأوجب الله تعالى ذلك الحد بالجلد في الحالة التي يوجب فيها الرجم على الحرة؛ ليعلم أن الإماء لا مدخل لهن في الرجم.
قوله تعالى: { من فتيتكم المؤمنت } الفتاة في اللغة: الشابة؛ إلا أن الأمة تسمى فتاة؛ عجوزا كانت أم شابة؛ لأنها لا توقر توقر الحرة الكبيرة. والأخدان: جمع الخدن؛ والخدين: الصديق. والعنت في اللغة: المشقة، ويسمى الزنا به لأن فاعله يلقى الإثم العظيم في الآخرة، ويقام عليه الحد في الدنيا.
وقد تعلق أصحاب الشافعي بظاهر هذه الآية؛ فقالوا: إذا كان عند الرجل من المال ما يمكنه أن يتزوج به الحرة؛ لا يجوز له أن يتزوج أكثر من أمة واحدة. وقالوا: ويجوز للعبد أن يتزوج الأمة. قالوا: لا يجوز أن يتزوج الأمة اليهودية ولا النصرانية، ولا يجوز أن يتزوج أكثر من أمة واحدة. قالوا: ويجوز للعبد أن يتزوج أمة على الحرة؛ لأن هذه الآية خطاب للأحرار، قال الله تعالى: { فمن ما ملكت أيمنكم }.
وليست هذه الآية عند أصحابنا على طريقة الشرط، ولكن معناها: من لم يبسط الله له في الرزق فليرض بما قسم الله له، وليعقد أدون نكاحين إن لم يقدر على أعلاهما، وفي قوله { من فتيتكم المؤمنت } بيان أن المؤمنة خير من الحرة الكتابية، ولو كان جواز نكاح الأمة للحر مقيدا لحال الضرورة وخوف العنت لكان الحر إذا تزوج حرة على الأمة يبطل نكاح الأمة، ولا خلاف إن كان نكاح الحرة إذا طرأ على نكاح الأمة لم يبطل النكاح. وعن أبي يوسف أنه تأول هذه الآية: على أن وجود الطول هو كون الحرة في نكاحه على ما ورد به الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة "
وهذا تأويل صحيح؛ لأن من لا يكون عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها؛ لأن القدرة على المال لم يوجب له ملك الوطئ إلا بعد وجود النكاح.
[4.26]
قوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم }؛ أي يريد الله أن يبين لكم ما تحتاجون إلى معرفته من الحلال والحرام، وكيفية الطاعة، ويبصركم طريق الذين من قبلكم من أهل التوراة والانجيل، يدلكم على طاعة الله، كما دل من قبلكم، { ويتوب عليكم }؛ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم في الجاهلية؛ { والله عليم }؛ بما فعلتم وبمن يتوب؛ { حكيم }؛ فيما أمركم به ونهاكم عنه في قوله { ليبين } بمعنى (أن)، والعرب تعاقب بين لام كي وبين (أن)، فيقع أحدهما مكان الآخر، كقوله
وأمرت لأعدل بينكم
[الشورى: 15] وقوله
وأمرنا لنسلم
[الأنعام: 71] وفي موضع آخر:
وأمرت أن أسلم
[غافر: 66] وقال:
يريدون ليطفئوا
[الصف: 8] وفي موضع آخر
أن يطفئوا
[التوبة: 32]، وقال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
يريد أن أنسى.
ومعنى الآية: يريد الله ليبين لكم شرائع دينكم ومصالح أمركم. وقال الحسن: (معناه: يبين لكم ما تأتون وما تذرون). وقال عطاء: (يبين لكم ما يقربكم إليه). وقال الكلبي: (معناه: يبين لكم أن الصبر على نكاح الإماء خير لكم { ويهديكم سنن الذين من قبلكم } أي شرائع الذين من قبلكم في تحريم البنات والأمهات والأخوات).
[4.27]
قوله تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم }؛ أي يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم، { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما }؛ اختلفوا في { الذين يتبعون الشهوات } من هم؟ قال السدي: (هم اليهود والنصارى)، وقال بعضهم: هم المجوس لأنهم كانوا يحلون نكاح الأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمه الله تعالى؛ قالوا: إنكم تنكحون بنات الخالة وبنات العمة، والخالة حرام عليكم، فانكحوا بنات الأخ وبنات الأخت كما تنكحوا بنات الخالة والعمة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مجاهد: (هم الزناة؛ يريدون أن تميلوا عن الحق فتكونوا مثلهم تزنون كما يزنون).
[4.28]
قوله تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم }؛ أي في نكاح الأمة إذا لم تجدوا طول الحرة، وفي كل أحكام الشرع. وقيل: معناه: يريد الله ليسهل عليكم فيضع أوزاركم ويحط ذنوبكم، { وخلق الإنسان ضعيفا }؛ أي أسيرا للشهوة، وقيل: ضعيفا في كل شيء
وقال طاووس والكلبي: (معناه لا يصبر على النساء، ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء). وقال سعيد بن المسيب: (ما آيس الشيطان من ابن آدم إلا أتاه من قبل النساء، وقد أتى علي ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني، وأنا أخوف ما أخاف على فتنة النساء). وقال عبادة بن الصامت: (ألا تروني ما آكل إلا ما لوق لي - أي لين وسخن - ولا أقوم إلا ما قد مات صاحبي - يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي؛ أنه لا سمع له ولا بصر).
وقال الحسن: (معنى { وخلق الإنسان ضعيفا } أي خلق من ماء مهين). وقال ابن كيسان: (معناه: تستميله شهوته ويستلينه خوفه وحزنه). قال ابن عباس: (ثماني آيات في سورة النساء؛ هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت:
يريد الله ليبين لكم
[النساء: 26]؛
والله يريد أن يتوب عليكم
[النساء: 27]، { يريد الله أن يخفف عنكم }؛
إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم
[النساء: 31]؛
إن الله لا يظلم مثقال ذرة
[النساء: 40]؛
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48]؛
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه
[النساء: 110]؛
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم
[النساء:147]؛
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم
[النساء: 152].
[4.29]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل }؛ أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالظلم وشهادة الزور واليمين الفاجرة والربا والقمار وغير ذلك من الغصب والسرقة والخيانة، وقوله تعالى: { إلا أن تكون تجرة عن تراض منكم }؛ استثناء منقطع؛ لأن الاستثناء خلاف المستثنى منه؛ لأن التجارة ليست بباطل، كأنه قال: لكن كلوا ما ملكتم بالمبايعة عن تراض منكم.
قرأ أهل الكوفة (تجارة) بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة، وقرأ الباقون بالرفع على معنى: إلا أن تقع تجارة. روي: أنه لما نزلت هذه الآية امتنع الناس عن أكل الأموال بالهبة والهدية والضيافة حتى نزل قوله تعالى:
ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابآئكم
الآية. [النور: 61].
قوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم }؛ أي لا يقتل بعضكم بعضا فإنكم أهل دين واحد، وأنتم كنفس واحدة. قال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمنون كلهم كنفس واحدة؛ إذا ألم عضو تداعى سائر الأعضاء للحمى والسهر "
وقيل: معناه: لا يقتلن الرجل نفسه عند الضجر والغضب. قال صلى الله عليه وسلم:
" إن رجلا ممن كان قبلكم أخذته قرحة في يده فقطعها فأراق دمها حتى مات، فقال الله تعالى: بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها بيده، فقد حرمت عليه الجنة "
وعن جابر بن سمرة: [أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم].
وقال بعضهم: معنى الآية: لا تقتلوا أنفسكم لطلب المال بما يؤدي إلى التلف. قوله تعالى: { إن الله كان بكم رحيما }؛ لا يرضى منكم قتل بعضكم بعضا، ولا أكل المال بالباطل، فيرجع ضرره عليكم في الدنيا والدين.
[4.30]
قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا }؛ أي من يأكل المال بالباطل أو يقتل النفس بغير الحق { عدوانا } أي اعتداء وجورا بغير حل. والعدوان: بأن يعدو غير ((ما)) أمر به، والظلم: أن يضع الشيء في غير موضعه، معنى: إذا فعل ذلك على وجه التعدي { فسوف نصليه نارا }؛ أي ندخله النار، { وكان ذلك }؛ التعذيب، { على الله يسيرا }؛ لا يمنع كثرة رحمته من تعذيب من يستحق العذاب.
[4.31]
قوله تعالى: { إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }؛ معناه: إن تتركوا كبائر الذنوب نكفر عنكم الصغائر، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما جنبت عن الكبائر "
، { وندخلكم مدخلا كريما }؛ يعني الجنة. قرأ أهل المدينة: (مدخلا) بفتح الميم، وهو موضع الدخول. وقرأ الباقون بالضم على المصدر، بمعنى الإدخال.
واختلفوا في الكبائر التي جعل الله تعالى اجتنابها تكفيرا للصغائر، فقال ابن عباس: (هي كل شيء سمى الله فيه النار لمن عمل بها أو شيء نزل فيه حد في الدنيا). ويروى: أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنه فقال: إني أصبت ذنبا فأحب أن تعد علي الكبائر؛ فعد عليه سبعا؛ فقال: (الإشراك بالله؛ وعقوق الوالدين؛ وقتل النفس؛ وأكل الربا؛ وأكل مال اليتيم؛ وقذف المحصنات؛ واليمين الفاجرة). وعن ابن مسعود قال: (الكبائر أربع: اليأس من روح الله؛ والقنوط من رحمة الله؛ والأمن من مكر الله؛ والشرك).
قال مقاتل: (الكبائر: ما نهى الله تعالى عنه من أول هذه السور). ويقال: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار.
وعن ابن مسعود قال: قلت:
" يا رسول الله؛ أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله أندادا وهو خلقك " قلت: ثم ماذا؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك " قلت: ثم ماذا؟ قال: " أن تزني بحليلة جارك " "
وتصديق ذلك قوله تعالى:
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا
[الفرقان: 68-69].
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أكبر الكبائر الإشراك بالله؛ واليمين الغموس؛ وعقوق الوالدين؛ وقتل النفس "
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أربع من الكبائر: الشرك بالله؛ وقتل النفس وعقوق الوالدين؛ وشهادة الزور "
وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن الكبائر: أسبع هي؟ قال: (هن إلى سبعين لأقرب منهن إلى السبع) ثم قال: (الكبائر: الشرك؛ وعقوق الوالدين؛ وقتل المؤمن؛ والقنوط من رحمة الله؛ والأمن من مكر الله؛ واليأس من روح الله؛ والسحر؛ والربا؛ والزنا؛ والسرقة؛ وأكل مال اليتيم؛ وترك الصلوات؛ ومنع الزكاة؛ وشهادة الزور؛ وقتل الولد خشية أن يأكل معه؛ والحسد؛ والكبر؛ والحيف في الوصية؛ وتحقير المسلمين). وقال سعيد بن جبير: (كل ذنب أوعد الله تعالى عليه النار فهو كبيرة). قال الضحاك: (ما وعد الله عليه حدا في الدنيا وعذابا في الآخرة فهو كبيرة).
قال بعضهم: ما سماه الله في القرآن كبيرا أو عظيما فهو كبيرة، نحو قوله:
إنه كان حوبا كبيرا
[النساء: 2]
إن قتلهم كان خطئا كبيرا
[الإسراء: 31]
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13]
سبحانك هذا بهتان عظيم
[النور: 16]
إن كيدكن عظيم
[يوسف: 28]
إن ذلكم كان عند الله عظيما
[الأحزاب: 53].
وقال سفيان الثوري: (الكبائر ما كان من المظالم بينكم وبين العباد، والصغائر ما كان بينك وبين الله لأن الله كريم يعفو). وقيل: الكبير ما نهى الله عنه من الذنوب الكبائر والسيئات مقدماتها وأتبعها مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها. وقيل: الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب والنميمة ونحوها. وقال بعضهم: الكبائر ما يستحقره العبد، والصغائر ما يستقطعه فيخاف منه.
[4.32]
قوله تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض }؛ أي لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا شيئا من الذي لغيره؛ ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله، ولا يتمنى الرجل امرأة أخيه ولا خادمه ولا دابته.
قوله تعالى: { للرجال نصيب مما اكتسبوا }؛ أي حظ من الأجر ما اكتسبوا من العمل الصالح { وللنسآء نصيب مما اكتسبن }؛ حظ من الأجر مما عملن من العمل الصالح.
قوله تعالى: { واسألوا الله من فضله }؛ أي من رزقه، { إن الله كان }؛ لم يزل، { بكل شيء } ، من أعمال الرجال والنساء، { عليما }؛ عالما.
وعن جابر بن عبدالله قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من الصحابة؛
" إذ أقبلت امرأة حتى قامت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنا وافدة النساء إليك، إن الله عزوجل رب النساء ورب الرجال، وآدم أبو النساء وأبو الرجال، وحواء أم النساء وأم الرجال، وأنت بعثك الله رسولا إلى النساء والرجال، ثم الرجال إذا خرجوا في سبيل الله، فقتلوا فهم أحياء عند ربهم فرحين، ونحن نحتبس عليهم ونخدمهم، فهل لنا من الأجر شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقرئي النساء مني السلام؛ وقولي لهن: إن طاعة الزوج واعترافا لحقه يعدل ما هنالك، وقليل منكن يفعله " ".
وقال قتادة والسدي: (لما نزل قوله تعالى:
للذكر مثل حظ الأنثيين
[النساء: 11] فقالت الرجال: إنا لنرجوا أن يفضلنا الله على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن بالميراث؛ فيكون أجرنا مثلي أجر النساء، وقال النساء: إنا لنرجوا أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا في الميراث النصف من نصيبهم، فأنزل الله تعالى { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } { للرجال نصيب مما اكتسبوا } من الميراث والعقاب، وللنساء نصيب كذلك منه). قال قتادة: (يجزى الرجل بالحسنة عشر أمثالها، والمرأة تجزى عشر أمثالها أيضا).
قوله تعالى: { واسألوا الله من فضله } وقرأ ابن كثير والكسائي وخلف: (وسلوا الله من فضله) (وسل من أرسلنا) و (فسل الذين) يقرأون بغير الهمزة، وقرأ الباقون بالهمزة. قال صلى الله عليه وسلم:
" من لم يسأل الله من فضله غضب عليه "
وقال سفيان بن عيينة: (لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي).
[4.33]
قوله تعالى: { ولكل جعلنا مولي مما ترك الولدان والأقربون }؛ أي ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا موالي عصبة يرثونه مما تركه والده وأقرباؤه من ميراثهم، والوالدان والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون. وقيل: معناه: ولكل جعلنا موالي؛ أي ورثة من الذين تركهم، ثم فسرهم فقال: الوالدان والأقربون، على هذا التأويل هم الوارثون.
قوله تعالى: { والذين عقدت أيمنكم فآتوهم نصيبهم }؛ في محل الرفع بالابتداء، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين. وقرأ أهل الكوفة (عقدت) بغير ألف أراد عقدت لهم أيمانهم. قال ابن عباس: (كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ظرف الرجل عاقده وحالفه؛ وقال: أنت ابني ترثني؛ خدمتي خدمتك؛ وذمتي ذمتك؛ وثأري ثأرك، فيكون به ببعض ورثته مثل نصيب أحدهم، إلا أن ينقص نصيبه عن السدس لكثرة الورثة؛ فيعطى السدس خاصة لا ينقص منه شيء، ثم نسخت بقوله تعالى
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[الأنفال: 75]).
قال قتادة: (أراد بقوله: { والذين عقدت أيمنكم }: الحلفاء؛ كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: ديني دينك؛ وثأري ثأرك؛ وحزبي حزبك؛ وسلمي سلمك؛ ترثني وأرثك؛ تعقل عني وأعقل عنك؛ وتطلب بي وأطلب بك، فيكون للحليف السدس ثم نسخ ذلك بقوله:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[الأنفال: 75]). وقال مجاهد: (أراد بقوله: { فآتوهم نصيبهم } النصر والعقل والرفادة دون الميراث).
فعلى هذا تكون الآية غير منسوخة لقوله تعالى:
أوفوا بالعقود
[المائدة: 1] ولقوله صلى الله عليه وسلم:
" أوفوا للحلفاء بعهودهم التي عقدت أيمانكم "
وليس معنى قول ابن عباس أن هذه الآية منسوخة، نسخ حكمها من الأصل، ولكن معناه: تقديم ذوي الأرحام على أهل العقد، وهو كحدوث ابن لمن له أخ لا يخرج الأخ من أن يكون أهلا للميراث إلا أن يكون الابن أولى منه، كذلك أولي الأرحام أولى من الحليف، فإذا لم يكن للميت رحم ولا عصبة فالميراث للحليف، ولهذا قال أصحابنا: فمن أسلم على يدي رجل ووالاه - عاقده - ثم مات ولا وارث له غيره أن ميراثه له، ولهذا قالوا: إن من أوصى بجميع ماله ولا وارث له صحت الوصية.
قوله تعالى: { إن الله كان على كل شيء شهيدا }؛ أي لم يزل شاهدا على كل شيء من إعطاء النصيب ومنعه.
[4.34]
قوله تعالى: { الرجال قومون على النسآء بما فضل الله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أمولهم }؛ قال ابن عباس ومقاتل:
" نزلت هذه الآية في سعد بن الربيع - وكان من النقباء - وفي امرأته ابنة محمد بن مسلمة وهما من الأنصار، نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ أفرشته كريمتي فلطمها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقتصي منه " وكان القصاص يومئذ بينهم في اللطمة والشجة والجراح، فانصرفت مع أبيها ليقتص منه، فقال صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا؛ هذا جبريل أتاني " فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: " أردنا أمرا؛ وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير " ورفع القصاص. "
ومعناها: الرجال مسلطون على أدب النساء بالحق، والقوامون المبالغون بالقيام عليهن بتعليمهن وتأديبهن وإصلاح أمورهن، وقوله تعالى: { بما فضل الله بعضهم على بعض } أي جعل الله ذلك للرجال بفضلهم على النساء في العقل والرأي، وقيل: بزيادة الدين واليقين، وقيل: بقوة العبادة والجهاد، وقيل: بالجمعة والجماعة وبإنفاقهم أموالهم في المهور وأقوات النساء.
قوله تعالى: { فالصلحت قنتت حفظت للغيب بما حفظ الله }؛ أي فالمحصنات المطيعات لله في أمر أزواجهن، وقيل: قائمات بحقوق أزواجهن. وأصل القنوت: مداومة الطاعة، وقوله تعالى: { حفظت للغيب } أي يحفظن فروجهن وأموال أزواجهن في حال غيبة أزواجهن. ويدخل في حفظ المرأة لغيب الزوج أن تكتم عليه ما لا يحسن إظهاره مما يقف عليه أحد الزوجين على الآخر. وقوله تعالى: { بما حفظ الله } أي يحفظ الله إياهن من معاصيه وبتوفيقه لهن، ويقال: بما حفظهن الله تعالى في مهورهن وإلزام الزوج النفقة عليهن. قال صلى الله عليه وسلم:
" خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك؛ وإذا أمرتها أطاعتك؛ وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها "
قوله تعالى: { والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن }؛ أي النساء التي تعلمون عصيانهن لأزواجهن فعظوهن، والنشوز: الرفع عن الصاحب، مأخوذ من النشز وهو المكان المرتفع، المراد من الوعظ والهجر والضرب في الآية أن يكون ذلك على الترتيب المذكور فيها؛ لأن هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا أمكن الاستدراك بالأسهل والأخف لا يصار إلى الأثقل، فالأولى أن يبدأ الزوج فيقول لامرأته الناشزة: إتق الله وارجعي إلى فراشي، فأطاعته وإلا سبها، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنه.
والهجر: الكلام الفاحش، يقال: هجر الرجل يهجر، إذا هدأ، وأهجر الرجل في منطقه بهجر هجارا إذا تكلم بقبيح. وقال الحسن وقتادة: (قوله: { واهجروهن في المضاجع } من الهجر؛ وهو أن لا يقرب فراشها ولا ينام معها؛ لأن الله تعالى قرنه بقوله تعالى { في المضاجع }.
إذا لم ينفعها الوعظ هجرها زوجها في المضجع، فإن كانت تحب زوجها شق عليها الهجران، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك، فكان دليلا على النشوز من قبلها؛ فيضربها الزوج ضربا غير مبرح ولا شائن، كما يؤدب الرجل ولده، ويكون ذلك موكولا إلى رأيه واجتهاده على ما يرى من المصلحة، ولهذا قيل: إن هذا الضرب مقيد بشرط السلامة، فالأولى أن يضربها بالنعل واللطم ضربتين أو ثلاثا على حسب ما يراه.
قوله تعالى: { فإن أطعنكم }؛ أي فيما تلتمسون منهن؛ { فلا تبغوا عليهن سبيلا }؛ أي لا تطلبوا عليهن عللا ولا تكلفوهن الحب لكم، فإنهن لا يملكن ذلك، { إن الله كان عليا كبيرا }؛ أي علا فوق كل شيء كبيرا فلا شيء أكبر منه، أراد بالعلي: العلو في القهر والقدر لا علو المكان، وأراد بالكبير الجلال والعظمة. والمعنى: أني مع علوي وكبريائي، أرضى من عبادي بالطاعة ولا آخذهم بالحب الذي لا غاية بعده، فإن أكبر عبادي من يؤثر نفسه علي، ولا يخلص حبه لي كل الإخلاص.
وقد روي:
" أنه لما شكا الرجال نساءهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالضرب؛ أصبح بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة يشكون أزواجهن، فأقبل على أصحابه بعد الصلاة وقال: " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن أردتم إقامتها كسرتموها، وإن رفقتم بها استمتعتم بها على عوج " ثم قال: " خيركم خيركم لأهله " ".
[4.35]
قوله عز وجل: { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلهآ إن يريدآ إصلحا يوفق الله بينهمآ }؛ أي وإن علمتم أيها المؤمنون بعد العظة والهجران تباعد الزوجين عن الحق، وهو أن يكون كل واحد منهما في شق على حدة، ولم يدروا من أيهما جاء النشوز فابعثوا عدلا ذا رأي وعقل من أهل الزوج؛ وعدلا من أهل المرأة؛ يختار الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فيخلوا حكم الزوج به؛ فيقول: أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا؟ فأنا لا أدري ما أقول وما أعمل به حتى أرى ما تريد، فإن قال: أهواها؛ ولكنها تسيء معاشرتي، فعظها وأرضها عني، علم أن الرجل ليس بناشز، وإن قال: لا حاجة لي بها؛ فرق بيني وبينها وخذ لي منها ما استطعت؛ علم أنه ناشز، وكذلك يفعل حكم المرأة بالمرأة.
ثم يلتقي الحكمان، فيصدق كل واحد منهما صاحبه فيما سمع، فيقبلان على الزوج إن كان ناشزا فيقولان له: يا عدو الله؛ أنت العاصي لله، الظالم على امرأتك، ويعظانه ويزجرانه، وكذلك يفعلان بالمرأة إن كانت هي الناشزة، فذلك قوله: { إن يريدآ إصلحا يوفق الله بينهمآ } أي أن الحكمين إذا أرادا عدلا ونصيحة ألف الله بين الزوجين، ويقال: وفق الله بين أقوال الحكمين، { إن الله كان عليما }؛ بأمر الحكمين، { خبيرا }؛ بنصيحتهما، ويقال: عليما بما فيه صلاح الحق، خبيرا بذلك.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الحكمين إذا رأيا أن يفرقا بينهما فرقا بينهما، وكذلك إذا رأى الحاكم أن يفرق فعل إذا وقع اليأس عن زوال الشقاق، واعتبروا بالغاية فما عند أصحابنا رحمهم الله فليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يكونا وكيلين في الخلع من جانبين، أو يرضى الزوج بتفريقها.
[4.36]
وقوله عز وجل: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالولدين إحسانا }؛ أي وحدوا الله تعالى، وأطيعوه ولا تعبدوا معه غيره، فإن ذلك يفسد عبادته. قالت الحكماء: العبودية ترك الاختيار وملازمة الافتقار. وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود؛ والحفظ للحدود؛ والرضا بالموجود ؛ والصبر على المفقود. قوله تعالى: { وبالولدين إحسانا } أي أحسنوا بالوالدين إحسانا، وقيل: استوصوا بالوالدين إحسانا، وقد يذكر المصدر المنصوب على تقدير فعل محذوف كقوله تعالى:
فضرب الرقاب
[محمد: 4]، ومعناه الأمر.
قوله تعالى: { وبذي القربى واليتمى والمسكين }؛ أي وأحسنوا بذوي القرابة واليتامى والمساكين. والإحسان إلى ذوي القربى هو مواساة الفقير منهم إذا خاف عليه ضرر الجوع والعري وحسن العشرة وكف الأذى عنه والمحاباة دونه ممن يريد ظلمه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه:
" أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة في قلبه؛ فقال: " إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المساكين وامسح برأس اليتيم وأطعمه " ".
قوله تعالى: { والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب }؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق؛ وهو الجار القريب المسلم، وجار له حقان؛ وهو الجار الأجنبي المسلم، وجار له حق واحد؛ وهو الجار الكافر "
فعلى هذا يكون معنى (الجار الجنب): هو الجار الذي هو من قوم آخرين لا قرابة بينك وبينه. ويقال: إن الجار ذوي القربى هو الذي يقاربك في الجوار، تعرفه ويعرفك، والجار الجنب: هو الجار الغريب المتباعد.
والجنب في اللغة: البعيد. وقرأ الأعمش: (والجار الجنب) بفتح الجيم وإسكان النون، وهما لغتان. يقال: رجل جنب وجنب؛ إذا لم يكن قريبا، وجمعه: أجانب، وقيل للجنب جنب لاعتزاله الصلاة وبعده من المسجد حتى يغتسل. وقال بعضهم: (الجار الجنب) الكافر.
قوله تعالى: { والصاحب بالجنب } هو الرفيق في السفر؛ المنقطع إلى الرجل رجاء خيره، كذا قال ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وقتادة، وقال بعضهم: الصاحب بالجنب هو الملاصق داره بدارك؛ فهو إلى جنبك، ويقال: هو جار الرجل في البيت الواحد. وقال علي وعبدالله وأبن أبي ليلى والنخعي: (هي الزوجة تكون معه إلى جنبه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، وأيما رجل أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس جاره ذلك بمؤمن " قالوا: يا رسول الله؛ ما حق الجار؟ قال: " إن دعاك أجبته؛ وإن أصابته فاقة عدت عليه؛ وإن استقرضك أقرضته؛ وإن أصابه خير هنيته؛ وإن مرض عدته؛ وإن أصابته مصيبة عزيته؛ وإن مات شهدت جنازته، ولا تستعلي عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له منها؛ وإن لم تفعل فأدخلها سرا ولا يخرج ولدك منها شيئا فيغيظ ولده به "
قال صلى الله عليه وسلم:
" من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله "
قوله تعالى: { وابن السبيل }؛ قال مجاهد والربيع: (هو المسافر)، ومعناه: صاحب الطريق. وقال قتادة والضحاك: (هو الضيف ينزل بك، سمي ابن السبيل لأنه كالمجتاز الذي لا يقيم، والضيافة ثلاثة أيام وما زاد صدقة). وقال الشافعي: (هو الذي يريد السفر ولا نفقة له).
قوله سبحانه وتعالى: { وما ملكت أيمنكم }؛ يعني المماليك أحسنوا إليهم ولا تكلفوهم إلا طاقتهم، قال صلى الله عليه وسلم: [أطعموهم مما تأكلون؛ واكسوهم مما تلبسون؛ ولا تكلفوهم ما لا يطيقون؛ فإنهم لحم ودم وخلق أمثالكم]. وقال أنس: كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته: [الصلاة وما ملكت أيمانكم] جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بهذه الكلمة في صدره وما يفيض بها لسانه.
قوله عز وجل: { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }؛ أي لا يرضى عمل من يختال في مشيته ويفتخر على الناس بكبره، وإنما ذكر المختال في آخر هذه الآية؛ لأن المختال يأنف من ذوي القربى قرابته إذا كانوا فقراء؛ ومن جيرانه إذا كانوا كذلك ولا يحسن عشرتهم.
[4.37]
قوله تعالى: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون مآ آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }؛ يجوز أن يكون أول هذه الآية في موضع نصب بدلا من قوله (من كان) ويحتمل أن يكون نصبا على الذم، على معنى: أعني الذين يبخلون، ويحتمل أن يكون رفعا على الاستئناف على إضمار (هم) الذين يبخلون. قال ابن عباس ومجاهد: (المراد بالآية اليهود ، بخلوا بما كان عندهم من العلم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمروا قومهم بالبخل وهو الكتمان)، ويقال: كانوا لا يعطون من أموالهم شيئا، ويأمرون الناس بذلك.
وقال بعضهم: الآية عامة في كل من يبخل بما أوتي من المال ويكتم ما أعطاه الله من النعيم لا يخرج زكاته، فعلى هذا يكون المراد بالكافرين في هذه الآية: كافري النعم دون الكفار بالله. فأما على التأويل الأول فالمراد بالكافرين اليهود.
والبخل: منع الواجب. قرأ يحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف: (بالبخل) بفتح الباء والخاء، وقرأ قتادة وأيوب بفتح الباء وسكون الخاء، وقرأ عيسى ابن يعمر: بضم الباء والخاء، وقرأ الباقون بضم الباء وسكون الخاء، وكذلك في سورة الحديد، وكلها لغة معروفة فيه إلا أن اللغة العالية: ضم الباء وسكون الخاء، وبفتح الباء والخاء لغة الأنصار.
[4.38]
قوله عز وجل: { والذين ينفقون أموالهم رئآء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر }؛ في محل نصب عطفا على { الذين يبخلون } وإن شئت جعلته عطفا على قوله: { وأعتدنا للكافرين } [النساء: 37]. قال السدي: (نزلت هذه الآية في المنافقين الذين يراؤن الناس في الإنفاق، ولا يتصدقون في السر). قيل: المراد به كفار مكة أنفقوا على الناس وقت خروجهم إلى حرب بدر.
قوله تعالى: { ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا }؛ أن من يفعل ما يدعوه إليه الشيطان وسول له فبئس قرينه الشيطان يغويه في الدنيا ويكون قرينا معه في السلسلة في النار. و { قرينا } نصب على التمييز، وقيل: على القطع؛ أي قطع الألف واللام.
[4.39]
قوله عز وجل: { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله }؛ أي ماذا عليهم لو صدقوا الله واليوم الآخر وتصدقوا مما رزقهم الله من الأموال، وما فرض عليهم من الصدقة، { وكان الله بهم عليما }؛ أي أنهم لا يؤمنون، وفي الآية بيان أنهم إنما كفروا لسوء اختيارهم وقلة تأملهم مع قدرتهم على الإيمان؛ لأنه لا يحسن أن يقال لمن لا يقدر على الشيء: ماذا عليك لو فعلت كذا.
[4.40]
قوله تعالى: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }؛ أي لا ينقص من جزاء الأعمال زنة نملة حميراء صغيرة. والمثقال مفعال من الثقل؛ وهو ما يوزن به الشيء، من ذلك يسمى ما يوزن به الدينار مثقالا؛ لأنه يعادله في الثقل. وقرأ عبدالله: (إن الله لا يظلم مثقال نملة) والمعنى: إن الله لا ينقص أحدا من خلقه من ثواب عمله وزن ذرة، بل يجازيه عليها ويثيبه بها. وقال بعضهم: الذر الهباء في الكوة، فكل جزء منها ذرة.
قوله تعالى: { وإن تك حسنة يضعفها }؛ قرأ العامة (حسنة) بالنصب على معنى: وإن تك الفعلة حسنة: وقرأ أهل الحجاز: بالرفع على معنى: إن تقع حسنة، أو يؤخذ حسنة. قوله تعالى: { يضعفها } قرأ الحسن بالنون، والباقون بالياء، وهو الصحيح لقوله: (ويؤت من لدنه)؛ وقرأ أبو رجاء وابن كثير وابن عامر: (يضعفها) بتشديد العين وهما لغتان.
وقال أبو عبيد: (يضاعفها؛ أي يجعلها أضعافا كثيرة، ويضعفها بالتشديد يجعلها ضعفين). وقال الضحاك: (أراد بالحسنة: التوبة ومن لم يكن له إلا حسنة واحدة مقبولة غفر الله له). وقيل: معناه: إن أزاد على سيئاته مثقال ذرة من الحسنة يضاعفه الله حتى يجعله مثل أحد، ويوجب له الجنة، ويعطيه من عنده الزيادة على ما يستحقه من جزاء عمله، فذلك الأجر العظيم لا يعلم مقداره إلا الله. قوله تعالى: { ويؤت من لدنه أجرا عظيما }؛ وهو الجنة.
[4.41]
قوله عز وجل: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد }؛ معناه: كيف يصنع الكفار؟ وكيف يكون حالهم يوم القيامة؟ إذا جئنا من كل جماعة بنبيها شهيدا عليهم ولهم، { وجئنا بك }؛ يا محمد { على هؤلاء }؛ الذين أرسلت إليهم؛ { شهيدا }؛ أتشهد لمن صدق بالتصديق، وعلى كل من كذب بالتكذيب.
[4.42]
قوله تعالى: { يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا }؛ معناه: يوم وقوع الشهادة تمنى الذين كفروا بالله، وعصوا الرسول أن الأرض تسوى بهم: يمشي عليها أهل الجمع ويودون أنهم لم يكتموا الله حديثا؛ وذلك حين ميز الله أصحاب اليمين من أصحاب الشمال، ويقول للوحوش والطيور والبهائم: كوني ترابا؛ أي ويرى الكفار ذلك ويرون ما أكرم الله به المسلمين، فيقول بعض الكفار لبعض: هلموا نقول إذا سئلنا: والله ربنا ما كنا مشركين، فيقولون ذلك، فيختم الله على ألسنتهم، ويأذن لجوارحهم في الكلام، فتشهد عليهم عند ذلك؛ فيقولون: يا ليتنا كنا ترابا، ويتمنون أنهم لم يكتموا الله حديثا؛ لأنهم كانوا كذبوا في قولهم: ما كنا مشركين.
وقال بعضهم: معنى: { ولا يكتمون الله حديثا } كلام مستأنف غير داخل في التمني؛ ومعناه: لا يقدرون على كتمان شيء مما عملوه؛ لظهور ذلك عند الله؛ أي لا يفيد كتمانهم. وقال الكلبي: (يقول الله للبهائم والوحوش والطير: كوني ترابا؛ فتسوى بهم الأرض؛ فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون كذلك). وقال عطاء: (معناه: يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض، ولم يكتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا نعته).
قرأ أهل المدينة والشام (تسوى) بفتح التاء والتشديد على معنى وتتسوى؛ فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما بفتح التاء والتخفيف على حذف أحد التاءين مثل قوله:
لا تكلم نفس
[هود: 105] وقرأ الباقون بضم التاء والتخفيف على المجهول؛ أي لو سويت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئا واحدا.
[4.43]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في جماعة من الصحابة؛ كانوا يشربون الخمر قبل التحريم، ثم يأتون الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون معه؛ فنهاهم الله تعالى عن ذلك).
وتأويل الآية على هذا: لا تقربوا مواضع الصلاة وهو المسجد وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون وما يقرأ إمامكم في الصلاة. وسكارى: جمع سكران، وهذا خطاب لمن لم يبلغ به السكر إلى حد لا يفهم الكلام كله، لأن الذي لا يفهم شيئا لا يصح أن يخاطب، فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصلاة حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة.
وقال مقاتل: (نزلت في جماعة من الصحابة؛ كانوا يشربون الخمر في دار عبدالرحمن بن عوف قبل التحريم؛ فحضرت صلاة المغرب؛ فقدموا رجلا فقرأ
قل يأيها الكافرون
[الكافرون: 1] وقال: أعبد ما تعبدون؛ وحذف (لا) في جميع السورة، فأنزل الله هذه الآية).
فمعناها على هذا: لا تقربوا نفس الصلاة، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقرأون. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال بعد نزول هذه لآية: (اللهم إن الخمر يضر بالعقول والأموال؛ فأنزل فيها أمرك) فصبحهم الوحي بآية المائدة.
قوله تعالى: { ولا جنبا } أي لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم جنبا، { إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا }؛ إلا أن تكونوا مجتازين، وإذا لم يكن الماء إلا في المسجد، تيمم الجنب ودخل المسجد وأخذ الماء ثم خرج واغتسل. وقال الشافعي: (يجوز للجنب العبور في المسجد بغير تيمم، ولا تجوز له الإقامة فيه). وقيل: معنى الآية: لا تصلوا وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين لا تجدون الماء فتيممون وتصلون، هكذا روي عن علي كرم الله وجهه ومجاهد والحاكم. وانتصب قوله { جنبا } على الحال؛ أي لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب.
قوله تعالى: { وإن كنتم مرضى أو على سفر }؛ أي إذا كنتم مرضى فخفتم الضرر باستعمال الماء أو كنتم مسافرين، { أو جآء أحد منكم من الغآئط }؛ معناه: وجاء أحدكم من الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض؛ يقال: تغوط الرجل إذا دخل المكان المطمئن لقضاء الحاجة، ويجعل هذا اللفظ كناية عن ذلك.
قوله تعالى: { أو لمستم النسآء }؛ قال علي وابن عباس رضي الله عنهما: (معناه: أو جامعتم النساء) وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة. وقال ابن مسعود وابن عمر والنخعي والشعبي: (أراد به اللمس باليد، وكانوا لا يبيحون للجنب التيمم).
واختلف العلماء في هذا، فقال الشافعي: (إذا مس الرجل بدن المرأة نقض وضوءه سواء كان باليد أم بغيرها من الأعضاء). وقال الأوزاعي: (إن مسها باليد نقض؛ وإن كان بغير اليد لم تنقض).
وقال مالك وابن حنبل والليث بن سعد: (إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (إن كان ملامسة فاحشة يحدث الانتشار في التجرد نقض؛ وإلا فلا). وقال محمد: (لا تنقض الملامسة بحال)، وبه قال ابن عباس والحسن البصري.
دليل الشافعي ما روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة "
واللمس أكثر ما استعمل في لمس اليد. وحجة من لم يوجب الوضوء بالملامسة ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: [كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ورجلاي في قبلته، فإذا سجد وغمزني فضممت رجلاي فإذا قام بسطتهما]، والبيوت يؤمئذ ليس فيها مصابيح.
وعن عائشة رضي الله عنها أيضا قالت: افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة؛ فجعلت أطلبه بيدي؛ فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول:
" " أعوذ برضاك من سخطك؛ وبمعافاتك من عقوبتك؛ وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فلما فرغ من الصلاة فقال لي: " أتاك شيطانك؟ ". قالوا: فلمسته عائشة وهو في الصلاة فمضى فيها. وعن عائشة رضي الله عنها: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ "
ومذهب الشافعي في الملامسة على ثلاثة أوجه: اللمس ينقض الوضوء قولا واحدا؛ وهو لمس الشابة الأجنبية بأي جزء من أجزائه؛ ساهيا كان أم متعمدا؛ حية كانت أم ميتة. ولمس لا ينقض قولا واحدا؛ وهو مس الشعر والظفر والسن. ولمس فيه قولان: وهو لمس الصغيرة والعجوز الكبيرة وذوات محارمه؛ أحدهما: ينقض الوضوء؛ لأنهن من جملة النساء، والثاني: أنه لا ينقض؛ لأنه لا مدخل للشهوة فيهن، دليله:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل لأمامة بنت زينب وأبوها أبو العاص "
ولو كان اللمس من خلف حائل لا ينقض؛ سواء كان الحائل صفيقا أم رقيقا. وفي الملموس للشافعي قولان؛ أحدهما: ينقض؛ لاشتراكهما في الإلتذاذ به، والثاني: لا ينقض؛ لخبر عائشة (فوقعت يدي على أخمص رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قوله عز وجل: { فلم تجدوا مآء فتيمموا }؛ أي إذا لم تقدروا على استعمال الماء وقد يذكر الموجود، ويراد به القدرة على استعمال الماء، فإن كان بينه وبين الماء سبع أو عدو لم يكن واجدا للماء في الحكم. ومعناه: فتيمموا، { صعيدا طيبا }؛ أي فاقصدوا ترابا طاهرا، ويقال: إن الصعيد ما يتصاعد على وجه الأرض ترابا كان أم صخرة ولا تراب عليها؛ لأن الله تعالى قال:
فتصبح صعيدا زلقا
[الكهف: 40] وإذا كان على الصخرة تراب لا يكون زلقا، ولهذا جوز أبو حنيفة ومحمد التيمم بكل ما كان من جنس الأرض.
وقال مالك: (يجوز التيمم بالأرض وبكل ما اتصل بها؛ حتى لو ضرب بيده على شجرة ثم تيمم بها أجزاه). وقال الشافعي: (لا يجوز إلا بالتراب الذي يعلق باليد). والتيمم من خصائص هذه الأمة.
وسبب نزول هذه الآية ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معي عقد استعرته من أسماء؛ فانقطع؛ حتى إذا كنا بالبيداء افتقدته؛ فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأناخ وأناخ الناس معه؛ فأمرنا بالتماسه فلم يوجد؛ فباتوا ليلتهم تلك وليس عنده ماء. فجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى إلى عائشة حبست الناس على غير ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام؛ فعاتبني وقال: قبحها الله من قلادة حبست المسلمين على غير ماء وقد حضرت الصلاة، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التخوف إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضعا رأسه على فخذي، فأصبحنا على غير ماء، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم وجدنا القلادة تحت البعير الذي كنت عليه، فقال أسيد بن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر، جزاك الله خيرا؛ فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا).
قوله تعالى: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم }؛ معناه بعد ضرب الأيدي على الصعيد الطيب، قوله عز وجل: { إن الله كان عفوا غفورا }؛ أي متفضلا عليكم بتسهيل الأوامر وتخفيفا؛ لأنه نقلكم من الوضوء إلى التيمم، غفورا متجاوزا عنكم، يغفر لكم بهذه الطاعات السهلة ذنوبكم.
وروى جابر قال:
" خرجنا في سفرنا فأصاب رجلا منا شجة في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ قالوا: لا؛ أنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بذلك، فقال: " قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا؛ إنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم "
[4.44]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يشترون الضللة }؛ قال ابن عباس: (هم اليهود؛ كانوا يستبدلون الضلالة بأخذ الرشا بكتمان صفة النبي صلى الله عليه وسلم، يأخذون الرشوة على كتمانهم بعدما أوتوا العلم). قوله تعالى: { ويريدون أن تضلوا السبيل }؛ أي يريدون أن تضلوا أنتم طريق الهدى كما ضلوا هم بأنفسهم.
[4.45]
قوله تعالى: { والله أعلم بأعدائكم }؛ أي هو أعلم بهم، يعلمهم ما هم عليه، { وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا }؛ أي أن عداوة اليهود لا تضر المسلمين إذ ضمن لهم النصر والولاية؛ أي اكتفوا بولاية الله ونصرته. وقرأ الحسن: (أن تضلوا السبيل) بفتح الضاد؛ أي عن السبيل، وقيل: معناه: (والله أعلم بأعدائكم) أي أعلم بهم منكم فلا تستنصحوهم، ويجوز أن يكون أعلم بمعنى علم.
[4.46]
قوله تعالى: { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا }؛ إن شئت جعلته متصلا بقوله
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب
[آل عمران: 23] { من الذين هادوا } ، وإن شئت جعلتها منقطعة مستأنفة. قال ابن عباس: (كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الأمر فيخبرهم، ويرى أنهم كانوا يأخذون به فإذا انصرفوا حرفوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون له: سمعنا قولك، ويقولون في أنفسهم: وعصينا أمرك). وقال بعضهم { من الذين هادوا } راجع إلى قوله
والله أعلم بأعدائكم
[النساء: 45] على جهة التبيين للأعداء كما يقال: هذا الثوب من القطن.
قوله تعالى: { واسمع غير مسمع ورعنا }؛ معناه: أنهم كانوا إذا كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء قالوا: اسمع؛ وقالوا في أنفسهم: لا أسمعت ولا سمعت. وقيل: معناه: غير مجاب له بشيء مما يدعو إليه، وكانوا يقولون: راعنا؛ يوهمون أنهم يريدون بهذا القول: انظرنا حتى نكلمك بما نريد، وكانوا يريدون بذلك السب بالرعونة بلغتهم. ويقال: كانوا يقولون هذه الكلمة على وجه التجبر والتكبر، كما يقول المتكبر لغيره: افهم كلامي واسمع قولي، وكانوا يقولون: أرعنا سمعك وتأمل كلامنا ومثل هذا مما لا يخاطب به الأنبياء صلوات الله عليهم، إنما يخاطبون بالإجلال والإعظام.
قوله تعالى: { ليا بألسنتهم وطعنا في الدين }؛ أي كانوا يلوون ألسنتهم بالسب والتعيير والطعن في الدين. قوله تعالى: { ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا }؛ معناه: لو قالوا سمعنا قولك وأطعنا أمرك مكان قولهم سمعنا وعصينا، وقالوا: واسمع وانظرنا نسمع قولك ونفهم كلامك مكان قولهم: واسمع غير مسمع، { لكان خيرا لهم وأقوم }؛ وأصوب، { ولكن لعنهم الله بكفرهم }؛ أي خذلهم وأبعدهم من رحمته مجازاة بكفرهم. { فلا يؤمنون إلا قليلا }؛ فلا يؤمنون إيمانا إلا قليلا، وقيل: معناه: لا يؤمنون إلا قليلا منهم وهم: عبدالله بن سلام ومن تابعه.
[4.47]
قوله تعالى: { يا أيهآ الذين أوتوا الكتب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم }؛ أي يا أيها الذين أعطوا علم التوراة، صدقوا بهذا القرآن الذي نزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم موافقا لما معكم من التوراة، { من قبل أن نطمس وجوها }؛ أي من قبل أن نمحو آثارا لوجوه منها: فنخسف بالعين والأنف وغير ذلك من آثار الوجوه فنحولها إلى الأقفية فتمشون القهقرى.
روي: أنه لما نزلت هذه الآية قدم عبدالله بن سلام من الشام؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله، فقال: يا رسول الله؛ ما كنت أرى أن أصل إليك حتى تحول وجهي في قفاء.
ويقال معنى: { فنردها على أدبارهآ }؛ نجعل وجوههم على هيأة أقفائهم، ومعنى: { أو نلعنهم كما لعنآ أصحب السبت }؛ أو نجعلهم قردة كما مسخنا أصحاب السبت، { وكان أمر الله مفعولا }؛ قضاؤه كائنا لا شك فيه، فإن قيل: كيف قال الله تعالى آمنوا { من قبل أن نطمس وجوها } وأوعدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا، ولم يقع الطمس؟ قيل: يحتمل أن يكون هذا وعيدا لهم على ترك جميعهم الإسلام، وقد آمن منهم جماعة بعد هذه الآية كعبدالله بن سلام وعبدالله بن ثعلبة وأسيد بن ثعلبة وأسيد بن عبيد وغيرهم، ويحتمل أن يكون المراد بالآية: الطمس في الآخرة، وسيفعل الله ذلك بهم.
[4.48]
قوله عز وجل: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء }؛ قال الكلبي:
" نزلت في المشركين؛ في شأن وحشي وابن حرب وأصحابه، وكان قد جعل لوحشي إن قتل حمزة أن يعتقه مولاه، فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة ندم هو وأصحابه على ما فعلوا من قتل حمزة؛ فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا قد ندمنا على ما صنعنا، وأنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول إذ كنت عندنا بمكة { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } وقد دعونا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس وزنينا، ولولا هذه الآية لاتبعناك، فنزل { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } الآية، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي وأصحابه، فلما قرأوها كتبوا إليه: إن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزل قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } فبعث بها إليهم فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل المشيئة، فنزل قوله تعالى: { قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } فبعث بها إليهم فوجدوها أوسع مما كان قبلها، فدخل هو وأصحابه في الإسلام ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل منهم ثم قال صلى الله عليه وسلم لوحشي: " أخبرني كيف قتلت حمزة؟ " فلما أخبره، قال له: " ويحك! غيب وجهك عني " فلحق وحشي بالشام فكان فيها إلى أن مات. قالوا: مات وفي بطنه الخمر ".
قوله تعالى: { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما }؛ أي ومن يشرك بالله سواه فقد اختلق على الله ذنبا عظيما غير مغفور له.
[4.49]
قوله عز وجل: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشآء }؛ قال ابن عباس:
" نزلت هذه الآية في بحرى بن عمرو ومرحب بن زيد؛ أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما طائفة من اليهود بأطفالهم؛ فقالوا: يا محمد؛ هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: " لا " فقالوا: والذي نحلف به؛ ما نحن إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار. فهؤلاء الذين يزكون أنفسهم، برؤها من الذنوب، وزعموا أنهم أزكياء "
يقول الله تعالى: { بل الله يزكي من يشآء } أي يطهر من الذنوب من يشاء من كان أهلا لذلك.
قوله تعالى: { ولا يظلمون فتيلا }؛ أي لا ينقصون من جزاء ما يستحقونه قدر الفتيل وهو ما تفتله بين إصبعيك من الوسخ إذا مسحت إحداهما بالأخرى، وقيل: الفتيل: ما في بطن النواة في شقها من لحائها.
[4.50]
قوله عز وجل: { انظر كيف يفترون على الله الكذب }؛ أي انظر يا محمد كيف يختلق اليهود الكذب على الله، { وكفى به }؛ بما يفعلونه، { إثما مبينا } ، ذنبا بينا.
[4.51]
قوله عز وجل: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت }؛ قرأ السلمي: (ألم تر) ساكنة الراء في كل القرآن كما قال الشاعر:
من يهده الله يهتد لا مضل له
ومن أضل فما يهديه من هادي
قال ابن عباس: (ركب كعب بن الأشرف في تسعين راكبا من اليهود؛ فيهم حيي بن أخطب وجدي بن أخطب ومالك بن الصيف وغيرهم إلى أهل مكة ليحالفوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه قبل أجله، فقال أبو سفيان: يا معشر أهل الكتاب؛ أنشدكم بالله أيهم أقرب للهدى؛ نحن أم محمد وأصحابه، فإنا نعمر مسجد الله، ونسقي الحجيج، ونحجب الكعبة، ونصل الرحم، ومحمد قطع أرحامنا واتبعه شرار الحجيج بنو غفار، فنحن أهدى أم هم؟ فقالت اليهود: أنتم أهدى منهم. فأنزل هذه الآية).
ومعناه: ألم ينته علمك يا محمد إلى { الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } أي علما بالتوراة وما فيها من نعت محمد وصفته يصدقون بالجبت والطاغوت. قال ابن عباس: (الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف). وقيل الجبت: الكهنة، والطاغوت: الشياطين. وقيل: الجبت والطاغوت: صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. وقيل الجبت: الصنم، والطاغوت: مترجمة الصنم على لسانه.
وقال أهل اللغة: كل معبود سوى الله تعالى من حجر أو مدر أو صورة فهو جبت وطاغوت، دليله قال تعالى:
أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
[النحل: 36]؛ وقوله تعالى:
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها
[الزمر: 17]. وقال مجاهد: (الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان). يدل عليه قوله:
والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت
[البقرة: 257]
والذين كفروا يقتلون في سبيل الطغوت فقتلوا أولياء الشيطن
[النساء: 76].
وقال بعض المفسرين: لما خرج كعب بن الأشرف هو ومن معه إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزل اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإن أردت يا كعب أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما؛ ففعل هو وأصحابه، فذلك قوله تعالى: { يؤمنون بالجبت والطغوت }.
قال كعب لأهل مكة: يجيء منكم ثلاثون؛ ومنا ثلاثون؛ فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد، ففعلوا ذلك، ثم قال أبو سفيان: يا كعب؛ إنك امرؤ تقرأ الكتاب ونحن أميون لا نعلم، فمن أهدى سبيلا، وأقرب إلى الحق نحن أم محمد، فقال كعب: والله أنتم أهدى سبيلا من الذي عليه محمد. فأنزل الله تعالى هذه الآية { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب }. يعني كعبا وأصحابه يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني الصنمين، { ويقولون للذين كفروا }؛ أي لأبي سفيان وأصحابه : { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا }.
[4.52]
قوله عز وجل: { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله }؛ أي أبعدهم من رحمته، ومن يبعده الله من رحمته، { فلن تجد له نصيرا }.
[4.53]
قال تعالى: { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا }؛ أي ألهم نصيب، والميم زائدة، وهذا على وجه الإنكار؛ أي ليس لهم من الملك شيء، { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } يعني محمدا وأصحابه لا يعطونهم شيء من حسدهم وبخلهم وبغضهم، ورفع قوله: { يؤتون } لاعتراض (لا) بينه وبين (إذا). وفي قراءة عبدالله: (فإذا لا يؤتوا) بالنصب، ولم يعمل ب (لا). وقال بعضهم: معناه: أن اليهود لو كان لهم نصيب من الملك ما أعطوا الناس مقدار النقير؛ وهو النقطة التي تكون في ظهر النواة.
[4.54]
قوله تعالى: { أم يحسدون الناس على مآ آتهم الله من فضله }؛ أي بل يحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله تعالى من النبوة. وقيل: على ما أحل الله له من النساء، وقالوا: لو كان نبيا لشغلته النبوة عن النساء. وقال قتادة: (أراد بالناس العرب، حسدوهم على النبوة أكرمهم الله بها بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وقال علي رضي الله عنه: (أراد بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما).
قوله تعالى: { فقد آتينآ آل إبرهيم الكتب والحكمة }؛ أي لما قالت اليهود: لو كان محمد نبيا ما رغب في كثرة النساء؛ حسدوه على كثرة نسائه وعابوه بذلك فأكذبهم الله بقوله { قد آتينآ آل إبرهيم الكتب والحكمة } أراد بالحكمة النبوة، { وآتيناهم ملكا عظيما }؛ قال ابن عباس:
" هو ملك سليمان بن داود، وكان لسليمان سبعمائة مهرية - أي ممهورة - وثلاثمائة سرية ولداؤد مائة امرأة، فأقرت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال لهم: " ألف امرأة عند رجل ومائة امرأة عند رجل أكثر أم تسع نسوة عند رسول الله " فسكتوا ".
[4.55]
قال الله تعالى: { فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه }؛ معناه: من اليهود من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم: عبدالله بن سلام وأصحابه؛ ومنهم من أعرض عن الإيمان به. وقيل: معناه: منهم من آمن بهذا الخبر عن داود وسليمان، ومنهم من كذب به، { وكفى بجهنم سعيرا }؛ أي وقودا لمن كفر به؛ أي إن صرف الله عن اليهود بعض العذاب في الدنيا مثل الطمس وغيره، فقد أبدلهم عذاب جهنم في الآخرة.
[4.56]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا بآيتنا سوف نصليهم نارا }؛ أي إن الذين كفروا بمحمد والقرآن سوف ندخلهم نارا. وقرأ حميد بن قيس: (نصليهم) بفتح النون؛ أي نشويهم من قولهم: شاة مصلية؛ أي مشوية، ونصبت النار بنزع الخافض على هذه القراءة؛ تقديره: بنار.
قوله تعالى: { كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها }؛ أي كلما أحرقت جلودهم جددنا لهم جلودا غيرها بيضاء كالقراطيس، وذلك أنهم كلما احترقوا حست عليهم النار ساعة ثم تزايدت سعيرا وبدأوا خلقا جديدا فيهم الروح ثم عادت النار تحرقهم؛ فهذا دأبهم أبدا. قال الحسن: (تنضج جلودهم كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم النار وأنضجتهم؛ قيل لهم: عودوا؛ فيعودون كما كانوا). وعن مجاهد قال: (ما بين جلده ولحمه دود لها حلبة كحلبة حمر الوحش). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا، وضرسه مثل أحد "
قيل: كيف جاز أن يعذب الله جلدا لم يعصه؟ قيل: إن العاصي والمتألم واحد وهو الإنسان لا الجلد؛ لأن الجلود إنما تألم بالأرواح، والدليل على أن القصد تعذيب الإنسان لا تعذيب الجلود قوله تعالى: { ليذوقوا العذاب }؛ ولم يقل ليذوق العذاب، وقيل: معناه: تبدل جلود هي تلك الجلود المتحرقة، وذلك أن (غير) على ضربين: بتضاد و (غير) بلا تضاد، فالتضاد مثل قولك: الليل غير النهار، والذكر غير الأنثى، والثاني مثل قولك لصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره، فيكسره ويصوغ لك خاتما، والخاتم المصوغ هو الأول، إلا أن الصياغة قد تغيرت، والقصة واحدة.
وقالت الحكماء: كما أن الجلد بلي قبل البعث كذلك يبدل بعد النضج. وقال السدي: (يبدل من لحم الكافر يعاد الجلد لحما ويخرج من اللحم جلد آخر؛ لأنه جلد لم يعمل خطيئة). قوله تعالى: { إن الله كان عزيزا حكيما }؛ أي غالبا في أمره، لا يملك أحد منعه من إنزال وعده، ذو حكمة فيما حكم من النار للكفار.
[4.57]
قوله عز وجل: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ أي بساتين تجري من تحت شجرها وغرفها الأنهار، { خالدين فيهآ أبدا لهم فيهآ أزواج مطهرة }؛ في الخلق، { وندخلهم ظلا ظليلا }؛ أي ظلا دائما وهو ظل الأشجار والقصور؛ ظل لا حر معه ولا برد، وليس كل ظل يكون ظليلا. وقيل: الظليل الكثيف الذي لا تنسخه الشمس.
[4.58]
قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }؛ وذلك:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى البيت ليدخله؛ فسأل عن المفتاح؛ فقيل: هو مع عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة، فأرسل إليه؛ فقال له: " هات المفتاح " فأبى، فلوى علي رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح الباب ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، وصلى فيه ركعتين، فلما خرج قال له عمه العباس: بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ إجعل لي السدانة مع السقاية - يعني اجعل لي مفتاح البيت - فأنزل الله هذه الآية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان بن طلحة؛ فرد عليه فقال عثمان: أنا أشهد أن محمدا رسول الله؛ وأسلم، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما دام هذا البيت أرى اللبنة من لبناته قائمة؛ فإن المفتاح في أولاد عثمان بن أبي طلحة ".
روي:
" أنه لما طلب المفتاح من عثمان أبى: فقال صلى الله عليه وسلم: " يا عثمان؛ إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهات المفتاح " فقال: هاك أنت يا رسول الله؛ خذه بأمانة الله. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتح الباب ومكث في البيت ما شاء الله، فلما خرج نزل جبريل بهذه الآية "
ويدخل في هذا جملة الأمانة.
قوله تعالى: { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل }؛ خطاب للأئمة؛ أي ويأمركم الله أن تحكموا بين الناس بالحق، { إن الله نعما يعظكم به }؛ أي نعم الذي يأمركم به من أداء الأمانة والحكم بالحق، { إن الله كان سميعا }؛ لمقالة العباس؛ { بصيرا }؛ بأمانة عثمان.
[4.59]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }؛ أي أطيعوا الله تعالى فيما أمر؛ وأطيعوا الرسول فيما بين. وقيل: أطيعوا الله في الفرائض، وأطيعوا الرسول في السنن.
وقوله تعالى: { وأولي الأمر منكم } قال عكرمة: (هو أبو بكر وعمر) لقوله صلى الله عليه وسلم:
" اقتدوا من بعدي بأبي بكر وعمر "
،
" وإن لي وزيرين في الأرض؛ ووزيرين في السماء، فبالسماء جبريل وميكائيل، وبالأرض أبو بكر وعمر "
، " عندي بمنزلة الرأس من الجسد ". وقال الوراق: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لقوله صلى الله عليه وسلم:
" الخلافة بعدي في أربعة من أمتي: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي "
وقال عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان لقوله تعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
[التوبة: 100] الآية. وقيل: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال:
" أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم اهتديتم "
وقال جابر بن عبدالله والحسن والضحاك ومجاهد: (هم الفقهاء والعلماء أهل الدين والفضل) الذين يعلمون الناس معالم دينهم؛ ويأمرونهم بالمعروف وينهون عن المنكر، فأوجب الله على العباد طاعتهم. قال ابن الأسود: (ليس شيء أعز من العلم، فالملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك). وقال أبو هريرة: (هم ولاة المسلمين). وقال الكلبي ومقاتل: (هم أمراء السرايا، كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليهم رجلا، وأمرهم أن يطيعوه ولا يخالفوه).
والأظهر من هذه الأقاويل: أن المراد بهم العلماء لقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }؛ أي فإن اختلفتم في شيء من الحلال والحرام والشرائع والأحكام، فردوه إلى أدلة الله وأدلة رسوله، وهذا الرد لا يكون إلا بالاستدلال والاستخراج بالقياس؛ لأن الموجود في نص الكتاب اذا علم وعمل به لا يوصف بأنه رد إلى الكتاب، وإنما يقال: هو اتباع للنص، وغير العلماء لا يعلمون كيفية الرد إلى الكتاب والسنة ولا دلائل الأحكام، والجواب قوله تعالى: { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }؛ دليل على أن الإيمان اتباع الكتاب والسنة والإجماع.
قوله تعالى: { ذلك خير وأحسن تأويلا }؛ أي رد الخلاف إلى الله والرسول خير من الإصرار على الاختلاف وأحسن عاقبة لكم، ويقال: أحسن تأويلا من تأويلكم الذي تؤولونه من غير رد ذلك إلى الكتاب والسنة. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: (الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
[4.60]
قوله عز وجل: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك }؛ الآية. قال الكلبي: (نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق نتحاكم إلى محمد - لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ولا يجور في الحكم -. وقال المنافق: ننطلق إلى كعب بن الأشرف - وهو الذي سماه الله الطاغوت - فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضى معه المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: انطلق بنا إلى عمر ضي الله عنه فقال اليهودي: يا عمر؛ اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه، وزعم أنه يخاصمني إليك، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، قال: رويدكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف واشتمل عليه، ثم خرج إليهما؛ فضرب به المنافق حتى مات؛ وقال: هكذا قضائي فيمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي فنزلت هذه الآية. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق).
ومعنى الآية: ألم تر يا محمد إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بالقرآن وبالكتب التي أنزلت من قبلكم وهم المنافقون، { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت }؛ وهو كعب بن الأشرف، { وقد أمروا أن يكفروا به }؛ بالطاغوت، { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا }؛ عن الحق.
[4.61]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنفقين يصدون عنك صدودا }؛ قال ابن عباس: (اختصم الزبير بن العوام وثعلبة بن حاطب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أمر بينهما؛ فقضى للزبير؛ فخرجا من عنده؛ فمرا على المقداد فقال: لمن كان القضاء يا ثعلبة؟ فقال: قضى لابن عمته؛ ولوى شدقه، ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاء؛ يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء بينهم، وأيم الله لقد أذنبنا في حياة موسى عليه السلام فقال لنا: اقتلوا أنفسكم؛ فقتلنا فبلغ قتالنا سبعين ألفا في طاعة الله حتى رضي عنا. فأنزل الله تعالى في شأن ثعلبة وليه شدقه { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول } أي هلموا إلى التحاكم إلى أوامر الله في كتابه وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بينكم رأيت المنافقين يعرضون عن حكمك إعراضا.
[4.62]
قوله عز وجل: { فكيف إذآ أصبتهم مصيبة بما قدمت أيديهم }؛ أي كيف يكون حالهم من ندم وجرأة إذا أصابتهم مصيبة بقتل عمر لصاحبهم وظهور نفاقهم بما فعلوه من رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولي الشدق، { ثم جآءوك يحلفون بالله }؛ معتذرين، { إن أردنآ إلا إحسنا }؛ تسهيلا كيلا تشغلك خصومتنا، { وتوفيقا }؛ بين الخصوم بالإلتماس ما يقارب التوسط دون الحمل على الإعراض عن الحكم.
[4.63]
قال الله تعالى: { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم }؛ عن عقوبتهم في الدنيا، ويقال: أعرض عن قبول عذرهم، { وعظهم }؛ مع ذلك بلسانك { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } وأعلمهم أنهم إن عادوا فحقهم العقوبة والقتل، والقول البليغ أن يبلغ صاحبه بعبارته كنه ما في قلبه.
[4.64]
قوله عز وجل: { ومآ أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله }؛ أي ليطاع ذلك الرسول بأمر الله، { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم }؛ بمطالبة الحكم إلى الطاغوت، { جآءوك }؛ أيها الرسول، { فاستغفروا الله }؛ وتابوا إليه، { واستغفر لهم الرسول }؛ عند ذلك، { لوجدوا الله توابا }؛ قابلا للتوبة، { رحيما }؛ بهم بعد التوبة.
[4.65]
قوله تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم }؛ أي لا يكونوا مؤمنين عند الله حتى يحكموك فيما وقع من الاختلاف بينهم، { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت }؛ أي ثم لا تضيق صدروهم مما قضيت، وقيل: لا يجدون شكا في حكمك، { ويسلموا تسليما }؛ أي يقادوا لحكمك انقيادا.
والمشاجرة في المخاصمة مأخوذ من الشجر؛ تشبيها للخصومة في دخول بعض الكلام في بعض الأشجار بالتفاف بعضها على بعض.
[4.66]
قوله عز وجل: { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم }؛ (نزلت في ثابت بن قيس لأنه قال: أما والله إن الله يعلم مني الصدق أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو أمرني بقتل نفسي لقتلت نفسي)، وكان ثابت من القليل الذين استثناهم الله في الآية.
ومعنى الآية: لو أنا فرضنا عليهم كما فرضنا على بني إسرائيل أن اقتلوا أنفسكم، أو أمرناهم أن يخرجوا من ديارهم لشق ذلك عليهم ولم يفعله إلا قليل منهم. ورفع ال (قليل) على البدل من الواو، ومعنى ما فعله إلا قليل منهم، وقرأ أبي ابن كعب وابن عامر (إلا قليلا منهم) بالنصب على معنى استثنى قليلا منهم.
قوله تعالى: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به }؛ أي لو فعل المنافقون ما يؤمرون به من الرضى بحكمك، { لكان خيرا لهم }؛ من المحاكمة إلى غيرك، { وأشد تثبيتا }؛ لقلوبهم على الصواب؛ لأن الحق يبقى والباطل يذهب.
[4.67-68]
قوله تعالى: { وإذا لأتينهم من لدنآ أجرا عظيما }؛ أي إذ لو يفعلون ما يؤمرون به لأعطيناهم من عندنا ثوابا جزيلا في الجنة، { ولهديناهم صراطا مستقيما }؛ أي إلى صراط مستقيم، وقيل: معناه: لهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة.
[4.69]
قوله عز وجل: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين }؛
" نزلت في ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما غير لونك؟ " فقال: يا رسول الله؛ ما بي مرض ولا وجع، غير أني لم أرك فاشتقت إليك فاستوحشت، فهذا الذي نزل بي من أجل ذلك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك فإنك ترفع مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك حين لا أراك أبدا، فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وابنه وأهله وولده والناس أجمعين "
ومعنى الآية: ومن يطع الله في الفرائض والرسول في السنن؛ فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، وهم أفاضل الصحابة، { والشهدآء }؛ هم الذين استشهدوا في سبيل الله، { والصالحين }؛ وهم الذين استقامت أحوالهم بحسن عملهم، والمصلح المقوم بحسن عمله. وقال عكرمة: (النبيون: ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم، والصديقون: أبو بكر، والشهداء: عمر وعثمان وعلي، والصالحون: سائر الصحابة).
فإن قيل فكيف يكون المطيعون لله ورسوله مع النبيين ودرجتهم في أعلى عليين؟ قيل: إن الأنبياء ولو كانوا في أعلى عليين؛ فإن غيرهم من المؤمنين يرونهم ويزرونهم ويستمتعون برؤيتهم، فيصلح اللفظ أن يقال إنهم معهم.
قوله تعالى: { وحسن أولئك رفيقا }؛ أي حسن الأنبياء ومن معهم رفقاء في الجنة؛ أي ما أحسن مرافقتهم فيها، فذكر الرفيق بلفظ التوحيد؛ لأنه نصب على التمييز، كما في قوله تعالى:
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا
[النساء: 4] ويجوز أن يكون معناه: حسن كل واحد من أولئك رفيقا، كما قال تعالى:
ثم يخرجكم طفلا
[غافر: 67] ولم يقل أطفالا.
[4.70]
قوله تعالى: { ذلك الفضل من الله }؛ أي ذلك المن من الله على المطيعين، { وكفى بالله عليما }؛ بهم وبأعمالهم ومجازيا لهم بما يستحقونه من ثواب وكرامة.
[4.71]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم }؛ أي أسلحتكم، { فانفروا ثبات }؛ أي من عدوكم بالأسلحة والرجال، ولا تخرجوا متفرقين، ولكن اخرجوا ثبات، { أو انفروا جميعا }؛ أي اخرجوا جماعات جماعات؛ سرية سرية كما يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاد عدوكم، واخرجوا كلكم جميعا مع النبي صلى الله عليه وسلم إن أراد الخروج، والثبات: الجماعات في تفرقة واحدها ثبة؛ أي انفروا جماعة بعد جماعة، ويجوز أن يكون معنى: الحذر: السلاح.
واستدل أهل القدر بهذه الآية قالوا: إن الحذر ينفع ويمنع عنكم مكايدة العدو، وإلا لم يكن لأمره تعالى آتاهم بالحذر، معناه: فيقال لهم الائتمار بأمر الله والإنتهاء بنهيه واجب عليهم؛ لأنهم به يسلمون من معصية الله تعالى؛ لأن المعصية ترك الأوامر والنواهي. وليس في الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئا، بل المراد منه طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر.
[4.72]
قوله تعالى: { وإن منكم لمن ليبطئن }؛ أي ممن أظهر الإيمان ليتشاغلن عن الجهاد، ويثقلن غيره وهو عبدالله بن أبي وجد بن قيس، وأصحابهما من المنافقين الذين كانوا يشاركون المسلمين في ظاهر الإسلام كانوا ينتظرون هلاك المسلمين وهزيمتهم ويتثاقلون عن الجهاد، يقال: أبطأ الرجل اذا تأخر عن العمل بإطالة المدة.
قوله تعالى: { فإن أصبتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا }؛ أي إن أصابتكم نكبة أو هزيمة أو قتل، قال هذا المبطئ: قد من الله علي إذ لم أكن معهم حاضرا في تلك الغزوة فيصيبني مثل الذي أصابهم.
[4.73-74]
قوله تعالى: { ولئن أصبكم فضل من الله }؛ أي وإن أصابكم أيها المؤمنون ظفر وغنيمة، { ليقولن }؛ هذا المبطئ نادما، { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يليتني كنت معهم }؛ في الغزو فأصيب حظا وافرا وغنائم كثيرة. قوله تعالى: { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة }؛ قال بعضهم: هو معرض بين اليمين وما قبله؛ تقديره: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم، { فأفوز فوزا عظيما }؛ كأن لم يكن بينكم وبينه مودة؛ أي يتمنى أن ينال من غير أن يريد الجهاد والقتال، وقيل: هو متصل بقوله { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } كأن لم يكن بينكم وبينه مودة؛ أي صلة في الدين ومعرفة في الصحبة، كأنه لم يعاقدكم قبل أن يجاهد معكم.
ثم أمر الله تعالى كل من عقد الإيمان بالقتال؛ فقال عز وجل: { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة }؛ أي ليقاتل في طاعة الله ورضائه الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة وهم المؤمنون. وقيل: معناه: إن الخطاب للمبطئين؛ ومعنى { يشرون }: يختارون الحياة الدنيا على الآخرة. وهذا اللفظ من الأضداد، يقال: شريت بمعنى بعت، وشريت بمعنى اشتريت، فيكون معنى الآية على هذا: آمنوا ثم قاتلوا، لإنة لا يجوز أن يكون الكافر مأمورا بشيء يتقدم على الإيمان.
ثم ذكر الله تعالى فضل المجاهدين؛ فقال: { ومن يقاتل في سبيل الله }؛ أي في الجهاد الذي هو طاعة الله تعالى؛ { فيقتل }؛ هو؛ { أو يغلب }؛ العدو؛ { فسوف نؤتيه أجرا عظيما }؛ فسوف نعطيه في كلا الوجهين ثوابا وافرا في الجنة، وسمى الله تعالى الثواب عظيما؛ لأنه نال ثمنا من العزيز بأغلى الأثمان، وقد يكون ثمن الشيء مثله، ويكون وسطا من الأثمان.
[4.75]
قوله تعالى: { وما لكم لا تقتلون في سبيل الله }؛ معناه: أي شيء لكم أيها المؤمنون في ترك الجهاد مع اجتماع الأسباب الموجبة للتحريض عليه، وقوله تعالى: { لا تقتلون } في موضع نصب على الحال كأنه قال: وما لكم تاركين الجهاد؟ كما قال تعالى في آية أخرى
فما لهم عن التذكرة معرضين
[المدثر: 49].
وقوله تعالى: { والمستضعفين }؛ في موضع خفض بإضمار (في)؛ معناه: وفي بيان المستضعفين؛ أي وفي نصرة المستضعفين، ويجوز أن يكون معناه: وعن المستضعفين؛ أي للذب عن المستضعفين، { من الرجال والنسآء والولدن }؛ الذين هم بمكة ويلقون فيها أذى كثيرا وهم: سلمة بن هشام والوليد بن الوليد وعباس بن ربيعة وغيرهم، كانوا أسلموا بمكة فأراد عشائرهم من أهل مكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتنوهم عن الإسلام. يقول الله تعالى: ما تقاتلون المشركين في خلاص هؤلاء الضعفاء؛ { الذين }؛ يسألون الله؛ { يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية }؛ أي خلصنا من هذه القرية؛ يعنون مكة؛ { الظالم أهلها }؛ أي الكفار أهلها، { واجعل لنا من لدنك وليا }؛ أي من عندك حافظا يحفظنا من أذاهم، { واجعل لنا من لدنك }؛ من عندك؛ { نصيرا }؛ أي مانعا يمنعنا منهم. فاستجاب الله دعاءهم، وجعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم حافظا وناصرا بفتح مكة على يديه، واستعمل عليهم عتاب بن أسيد، عتاب ينصف الضعيف من الشديد.
[4.76]
قوله عز وجل: { الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله }؛ معناه: الذين آمنوا بمحمد والقرآن، يقاتلون في طاعة الله بأمر الله، { والذين كفروا }؛ أبو سفيان وأصحابه، { يقتلون في سبيل الطغوت }؛ يقاتلون في طاعة الشيطان، { فقتلوا أولياء الشيطن إن كيد الشيطن كان ضعيفا }؛ وضعفه بالوسوسة إلى أوليائه بأن الظفر يكون لهم كيد ضعيف، وإنما أدخل على هذا اللفظ { كان } لتبين أن صفة الضعف لازمة له، وأنه { كان ضعيفا } فخذل أولياءه، كما خذلهم يوم بدر حيث قال لهم: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون.
[4.77]
قوله عز وجل: { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة }؛ قال ابن عباس وقتادة والحسن والكلبي:
" نزلت هذه الآية في قوم من الصحابة وهم: عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبدالله والمقداد وغيرهم، كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة؛ فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقالوا: يا رسول الله ءأذن لنا في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا، فقال صلى الله عليه وسلم: " كفوا أيديكم؛ فإني لم أؤمر بقتالهم، وأقيموا الصلاة الخمس، وأدوا زكاة أموالكم " فلما خرجوا إلى المدينة وأمرهم الله تعالى بقتال المشركين، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى بدر، كره بعضهم وشق ذلك عليهم ".
ومعنى الآية: { فلما كتب عليهم القتال }؛ بالمدينة أي فرض؛ { إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله }؛ وقيل معناه: { أو أشد خشية }؛ كقوله
مئة ألف أو يزيدون
[الصافات: 147].
قوله تعالى: { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال }؛ يعني مشركي مكة لم فرضت علينا القتال؛ أي الجهاد؛ { لولا أخرتنا إلى أجل قريب }؛ أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا. قال الحسن: (لم يقولوا هذه لكراهة أمر الله، ولكن لدخول الخوف عليهم بذلك)، وقال بعضهم: نزلت في المنافقين، لأن قوله: { لم كتبت علينا القتال } لا يليق بالمؤمنين، وكذلك الحسنة من غير الله. وقيل: نزلت في قوم من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم، قالوا هذا القول؛ لأنهم ركنوا إلى الدنيا وآثروا نعيمها على القتال.
قوله تعالى: { قل متاع الدنيا قليل }؛ أي قل لهم يا محمد: منفعة الدنيا يسيرة تنقطع وتقضى، والاستمتاع بها قليل؛ لأن الجديد منها إلى البلى، والشاب منها إلى الهرم والإنقضاء.
قوله تعالى: { والآخرة خير لمن اتقى }؛ أي وثواب الآخرة أفضل لمن اتقى المعاصي، { ولا تظلمون فتيلا }؛ أي ولا ينقصون من جزاء أعمالهم الذي استحقوه مقدار الفتيل، وقد تقدم تفسير الفتيل.
[4.78]
قوله تعالى: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }؛ أي أينما تكونوا يا معشر المؤمنين والمنافقين في بر أو بحر أو سفر أو حضر يلحقكم الموت، وإن كنتم في حصون محصنة من حديد وغيره، مرتفعة إلى عنان السماء، والمعنى: أنكم وإن سومحتم وأخذتم بترك القتال، فإن آخر أعماركم موت لا تنجون منه. وقال عكرمة: (مشيدة: محصنة). وقال العيني: (مطولة).
قوله تعالى: { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله }؛ هذا حكاية قول المنافقين واليهود، كانوا يقولون: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومراعينا مذ قدم هذا الرجل علينا - يعنون النبي صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة، فذلك قوله: { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } أي إن يصبهم خصب ورخص سعر وتتابع أمطار يقولوا: هذه من فضل الله؛ { وإن تصبهم سيئة }؛ قحط وجدوبة وغلاء سعر، { يقولوا هذه من عندك }؛ هذه من شؤم محمد وأصحابه.
يقول الله تعالى: { قل كل من عند الله }؛ أي قل لهم يا محمد: الحسنة والسيئة كلها بقضاء الله وتقديره، { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا }؛ اليهود والمنافقين لا يقربون من فهم حديث عن الله. والفقه: هو الفهم، ثم اختص من جهة العرف بعلم الفتوى. وقال الحسن: (أراد بالحسنة في هذه الآية: الظفر والغنيمة، وبالسيئة: القتل والهزيمة) وكانوا إذا غلبوا قالوا : هذه من عند الله، وإذا غلبهم العدو قالوا: هذه من خطأ رأيك وتدبيرك.
[4.79]
قوله تعالى: { مآ أصابك من حسنة فمن الله ومآ أصابك من سيئة فمن نفسك }؛ واختلف المفسرون في المخاطب بهذه الآية، قال أكثرهم: هو النبي صلى الله عليه وسلم والمراد له عامة الناس. وقال قتادة: (المخاطب بها الإنسان) كأنه قال: ما أصابك أيها الإنسان من حسنة؛ أي من خصب ورخص سعر وفتح وغنيمة فالله تعالى هداك له وأعانك عليه ووفقك له، وما أصابك من قحط وجدبة وهزيمة ونكبة وكل أمر تكرهه؛ فإنما أصابك ذلك بما كسبت يداك بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى
ومآ أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
[الشورى: 30]. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما من خدشة عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله أكثر "
وقال بعض المفسرين: بين هذه الآية وبين التي قبلها إضمار تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا يقولون ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك؛ لأنه مستحيل أن يأمر الله تعالى بإضافة الحسنة والسيئة إلى أمره وقضائه في آية ثم يتلوها بآية تفرق بينهما بعد أن ذم قوما على التفرقة في الأولى، فكيف يجوز أن يذم على الجمع في الآية الثانية، ومثل هذا الإضمار كثير في القرآن.
وقرئ في الشواذ بنصب الميم (فمن نفسك) أي كل من الله، فمن أنت ونفسك حتى يضاف إليك شيء، غير أن القراءة سنة متبعة؛ فلا يقرأ إلا بما تصح به الرواية، وحاصل المعنى على قراءة العامة: أي ما أصابك من خير ونعمة فمن الله، وما أصابك من بلية، أو شيء تكرهه فمن نفسك؛ أي بذنوبكم، وأنا الذي قدرتها عليك. قال الضحاك: (ما حفظ الرجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب) ثم قرأ
ومآ أصبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم
[الشورى: 30]، قال: (فنسيان القرآن من أعظم المصائب).
قوله تعالى: { وأرسلناك للناس رسولا }؛ أي ومن نعمة الله عليك إرساله إياك رسولا إليهم، { وكفى بالله شهيدا }؛ على أنك رسول صادق يشهد لك بالرسالة والصدق، وقيل: شهد على مقالة القوم أن الحسنة من الله، والسيئة من عندك: وقيل: معناه: يشهد أن الحسنة والسيئة كلها من الله.
[4.80]
قوله عز وجل: { من يطع الرسول فقد أطاع الله }؛ أي من يطع الرسول فيما يأمره فقد أطاع الله؛ لأن الرسول إنما يأمر به من عند الله، { ومن تولى }؛ أي أعرض عن طاعته، { فمآ أرسلناك عليهم حفيظا }؛ أي ليس عليك إلا البلاغ وما أرسلناك عليهم مسلطا تجبرهم على الإيمان والطاعة وتمنعهم عن الكفر والمعصية؛ فإنك مبلغ وأنا العالم بسرائرهم، وهذه الكلمة من آخر الآية منسوخة بآية السيف.
[4.81]
قوله تعالى: { ويقولون طاعة }؛ معناه: أن المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أمرك طاعة وقولك متبع، { فإذا برزوا من عندك }؛ فإن خرجوا من عندك يا محمد، { بيت طآئفة منهم غير الذي تقول }؛ أي غيرت جماعة منهم الأمر الذي أمرتهم به على وجه التكذيب، يقال لكل أمر قضي بليل: قد بيت به، وإنما لم يقل للبيت؛ لأن كل تأنيث غير حقيقي يجوز تعبيره بلفظ التذكير، وقيل: معناه: قدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا.
قوله تعالى: { والله يكتب ما يبيتون }؛ أي يحفظ عليهم ما يفترون من أمرك، وقيل: ما يسرون من النفاق. قوله تعالى: { فأعرض عنهم } أي لا تعاقبهم يا محمد واستر عليهم إلى أن يستقيم أمر الإسلام { وتوكل على الله }؛ أي ثق بالله وفوض أمرك إليه، { وكفى بالله وكيلا }؛ أي حافظا، والوكيل: هو العالم بما يفوض إليه من التدبير.
[4.82]
قوله عز وجل: { أفلا يتدبرون القرآن }؛ أي أفلا يتفكرون في القرآن أنه يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا، وأن أحدا من الخلائق لا يقدر على مثله، فيعلمون أنه حق ويعلمون أنه من عند الله، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }؛ أي تعارضا وتباينا وبعضه بليغا وبعضه ساقطا.
[4.83]
قوله تعالى: { وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به }؛ يعني المنافقين كانوا إذا أتاهم خبر من أمر السرايا الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظفر ودولة وغنيمة؛ أو أتاهم عنهم خبر نكبة أو هزيمة أفشوا ذلك الخبر، وأظهروه قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحذر بخبر الظفر من ينبغي أن يحذر من الكفار ويقوى بخبر هزيمة المسلمين قلب من كان يبتغي نكبة المسلمين منهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعناه: اذا جاء المنافقين { أمر من الأمن }؛ يعني الغنيمة والفتح، { أو الخوف } أي الهزيمة والقتل { أذاعوا به }؛ أي أشاعوه وأفشوه، { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم }؛ أي لم يتحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتحدث به. والمعنى: لو تركوا أمر السرايا والعسكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر من المؤمنين وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأكابر الصحابة حتى يكونوا هم الذين يفشونه، { لعلمه الذين يستنبطونه منهم }؛ يطلبون الخبر ويستخبرونه من النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر الصحابة أن ذلك الخبر صحيح أم لا.
قال الكلبي: (لعلمه الذين يستنبطونه أي يتبعونه). وقال عكرمة: (يسألون عنه، أي لو تركوا إذاعته حتى يتحدث به النبي لعلمه الذين يسألون عنه). وقال القتيبي: (لعلمه الذين يستخرجونه، يقال: استنبطت الماء إذا أخرجته).
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته }؛ أي لولا ما أنزل الله عليكم من القرآن، وبين لكم الآيات على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا }؛ أي كان أقلكم ينجوا من الكفر، والمراد بالفضل ها هنا النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل: في الآية تقديم وتأخير؛ معناه: أذاعوا به إلا قليلا من الخبر لم يذيعوه، أو قليلا من المنافقين لم يذيعوه.
[4.84]
قوله تعالى: { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك }؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما التقى هو وأبو سفيان يوم أحد وكان من أمرهم ما كان، ورجع أبو سفيان إلى مكة وواعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر الصغرى في ذي القعدة، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الميعاد، قال للناس: اخرجوا إلى العدو، فكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم، فأنزل الله هذه الآية { فقاتل في سبيل الله } أي لا تدع بجهاد العدو ولو وحدك.
وقيل: لا تؤاخذ بفعل غيرك، وإنما تؤاخذ بفعل نفسك وليس عليك ذنب غيرك، { وحرض المؤمنين }؛ على القتال لعل الله أن يكف عنك قتال الكفار، وعسى من الله واجب؛ لأنه في اللغة الإطماع، وإطماع الكريم لا يكون إلا إنجازا.
والفاء: في قوله: { فقاتل } جواب عن قوله:
ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما
[النساء: 74] فقاتل وحرض المؤمنين على القتال؛ أي حرضهم على القتال ورغبهم فيه. فتثاقلوا ولم يخرجوا معه؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا حتى أتي بدر الصغرى؛ فكفاهم الله بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان؛ ولم يكن قتال يومئذ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فذلك قوله تعالى: { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا }؛ أي قتال المشركين وصولتهم، { والله أشد بأسا وأشد تنكيلا }؛ أي عقوبة.
[4.85]
قوله عز وجل: { من يشفع شفعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفعة سيئة يكن له }؛ أي من يصلح بين اثنين يكن له أجر وثواب من ذلك الإصلاح، ومن يمشي بالغيبة والنميمة له حظ من وزرها وعقوبتها، هكذا روي عن ابن عباس، وقيل: معناه: من يوحد ويأمر بالتوحيد يكن له أجر من ذلك، ومن يشرك ويأمر بالشرك يكن له وزر من ذلك. ويقال: الشفاعة الحسنة هي للمؤمنين، والشفاعة السيئة الدعاء عليهم، فإن اليهود كانوا يدعون على المؤمنين فتوعدهم الله بذلك.
قوله تعالى: { كفل منها }؛ قال ابن عباس وقتادة: (الكفل: الإثم والوزر). قال الفراء وأبو عبيد: (الكفل: الحظ والنصيب).
قوله تعالى: { وكان الله على كل شيء مقيتا }؛ قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: (مقيتا أي مقتدرا مجازيا بالحسنة والسيئة)، قال الشاعر:
وذي ضعن كففت النفس عنه
وكنت على مساءته مقيتا
أي مقتدرا. وقال الزجاج: (المقيت: الحفيظ). قال الشاعر:
ألي الفضل أم علي إذا حو
سبت أني على الحساب مقيت
وقال مجاهد: (المقيت الشاهد). وقال الفراء: (المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته). وجاء في الحديث:
" كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت - أو يقيت - "
[4.86]
قوله عز وجل: { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ }؛ قال ابن عباس: (أراد بالتحية السلام؛ أي إذا سلم عليكم أحد فأجيبوا بتحية أحسن منها؛ وهو أن تزيدوا في التحية فتقولوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يحيي بذلك المسلم عليه، والملكين الحافظين معه بأبلغ التحية).
قوله تعالى: { أو ردوهآ } معناه: وأجيبوا بمثل الذي سلم عليكم. وقال بعضهم: معناه: وإذا حييتم بتحية؛ أي إذا أهدي إليكم هدية فكافئوا بأفضل منها أو مثلها؛ لأن التحية في اللغة الملك، وكانوا يقولون قبل الإسلام: حياك الله؛ أي ملكك الله؛ ثم أبدلوا بهذا اللفظ بالسلام بعد الإسلام، وأقيم السلام مقام قولهم: حياك الله. قوله تعالى: { إن الله كان على كل شيء حسيبا }؛ أي مجازيا يعطي كل شيء من العلم والحفظ والجزاء مقدارا يحسبه؛ أي يكفيه، يقال: حسبك هذا؛ أي اكتف به، وقوله تعالى:
عطآء حسابا
[النبأ: 36] أي كافيا.
[4.87]
قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه }؛ أي لا إله في الأرض وفي السماء غيره، واللام في (ليجمعنكم) لام أنفسهم، كأنه قال الله: يجمعكم في الحياة والموت في قبوركم، إلى يوم القيامة لا ريب فيه؛ أي لا شك فيه أنه كائن لا محالة. قوله تعالى: { ومن أصدق من الله حديثا }؛ استفهام بمعنى النفي، ليس أحد أوفى من الله تعالى وعدا ولا أصدق منه قولا، ولا صادقا إلا ويوجد غيره على خلاف مخبره وقتا من الأوقات إلا الله عز وجل؛ فمن أصدق من الله حديثا.
[4.88]
قوله عز وجل: { فما لكم في المنافقين فئتين }؛ قال ابن هشام: (هاجر أناس من قريش فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلموا، ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم لبعض: كيف نخرج؟ قالوا: نخرج كهيأة المتنزهين، فقالوا للمسلمين: إنا قد اجتوينا المدينة فنخرج ونتنزه - أي نتفسح - فصدقوهم، فخرجوا فجعلوا يباعدون قليلا حتى بعدوا، ثم أسرعوا في السير إلى مكة حتى لحقوا بها، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا على ما فارقناكم عليه من التصديق، ولكنا اشتقنا إلى أرضنا واجتوينا المدينة.
ثم أنهم أرادوا أن يخرجوا في تجارتهم إلى الشام، فاستبعضهم أهل مكة وقالوا: أنتم على دين محمد، فإن لقوكم فلا بأس عليكم منهم. فخرجوا من مكة متوجهين إلى الشام، فبلغ ذلك المسلمين، فقالت طائفة منهم: ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا وتركوه، نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم، وقالت طائفة: كيف نقتل قوما على دينكم، وكان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى أحد الفريقين. فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها يبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهم).
ومعناها: فما لكم من هؤلاء المنافقين حتى صرتم في أمرهم فرقتين من محل لأموالهم ومحرم، { والله أركسهم بما كسبوا }؛ أي ردهم إلى كفرهم وضلالتهم بما كسبوا من أعمالهم السيئة، ونفاقهم وخبث نياتهم، وانتصاب { فئتين } على الحال؛ يقال: ما لك قائما؛ أي لم قمت في هذه الحالة، وقيل: على خبر (صار).
قوله تعالى: { أتريدون أن تهدوا من أضل الله }؛ أي تريدون يا معشر المخلصين أن ترشدوا من خذله الله عن دينه وحجته، وقيل: معناه: أتقولون إن هؤلاء مهتدون، { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }؛ أي لن تجد له هاديا، وقيل: لن تجد له طريقا إلى الهدى. وقرأ عبدالله وأبي: (والله ركسهم) بالتشديد.
[4.89]
قوله عز وجل: { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء }؛ أي تمنى المنافقون والكفار أن تكفروا أنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن كما كفروا، فتكونوا أنتم وهم سواء في الكفر، { فلا تتخذوا منهم أوليآء }؛ أي أحباء، { حتى يهاجروا في سبيل الله }؛ في طاعة الله، { فإن تولوا }؛ فإن أعرضوا عن الإيمان والهجرة فأسروهم، { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم }؛ في الحل والحرم، { ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا }؛ أي حبيبا في العون والنصرة.
وهذه الآية محمولة على حال ما كانت الهجرة فرضا كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين "
ثم نسخ ذلك يوم فتح مكة كما روى ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام يوم الفتح:
" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإن استنفرتم فانفروا ".
وقوله تعالى: { فتكونون سوآء } لم يدخل جواب التمني؛ لأنه جوابه بالفاء منصوب، وإنما أراد العطف على معنى: ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونوا سواء، مثل قوله:
ودوا لو تدهن فيدهنون
[القلم: 9] أي ودوا لو تدهن وودوا لو تدهنون، ومثله
ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون
[النساء: 102] أي وودوا لو تميلون.
[4.90]
قوله تعالى: { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق }؛ هذا استثناء لمن اتصل من الكفار بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق، قال ابن عباس: (أراد بالقوم الأسلميين، وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي وأصحابه على أن لا يعينوه ولا يعينوا عليه، فمن وصل إليهم ولحق بهم بالأنساب أو بالولاء) يعني: لجأ أحد من الكفار في عهد الأسلميين على حسب ما كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش من الموادعة؛ فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو كنانة في عهد قريش.
قوله تعالى: { أو جآءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم }؛ معناه: ويصلون إلى قوم جاؤكم ضاقت صدورهم أن يقاتلوكم مع قومهم، { أو يقاتلوا قومهم }؛ معكم وهم بنو مدلج، { ولو شآء الله لسلطهم عليكم }؛ لسلط قوم هلال بن عويمر، وبني مدلج عليكم، { فلقاتلوكم }؛ كما قتلتموهم ظالمين لهم، { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم }؛ أي فإن تركوكم فلم يقاتلوكم مع قومهم، واستسلموا أو خضعوا بالصلح والوفاء، { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا }؛ أي حجة في القتال وقال أهل النحو: معنى { أو جآءوكم حصرت صدورهم } أي حصرت. و { حصرت } لا يكون حالا إلا بعد؛ قالوا: ويجوز أن يكون { حصرت صدورهم } خبرا بعد خبر؛ كأنه قال: أو جاؤكم، ثم أخبر بعد فقال: { حصرت صدورهم أن يقاتلوكم }. وفي الشواذ: (أو جاؤكم حصرة صدورهم).
وأما اللام في { لسلطهم } فجواب { لو شاء الله } ، واللام في { فلقاتلوكم } للبدلية، والفاء فاء عطف بمنزلة الواو.
وقد روي عن عطاء عن ابن عباس: (أن هذه الآية منسوخة بقوله
واقتلوهم حيث وجدتموهم
[النساء: 89] بآية السيف، هي معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5]). ولأن الله تعالى أعز الإسلام وأهله؛ فلا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف بهذه الآية، وقد أمرنا الله تعالى في أهل الكتاب بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[التوبة: 29] إلى قوله تعالى:
وهم صاغرون
[التوبة: 29] فلا يجوز مداهنة الكفار وترك أحدهم على الكفر من غير جزية إذا كان بالمسلمين قوة على القتال، وأما إذا عجزوا عن مقاومتهم وخافوا على أنفسهم وذراريهم جاز لهم مهادنة العدو من غير جزية يؤدونها إليهم؛ لأن حظر الموادعة كان لسبب القوة؛ فإذا زال السبب زال الحظر.
[4.91-92]
قوله عز وجل: { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم }؛ معناه: ستجدون قوما آخرين يريدون أن يأمنوكم، أي يظهرون لكم الصلح، يريدون أن يأمنوكم بكلمة التوحيد، يظهرونها لكم، { ويأمنوا قومهم }؛ أي ويأمنوا من قومهم بالكفر في السر، { كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها }؛ كلما دعوا إلى الكفر رجعوا فيه.
قال ابن عباس: (هم أسد وغطفان؛ كانوا حاضري المدينة، وكانا يتكلمان بالإسلام وهما غير مسلمين، وكان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا آمنت؟ ولماذا أسلمت؟ فيقول: آمنت برب العود، وبرب العقرب وبرب الخنفساء. يريدون به الاستهزاء، فإذا لقوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه قالوا: إنا على دينكم؛ وأظهروا الإسلام، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على ذلك بهذه الآية).
قوله عز وجل: { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم }؛ أي فان لم يتركوا قتالكم ولم يستديموا لكم في الصلح، ولم يمنعوا أيديهم عن قتالكم، { فخذوهم }؛ أي إسروهم، { واقتلوهم حيث ثقفتموهم }؛ أي حيث وجدتموهم، { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا }؛ أي أهل هذه الصفة جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة بالقتال معهم، قوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا } أي ما كان لمؤمن في حكم الله أن يقتل مؤمنا بغير حق إلا أن يكون وقوع القتل منه على وجه الخطأ، وهو ألا يكون قاصدا قتله فيكون مرفوع الإثم والعقاب.
واختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية؛ قال ابن مسعود: (في عياش بن ربيعة المخزومي؛ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة فأسلم معه، فخاف أن يعلم أهله بإسلامه، فخرج هاربا إلى المدينة؛ فاختفى في جبل من جبالها؛ فجزعت أمه جزعا شديدا حين بلغها إسلامه وخروجه إلى المدينة؛ فقالت لأبيها الحريث وأبي جهل بن هشام - وهما أخواه لأمه -: والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به، فخرجا في طلبه، وخرج معهما الحرث بن زيد حتى أتيا المدينة، فوجدا عياشا في أطم - أي جبل - فقالا له: إنزل؛ فإن أمك لم يأوها سقف بيت بعدك، وقد حلفت لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها، ولك علينا ألا نكرهك على شيء؛ ولا نحول بينك وبين دينك، فحلفوا له على ذلك فنزل إليهم، فأوثقوه بنسعة ثم جلده كل واحد منهما مائة جلدة.
ثم قدموا به على أمه، فلما أتاها قالت له: والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه مطروحا موثوقا في الشمس ما شاء الله، ثم أعطاهم الذي أرادوا، فأتاه الحريث بن زيد، فقال له: يا عياش؛ هذا الذي كنت عليه، فوالله لئن كان الهدى لقد تركت الهدى، ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته، قال: والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك.
ثم إن عياشا أسلم بعد ذلك، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم أسلم بعد ذلك الحريث بن زيد وهاجر إلى المدينة، ولم يعلم عياش بإسلامه، فبينما عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحريث بن زيد فقتله، فقال الناس: ويحك يا عياش! إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ قد كان من أمري وأمر الحريث ما علمت؛ وإني لم أعلم بإسلامه حتى قتلته، فنزل قوله تعالى: { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله }؛ أي ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلا خطأ ولا عمدا بحال، لكن إن قتله خطأ على غير قصد، أو قتله على ظن أنه مباح الدم فعليه عتق رقبة مؤمنة في ماله، وعليه وعلى عاقلته تسليم دية كاملة إلى أولياء المقتول، ويكون القاتل كواحد من العاقلة، وإذا لم يكن به عاقلة كانت الدية في بيت المال في ثلاث سنين. قوله تعالى: { إلا أن يصدقوا }؛ معناه: إلا أن يتصدق أولياء المقتول، فيتركوا الدية ويعفوا.
قوله تعالى: { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة }؛ أي إن كان المقتول خطأ من قوم حرب لكم، فقتل في دار الحرب وهو مؤمن أسلم في دار الحرب ولم يهاجر حتى قتل، فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة، ولم يذكر الدية لأن دم المقتول لا قيمة له، إذ لم يحرز نفسه بدار الإسلام، وليس هو في صلح المسلمين. وقيل: إنما لم يذكر الدية؛ لئلا يسلم إلى أهل الحرب دية فيقوون بها علينا، وهذا القول يقتضي أن الدية واجبة، إلا أنها لا تسلم إليهم. وفي وجوب هذه الدية خلاف بين العلماء.
قوله عز وجل: { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة }؛ أي إن كان المقتول خطأ من قوم بينكم وبينهم عهد أو صلح، فعلى القاتل وعاقلته تسليم دية كاملة إلى أولياء المقتول، وعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة. والفائدة في إعادة ذكر المؤمنة: أنه لو لم يعد ذكرها لكان يتوهم متوهم أنه لما وجب في المؤمن رقبة في مثل صفته تجب أيضا قي قتل الكافر رقبة في مثل صفة المقتول.
قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين }؛ أي من لم يجد رقبة مؤمنة، فعليه صيام شهرين متواليين لا يفصل بين صيامهما. وقوله تعالى: { توبة من الله }؛ أي اعملوا ما أمركم الله به للتوبة يتوب الله عليكم، وهذا نصب على ما يقال: فعلت كذا حذرا من الشراء.
وإنما سميت الكفارة توبة؛ لأن قاتل الخطأ كان عاصيا في سبب القتل من حيث إنه لم يحترز، وإن لم يكن عاصيا في نفس القتل. ويقال: معنى التوبة: التوسعة والتخفيف من الله. قوله تعالى: { وكان الله عليما حكيما }؛ أي عليم بكل شيء حكيم بما يأمركم به من الدية والكفارة، وقال بعضهم: نزلت الآية في أبي الدرداء حين قتل راعيا خطأ.
[4.93]
قوله عز وجل: { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خلدا فيها }؛ قال ابن عباس: (نزلت في مقيس بن خبابة؛ وجد أخاه قتيلا في بني النجار؛ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل معه رجلا من بني فهر، وقال له:
" إئت بني النجار فأقرئهم مني السلام؛ وقل لهم: رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام أن تدفعوه إلى مقيس يقتص منه، وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا إليه ديته "
فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله؛ والله ما نعلم له قاتلا؛ ولكنا نؤدي ديته، فأعطوه مائة من الإبل، وانصرفا راجعين نحو المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فوسوس الشيطان إلى مقيس وقال له: أي سبب صنعت بقبول دية أخيك فتكون عليك سبة، أقتل الذي معك تكون نفس مكان نفس وفضل الدية، فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه فقتله، ثم ركب بعيرا منهما وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا، وجعل يقول:
قتلت به فهرا وحملت عقله
سراة بني النجار وأرباب فارع
فأدركت ثأري واضطجعت موسدا
وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت هذه الآية، وقتل مقيس يوم فتح مكة.
ومعناها: ومن يقتل مؤمنا متعمدا في قلته مستحلا له فجزاؤه جهنم خالدا فيها باستحلاله له وارتداده عن إسلامه، { وغضب الله عليه }؛ بقتله غير قاتل أخيه؛ { ولعنه }؛ أي باعده من رحمته، { وأعد له عذابا عظيما }؛ بجرأته على الله بقتل نفس بغير حق.
واختلف الناس في حكم هذه الآية، قالت الخوارج والمعتزلة: (إنها في المؤمن إذا قتل مؤمنا، وهذا الوعيد لاحق به). وقالت المرجئة: (إنها نزلت في كافر قتل مؤمنا، فأما المؤمن إذا قتل مؤمنا فإنه لا يخلد في النار).
وقالت طائفة من أصحاب الحديث: كل مؤمن قتل مؤمنا فهو خالد في النار غير مؤبد يخرج بشفاعة الشافعين، وزعمت: أنه لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا.
والصحيح: أن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا يكفر بذلك ولا يخرج من الإيمان؛ إلا إذا فعل ذلك مستحلا له، فإن أقيد بمن قتله فذلك كفارة له، وإن كان تائبا من ذلك ولم يكن معادا كانت التوبة أيضا كفارة له، فإن مات بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله؛ إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعده بإيمانه؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، وترك المجازاة بالوعيد يكون منه تفضلا، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفا، تعالى الله عن الخلف علوا كبيرا.
والدليل على أن المؤمن لا يصير بقتله المؤمن كافرا، ولا خارجا عن الإيمان قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص
[البقرة: 178] ولا يكون القصاص إلا في قتل العمد، فبينما هم مؤمنين وآخى بينهم بقوله
فمن عفي له من أخيه شيء
[البقرة: 178] ولم يرد به إلا الأخوة في الإيمان، والكافر لا يكون أخا للمؤمن، ثم قال:
ذلك تخفيف من ربكم ورحمة
[البقرة: 178] ولا يجعل ذلك للكافر, ثم أوجب على المعتدي بعد ذلك عذابا أليما لقوله تعالى:
فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
[البقرة: 178] ولم يوقع الغضب ولا التخليد في النار ولا يسمي هذا العذاب نارا، والعذاب قد يكون نارا، وقد يكون غيرها في الدنيا، قال الله تعالى:
يعذبهم الله بأيديكم
[التوبة: 14] يعني القتل والأسر، ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان لما خاطبهم بقوله:
ياأيها الذين آمنوا
[البقرة: 104]، وقال تعالى:
وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا
[الحجرات: 9] الآية واقتتالهم على وجه العمد.
وروي:
" أن مؤمنا قتل مؤمنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمر القاتل بالإيمان، ولو كان كافرا لأمره أولا بالإيمان، وقال لطالب الدم: " أتعفو؟ " قال: لا، قال: " أتأخذ الدية؟ " قال: لا، فأمر بقتله، ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثا حتى قبل الدية، ولم يحكم عليه بالكفر، "
فلو كان ذلك كفرا لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك كان ردة تحرم بها زوجته عليه، ولم يجز على رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغفال عنه؛ لأنه الناصح الشفيق المنعوت بالتأديب والتعليم.
ودليل آخر أن القاتل لا يصير كافرا: هو أن الكفر والجحود والإباء والشرك إضافة، والقاتل لم يجحد ولم يأب قبول الفرائض، ولا أضاف إلى الله تعالى شريكا، ولو جاز أن يكون كافرا ولم يأت بالكفر لجاز أن يكون مؤمنا من لم يأت بالإيمان.
قال: تعلقت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية؛ وقالوا: إن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا يبقى في النار مؤبدا؛ لأن الله تعالى قال (خالدا فيها). يقال لهم: إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا متعمدا وقد ذكرنا القصة فيه، وسياق الآية يدل عليه؛ وروايات المفسرين تدل على أنها لو سلمنا بأنها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا فإنا نقول لهم: لو قلتم إن الخلود التأبيد فأخبرونا عن قوله تعالى:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد
[الأنبياء: 34] هنا في الدنيا، فإن قلتم: إنه أراد التأبيد؛ فالدنيا تزول وتفنى، ومثله
أفإن مت فهم الخالدون
[الأنبياء: 34]، وقوله تعالى:
يحسب أن ماله أخلده
[الهمزة: 3].
وإن قلتم: لم يرد به التأبيد؛ وذلك القول منكم لا بد منه؛ فقد ثبت أن معنى الخلود غير معنى التأبيد، وكذلك العرب تقول: لأدخلن فلانا في السجن، فإن قلتم: المراد به التأبيد؛ فالسجن ينقطع ويفنى ويموت المسجون أو يخرج منه، فإن قالوا: إن الله تعالى لما قال { وغضب الله عليه ولعنه } دل على كفره؛ لأن الله تعالى لا يغضب إلا على من كان كافرا، قلنا: هذه الآية لا توجب عليه الغضب؛ لأن معناه: { فجزآؤه جهنم } ، وجزاؤه أن يغضب الله عليه ويلعنه، وما ذكره الله وجعله جزاء الشيء فليس يكون ذلك واجبا؛ لأنه لو كان على الوجوب لكان كقوله:
ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم
[الأنبياء: 29] وهي لغة العرب إذا قال القائل: جزاؤه كذا؛ ثم لم يجازه لم يكن كاذبا، وإذا قال: أجزيه ذلك ولم يفعل كان كاذبا، فعلم أن بينهما فرقا واضحا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
" { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم } قال: " هي جزاؤه أن جازاه " "
فإن قيل: قوله: { وغضب الله عليه ولعنه } من الأفعال الماضية، ومتى قلتم إن المراد به: فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم: قد يرد الخطاب باللفظ الماضي والمراد منه المستقبل كقوله تعالى
وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله
[البروج: 8] أي إلا أن آمنوا بالله، ومثله كثير.
وأما قول من زعم: أنه لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا، فإنه مخالف للكتاب والسنة، وذلك أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا، وأمر بالتوبة منها، فقال عز وجل
وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون
[النور: 31] ولم يفصل بين ذنب وذنب، وإذا كان الله تعالى يقبل التوبة من الكفر فقبولها من القتل أولى، وقال تعالى:
والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق...
[الفرقان: 68] إلى قوله تعالى:
إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا
[الفرقان: 70] وقال إخوة يوسف:
اقتلوا يوسف
[يوسف: 9] ثم قالوا:
وتكونوا من بعده قوما صالحين
[يوسف: 9]. أي تائبين.
" وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ قال: " نعم " ".
ثم المقتول إذا اقتص منه الولي فذلك جزاؤه في الدنيا، وفيما بين المقتول والقاتل الأحكام باقية في الآخرة؛ لأن الولي وإن قتله فإنما أخذ حق نفسه، وأما المقتول فلم يكن له في القصاص منفعة.
[4.94]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينو }؛ قال ابن عباس:
" نزلت في مرداس بن نهيك؛ كان مسلما لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم فهربوا كلهم، وأقام الرجل في غنمه؛ لأنه كان على دين المسلمين، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وهو العوج، فلما سمعهم يكبرون عرف أنهم الصحابة؛ فكبر ونزل وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ السلام عليكم، فغشاه أسامة بن زيد فقتله وساق غنمه، وكان أمير السرية غالب بن فضالة الليثي، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا وقال: " قتلتموه إرادة ما معه " فأنزل الله هذه الآية؛ فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة فقال: يا رسول الله؛ استغفر لي، قال: " فكيف بلا إله إلا الله!؟ " قال ذلك ثلاث مرات، ثم استغفر له بعد ثلاث مرات، وأمره أن يعتق رقبة ".
وعن الحسن: (أن أناسا من المسلمين لقوا أناسا من المشركين فحملوا عليهم، فشد رجل منهم ومعه متاع، فلما غشيه السيف قال: إني مسلم، فكذبه ثم أوجر السنان وأخذ متاعه، وكان والله قليلا، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال جندب بن سفيان:
" ولقد كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء السيف، وقال: يا رسول الله؛ بينما نحن نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى إذ لحقت رجلا بالسيف، فلما أحس السيف واقع به، قال: إني مسلم؛ إني مسلم؛ فقتلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قتلت مسلما! " قال: يا نبي الله؛ إنه قال ذلك متعوذا، فقال: " فهلا شققت عن قلبه! فنظرت أصادقا هو أم كاذبا " قال: لو شققت عن قلبه ما كان يعلمني؛ هل قلبه إلا بضعة من لحم، قال: " فأنت قتلته؛ لا ما في قلبه علمت؛ ولا لسانه صدقت؛ إنما يعبر عنه لسانه " فقال: يا رسول الله؛ استغفر لي، قال: " لا أستغفر لك " قال: فما لبث القاتل أن مات فدفنوه؛ فأصبح على ظهر الأرض إلى جانب قبره، فعادوا فحفروا له وأمكنوا فدفنوه؛ فأصبح على ظهر الأرض ثلاث مرات، فلما رأى ذلك قومه استحيوا وحزنوا وأخذوا برجله فألقوه في شعب من الشعاب، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا؛ إنها لتنطبق على من هو أعظم جرما منه، ولكن أراد الله أن يبين لكم حرمة الدم ".
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا خرجتم مسافرين في طاعة الله فتبينوا؛ أي ميزوا الكافر من المؤمن بالدلائل والعلامات، ولا تعجلوا بالقتل حتى يتبين لكم ذلك. ومن قرأ (فتثبتوا) بالثاء فمعناه: قفوا في أمر من أظهر لكم الإسلام ولا تعجلوا بقتله، { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام }؛ أي الانقياد والمتابعة وأسمعكم كلام الإسلام؛ { لست مؤمنا تبتغون عرض الحيوة الدنيا }؛ فتقتلوه وتطلبون برد إسلامه استغنام ما معه من المال، { فعند الله مغانم كثيرة }؛ يظهركم عليها، ويبيح لكم أخذها.
ومن قرأ (السلام) بالألف فمعناه: لا تقولوا لمن سلم عليكم، ودعاكم لست مؤمنا، والتسليم من علامات الإسلام، به يتعارف المسلمون، وبه يحيي بعضهم بعضا.
قوله تعالى: { تبتغون عرض الحيوة الدنيا }؛ يعني تطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلبه، وعرض الدنيا منافعها ومتاعها. قوله تعالى: { كذلك كنتم من قبل }؛ أي من قبل الهجرة تأمنون في قومكم بين المؤمنين بلا إله إلا الله؛ فكيف تخيفون وتقتلون من قالها، فنهاهم الله تعالى أن يخيفوا أحدا يأمن بما كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم. وقيل: معناه: كنتم تقتلون وتؤخذ أموالكم قبل الهجرة، { فمن الله عليكم }؛ بتوفيق الإيمان والهجرة، { فتبينوا }؛ ولا تخيفوا أحدا بأمر كنتم تأمنون بمثله، { إن الله كان بما تعملون خبيرا }؛ من القتل وغير ذلك خبيرا.
[4.95]
قوله عز وجل: { لا يستوي القعدون من المؤمنين غير أولي الضرر }؛ أي لا يستوي في الفضل والثواب القاعدون عن الجهاد من المؤمنين الأصحاء؛ الذين لا ضرر بهم من المرض والزمانة؛ ولا عذر يمنعهم من الجهاد، { والمجهدون }؛ في طاعة الله بالإنفاق من أموالهم والخروج بأنفسهم.
روي: أنه نزل أولا (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاء ابن أم مكتوم ورجل آخر معه وهما أعميان، فقالا: يا رسول الله؛ أمر الله بالجهاد وفضل المجاهدين على القاعدين، وحالنا على ما ترى، فهل لنا من رخصة؟ والله لو استطعنا لجاهدنا، فأنزل الله { غير أولي الضرر } أي غير أولي الضرر في البصر، فجعل لهم من الأجر ما للمجاهدين.
وروى ابن أبي ليلى؛ قال: (لما نزل قوله (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) قال ابن أم مكتوم: اللهم أنزل عذري، فنزل قوله { غير أولي الضرر } فوضعت بينهما، وكان بعد ذلك يغزو ويقول: إدفعوا إلي اللواء؛ ويقول: أقيموني بين الصفين).
وعن زيد بن ثابت قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، وقد أملى علي قوله: { لا يستوي القعدون من المؤمنين } فعرض ابن أم مكتوم فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه حتى كادت تنحطم، فنزل عليه { غير أولي الضرر }.
ومن قرأ (غير أولي الضرر) بالنصب فهو نصب على الاستثناء، كأنه قال: إلا أولي، كما يقال: جاءني القوم غير زيد. ويجوز أن يكون على الحال؛ أي لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون، وهذا كما يقال: جاءني زيد غير مريض؛ أي صحيحا.
ومن قرأ (غير) بالرفع، فيجوز الرفع في استثناء الإثبات من النفي، ويجوز أن يكون (غير) صفة للقاعدين، وإن كان أصل (غير) أن تكون صفة كما هو نكرة. المعنى: لا يستوي القاعدون الذي هم غير أولي الضرر والمجاهدون في الفضل والثواب، وإن كانوا كلهم مؤمنين.
واختار بعضهم قراءة الرفع؛ لأن معنى الصفة على لفظة (غير) أغلب من معنى الاستثناء، واختار بعضهم قراءة النصب لأن قوله { غير أولي الضرر } نزل بعد قوله: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فيكون معنى الاستثناء به أليق.
قوله تعالى : { في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم فضل الله المجهدين بأمولهم وأنفسهم على القعدين درجة }؛ أي فضيلة ومنزلة؛ { وكلا وعد الله الحسنى }؛ أي وكلا الفريقين المجاهد والقاعد وعدهم الله الحسنى يعني الجنة بالإيمان. وفي هذا دليل أن الجهاد فرض على الكفاية؛ لأنه لو كان فرضا على الأعيان لم يجز أن يكون القاعد عنه موعود بالحسنى.
قوله تعالى: { وفضل الله المجهدين على القعدين أجرا عظيما }؛ أي فضل الله المجاهدين على القاعدين عن الجهاد بغير عذر ثوابا حسنا في الجنة، فقوله تعالى: (أجرا) نصب على التفسير. وقال الأخفش: (على المقدر؛ تقديره: آجرهم الله أجرا).
والفائدة في تكرار لفظ التفضيل: أن في الأول بيان تفضيل من جاهد بالمال والنفس جميعا؛ وفي آخر الآية بيان تفضيل المجاهد مطلقا، ويدخل فيه المجاهد بالمال والنفس، والمجاهد بالمال دون النفس، وبالنفس دون المال.
[4.96]
قوله تعالى: { درجات منه ومغفرة ورحمة }؛ هذا بدل من قوله تعالى (أجرا) أو صفة له؛ وهو موضع نصب. وعن ابن محيريز أنه قال: (فضل الله المجاهدين على القاعدين سبعين درجة؛ بين كل درجتين مسيرة سبعين خريفا للجواد المضمر).
قوله: { وكان الله غفورا رحيما }؛ أي غفورا لذنب من جاهد، رحيما إذ ساوى في وعد الحسنى بين من له العذر وبين من جاهد.
فإن قيل: كيف ذكر التفضيل في هذه الآية بدرجات، وفي الآية التي قبلها بدرجة؟ قلنا: قال بعضهم: أراد بذكر الدرجة في الآية الأولى: الفضيلة والكرامة في الدنيا، وبذكر الدرجات درجات الجنة منال في النعيم، بعضها أعلى من بعض، وذكر المغفرة لبيان خلوص نعيمهم عن الكدر، كما روي في الخبر: (أن الله ينسيهم في الجنة ما كان منهم من الذنوب في الدنيا حتى لا يلحقهم الحياء)، وذكر الدرجة لبيان أن الله أعطاهم ذلك النفع العظيم على جهة النعمة مع ما يضاف إليه من الفضل بالزيادة في النعمة. وقال بعضهم: أراد بالتفضيل في الدرجة في الآية الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين المعذورين، وبالآية الثانية تفضيلهم على القاعدين الذين لا عذر لهم.
[4.97]
قوله عز وجل: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم }؛ قال ابن عباس: (نزلت في قوم من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا - أي أظهروا الإسلام وأسروا النفاق - فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى المسلمين، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا وهم مع المشركين: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا يومئذ فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم)، وقالت لهم: لماذا خرجتم مع المشركين وتركتم الهجرة؟! فكان سؤال الملائكة لهم بهذا على سبيل التقريع.
ويجوز أن يكون معناه: فيم كنتم في المشركين أم في المسلمين؟ { قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض }؛ أي مقهورون في أرض مكة، فأخرجونا معهم كارهين، قالت الملائكة: { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة }؛ يعني أرض المدينة واسعة أمينة، { فتهاجروا فيها }؛ أي إليها، وتخرجوا من بين أظهر المشركين.
وقوله تعالى: { ظالمي أنفسهم } نصب على الحال بمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم لأنفسهم بالشرك والنفاق، والأصل (ظالمين) إلا أن النون حذفت استخفافا وهي ثانية في المعنى، فيكون هذا في معنى النكرة وإن أضيف إلى المعرفة، كما في قوله تعالى:
هديا بالغ الكعبة
[المائدة: 95]. وقوله تعالى: { توفاهم الملائكة } أي تقبض أرواحهم عند الموت، وإنما حذفت التاء الثانية لاجتماع التاءين.
قوله تعالى: { فأولئك مأواهم جهنم }؛ أي أهل هذه الصفة مصيرهم ومنزلتهم جهنم؛ { وسآءت مصيرا }؛ لمن صار إليها، واختلفوا في خبر: { إن الذين توفاهم الملائكة }؛ قال بعضهم: خبره: { قالوا فيم كنتم } ، أي قالوا لهم: فيما كنتم، قال بعضهم خبره: { فأولئك مأواهم جهنم }. وفي قوله تعالى: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } دليل أنه لا عذر لأحد في المقام على المعصية في بلده لأجل المال والولد والأهل، بل ينبغي أن يفارق وطنه إن لم يمكنه إظهار الحق فيه، ولهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال: (إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها)، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا استوجب به الجنة، وكان رفيق ابراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم "
[4.98]
قوله عز وجل: { إلا المستضعفين من الرجال والنسآء والولدان لا يستطيعون حيلة }؛ استثناء من قوله تعالى:
فأولئك مأواهم جهنم
[النساء: 97] والمعنى: إلا من صدق أنه مستضعف من الشيوخ والولدان ونساء لا يجدون نفقة الخروج إلى المدينة ولا يمكنهم الخروج إليها، ولا يعرفون الطريق حتى يهاجروا، والمعنى: إلا المستضعفين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة، ومنعوا من اللحوق بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يريدون اللحوق به.
وقوله تعالى: { ولا يهتدون سبيلا }؛ قال مجاهد: (معناه لا يعرفون طريق المدينة). وقال ابن عباس: (كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وكنت غلاما صغيرا يومئذ، فنحن ممن استثنانا الله عز وجل).
[4.99]
قوله تعالى: { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم }؛ أي أهل هذه الصفة من المستضعفين، عسى الله أن يتجاوز عنهم، و { عسى } من الله كلمة إيجاب؛ لأنه أرحم الراحمين، والفائدة في ذكر هذا اللفظ أن يكون العبد بين الخوف والرجاء. وقوله تعالى: { وكان الله عفوا غفورا }؛ أي لم يزل عفوا عن عباده غفورا لهم.
[4.100]
قوله عز وجل: { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرغما كثيرا وسعة }؛ أي من يخرج في سبيل الله الذي أمر الله بالهجرة فيه وهو سبيل المدينة؛ يجد في الأرض متحولا كثيرا ومتزحزحا عما يكره. وقوله تعالى: { وسعة } أي سعة في الرزق. وقال قتادة: (سعة في إظهار الدين) وإنما قال ذلك لما كان يلحقهم من الضيق من جهة الكفار في إظهار دينهم.
قوله تعالى: { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله }؛ قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرغما كثيرا وسعة } سمعها رجل من بني الليث شيخ كبير يقال له جندع بن ضمرة فقال: أنا والله ممن استثنانا الله تعالى فإني لا أجد حيلة، والله لا أبيت ليلة بمكة، فخرجوا به يحملونه على سريره؛ فأتوا به التنعيم فأدركه الموت، فصفق بيمينه على شماله ثم قال: اللهم إن كان هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمات حميدا.
فبلغ ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يقولون: لو بلغ إلينا لتم أجره، وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك ما طلب، فأنزل الله تعالى هذه الآية { ومن يخرج من بيته مهاجرا }. أي مهاجرا قومه وأهله وولده إلى طاعة الله وطاعة رسوله؛ { ثم يدركه الموت }؛ في الطريق؛ { فقد وقع أجره على الله }؛ فقد وجب ثوابه على الله المليء الوفي بوعده، { وكان الله غفورا }؛ بما كان منه في الشرك؛ { رحيما }؛ به في الإسلام.
[4.101]
قوله عز وجل: { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوة }؛ أي إذا سافرتم في الأرض؛ لأن الخروج إلى الصحراء أو القصد إلى القرية القريبة لا يسمى ضربا في الأرض، وقوله تعالى: { ليس عليكم جناح } أي ليس عليكم حرج ومأثم في أن تقصروا من الصلاة، يعني من أربع ركعات إلى ركعتين، { إن خفتم أن يفتنكم }؛ أي إن علمتم أن يغتالكم، { الذين كفروا }؛ ويقتلوكم، { إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا }؛ أي عدوا ظاهر العداوة، يبدون عداوتهم لكم.
وفي الآية ذكر القصر من الصلاة بين شرطين، وأجمعت الأمة أن أصل القصر لا يتعلق بهما وأن كل واحد منهما يؤثر في القصر نوع تأثير، فتأثير السفر في القصر في العدد في الصلاة الرباعية، وتأثير الخوف في القصر في أركان الصلاة إذا خاف إن قام في الصلاة أن يراه العدو، أو خاف أن ينزل عن الدابة أن يدركه العدو، وكان له ترك القيام، وأن يؤمئ على الدابة، فيحتمل أن حرف العطف مضمرا في قوله: { إن خفتم } كأنه قال: وإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة.
وقال الحسن: (صلاة السفر ركعتان، فإذا قام الحرب فركعة) وهذا اللفظ يقتضي القصر الذي هو في غاية في القصر متعلق بشرطين على مذهبه. وروي:
" أن رجلا سأل عمر رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: كيف يقصر الناس وقد أمنوا؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه؛ حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " صدقة تصدق بها عليكم ألا فاقبلوا صدقة الله علينا " "
يقتضي إسقاط الفرض عنا. وفي قوله صلى الله عليه وسلم:
" فاقبلوا صدقته "
دليل أن القصر عزيمة لا رخصة؛ لأن ظاهر الأمر على الوجوب، ولهذا قال أصحابنا: إن المسافر إذا صلى الظهر أربعا، ولم يقعد في الثانية قدر التشهد فسدت صلاته، كمصلي الفجر أربعا.
[4.102]
قوله عز وجل: { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم }؛ الآية، قال ابن عباس: (لما رأى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر وهو يؤمهم؛ ندموا على تركهم الإقدام على قتالهم، فقال بعضهم: دعوهم؛ فإن بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأولادهم - يريدون العصر - فإذا رأيتموهم قاموا إليها فشدوا عليهم، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية وأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على قصدهم ومكرهم، وعن هذا كان إسلام خالد بن الوليد حين عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على ما كان من قصد المشركين في السر فيما بينهم).
ومعنى الآية: وإذا كنت يا محمد مع المؤمنين في الغزو فابتدأت في صلاة الخوف؛ فليقم جماعة منهم معك في الصلاة؛ ولتكن أسلحتهم معهم في صلاتهم؛ لأن ذلك أهيب للعدو، فإذا سجدت الطائفة التي معك وصلت ركعة، فلينصرفوا إلى المصاف وليقفوا بإزاء العدو؛ { ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم }؛ وهم الذين كانوا بإزاء العدو، ولم يصلوا معك في الركعة الأولى؛ فليصلوا معك الركعة الأخرى، ولتكن أسلحتهم معهم في الصلاة، ولم يذكر في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة.
وفي صلاة الخوف خلاف بين العلماء؛ قال بعضهم: إنها غير مشروعة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهو رواية عن أبي يوسف وهو قول الحسن بن زياد؛ لأن في هذه الآية ما يدل على كون النبي صلى الله عليه وسلم شرط في إقامة صلاة الخوف؛ ولأنها إنما جازت للنبي صلى الله عليه وسلم ليستدرك الناس فضيلة الصلاة خلفه؛ لأن إمامة غيره لم تكن لتقوم مقام إمامته.
وذهب أكثر العلماء إلى أن صلاة الخوف مشروعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخطاب في هذه الآية وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالأئمة بعده يقومون مقامه كما في قوله تعالى:
خذ من أموالهم صدقة
[التوبة: 103] ونحو ذلك من الآيات.
واختلفوا في كيفية صلاة الخوف، فقال أبو حنيفة ومحمد: (يجعل الإمام الناس طائفتين؛ طائفة بإزاء العدو، وطائفة معه؛ فيصلي بهما ركعة ركعة، ثم تنصرف هذه الطائفة إلى وجه العدو؛ وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة، ويتشهد ويسلم. ثم ترجع هذه الطائفة إلى وجه العدو بغير سلام، وتأتي الأولى فتقضي الركعة الثانية وحدانا بغير قراءة، فإذا سلمت وقفت بإزاء العدو، وجاءت تلك الطائفة فتقضي الركعة الأولى وحدانا بقراءة).
وعن أبي يوسف: (إذا كان العدو في وجه القبلة؛ وقف الإمام وجعل الناس خلفه صفين؛ فافتتح بهم الصلاة معا، فصلى بهم ركعة؛ فإذا سجد الإمام سجد معه الصف الأول، ووقف الثاني يحرسونهم، فإذا رفعوا رؤوسهم من السجود سجد الصف الثاني؛ وتأخر الأول، ويقوم الصف الثاني فيركع بهم جميعا، ثم يرفعون رؤوسهم ويسجد الصف المتقدم سجدتين، والصف الآخر يحرسونهم، ثم يسجد الصف المؤخر سجدتين لأنفسهم؛ ثم يتشهد الإمام ويسلم بهم جميعا).
وهكذا قال ابن أبي ليلى.
وقال مالك: (يجعل الإمام الناس طائفتين، فيصلي بطائفة ركعة وسجدتين، ثم ينتظر الإمام حتى يصلوا بقية صلاتهم ويسلموا وينصرفوا إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ويسلم الإمام، ويقومون فيتمون صلاتهم). وقال الشافعي مثل ذلك إلا أنه قال في الطائفة الأخرى: (لا يسلم بهم الإمام؛ ولكن ينتظر حتى يقوموا فيتموا صلاتهم، ثم يسلم بهم).
وإنما وقع بهم هذا الاختلاف لاختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب. روى علي وابن مسعود وجماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها كما قال أبو يوسف، ذكرنا عن أبي حنيفة ومحمد وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها كما قال أبو يوسف، وعن سهل بن أبي حثمة أنه صلى الله عليه وسلم صلاها كما قال الشافعي.
فدلت هذه الأخبار على جواز الجميع، وإنما يقع الكلام في الأول، والأقرب إلى ظاهر القرآن وظاهره يشهد للرواية التي رواها علي وابن مسعود؛ لأن في قوله تعالى: { فلتقم طآئفة منهم معك } دليل على أن الإمام لا يصلي بالطائفتين معا، وفي قوله تعالى: { فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم } دليل على أن الطائفة الأولى تنصرف عقب السجود. وعند مالك والشافعي: لا تنصرف الطائفة الأولى إلا بعد تمام الصلاة.
وفي قوله: { ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا } دليل أن الطائفة الثانية تأتي وهي غير مصلية، وهذا خلاف ما قال أبو يوسف. وهذا كله إذا أمكنهم إقامة الصلاة بالجماعة، أما إذا لم يمكنهم الجماعة لقيام القتال وكثرة العدو، وصلى كل واحد لنفسه على حسب ما أمكنه، إما إلى القبلة وإما إلى غيرها إذا لم يمكنه التوجه إليها أو راكبا يؤمئ إيماء، كما قال تعالى:
فإن خفتم فرجالا أو ركبانا
[البقرة: 239].
قوله عز وجل: { ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم }؛ قال ابن عباس:
" غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم محاربا بني أنمار فهزمهم الله تعالى؛ فنزل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولا يرون من العدو أحدا، فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي لحاجة له قد وضع سلاحه، حتى قطع الوادي والسماء ترش، فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي، فانحدر من الجبل ومعه السيف، وقال لأصحابه: قتلني الله إن لم أقتل محمدا، فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه وفي يده السيف مسلولا.
فقال: يا محمد؛ من يعصمك مني الآن؟ فقال: " الله عز وجل " ثم قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفني غورث بن الحرث بما شئت " فأهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه، فانكب لوجهه وبدر سيفه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ السيف وقال: " من يمنعك ويعصمك مني يا غورث؟ " قال: لا أحد. قال: " إشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأعطيك سيفك " قال: لا، ولكن لا أقاتلك أبدا، ولا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فقال غورث للنبي صلى الله عليه وسلم: أجل؛ لأنت خير مني، فقال: " أجل؛ أنا أحق بذلك منك ".
فرجع إلى أصحابه؛ قالوا له: ويلك! رأيناك قد أهويت بالسيف قائما على رأسه، ما منعك منه؟ فقال: لقد أهويت لكن والله لا أدري من زلخني بين كتفي، فخررت لوجهي، وخر سيفي من يدي، فسبقني إلى سيفي فأخذه. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع الوادي وأتى أصحابه فأخبرهم بالقصة "
، فأنزل الله تعالى: { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم }. أي لا مأثم عليكم في ذلك، وخذوا حذركم من عدوكم؛ { إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا }؛ يهانون فيه وهو القتل في الدنيا والنار في الآخرة.
[4.103]
قوله عز وجل: { فإذا قضيتم الصلوة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم }؛ يعني صلاة الخوف إذا فرغتم منها فاذكروا الله؛ أي صلوا قياما للصحيح؛ وقعودا للمريض؛ وعلى جنوبكم للمرضى والجرحى الذين لا يستطيعون الجلوس. وقيل: معناه: فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال. قال ابن عباس: (لم يعذر الله أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله).
وقوله تعالى: { فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلوة }؛ أي رجعتم من سفركم وزال عنكم الخوف والمرض والقتال { فأقيموا الصلوة } أي أتموها أربعا بركوعها وسجودها وسائر شروطها، { إن الصلوة كانت على المؤمنين كتبا موقوتا }؛ أي فرضا مفروضا موقتا أوقاته، ويقال: معلوما فرضه للمسافرين ركعتان وللمقيم أربع ركعات. وقال الأعمش: (موقوتا؛ أي مؤقتا).
[4.104]
قوله تعالى: { ولا تهنوا في ابتغآء القوم }؛ أي لا تضعفوا في طلب ابتغاء القوم أبي سفيان وأصحابه لما أصابكم من القتل والجراحات يوم أحد. وقوله تعالى: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون }؛ أي إن كنتم تألمون من الجراح فلهم مثل ذلك، والمعنى: إن كان لكم صارف عن الحرب وهو أنكم تألمون من الجراح فلهم مثل ذلك من الصارف، ولكم أسباب داعية إلى الحرب ليست لهم، وهو أنكم ترجون الثواب والنصر من الله، { وكان الله عليما }؛ بمصالحكم { حكيما }؛ فيما يأمركم به.
[4.105]
قوله عز وجل: { إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بمآ أراك الله }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق؛ سرق درعا من جار له يقال له: قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في غرارة وجراب فيه دقيق، فانتثر الدقيق من المكان الذي سرقه إلى باب منزله، ففطن به أنه هو السارق؛ فمضى بالدرع إلى يهودي يقال له زيد بن السمين فأودعه إياها، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده، فحلف لهم ما أخذها ولا له علم، فقال أصحاب الدرع: لقد أدلج علينا وأخذها، وطلبنا أثره حتى دخلنا داره، ولقينا الدقيق منتثرا، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي وطلبوه، فقال: دفعها إلي طعمة بن أبيرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكلمه في صاحبنا نعذره ونتجاوز عنه، فإن صاحبنا بريء معذور. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل لسان وبيان، فسألوه أن يعذره عند الناس؛ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعذره ويعاقب اليهودي، فأنزل الله هذه الآية).
وفي رواية عن ابن عباس: (أن طعمة سرق درعا؛ وكان الدرع في جراب فيه نخالة، فخرق الجراب حتى كان يتناثر النخالة بطول الطريق، فجاء به إلى دار زيد بن السمين اليهودي وتركه على باب داره، وحمل الدرع إلى بيته، فلما أصبح صاحب الدرع جاء إلى زيد بن السمين على أثر النخالة، وحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده، فأنزل الله هذه الآية). إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن إنزالا بالحق، وقيل: { بالحق } أي بالأمر والنهي والفصل لتحكم بين الناس بما أعلمك الله وأوحى إليك، { ولا تكن }؛ يا محمد؛ { للخآئنين خصيما }؛ أي لطعمة وقومه معينا.
[4.106]
قوله تعالى: { واستغفر الله }؛ أي تب إلى الله واستغفره مما هممت به من قطع يد زيد بن السمين. وقال الكلبي: (من همك باليهودي أن تضربه). وقال مقاتل: (واستغفر الله من جدالك الذي جادلت عن طعمة)، { إن الله كان غفورا }؛ لمن يستغفره؛ { رحيما }؛ بالتائبين.
[4.107]
قوله عز وجل: { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم }؛ ولا تخاصم عن الذين يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ورمي اليهودي بها، { إن الله لا يحب من كان خوانا }؛ أي خائنا في الدرع؛ { أثيما }؛ في رميه اليهودي. وقيل: الخوان: المكتسب للإثم، والآثم الفاجر بالكذب ورمي البريء، وإنما قال: { يختانون أنفسهم } وإن كانوا خانوا غيرهم؛ لأن مضرة خيانتهم راجعة إليهم، كما يقال: فمن ظلم غيره ما ظلم إلا نفسه، وإنما قال: { خوانا } ولم يقل خائنا لعظيم أمر الخيانة.
[4.108]
قوله تعالى: { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول }؛ معناه: يستخفي قوم طمعة؛ أي يسرون من الناس وهم يعلمون أنه سارق ولا يستترون من الله؛ أي لا يمكنهم الاستخفاء منه، فإن سرهم وعلانيتهم عند الله ظاهر.
قوله تعالى: { وهو معهم } وهو شاهد لأفعالهم { إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } أي يدبرون، ويقولون بالليل قولا لا يرضاه الله؛ وهو اتفاق قول طعمة على أن يرموا اليهودي. وقوله تعالى: { وكان الله بما يعملون محيطا }؛ أي عالما لا يفوته شيء كما لا يفوت المحيط بالشيء.
[4.109]
قوله عز وجل: { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع طعمة في السرقة بعد هذه الآيات؛ فجاء قومه شاكين في السلاح فجادلوا عنه وهربوا به، فأنزل الله هذه الآية، ومعناها: ها أنتم يا قوم طعمة خاصمتم النبي صلى الله عليه وسلم عن طعمة وعن خيانته في دار الدنيا.
وفي قراءة أبي: (جادلتم عنه فمن يجادل الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة إذا أخذه بعذابه وأدخله النار)؛ { أم من يكون عليهم وكيلا }؛ يتوكل بهم ويصلح أمرهم ويحفظهم من عذاب الله.
[4.110]
قوله عز وجل: { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه }؛ أي ومن يعمل سوءا " ويرمي " به غيره نحو السرقة والقتل والقذف، أو أنه يظلم نفسه نحو الكذب الكذب واليمين الفاجرة وشرب الخمر وترك الفرائض؛ { ثم يستغفر الله }؛ بالتوبة؛ { يجد الله غفورا }؛ للمستغفرين التائبين؛ { رحيما }؛ بهم بعد التوبة. وإنما شرطت التوبة؛ لأن الاستغفار لا يكون توبة بالإجماع ما لم يقل معه: تبت وأسأت ولا أعود إليه أبدا؛ فاغفر لي يا رب. وقيل: معناه: من يعمل سوءا بسرقة الدرع، أو يظلم نفسه برميه البريء بالسرقة.
وقيل: معناه: من يعمل سوءا أو شركا { أو يظلم نفسه } يعني بما دون الشرك، { ثم يستغفر الله } أي يتوب إلى الله، { يجد الله غفورا رحيما }. وقيل: أراد بالسوء: الكبيرة، ويظلم النفس: الصغيرة.
وعن علي كرم الله وجهه؛ قال: (حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال: ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له، وتلا هذه الآية { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الآية).
[4.111-112]
قوله عز وجل: { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه }؛ أي من يعمل معصية فإنما عقوبته على نفسه، { وكان الله عليما حكيما }؛ أي لم يزل عليما بكل ما يكون، حكيما فيما حكم به من القطع على السارق. وقيل: معنى الآية: { ومن يكسب إثما } يعني بيمينه بالباطل، فإنما يضر به نفسه، { وكان الله عليما } بسارق الدرع، { حكيما } حكم بالقطع على طعمة بالسرقة.
وقد روي: أنه لما نزلت هذه الآية؛ عرف قوم طعمة كلهم أنه هو الظالم، فأقبلوا عليه وقالوا له: اتق الله وائت رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوء بالذنب، فقال: لا؛ والذي يحلف به ما سرقها إلا اليهودي. فنزل قوله تعالى: { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا }؛ أي ومن يعمل معصية بغير عمد أو متعمدا ثم يرم بريئا؛ فقد استوجب عقوبة البهتان برميه غيره بشيء لم يفعله { وإثما مبينا } أي ذنبا بينا ظاهرا.
وقيل: معناه: { ومن يكسب خطيئة } أي بيمينه الكاذبة { أو إثما } بسرقة الدرع ورمي اليهودي. والبهتان: بهت الرجل بما لم يفعله. وقال الزجاج: (البهتان الكذب الذي يتحير من عظمه).
[4.113]
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طآئفة منهم أن يضلوك }؛ أي لولا فضل الله عليك يا محمد بالنبوة والإسلام؛ ورحمته بإرسال جبريل عليه السلام إليك بالقرآن الذي فيه خبر ما غاب عنك لقصدت من قوم طعمة أن يخطئوك ويحملوك أن تحكم بما هو غير واجب في الباطن، وأن تبرئ الخائن من غير حقيقية؛ { وما يضلون إلا أنفسهم }؛ أي وما يكون إضلالهم إلا على أنفسهم، { وما يضرونك من شيء }؛ ولا ينقصونك شيئا مع عصمة الله تعالى إياك؛ { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة }؛ أي القرآن ومعرفة الحلال والحرام؛ { وعلمك }؛ بالوحي؛ { ما لم تكن تعلم }؛ قبله؛ { وكان فضل الله عليك عظيما }؛ بالنبوة والإسلام.
وفي هذه الآيات دلالة أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره، وأنه لا يجوز للحاكم الميل إلى أحد الخصمين، وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا، وأن وجود السرقة في يدي إنسان لا يوجب الحكم بها عليه.
[4.114]
قوله عز وجل: { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس }؛ أي لا خير في كثير من أسرار قوم طعمة فيما يريدون بينهم إلا نجوى من أمر بصدقة فتصدق بها، ويجوز أن يكون معنى { إلا من أمر } الاستثناء ليس من الأول على معنى (لكن) فيكون موضع { من أمر } نصبا على الإضمار ، والأول موضعه خفض.
وذهب الزجاج: (إلى أن النجوى في اللغة: ما تفرد به الجماعة والاثنان؛ سرا كان ذلك أو ظاهرا). وقال: (معنى: نجوت الشيء إذا خلصته وأفردته، ونجوت فلانا إذا استسرته).
قوله تعالى: { أو معروف } أي أو أمر بمعروف، ويسمى البر كله معروفا، قال صلى الله عليه وسلم:
" كل معروف صدقة، وأول أهل الجنة دخولا أهل المعروف، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء "
قوله تعالى: { أو إصلاح بين الناس } يعني الإصلاح بين المتخاصمين، وإصلاح ذات البين، قال صلى الله عليه وسلم:
" " ألا أخبركم بأفضل درجة من الصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة، فلا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين " ".
قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك ابتغآء مرضات الله }؛ معناه: من يفعل ذلك البر والصلاح والصدقة لطلب مرضاة الله تعالى، لا للرياء والسمعة، { فسوف نؤتيه }؛ نعطيه؛ { أجرا عظيما }؛ أي ثوابا وافرا في الجنة.
[4.115]
قوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين }؛ نزلت في طعمة؛ وذلك أنه لما نزل فيه القرآن، وعلم قومه أنه ظالم، وخاف هو على نفسه القطع والفضيحة؛ هرب إلى مكة؛ فأنزل الله هذه الآية، ومعناها: ومن يخالف الرسول في التوحيد والحدود معاندا من بعد ما تبين له حكم الله، ويتبع دينا غير دين المؤمنين وهو دين أهل مكة؛ { نوله ما تولى }؛ أي نكله في الآخرة إلى ما تولى. قيل: ونتركه إلى ما اختار لنفسه في الدنيا؛ أي لا يتولى الله نصره ولا معونته، { ونصله جهنم }؛ أي ونلزمه دخول جهنم في الآخرة، { وسآءت }؛ جهنم؛ { مصيرا }؛ أي لمن صار اليها.
فلم يتب طعمة ولم يندم، وأقام على كفره، ثم إنه نقب بيت رجل من بني سليم من أهل مكة؛ فسقط عليه حجر فنشب فيه، فلم يستطع أن يدخل ولا يخرج حتى أصبح؛ فأخذه ليقتله، فقال بعضهم: دعوه؛ فإنه قد لجأ إليكم وتحرم بكم فاتركوه؛ فأخرجوه من مكة، فخرج مع قوم من التجار نحو الشام؛ فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب، فطلبوه فوجدوه؛ فرموه بالحجارة حتى قتلوه؛ فصار قبره تلك الحجارة.
[4.116]
قوله عز وجل: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه). والمعنى: إن الله لا يغفر شرك المشرك به إن مات بغير توبة؛ ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أهل الإسلام من غير توبة.
وقال الضحاك عن ابن عباس: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله؛ إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا؛ إلا أني لا أشرك به شيئا مذ عرفته وآمنت به؛ ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أقع على المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له، ولا توهمت طرفة عين أن أعجز الله هربا، إني لنادم تائب مستغفر، فما لي عند الله؟. فأنزل الله هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء }. { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا }؛ أي فقد ذهب عن الصواب والهدى ذهابا بعيدا، وحرم الخير كله.
والفائدة في قوله { بعيدا } أن الذهاب عن الجنة على مراتب أبعدها الشرك بالله تعالى.
[4.117]
قوله تعالى: { إن يدعون من دونه إلا إنثا }؛ أي إن يعبد أهل مكة من دون الله إلا الأصنام والأوثان، وسماها إناثا؛ لأنهم سموها باسم الإناث: اللات والعزى ومنات، فعبدوها مع اعتقادهم بنقصان مراتب الإناث عن الذكور؛ لأن الإناث من كل جنس أراذلة، ويقال: إناثا؛ أي مواتا؛ لأن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن الإناث، يقال: هذه الأحجار تعجبني؛ ((كما تقول: هذه المرأة تعجبني)).
قوله تعالى: { وإن يدعون إلا شيطنا مريدا }؛ أي ما يريدون بعبادة الأوثان إلا عبادة الشيطان، والمريد: العاتي الخارج عن الطاعة، ويسمى المريد مريدا لتعريه عن الخير، يقال: شجرة مرداء؛ أي لا ورق عليها، وغلام أمرد: إذا لم يكن على وجهه شعر.
[4.118]
قوله تعالى: { لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } أراد به الشيطان أبعده من رحمته إلى عقابه بالحكم له بالخلود في جهنم، ويسقط بهذا قول من قال: كيف يصح أن يقال: { لعنه الله } وهو في الدنيا لا يخلو من نعمة تصل إليه من الله في كل حال؟ الجواب لا يعتد بتلك النعمة مع الحكم له بالخلود في النار.
قوله تعالى: { لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } أي قال إبليس: لأتخذن من عبادك نصيبا معلوما، فكل ما أطيع فيه إبليس فهو مفروض له.
والفرض في اللغة: القطع؛ ومنه الفرضة أي الثلمة، والفرض في القوس: ما شد به الوتر، والفريضة في العبادات: الأمر الحتم القاطع، وقوله تعالى:
وقد فرضتم لهن فريضة
[البقرة: 237] أي جعلتم لهن قطيعة من المال، وأما قول الشاعر:
إذا أكلت سمكا وفرضا
ذهبت طولا وذهبت عرضا
فالفرض هنا التمر، سمي فرضا لأنه يؤخذ من فرائض الصدقة.
[4.119-120]
قوله تعالى: { ولأضلنهم ولأمنينهم }؛ حكاية قول إبليس؛ أي لأضلنهم عن الحق ولأمنينهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، ولأريحنهم طول الحياة في الدنيا، { ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعم }؛ أي بتشقيق آذان الأنعام؛ وهي البحيرة التي كانوا يفعلونها نسكا وعبادة للأوثان، والقطع. { ولأمرنهم فليغيرن خلق الله }؛ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والضحاك: (فليغيرن دين الله) نظيره
لا تبديل لخلق الله
[الروم: 30] أي لدين الله، كقوله:
لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم
[الروم: 30]. وقال عكرمة: (معناه: فليغيرن خلق الله بالخصي والوشم وقطع الآذان وفقئ العيون). قال مجاهد: (كذب عكرمة؛ إنما هو دين الله).
قوله تعالى: { ومن يتخذ الشيطن وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا }؛ أي من يتخذه ناصرا من دون الله فقد غبن غبنا ظاهرا؛ لأنه خسر الجنة والنعيم الذي فيها.
فإن قيل: (كيف علم إبليس أنه يتخذ من عباد الله نصيبا؟ فيه أجوبة؛ منها: أن الله لما خاطبه بقوله
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود: 119] علم إبليس أنه ينال من ذرية آدم ما تمنى. ومنها: أنه لما وسوس لآدم فنال منه ما نال، طمع في ذريته. ومنها : أن إبليس لما عاين الجنة والنار علم أن لها سكانا من الناس).
وقوله: { يعدهم ويمنيهم }؛ أي يعدهم أن لا جنة ولا نار؛ ويمنيهم طول البقاء في الدنيا ودوام نعيمها ويؤثروها على الآخرة، { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا }؛ أي باطلا، والغرور: إيهام النفع فيما فيه ضرر.
[4.121]
قوله تعالى: { أولئك مأواهم جهنم }؛ أي أهل هذه الصفة مستقرهم جهنم، { ولا يجدون عنها محيصا }؛ أي مخلصا، يقال: حاص يحيص حيصا؛ إذا عدل عن الشيء.
[4.122]
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ أي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل؛ { خالدين فيهآ أبدا }؛ أي مقيمين في الجنة إلى الأبد، وإنما ذكر الطاعة مع الإيمان وجمع بينهما: فقال: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يبين بطلان من يتوهم أنه لا يضر المعصية والإخلال بالطاعة مع الإيمان؛ كما لا تنفع الطاعة مع الكفر أو ليبين استحقاق الثواب على كل واحد من الأمرين.
قوله تعالى: { وعد الله حقا }؛ انتصب { وعد } على المصدر، تقديره: وعد لهم الله هذا وعدا حقا كائنا؛ { ومن أصدق من الله قيلا }؛ أي ليس أحد أصدق من الله قولا ووعدا.
[4.123]
قوله عز وجل: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب }؛ أي ليس ثواب الله تعالى بأمانيكم، فإن { ليس } يقتضي اسما، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية. قال قتادة والضحاك: (إن أهل الكتاب والمسلمين افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم؛ وكتابنا قبل كتابكم؛ ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم؛ نبينا خاتم النبيين؛ وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل الله تعالى هذه الآية).
وقال مجاهد: المخاطبون بها عبدة الأوثان؛ فإنهم قالوا: لا نبعث ولا نحاسب، وقال أهل الكتاب: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، فأنزل الله تعالى: { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب }. { من يعمل سوءا يجز به }؛ ولا ينفعه تمنيه، والمراد بالسوء الكفر.
وقال بعضهم: المخاطب بها المسلمون؛ أي { من يعمل سوءا يجز به } أي ليس بأمانيكم يا معشر المسلمين أن لا تؤاخذوا بسوء بعد الإيمان، { ولا أماني أهل الكتاب }: لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، من يعمل معصية يجز بذلك ولا ينفعه تمنيه.
روي: أنه لما نزلت هذه الآية؛ قال أبو بكر رضي الله عنه:
" يا رسول الله؛ كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " غفر الله لك يا أبا بكر؛ ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء؟ " قال: بلى، " فهو ما تجزون به " ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:
" لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قاربوا وسددوا ". يقال: كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها في قدميه، والنكبة ينكبها ".
قال عطاء: لما نزل قوله تعالى: { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر رضي الله عنه:
" هذه قاصمة الظهر يا رسول الله؛ وأينا لم يعمل سوءا، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟! قال: " إنما هي المصيبات تكون في الدنيا ". فقال أبو هريرة: فلما نزل قوله تعالى: { من يعمل سوءا يجز به } بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله؛ ما أبقت هذه الآية من شيء، " أما والذي نفسي بيده؛ لكما أنزلت؛ ولكن يسروا وقاربوا وسددوا؛ إنه لا يصيب أحدكم مصيبة في الدنيا إلا كفر عنه بها خطيئة؛ حتى الشوكة يشاكها في قدمه " ".
وقال الحسن في قوله تعالى: { من يعمل سوءا يجز به } قال (الكافر، وأما المؤمن فلا يجازى يوم القيامة إلا بأحسن عمله ويتجاوز عنه سيئاته) ثم قرأ
ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون
[الزمر: 35] وقرأ
وهل نجزي إلا الكفور
[سبأ: 17].
ولولا السنة لأمكن أن يقال: إن الآية نزلت في الكفار؛ لأن في سياق الآية: { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا }؛ ومن لم يكن له يوم القيامة ولي ولا نصير كان كافرا؛ لأن الله تعالى قد ضمن نصر المؤمنين في الدارين فقال تعالى:
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
[غافر: 51]. ولكن الخطاب إذا ورد مجملا، وبين الرسول عليه السلام كان الحكم لبيانه لا للآية؛ إذ البيان إليه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:
لتبين للناس ما نزل إليهم
[النحل: 44].
[4.124]
قوله عز وجل: { ومن يعمل من الصلحت من ذكر أو أنثى وهو مؤمن }؛ أي وهو مصدق بالثواب والعقاب، { فأولئك يدخلون الجنة }؛ في الآخرة، { ولا يظلمون نقيرا }؛ أي ولا ينقصون مما استحقوه من جزاء أعمالهم مقدار النقير، وهو النقرة التي تكون في ظهر النواة.
[4.125]
قوله تعالى: { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبرهيم حنيفا }؛ معناه: أي أحد منكم أصوب طريقة وسيرة، ممن أخلص عمله وطاعته لله وهو محسن في الاعتقاد والعمل فيما بينه وبين ربه واتبع دين إبراهيم حنيفا؛ أي مائلا عن كل دين سوى الإسلام.
وقيل: الحنيف: المستقيم في سلوك الطريق الذي أمر بسلوكه. ومعنى المحسن: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال:
" أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
قوله تعالى: { واتخذ الله إبراهيم خليلا }؛ قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: (خليلا أي صفيا). وقيل: في معنى قوله: { خليلا } وجهان: أحدهما الإصطفاء بالمحبة، والإختصاص بالإسراء دون من لم تكن له تلك المنزلة، والثاني: من الخلة وهو الحاجة، فخليل الله: المحتاج إليه؛ المنقطع بحوائجه إلى الله تعالى دون غيره، وقد يسمى الفقير خليلا، قال زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة
يقول لا غائب مالي ولا حرم
أي ولا ممنوع.
فإذا أريد به الوجه الأول؛ جاز أن يقال: إبراهيم خليل الله؛ والله خليل إبراهيم. وإذا أريد الوجه الثاني؛ لم يجز أن يوصف الله تعالى بأنه خليل إبراهيم، وجاوز وصفه بأنه خليل الله.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" اتخذ الله إبراهيم خليلا لإطعامه الطعام؛ وإفشائه السلام؛ وصلاته بالليل والناس نيام "
فإن قيل: لم كان اتباع ملة إبراهيم أولى من اتباع ملة غيره من الأنبياء مثل عيسى وموسى؟ قيل: إن الفرق كلهم متفقون على تعظيمه، ووجوب اتباع ملته، وهو كان يدعو إلى الحنيفية دون اليهودية والنصرانية.
[4.126]
قوله عز وجل: { ولله ما في السموت وما في الأرض }؛ إما قال هكذا ليبين أن إبراهيم مع كونه خليل الله وأنه لم يتخذه لحاجته إليه، لكنه اتخذه خليلا جزاء على عمله. وقال بعضهم: إنما قال ذلك لأنه لما أمر الناس بطاعته حثهم على الطاعة بما يوجب الرغبة فيها؛ وهو كونه مالك السماوات والأرض. قوله تعالى: { وكان الله بكل شيء محيطا }؛ أي عالما بكل شيء، قادرا على كل شيء من كل وجه، فلا يخرج شيء عن مقدوره.
[4.127]
قوله عز وجل: { ويستفتونك في النسآء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتب في يتمى النسآء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن }؛ قال ابن عباس: (نزلت في أم كجة امرأة أوس بن ثابت وبناتها منه؛ لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوريثهن من أوس، أقبل عيينة بن حصين الفزاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله؛ إنك قد ورثت النساء والبنات والصغار؛ ولم نكن نحن نورث إلا من قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة، فأنزل الله هذه الآية).
ويقال: إنها نزلت بعد نزول قوله تعالى:
يوصيكم الله في أولدكم
[النساء: 11] إلى قوله
عليما حكيما
[النساء: 11] قبل نزول فرض الزوجات، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتونه في ميراث أم كجة امرأة المتوفى، فأنزل الله هذه الآية ووعدهم أن يفتيهم في ميراث الزوجات؛ فأفتاهم في ذلك بقوله تعالى:
ولكم نصف ما ترك أزوجكم
[النساء: 12] إلى آخر الآية.
ومعنى الآية: يستفتونك يا محمد في أمر النساء وما يجب لهن من الميراث؛ قل الله يبين لكم ميراثهن، والذي يقرأ عليكم في كتاب الله في أول هذه السورة، يفتيكم ويبين لكم ما سألتم عنه في بنات أم كجة اللاتي لا تعطوهن ما فرض لهن من الميراث وهو قوله تعالى:
يوصيكم الله في أولدكم
[النساء: 11].
قوله تعالى: { وترغبون أن تنكحوهن }؛ أي ترغبون عن نكاحهن لدمامتهن فلا تعطوهن نصيبهن من الميراث لمن يرغب فيهن غيركم؛ وذلك أن بني أعمام تلك البنات كانوا أولياءهن؛ وكانوا لا يعطونهن حظهن من الميراث، ويرغبون أن يتزوجونهن، وهذا قول ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد. وعن عائشة رضي الله عنها والحسن: (أن معناه: وترغبون في أن تتزوجونهن لجمالهن ولا تعطوا لهم ما أوجب الله لهن من الصداق). وفي كلا القولين دليل على جواز نكاح الأولياء لليتامى.
قوله تعالى: { والمستضعفين من الولدن }؛ أي وفي (المستضعفين من الولدان) أي في ميراث اليتامى. وقوله تعالى: { وأن تقوموا لليتمى بالقسط }؛ أي وفي (أن تقوموا لليتامى بالقسط) في أموالهم وحقوقهم بالعدل.
قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما }؛ أي ما تفعلوا من خير في أمر اليتامى والضعاف؛ { فإن الله كان به عليما } يجزيكم على ذلك.
واختلف أهل النحو في موضع { وما يتلى عليكم } فذهب أكثرهم إلى أنه موضع رفع؛ تقديره: وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم. وقال بعضهم: هو في موضع خفض تقديره: وفي ما يتلى عليكم، إلا أن هذا الوجه أضعف من الأول؛ لأنه لا يصح عطف الظاهر على المضمر بحرف الجر من دون إعادة حرف الجر.
[4.128]
قوله عز وجل: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا }؛ الآية نزلت في خويلة ابنة محمد بن مسلمة وفي زوجها سعد بن الربيع؛ تزوجها وهي شابة؛ فلما علاها الكبر جفاها وتزوج عليها شابة آثرها عليها، فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزلت هذه الآية، هذا قول الكلبي وجماعة من المفسرين.
وقال سعيد بن جبير: (كان رجل له امرأة قد كبرت؛ وكان لها ستة أولاد، فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها، فقالت: لا تطلقني ودعني على أولادي؛ واقسم لي في كل شهرين أو أكثر إن شئت، وإن شئت لا تقسم، فقال: إن كان يصلح ذلك فهو أحب إلي، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: { وإن امرأة خافت } أي علمت من زوجها بغضا، أو إعراضا بوجهه عنها لإيثار غيرها عليها. قال الكلبي: (يعني: ترك مجامعتها ومضاجعتها ومجالستها ومحادثتها؛ فلا جناح على الزوج والمرأة أن يصالحا بينهما صلحا معلوما بتراضيهما؛ وهو أن يقول لها الزوج: إنك امرأة قد دخلت في السن؛ وأنا أريد أن أتزوج عليك امرأة شابة أوثرها عليك في القسم لها لشبابها أو أزيد في نصيبها من القسم، فإن رضيت وألا سرحتك بالأحسن وتزوجت أخرى. فإن رضيت بذلك فهي المحسنة، وحل للزوج ذلك).
كما روي
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلق امرأته سودة؛ فسألته لوجه الله أن يراجعها وتجعل يومها لعائشة ففعل "
ومثل هذا الصلح لا يقع لازما؛ لأنها إذا أبت بعد ذلك إلى المقاسمة على السؤال كان لها ذلك.
قوله تعالى: { والصلح خير }؛ أي خير من الإقامة على النشوز. وقيل: خير من الفرقة. ودخول حرف الشرط على الاسم في قوله تعالى: { وإن امرأة } فعلى تقدير فعل مضمر؛ أي: وإن خافت امرأة خافت، أو على التقديم والتأخير، كأنه قال: وإن خافت امرأة من بعلها نشوزا، وعلى هذا قوله تعالى:
إن امرؤ هلك
[النساء: 176]،
وإن أحد من المشركين استجارك
[التوبة: 6] وهذا لا يكون إلا في الفعل الماضي؛ كما يقال: إن الله أمكنني ففعلت كذا، فأما في المستقبل فيصح أن يفرق بين التي للجزاء وبين لفظ الاستقبال، فيقال: إن امرأة تخف؛ لأن (إن) تحرم المستقبل فلا يفصل بين العامل والمعمول.
قوله تعالى: { وأحضرت الأنفس الشح }؛ أي جبلت الأنفس على الشح، فشح المرأة الكبيرة منعها من الرضا بدون حقها، وترك بعض نصيبها من الرجل لغيرها، وشح الرجل بنصيبه من الشابة يمنعه من توقير نصيب الكبيرة من القسم عليها. قوله تعالى: { وإن تحسنوا وتتقوا }؛ أي إن تحسنوا العشرة وتتقوا الظلم على النساء؛ { فإن الله كان بما تعملون خبيرا }؛ من الإحسان والجود، عالما بخير عملكم، والسوء فيجزيكم على ذلك.
[4.129]
قوله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء ولو حرصتم }؛ أي ولن تقدروا أن تساووا بين النساء ولو اجتهدتم في العدل ، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول:
" اللهم إن هذا قسمي فيما أملك؛ فلا تؤاخذني بما لا أملك "
وأراد به التسوية والمحبة.
قوله تعالى: { فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة }؛ أي لا تميلوا إلى الشابة والجميلة بالفعل كل الميل في النفقة والقسمة والإقبال عليها، فتتركوا العجوز بغير قسمة كالمنبوذة والمحبوسة لا أيم ولا ذات بعل. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما؛ جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل "
قوله تعالى: { وإن تصلحوا وتتقوا }؛ أي وإن تصلحوا ما أفسدتموه بإفراد الميل، فتعدلوا في القسمة بينهن، وتتقوا الجور والعقوبة فيه، { فإن الله كان غفورا رحيما }؛ لما سلف منكم من الظلم عليهن رحيما بكم بعد التوبة.
[4.130]
قوله عز وجل: { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته }؛ أي معناه: أن الزوج والمرأة إذا تفرقا دون ترك حقوق الله التي أوجبها عليهما؛ أغنى الله كلا من سعته من رزقه؛ الزوج بامرأة أخرى، والمرأة بزوج آخر؛ { وكان الله واسعا }؛ لهما في النكاح؛ { حكيما }؛ حكم على الزوج بالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان. وقيل: معناه: وكان الله واسع الملك جوادا لا يعجزه شيء، وحكمه فيما يحكم من الفرقة يجعل لكل واحد منهما من يسكن إليه ويتسلى به عن الأول.
ومن حكم هذه الآية: أن الرجل إذا قسم لنسائه لا يجب عليه وطئ واحدة منهن؛ لأن الوطء لذة له فهي حقه، فإذا تركه لم يجبر عليه، وليس هو كالمقام والنفقة. وعماد القسم الليل، ولا يجامع المرأة في غير يومها، ولا يدخل بالليل على التي لم يقسم لها، ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها، فإن فعلت فلا بأس أن يقيم حتى تشفى أو تموت، فإن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين أو ثلاثا ثلاثا كان له ذلك.
[4.131]
قوله عز وجل: { ولله ما في السموت وما في الأرض }؛ كلهم عبيده وإماؤه، { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }؛ أي أمرنا أهل التوراة في التوراة، وأهل الإنجيل في الإنجيل، وأهل كل كتاب في كتابهم، { وإياكم } أي ووصيناكم يا أمة محمد في كتابكم؛ { أن اتقوا الله }؛ وأطيعوه في النساء واليتامى وأحكامهم.
قوله تعالى: { وإن تكفروا }؛ أي وإن تجحدوا وصية الله سبحانه وتعالى فلم تعملوا بها، { فإن لله ما في السموت }؛ من الملائكة، { وما في الأرض }؛ من الجن والإنس وسائر الخلق، { وكان الله غنيا }؛ عن عبادتكم، لا يضره كفر من كفر منكم، ولا ينفعه طاعة من أطاع منكم، { حميدا }؛ محمودا في ذاته وفي خواص ملائكته وعباده، حمدتموه أو لم تحمدوه. وقيل: حامدا لمن وحده وأطاعه.
[4.132]
قوله عز وجل: { ولله ما في السموت وما في الأرض }؛ تنبيه بعد تنبيه؛ كأنه تعالى نبههم عن غفلتهم بأنه حفيظ على أعمالهم كي يتحفظوا ولا يتهاونوا لما أمروا من أمر الله تعالى، وليس شيء من هذه الألفاظ تكرار في كتاب الله تعالى، ولكن كل واحد منها مقرون بفائدة جديدة، والفائدة في قوله تعالى: { ولله ما في السموت وما في الأرض } بأنها الأمر بالاتكال على الله تعالى، والثقة به وتفويض الأمور إليه، ولذلك عقبه بقوله تعالى: { وكفى بالله وكيلا }؛ أي حافظا لأعمالكم كفيلا بأرزاقكم.
[4.133]
قوله تعالى: { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين }؛ أي كما يملك الموجود من السموات والأرض يملك أيضا الاستبدال بإفناء الخلق وإنشاء الآخرين. وقيل: هو خطاب للكفار؛ لأنه تعالى قال من قبل: { إن تكفروا } فكأنه قال: إن يشأ يذهبكم أيها الكفار ويأت بقوم آخرين أطوع منكم، { وكان الله على ذلك قديرا }؛ وكان الله على إهلاككم وخلق غيركم قادرا.
[4.134]
قوله عز وجل: { من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة }؛ أي من كان يريد بعمله منفعة الدنيا، فليعمل لله ولا يقتصر على طلب الدنيا، فإن ثواب الدنيا واصل إلى البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ولكن ليتكلف طلب الآخرة التي لا تنال إلا بالعمل، { وكان الله سميعا }؛ لكلام عباده، { بصيرا }؛ بما في قلوبهم، وفي الآية تهديد للمنافقين المرائين. وفي الحديث:
" إن في النار واديا تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة أعد للقراء المرائين "
وقيل: معنى الآية: من كان يريد بعمله عوضا من الدنيا ولا يريد به وجه الله؛ أثابه الله عليه من عرض الدنيا ما أحبه؛ ودفع منه فيها ما أحب.
[4.135]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا كونوا قومين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الولدين والأقربين }؛ أي قوموا بالعدل وقولوا الحق، والقوام بالقسط المستعمل له على حسب ما يجب من إنصافه من نفسه، وإنصاف كل مظلوم من ظالمه، ومنع كل ظالم من ظلمه، ولفظ القوام لا يكون إلا للمبالغة.
والقسط والإقساط: العدل، يقال: أقسط الرجل إقساطا إذا عدل، وأتى بالقسط وقسط يقسط قسطا إذا جار، قال الله تعالى:
وأقسطوا إن الله يحب المقسطين
[الحجرات: 9] أي اعدلوا، وقال تعالى:
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا
[الجن: 15] أي الجائرون.
وقوله تعالى: { شهدآء لله } نصب على أحد ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه خبر ثان، كما يقال: هذا حلو حامض. والثاني: على الحال، كما يقال: هذا زيد راكبا. والثالث: على أنه صفة القوامين، فإن قوامين نكرة، وشهداء نكرة، والنكرة تنعت بالنكرة. ومعنى { شهدآء لله } أي شهدوا بالحق لله على ما كان من قريب أو بعيد.
وقيل: معنى الآية: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين في الرحم؛ فأقيموها عليهم لله ولا تخافوا غنيا لغناه، ولا ترحموا فقيرا لفقره؛ فذلك قوله تعالى: { إن يكن غنيا أو فقيرا }؛ أي فلا تتركوا الحق.
قوله تعالى: { ولو على أنفسكم } أي قولوا الحق ولو على أنفسكم، والشهادة على النفس إقرار. قوله تعالى: { أو الولدين والأقربين } أي على والديكم وعلى أقربائكم، وفي هذا بيان أن شهادة الابن على الوالدين لا تكون عقوقا، ولا يحل للابن الامتناع عن الشهادة على أبويه؛ لأن في الشهادة عليهما بالحق منعا لهما عن الظلم.
قوله تعالى: { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما }؛ معناه: إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فالله أحق بالغني والفقير من عباده من أحدهم بوالديه وقراباته وأرحم وأرأف، فأقيموا الشهادة لله، لا تميلوا في الشهادة رحمة للفقير، ولا تقصدوا إقامتها لاحتمال غنى الغني؛ أي لأجل غناه، وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم:
" أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " قيل: يا رسول الله؛ كيف ينصره ظالما؟ قال: " أن ترده عن ظلمه فإن ذلك نصره ".
قوله تعالى: { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا }؛ معناه: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، وهذا كما يقال: لا تتبع الهوى لرضى ربك. ويقال: معناه: لا تتبعوا أن لا تعدلوا، ويقال: كراهة أن تعدلوا، وهذا كقوله تعالى:
يبين الله لكم أن تضلوا
[النساء: 176] ويقال: معنى تعدلوا: تميلوا من الحق إلى الهوى.
قوله تعالى: { وإن تلووا أو تعرضوا }؛ من قرأ (تلووا) بواوين فمعناه: أن تماطلوا في إقامة الشهادة وتقلبوا اللسان لتفسدوا الشهادة، أو تعرضوا عن إقامة الشهادة مأخوذ من لوى فلان في دينه؛ أي دافع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" لي الواجد ظلم "
والمعنى: (إن تلووا) اللسان لتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق، وتعرضوا عنها فتكتموها ولا تقيموها عند الحكام، { فإن الله كان بما تعملون } ، من إقامتها وكتمانها، { خبيرا }.
ومن قرأ (تلوا) بواو واحدة فهو من الولاية، معناه: إن أقمتم الشهادة وأعرضتم، وعن ابن عباس: (أن المراد بالآية: القاضي؛ يتقدم إليه الخصمان، فيعرض عن أحدهما ويدافع في إمضاء الحق؛ أو لا يسوي بينهما في المجلس والنظر والإشارة). ولا يمنع أن يكون المراد بالآية القاضي والشاهد وعامة الناس؛ لاحتمال اللفظ للجميع.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزول هذه الآية:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على من كانت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقا هو عليه؛ وليؤديه عفوا ولا يلجؤه إلى سلطان وخصومة فليقطع بها حقه. وأيما رجل خاصم إلي فقضيت له على أخيه بحق ليس عليه فلا يأخذ به؛ فإنما أقطع له قطعة من نار جهنم "
[4.136]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل }؛ قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس:
" نزلت هذه الآية في عبدالله بن سلام؛ وأسد بن كعب وأخيه أسيد؛ وثعلبة بن قيس؛ وسلام ابن أخت عبدالله بن سلام؛ وسلمة ابن أخيه؛ ويامين بن يامين، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله؛ إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وبعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل آمنوا بالله وبرسوله محمد وبالرسل كلهم وبكتابه القرآن وبكل كتاب أنزله الله " قالوا: لا نفعل، فأنزل الله هذه الآية ".
ومعناها: { يا أيها الذين آمنوا } بمحمد والقرآن وموسى والتوراة { آمنوا بالله ورسوله } محمد { والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } يعني الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة، { ومن يكفر بالله وملآئكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا }؛ أي أخطأ خطأ بعيدا، فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله؛ إنا نؤمن بالله وبرسوله والقرآن؛ وكل كتاب كان قبل القرآن؛ وكل رسول كان من قبل؛ والملائكة واليوم الآخر لا نفرق بين أحد منهم، كما فرقت اليهود والنصارى.
ومعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن. قال أبو العالية وجماعة من المفسرين: (هذه الآية خطاب للمؤمنين، وتأويلها: يا أيها الذين آمنوا آمنوا؛ أي أقيموا واثبتوا على الإيمان). وقال بعضهم: إنها خطاب للمنافقين؛ ومعناها: يا أيها الذين آمنوا في الملأ آمنوا في الخلاء. وقوله تعالى: { ومن يكفر بالله وملآئكته وكتبه ورسله } أي من يجحد بوحدانية الله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت؛ فقد أخطأ خطأ بعيدا عن الحق والصواب.
[4.137]
قوله عز وجل: { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا }؛ اختلف المفسرون في هذه الآية، فقيل: إن المراد بهم اليهود. قال الكلبي: (آمنوا بموسى؛ ثم كفروا بعد موته، ثم آمنوا بعزير عليه السلام، ثم كفروا بعد عزير بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن). وقال مقاتل: (آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعد موته، ثم آمنوا بعيسى عليه السلام، ثم كفروا بعد ما رفع إلى السماء، ثم أقاموا على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن). وقيل: آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعده بعيسى عليه السلام، ثم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، ثم كفروا به بعد ما بعث، ثم أقاموا على كفرهم. وقال قتادة: (آمن اليهود بموسى ثم كفروا به بعبادة العجل، ثم آمنوا بالتوراة، ثم كفروا بعد ذلك بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم).
قوله تعالى: { لم يكن الله ليغفر لهم }؛ أي ما داموا على كفرهم؛ { ولا ليهديهم سبيلا }؛ أي ولا يوفقهم طريقا إلى الإسلام، ولكن يخذلهم مجازاة لهم على كفرهم. فإن قيل: إن الله لا يغفر كفر مرة؛ فما الفائدة في قوله { ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا }؟ قيل: إن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإذا كفر بعد إيمانه لم يغفر له كفره الأول، وهو مطالب بجميع كفره.
[4.138]
قوله تعالى: { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما }؛ خوف المنافقين عبدالله بن أبي وأصحابه، ومن يكون على سبيلهم إلى يوم القيامة بأن لهم عذابا وجيعا يخلص وجعه إلى قلوبهم.
[4.139]
قوله عز وجل: { الذين يتخذون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين }؛ أي هم الذين يتخذون اليهود أحباء في العون والنصرة من دون المؤمنين المخلصين الموحدين. قوله تعالى: { أيبتغون عندهم العزة }؛ هذا استفهام بمعنى الإنكار؛ أي كيف يطلبون عند الكفار العزة وهم أذلاء في حكم الله تعالى: { فإن العزة لله جميعا }؛ أي فإن القوة والمنعة لله جميعا، فمن أراد طلب العزة فليطلبها من الله تعالى؛ لأنه المقدر بجميع من له العزة من خلقه لجميع العزة له.
[4.140]
قوله عز وجل: { وقد نزل عليكم في الكتب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره }؛ أي قد نزل عليكم في القرآن سورة الأنعام بمكة أن سمعتم آيات الله يجحد بها، ويسخر منها فلا تجلسوا معهم حتى يكون خوضهم في حديث غير القرآن، وأراد بذلك المذكور في الأنعام قوله تعالى:
وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره
[الأنعام: 68].
قوله تعالى: { إنكم إذا مثلهم }؛ أي من جالسهم راضيا بما هم عليه من الكفر والاستهزاء بآيات الله فهو مثلهم في الكفر؛ لأن الرضا بالكفر والاستهزاء كفر، ومن جلس معهم ساخطا لذلك منهم لم يكفر، ولكنه يكون عاصيا بالقعود معهم؛ فيكون معنى قوله تعالى: { إنكم إذا مثلهم } أي في أصل العصيان وإن لم تبلغ معصية المؤمنين معصية الكفار، إذا لم يكن جلوس المؤمنين معهم لإقامة فرض أو سنة، أما إذا كان جلوسه هنالك لإقامة عبادة وهو ساخط لتلك الحال لا يقدر على تغييرها، فلا بأس بالجلوس. كما روي عن الحسن: (أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح؛ فانصرف ابن سيرين؛ فذكر ذلك للحسن فقال: إنا كنا متى رأينا باطلا تركنا حقا؛ أشرع ذلك في ديننا!).
قوله تعالى: { إن الله جامع المنفقين والكفرين في جهنم جميعا }؛ أي يجمعهم في جهنم مجازاة لهم لاجتماعهم في الدنيا للاستهزاء، فمن شاء لا يكون معهم في جهنم فلا يكون معهم في الدنيا.
[4.141]
قوله تعالى: { الذين يتربصون بكم }؛ أي هم الذين ينتظرون بكم الدوائر، ويرامون أحوالكم يعني المنافقين، والمتربص للشيء: هو المتوقع لأسبابه، ويسمى المحتكر متربصا لتوقعه غلاء السعر.
قوله تعالى: { فإن كان لكم فتح من الله }؛ أي اذا كان لكم ظفر ودولة وغنيمة، { قالوا ألم نكن معكم }؛ أي قال المنافقون: ألم نكن معكم على دينكم فأعطونا من الغنيمة، { وإن كان للكافرين نصيب }؛ أي ظهور على المسلمين؛ { قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين }؛ أي قال المنافقون: ألم نخبركم بعزيمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونطلعكم على سرهم ونكتب ذلك إليكم ونحذركم عنهم ونجبهم عنكم ونواليكم، { فالله يحكم بينكم يوم القيامة }؛ فالله يقضي بين المؤمنين والمنافقين والكفار { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا }؛ أي لم يجعل الله لليهود ظهورا على المؤمنين.
وقيل السبيل: الحجة، ولن يجعل الله للكافرين من اليهود وغيرهم حجة على المسلمين في الدنيا والآخرة، وقيل: معنى السبيل: الدولة الدائمة. وقيل: معناه: لن يدخل الله الكافرين الجنة؛ فيقولون للمؤمنين: ما أغنى عنكم تعبكم في الدنيا، وما ضرنا كفرنا بعد أن تساوينا.
[4.142]
قوله عز وجل: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم }؛ أي يخادعون أولياء الله بإظهارهم الإيمان وإبطانهم الكفر؛ ليحقنوا بذلك دماءهم ويشاركوا المسلمين في غنائمهم، وجعل الله مخادعة أوليائه مخادعة له كما قال تعالى
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
[الفتح: 10].
قوله تعالى: { وهو خادعهم } أي مجازيهم جزاء أعمالهم؛ وذلك أنهم على الصراط يعطون نورا كما يعطى المؤمنون؛ فإذا مضوا به على الصراط طفئ نورهم، ويبقى المؤمنون ينظرون بنورهم، فينادون المؤمنين: أنظرونا نقتبس من نوركم، فيناديهم الملائكة على الصراط: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع، قال: فيخاف المؤمنون حينئذ أن يطفأ نورهم، فيقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
قوله تعالى: { وإذا قاموا إلى الصلاة }؛ يعني المنافقين؛ { قاموا كسالى }؛ أي متثاقلين لا يريدون بها وجه الله تعالى، { يرآءون الناس }؛ ولا يريدون الصلاة إلا مراءة للناس خوفا منهم، { ولا يذكرون الله إلا قليلا }؛ أي لا يصلون لله إلا قليلا رياء وسمعة، ولو كانوا يريدون بذلك القليل وجه الله لكان كثيرا.
[4.143]
قوله تعالى: { مذبذبين بين ذلك }؛ نصب على الذم؛ ومعناه: مترددين بين كفر السر وإيمان العلانية، ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمسلمين؛ وليسوا من الكفار فيجب عليهم ما يجب على الكفار. وقيل: معناه: متحيرين بين الكفر والإيمان، { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء }؛ أي ليسوا من المؤمنين فيجب عليهم ما يجب عليهم، وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار؛ أي ما هم بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرحين بالشرك.
وكان صلى الله عليه وسلم يضرب مثلا للمؤمنين والمنافقين والكافرين كمثل ثلاثة دفعوا إلى نهر؛ فقطعه المؤمن؛ ووقف الكافر؛ ونزل فيه المنافق، حتى إذا توسطه عجز؛ فناداه الكافر : هلم إلي لا تغرق، وناداه المؤمن: هلم إلي لتخلص. فما زال المنافق يتردد بينهما حتى إذا أتى عليه ماء فغرقه، فكان المنافق لم يزل في شك حتى يأتيه الموت. قوله تعالى: { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }؛ أي من يخذله الله عن الهدى، فلن تجد له يا محمد طريقا إلى الهدى.
[4.144]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أوليآء من دون المؤمنين }؛ أي لا تفعلوا أيها الؤمنون كفعل المنافقين، { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا }؛ أي أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة ظاهرة توجب العقوبة عليكم في الدنيا والآخرة. والسلطان في اللغة: هو الحجة؛ يقال للأمير: سلطان؛ يراد بذلك أنه حجة.
[4.145]
قوله عز وجل: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }؛ أي في الطبق الأسفل؛ وهي الهاوية لمكرهم وخيانتهم للنبي صلى الله عليه وسلم مع إبطان الكفر، قال أبو عبيد: (جهنم أدراك منازل، كل منزلة منه درك). ومن قرأ (الدرك) بإسكان الراء، وهو لغة؛ وأكثر القراء على فتحها. والدركات في النار مثل الدرجات في الجنة، كل ما كان من درجات الجنة أعلى؛ فثواب من فيه أعظم، وما كان من دركات النار أسفل؛ فعقاب من فيه أشد. وسئل ابن مسعود عن الدرك الأسفل؛ فقال: (هو توابيت من حديد؛ مبهمة عليهم لا أبواب لها).
قوله تعالى: { ولن تجد لهم نصيرا }؛ أي مانعا يمنع عنهم العذاب، وعن عبدالله بن عمر؛ (أن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون؛ ومن كفر من أصحاب المائدة؛ وآل فرعون). قال الله تعالى في أصحاب المائدة:
فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين
[المائدة: 115] وقال:
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
[غافر: 46] وقال: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }.
فإن قيل: ما وجه التوفيق بين هذه الآية وبين قوله تعالى:
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
[غافر: 46]؟ قيل: لا يمتنع أن يجتمع القوم في موضع واحد ويكون عذاب بعضهم أشد من عذاب بعض، ألا ترى أن البيت الداخل في الحمام يجتمع فيه الناس، فيكون بعضهم أشد أذى بالنار؛ لكونه أدنى إلى موضع الوقود. وكذلك يجتمع القوم في القعود في الشمس، ويتأذى الصفراوي منها أشد وأكثر من تأذي السوداوي.
والمنافق في اللغة: مأخوذ من النفق؛ وهو السرب؛ أي استتر بالإسلام كما يستتر الرجل بالسرب. وقيل: هو مأخوذ من قولهم: نافق اليربوع؛ إذا دخل نافقاءه؛ فإذا طلب من النافقاء خرج من النافقاء؛ والنفقاء؛ والقاصعة؛ والراهطاء؛ والداماء حجرة اليربوع.
[4.146]
قوله عز وجل: { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله }؛ أي إلا الذين تابوا من النفاق، وأصلحوا العمل فيما بينهم وبين ربهم وتمسكوا بتوحيد الله ودينه، { وأخلصوا دينهم }؛ وأخلصوا توحيدهم وعملهم، { لله }؛ أي أخلصوا ذلك من شوب الرياء، وطلب عرض الدنيا، { فأولئك مع المؤمنين }؛ في الجنة والثواب، لا يضرهم النفاق السابق إذا أصلحوا وتابوا. قوله عز وجل: { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما }؛ وهو الجنة.
ولما حذفت الياء من (يؤت) في الخط، كما حذفت في اللفظ بسكونها وسكون اللام في اسم الله، فكذلك
سندع الزبانية
[العلق: 18] و
يدع الداع
[القمر: 6]. ويحتمل أن يكون معنى الآية: بيان زيادة الثواب لمن يسبق منه كفر ولا نفاق، فذلك قوله تعالى: { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما }. { وسوف } كلمة ترجية وإطماع؛ وهي من الله سبحانه وتعالى إيجاب؛ لأنه أكرم الأكرمين، ووعد الكريم إنجاز.
[4.147]
قوله تعالى: { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم }؛ يبين الله تعالى أن المنافقين هم الذين أوقعوا أنفسهم في الدرك الأسفل من النار، واستحقوا ذلك بنفاقهم، وإنه ليس في حكمة الله تعذيب من شكر وآمن، وإنما في حكمته أن يجزي كل عامل بما عمل، فذلك قوله تعالى: { ما يفعل الله بعذابكم } أي ما حاجته إلى تعذيبكم أيها المنافقون إن وحدتم في السر وصدقتم في إيمانكم.
ويقال معنى: { إن شكرتم } نعم الله { وآمنتم } به وبكتبه ورسله. وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ أي إن آمنتم وشكرتم؛ لأن الشكر لا يقع مع عدم الإيمان. وبين الله تعالى أن تعذيب عباده لا يزيد في ملكه، وأن ترك عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه.
قوله عز وجل: { وكان الله شاكرا عليما }؛ أي شاكرا للقليل من أعمالكم؛ مثيبا عليها؛ يقبل اليسير؛ ويعطي الجزيل عليها بأضعافها لكم؛ واحدة إلى عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. والشكر من العبد: هو الاعتراف بالنعمة الواصلة إليه مع صدق من التعظيم، والشكر من الله تعالى: هو مجازاته العبد على طاعته.
[4.148]
قوله عز وجل: { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم }؛ قال ابن عباس: (معناه: لا يحب الله الجهر بالدعاء الشر على أحد إلا أن يظلم فيه؛ فيدعو على ظالمه فلا يعاب على ذلك، وهو مأذون له في أن يشكو ظالمه ويدعو عليه).
ويقال: { إلا من ظلم } استثناء منقطع؛ معناه: لكن المظلوم يجهر بظلامته تشكيا. وفي تفسير الحسن: (لا يحب الله المشتم في الانتصار إلا من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز له الانتصار به في الدين). ونظيره قوله تعالى:
وانتصروا من بعد ما ظلموا
[الشعراء: 227]. قال الحسن: (لا يجوز للرجل " إذا قيل له ": يا زاني، أن يقول بمثل ذلك أو نحوه من أنواع الشتم). وقال مجاهد: (نزلت هذه الآية في الضيف إذا لم يضف ومنع حقه، فقد أذن له أن يشكو)، والضيافة ثلاثة أيام.
ومن قرأ (إلا من ظلم) بنصب الظاء، فمعناه: لكن الظالم يجهر بذلك ظلما واعتداء. وقيل: لكن الظالم إجهروا له بالسوء من القول. قوله تعالى: { وكان الله سميعا عليما }؛ أي { سميعا } لدعاء المظلوم؛ { عليما } بعقوبة الظالم. ويقال: { سميعا } لجميع المسموعات؛ { عليما } لجميع المظلومات. فقوله تعالى: { إلا من ظلم } في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
[4.149]
قوله تعالى: { إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا }؛ معناه: إن تظهروا خيرا أو تسروه أو تعفوا عن مظلمة ظلمتم بها؛ فإن الله كان عفوا. العفو: كثير العفو من غير حصر، والقدير والقادر بمعنى واحد؛ أي أن الله قادر على العقوبة به، ثم يعفو عن عباده مع قدرته على الانتقام. وقيل: معنى الآية: إن تردوا جوابا حسنا أو تسكتوا عن الظالم ولا تحقروه ولا تؤاخذوه بظلمه؛ فإن يعف عن الظالم ذنوبه؛ فإن عفو الله عن معاصيكم أكثر من عفوكم عمن ظلمكم.
[4.150]
قوله عز وجل: { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا }؛ نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى؛ آمنت اليهود بموسى والتوراة؛ وكفرت بعيسى والإنجيل، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل؛ وكفرت بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن؛ وكلهم كفر بمحمد والقرآن، فأعلم الله: أن ليس من الإيمان بالبعض، والكفر بالبعض دين يتخذ ذلك طريقا.
[4.151]
قوله عز وجل: { أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا }؛ أي أهل هذه الصفة هم الكافرون البتة، وانتصب قوله { حقا } على المصدر؛ والفائدة في قوله: { حقا } بيان أن إيمانهم بالبعض لا ينفعهم، ولا يسلب اسم الكفر عنهم.
[4.152]
قوله عز وجل: { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم }؛ يعني في الإيمان والتصديق؛ { أولئك سوف يؤتيهم أجورهم }؛ أي ثوابهم، وسمي الثواب أجرا؛ لأنه مستحق كالأجرة، { وكان الله غفورا رحيما }.
[4.153]
قوله عز وجل: { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء }؛ أي يسألك يا محمد كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود أن تنزل عليهم كتابا من السماء جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى، وهذا حين قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.
قوله تعالى: { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك }؛ أي لا تعجب من مسألتهم إنزال الكتاب من السماء بعد أن جاءتهم البينات على نبوتك، فإنهم سألوا موسى بعدما رأوا الآيات أعظم من ذلك، { فقالوا أرنا الله جهرة }؛ أي معاينة ظاهرة مكشفة؛ وهم السبعون الذين كانوا معه عند الجبل حين كلمه الله، فسألوه أن يروا ربهم رؤية يدركونه بأبصارهم في الدنيا. وقال أبو عبيد: (معنى الآية: قالوا جهرة أرنا الله) فجعل جهرة صفة لقولهم؛ قال: (لأن الرؤية لا تكون إلا جهرة). قوله تعالى: { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم }؛ أي أخذتهم النار عقوبة لهم بسؤالهم موسى ما لم يستحقوه.
قوله تعالى: { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جآءتهم البينات }؛ أي عبدوا العجل من بعد ما جاءتهم الدلالات على توحيد الله، وفي هذا بيان جهل اليهود وتعنتهم وعنادهم، وأي جهل أعظم من اتخاذ العجل إلها، بعد ظهور المعجزات وثبوت الآيات البينات.
قوله تعالى: { فعفونا عن ذلك }؛ أي تجاوزنا عنهم بعد توبتهم مع عظم جنايتهم وجريمتهم ولم نستأصلهم، دل الله تعالى بذلك على سعة رحمته ومغفرته وتمام نعمته ومنته، بين ذلك أنه لا جريمة تضيق عنها مغفرة الله، وفي هذا منع من القنوط واستدعاء إلى التوبة. قوله تعالى: { وآتينا موسى سلطانا مبينا }؛ أي أعطيناه حجة على من خالفه بينة ظاهرة؛ وهي اليد والعصا.
[4.154]
قوله تعالى: { ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم }؛ أي ورفعنا فوق رؤوسهم الجبل بإقرارهم بالله وبنبوة موسى، وذلك حين أبوا قبول التوراة، فرفع الله فوقهم الطور، فقبلوها فخروا سجدا، فرفع الله الطور عنهم.
قوله تعالى: { وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا }؛ أي قلنا لهم: ادخلوا باب أريحيا إذا دخلتموها خاشعين لله منحنية أصلابكم، فدخلوا زحفا وبدلوا ما قيل لهم. ويقال أراد بالباب: الباب الذي عبدوا فيه العجل، أمرهم الله أن يدخلوه بعد توبتهم عن عبادة العجل ساجدين لله عز وجل، فيصير ذلك كفارة لعبادة العجل.
قوله تعالى: { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت }؛ أي قلنا لهم مع هذا أيضا: لا تستحلوا أخذ السمك في يوم السبت. ومن قرأ (لا تعدوا) بتشديد الدال؛ فأصله: لا تعتدوا؛ فأدغمت الدال في الدال وأقيم التشديد مقامه. والقراءة بالتخفيف من عدا يعدو عدوانا. قوله تعالى: { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } ، أي إقرارا وثيقا شديدا يعني العهد الذي أخذه الله في التوراة فأبوا إلا مضيا على المعصية وخروجا عن الطاعة استخفافا بأمر الله.
[4.155]
قوله عز وجل: { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبيآء بغير حق }؛ أي فبنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة وبجحدهم القرآن والإنجيل وبما في التوراة من نعت الإسلام وصفة النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم الأنبياء بغير جرم، { وقولهم قلوبنا غلف }؛ أي في أوعية لا تعي شيئا، يقول الله تعالى: { بل طبع الله عليها بكفرهم }؛ أي ليس كما قالوا، ولكن ختم الله على قلوبهم مجازاة على كفرهم، { فلا يؤمنون إلا قليلا }؛ أي إلا إيمانا قليلا لا يجب أن يسموا به مؤمنين، فذلك أنهم آمنوا ببعض الرسل والكتب دون البعض.
وقال الحسن: (في هذا تقديم وتأخير؛ معناه: بل طبع الله عليها بكفرهم إلا قليلا فلا يؤمنون، والمراد بالقليل عبدالله بن سلام ومن تابعه). أما دخول (ما) في قوله تعالى { فبما نقضهم } فمعناه التأكيد؛ كأنه قال: فبنقضهم العهد، وجواب قوله تعالى { فبما نقضهم } مضمر في الآية؛ تقديره: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم، هذا لأن أول الآية ذم على الكفر، ومن ذمه الله فقد لعنه، يعني من ذمه على الكفر. ويقال: إن الجالب للباقي قوله: { فبما } قوله تعالى من بعد
فبظلم من الذين هادوا
[النساء: 160] فقوله تعالى { فبظلم } بدل من { فبما نقضهم } ، وجوابهما جميعا
حرمنا عليهم طيبات
[النساء: 160].
[4.156]
قوله عز وجل: { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما }؛ عطف على ما تقدم؛ أي وبجحدهم عيسى والإنجيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم ورميهم مريم بالزنا؛ وهو البهتان العظيم.
وذلك: أن عيسى عليه السلام استقبل رهطا من اليهود؛ فقال بعضهم لبعض: قد جاء الساحر بن الساحرة؛ والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأمه، فلما سمع بذلك عيسى، قال: اللهم أنت ربي وأنا عبدك؛ بقدرتك خرجت وبكلمتك خلقتني، ولم أتهم من تلقاء نفسي، اللهم العن من سبني وسب والدتي. فاستجاب الله دعاءه ومسخ ذلك الرهط الذين سبوه وسبوا أمه خنازير، وكانوا رموا أمه بيوسف بن يعقوب بن مانان.
[4.157]
قوله تعالى: { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله }؛ قال ابن عباس: (وذلك أنه لما مسخ الرهط الذين سبوا عيسى وأمه، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير؛ فزعت اليهود وخافت دعوته؛ فاجتمعوا على قتله؛ فثاروا إليه ليقتلوه؛ فهرب منهم ودخل بيتا في سقفه روزنة - أي كوة - فرفعه جبريل عليه السلام إلى السماء؛ وأمر يهوديا ملك اليهود رجلا يقال له طيطانوس أن يدخل البيت فيقتله؛ فدخل فلم يجده، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فلما خرج إلى أصحابه قتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم صلبوه.
فقال بعضهم: قتلناه، وقال بعضهم: إن وجهه وجه عيسى وجسده جسد صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاشتبه عليهم واختلفوا فيه، ثم بعث عليهم طاطوس بن استيبانيوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة).
وقوله تعالى: { رسول الله } قول الله خاصة لا قول اليهود، وكانت اليهود تقول: عيسى بن مريم، قال الله تعالى: { رسول الله } أي يعنون الذي هو رسول الله.
قوله تعالى: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم }؛ أي وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن ألقى الله على طيطانوس شبه عيسى فقتلوه؛ ورفع عيسى إلى السماء. قال الحسن: (إن عيسى عليه السلام قال للحواريين: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل فيدخل الجنة؛ فقام رجل من الحواريين فقال: أنا يا رسول الله، فألقى الله عليه شبه عيسى؛ فقتل وصلب، ورفع الله عيسى إلى السماء).
قوله تعالى: { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه }؛ أي من قتله، قال الكلبي: (اختلافهم فيه: أن اليهود قالوا: نحن قتلناه وصلبناه، وقال طائفة من النصارى: بل نحن قتلناه وصلبناه، فما قتله هؤلاء ولا هؤلاء، بل رفعه الله إليه إلى السماء).
ويقال: إن الله تعالى لما ألقى شبه عيسى على طيطانوس ألقاه على وجهه دون جسده، فلما قتلوا طيطانوس؛ نظروا إليه فإذا وجهه وجه عيسى وجسده غير جسد عيسى، فقالوا: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ فقال الله تعالى: { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا }؛ نعت كمصدر محذوف تقديره: وما علموه علما يقينا.
[4.158]
قوله تعالى: { بل رفعه الله إليه }؛ أي بل رفعه الله إلى السماء، وإنما سمى ذلك رفعا إليه؛ لأنه رفع إلى موضع لا يملك فيه أحد شيئا إلا (الله). قوله عز وجل: { وكان الله عزيزا حكيما }؛ قد ذكرنا معناه غير مرة، وفائدة ذكره ها هنا: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى على نجاة من يشاء، وبيان حكمته فيما فعل ويفعل وحكم ويحكم، فلما رفع الله عيسى عليه السلام كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه شهوات المطعم والمشرب وطار مع الملائكة؛ فهو معهم حول العرش فكأنه إنسيا ملكيا سماويا أرضيا. قال وهب بن منبه: (يبعث عيسى على رأس ثلاثين سنة، ورفعه الله وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت نبوته ثلاث سنين).
[4.159]
قوله عز وجل: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته }؛ لما ذكر الله تعالى اختلاف اليهود والنصارى في عيسى؛ بين بعده أن هذا الشك سيزول عن كل كتابي، فقال تعالى: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به } أي ما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت الكتابي يعني: إذا عاين اليهودي أمر الآخرة وحضرته الوفاة؛ ضربت الملائكة وجهه ودبره؛ وقالت: أتاك عيسى نبيا فكذبت به؛ فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، ويقول للنصراني: أتاك عيسى عليه السلام نبيا فكذبت عبدالله ورسوله، فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيؤمن بأنه عبدالله حين لا ينفعه إيمانه.
وقيل: معناه: قبل موت عيسى، وهذا قول الحسن وقتادة والربيع؛ جعلوا هاتين الكنايتين في (به) و (موته) راجعين إلى عيسى عليه السلام، والقول الأول هو قول عكرمة ومجاهد والسدي؛ جعلوا الهاء في قوله (به) راجعة إلى عيسى، وفي قوله (موته) راجعة إلى الكتابي الذي يؤمن به إذا عاين الموت، وهي رواية عن ابن عباس؛ قالوا: (لا يموت يهودي ولا صاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى؛ وإن احترق أو غرق أو تردى أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو أي ميتة كانت) حتى قيل لابن عباس: (أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال: تكلم به في الهوي؛ قيل له: رأيت لو ضربت عنق أحدهم؟ قال: تلجلج به لسانه). يدل على صحة هذا التأويل قراءة أبي (قبل موتهم).
قال شهر بن الحوشب: (قال لي الحجاج يوما: إن آية من كتاب الله ما قرأتها إلا تلجلج لي في نفسي منها شيء، قلت: وما هي؟ قال: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } وإني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه، فما أسمعه يقول شيئا.
قلت: إن اليهودي إذا حضره الموت؛ ضربت الملائكة وجهه ودبره؛ وتقول له: يا عدو الله؛ أتاك عيسى عبدا نبيا فكذبت به، فيقول: إني آمنت به إنه عبد نبي، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه، وتقول الملائكة للنصراني: يا عدو الله؛ أتى عيسى عبدا نبيا فكذبت به وقلت: إنه الله وابن الله، فيقول: إنه عبد الله ورسوله حين لا ينفعه إيمانه.
قال الحجاج: ومن حدثك بهذا الحديث؟ قلت: حدثني به محمد بن الحنفية، قال: - وكان متكئا فجلس - ثم نكث في الأرض بقضيبة ساعة، ثم رفع رأسه إلي وقال: أخذتها من عين صافية، أخذتها من معدنها.
قال الكلبي: فقلت لشهر بن حوشب: وما الذي أردت بقولك للحجاج: حدثني بذلك ابن الحنفية وهو يكرهه، ويكره من جاء من قبله؟ قال: أردت أن أغيظه).
وحجة من قال: إن الهاء في قوله { موته } راجعة إلى عيسى: ما روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أنا أولى الناس بعيسى؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم حكما عدلا، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقتل الخنزير؛ ويريق الخمر؛ ويكسر الصليب؛ ويذهب السحرة؛ ويقاتل الناس على الإسلام؛ وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين، ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذاب الدجال؛ حتى لا يبقى أحد من أهل الكتاب وقت نزوله إلا يؤمن به، وتقع الأمنة في زمانه حتى ترتع الإبل مع الأسود؛ والبقر مع النمور؛ والغنم مع الذئاب، ويلعب الصبيان بالحيات، لا يؤذي بعضهم بعضا، ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يموت، ويصلي عليه المسلمون ويدفنوه "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن المسيح جاء، فمن لقيه فليقرؤه مني السلام "
وروي: أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته ينزل على ثمانية جبال بيت المقدس وفي يده عصى من حديد، فيمكث في الأرض أربعين سنة إماما مهديا، وقيل: إن المراد بقوله { ليؤمنن به } محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن به أهل الكتاب في وقت المشاهدة ولكن لا ينفعهم، والقول الأول أصح؛ لأن الآية في قصة عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: { ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا }؛ أي يشهد عيسى عليه السلام على نفسه يوم القيامة بالعبودية، وعلى النصارى بأنهم عبدوه بغير حق، وعلى اليهود بأنهم كذبوه.
[4.160-162]
قوله عز وجل: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }؛ أي فبكفر اليهود وجرمهم حرمنا عليهم أشياء كانت طيبة لهم في التوراة؛ منها: لحوم الإبل وألبانها والشحوم، وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا، { وبصدهم عن سبيل الله كثيرا }؛ معناه: بسبب منعهم الناس عن دين الله وهو الإسلام، و؛ بسبب؛ { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه }؛ وقد نهوا عن ذلك في التوراة، و؛ بسبب؛ { وأكلهم أموال الناس بالباطل }؛ أكل أموال الناس بالظلم، وأخذ الرشا في الحكم.
وقوله تعالى: { وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما }؛ أي خلقنا وهيأنا للكافرين منهم عذابا وجيعا يخلص وجعه إلى قلوبهم، وإنما خص الكافرين لبيان أن من يؤمن منهم غير داخل في هذا الوعيد.
ثم استثنى الله تعالى منهم من آمن، فقال تعالى: { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بمآ أنزل إليك ومآ أنزل من قبلك }؛ أي لكن التائبون من أهل الكتاب وهم عبدالله بن سلام وأصحابه، وسماهم { الراسخون في العلم } لثباتهم في العلم وتبحرهم فيه؛ لا يضطربون ولا تميل بهم الشبه، بمنزلة الشجرة الراسخة بعروقها في الأرض.
قوله تعالى: { والمؤمنون يؤمنون } أي والمؤمنون من غير أهل الكتاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدقون بما أنزل إليك من الفرقان، وما فيه من تحريم هذه الأشياء عليهم، ويصدقون بما أنزل من قبلك على الأنبياء من الكتب، { والمقيمين الصلاة }؛ يجوز أن يكون معناه: يؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة، فيكون قوله { والمقيمين } نسقا على قوله { بمآ أنزل إليك }.
ويجوز أن يكون نصبا على المدح على معنى: أعني المقيمين الصلاة؛ وهم: { والمؤتون الزكاة }؛ كما يقال: جاءني قومك المطعمون في المحل؛ والمعينون في الشدائد. وقوله تعالى: { والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما }؛ أي المصدقون بالله وبالبعث بعد الموت أولئك سنعطيهم ثوابا وافرا في الجنة.
[4.163]
قوله جل وعز: { إنآ أوحينآ إليك كمآ أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده }؛ أي أنزلنا جبريل عليك بهذا القرآن كما أوحينا إلى نوح؛ فأمر بالاستقامة على التوحيد ودعوة الخلق إليه، وكما أوحينا إلى النبيين من بعد نوح أوحينا إليك. قيل: إن نوحا عليه السلام عمر ألف سنة لم تنقص له سن ولا قوة، ولم يشب له شعر، ولم يبلغ أحد من الأنبياء في الدعوة ما بلغ، ولم يصبر على أذى قومه ما صبر، وكان يدعو قومه ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وكان الرجل من قومه يضربه فيغمى عليه، فإذا أفاق دعا وبلغ، وقيل: هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { وأوحينآ إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط }؛ وهم بنو يعقوب عليه السلام وهم اثنا عشر رجلا، و؛ إلى؛ { وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا }؛ أي أعطينا؛ { داوود زبورا }؛ والزبور: هو الكتاب، مأخوذ من الزبر؛ وهو الكتابة، ومن قرأ زبورا بضم الزاي وهو الأعمش وحمزة وابن وثاب؛ فمعناه: الكتب على الجمع.
فإن قيل: كيف قدم الله ذكر عيسى على ذكر أيوب ويونس وهارون وسليمان وداود، وهو من بعدهم؟ قيل: لأن الواو للجمع دون الترتيب، فتقديم ذكره في الآية لا يوجب تقديمه في الخلق والإرسال، والفائدة في تقديمه في الذكر: الرد على اليهود، ولغلوهم في الطعن فيه وفي نسبه، فقدمه الله في الذكر؛ لأن ذلك أبلغ في كتب اليهود وفي تنزيهه مما رمي به ونسب إليه.
[4.164]
قوله جل وعز: { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل }؛ عطف على
إنآ أوحينآ إليك
[النساء: 163]، كأنه قال: إنا أرسلناك موحين إليك، وأرسلنا رسلا قد قصصنا عليك، ويجوز أن يكون منصوبا بالفعل الذي بعده، كأنه قال: وقد قصصنا رسلا عليك، ومعناه: قصصناهم؛ أي سميناهم لك في القرآن، وعرفناك قصتهم، { ورسلا لم نقصصهم عليك }؛ أي وأرسلنا رسلا لم نسمهم لك وأمرناهم بالاستقامة على التوحيد ودعوة الخلق إلى الله.
وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله؛ كم كانت الأنبياء؟ وكم كان المرسلون؟ قال: [كانت الأنبياء صلوات الله عليهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر).
وعن كعب الأحبار أنه قال: (الأنبياء صلوات الله عليهم ألفا ألف ومائتا ألف وخمسة وعشرون ألفا، والمرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر. وكان داود عليه السلام قد أنزل عليه الزبور، وكان ينزل إلى البرية ويقرأ الزبور؛ فيقوم معه علماء بني إسرائيل خلفه؛ ويقوم الناس خلف العلماء، وتقوم الجن خلف الناس، وتجيء الدواب التي في الجبال إذا سمعت صوت داود فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن من صوته، وتجيء الطير حتى يظللن على داود في خلائق لا يحصيهن إلا الله يرفرفن على رأسه، وتجيء السباع حتى تحيط بالدواب والوحش لما يسمعن، ولما قارن الذنب لم ير ذلك، فقيل له: ذلك أنس الطاعة، وهذه وحشة المعصية.
وعن أبي موسى الأشعري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود " فقال: فقلت: أما والله يا رسول الله؛ لو علمت أنك تستمع لحبرته تحبيرا. وكان عمر رضي الله عنه اذا رأى أبا موسى عليه السلام قال: " ذكرنا يا أبا موسى " فيقرأه عنده "
وعن أبي عثمان النهدي؛ قال: (ما سمعت قط بربطا ولا مزمارا ولا عودا أحسن من صوت أبي موسى، وكان يؤمنا في صلاة الغداة فنود أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته).
وفي تفسير الكلبي: (أن الله تعالى لما أنزل الآية التي قبل هذه الآية؛ وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس؛ قال اليهود فيما بينهم: ما نرى محمدا يقرأ بما أنزل الله على موسى؛ ولقد أوحي إليه كما أوحي إلى النبيين من قبله. فأنزل الله هذه الآية فقراها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا؛ إن محمدا قد ذكره فيمن ذكره وفضله بالكلام عليهم).
قوله تعالى: { وكلم الله موسى }؛ وفائدة تخصيص موسى عليه السلام بالكلام مع أن الله تعالى كلم غيره من الأنبياء،؛ لأنه تعالى كلمه من غير واسطة؛ وكلم غيره من الأنبياء بالوحي إليهم على لسان بعض الملائكة. قوله تعالى: { تكليما }؛ يدل على التأكيد كيلا يحمل كلام الله إياه على معنى الوحي إليه.
[4.165]
قوله عز وجل: { رسلا مبشرين ومنذرين }؛ معناه: فأرسلنا هؤلاء رسلا مبشرين بالجنة لمن أطاع ومخوفين بالنار لمن عصى؛ { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل }؛ لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة بعد إرسال الرسل إليهم؛ فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، { وكان الله عزيزا حكيما }؛ ظاهر المراد.
[4.166]
قوله تعالى: { لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سألنا اليهود عن نعتك وصفتك؛ فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتبهم، فأتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك إلينا رسولا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله تعالى:
قل أي شيء أكبر شهدة قل الله شهيد بيني وبينكم
[الأنعام: 19]).
قوله تعالى: { أنزله بعلمه }؛ أي على علم منه بأنك أهل لإنزاله عليك، وعلم من يقبل ومن لا يقبل كما قال الله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124]. وقيل: معناه: { أنزله بعلمه } أي علم ما فيه من الأحكام وما تحتاج إليه العباد من أمر دينهم ودنياهم ثم أنزله. وقيل: معناه: أنزله إليك من عنده لم يبدل ولم يغير، بل وصل إليك كما كان في اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: { والملائكة يشهدون }؛ أي يشهدون على شهادة الله، وعلى شهادتك بأن الذي شهدت به حق، وقوله تعالى: { وكفى بالله شهيدا }؛ أي اكتفوا بالله شهيدا في شهادته أن تشهد اليهود بما في كتابهم.
[4.167-169]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضللا بعيدا }؛ معناه: إن الذين جحدوا وحدانية الله ومحمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن، وصرفوا الناس عن دين الله وطاعته فقد أخطأوا خطأ بعيدا عن الهدى والثواب. بين الله تعالى في هذه الآية ضلالتهم في الدنيا.
ثم بين عقوبتهم في الآخرة فقال تعالى: { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم }؛ أي إن الذين كفروا بما يجب الإيمان به وظلموا أنفسهم بكفرهم لم يكن الله ليغفر لهم ما داموا على كفرهم، { ولا ليهديهم طريقا }؛ إلى الإسلام، { إلا طريق جهنم }؛ لكن تركهم على طريق جهنم وهو الكفر. وقيل: معناه: لا يرشدهم في الآخرة إلى طريق غير طريق جهنم، كما في قوله تعالى:
فاهدوهم إلى صراط الجحيم
[الصافات: 23]، { خالدين فيهآ أبدا }؛ التخليد والتعذيب، { وكان ذلك على الله يسيرا }؛ سهلا هينا.
[4.170]
قوله عز وجل: { يأيها الناس قد جآءكم الرسول بالحق من ربكم }؛ خطاب لعامة الخلق، { قد جآءكم الرسول } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بكلمة التوحيد والقرآن من عند ربكم، { فآمنوا خيرا لكم }؛ فصدقوا بالله ورسوله، وبما جاء به من عنده يكن خيرا لكم من التكذيب.
قال الخليل والبصريون: (انتصب قوله تعالى: { خيرا } لأنك إذا أمرت بفعل دخل في معناه؛ تقديره: إئتوا خيرا لكم، وإذا نهيت عن فعل دخل في معناه؛ تقديره: إئت بدله خيرا لكم). وقال الفراء: (انتصب لأنه متصل بالأمر وهو من صفته) تقديره: هو خير لكم، فلما سقط هو اتصل بما قبله، وعلى هذا: انتهوا خيرا لكم. وقال الكسائي: (انتصب لخروجه من الكلام) وقال: (هذا إنما تقوله العرب في الكلام التام، نحو قولك: لتقومن خيرا لك، وانته خيرا لك، وإذا كان الكلام ناقصا رفعوا، فقال: أن انتهوا خير لكم).
قوله تعالى: { وإن تكفروا فإن لله ما في السموت والأرض }؛ أي إن تكفروا يعاقبكم الله، فإن لله ما في السماوات والأرض. وقيل: إن تكفروا فإن الله غني عنكم، لكونه مالك السماوات والأرض، { وكان الله عليما حكيما }؛ أي لم يزل عليما بخلقه، بمن يؤمن وبمن لا يؤمن، حكيما في أمره، حكم بالإسلام على عباده.
[4.171]
قوله تعالى : { يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق }؛ نزلت في نصارى نجران وهم: النسطورية: الذين يقولون عيسى ابن الله، والماريعقوبية: الذين يقولون عيسى هو الله، والمرقوسية: الذين يقولون ثالث ثلاثة؛ ويقال هم الملكانية. ومعنى الآية: يا أهل الكتاب لا تجاوزوا الحد في الدين فتغيروا فيه. والغلو في الدين: مجاوزة الحد فيه، وقد غلت النصارى في أمر عيسى حتى جاوزوا به منزلة الأنبياء فجعلوه إلها.
ويقال: إن الآية خطاب لليهود والنصارى؛ لأن اليهود أيضا غلوا في أمر عيسى حتى جاوزوا به منزلة من ولد على غير الطهارة فجعلوه لغير رشده. قوله تعالى: { ولا تقولوا على الله إلا الحق } أي لا تصفوا الله إلا بالحق، والحق أن يقال: إله واحد لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وينزهه عن القبائح والنقائص وعن جميع صفات المحدثين.
قوله تعالى: { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله }؛ أي ليس المسيح إلا رسول الله؛ لأن (إنما) تقتضي تحقيق المذكور وتمحيق ما سواه، كقوله تعالى: { إنما الله إله واحد } ، وفي قوله: { عيسى ابن مريم } بيان أنه لا يجوز أن يكون إلها؛ أي كيف يكون إلها وهو ابن مريم أمة الله؟ وكيف يكون إلها وأمه قبله. قوله تعالى: { وكلمته ألقاها إلى مريم }؛ أي إنه كان بكلمته عز وجل وهو قوله: (كن) فكان.
قوله تعالى: { وروح منه }؛ قال ابن عباس: (معناه: أمر من الله عز وجل؛ أتاها جبريل بأمر الله فنفخ في جيب درعها؛ فدخلت تلك النفخة بطنها؛ فخلق الله عيسى بنفخة جبريل عليه السلام). والنفخ في اللغة: يسمى روحا. وقيل: سماه الله تعالى روحا؛ لأنه كان يحيي به الناس في الدين كما يحيون بالأرواح. وقيل: لأنه روح من الأرواح أضافه الله إليه تشريفا له، كما يقال: بيت الله. وقال السدي: (معناه (وروح منه) أي مخلوق منه؛ أي من عنده).
وقيل: معناه: ورحمة منه؛ أي جعله الله رحمة لمن آمن به، يدل عليه قوله تعالى:
وأيدهم بروح منه
[المجادلة: 22] أي قواهم برحمة منه. وقيل: الروح : الوحي؛ أوحى إلى مريم بالبشارة، وأوحى إلى جبريل بالنفخ، وأوحى إليه أن كن؛ فكان، يدل عليه قوله تعالى:
ينزل الملائكة بالروح
[النحل: 2] أي بالوحي،
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى: 52] أي وحيا.
وروي: أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني، وكان غلاما حسن الوجه جدا، وكان كامل الأدب جامعا للخصال التي يتوسل بها إلى الملك، وكان الرشيد مولعا بأن يسلم وهو يمتنع، وكان الرشيد يمنيه الأماني إن أسلم، فقال له ذات يوم: ما لك لا تؤمن؟ قال: إن في كتابكم حجة على من انتحله، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } فعبر بهذا أن عيسى جزء منه.
فضاق قلب الرشيد، وجمع العلماء فلم يكن فيهم من يزيل شبهته حتى قيل له: قد وفد حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن الحسين بن واقد من أهل مرو؛ وهو إمام في علم القرآن؛ فدعاه؛ فجمع بينه وبين الغلام، فسأله الغلام عن ذلك، فاستعجم عليه الجواب في الوقت، وقال: قد علم الله؛ يا أمير المؤمنين؛ في سابق علمه أن الخبيث يسألني في مجلسك عن هذا؛ وأنه لم يخل كتابه من جوابه، وأنه ليس يحضرني الآن، ولله علي أن لا أطعم ولا أشرب حتى أؤدي الذي يجب من الحق إن شاء الله.
ودخل بيته مظلما؛ وأغلق عليه بابه؛ واندفع في قراءة القرآن؛ حتى بلغ سورة الجاثية إلى قوله:
وسخر لكم ما في السموت وما في الأرض جميعا منه
[الجاثية: 13] فصاح بأعلى صوته: افتحوا الباب؛ فقد وجدت الجواب، ففتحوا ودعا الغلام؛ فقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد وقال: إن كان قوله { روح منه } يوجب أن يكون عيسى بعضا منه؛ وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضا منه.
فانقطع النصراني وأسلم؛ وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل علي بن الحسين بصلة جيدة. فلما عاد علي بن الحسين إلى مرو؛ صنف كتابا سماه (كتاب النظائر في القرآن) وهو كتاب لا يوازيه كتاب.
قوله عز وجل: { فآمنوا بالله ورسله }؛ أي صدقوا بوحدانية الله بما جاءكم به الرسل من الله؛ { ولا تقولوا ثلاثة }؛ أي تقولوا آلهتنا ثلاثة: أب؛ وابن؛ وروح قدس، { انتهوا }؛ عن الكفر، عن هذه المقالة، وتوبوا إلى الله هو؛ { خيرا لكم }؛ من الإصرار على الكفر.
قوله تعالى: { إنما الله إله واحد }؛ أي ما الله إلا إله واحد؛ { سبحانه أن يكون له ولد }؛ كلمة تنزيه عن السوء؛ أي تنزيها له أن يكون له ولد؛ { له ما في السموت وما في الأرض }؛ كلهم عبيده وإماؤه وفي قبضته؛ ويستحيل أن يكون المملوك ابنا للمالك؛ أي لا يجتمع الملك مع الولادة، ونظير هذا قوله تعالى:
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا
[مريم: 92-93]. قوله تعالى: { وكفى بالله وكيلا }؛ أي اكتفوا بربوبيته وبكفالته، فلا ولد له ولا شريك؛ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[4.172]
قوله عز وجل: { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون }؛ نزل في وفد نجران؛
" ناظروا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، فقال لهم: " هو عبد الله ورسوله ". فقالوا: لا تقل هكذا؛ فإن عيسى يأنف من هذا القول؛ "
فنزل تكذيبا لقولهم: { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله } أي لن يأنف، ولم يتعظم عن الإقرار والعبودية لله عز وجل، { ولا الملائكة المقربون } أي ولن يستنكف الملائكة المقربون عن العبودية وهم حملة العرش. وإنما خص الملائكة بعد عيسى؛ لأن النصارى كانوا يقولون: عيسى ابن الله، وبنو مدلج كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فرد الله على الفريقين جميعا.
قوله تعالى: { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا }؛ أي من يأنف ويمتنع عن توحيده وطاعته ويتعظم عن الإيمان؛ فسيجمعهم إليه جميعا: المستنكف والمستكبر؛ والمقر والمطيع.
[4.173]
قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله }؛ أي فالذين آمنوا بمحمد والقرآن وعملوا الصالحات فيوفر عليهم جزاء أعمالهم في الجنة، ويزيدهم من عطائه ما لا عين رأت؛ ولا أذن سمعت؛ ولا خطر على قلب بشر.
قوله تعالى: { وأما الذين استنكفوا واستكبروا }؛ أي وأما الذين أبوا وامتنعوا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ { فيعذبهم عذابا أليما }؛ وجيعا، { ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }؛ ولا يجدون لهم سوى الله قريبا ينفعهم، ولا مانعا يمنعهم من النار.
[4.174]
قوله عز وجل: { يا أيها الناس قد جآءكم برهان من ربكم وأنزلنآ إليكم نورا مبينا }؛ خطاب للناس كلهم، والبرهان هو النبي صلى الله عليه وسلم، سماه برهانا لظهور المعجزة، والنور المبين القرآن؛ سماه نورا مبينا؛ لأن النور هو الذي يبين الأشياء حتى ترى، والقرآن مبين الأشياء كلها.
[4.175]
قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل }؛ أي فأما الذين صدقوا بوحدانية الله وتمسكوا بدينه وكتابه، وسألوا العصمة من معاصيه؛ فسيدخلهم في الآخرة جنته وكراماته التي أعدها لهم فيها، { ويهديهم إليه صراطا مستقيما }؛ أي ويعرفهم في الدنيا سبيل الهدى وهو الإسلام، ويثبتهم عليه، وتقدير الآية: ويهديهم في الدنيا ويرحمهم في الآخرة.
[4.176]
قوله عز وجل: { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد }؛ نزلت في جابر بن عبدالله حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي أختا؛ فما لي فيها بعد موتها، فأنزل الله هذه الآية، وقد تقدم تفسير الكلالة، وابتدأ بالرجل، فيقال: إنه مات قبل أخته. قوله تعالى: { وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد }؛ يعني من أم وأب أو من أب.
قوله تعالى: { فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك }؛ وحكم الثلاث والأربع فصاعدا حكم الاثنين كالبنات، وإن كانوا إخوة؛ { وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء }؛ أي وإن كان الورثة إخوة من أم وأب، أو من أب ذكورا وإناثا؛ { فللذكر مثل حظ الأنثيين }.
قوله تعالى: { يبين الله لكم أن تضلوا }؛ أي يبين الله لكم قسمة المواريث؛ لئلا تخطئوا في قسمتها، وقد حذف (لا) في الكلام ويراد إثباتها كما في قوله تعالى:
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم
[لقمان: 10]، ويقال في القسم: والله أبرح قاعدا؛ أي لا أبرح، وتذكر (لا) ويراد طرحها كما في قوله تعالى:
لا أقسم
[القيامة: 1] و
ما منعك ألا تسجد
[الأعراف: 12].
وذهب البصريون إلى أن معناه: كراهة أن تضلوا، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما في قوله تعالى:
وسئل القرية
[يوسف: 82]. وقال الفراء: (موضعه نصب بنزع الخافض). قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم }؛ ظاهر المعنى.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة النساء: أعطي من الأجر كمن اشترى ذا رحم واعتقه، وبرئ من الشرك، وكان في مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم "
[5 - سورة المائدة]
[5.1]
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }؛ أي أوفوا بالعقود التي كتبها الله عليكم مما أحله لكم حرمه عليكم، وقيل: معناه: أتموا العهود التي بينكم وبين المشركين ولا تنقضوها حتى يكون النقض من قبلهم، هكذا روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة. وقال الحسن: (معناه أوفوا بعقود الدين؛ يعني أوامر الله ونواهيه). وقيل: معناه: أوفوا بكل عقد تعقدونه على أنفسكم من نذر أو يمين. وقيل: أوفوا بالعقود التي يعقدها بعضكم لبعض، نحو عقد البيع والإجارة والنكاح والشركة، ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ إذ كل هذه العقود يجب الوفاء بها.
قوله تعالى: { أحلت لكم بهيمة الأنعام }؛ أي رخصت لكم الأنعام نفسها، وأضاف البهيمة إلى الأنعام، كما يقال: مسجد الجامع؛ ونفس الإنسان. والأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، ودخل في هذه الآية إباحة الظباء وبقر الوحش وحمار الوحش؛ لأنها أبهم في التميز من الأهلية، ولهذا استثنى الله الصيد في حالة الإحرام في قوله تعالى: { غير محلي الصيد وأنتم حرم }. والبهيمة في اللغة يتناول كل حي لا يميز، استبهم عليه الجواب؛ أي استغلق.
قوله تعالى: { إلا ما يتلى عليكم }؛ أي إلا ما يقرأ عليكم في القرآن مما حرم عليكم في هذه السورة من الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة الآية.
قوله تعالى: { غير محلي الصيد }؛ نصب على الحال من الكاف والميم التي في قوله: { أحلت لكم } كما يقال: جاء زيد راكبا؛ وجاء غير راكب. والمعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد؛ أي من أن تستحلوا قتل الصيد وأنتم محرمون. وقيل: نصب على الحال من قوله { أوفوا بالعقود } أي أوفوا بالمعقود غير محلي الصيد، هذا قول الأخفش، والأول قول الكسائي.
ومعنى الآية: أحلت لكم الأنعام إلا ما كان وحشيا، فإنه صيد لا يحل لكم إذا كنتم محرمين، فذلك قوله: { وأنتم حرم }. قوله تعالى: { إن الله يحكم ما يريد }؛ أي يقضي على عباده بما شاء من التحليل والتحريم على ما توجبه الحكمة.
[5.2]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعآئر الله }؛ أراد به المناسك؛ أي لا تستحلوا مخالفة شيء منها، ولا تجاوزوا مواقيت الحرم غير مؤدين حقوقها؛ وذلك: أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفة فأمر الله تعالى أن لا يتركوا شيئا من المناسك. وقال الحسن: (شعائر الله دين الله)؛ أي لا تحلوا في دين الله شيئا مما لم يحله الله. ويقال: هي حدود الله في فرائض الشرع.
والشعائر في اللغة: المعالم، والإشعار: الإعلام، والشعيرة واحدة الشعائر؛ وهي كل ما جعل علما لطاعة الله تعالى.
قوله تعالى: { ولا الشهر الحرام }؛ أي ولا تستحلوا القتل والغارة في الشهر الحرام، وأراد بذلك الأشهر الحرم كلها؛ وهي رجب؛ وذو القعدة؛ وذو الحجة؛ والمحرم، إلا أنه ذكر باسم الجنس كما في قوله تعالى:
إن الإنسان لفى خسر
[العصر: 2] أراد به جنس الإنسان، ولذلك استثنى المطيع بقوله:
إلا الذين آمنوا
[العصر: 3]. وكان في ابتداء الإسلام لا تجوز المحاربة في الأشهر الحرم كما قال تعالى:
قل قتال فيه كبير
[البقرة: 217]، ثم نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام بقوله تعالى:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5].
قوله تعالى: { ولا الهدي ولا القلائد }؛ أي لا تحلوا الهدي؛ أي لا تذبحوه قبل محله؛ ولا تنتفعوا به بعد أن جعلتموه لله، ولا تمنعوه أن يبلغ البيت. قوله تعالى: { ولا القلائد } أي ولا تحلوا القلائد التي تكون في أعناق الهدايا؛ أي لا تقطعوها قبل الذبح وتصدقوا بها بعد الذبح كما قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:
" تصدقوا بجلالها وخطامها، ولا تعطي الجزار منها شيئا "
قوله تعالى: { ولا آمين البيت الحرام }؛ معناه: ولا تستحلوا القتل والغارة على القاصدين المتوجهين نحو البيت الحرام، وعن ابن عباس رضي الله عنه:
" أن الآية وردت في شريح بن ضبيعة بن هند اليمامي، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقال: أنت محمد النبي؟ قال: " نعم " قال: إلام تدعو؟ قال: " أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ وأني رسول الله ". فقال: إن لي أمراء أرجع إليهم وأشاورهم، فإن قبلوا قبلت. ثم انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر ". فمر بسرح لأهل المدينة فاستاقها، وانطلق نحو اليمامة وهو يرتجز يقول:
* باتوا نياما وابن هند لم ينم * بات يقاسيها غلام كالزلم *
* خدلج الساقين خفاق القدم * قد لفها الليل بسواق حطم *
* ليس براعي إبل ولا غنم * ولا بجزار على ظهر وضم *
* هذا أوان الحرب فاشتدي زلم *
وقد كان عند دخوله على النبي صلى الله عليه وسلم خلف خيله خارج المدينة ودخل وحده. فلما كان في العام القابل؛ خرج شريح نحو مكة في تجارة عظيمة في حجاج بكر بن وائل من أهل اليمامة وهم مشركون، وكانت العرب في الجاهلية يغير بعضهم على بعض، فإذا كان أشهر الحج أمن الناس بعضهم بعضا، وإذا سافر أحدهم في غير الأشهر الحرم نحو مكة قلد هديه من الشعر والوبر، ومن لم يكن له هدي قلد راحلته، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة، وكانوا يأمنون بذلك، فإذا رجعوا من مكة جعلوا شيئا من لحاء شجر الحرم في عنق الراحلة فيأمنوا، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج شريح وأصحابه استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ".
قوله تعالى: { يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا }؛ في موضع نصب على الحال، معناه: قاصدين طالبين رزقا بالتجارة، { ورضوانا } أي رضى من الله تعالى على عملهم، ولا يرضى عنهم حتى يسلموا. وقال الحسن وقتادة: (معنى رضوانا؛ أي يرضى الله عنهم؛ فيصلح معاشهم ويصرف عنهم العقوبات في الدنيا إذا كانوا لا يقرون بالبعث، ثم نسخ قوله تعالى بعد ذلك تعرض المشركين بقوله تعالى:
فاقتلوا المشركين
[التوبة: 5] كافة، وبقوله تعالى:
فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
[التوبة: 28]). وقرأ الأعمش (ولا آمين) أي البيت الحرام بالإضافة.
قوله تعالى: { وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا }؛ أي لا يحملنكم ويكسبنكم بغض قوم وعداوتهم بأن صرفوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام على أن تظلموهم، وتتجاوزوا الحد للمكافأة. وموضع: { أن تعتدوا } نصب لأنه مفعول، و { أن صدوكم } مفعول له، كأنه قال: لا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء عليهم بصدهم إياكم.
قرأ أهل المدينة إلا قالون ابن عامر والأعمش: (شتآن) بجزم النون الأولى. وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان؛ إلا أن الفتح أجود لأنه أفهم اللغتين، ولأن المصادر أكثر ما تجيء على (فعلان) مثل النفيان والرتقان والعسلان ونحو ذلك.
قال ابن عباس: (معنى: { ولا يجرمنكم } أي ولا يحملنكم). وقال الفراء: (ولا يكسبنكم)، قال: (يقال: فلان جريمة أهله؛ أي كاسبهم). قوله تعالى: { أن صدوكم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف والجزاء، وقرأ الباقون بالفتح؛ أي لئن صدوكم، والفتح أجود؛ لأن الصد كان واقعا من الكفار يوم الحديبية قبل نزول هذه السورة.
قوله تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى }؛ أي تحاثوا على الطاعة وترك المعصية، قال أبو العالية: (البر: ما أمرت به، والتقوى: ترك ما نهيت عنه). وظاهر الأمر يقتضي وجوب المعاونة على الطاعة، وظاهر الأمر على الوجوب.
قوله تعالى: { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }؛ أي لا يعن بعضكم بعضا على شيء من المعاصي والظلم، وقال بعضهم: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم والبر؛ فقال:
" البر: حسن الخلق، والإثم: ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس "
قوله تعالى: { واتقوا الله إن الله شديد العقاب }؛ أي اخشوه وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه، { إن الله شديد العقاب } إذا عاقب، فعقابه شديد.
[5.3]
قوله عز وجل: { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به }؛ الميتة: اسم لكل ذي روح فارقه روحه حتف أنفه، والمراد بالدم: الدم المسفوح، وحرم عليكم لحم الخنزير لعينه لا لكونه ميتة حتى لا يحل تناوله مع وجود الذكاة فيه.
وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذكر دون لحم الكلب وسائر السباع: أن كثيرا من الكفار ألفوا لحم الخنزير، واعتادوا أكله وأولعوا به ما لم يعتادوا به أكل غيره. وقيل: فائدته: أن مطلق لفظ التحريم يدل على نجاسة عينه مع حرمة أكله، ولحم الخنزير مختص بهذا الحكم؛ وذلك: أن سائر الحيوانات المحرم أكلها إذا ذبحت كان لحمها طاهرا لا يفسد الماء إذا وقع فيه، وإن لم يحل أكله بخلاف لحم الخنزير.
قوله تعالى: { ومآ أهل لغير الله به } أي وحرم عليكم ما ذكر عليه عند الذبح اسم غير الله، وذلك أنهم كانوا يذبحون لأصنامهم يتقربون بذبحها إليهم، فحرم الله كل ذبيحة يتقرب بذبحها إلى غير الله تعالى، ولذلك قال الفقهاء: إن الذابح لو سمى النبي صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى فقال: بسم الله ومحمد؛ حرمت الذبيحة.
قوله تعالى: { والمنخنقة والموقوذة والمتردية }؛ أي حرم عليكم أكل لحم المنخنقة؛ وهي التي تنخنق بحبل أو شبكة فتموت من غير ذكاة، وأما الموقوذة؛ فهي المضروبة بالخشب حتى تموت، قوله تعالى: { والمتردية } هي التي تتردى من جبل أو سطح أو في بئر فتموت قبل الذكاة. والتردي: هو السقوط، مأخوذ من الرداء وهو الهلاك، قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:
" إذا تردت رميتك من جبل فوقعت في ماء فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أسهمك قتلها أم الماء "
فصار هذا الكلام أصلا في كل موضع اجتمع فيه معنيان: أحدها حاظر، والآخر مبيح فأنه تغلب جهة الحظر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:
" الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشبهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه "
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: (كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الربا).
قوله عز وجل: { والنطيحة }؛ هي التي تنطح حتى تموت، وإذا تناطحت الحيوانات فقتل بعضها بعضا في النطاح فهي حرام بالآية، قال ابن عباس: (كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها وكذلك الموقوذة)، قال قتادة: (كان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالبعض حتى إذا ماتت أكلوها)، يقال منه: وقده يقده إذا ضربه حتى أشفا على الهلاك. قال الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها
فطارة لقوادم الأبكار
قوله تعالى: { النطيحة } إنما دخلت الهاء فيها وإن كان الفعل بمعنى المفعول يسوى فيه المذكر والمؤنث كقولهم: لحية دهين وعين كحيل وكف خضيب؛ لأن النطيحة لم يتقدمها اسم، فلو أسقطت الهاء منها لم يدر أهي مذكر أم مؤنث، فنظير ذلك لو قيل: شاة نطيح لم تذكر الهاء المذكر الشاة.
قوله تعالى: { ومآ أكل السبع }؛ وقرأ ابن أبي زائدة: (وأكيلة السبع). وقرأ الحسن وطلحة: (السبع) بسكون الباء وهي لغة في السبع، ومعنى قوله تعالى: { ومآ أكل السبع } هو فريسته.
قوله تعالى: { إلا ما ذكيتم }؛ أي إلا ما ذكرتم ذكاته مما أكل منه السبع فذكيتم، فإن ذلك يحل لكم، أو ما أبين من الصيد قبل الذكاة فهو ميت، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: { إلا ما ذكيتم } راجعا إلى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فإنها كلها في الحكم بمعنى واحد. وعن الحسن أنه كان يقول في هذه الجملة: (إذا طرفت بعينها؛ أو وكصت برجلها؛ أو حركت بدنها فذكها وكل). وشرط أكثر العلماء في إباحة أكلها بالذكاة: أن تكون حياتها وقت الذكاة أكثر من حياة المذبوح، فإن كانت بهذه الصفة أثرت الذكاة في إباحتها وإلا فلا.
والتذكية: تمام فري الأوداج وإنهار الدم، ومنه الذكاء في الفم إذا كان تام العقل، وذكيت النار إذا أتممت إشعالها.
قوله تعالى: { وما ذبح على النصب }؛ أي وحرم عليكم ما ذبح على النصب، هي جمع النصب، والنصاب: وهي الحجارة، كانوا ينصبونها فيعبدونها من دون الله تعالى ويقربون لها الذبائح، والفرق بين النصب والأصنام: أن الصنم اسم لما كان على صورة الإنسان، والنصب ما لا نقش له ولا صورة ولكنه يعبد. والوثن ما كان منقوشا، والحائط لا شخص له. وقيل: النصب واحد وجمعه أنصاب، مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: (على النصب) بجزم الصاد، وقرأ الجحدري: بفتح النون والصاد؛ جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع الأنصاب كالأجبال والأجمال، وكلها لغات وهي الشيء المنصب، ومنه قوله تعالى:
كأنهم إلى نصب يوفضون
[المعارج: 43].
واختلفوا في معنى النصب ها هنا؛ قال ابن جريج ومجاهد وقتادة: (كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، وكانوا يعظمونها ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا رأوا حجارة هي أعجب إليهم منها). وقالوا: (ليست أصناما إنما الصنم ما ينقش). وقال آخرون: النصب هي الأصنام المنصوبة. قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
قال قطرب: (معنى الآية: وما يذبح للنصب؛ أي لأجلها، واللام و (على) يتعاقبان في الكلام، قال الله تعالى:
فسلام لك
[الواقعة: 91] أي عليك، وقال تعالى:
وإن أسأتم فلها
[الاسراء: 7] أي فعليها). وقال بعضهم: معناه: وما ذبح على اسم النصب.
قوله تعالى: { وأن تستقسموا بالأزلام }؛ وهي القداح؛ أي حرم عليكم الاستقسام؛ وهو طلب القسم بالأزلام؛ وهي القداح التي كانوا يجلبونها عند العزم على الميسر ويقتسمون بها لحم الجزور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى:
يسألونك عن الخمر والميسر
[البقرة: 219].
وقال الحسن: (كانوا يتخذون السهام؛ فإذا أراد الرجل أن يخرج إلى سفر أو تجارة أو سروح؛ أجال السهام بيده، وكان مكتوبا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإن خرج الذي عليه: أمرني ربي؛ قال: قد أمرت بالخروج ولا بد لي من ذلك؛ فيخرج، وإن كره الخروج خرج غير بعيد ثم رجع، ولا يدخل من باب بيته، ولكن ينقب ظهر بيته منه يدخل ومنه يخرج إلى أن يتفق له الخروج. وإن خرج الذي عليه: نهاني ربي، قال: قد نهيت عن الخروج، ولا يسعني. فنهى الله تعالى عن ذلك).
فعلى هذا لا يجوز أن يكون معنى الاستقسام طلبهم في الخروج والجلوس، والخروج في قسم الرزق والحوائج، وظاهر هذه الآية يقتضي أن العمل على قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا؛ واخرج من أجل نجم كذا؛ فسق لأن ذلك دخول في علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
ومعنى الفسق: الخروج من الطاعة؛ وقوله تعالى: { ذلكم فسق }؛ إشارة إلى ما تقدم ذكره من المعاصي والحرام. قوله تعالى: { وأن تستقسموا } في موضع رفع؛ أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، والأزلام: هي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم، مثل عمر وزفر، وقيل: زلم مثل قلم. وقال ابن جبير: (هي حصى بيضاء كانوا يضربون بها).
قوله تعالى: { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ومعه المسلمون وهو يوم الفتح، يئس الكفار يومئذ من رجوع المسلمين إلى دينهم بما ظهر من علو الإسلام والمسلمين على سائر الأديان). وقال بعضهم: أراد به يوم حجة الوداع، وقال الحسن: (أراد باليوم جميع زمان النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، كما يقال: كانت حادثة كذا في يوم فلان، يراد به عصره).
قوله تعالى: { فلا تخشوهم واخشون }؛ أي ليكن خوفكم لله وحده؛ فقد أمنتم، وحول الله الخوف الذي كان يلحقكم إليهم بإظهار الإسلام. وقيل معناه: لا تخشوهم بإظهار تحريم ما كانوا يبيحونه، وأسرعوا في ترك إظهار المحرمات.
قوله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلم دينا }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم عرفة؛ والناس وقوف رافعون أيديهم بالدعاء، فبركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم من ثقل هذه الآية بعد أن كاد عضدها يندق، ولم ينزل بعدها آية حلال ولا حرام، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما، ثم قبضه الله تعالى إلى رحمته).
قال طارق بن شهاب: (جاء يهودي إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية تقرأونها لو أنزلت علينا لاتخذنا يوم نزولها عيدا، فقال: وأي آية؟ قال: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } الآية، قال عمر: هل علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان نزلت؟ إنها نزلت يوم الجمعة يوم عرفة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف، وكلاهما بحمد الله لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيدا). قال ابن عباس: (إنها نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة).
" روي عن عمر رضي الله عنه أنه بكى يوم نزلت هذه الآية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك يا عمر؟! " قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل، فإنه لا يكمل شيء إلا نقص، قال: " صدقت "
واختلفوا في معنى الآية؛ قال بعضهم: معناها: اليوم أكملت لكم شرائع دينكم من الفرائض والسنن والأحكام والحدود والحلال والحرام، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض، وثبت لكم جميع ما كنت أريد أن أبينه لكم في الأزل، فأما دين الله فلم يزل كاملا لا ينقص فيه، وهذا قول ابن عباس والسدي. وقال قتادة وسعيد: (معناه: أكملت لكم دينكم؛ فلم يحج معكم مشرك). ويحتمل أن يكون المراد بالأكمل للدين أظهره على سائر الأديان بالنصرة والغلبة، و (اليوم) نصب على الظرف، كما يقال: الآن، وفي هذا الزمان.
قوله تعالى: { وأتممت عليكم نعمتي } أي أتممت عليكم منتي بإظهار الدين حتى لم يحج معكم مشرك، وقيل: نعمة الله بيان فرائضه، وقيل: هي إيجاب الجنة، وقيل: معناه: وأنجزت لكم وعدي في قولي:
ولأتم نعمتي عليكم
[البقرة: 150]، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين، وحجوا مطمئنين، ولم يخالطهم أحد من المشركين.
قوله تعالى: { ورضيت لكم الإسلم دينا } أي اخترت لكم الإسلام من الأديان كلها دينا، فمن دان بالإسلام، فقد استحق ثوابي ورضاي.
والدين: اسم لجميع ما يعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وهو الذي أمروا أن يكون ذلك عادتهم والذي به يجزون، فإن الدين في اللغة: العادة، والدين الجزاء.
قوله تعالى: { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم }؛ أي من دعته الضرورة إلى أكل شيء مما حرم الله عليه في مجاعة غير مائل إلى إثم؛ أي زائد على ما يسد به رمقه { فإن الله غفور رحيم } أباح ذلك رحمة منه وتسهيلا على خلقه. والمخمصة: مأخوذة من المخص وهو شدة ضمور البطن، والمتجانف من الجنف وهو الميل.
[5.4]
قوله تعالى: { يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين }؛ قال ابن عباس: (لما نزل قوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة والدم
[المائدة: 3] جاء عدي بن حاتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لنا كلابا نتصيد بها فتأخذ البقر والظباء والحمر، فمنها ما ندرك ذكاته، ومنها ما لا ندرك، وقد حرم الله الميتة. فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: يسألونك يا محمد: أي شيء أحل لهم من الصيد وغيره؟ قل أحل لكم المباحات. يقال: هذا يطيب لفلان؛ أي يحل، قال الله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم من النسآء
[النساء: 3] أي ما حل لكم. وكل شيء لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة فهو من الطيبات. وقال بعضهم: أراد بالطيبات المستلذات والمشتهيات، وهو عام أريد به غير ما تضمنته الآية المتقدمة.
قوله تعالى: { وما علمتم من الجوارح مكلبين } أي وأحل صيد ما علمتم، فحذف ذكر الصيد لأن في الكلام دليلا عليه، والجوارح: هي الكواسب من الفهد؛ والصقر؛ والباز؛ والعقاب؛ والنسر؛ والباشق؛ والشاهين وسائر ما يصطاد به الصيد. قال الله تعالى:
ويعلم ما جرحتم بالنهار
[الأنعام: 60] أي كسبتم، وقيل: معنى الجوارح: الجارحات بنات أو مخلب. قوله تعالى: { مكلبين } حال للمعلمين؛ أي في حال إغرائهم الكلب على الصيد، والتكليب: إغراء السبع على الصيد وإرساله.
ومن قرأ (مكلبين) بفتح اللام فهو حال من الكواسب المعلمين. وقرأ ابن مسعود والحسن: (مكلبين) بإسكان الكاف وتخفيف اللام، فعلى هذا المعنى يجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرجل إذا كثرت كلابه، وأمشى إذا كثرت ماشيته، ولذلك ذكر الكلاب؛ لأنها أعم وأكثر، والمراد به جميع الجوارح.
قوله تعالى: { تعلمونهن مما علمكم الله }؛ أي تؤدبوهن أن يمسكن الصيد عليكم كما أدبكم الله تعالى: { فكلوا ممآ أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه }؛ أي على الإرسال، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعدي بن حاتم:
" إذا أرسلت كلبك المعلم، وسميت الله تعالى فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه "
وفي بعض الروايات:
" وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على كلب غيرك "
وذهب بعض أهل العلم إلى أن معنى الإمساك في هذه الآية أن يحفظ الكلب الصيد حتى يجيء صاحبه، فإن تركه حتى غاب عن صاحبه ثم وجده صاحبه بعد ذلك ميتا لم يحل أكله. قال صلى الله عليه وسلم:
" كل ما أصميت، ودع ما أنميت "
، قيل: الإصماء: ما رأيت؛ والإنماء ما توارى عنك.
واختلف أهل العلم في حد التعليم؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: (ليس فيه حد مؤقت، وإنما يرجع فيه إلى أهل الصنعة، فإن حكموا بتعليمه حل صيده بعد ذلك وإلا فلا؛ لأن الاصطياد للكلاب بمنزلة الحرف والصناعات للناس، وليس في معرفة كون الإنسان عالما بصنعته متقدما على حرفته حد يؤمن عليه، ولكن يرجع في كل إلى أهلها).
وقال أبو يوسف ومحمد وكثير من الفقهاء: (إذا دعي الكلب ثلاث مرات على الولاء فأجاب؛ وأرسل فاسترسل، وأخذ الصيد ولم يأكل، حكمنا بكونه معلما؛ لأن التعليم لا يحصل بالمرة الواحدة، ويحصل بالمرات الكثيرة، فجعل الحد الفاصل بين القليل والكثير بالثلاث التي هي أقل الجمع الصحيح).
قوله تعالى: { واتقوا الله إن الله سريع الحساب }؛ قد تقدم تفسيره، وروى أبو رافع قال:
" جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن؛ فأذن له فلم يدخل، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه وخرج إليه فقال له: " قد أذنا لك يا رسول الله! " قال: أجل؛ ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو ".
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب "
قال أبو رافع: (فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع كلبا في المدينة إلا قتلته، فقتلت حتى بلغت العوالي، فانتهيت إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس غنمها فرحمته؛ ثم أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأمره فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا صوته يقول:
" اقتلوا الكلب ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي " ونهى عن اقتنائها وإمساكها، وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات إحداهن بالتراب. قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلب، فجاء أناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية " "
فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها، وأمر بقتل الكلب العقور، وما يضر ويؤذي، ورفع القتل عما سواها مما لا ضرر فيه.
وعن عبدالله بن المغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم، وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب صيد أو حرث أو ماشية، فإنه ينقص من أجورهم كل يوم قيراط "
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض، فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان "
والحكمة في ذلك: أنه ينبح على الضيف ويروع السائل.
[5.5]
قوله تعالى: { اليوم أحل لكم الطيبات }؛ أي الآن تمم الله لكم بيان الحلالات؛ وهو كل ما لم يجر ذكره في المحرمات. قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم }؛ أي ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم.
والدليل على أن المراد بالطعام ها هنا الذبائح: أن ما سوى الذبائح من الأطعمة والأشربة حلال للمسلمين؛ سواء كانت لأهل الكتاب أو لغيرهم، فبان المراد به الذبائح؛ لأن ذبائح غير أهل الكتاب من الكفار حرام على المسلمين. قوله تعالى: { وطعامكم حل لهم }؛ أي ذبائحكم حلال لهم؛ أي رخص لكم في أن تطعموهم ذلك.
قوله تعالى: { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب }؛ قال الحسن: (أراد بالمحصنات ها هنا الحرائر من المؤمنات والكتابيات). وقال ابن عباس: (أراد به الحرائر العفائف منهن).
وتقدير الآية: وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات والكتابيات، وقد استدل بعض الفقهاء بظاهر هذه الآية: على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية، والصحيح: أنه يجوز بظاهر قوله تعالى:
بإذن أهلهن
[النساء: 25] بدليل حل ذبائحهن.
وإنما خص المحصنات بإباحة نكاحهن مع جواز نكاح غيرهن؛ لأن الآية خرجت مخرج الامتنان والمنة في نكاح الحرائر العفائف أعظم وأتم، يدل على ذلك: أنه لا خلاف في جواز النكاح بين المسلم والأمة المؤمنة، وإن كان في الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات، والأفضل لمن أراد النكاح أن لا يعدل عن نكاح الحرائر الكتابيات مع القدرة عليهن؛ وذلك لأن نكاح الأمة يؤدي إلى إرقاق الولد؛ لأن الولد يتبع الأمة في الرق والحرية، ولا ينبغي لأحد أن يختار رق ولده، كما لا ينبغي أن يختار رق نفسه.
قوله تعالى: { من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان }؛ أي ناكحين غير زانين معلنين بالزنا، ولا متخذي صديقات للزنا سرا. قال الحسن: (كان بعض الجاهلية تسافح وتزني بكل من وجد من النساء، وبعضهم يتخذ خليلة يزني بها سرا ويتجنب الزنا علانية ، فبين الله تعالى بهذه الآية حرمة الزنا سرا وعلانية).
قوله عز وجل: { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين }؛ قال ابن عباس: (لما رخص الله للمسلمين في نكاح الكتابيات؛ قال أهل الكتاب: لولا أن الله رضي أعمالنا لم يحل للمسلمين تزويج نسائنا. وقال المسلمون: كيف يتزوج الرجل الكتابية وهي كافرة؟ فأنزل { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } من المغبونين، غبن نفسه وفسق وصار إلى النار، لا يغني عن المرأة الكتابية إسلام زوجها ولا ينفعها ذلك، ولا يضر المسلم كفر زوجته الكتابية).
[5.6]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين }؛ قال ابن عباس وجماعة من المفسرين: (معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وإنما أضمروا إرادة القيام؛ لأن صحة قيام الصلاة بالطهارة فلا يصح جزء من القيام قبل تقدم الطهارة).
وظاهر الآية يقتضي أن القيام إلى الصلاة يكون سببا لوجوب الطهارة، ولا خلاف بين السلف والخلف أن الطهارة لا تجب سبب القيام إلى الصلاة، إلا أنه روي عن ابن عمر وعلي رضي الله عنهما: (أنهما كانا يتوضأن عند كل صلاة، ويقرآن هذه الآية). فيحتمل أنهما كانا يفعلان ذلك ندبا واستحبابا، فإن تجديد الطهارة لكل صلاة مستحب. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من توضأ فهو على وضوء ما لم يحدث "
وقال:
" لا وضوء إلا من حدث "
فثبت أن في الآية إضمار آخر تقديره: أذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم، وهذا نظير قوله تعالى:
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
[البقرة: 184] معناه: فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، وقوله:
فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام
[البقرة: 196] معناه فحلق فعليه فدية. وقال بعضهم: معنى الآية: إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة، وقال: هذا على أن النوم في حالة الاضطجاع حدث.
قوله تعالى: { فاغسلوا وجوهكم } الغسل: إجراء الماء على المحل وتسييله، سواء وجد معه الدلك أم لا، والوجه: ما يواجهك من الإنسان، وحده من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن، ومن شحمتي الأذن إلى شحمتي الأذن. وظاهر الآية يقتضي أن المضمضة والاستنشاق غير واجبتين في الوضوء، لأن اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن.
قوله تعالى: { وأيديكم إلى المرافق } أي مع المرافق، هكذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى، إلا زفر رحمه الله؛ فإنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال: (إن حرف (إلى) للغاية، والغاية لا تدخل في الحكم كما في قوله تعالى
ثم أتموا الصيام إلى الليل
[البقرة: 187]). وأما عامة العلماء فقالوا: إن (إلى) تذكر بمعنى (مع) كما قال تعالى
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم
[النساء: 2]، فاذا احتمل اللفظ الغاية واحتمل معنى المقارنة حل محل المجمل، فكان موقوفا على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي:
" أنه كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه "
، فصار فعله بيانا للمجمل، فحمل على الوجوب.
قوله تعالى: { وامسحوا برؤوسكم } اختلف العلماء في مقدار وجوب المسح منه، فذهب مالك إلى أن مسح جميع الرأس واجب، وقال: (ظاهر الآية يقتضي الجميع دون البعض، لأنك إذا قلت: مررت بزيد؛ أردت جملته لا بعضه، ومثل ذلك قوله تعالى:
وليطوفوا بالبيت العتيق
[الحج: 29] والمراد كل البيت، وكقوله تعالى: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ). وذهب الشافعي: إلى أن الواجب مقدار ما يتناوله الاسم، ومن أصحابه من قدره بثلاث شعرات. وهذا بعيد؛ لأن فاعله لا يسمى ماسحا رأسه ولا برأسه، ولأن ذلك القدر يحصل بغسل الوجه، وفعل ذلك أيضا متعسر.
وقال أصحابنا في الاحتجاج على مالك بأن (الباء) تذكر ويراد بها التبعيض، كما تقول: أخذت برأس فلان، ومسحت برأس اليتيم، فاذا احتمل اللفظ التبعيض كان مجملا فوجب الرجوع فيه إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد روي:
" أنه توضأ ومسح على ناصيته "
والناصية: هي الربع المقدم من الرأس، ومعلوم أنه كان لا يترك بعض الواجب، فثبت أن الفرض مقدور على هذا المقدار، إلا أن الأفضل أن يمسح جميع الرأس ليخرج عن الفرض بيقين. وقد روي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح ومسح جميع رأسه "
واختلف العلماء في عدد مسح الرأس. قال علماؤنا: الأفضل أن يمسح جميع رأسه بماء واحد. وروى الحسن عن أبي حنيفة: (أن مسح رأسه ثلاث مرات بماء واحد كان سنة). وقال الشافعي: (الأفضل أن يمسح ثلاثا بثلاث مياه). روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه مسح رأسه مرة واحدة "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" الوضوء ثلاثا ثلاثا إلا المسح "
وأما مسح الأذنين فهو سنة لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وإنما اختلفوا في كيفية مسحهما. قال أصحابنا: يمسح ظاهرهما وباطنهما مع الرأس بماء واحد، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه مسح برأسه وأذنيه بماء واحد "
وفي بعض الروايات:
" مسح رأسه، ومسك شيئا لأذنيه؛ ثم قال: " الأذنان من الرأس " "
وقال الشافعي: (هما عضوان منفردان يمسحان ثلاثا بثلاث مياه).
وأما مسح الرقبة؛ فلم يذكر في شيء من الكتب المشهورة، ويحتمل أن يكون سنة، ويحتمل أن يكون مستحبا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح مقدم رأسه؛ فقال بعضهم: إن المقصود من مسح مؤخر الرأس مسح الرقبة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من مسح رقبته في الوضوء أمن من الغل يوم القيامة "
قوله تعالى: { وأرجلكم إلى الكعبين } قرأ ابن عامر ونافع والكسائي وحفص ويعقوب: (وأرجلكم) بالنصب، وهي قراءة علي رضي الله عنه، وقرأ الباقون (وأرجلكم) بالخفض وهي قراءة أنس وعلقمة والشعبي، فمن نصب فمعناه: واغسلوا أرجلكم عطفا على الوجه واليدين، ومن خفض فعلى العطف على الرأس أو على الابتداء، والجواز لفظا لا معنى، كقول العرب: جحر ضب خرب، وقولهم: أكلت السمن واللبن، واللبن يشرب ولا يؤكل، ويقال: فلان متقلد سيفا ورمحا، والرمح لا يتقلد به، وإنما يحمل.
وقال لبيد: وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها، النعام لا يطفل وإنما يفرخ، وقولهم: جحر ضب خرب، كان ينبغي أن يقال: خرب لأنه نعت الجحر، وإنما خفض للمجاوزة.
وقال بعضهم: أراد بذلك المسح على الخفين، فإن الماسح على الخفين يسمى ماسحا على الرجلين لقرب الجوار، كما يقال: قبل فلان على رجل الأمير ورأسه ويده، وإن كان الرجلان في الخف، والرأس في العمامة، واليد في الكم. وفي الحديث:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه "
وليس المراد أنه لم يكن بينهما حائل. واختار بعضهم المسح على الرجلين، وهو قول ابن عباس، وقالوا: (الوضوء غسلان ومسحان). وذهب بعضهم إلى أن المتوضئ مخير بين غسل الرجلين ومسحهما.
وإذا احتملت قراءة الخفض المسح على الخفين، واحتملت مسح الرجلين، واحتملت غسلهما، وجب الرجوع إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي:
" أنه داوم على غسل رجليه "
واتفقت الأمة على فعله.
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه توضأ مرة مرة؛ وغسل رجليه؛ وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "
، ولأن الله تعالى قال: { وأرجلكم إلى الكعبين } ، وهذا يدل على الغسل كاليدين حدهما إلى المرافق وكان فرضهما الغسل دون المسح. وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه "
وعن جابر رضي الله عنه قال:
" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا "
وقال ابن أبي ليلى: (أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب غسل الرجلين). وعن عبدالله بن عمر قال:
" مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم وعراقيبهم تلوح، فقال: " أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار " "
" ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى يتوضأ، فقال: " اغسل باطن قدميك " فجعل يغسل حتى سمي أبا غسيل "
وقالت عائشة رضي الله عنها: (لإن يقطع قدماي أحب إلي من أن أمسح عليهما من غير خفين).
وذهبت الروافض إلى أن الواجب في الرجلين المسح. ورووا في المسح خبرا ضعيفا شاذا.
قوله تعالى: { إلى الكعبين } هما الناتئان من جانبي الرجل، وهما مجمع مفصل الساق والقدم، مأخوذ من الكعب وهو النتوء؛ يقال: جارية كاعب إذا خرج ثدياها.
وروى هشام عن محمد: أنه الكعب الذي في وسط القدم عند مقعد الشراك. والصحيح: أن محمدا إنما قال ذلك في المحرم بالحج، فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين، قال (والكعب ها هنا مقعد الشراك)، فنقل هشام ذلك إلى الطهارة، ولا خلاف في الكعب في الوضوء بين العلماء الثلاثة: أنه داخل في غسل الرجلين.
قوله تعالى: { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ، أي إن كنتم جنبا وأردتم القيام إلى الصلاة فاغتسلوا، والجنب يوضع موضع الجمع؛ يقال: رجل جنب؛ ورجال جنب؛ وقوم جنب. ولفظ الإطهار يقتضي تطهر جميع البدن في الاغتسال من الجنابة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وانقوا البشرة "
ولهذا قال أصحابنا: إن المضمضة والاستنشاق واجبان في غسل الجنابة، وقوله تعالى: { فاطهروا } أي فتطهروا، إلا أن التاء تدغم في الطاء لقرب مخرجهما. وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " يا بني! إذا أخذت في الغسل من الجنابة فبالغ فيه، فإن تحت كل شعرة جنابة " فقلت: يا رسول الله! وكيف أبالغ؟ قال: " رو أصول الشعر؛ وانق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب " ".
قوله تعالى: { وإن كنتم مرضى }؛ أي من جدري أو غيره، فلم تطيقوا غسل هذه الأشياء، { أو على سفر } ، أو كنتم مسافرين، { أو جآء أحد منكم من الغائط }؛ معناه: وجاء أحد منكم من قضاء الحاجة، لأنه لا خلاء، وأن المريض والمسافر إذا لم يكونا محدثين لا يلزمهما الوضوء ولا التيمم، وقد تذكر (أو) بمعنى (الواو) مثل قوله تعالى:
وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون
[الصافات: 147].
قوله تعالى: { أو لامستم النسآء }؛ معناه: أو جامعتم النساء. { فلم تجدوا مآء }؛ أي تقدرون على ما تتطهرون به من الجنابة والحدث، { فتيمموا صعيدا طيبا }؛ أي اقصدوا ترابا نظيفا، { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه }؛ اختلف العلماء في قوله (منه)؛ قال أبو يوسف: (معناه التبعيض؛ أي امسحوا بوجوهكم وأيديكم من بعض الصعيد وهو التراب). وقال أبو حنيفة ومحمد: (معنى (من) ها هنا ابتداء الغاية؛ أي فانقلوا اليد بعد وضعها على الصعيد إلى الوجوه والأيدي من غير أن يتخللها ما يوجب الفصل).
قوله تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج }؛ أي ما يريد الله أن يجعل عليكم بتكليف العبادات تضييقا في الدين، { ولكن } ، وإنما، { يريد } ، بذلك، { ليطهركم } ، أن يطهركم من الذنوب والأحداث والجنابة، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئة كفيه مع أول قطرة، فإذا تمضمض واستنشق نزلت خطيئة لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو عليه، وكان كيوم ولدته أمه "
قوله تعالى: { وليتم نعمته عليكم }؛ قال الحسن: (بإدخال الجنة)، وقال ابن عباس: (بجواز التيمم لكم بالتراب في حال عدم الماء). { لعلكم تشكرون }؛ أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم في رخصته لكم وتخفيفه عليكم في التكليف. قال عثمان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما توضأ عبد فأسبغ وضوءه، ثم قام إلى الصلاة إلا غفر الله له ما بينه وبين الصلاة الأخرى "
[5.7]
قوله عز وجل: { واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به }؛ أي احفظوا نعم الله عليكم، وإنما ذكره بلفظ النعمة؛ لأنه ذهب فيه مذهب الجنس، { وميثاقه } أي عهده الذي عاهدكم به. قال ابن عباس والحسن: يعني الميثاق الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين أخرجهم من صلبه، وقال:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172].
وقال السدي: (أراد بالميثاق هنا مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في كل ما أمر به أو نهى في حال العسر واليسر والرضا والكره). وهذا أقرب إلى ظاهر الآية؛ لأن الله تعالى ذكرهم الميثاق وهم لا يحفظون الميثاق الذي من وقت آدم.
وقيل: أراد به العهد الوثيق الذي أخذه الله على جميع عباده في أوامره ونواهيه فسمعوه وقبلوه وآمنوا به على ما فسر الله بقوله: { إذ قلتم سمعنا وأطعنا }؛ قوله تعالى: { واتقوا الله }؛ أي اخشوا عقابه في نقض الميثاق، { إن الله عليم بذات الصدور }؛ أي بما في القلوب من الوفاء والنقض، وذات الصدور ما تضمنته الصدور وهي القلوب.
[5.8]
قوله عز وجل: { يا أيهآ الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط }؛ أي كونوا قوامين بأمر الله قائلين له مبينين عن دين الله بالحق والعدل، { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا }؛ أي لا يحملنكم بغض الكفار على ترك العدل فيه مكافأة لما سلف منهم، ويقال: لا يحملنكم عداوة المشهود له على كتمان ماله عندكم من الشهادة، ولا عداوة المشهود عليه على إقامة الشهادة عليه بغير حق.
قوله تعالى: { اعدلوا هو أقرب للتقوى }؛ أي اعدلوا في جميع أقوالكم وأفعالكم فيما لكم وعليكم، فإن العدل أقرب للتقوى؛ أي أقرب إلى أن تصيروا به مؤمنين، وقيل: أقرب إلى تقوى عذاب الله. { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }؛ من الخير والشر والعدل والجور.
[5.9-10]
قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ أي الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم، وهذا تمام الكلام، يقال: وعدت الرجل؛ يراد بذلك وعدته خيرا، وأوعدت الرجل؛ يراد بذلك شرا، فكان الله لهم دليلا على عدة الخير، ثم فسر ذلك الخير فقال: { لهم مغفرة وأجر عظيم }؛ أي مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم في الجنة. قوله تعالى: { والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم }؛ أي أصحاب النار الموقدة، والجحيم من أسماء جهنم.
[5.11]
قوله تعالى: { يا أيهآ الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية سبعين رجلا إلى بني عامر بن صعصعة، وأمر عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان طريقهم على بني سليم، وكانوا يومئذ صلحاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه السلام السرية أن ينزلوا على بني سليم فنزلوا عليهم، فبعث بنو سليم إلى بني عامر وأخبروهم بأمرهم وقلتهم، فارتحل المسلمون من عند بني سليم إلى بني عامر، فأضل أربعة منهم بعيرا لهم، فاستأذنوا أميرهم أن يطلبوا بعيرهم ثم يلحقوا بهم فأذن لهم، وسار المنذر بمن بقي معه حتى أتاهم وقد جمعوا لهم واستعدوا لهم بالسلاح، فالتقوا ببئر معونة فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم قتل المنذر ومن معه جميعا.
ثم أقبل الأربعة الذين أضلوا البعير، فلقيتهم أمة لبني عامر فقالت لهم: أمن أصحاب محمد أنتم؟ قالوا: نعم، قالت: فإن إخوانكم قد قتلوا جميعا على الماء، فقال: أحد الأربعة: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بالأمر، قال: لا؛ ولكن والله لم أكن لأرغب بنفسي عن أصحابي، إرجعوا فأقرئوا محمدا صلى الله عليه وسلم مني السلام. ثم أشرف على أصحابه فإذا هم مقتولون، والمشركون قعود يتغدون، فانحدر إليهم من الجبل بسيفه فقاتلهم حتى قتل.
وغشي الثلاثة المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم خارجين من المدينة فقالا لهما: من أنتما؟ قالا: من بني عامر، قالا: هذان من الذين قتلوا إخواننا؛ فقتلوهما وأخذوا سلاحهما، ثم دخلوا المدينة فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" بئس ما صنعتم، قتلتم رجلين من أهل الميثاق "
وجاء أولياء القتيلين يطلبون القصاص، فقال صلى الله عليه وسلم:
" ليس لكم إلا دية صاحبيكم أغرنا إلى عدونا من بني عامر، ولكنا نؤدي إليكم الدية "
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حتى أتى بني قريظة؛ فقال لهم:
" إنكم جيراننا وحلفاؤنا، وقد علمتم ما أصبنا به من دم الرجلين من بني سليم وهما من أهل الميثاق، ونحن نريد أن نؤدي ديتهما، فاتخذوا بها عندنا يدا نجزيكم بها بعد اليوم، فإن الأيام دول "
فقالوا: مرحبا وأهلا يا أبا القاسم، ولكن إخواننا من بني النضير لا نقضي أمرا من دونهم، نعلمهم بذلك حتى تأتينا يوم كذا وقد جمعنا الذي تريد. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما كان يوم الميعاد ؛ أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبدالرحمن بن عوف؛ فأجلسوهم في بيت، ثم خرجوا يجمعون السلاح، وخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن؛ فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه، فقال عمر بن جحاش: أنا، فجاء إلى رحاء عظيمة ليطرحها عليه؛ فأمسك الله أيديهم.
وقيل: لما جمعوا السلاح وهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، جاء جبريل عليه السلام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقام على الباب، وإذا هم مجتمعون ينتظرون قدوم كعب بن الأشرف ليهجموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج علي رضي الله عنه وإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على الباب، فقال: يا رسول الله! أبطأت علينا حتى خفنا أن يكون قد اغتالك أحد، فقال:
" قد أرادوا ذلك، اللهم العنهم "
ثم خرج بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقوا جميعا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت اليهود فقالوا: يا رسول الله! إن قدورنا تغلي نريد أن نطعمك، وقد رجعت بغير علمنا. فأخبرهم بما هموا به وعزموا عليه، فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: يا أيها الذين آمنوا بالله وكتبه ورسله احفظوا منة الله عليكم إذ هم قوم - وهم بنو قريظة - أن يبسطوا إليكم أيديهم بالقتل، { فكف أيديهم عنكم }؛ بالمنع عن قتلكم، { واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون }؛ في جميع أمورهم وأحوالهم.
[5.12]
قوله عز وجل: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرآئيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا }؛ أي أخذ الله العهد على بني إسرائيل أن يؤمنوا به وبجميع كتبه ورسله، وبعث منهم اثني عشر ملكا، من كل سبط منهم رجل ليأخذ على قومه ما يأمرهم الله به من طاعته. وقيل: إن النقيب هو الرسول والأمين، وهم الذين أرسلهم موسى إلى قومه الجبارين عيونا، فوجدوهم يدخل في كم أحدهم أربعة منهم، ولا يحمل عنقود عنب إلا عشرة منهم، ويدخل في شق رمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس وأربعة، فرجع النقباء كلهم، ونهى كل نقيب سبطه عن القتال إلا يوشع بن نون وكالب بن يوقنا أمرا أقوامهما بالقتال.
وقال الحسن: (النقيب الضمين، وإنما أراد بهذا أن يضمن بها مراعاة أحوالهم)، وقد روي:
" أن النبي صلى الله عليه وسيلم جعل الأنصار ليلة العقبة اثنى عشر نقيبا "
وفائدة النقيب: أن القوم إذا علموا أن عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة، والنقيب والعريف نظيران، وقيل: النقيب فوق العريف.
قوله تعالى: { وقال الله إني معكم }؛ خطاب للنقباء، ومعناها: إني حفيظ عليكم في النصر لكم والدفع عنكم. وقيل: هو خطاب لجميع بني إسرائيل ضمن لهم النصر على عدوهم بالشرائط التي شرطها عليهم بقوله تعالى: { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم }؛ أي لو عظمتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء، { وأقرضتم الله قرضا حسنا }؛ أي تصدقتم من أموالكم تطوعا صدقة حسنة؛ وهي أن تكون من حلال المال وخياره برغبة وإخلاص لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا يكدرها من ولا أذى، { لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ من تحت شجرها ومساكنها؛ { فمن كفر بعد ذلك }؛ العهد والميثاق؛ { منكم فقد ضل سوآء السبيل }؛ اي أخطأ قصد الطريق وهو طريق الجنة، فمن أضله وقع في طريق النار إذ لا طريق سواهما.
[5.13]
قوله عز وجل: { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه }؛ أي فنقض اليهود ميثاقهم الذي أخذ عليهم في التوراة فباعدناهم من الرحمة، وقيل: عذبناهم بالجزية. وقيل: مسخناهم قردة وخنازير، ودخول (ما) في هذه الآية صلة زائدة.
قوله تعالى: { وجعلنا قلوبهم قاسية } أي صيرناها يابسة خالية من حلاوة الإيمان مجازاة لهم على معصيتهم. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: (قسية) بتشديد الياء من غير ألف، وقرأ الباقون (قاسية) بألف وهما لغتان، مثل زكية وزاكية، وقيل: معنى (قاسية): غليظة متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: رديئة فاسدة، من الدراهم القسية، وهي المغشوشة.
قوله تعالى: { يحرفون الكلم عن مواضعه }. قرأ السلمي والنخعي: يحرفون الكلام باللف؛ أي يغيرون ألفاظه ولا يقرونه على ما هو عليه في التوراة، كما أخبر الله تعالى عنهم من لي ألسنتهم بالكتاب، وقيل: يغيرون تأويله.
قوله تعالى: { ونسوا حظا مما ذكروا به }؛ أي وتركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، ومن رجم الزاني المحصن، وأصل النسيان الترك.
قوله تعالى: { ولا تزال تطلع على خآئنة منهم }؛ أي لا تزال يا محمد تطلع على خائنة ومعصية منهم، وفاعلة من أسماء المصادر مثل: عاقبة وكاذبة، وقد تكون الخائنة من أسماء الجماعة كما يقال: رافض ورافضة، فيكون المعنى: ولا تزال تطلع على فرقة خائنة منهم مثل كعب بن الأشرف وأصحابه من بني قريظة حين نقضوا العهد، وركبوا إلى أبي سفيان بمكة، ولقوه وعاهدوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق ذكره.
قوله تعالى: { إلا قليلا منهم }؛ لم ينقضوا العهد، وهم عبدالله بن سلام وأصحابه. وقال ابن عباس: (معنى قوله تعالى (خائنة) أي معصية)، وقال بعضهم: أي كذب وفجور، وكانت خيانتهم بنقض العهد، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله.
قوله تعالى: { فاعف عنهم واصفح }؛ أي أعرض عنهم ولا تعاقبهم، { إن الله يحب المحسنين }؛ أي المتجاوزين، وهذا منسوخ بآية السيف بقوله:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[التوبة: 29].
[5.14-16]
قوله تعالى: { ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به }؛ بين الله تعالى أن النصارى لم يكونوا بعد أخذ الميثاق أحسن معاملة من اليهود، ومعنى أخذ الميثاق: هو ما أخذ الله عليهم في الإنجيل من العهد المؤكد باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبيان صفته ونعته، كما قال تعالى في آية أخرى:
مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
[الصف: 6] فنسوا حظا مما ذكروا به؛ أي تركوا بعضا مما ذكروا به، { فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة }؛ أي هيجنا بين فرق النصارى، وهم النسطورية واليعقوبية والملكانية، وألقينا بينهم العداوة في الدين.
وذلك أن الله رفع الألفة بينهم وألقى بينهم العداوة والبغضاء، فهم يقتتلون إلى يوم القيامة. وأصل الإغراء: الإلصاق مأخوذ من الغراء الذي يلصق به الأشياء، والعداوة: تباعد القلوب والنيات، والبغضاء: البغض. قوله تعالى: { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون }؛ أي يخبرهم في الآخرة بما كانوا يصنعون من الجناية والمخالفة وكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته.
ثم خاطب الله تعالى الفريقين من اليهود والنصارى فقال تعالى: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب }؛ يعني التوراة والإنجيل. قوله تعالى: { تخفون } يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم، وإضافة اليهود والنصارى إلى الكتاب تعيير لهم، كما يقال: يا عاقل لم تعلم؛ أي يا جاهل.
وقوله تعالى: { ويعفوا عن كثير قد جآءكم من الله نور وكتاب مبين }؛ يعني بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم يبين لكم كثيرا مما كنتم تكتمون من الإسلام، وآية الرجم، وتحريم الزنا وغير ذلك. قوله تعالى: { ويعفوا عن كثير } أي يتجاوز عن كثير مما كنتم تكتمونه ولا يعاقبكم عليه، يعني مما لم يؤمر ببيانه، وقوله تعالى: { وكتاب مبين } يعني القرآن يبين الحلال والحرام والأمر والنهي.
[5.16-17]
قوله تعالى: { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام }؛ أي يهدي الله بالقرآن من قبل الحق ورغب في الإسلام، وقوله تعالى: { رضوانه } أي رضا الله، وقوله تعالى: { سبل السلام } أي طرق السلامة، وهي دين الإسلام، والسلام والسلامة، كالرضاع والرضاعة، ويقال: السلام هو الله، وسبل السلام: طرق الله التي دعا إليها.
قوله تعالى: { ويخرجهم من الظلمات إلى النور }؛ أي يخرجهم من ظلمات الكفر، بالتعريف لهم إلى نور الإيمان، { بإذنه }؛ أي بإذن الله ومشيئته، وسمي الإيمان نورا؛ لأن الإنسان إذا آمن أبصر به طريق نجاته فطلبه، وطريق هلاكه فحذره. قوله تعالى: { ويهديهم إلى صراط مستقيم }؛ أي ويرشدهم إلى طريق الحق.
وقوله عز وجل: { لقد كفر الذين قآلوا إن الله هو المسيح ابن مريم }؛ نزلت في نصارى نجران وهم الماريعقوبية أو اليعقوبية، قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، قال الله تعالى: { قل فمن يملك من الله شيئا }؛ أي قل لهم يا محمد: من يقدر أن يدفع شيئا من عذاب الله؛ { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا }؛ أي إن أراد أن يهلك عيسى ابن مريم وأمه، وهذا احتجاج من الله تعالى على النصارى بما لا يملكون دفعه، إذ المسيح وأمه بشران يأكلان الطعام ويحتاجان إلى ما يحتاج إليه الناس، وقد علموه ضرورة أنهما كانا بعد أن لم يكونا، وشاهد كثير منهم ميلاد عيسى وحاله من الطفولة والشباب والكهولة.
قوله تعالى: { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه } أي إذا أراد الله إهلاك عيسى وأمه لما أعجزه ذلك، ولا هناك دافع، وكيف يكون إلها من لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه ولا عن غيره.
قوله تعالى: { ولله ملك السموت والأرض وما بينهما }؛ أي من ملك السماوات والأرض لا يوصف بالولادة. وقيل: من كان مالك السماوات والأرض يقدر على خلق ولد بلا والد، كما قال تعالى: { يخلق ما يشآء }؛ أي كما يشاء، بأب وبغير أب، ولو كان خلق عيسى من غير أب موجبا كونه إلها وابنه لكان خلق آدم من غير أب ولا أم أولى بذلك؛ لأنه أعجب وأبدع. قوله تعالى: { والله على كل شيء قدير }؛ من خلق عيسى وغيره قادر على عقوبتكم.
[5.18]
قوله عز وجل: { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه }؛ وذلك: أن جماعة من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الإيمان وحذرهم، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا، وكذلك قالت النصارى نحن أبناء الله وأحباؤه، حين حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاب الله. وأرادوا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه: نحن من الله بمنزلة الأبناء والآباء، وقرابا من الله كقرب الوالد لولده، وحبه إيانا كحب الوالد لولده، وغضب الله علينا كغضب الوالد على ولده، إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر.
قوله تعالى: { قل فلم يعذبكم بذنوبكم }؛ أي لم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى الذين كانوا أمثالكم في الدين فمسخهم الله في الدنيا. قوله تعالى: { بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشآء }؛ أي لستم بأبناء الله ولا أحبائه، ولكنكم خلق كسائر الخلق، يغفر لمن هداه للإسلام، ويعذب من مات على الكفر. قوله تعالى: { ويعذب من يشآء ولله ملك السموت والأرض وما بينهما }؛ أي له القدرة على أهل السماوات والأرض، وما بينهما من الخلق والعجائب، { وإليه المصير }؛ أي إليه مصير من آمن ومن لم يؤمن.
[5.19-20]
قوله عز وجل: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل }؛ أي يا أهل التوراة والإنجيل قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم يبين لكم الحلال والحرام على انقطاع من الرسل، ودروس من العلم. قال الكلبي: (كان بين ميلاد عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وتسعة وتسعون سنة، وبعد ميلاد عيسى أربعة من الرسل في مائة وأربعة وثلاثين سنة، كما قال تعالى:
إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث
[يس: 14] قال: ولا أدري الرسول الرابع من هو). قال بعضهم: كان بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما ستمائة سنة.
قوله تعالى: { أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير }؛ معناه: كيلا تقولوا يوم القيامة ما جاءنا من بشير يبشرنا بالجنة، ولا مخوف يخوفنا بالنار، { فقد جاءكم بشير }؛ يبشركم بالجنة إن أطعتموه، { ونذير }؛ ينذركم بالنار إن عصيتموه، { والله على كل شيء قدير }؛ من إرسال الرسل والثواب والعقاب.
وقوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا }؛ فاذكروا يا أهل الكتاب إذ قال موسى لبني إسرائيل احفظوا منة الله عليكم إذ أكرم بعضكم بالنبوة، وهم السبعون الذين اختارهم موسى وانطلقوا معه إلى الجبل.
وإنما من الله عليهم بذلك، لأن كثرة الأشراف والأفاضل في القوم شرف وفضل لهم، ولا شرف أعظم من النبوة، وقوله تعالى: { وجعلكم ملوكا } أي أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعد أن كانت تستعبدكم القبطة في مملكة فرعون، وقيل: ملوكا ذوي خدم، وأهل منازل لا يدخل عليكم فيها إلا بإذن.
قوله تعالى: { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين }؛ أي أعطاكم من عالمي زمانكم، ويقال: أراد بذلك جميع العالمين، فإنه تعالى أنزل عليهم المن والسلوى، وظللهم بالغمام، ولم يؤت أحدا مثل هذه النعم قبلهم.
ولا يدخل المستقبل في اللفظ؛ لأن اللفظ خبر عن ما مضى، ولا يدخل ذلك على أنه لم يؤت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل الفضيلة التي آتاهم أو أكثر، والغرض من هذه الآية أن الله تعالى أراد أن يكلفهم دخول الأرض المقدسة، وكان يشق ذلك عليهم فقدم ذكر نعمه عليهم ليكون بأمتثالهم مثال على امتثال أمر الله تعالى.
[5.21]
قوله تعالى: { ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن الاثني عشر نقيبا الذين أرسلهم موسى إلى قرية الجبارين جواسيس؛ لما انتهوا إلى مدينتهم أخذوا فأتي بهم إلى الملك، ويقال أخذهم عوج ابن عنق واحتملهم في ثوبه حتى ألقاهم بين يدي الملك، فقيل للملك: إن هؤلاء يزعمون أنهم يفتحون مدينتك ويظهرون عليك، قال: فطوفوا بهم المدينة فأروهم إياها.
فطافوا بهم، وكانوا يلعبون بهم حتى أن الرجل منهم ليأتي بالقدح والسكرجة والقصعة فيدخل واحد منهم تحتها، ثم ردوهم إلى الملك فأراد قتلهم، فقالت: إيش تصنع بقتل هؤلاء ويكفيهم ما رأوا، ردوهم إلى أصحابهم يحدثونهم بما رأوا، فأرسلوهم.
فلما خرجوا قال بعضهم لبعض: قد علمتم خلاف بني إسرائيل لموسى، وقد وعد الله موسى أن يفتح لهم الأرض، ولن يخلف الله وعده، فهيموا التحالف أن لا يخبر شيئا غير موسى؛ فتحالفوا.
فلما خلوا بنسائهم جعلت المرأة تسأل زوجها عما رأى، فيأخذ عليها المواثيق أن لا تخبر أحدا، ثم يخبرها، وجعلت المرأة يأتيها أبوها وأمها وإخوانها فتأخذ عليهم المواثيق ثم تخبرهم.
فما ارتفع النهار حتى فشا الخبر في البلاد، ولم يخبر يوشع ولا كالب أحدا بشيء من أمرهم، إنما أخبر بذلك العشرة. فجمع موسى عليه السلام بني إسرائيل وخطبهم ثم قال: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء...) إلى قوله: { فتنقلبوا خاسرين }.
وأما قوله تعالى: { ادخلوا الأرض المقدسة } قال ابن عباس: (هي أرض بيت المقدس). ويقال: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وسميت (المقدسة)؛ لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله تعالى: { التي كتب الله } أي أمركم بدخولها. وقيل: التي كتب الله لكم في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن، ويقال: التي وهب الله لأبيكم إبراهيم عليه السلام، وجعلها ميراثا لكم، وذلك أن إبراهيم حين ارتفع على الجبل، قيل له: أنظر؛ فلك ما أدرك بصرك وهو ميراث لولدك من بعدك.
وقوله تعالى: { ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين }؛ أي لا ترجعوا وراءكم وتجبنوا من عدوكم منهزمين منهم فتنصرفوا مغبونين بفوت الظفر في الدنيا والعقوبة في الآخرة.
[5.22]
قوله تعالى: { قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين }؛ أي قالت بنو إسرائيل: يا موسى إن فيها قوما عظماء قتالين، { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون }؛ حينئذ.
[5.23]
قوله تعالى: { قال رجلان من الذين يخافون }؛ أي قال يوشع وكالب من الاثني عشر الذين أرسلهم موسى إلى قرية الجبارين، وكانوا يخافون الجبارين، { أنعم الله عليهما }؛ أي هداهما لقبول أمره ومعرفة صدق وعده: { ادخلوا عليهم الباب }؛ أي باب قرية الجبارين وهي أريحا، { فإذا دخلتموه }؛ أي فإذا دخلتم ذلك الباب؛ { فإنكم غالبون }؛ عليهم؛ لأنهم إذا رأوا كثرتكم انكسرت قلوبهم فتغلبوهم، { وعلى الله فتوكلوا }؛ أي فوضوا أمركم إليه، { إن كنتم مؤمنين }؛ أي مصدقين بوعد الله.
وفي الآية ثناء على الرجلين إذ لم يمنعهما الخوف من العدو عن قول الحق. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول الحق إذا رآه أو عمله، فإنه لا يبعد من رزق الله ولا يدني من أجل "
[5.24]
قوله عز وجل: { قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ أبدا ما داموا فيها }؛ وذلك أن موسى لما أمرهم من قول الرجلين أن يدخلوا قرية الجبارين، قالت له بنو إسرائيل: أتكذب العشرة وتصدق الاثنين، إنا لا ندخلها أبدا ما داموا فيها، { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون }؛ منتظرين، فقولهم: اذهب أنت وربك، احتمل أنهم قالوا ذلك على وجه المجاز على معنى: وربك معين لك، وكان هذا القول فسقا منهم من امتناعهم عن المضي إلى أمر الله.
وقيل: يحتمل أنهم عنوا بذلك الذهاب ذهاب النقلة، وهذا تشبيه وكفر من قائله، وهو أقرب إلى معنى كلامهم؛ لأن كلام الله تعالى خرج مخرج الإنكار عليهم، والتعجب من جهلهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما أراد الخروج إلى بعض الغزوات استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك؛ فقالا: (إنا لن نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى: إذهب أنت وربك فإنا ها هنا قاعدون، ولكنا نقول: إذهب فقاتل عدوك إنا معك مقاتلون).
وفي بعض الروايات قالوا: (أقعد أنت فإنا بأمرك مقاتلون). وقال المقداد ابن الأسود: ((إنا والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) ولكنا نقول: نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، ولو خضت بنا البحر لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك. فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وسره)).
[5.25-26]
قوله عز وجل: { قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن موسى عليه السلام غضب من مقالة قومه، وكان رجلا حديدا فقال: { رب إني لا أملك إلا نفسي } ولا أملك إلا أخي، يعني لا يطيعني من هؤلاء إلا أخي هارون، { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } أي اقض وافصل بيننا وبين القوم العاصين.
وكانت عجلة عجلها موسى عليه السلام، فأوحى الله إلى موسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدقون بالآيات، لأهلكنهم واجعلن لك شعبا أشد وأكثر منهم. فقال: إلهي لو أنك أهلكت هذا الشعب من أجل أنهم لن يستطيعوا أن يدخلوا هذه الأرض فتقتلهم في البرية وأنت عظيم عفوك كثير نعمتك وأنت تغفر الذنوب، فاغفر لهم.
فقال الله تعالى: قد غفرت لهم بكلمتك، ولكن بعدما سميتهم فاسقين، ودعوت عليهم في عجلة لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة، فذلك قوله: { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون }؛ يتحيرون؛ { في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين }.
وقيل: إن قولهم لموسى: { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } كان سؤالا منه الفرق في الحقيقة دون القضاء، وكان دعاؤه منصرفا إلى الآخرة، أي أدخلنا الجنة إذا أدخلتهم النار، ولم يعن بذلك في الدنيا؛ لأنه لو عنى ذلك لأجاب الله تعالى دعاءه وأهلكهم جميعا؛ لأن دعاء الأنبياء لا يرد من أجل أنهم يدعون بأمر الله تعالى.
ويقال: كان هذا دعاء راجعا إلى الدنيا، وقد أجاب الله تعالى دعاءه؛ لأنه عاقب قومه في التيه، ولم يكن موسى وهارون محبوسين في التيه؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعذبون. قال الحسن: (لا يجوز أن يكون موسى معهم فيها لا حيا ولا ميتا، ولا يجوز إذا عذب الله بنبي إلا أن ينجي ذلك النبي ومن آمن معه). ويقال: إن هذا الدعاء كان من موسى عليه السلام عند الغضب؛ لأنه عنى به الحقيقة، ألا ترى أنه ندم على دعائه وجزع من تحريم قرية الجبارين عليهم جزعا شديدا حتى قيل له: لا تأس على القوم الفاسقين.
قوله عز وجل: { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة } أي قال الله تعالى: فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم؛ أي هم ممنوعون من دخولها أربعين سنة، وأصل التحريم المنع. قال الله تعالى:
وحرمنا عليه المراضع من قبل
[القصص: 12] وأراد: به المنع.
قوله تعالى: { يتيهون في الأرض } أي يتحيرون. قال ابن عباس: (يتحيرون في ستة فراسخ أربعين سنة، كانوا يسيرون في أول النهار فيمسون في مكانهم، ويسيرون في أول الليل، فتدور بهم الأرض فيصبحون في مكانهم). قال الحسن: (عمي عليهم السبيل وأخفي عليهم الأعلام التي يهتدون إلى الطريق فلم يستطيعوا الخروج منها).
وذهب بعضهم أن قوله: { أربعين سنة } منصوب ب { يتيهون } ، قالوا: كانت الأرض المقدسة حراما على أولئك القوم الذين عصوا الله عز وجل أبدا، ولم يبق منهم أحد بعد أربعين سنة، إنما بقي يوشع بن نون وكالب. وقيل: مات من النقباء العشرة الذين فشوا الخبر وهم ثمانية، ومعهم سبعمائة ألف مقاتل، فكان كل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا ممن قالوا إنا لن ندخلها، ومات موسى وأخوه هارون حين انقضاء التيه.
وفاة هارون عليه السلام:
قال السدي: (أوحى الله تعالى إلى موسى: أني متوف هارون فأت به جبل كذا. فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هما بشجرة لم ير مثلها، فإذا سرير عليها فرش وريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه، فقال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال له: نم عليه، فلما نام عليه جاءه ملك الموت، فقال: يا موسى خدعتني.
فلما توفي ذهب إلى تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء. فلما رجع موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتل هارون وحسده على حب بني إسرائيل. فقال موسى: ويلكم أفتروني أقتل أخي! فلما كثروا عليه صلى ركعتين ثم دعا، فنزل السرير حتى نظروا إليه فصدقوه).
وقال عمر بن ميمون: (مات هارون في بعض الكهوف، فدفنه موسى فرجع إلى بني إسرائيل؛ فقالوا: أين هارون؟ قال: مات، قالوا: لا؛ ولكنك قتلته لحبنا إياه. فتضرع موسى إلى ربه وشكى ما قال بنو إسرائيل، فأوحى الله إليه: انطلق بهم إلى قبره فأنا باعثه حتى يخبرهم بأنه مات. فانطلق بهم إلى قبر هارون؛ فناداه: يا هارون! فخرج من قبره ينفض التراب عن رأسه، فقال له موسى: أنا قتلتك؟! قال: لا، ولكني مت، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرف).
وفاة موسى عليه السلام:
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له: أجب ربك، فلطم عين ملك الموت ففقأها، فرجع ملك الموت قال: يا رب! إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقأ عيني، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي وقل له: إن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما دارت عليه من شعرة فلك بها سنة، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن من قريب، قال: رب أدنيني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر، فقال صلى الله عليه وسلم: لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر "
قال محمد بن يحيى: (قد صح حديث ملك الموت وموسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرده إلا كل مبتدع).
وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا، حتى أتى موسى عليه السلام ليقبضه فلطم ففقأ عينه، فجاء ملك الموت بعد ذلك خفية "
وقال وهب: (خرج موسى لبعض حوائجه، فمر برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير أحسن منه نظرة وبهجة، فقال: يا ملائكة الله لمن هذا القبر؟ قالوا: لعبد كريم، فقال: ما رأيت مضجعا أحسن من هذا! قالوا: يا كليم الله أتحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه، ففعل ذلك، ثم تنفس وقبض الله روحه، ثم سوت عليه الملائكة التراب).
وروي: أن يوشع رآه بعد موته في المنام؛ فقال: كيف وجدت الموت؟ قال: كشاة تسلخ وهي حية. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فلما مات موسى عليه السلام وكان قد استخلف يوشع، سار يوشع بالناس حتى انتهوا إلى مدينة الجبارين وحاصروهم. فلما كان يوم الجمعة وكادت الشمس تغرب، توضأ يوشع وصلى ودعا ربه وسأله أن ينجز له ما وعده.
وذكر أن الشمس تغرب ليلة السبت لا يقاتل فيها، فرد الله الشمس حتى كانت في مقدار صلاة الظهر، فجمع يوشع بني إسرائيل وجعل في سبط منهم سورا فصاحوا سبابيرهم، ودخلوا مدينة أعدائهم فقتلوهم حتى أتى الثمانين رجلا من أصحاب يوشع كانوا يقعدون على الرجل، ويحزون رأسه فلا يطيقونه من عظمه، وكان طول كل واحد من الجبارين ثمانين ذراعا، وكان موسى عليه السلام قد قتل عوج بن عنق قبل ذلك، وكان طوله ثلاثة وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع، قاله ابن عمر رضي الله عنهما، وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس ويأكله.
يروى أن طوفان نوح عليه السلام غمر جميع جبال الدنيا وما بلغ إلا إلى ركبتيه - وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة سنة - وأهلكه الله تعالى على يدي موسى عليه السلام. وسبب ذلك أنه كانت محطة عسكر موسى عليه السلام فرسخا في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء الجبل وقد منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها عليهم، فبعث الله طيرا حتى قور الصخرة بمنقاره فأنقبها فوقعت في عنق عوج فطوقته فصرعته، وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع وعصاه عشرة، ووثب عشرة أذرع إلى جهة السماء، فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع في الأرض فقتله، وأقبل جماعة كثيرة معهم سكاكين وخناجر حتى حزوا رأسه، وكانت أمه عنقا، ويقال لها: عناق، وكانت إحدى بنات آدم عليه السلام وهي أول امرأة زنت على وجه الأرض، وكان كل إصبع من أصابعها طوله ثلاثة أذرع وعرضها ذراعين، في كل إصبع ظفران مثل المخلبين، فلما زنت بعث الله عليها أسودا كالفيلة، وذبابا كالإبل، ونمورا كالحمر، وسلطهم عليها فأكلوها.
[5.27]
قوله عز وجل: { واتل عليهم نبأ ابني ءادم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك }؛ معناه: واقرأ يا محمد على قومك خبر ابني آدم بالصدق؛ إذ وضعا على الجبل قربانا، والقربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى. وقيل: معناه: واقرأ على أولاد هؤلاء الذي تقدم ذكرهم من أهل الكتاب حتى يقروا برسالتك. قوله تعالى: { فتقبل من أحدهما } أي قبل القربان من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر، ومعنى القبول: إيجاب الثواب.
قال ابن عباس: (وذلك أن حواء كانت تلد كل بطن ولدين ذكر وأنثى؛ إلا شيث فإنها ولدته منفردا، فولدت أول بطن قابيل وأخته إقليما، ثم ولدت في البطن الثاني هابيل وأخته لبودا. فلما أدركوا، أمر الله آدم أن يزوج قابيل أخت هابيل، ويزوج هابيل أخت قابيل، فرضي هابيل وكره قابيل؛ لأن أخته كانت أحسنهما، فقال آدم: ما أمر الله إلا بهذا يا بني؛ ولا يحل لك. فأبى أن يقبل؛ وقال: إن الله لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيك. فقال لهما: قربا قربانا؛ فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها.
وكان هابيل صاحب غنم، وقابيل صاحب حرث، فقرب هابيل كبشا سمينا ولبنا وزبدا، وقرب قابيل سنبلا من شر زرعه، وأضمر في قلبه ما أبالي أتقبل مني أم لا، لا يتزوج أختي أبدا، وأضمر هابيل في نفسه الرضا لله عز وجل. فوضعا قربانهما على الجبل، فنزلت نار من السماء فما أكلت شيئا من السنبل بعد، ثم أكلت الكبش واللبن والزبد، فذلك قوله تعالى { فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر }.
فنزلوا الجبل وتفرقوا، وكان آدم عليه السلام معهم، فذهب هابيل إلى غنمه، وقابيل إلى زرعه غضبان وأظهر الحسد لهابيل، وقال: يا هابيل لأقتلنك! قال: وذلك لأن الله تعالى تقبل قربانك ورد علي قرباني، وتنكح أختي الحسنة، وأنكح أختك القبيحة، فيحدث الناس أنك خير مني. { قال }؛ هابيل: ما ذنبي في ذلك؟!). { إنما يتقبل الله من المتقين }؛ أي من الزاكية قلوبهم الذين يخافون على حسناتهم أن لا تقبل، ولم تكن أنت زاكي القلب، فرد الله قربانك حيث نيتك.
وقيل: أراد بالمتقين الذين يتقون الشرك. قال ابن عباس: (كان قابيل كافرا) وفي أكثر الروايات أنه كان رجل سوء. قال الحسن: (كان الرجل إذا أراد أن يقرب القربان؛ تعبد وتاب وتطهر من الذنوب ولبس الثياب البيض، ثم قرب وقام يدعو الله، فإن قبل الله قربانه جاءت النار فأكلته، وذلك علامة القبول، وإن لم تجئ نار فذلك علامة الرد).
[5.28]
قوله تعالى: { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك }؛ أي قال هابيل مجيبا لقابيل: لئن مددت يدك إلى القتل ظلما ما أنا بالذي أمد يدي إليك لأقتلك ظلما، قال قابيل: ولم ذلك؟ قال: { إني أخاف الله رب العالمين }؛ بقتلك ظلما.
واختلف العلماء في وقت مولد قابيل وهابيل ، قال بعضهم: غشي آدم حواء بعد ما هبط إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل وتوأمته في بطن، ثم بعد ذلك البطن هابيل وتوأمته. قال ابن عباس: (ولم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا).
وقال بعضهم: كان آدم يغشى حواء في الجنة، فحملت بقابيل وتوأمته، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولا نفاسا لطهر الجنة، فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم.
[5.29-31]
قوله عز وجل: { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك }؛ أي قال هابيل لقابيل: إن كنت تريد قتلي فلا ترجع عنه، فإني أريد أن ترجع إلى الله بإثم دمي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، { فتكون من أصحاب النار }؛ في الآخرة؛ { وذلك جزآء الظالمين }؛ أي وذلك عقوبة من لم يرض بحكم الله.
قوله تعالى: { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين }؛ أي طاوعته نفسه، وقيل: زينت له قتله فقتله. قال السدي: (لما قصد قابيل قتل هابيل أتاه في رأس جبل وهو نائم وغنمه ترعى، فأخذ صخرة فشدخ بها رأسه فمات).
وقال الضحاك: (كان قابيل لا يدري كيف يقتله حتى جاء إبليس وبيده حية فوضعها بين حجرين، فرضخ رأسها بالحجر وقابيل ينظر، فلما نظر ذلك جاء إلى هابيل فلم يزل يضرب بالحجارة على رأسه حتى قتله، وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة). واختلفوا في موضع قتله، قيل: قتل على جبل ثور. وقيل: بالبصرة.
فلما مات هابيل قصدته السباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره حتى انتن ريحه، فعكف الطيور والسباع حواليه تنتظر متى يرمي به فتأكله، { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه }؛ فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر له بمنقاره ورجله، ثم ألقاه في الحفيرة وواراه، وقابيل ينتظر إليه ف؛ { قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين }.
وعن ابن عباس قال: (لما قتل قابيل هابيل رجع إلى أبيه قبل أن يدفنه، فلما أبطأ هابيل قال آدم عليه السلام: يا قابيل أين أخوك؟ قال: ما رأيته؛ وكأنني به أرسل غنمه في زرعي فأفسده، فلعله خاف أن يجيء من أجل ذلك، قال: وحست نفس آدم، فبات ليلته تلك محزونا، فلما أصبح قابيل غدا إلى ذلك الموضع، فإذا هو بغراب يبحث في الأرض على غراب ميت ليواريه).
وقيل: بعث الله الغراب إكراما لهابيل، وكان الغراب يحثي التراب على هابيل ليري قابيل كيف يواريه؛ أي كيف يغطي عورته. وفي الخبر: أنه لما قتله سلبه ثيابه، وتركه عريانا. وقيل: أراد بالسوءة جسد المقتول، سماه سوءة لأنه لما بقي على وجه الأرض تغير ونتن، والسوءة في اللغة: عبارة عن كل شيء مستنكر.
قوله تعالى: { فأصبح من النادمين }؛ الخاسرين، أي صار من المغبونين بالوزر والعقوبة. قال الكلبي: (كان قابيل أول من عصى الله في الأرض من ولد آدم، وهو أول من يساق إلى النار).
وقال مقاتل: (كان قبل ذلك تستأنس الطيور والسباع والوحوش به، فلما قتل قابيل نفروا، فلحقت الطيور بالهواء؛ والوحوش بالبرية؛ والسباع فالفيافي وشاك الشجر، وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه واغبرت الأرض).
وقال عبدالله المخزومي: (لما قتل هابيل رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام). وقال سالم بن أبي الجعد: (مكث آدم عليه السلام حزينا على قتل ولده هابيل مائة سنة لا يضحك).
قوله تعالى: { ليريه كيف يواري سوءة أخيه } أي أرسل الله غرابا يثير التراب على غراب آخر ميت بمنقاره وبرجله، فلما أبصر قابيل الغراب يبحث في الأرض دعا بالويل على نفسه، فقال: (يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) والويل: كلمة تستعمل عند الوقوع في الشدة والهلكة.
قوله تعالى: { فأصبح من النادمين } يحتمل أنه ندم ندم توبة عن جميع ما قال وفعل، ويحتمل أنه ندم على ترك مواراة سوءة أخيه، فإن كانت الأولى فالله تواب رحيم، وإن كانت الثانية فإثم القتل في عنقه. قال ابن عباس: (لو كانت ندامته على قتله لكانت توبة منه). وقيل: إنه إنما ندم لأنه لم ينتفع بقتله ولم يحصل له مراده، فكان ندمه لأجل ذلك لا بقبح فعله، ولو كان ندمه تقربا إلى الله عز وجل.
قال ابن عباس: (فقال الله تعالى لقابيل: كن خائفا لا ترى شيئا إلا خفت منه أن يقتلك، قال: وكان كل من رأى قابيل رماه بالحجارة، فأبصره بعض ولد ولده فرماه بالحجارة حتى قتله) ويقال: كان على جبل فنطحه ثور فوقع إلى سفح الجبل فتفرقت أوصاله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل "
قال مقاتل: (وتزوج شيث بإقليما). وقال الضحاك: (لما قتل قابيل هابيل حمله على ظهره، ولم يدر كيف يصنع به، فمكث ثلاثة أيام يحمله على ظهره لا يدري ماذا يصنع به، فبعث الله غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما صاحبه، ثم أخذ يحفر في الأرض، وأخذ برجل الغراب القتيل وألقاه في الحفيرة) فذلك قوله تعالى: { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض }.
[5.32]
قوله تعالى: { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل }؛ أي من أجل ذلك القتل الذي عرفه بنو إسرائيل واشتهر عندهم، فرضنا وأوجبنا عليهم في التوراة: { أنه من قتل نفسا بغير نفس }؛ أي من غير أن يجب عليه القود، { أو }؛ بغير؛ { فساد في الأرض }؛ نحو الشرك وقطع الطريق والزنا عند الإحصان، { فكأنما قتل الناس جميعا }؛ أي استوجب النار بقتل النفس الواحدة، كما يستوجبها من قتل الناس جميعا، وقيل: معناه: إن على الناس كلهم معونة ولي القتيل حتى يفتدوه، ويكونوا كلهم خصما للقاتل حتى يقاد. وقيل: إن المراد به استحقاق القتل عليه بقتل النفس الواحدة.
قوله تعالى: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا }؛ أي من استنقذ نفسا من غرق أو من حرق أو مما يميتها لا محالة، أو استنقذها من كفر أو ضلالة فأحياها بالنعيم الدائم في الجنة، أو عفى عن دمها بعد ما وجب عليها القصاص استوجب الجنة، كما استوجبها من أحيا الناس جميعا. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من سقا مؤمنا شربة من ماء والماء موجود فكأنما أعتق سبعين رقبة، ومن سقاها في غير موطنها فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا "
قوله تعالى: { ولقد جآءتهم رسلنا بالبينت }؛ أي لقد جاءت بني إسرائيل رسلنا بالأوامر والنواهي والعلامات الواضحات، { ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك }؛ بعد أن جاءتهم الدلائل والمعجزات، { في الأرض لمسرفون }؛ مشركون تاركو أمر الله تعالى.
[5.33]
قوله تعالى: { إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض }؛ قال ابن عباس:
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي: " على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن، ومن أمن المسلمين منهم فهو آمن، ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن ".
فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام على قوم ممن أسلم من قوم هلال، ولم يكن هلال يومئذ حاضرا، فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم هذه الآية ".
ومعناها: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض) الفساد نحو القتل والنهب والتخريب وقطع الطريق { أن يقتلوا } إن قتلوا أحدا ولم يأخذوا المال { أو يصلبوا } مقتولين إن قتلوا وأخذوا المال، { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } اليد اليمين من الرسغ، والرجل اليسرى من الكعب إن أخذوا المال ولم يقتلوا أحدا، { أو ينفوا من الأرض } إن أخافوا الطريق ولم يفعلوا سوى ذلك.
واختلفوا في معنى النفي، قال بعضهم: يعني الحبس، وقال بعضهم: هو الطلب حتى لا يستقر بهم مكان. والتوفيق بين القولين: أنهم إن أخذوا بعد ما أخافوا الطريق؛ أودعهم الإمام السجن حتى يتوبوا أو يموتوا، وإن لم يؤخذوا أمر بطلبهم، وأمر أن ينادى في الناس: أن من قتلهم لا سبيل عليه.
وإنما سمي الحبس نفيا؛ لأنه يمنع المحبوسين من التردد والتصرف في الأرض ، ويكون ذلك بمنزلة النفي من الأرض.
واختلفوا في كيفية الصلب مع القتل. قال أبو حنيفة: (يصلب حيا ليرى الناس ويروه؛ ويكون ذلك زيادة عقوبة له، ثم تبعج بطنه بالرمح؛ يطعن في خاصرته حتى يموت). وقال أبو يوسف والشافعي: (يقتل ثم يصلب). قوله تعالى: { ذلك لهم خزي في الدنيا }؛ أي فضيحة في الدنيا، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم }؛ أعظم من هذا.
وقال مقاتل وسعيد بن جبير: (نزلت هذه الآية في قوم من بني عرينة، قدموا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام، وهم كذبة وليس يريدون الإسلام، فاجتووا المدينة وعظمت بطونهم واصفرت وجوههم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا ذلك حتى صحوا، ثم قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام.
فصاح الصائح: يا خيل الله اركبي. فركبوا لا ينتظر فارس فارسا، فأسرعوا في طلبهم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في طلبهم، فجاءوا بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم، وتركهم بالحياة حتى ماتوا، فأنزل الله هذه الآية، فصارت عامة في قطاع الطرق ناسخة لتسميل العين).
وقال الليث بن سعد: (نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما لهم عقوبتهم، فقال تعالى: { إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } ولم يكن جزاؤهم هذه المثلة التي هي السمل، فقام رسول الله خطيبا ونهى عن المثلة).
[5.34]
قوله تعالى: { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم }؛ معناه: أن يقتلوا أو يصلبوا إلا الذين تابوا من قطع الطريق من قبل أن يقدر عليهم الإمام، { فاعلموا أن الله غفور }؛ لعباده، { رحيم }؛ بهم بعد التوبة.
روى الشعبي: أن حارثة بن زيد خرج محاربا في عهد علي رضي الله عنه، فأخاف السبل وسفك الدماء وأخذ الأموال، ثم جاء تائبا فأتى الحسن بن علي فطلب إليه أن يستأمن له عليا كرم الله وجهه فأبى ، فأتى عبدالله بن جعفر فأبى عليه، فأتى سعد بن قيس الهمداني فقبله وضمه إليه، فلما صلى علي رضي الله عنه صلاة الغداة، أتى سعد بن قيس الهمداني وقال: يا أمير المؤمنين؛ ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. قال: ما تقول فيمن تاب من قبل أن تقدر عليه؟ قال: أقول كما قال الله تعالى: { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فقال سعد بن قيس: وإن كان حارثة بن زيد؟ قال: نعم، فجاء به إليه، فبايعه وأمنه وكتب له أمانا منشورا، فقال حارثة:
ألا أبلغن همدان إما لقيتها
على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمرو أبيها إن همدان تتقى ال
إله ويقضى بالكتاب خطيبها
[5.35]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة }؛ أي يا أيها الذين آمنوا اخشوا عذاب الله واحذروا معاصيه، واطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة، { وجاهدوا في سبيله }؛ أعداء الله في طاعته، { لعلكم تفلحون }؛ أي لعلكم تظفرون بعدوكم في الدنيا، وتنجوا من النار في العقبى. والوسيلة: القربة: وهي فعيلة من: توسل إلى فلان بكذا؛ أي تقرب إليه، وجمعها وسائل. قال الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
وعاد التصافى بيننا والوسائل
وقال عطاء: (الوسيلة: أفضل درجات الجنة)، قال صلى الله عليه وسلم:
" سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد، وأرجو من الله أن أكون أنا هو "
[5.36]
قوله عز وجل: { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم }؛ وفي الآية إزالة طمع الكفار عن التخلص من عذاب الآخرة، يقول: لو ماتوا على الكفر، وكان لهم ما في الأرض جميعا من الأموال بأسرها وضعفه معه ليشتروا به أنفسهم من عذاب الله ما تقبل ذلك الفداء منهم لو فادوا، { ولهم عذاب أليم }؛ وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
[5.37]
قوله تعالى: { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم }؛ قيل: معناه: كلما رفعتهم النار بلهبها يتمنوا أن يخرجوا منها، يقول الله تعالى: { وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } دائم لا ينقطع.
[5.38]
قوله عز وجل: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما }؛ قال ابن عباس: (نزلت في طعمة بن أبيرق سارق الدرع) وقد مضت قصته في سورة النساء، ثم صارت عامة في جميع الناس. ومعنى الآية: والسارق من الرجال والسارقة من النساء فاقطعوا أيديهما أي إيمانهما كذا تأوله ابن عباس. وفي قراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما).
وقرأ عيسى بن عمر: (والسارق والسارقة) بالنصب على إضمار اقطعوا السارق والسارقة، كما تقول: زيدا اضربه، والقراءة المختارة: الرفع؛ لأن القطع على الأيدي لا على السارق. وقال المبرد: (ليس القصد من الكلام إلى واحد بعينه، وإنما معناه: من سرق فاقطعوا يده، بخلاف قولك: زيدا اضربه. ولو أراد سارقا بعينه لكان وجه الكلام النصب). وعلى هذا قوله تعالى:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
[النور: 2] ولو أراد زانيا بعينه لنصب.
وإنما ذكر أيديهما بلفظ الجمع؛ لأنه أراد أيمانهما؛ لأن ما كان واحدا فبينه بلفظ الجمع والإضافة إلى الاثنين، ومثل ذلك
فقد صغت قلوبكما
[التحريم: 4]، والإضافة إلى الاثنين يدل على أن المراد به التثنية دون الجمع.
فإن قيل: لأي معنى قدم الله ذكر السارق على السارقة، وقدم ذكر الزانية على الزاني؟ قيل: لأن السرقة في الرجال أكثر، والنساء هي أصل الفتنة للرجال بالتعريض لهم، ولو لزمت المرأة بيتها كما أمر الله تعالى لم تقع هي، ولا الرجال في الزنا.
واختلفوا في كم تقطع يد السارق من المال إذا سرقه، فقال بعضهم: في عشرة دراهم فصاعدا، ولا يقطع فيما دون ذلك، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وكان سليمان بن يسار لا يقطع الخمس إلا في خمسة دراهم. وقال مالك: (يقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا)، وقال الأوزاعي والشافعي: (يقطع في ربع دينار فصاعدا).
وقال بعضهم: يقطع في القليل والكثير ولو كان دانقا، وهو قول ابن عباس. وقال بعضهم: في درهم.
ولو قطع السارق ثم عاد فسرق، قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا قال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يقطع، لما روي أن عليا كرم الله وجهه أتي بسارق فقطع يده اليمنى، ثم أتي به مرة أخرى فقطع رجله اليسرى، ثم أتي به ثالثة فضربه وحبسه وقال: إني أستحي من الله أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها).
قوله تعالى: { جزآء بما كسبا }؛ أي عقوبة على ما فعلا، وانتصب { جزآء } لأنه مفعول له، كأنه قال: فاقطعوهما لجزاء فعلهما. قوله تعالى: { نكالا من الله }؛ أي عقوبة وفضيحة من الله. والنكال: هو أن ينكل به ليعتبر به غيره فينكل؛ أي لا يفعل مثل فعله. قوله تعالى: { والله عزيز حكيم }؛ أي منيع بالنقمة من السارق، ذو حكمة فيما حكم من القطع لما في ذلك من زجر السارق عن غيهم صيانة لأموال الناس.
وظاهر الآية يقتضي وجوب القطع على السارق في القليل والكثير، وهو قول الخوارج، إلا أنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا قطع في أقل من عشرة دراهم "
وبه أخذ أصحابنا، وروي عن علي وابن مسعود مثل قولنا.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا تقطع الخمس إلا في خمس) أي الخمس أصابع لا تقطع إلا في خمسة دراهم. وعن عائشة رضي الله عنها؛ أنها قالت: (لا قطع إلا في ربع دينار) وهو قول الشافعي. وقال عبدالله بن عمر: (ثلاثة دراهم).
[5.39]
قوله تعالى: { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح }؛ أي من تاب من السراق من بعد سرقته وأصلح العمل فيما بينه وبين الله تعالى، { فإن الله يتوب عليه }؛ أي يتجاوز عنه ولا يؤاخذه في الآخرة، ولا تقطع يده إذا رد المال قبل المرافعة إلى الحاكم، { إن الله غفور رحيم }؛ بمن مات على التوبة.
وأما إذا رفع إلى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب، فإن كانت توبته حقيقة كان ذلك زيادة درجات له، كما أن الله تعالى ابتلى الصالحين والأنبياء بالبلايا والمحن والأمراض زيادة لهم في درجاتهم ، وإن لم تكن توبته حقيقة كان الحد عقوبة له على ذنبه، وهو مؤاخذ في الآخرة إن لم يتب.
وعن عبدالله بن عامر قال:
" سرقت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوا بها إليه، قالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، فقال قومها: نحن نفديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقطعوا يدها " قالوا: نحن نفديها بخمسمائة مثقال، فقال: " اقطعوا يدها " فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل من توبة يا رسول الله؟ قال: " نعم إن التوبة تخرجك عن خطيئتك كيوم ولدتك أمك " "
فأنزل الله هذه الآية { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه }.
وعن عائشة قالت:
" كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلموه، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أسامة لا أراك تكلمني في حد من حدود الله " ثم قام خطيبا فقال: " إنما هلك من قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة ابنة محمد لقطعت يدها " "
أعاذها الله من ذلك، فقطع يد المخزومية.
[5.40-41]
قوله عز وجل: { ألم تعلم أن الله له ملك السموت والأرض }؛ أي له القدرة على أهل السماوات والأرض، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { يعذب من يشآء ويغفر لمن يشآء }؛ أي يعذب من يشاء على الذنب الصغير وهو عدل منه، ويغفر لمن يشاء الذنب العظيم وهو فضل منه؛ أي يعذب من توجب الحكمة تعذيبه، ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته، { والله على كل شيء قدير }.
وقوله تعالى: { يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم }؛ أي لا يحزنك يا محمد فعل الذين يسارع بعضهم بعضا في الإقامة على الكفر والحث عليه.
قرأ نافع: (يحزنك) بضم الياء، ومعناهما واحد. وقرأ السلمي: (يسرعون في الكفر)، وقوله تعالى: { من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } وهم المنافقون { ومن الذين هادوا }؛ أي ومن يهود المدينة الذين هم أهل الصلح للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت لفؤاده بوعد النصرة والظفر، وإعلام أن اليهود والنصارى والمنافقين لا يضرونه.
قوله تعالى:
" { سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين }؛ أي قابلون للكذب، يعني بني قريظة هم سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يعني يهود خيبر، وذلك: أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وكانت خيبر حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الزانيان محصنين، وكان حدهما الرجم في التوراة، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، وقالوا: إن هذا الرجل الذي في يثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة، فإنهم صلح له وجيرانه فيسألونه عن ذلك، فبعثوا رهطا منهم مستخفين، وقالوا لهم: اسألوا محمدا عن الزانيين محصنين ما حدهما؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه، وأرسلوا الزانيين معهم.
فقدم الرهط إلى بني قريظة والنضير، وذكروا لهم ذلك وقالوا: اسألوا لنا محمدا عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة: إذا والله يأمركم بما تكرهون، ثم انطلق منهم قوم مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسبعة بن عمر ومالك بن الصيف وعازوراء وغيرهم، وقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزانية والزاني إذا أحصنا ما حدهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " وهل ترضون بقضائي في ذلك؟ " قالوا: نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم، فأخبرهم فأبوا أن يأخذوا به.
فقال جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل تعرفون شابا من الربيين أعور سكن فدك؟ " قالوا: نعم، قال: " فأي رجل هو فيكم؟ " قالوا: هو أعلم من على وجه الأرض من اليهود بالتوراة، قال: " فأرسلوا له " ، ففعلوا، فأتاهم ابن صوريا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت ابن صوريا؟ " قال: نعم، قال: " أنت أعلم اليهود؟ " قال: كذلك يزعمون، قال: " أتجعلونه بيني وبينكم؟ " قالوا: نعم قد رضينا به إذا رضيت به.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو القوي، إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى، والذي فلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي ظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ " قال ابن صوريا: نعم والذي ذكرتني به؛ ولولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيرت لما أعرفت لك، ولكن كيف في كتابك يا محمد؟ قال: " إذا شهد أربعة عدول أنه أدخل فيها، كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم " ، قال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى لهكذا أنزل على موسى.
فقال له قومه: ما أسرع ما صدقته، أما كنت لما أتينا عليك بأهل وما أنت بأعلمنا، فقال لهم: أنشدني بالتوراة، ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته، وخفت إن كذبته أن ينزل بنا عذاب شديد.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديين الزانيين، وقال: " أنا أول من يحيي سنة إذا أماتوها " ، فنزل قوله تعالى: { يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير } فلا يخبركم به.
فقال ابن صوريا: أنشدك بالله يا محمد أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن صوريا: أخبرنا عن ثلاث خصال، قال: " ما هن؟ " قال: أخبرني عن نومك؟ قال: " تنام عيناي وقلبي يقظان " ، قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شيء، وعن شبه أمه ليس فيه من شبه أبيه شيء، قال: " أيهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له " ، قال: صدقت.
فأسلم ابن صوريا حينئذ وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة بالوحي؟ قال: " جبريل " قال: صفه لي، قال: فوصفه له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنه في التوراة كما قلت، وإنك رسول الله، فلما أسلم ابن صوريا شتموه ".
قوله تعالى: { لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا }؛ أي من يرد الله بليته وعقوبته وفضيحته، فلن تقدر يا محمد أن تدفع عنه شيئا مما أراد الله به.
قوله عز وجل: { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم }؛ أي أهل هذه الصفة لم يرد الله أن يفتح قلوبهم ليبصروا الحق. وقيل: معناه: لم يطهر قلوبهم من علامات الكفر، مثل الختم والطبع والضيق، كما شرح صدور المؤمنين، وطهر قلوبهم بكتابة الإيمان فيها.
وقال الحسن: (لم يرد الله أن يطهر قلوبهم؛ أي لا يبرئ قلوبهم من الكفر وهم مقيمين على دينهم واعتقادهم) { لهم في الدنيا خزي }؛ أي فضيحة بما أظهر الله من كذبهم، وقيل: أراد بالخزي القتل والسبي والجزية، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم }؛ أعظم مما في الدنيا.
[5.42]
قوله تعالى: { سماعون للكذب أكالون للسحت }؛ أول هذه الآية راجع إلى صفة اليهود والمنافقين الذين سبق ذكرهم، والفائدة في إعادة وصفهم بسماعين للكذب: بيان أنهم إنما يستحقوا الخزي بإصرارهم على الكذب واستماعه، وضمهم إلى ذلك السحت.
واختلفوا في المراد بالسحت، فقال ابن مسعود والحسن: (أراد به الرشوة على الحكم) وقال علي وأبو هريرة: (هو الرشوة على الحكم؛ ومهر البغي؛ وعسب التيس؛ وحلوان الكاهن؛ وثمن الخمر).
والسحت: اسم لما لا يحل أخذه، وأصل السحت من الهلاك، يقال: سحته وأسحته؛ إذا استأصله، ومنه قوله تعالى:
فيسحتكم بعذاب
[طه: 61] أي يهلككم، وسمي الحرام سحتا؛ لأنه يؤدي إلى الهلاك والاستئصال.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به " قيل: ما السحت يا رسول الله؟ قال: " الرشوة في الحكم " "
وعن مسروق عن ابن مسعود قال: ((الرشوة سحت، قلت له: في الحكم؟ قال: لا؛ ذاك الكفر؛ ثم قرأ
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون
[المائدة: 44])). وأراد بهذا استحلال الرشوة وجحد الحق.
والرشوة تنقسم على وجوه؛ منها: الرشوة على الحكم، وذلك حرام على الراشي والمرتشي؛ لأنه لا يخلو إما ليحكم له الحاكم بحقه، فيكون المرتشي آخذا للأجرة على أداء ما هو فرض عليه، ويكون الراشي محاكما إلى من لا يصلح للحكم ولا ينفذ حكمه، وإما أن يرشي فيقضي له بما ليس له بحق، فيكون الإثم أعظم ويفسق الحاكم من وجهين، وكذلك المرتشي، والرائش: أراد بالرائش الذي يمشي بينهما.
ومنها: الرشوة في غير الحكم، كما روي عن وهب بن منبه: (أنه قيل له الرشوة حرام في كل شيء؟ قال: إنما نكره أن ترشي لتعطى ما ليس لك، أو تدفع حقا لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك، فليس بحرام، وإنما الإثم على القابض).
قرأ عاصم ونافع وحمزة وابن عامر: (للسحت) بضم السين وجزم الحاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمهما جميعا، وقرأ أبو العباس: (للسحت) بفتح السين وجزم الحاء، وقرأ عبيد بن عمر: (للسحت) بكسر السين وجزم الحاء، وكله بمعنى واحد وهو الحرام.
وقيل: يقال رجل مسحوت المعدة؛ إذا كان أكولا لا يلفى أبدا إلا جائعا، قيل: نزلت هذه الآية في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم. وعن الحسن في قوله: (سماعون للكذب أكالون للسحت) قال: (ذلك الحكام؛ يسمع كذبه ويأخذ رشوته، فيكون الحاكم قد سمع الدعوة الكاذبة ويأكل رشوته).
وروي: أن مسروقا شفع لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبا شديدا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود رضي الله عنه: يقول: ((من شفع في حاجة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فأهدي إليه شيء فهو سحت)، فقيل له: يا أبا عبدالرحمن ما كنا نرى ذلك إلا أخذ رشوة على الحكم؟ فقال: (الأخذ على الحكم كفر، قال الله تعالى:
ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الكافرون
[المائدة: 44] وإذا أرشى الحاكم انعزل من ساعته وإن لم يعزل)).
ومن السحت: ثمن الخمر والخنزير والميتة، وعسب الفحل، وأجرة النائحة والمغنية والساحر، وهدية الشفاعة، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن. هكذا قال عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنه. وقال ابن كيسان: سمعت الحسن يقول: (إذا كان لك على رجل دين، فأكلت في بيته، فهو سحت).
قوله تعالى: { فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم }؛ وذلك أن اليهود لما أرادوا أن ينهضوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد قصة الزنا، تعلقت بنو قريظة ببني النضير،
" فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد، إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتيلا أخذوا منا أربعين ومائة وسق، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " دم القرظي وفاء بدم النضير " "
فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ أي فإن جاءك الفريقان كأنهم راضين بحكمك، فاحكم بما أنزل الله، وإن شئت فأعرض عنهم.
وقيل: معناه: فإن جاءك أهل خيبر في حكم الزنا، فاقض بينهم بالرجم في هذه الحادثة، وفي نظيرها من الحوادث التي تقع من بعد، أو أعرض عنهم، ولا تحكم بينهم، خيره الله تعالى بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم، وهذا التخيير منسوخ بقوله تعالى:
وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله
[المائدة: 49].
قوله تعالى: { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا }؛ لإعراضك عنهم، { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط }؛ أي بالعدل؛ { إن الله يحب المقسطين }؛ أي العادلين.
[5.43]
قوله تعالى: { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله }؛ أي كيف يرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الرجم والقصاص وغير ذلك { ثم يتولون } ، يعرضون عن العمل بها، { من بعد ذلك }؛ من بعد البيان الذي في كتابهم، { ومآ أولئك بالمؤمنين }؛ ليسوا بمصدقين بما عندهم، يزعمون أنهم مؤمنون بالتوراة وهم كاذبون. وفي هذه الآية بيان على أن هؤلاء اليهود كانوا لا يحكمون النبي صلى الله عليه وسلم بحكم رضى وانقياد، ولولا طلبهم الترخص واتباع ما لا يغني في كتابهم لما جاءوه.
[5.44]
قوله تعالى: { إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا }؛ أي إنا أنزلنا التوراة على موسى فيها بيان من الضلالة ونور لمن آمن به، يقضي بها النبيون الذين أخلصوا، وهذه صفة الأنبياء؛ لا أن فيهم من لم يخلص، كما يقال: صلى الله على محمد وعلى آله الطيبين، لا يراد بذلك أن في أهله غير طيب.
والمراد بالنبيين موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الذين كانوا من وقت موسى إلى وقت نبينا عليهم السلام. ويقال أراد بالنبيين محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه كان كالنائب عن أنبياء بني إسرائيل في أن يحكم في الزنا بينهم بحكم التوراة.
وقيل: معنى { الذين أسلموا } أي انقادوا لأحكام الله لا على أن غيرهم من النبيين لم يكونوا مسلمين. وقيل: معنى (أسلموا) أي صاروا إلى السلامة، كما يقال: أصبحوا وأمسوا: وادخلوا في الصباح والمساء. وقيل: معناه: الذين أسلموا أنفسهم إلى الله.
" كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا آوى إلى فراشه: " أسلمت نفسي إليك " "
قوله عز وجل { للذين هادوا } يعني لليهود، وقيل: معنى الآية: للذين تابوا من الكفر، كما في قوله تعالى:
وإنا هدنآ إليك
[الأعراف: 156].
قوله تعالى: { والربانيون }؛ هم العلماء العاملون، يربون العلم؛ أي يقومون به، { والأحبار }؛ سائر العلماء دون الأنبياء والربانيين، وإنما سمي العالم حبرا لكثرة ما يكتب بالحبر، ويقال: هو من التحبير وهو تحسين العلم، وتقبيح الجهل.
قوله تعالى: { بما استحفظوا من كتاب الله }؛ من الرجم وسائر الأحكام، { وكانوا عليه شهدآء }؛ إنه كذلك، ومعنى (استحفظوا): استودعوا.
قوله تعالى: { فلا تخشوا الناس واخشون }؛ خطاب لعلماء اليهود؛ أي لا تخشوا السفلة والجهال في إظهار نعت النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم، واخشوا عقابي في كتمانها، { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا }؛ أي لا تختاروا عرضا يسيرا من الدنيا، فإن الدنيا ما فيها قليل.
قوله تعالى: { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله }؛ ذهب الخوارج إلى أن معنى الآية: (ومن لم يحكم بما نزل الله وحكم بخلافه كان كافرا بفعل ذلك، اعتقادا كان أو غير ذلك)، وكفروا بذلك كل من عصى الله تعالى بكبيرة أو صغيرة، وأداهم ذلك إلى الضلال والكفر تكفيرهم الأنبياء صلوات الله عليهم بصغائر ذنوبهم!
وأما عامة أهل الإسلام قالوا: إن المراد بهذه الآية: أن من جحد شيئا مما أنزل الله مثل ما فعله اليهود من التحريف والتبديل وإنكار بعض آيات الله تعالى، { فأولئك هم الكافرون }؛ أي أهل هذه الصفة بمنزلة الكافر بالكتب وبالرسل كلها.
يدل على هذا أنه لا خلاف أن من لم يقض بينهم بما نزل الله لا يكفر بأن لم يحكم؛ لأن أكثر الناس بهذه الصفة، والحاكم بين الناس في كثير حالاته لا يحكم، فإذا صلح الخوارج أن يزيدوا في ظاهر اللفظ فيقولوا معناه: (من لم يحكم بما نزل الله وحكم بخلافه) صلح لغيرهم أن يقولوا معناه: ومن لم يحكم بصحة ما نزل الله { فأولئك هم الكافرون } ، وهذا عام في اليهود وغيرهم.
[5.45]
قوله عز وجل: { وكتبنا عليهم فيهآ أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في الجراحات التي كانت بين بني قريظة وبني النضير، كان لبني النضير مقتل على بني قريظة، والدية والدم ضعف ما كان لبني قريظة) فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: وأوحينا على بني إسرائيل في التوراة: { أن النفس بالنفس } يعني أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاء، { والعين بالعين } بفقئهما، { والأنف بالأنف } يجدع به، { والأذن بالأذن } يقطع به { والسن بالسن } يقلع به، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن، وثقله غيره.
قوله عز وجل: { والجروح قصاص }؛ أي يجزئ فيها القصاص، والقصاص: عبارة عن المساواة، وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه، فأما ما كان من رضة أو هشمة لعظم، وهذه ركن لا يحيط العلم به، ففيه أرش أو حكومة.
قرأ الكسائي: (والعين) رفعا إلى آخره، وكذلك قوله (والجروح) رفعه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، ونصبوا سائر الحروف قبله، قالوا: لأن لها نظائر في القرآن؛ منها قوله تعالى:
أن الله بريء من المشركين ورسوله
[التوبة: 3] و
إن الأرض لله يورثها من يشآء من عباده والعاقبة للمتقين
[الأعراف: 128] و
وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة
[الجاثية: 32]. وقرأ نافع وعاصم وحمزة وخلف كلها بالنصب.
قوله تعالى: { فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون }؛ أي من عفا عن مظلمة في الدنيا، فهو كفارة للجراح لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أن القصاص كفارة له، وأما أجر العافي فعلى الله، قال الله تعالى:
فمن عفا وأصلح فأجره على الله
[الشورى: 40] وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، ورواية عن ابن عباس.
وقيل: معناه: فهو كفارة للمجروح وولي القتيل، وهو قول ابن عمر والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد. ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" من تصدق من جسده بشيء كفر الله بقدره من ذنوبه "
فمن عفا كان عفوه كفارة لذنوبه يعفو عنه الله ما أسلف من ذنوبه، وأما الكافر إذا عفا لا يكون عفوه كفارة له مع إقامته على الكفر. وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفارة له "
وروي: أن رجلا طعن رجلا على عهد معاوية رضي الله عنه؛ فأعطوه ديتين على أن يرضى، فلم يرض، فحدث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق به "
فتصدق به. وقال صلى الله عليه وسلم:
" " ثلاث من جاء بهن يوم القيامة مع الإيمان دخل الجنة من أي أبوابها شاء، وتزوج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، ومن قرأ دبر كل صلاة مكتوبة { قل هو الله أحد } عشر مرات، ومن أدى دينا خفيا " قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أو إحداهن يا رسول الله، قال: " أو إحداهن " ".
فأما القصاص في العين، فلا يجب إلا إذا ضربها رجل فأذهب ضوءها وهي قائمة، فإنه يسد العين الأخرى وحول إلى العين التي يجب فيها القصاص من الضارب بثوب أو قطن مبتل، ويحمى مره ويقرب إلى العين حتى يذهب ضوءها. وأما إذا قلعها فلا قصاص فيه؛ لتعذر استيفائها على المماثلة؛ لأنا لا نعلم للقلع حدا معلوما ينتهي إليه، وهذا كمن قطع لحما من فخذ رجل أو ذراعه، فإنه لا يجب القصاص.
وأما الأنف؛ فمعناه: إذا قطع المارن؛ وهو ما لان منه وجب فيه القصاص؛ أما إن قطعه من أصله فلا قصاص فيه؛ لأنه عظم لا يمكن استيفاؤه على المساواة، كمن قطع يد رجل من نصف الساعد. وعن أبي يوسف: (إن الأنف إذا استوعب ففيه القصاص، وكذلك الذكر واللسان).
وأما الأذن؛ فمعناه: إذا استوفيت بالقطع، وأما إذا قطع بعضها فلا قصاص فيها.
وأما السن؛ فمعناه: القلع وكسر البعض، لأن القلع يمكن استيفاؤه على المساواة، ولا يجوز استيفاء اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، وإن تراضيا على ذلك لأنه لا مساواة بينهما.
وأما المساواة في النفس فلا يشترط، ألا ترى أن الرجل يقتل بالمرأة، فعلم أن التساوي من الرجل والمرأة في الأنفس غير معتبر في القصاص، وفي الأطراف معتبر، ولهذا لا يجزئ عندنا بين الرجل والمرأة في الأطراف قصاص، ولا بين الحر والعبد لعدم التساوي بين الطرفين في البدل، وكذلك بين العبد والعبد لا يمكن معرفة التساوي بين أطرافهما في البدل.
قوله تعالى: { والجروح قصاص } يعني التي لها حد معلوم مثل الموضحة ونحوها، وأما ما ليس له حد معلوم لا يمكن مراعاة التساوي فيه، ففيه الأرش دون القصاص.
[5.46]
قوله عز وجل: { وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة }؛ الآية أي اتبعنا النبيين الذين ذكرناهم بعيسى عليه السلام وجعلناه ممن يقفوهم، يقال: قفوت أثر فلان؛ إذا اتبعته. وحقيقة التقفية: الإتيان بالشيء في قفا غيره.
قوله: { مصدقا لما بين يديه } نصب على الحال من عيسى، كان مصدقا بالكتاب الذي أنزل قبله وهو التوراة. قوله تعالى: { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه }؛ أي أعطيناه الإنجيل فيه هدى من الضلالة، وبيان الأحكام، قوله تعالى: { فيه هدى ونور ومصدقا } نعت الإنجيل الذي أعطيناه ذلك كتابا، أو وموافقا لما تقدمه، { من التوراة وهدى }؛ أي بيانا لنعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، { وموعظة للمتقين }؛ أي نهيا للذين يتقون الفواحش والكبائر.
[5.47]
قوله عز وجل: { وليحكم أهل الإنجيل بمآ أنزل الله فيه }؛ أي وليقض أهل الإنجيل، وهذا جزم بالأمر؛ أي قلنا لهم: احكموا بما أنزل الله في الإنجيل. قال الكلبي: (بين الله حكم الرجم على الزاني المحصن، وحكم القصاص في النفس والأطراف، وحكم القطع على السارق في التوراة والإنجيل وفيما أنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، وجميع هذه الكتب يصدق بعضها بعضا).
قرأ الأعمش وحمزة: (وليحكم) بكسر اللام وفتح الميم؛ أي آتيناه الإنجيل لكي يحكم، وقرأ الباقون بجزم اللام والميم. قال مقاتل: (أمر الله الربانيين أن يحكموا بما في التوراة، وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل، فكفروا وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ وقالوا: العزير ابن الله، وقالوا: المسيح ابن الله).
قوله تعالى: { ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الفاسقون }؛ أي من لم يحكم بما أنزل الله في كتبه على رسله، فأولئك هم الخارجون عن أمر الله.
[5.48]
قوله تعالى: { وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب }؛ أي وأنزلنا إليك يا محمد القرآن بالصدق، وموافقا لما تقدم من الكتب في التوحيد، وبيان الحق من الباطل، { ومهيمنا عليه }؛ أي أمينا ومؤتمنا على ما قبله من الكتب. ويقال: شاهدا على الكتب كلها، وهذا وصف خاص للقرآن دون ما سواه.
وأصل مهيمن: مؤتمن، على وزن مفيعل من الأمانة، إلا أن الهاء أبدلت من الهمزة كما قالوا: أرقت الماء وهرقت الماء، وأناك وهناك، وهيهات وأيهات، ونظير المهيمن: مسيطر. قال الشعبي والكسائي ورواية الكلبي عن ابن عباس معنى قوله { ومهيمنا عليه } أي شاهدا، قال الشاعر:
إن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألباب
أي شاهدا. وقال ابن جبير وأبو عبيد والحسن: (أمينا)، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. وأمانة القرآن أنه أمين على ما قبله من الكتب وهي فيما أخبر به أهل الكتاب في كتبهم، فإن كان ذلك في القرآن فصدقوا وإلا كذبوا. وقال الضحاك : (مهيمنا؛ أي قاضيا). وقال عكرمة: (دالا). وقال ابن زيد: (مصدقا). وقال الخليل: (رقيبا وحافظا).
ويقال: هيمن فلان على كذا إذا شاهده وحفظه. تقول العرب للطائر إذا طار، وحول وكره، ورفرف على فرخه صيانة له: هيمن الطير يهيمن، وكذلك يقال للطائر إذا أرخى جناحيه يسعهما بيضه وفرخه ورفرف على فرخه صيانة له. ومنه قيل لله عز وجل: المهيمن، أي الرقيب الرحيم.
قوله تعالى: { فاحكم بينهم بمآ أنزل الله }؛ أي فاحكم في الزاني والزانية بالرجم، ويقال: احكم بين بني قريظة وبني النضير في الجراحات التي بينهم في التسوية بين الفريقين، { ولا تتبع أهوآءهم }؛ أي لا تتبع مرادهم، { عما جآءك من الحق }.
قوله تعالى: { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }؛ أي جعلنا لكل نبي منكم يا معشر الأنبياء فرائض وسننا، والشرعة والشريعة: هو التخلص إلى الجنة كشريعة الأنهار والحياض في الدنيا، وهو التخلص إلى الشرب والاستقامة، وأصل الشرعة من قولهم: شرع فلان يشرع شروعا إذا دخل في الأمر دخولا ظاهرا، ويقال: الشرعة والمنهاج كلاهما الطريق، والطريق ها هنا الدين، وقد يعبر عن الشيء الواحد بلفظين مختلفين تأكيدا للكلام.
وقال المبرد: (الشرعة: ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر). ويقال: عنى المنهاج: الدلائل الواضحة التي يستدل بها على الفرائض من كتاب وسنة، وقيل: معناه: لكل جعلنا منكم سبيلا وسنة. والمنهاج: الطريق المبين الواضح.
قال المفسرون: عنى بذلك جميع أهل الملل المختلفة، جعل الله لكل ملة شرعة ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، يحل فيها ما شاء ويحرم فيها ما شاء، فالدين واحد والشريعة مختلفة.
قوله تعالى: { ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة }؛ أي لجعلكم على أمر واحد في دعوة جميع الأنبياء، { ولكن ليبلوكم }؛ أي ولكن ليختبركم، { في مآ آتاكم }؛ فيما أعطاكم من الكتب، وفيما أمركم من السنن والشرائع المختلفة، فيتبين من يطيع الله ومن يعصيه.
قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات }؛ أي بادروا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرات والطاعات والأعمال الصالحة قبل الفوت والموت. قال صلى الله عليه وسلم:
" اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك "
قوله تعالى: { إلى الله مرجعكم جميعا }؛ أي إلى الله مرجع من آمن، ومن لم يؤمن، { فينبئكم }؛ فيجزيكم يوم القيامة، { بما كنتم فيه تختلفون }؛ من أمر الدين والشريعة.
[5.49]
وقوله عز وجل: { وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم }؛ معناه: أنزلنا إليك الكتاب بالحق، وبأن تحكم بين اليهود بما أنزل الله من رجم الزاني المحصن، والقصاص بين الشريف والوضيع، ولا تعمل بهواهم في الجلد، وترك الرجم، { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك }؛ أي أن يستزلوك عن بعض ما بين الله في كتابه.
قال ابن عباس: (وذلك أن يهود بني النضير مثل ابن صوريا وكعب بن أسد وغيرهم، قالوا فيما بينهم: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر! فأتوه فقالوا له: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعك كلهم ولن يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم فنؤمن بك، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حريصا على إسلامهم، فأنزل الله تعالى { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك } ).
قوله عز وجل: { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم }؛ أي إن أعرضوا عن حكمك، فاعلم إنما يريد الله أن يعاقبهم بالقتل في بني قريظة، وبالجلاء إلى الشام في بني النضير، { ببعض ذنوبهم }؛ أي بما سلف من ذنوبهم، وهو جحودهم لدينك ونعتك وصفتك والتوراة والإنجيل، { وإن كثيرا من الناس لفاسقون }؛ أي خارجون عن الطاعة ناقضون للعهد.
[5.50]
قوله عز وجل: { أفحكم الجاهلية يبغون }؛ قرأ ابن عامر (تبغون) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. ومعنى الآية: تطلبون من حكم الزنا والقصاص، وهم أهل الكتاب شيئا فيما لم ينزله الله عليكم كما يفعله أهل الجاهلية، وأي أحد أعدل في الحكم من الله تعالى. قوله سبحانه وتعالى: { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون }؛ أي من أيقن بين له عدل الله في حكمه.
[5.51]
قوله سبحانه وتعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض }؛ وذلك: أنه لما كانت وقعة أحد خاف الناس من المسلمين أن يظهر عليهم الكفار، فأراد من كان بينه وبين اليهود والنصارى صحبة أن يتولاهم ويعاقدوهم، فنهاهم الله عن ذلك. ومعناه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أحباء في العون والنصرة، بعضهم على دين بعض، { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }؛ إذا تولاه لأجل كفره صار كافرا مثله، وأما إذا تولاه لا لأجل كفره صار من جملة المستحقين العذاب لمخالفة أمر الله ولموالاته من أوجب الله عليه أن يعذبه. وقال عكرمة: (نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لبني قريظة حين رضوا بحكم سعد: إنه الذبح).
قوله سبحانه وتعالى: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين }؛ أي لا يرشد اليهود والنصارى إلى دينه، وحجته ما داموا على كفرهم.
[5.52]
قوله سبحانه وتعالى: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم }؛ وذلك أن المنافقين كانوا يودون يهود عرينة ونصارى نجران؛ لأنهم كانوا أهل ريف، وكانوا يمرون بهم فيقرضونهم، فقال المنافقون: كيف نقطع مودة قوم إن أصابتنا سيئة، واحتجنا إليهم وسعوا علينا في المنازل، وعرضوا علينا الثمار في القابل، فنزل قوله سبحانه وتعالى: { فترى الذين في قلوبهم مرض } أي ترى يا محمد الذين في قلوبهم شك ونفاق يبادرون إلى ولاية الكفار ومعاقدتهم، { يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة }؛ شدة وجدوبة.
ويقال: أراد بهذا القول أنهم يخشون أن لا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يدور الأمر على الحالة التي هم عليها فيحتاجون إلى الكفار. يقول الله سبحانه وتعالى: { فعسى الله أن يأتي بالفتح }؛ أي عسى أن يظهر المسلمون، و { عسى } من الله واجبة. وسمى النصر فتحا؛ لأن فيه الأمر المغلق.
قوله سبحانه وتعالى: { أو أمر من عنده }؛ معناه: أو يقضي بالخصب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقال هو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار أمر المنافقين وقتلهم، { فيصبحوا على مآأسروا في أنفسهم نادمين }؛ فيصبح المنافقون على ما أضمروا في أنفسهم من ولاية رؤوس اليهود والنصارى إليهم نادمين، فلا تنفعهم الندامة حينئذ.
[5.53]
قوله عز وجل: { ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم }؛ قرأ أهل الكوفة: (ويقول) بالواو والرفع على الاستئناف، وقرأ أهل البصرة بالنصب والواو عطف على (أن يأتي)، وقرأ الباقون برفع اللام وحذف الواو.
ومعنى الآية: يقول المؤمنون المخلصون عندما أظهر الله نفاق المنافقين: (أهؤلاء الذين أقسموا بالله) يعنون المنافقين الذين حلفوا بالله أنهم لمعكم على دينكم، { حبطت أعمالهم } ، بطل ما أظهروه من الإيمان والأعمال الصالحة, { فأصبحوا خاسرين }؛ فصاروا مغبونين في الوزر والعقوبة.
قوله سبحانه وتعالى: { جهد أيمانهم } تفسير للقسم بالله تعالى، فإن من يحلف بالله فقد بذل جهد يمينه، إذ لا يمين أعظم من اليمين بالله، ولا حرمة أكبر من حرمة الله. قال ابن عباس رضي الله عنه: (فجاء الله بالفتح ونصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء أمر الله من عنده بإجلاء بني النضير، وقتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم)، فندم المنافقون حين ظهر نفاقهم، وقال المؤمنون: { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم }.
[5.54]
قوله سبحانه وتعالى: { يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه }؛ قرأ أهل المدينة والشام (يرتدد) بدالين، وفي الآية تهديد لمن لا ثبات له على الإيمان. قال ابن عباس: (هم أسد وغطفان وأناس من كندة، ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر رضي الله عنه).
وكان من المرتدين فرقة يقال لهم بنو حنيفة باليمامة، ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان يدعي النبوة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
" من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله؛ أما بعد: فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك! وبعث بذلك رجلين من أصحابه نهشلا والحكم بن الطفيل، وكانا من سادات اليمامة، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: " أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ " قالا: نعم، فقال: " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ، ثم أجاب: " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب؛ أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين " ".
ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، وجعل مسيلمة يغلو أمره باليمامة يوما بعد يوم، فبعث أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد في جيش عظيم حتى أهلكه الله على يدي وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة، فكان وحشي يقول: (قتلت خير الناس في الجاهلية، وقتلت شر الناس في الإسلام).
ومن المرتدين أيضا طلحة بن خويلد رئيس بني أسد، وكان قد ادعى النبوة أيضا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتله أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليه خالد ابن الوليد، فقاتله قتالا شديدا، وهرب طلحة على وجهه نحو الشام، فلجأ إلى بني حنيفة فأجاروه، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
وارتد أيضا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من العرب منهم: فزارة ورئيسهم عيينة بن حصين، وبنو سليم وبنو يربوع، وطائفة من بني تميم، ورأسوا عليهم امرأة يقال لها سجاح بنت المنذر، وادعت النبوة ثم زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب.
وارتدت كندة ورئيسهم الأشعث بن قيس، وارتدت بنو بكر بن وائل بأرض البحرين، وكفى الله المسلمين أمر هؤلاء المرتدين، ونصر دينه على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخبار أهل الردة طويلة مشهورة فلا نطول بذكرها الكتاب.
قوله سبحانه وتعالى: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }؛ قال علي والحسن وقتادة: (هم أبو بكر وأصحابه)، وقال مجاهد: (هم أهل اليمن).
وقال عياض بن غنيم:
" لما نزلت هذه الآية أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال: " هم قوم هذا ". وقال صلى الله عليه وسلم: " أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبا وأرق أفئدة؛ الإيمان يمان، والحكمة يمانية " ".
وقال الكلبي: (هم أحياء من اليمن: ألفان من النجع ، وخمسة آلاف من كمدة وبحيلة، وثلاثة آلاف من أحياء الناس، فقاتلوا الذين ارتدوا عن الإسلام وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله سبحانه وتعالى: { أذلة على المؤمنين }؛ يلينون لهم جانبهم ليس هذا من الهوان، إنما هو من اللين والرفق، كما في قوله سبحانه وتعالى:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
[الإسراء: 24].
قوله سبحانه وتعالى: { أعزة على الكافرين }؛ أي أشداء أقوياء غلظاء على الكافرين، يغازون الكفار ويغالبونهم، ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى:
محمد رسول الله والذين معه أشدآء على الكفار رحمآء بينهم
[الفتح: 29] قال عطاء: (أذلة على المؤمنين: كانوا كالوالد لولده، وكالعبد لسيده، أعزة على الكافرين: كالسبع على فريسته). وقال السدي: (معنى قوله: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } يعني الأنصار).
" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية، فضرب بيده على عاتق سلمان الفارسي فقال: " هذا وذووه " ، ثم قال: " لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس " ".
قوله سبحانه وتعالى: { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم }؛ أي يقاتلون العدو في طاعة الله، ولا يخافون ملامة اللائمين، { ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء }؛ أي ذلك التمكين والتوفيق فضل من الله يكرم به من يشاء من كان أهلا لذلك، { والله واسع }؛ الفضل والرحمة، { عليم }؛ من يصلح للهدى.
[5.55]
قوله عز وجل: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }؛ قال ابن عباس:
" نزلت هذه الآية في مسلمي أهل الكتاب: عبدالله بن سلام وأصحابه، قالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية، ولا نجد متحدثا دون هذا المسجد، وإن قومنا من بني قريظة والنضير لما رأونا قد آمنا بالله ورسوله وتركناهم ودينهم، أظهروا لنا العداوة، وأقسموا أن لا يناكحونا ولا يواكلونا ولا يخالطونا، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد الموضع.
فبينما هم يشكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في المسجد يصلون فيه من قائم وراكع وساجد، إذا بمسكين يطوف يسأل الناس، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فقال له : " أعطاك أحد شيئا؟ " قال: نعم، قال: " ماذا؟ " قال: خاتم فضة، قال: " من أعطاكه؟ " قال: ذاك الرجل، فإذا هو علي رضي الله عنه، قال: " على أي حال أعطاكه؟ " قال: أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على عبدالله بن سلام وأصحابه ".
وألبسهم بما أبدلهم الله به من ولايته وولاية رسوله وولاية المؤمنين، ومعنى الآية: إنما حافظكم وناصركم الله ورسوله والمؤمنون الذي يقيمون الصلاة بحقوقها ويؤتون الزكاة في حال ركوعهم. وفي الآية دليل على إباحة العمل اليسير في الصلاة، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الآية قال عبد الله بن سلام وأصحابه: (رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء).
" وروي أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كان ذات يوم جالسا عند شفير زمزم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل رجل متعمم بعمامة قال: فهلا ابن عباس لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا قال ذلك الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أنا أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا، يقول على قائد البردة وقاتل الكفرة: " منصور من نصره، مخذول من خذله " ".
أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل رأسه إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسولك صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام فلم يعطني أحد، وكان علي راكعا فأومأ إليه نحوه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأخذ السائل الخاتم من خنصره وذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء قال:
" اللهم أخي موسى سألك قال: { رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري }. فأنزلت عليه { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنآ } ، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري "
قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون }.
[5.56]
قوله سبحانه وتعالى: { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا }؛ أي من تخير طاعة الله ورسوله ومحبة المؤمنين، { فإن حزب الله }؛ فإن جند الله، { هم الغالبون }.
[5.57]
قوله سبحانه وتعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }؛ وذلك أن اليهود كانوا إذا قام بلال للأذان يضحكون، ويستهزئون ويقولون: قام الغراب لا قام! وإذا قام المؤمنون للصلاة قالوا: قد قاموا لا قاموا! وإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزأوا بهم، وتغامزوا فيما بينهم تنفيرا للناس عن الصلاة وعن الداعي إليها.
ومعنى الآية: لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين يتخذون { دينكم هزوا ولعبا } أي استهزاء وسخرية، يسخرون منكم إذا أذن مؤذنكم، ويضحكون من صلاتكم إذا صليتم.
قوله سبحانه وتعالى: { والكفار }؛ فيه قراءتان: النصب والخفض، فمن نصبه فمعناه: لا تتخذوا الكفار، { أوليآء } ، وأراد بهم مشركي العرب، ومن خفضه فمعناه: من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار. وقوله سبحانه وتعالى: { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين }؛ أي اخشوه في ولاية الكافرين إن كنتم مؤمنين بالله وبرسوله.
[5.58]
قوله سبحانه وتعالى: { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا }؛ أي إذا ناديتم الناس إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوها سخرية واستهزاء وضحكا وباطلا، و { ذلك }؛ الاستهزاء واللعب، { بأنهم قوم لا يعقلون }؛ ثواب الله تعالى في إقامة الصلاة، ولا عقابه في إضاعته.
وروي: ((أن يهوديا كان إذا سمع المؤذن يقول: (أشهد أن محمدا رسول الله) قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه البيت بنار، فوقعت شرارة منها في البيت فالتهب، واحترق اليهودي هو وأهله، واستجيب دعاؤه على نفسه)).
وفي الآية دليل أن للصلاة أذانا يدعو به الناس إليها، ونظير هذا قوله تعالى:
إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
[الجمعة: 9]. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ثلاثة لا يكترثون من الحساب، ولا تفزعهم الصيحة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر: حامل القرآن العامل به، يقدم على الله سيدا شريفا، ومؤذن أذن سبع سنين لا يأخذ على أذانه طعاما، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه وأدى حق مولاه "
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أذن سنة من نية صادقة، أجلس يوم القيامة على باب الجنة، فقيل له: إشفع لمن شئت "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من أذن خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" المؤذن المحتسب كالشهيد المتشحط في دمه ما دام في أذانه، ويشهد له كل رطب ويابس، فإذا مات لم يدود في قبره "
قال عمر رضي الله عنه: لو كنت مؤذنا لكمل أمري، وما باليت أن لا أتنصب لقيام ولا لصيام، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" اللهم اغفر للمؤمنين، اللهم اغفر للمؤذنين "
[5.59]
قوله عز وجل: { قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ إلا أن آمنا بالله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل من قبل }؛ أي قل يا محمد: يا أهل الكتاب هل تطعنون علينا إلا لإيماننا بالله تعالى والقرآن، { وأن أكثركم فاسقون }؛ أي إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حق؛ لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرئاسة وكسبكم بها الأموال، فهل تدرون شيئا يعاب علينا إلا هذا؟ فلماذا تطعنون.
وأما قوله سبحانه وتعالى: { وأن أكثركم فاسقون } ، قال بعضهم: أراد بالأكثر كلهم، وأكثر الشيء يقوم مقام الكل. وقيل: إنما ذكر لفظ الأكثر؛ لأن الآية خرجت مخرج التلطف للدعاء إلى الإيمان، وكان في سابق علم الله سبحانه وتعالى أن فيهم من يسلم، وكان في القوم من يطعن بنفسه في دين الإسلام، وإن كان سكت عن طعن الطاعنين.
[5.60]
قوله سبحانه وتعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله }؛ وذلك أن اليهود قالوا للمسلمين: ما نعلم أهل دين أقل حظا منكم في الدنيا، ونرجو أن تكونوا في الآخرة! فأنزل الله هذه الآية؛ أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود: هل أخبركم بسوء من الذي قلتم جزاء، { من لعنه الله وغضب عليه }؛ أي أبعده عن رحمته، وسخط عليه وهم اليهود، فيكون موضع { من لعنه } رفعا على معنى (هو) ويجوز أن يكون خفضا بدلا من (شر) على معنى: هل أنبئكم بمن لعنه الله.
قوله سبحانه وتعالى: { وجعل منهم القردة والخنازير }؛ أي مسخ بعضهم قردة في زمن داود عليه السلام بدعائه عليهم حين اعتدوا في السبت واستحلوه، ومسخ بعضهم خنازير في زمن عيسى عليه السلام بعد أكلهم من المائدة حين كفروا بعد ما رأوا الآيات البينة. وروي: أنه لما نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود: (يا إخوة القردة والخنازير) فنكسوا رؤوسهم وفضحهم الله تعالى.
قوله سبحانه وتعالى: { وعبد الطاغوت }؛ فيه عشر قراءات، قرأ العامة (وعبد الطاغوت) بفتح العين والباء والدال على الفعل؛ ومعناها: وجعل منهم من عبد الطاغوت؛ أي بالغ في طاعة الشيطان والكهان ورؤساء المعصية. وقرأ ابن مسعود: (وعبدوا الطاغوت) أي ومن عبد الطاغوت، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة: بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت، وهو لغة في عبد، مثل سبع وسبع. وقرأ أبو جعفر الفراء: (وعبد الطاغوت) على الفعل المجهول، وقرأ الحسن: (وعبد الطاغوت) على الواحد.
وقرأ يزيد الأسلمي: (وعابد الطاغوت) بالأف، وقرأ ابن عباس: (وعبيد الطاغوت) بالجمع، وقرأ أبو واقد الليثي: (وعباد الطاغوت) مثل كفار، وقرأ عون العقيلي وإبان بن ثعلب: (وعبد الطاغوت) مثل راكع وركع، وقرأ عبيد بن عمير: (أعبد الطاغوت) مثل كلب وأكلب، وقرأ الأعمش: (وعبد الطاغوت) بضم العين والباء وكسر التاء من الطاغوت. قال الشاعر:
انسب العبد إلى آبائه
أسود الجلد من قوم عبد
قوله سبحانه وتعالى: { أولئك شر مكانا وأضل عن سوآء السبيل } فإن قيل: كيف معنى هذا ليس في الإيمان شر وضلال؟ قيل: سمة المشركين شر مكانا لا يوجب أن يكون في الإيمان شر وتطير. قوله سبحانه وتعالى:
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا
[الفرقان: 24] ومعلوم أنه لا خير في مستقر الكفار ومنقلبهم، فلما نزلت هذه الآية قال المسلمون ليهود: (يا إخوان القردة والخنازير) فسكتوا وأفحموا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود
إن اليهود إخوة القرود
[5.61]
قوله عز وجل: { وإذا جآءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به }؛ ومعناه: وإذا جاءكم المنافقون من أهل الكتاب قالوا آمنا بك، ونحن نعرف نعتك وصفتك، يقول الله: وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به؛ اي دخلوا عليكم، وخرجوا من عندكم كافرين في السر كما دخلوا خرجوا، وقوله: (وهم) للصلة والتأكيد؛ { والله أعلم بما كانوا يكتمون }؛ أي بما كانوا يضمرون في قلوبهم من الكفر والنفاق، فأعلمكم به وأطلعكم عليه.
[5.62]
قوله سبحانه وتعالى: { وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان }؛ أي وترى يا محمد كثيرا من اليهود والمنافقين يبادرون في المعصية والاعتداء والظلم، { وأكلهم السحت }؛ وأكل الرشوة والحرام في تغيير الأحكام، { لبئس ما كانوا يعملون }؛ من المعصية ومجاوزة الحد.
[5.63]
قوله سبحانه وتعالى: { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون }؛ معناه: هل ينهاهم العاملون بالعلم والعلماء الذين هم دونهم عن قول الشرك والكذب على الله، وأكل الحرام والرشوة في الحكم. قال الحسن: (الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود). ويقال: هو كله في اليهود، وقرأ أبو واقد الليثي: (لولا ينهاهم الربيون) كقوله تعالى:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير
[آل عمران: 146].
وقوله: { لبئس ما كانوا يصنعون } أي بئس ما يصنع علماؤهم من كتمانهم الحق، وتركهم النهي عن المعصية. قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك: (إن هذه الآية أشد الآيات في تخويف من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من رجل يجاور قوما فيعمل بالمعاصي بين أظهرهم، فلا يأخذون على يديه، إلا أوشك أن الله تعالى يعمهم منه بعقاب "
[5.64]
قوله عز وجل: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهودي وأصحابه، كان الله تعالى قد بسط لهم في الرزق، فكان من أخصب الناس، وأكثرهم خيرا وأموالا، فلما عصوا الله تعالى في محمد صلى الله عليه وسلم وبالغوا في تكذيبه، كف الله عنهم بعض الذي كان بسط عليهم، فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة). أي قالوا على سبيل الهزء: إن إله محمد الذي أرسله ممسكة يده عنان الرزق لا يبسط علينا كما كان يبسط. وهذا اللفظ في كلام العرب عبارة عن البخل، كما قال تعالى:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك
[الإسراء: 29] أي لا تمسكها عن الإنفاق.
قال بعضهم: إنما قال هذه المقالة فنحاص ولم ينهه الآخرون، ورضوا بقوله فأشركهم الله فيها، وأرادوا باليد العطاء، لأن عطاء الناس وبذلهم في الغالب بأيديهم، فاستعمل الناس اليد في وصف الناس بالجود والبخل. ويقال للبخيل: جعد الأنامل؛ مقبوض الكف؛ مكفوف الأصابع؛ مغلول اليدين، قال الشاعر:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها
وكل باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جعدا أنامله
كأنما وجهه بالخل منضوح
وقوله تعالى: { غلت أيديهم } جواب عن كلامهم على طريق المقابلة في الازدواج؛ أي أمسكت أيديهم عن الإنفاق في الخير، وجعلوا بخلاء واليهود أبخل الناس، ولا أمة أبخل منهم. ويقال: معنى { غلت أيديهم } أي غلت إلى أعناقهم في نار جهنم، ويقال: لا يخرج يهودي من الدنيا إلا وتصير يده مغلولة إلى عنقه.
قوله تعالى: { ولعنوا بما قالوا } أي عذبوا بالجزية، وطردوا عن رحمة الله تعالى لقولهم: { يد الله مغلولة }.
قوله تعالى: { بل يداه مبسوطتان }؛ عبارة عن الجود وكثرة العطية لمن يشاء، كما يقال: فلان بسط اليدين، وباسط اليدين إذا كان جوادا يعطي يمنة ويسرة، وعن ابن عباس: (أن معناه: بل نعمتاه مبسوطتان)، وأراد نعمة الدين والدنيا، وقيل: نعمته الظاهرة ونعمته الباطنة. وقيل: أراد بالتثنية في هذا للمبالغة في صفة النعمة. قال الأعشى:
يداك يدا مجد فكف مفيدة
وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
وهذا كله لأن اليهود قصدوا تبخيل الله، فحوسبوا على قدر كلامهم.
قوله تعالى: { ينفق كيف يشآء }؛ دليل على أن المراد بجواب اليهود بيان بسط النعمة، وأن الله يرزق كيف يشاء بحسب المصالح، فربما كان الصلاح في أن يعتبروا، وربما كان في أن يوسع، ولا يخلو حكمه عن الحكمة.
واعلم أن اليد في اللغة تتصرف على وجوه؛ منها: الجارحة وهي معروفة، وتعالى الله عن الجوارح. ومنها: النعمة كما يقال: لفلان علي يد؛ أي نعمة. ومنها: القوة كما قال تعالى:
أولي الأيدي والأبصار
[ص: 45] وقال تعالى:
والسمآء بنيناها بأييد
[الذاريات: 47].
ومنها: الملك
أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح
[البقرة: 237] أي يملكه. ومنها: القدرة كقوله
بيدي
[ص: 75] أي توليت خلقه، وفائدته التشريف. ومنها التصرف كما يقال: هذه الدار في يد فلان؛ أي هو يتصرف فيها بالسكنى والإسكان، وقد يقال: أسلم فلان على يد فلان؛ أي كان سببا في إسلامه.
قوله عز وجل: { وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا }؛ معناه: ليزيدن القرآن الذي أنزل إليك، وما فيه من الإسلام، وحكم الرجم كثيرا من اليهود طغيانا وكفرا؛ أي كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم.
قوله تعالى: { وألقينا بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة }؛ أي جعلناهم مختلفين في دينهم متباغضين كما قال تعالى:
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
[الحشر: 14].
وقوله تعالى: { كلمآ أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله }؛ أي كلما أجمعوا على قتالكم وأعدوا للحرب، فرق الله جمعهم وأطفأ مكرهم وخالف بين كلمتهم. وقوله تعالى: { ويسعون في الأرض فسادا }؛ أي يجتهدون في دفع الإسلام { والله لا يحب المفسدين }؛ أي لا يرضى عمل أهل الفساد.
[5.65-66]
قوله تعالى: { ولو أن أهل الكتب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنت النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل }؛ أي ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، ولم يكتموا ما علموا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيها، وعملوا ب؛ { ومآ أنزل إليهم من ربهم }؛ يعني القرآن الذي أنزل على كافة الناس، { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم }؛ أي لوسعنا عليهم الرزق بإنزال المطر من السماء، وإخراج النبات من الأرض والشجر والنبات. وفي الآية بيان أن التقى سبب لتوسعة الرزق، واستقامة الأمر في الدنيا والآخرة، ونظير هذا قوله تعالى:
ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السمآء والأرض
[الأعراف: 96] وقوله تعالى:
ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب
[الطلاق: 2-3].
قوله تعالى: { منهم أمة مقتصدة }؛ أي من أهل الكتاب أمة عادلة، يعني جماعة عادلة في القول، وهم الذين أسلموا منهم، وهم ثمانية وأربعون رجلا: النجاشي وأصحابه من النصارى، وبحيرا الراهب وأصحابه، وسلمان الفارسي وأصحابه، وعبدالله بن سلام وأصحابه، وجبر مولى قريش، { وكثير منهم سآء ما يعملون }؛ أي كثير من أهل الكتاب ساء ما يعملون من كتمان نعت النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه، وهم: كعب بن الأشرف وأصحابه وسوف تسوؤهم أعمالهم يوم القيامة إذا رأوا وبالها.
[5.67]
قوله عز وجل: { يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك }؛ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر له أن يبلغ الناس جميع ما أنزل إليه من ربه من القرآن. قوله تعالى: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }؛ معناه: إن لم تبلغ آية مما أنزل إليك، أو حكما أمرت بتبليغه إليهم، فكأنك لم تبلغ شيئا من الرسالة؛ أي يحصل لك الثواب الموعود على تبليغ الرسالة من قبل، وإن كتمان آية واحدة تحبط ثواب ما بلغ من الرسالة.
يقال: إن في هذه الآية دليلا على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر بشيء خاص تأنى قليلا عن تبليغه حذرا وخوفا أن يبتليه الله، كما ابتلى قبله إبراهيم بالنار وإسماعيل بالذبح وزكريا ويحيى بالقتل، وكان صلى الله عليه وسلم عازما على فعل ما أمر به مع خوفه، فقيل له إن لم تفعل ما أمرت به من دعوتهم إلى الإسلام، وعبت دينهم فقد بطل جميع ما فعلت من قبل التبليغ، كأنك لم تبلغ شيئا من الرسالة، ولهذا قرأ نافع وابن عامر وعاصم: (رسالاته) بلفظ الجمع، وقد يذكر الواحد ويراد به الجماعة.
قوله تعالى: { والله يعصمك من الناس }؛ أمان من الله للنبي صلى الله عليه وسلم كيلا يخاف ولا يحذر، كما روي في الخبر:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة قالت له اليهود: يا محمد إنا ذوو عدد وناس، فإن لم ترجع قابلناك، وإن رجعت زودناك وأكرمناك. فكان عليه السلام يحرسه مائة من المهاجرين والأنصار يبيتون عنده، ويخرجون معه خوفا من اليهود، فلما نزل قوله: { والله يعصمك من الناس } علم أن الله يحفظه من كيد اليهود وغيرهم، فقال للمهاجرين والأنصار: " انصرفوا إلى رجالكم، فإن الله قد عصمني من اليهود " "
فكان صلى الله عليه وسلم عند ذلك يخرج وحده في أول الليل وعند السحر إلى أودية المدينة وحيث ما شاء، فعصمه الله مع كثرة أعدائه وقلة أعوانه، فعاش حميدا ومات سعيدا صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { إن الله لا يهدي القوم الكافرين }؛ أي لا يرشدهم إلى دينه وحجته، ولا يهديهم إلى طريق الجنة في الآخرة.
[5.68]
قوله تعالى: { قل يأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ومآ أنزل إليكم من ربكم }؛ أي لستم على شيء من الدين والثواب إلا أن تقروا بما في التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوته وسائر الأحكام التي فيها، وتقروا بالقرآن الذي أنزل على كافة الناس من ربهم.
قوله تعالى: { وليزيدن كثيرا منهم مآ أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا }؛ قد ذكرنا تفسيره، { فلا تأس على القوم الكافرين }؛ أي ليس عليك إلا تبليغ الرسالة فلا تحزن عليهم إن كذبوك؛ أي لا تحزن على هلاكهم إذا أهلكناهم.
[5.69]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }؛ معنى الآية: إن الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، والذين مالوا عن الإسلام وسموا باليهودية، والذين صبت قلوبهم، وهم صنف من النصارى يقال لهم السابحون يحلقون أوساط رؤوسهم.
ويقال: الصابئ هو الخارج من ملة فيها أمة عظيمة إلى ملة فيها شرذمة قليلة.
قوله تعالى: { من آمن بالله } أي من آمن من هذه الفرق بالله وبجميع ما أنزل الله، والبعث بعد الموت، وعمل صالحا فيما بينه وبين الله، فلا خوف عليهم، حيث يخاف أهل النار، ولا هم يحزنون حيث يحزن أهل النار.
وأما الرفع في قوله: { والصابئون }: فقال الكسائي: هو نسق على المضمر في { هادوا } تقديره: هادوهم والصائبون. وقال الخليل وسيبويه والبصريون قوله: { والذين هادوا والصابئون } مرفوع بالابتداء؛ تقديره: إن الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا والصابئون والنصارى، من آمن بالله واليوم الآخر. وقيل: إنما رفع لأنه عطف على { الذين } قبل دخول { إن }؛ لأنه لا يحدث معنى، كما تقول: زيد قائم، وإن زيدا قائم معناهما واحد. وقرأ الحسن: (إن الله وملائكته) برفع التاء.
وأما نفي الحزن عن المؤمنين ها هنا، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه لا يكون عليهم حزن في الآخرة ولا خوف، ونظيره قوله تعالى:
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا
[فصلت: 30].
وقال بعضهم: إن المؤمنين يخافون ويحزنون لقوله تعالى:
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت
[الحج: 2] وقوله تعالى:
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه
[عبس: 34-35]. وقال صلى الله عليه وسلم:
" " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة " فقالت عائشة: واسوأتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: " أما سمعت قوله تعالى: { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه } " "
قالوا: وإنما نفى الله تعالى في هذه الآية الحزن عن المؤمنين؛ لأن حزنهم لما كان يعرض الزوال، ولم يكن له بقاء معهم لم يعتد بذلك.
[5.70]
قوله عز وجل: { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل }؛ أي أخذنا عهد بني إسرائيل على أن يعملوا بما في التوراة والإنجيل، وكل نبي يبعثه الله إلى قومه فآمنوا به، فذلك أخذ ميثاقهم ، { وأرسلنآ إليهم رسلا كلما جآءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم }؛ أي كلما جاءهم رسول بما لا يوافق هواهم ولا ما هم عليه، { فريقا كذبوا }؛ أي كذبوا جماعة من الرسل مثل عيسى ومحمد صلوات الله عليهما، { وفريقا يقتلون }؛ مثل زكريا ويحيى عليهما السلام.
[5.71]
قوله تعالى: { وحسبوا ألا تكون فتنة }؛ أي ظنوا ألا يكون عذابا وعقوبة، وقيل: ابتلاء بسبب قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل. من قرأ (يكون) بالنصب فمعنى (أن يكون)، ومن قرأ بالرفع فمعناه: (أنه لا يكون) أي فحسبوا أن فعلهم غير فاتن لهم، { فعموا وصموا }؛ عن الحق؛ أي عملوا معاملة الأعمى الذي لا يبصر، والأصم الذي لا يسمع، فصاروا كالعمي والصم. { ثم تاب الله عليهم }؛ أي تجاوز عنهم بأن أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم يعلمهم أنه قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا فلم يؤمن أكثرهم، ويقال: دانوا بعد ذلك وتابوا من الكفر فقبل الله توبتهم، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وجاءهم ما عرفوا كفروا به، فذلك قوله: { فعموا وصموا } أي عموا عن الهدى، وصموا عن الحق بعد أن ازداد لهم الأمر وضوحا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ثم عموا وصموا كثير منهم }؛ بدل من الواو في قوله { عموا } كأنه قال: عمي وصم كثير منهم، وهذا كما يقال: جاءني قومك أكثرهم، وقوله: { كثير منهم } يقتضي في المرة الثانية أنهم لم يكفروا بأكملهم، وإنما كفر أكثرهم، كما قال تعالى:
ليسوا سوآء من أهل الكتاب أمة قآئمة
[آل عمران: 113] وقال تعالى:
منهم أمة مقتصدة
[المائدة: 66].
ويحكى عن بعض أهل اللغة جواب جمع الفعل متقدما على الاسم، كما يقال: أكلوني البراغيث، ويجوز أن يكون { كثير } خبر مبتدأ محذوف؛ معناه: العمي والصم كثير منهم.
وقوله: { والله بصير بما يعملون }؛ أي بما تعملون من التكذيب ونقض الميثاق وتحريف الكلام.
[5.72-73]
قوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم }؛ نزلت في نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما، وهم الماريعقوبية؛ قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم.
قوله تعالى : { وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله }؛ إعلام من الله تعالى أن المسيح دعاهم إلى توحيد الله تعالى، وأعلمهم أن شيئا حاله في أمه مربوب كحالهم، وأعلمهم أن من أشرك مع الله شيئا غيره فهو كافر من أهل النار، فذلك قوله تعالى: { اعبدوا الله ربي وربكم } أي وحدوه، فهو خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم. { فقد حرم الله عليه الجنة }؛ أن يدخلها، { ومأواه النار }؛ ومصيره في الآخرة النار، { وما للظالمين من أنصار }؛ أي ما للمشركين من مانع يمنعهم من عذاب الله.
ثم بين الله كفر الفريق الآخر من النصارى، وهم المرقوشية، فقال عز وجل: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة }؛ أي أحد ثلاثة: أب؛ وابن؛ وروح قدس، { وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا }؛ أي المنافقون؛ { عما يقولون }؛ من مقالتهم الأولى والثانية، { ليمسن الذين كفروا }؛ أي ليصيبن الذين أقاموا على مقالة الكفر، { منهم عذاب أليم }؛ وجيع يخلص وجعه إلى قلوبكم.
[5.74]
قوله تعالى: { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه }؛ أول هذه الآية استفهام، ومعناها الآمر؛ أي توبوا إلى الله عن النصرانية، واستغفروه من هذه المقالة الشنيعة، { والله غفور }؛ لمن تاب وآمن، { رحيم }؛ بمن مات على التوبة.
[5.75]
قوله عز وجل: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }؛ أي ما المسيح إلا رسول من رسل الله، فإن إبراء الأكمه والأبرص، وإتيانه بالمعجزات كما أتى موسى بالمعجزات؛ أي الآيات، وكما أتى إبراهيم عليه السلام وغيرهما من الأنبياء، فلو وجبت عبادة الأنبياء لظهور المعجزات عليه لوجبت عبادة سائر الأنبياء واتخاذهم آلهة بسبب المعجزات، { وأمه صديقة }؛ أي كثيرة الصدق والتصدق، وذلك أن جبريل عليه السلام أتاها فقال لها: إنما أنا رسول ربك؛ فصدقته، كما قال تعالى:
وصدقت بكلمات ربها
[التحريم: 12].
قوله عز وجل: { كانا يأكلان الطعام }؛ بيان أنهما كانا محدثين محتاجين، وهذا احتجاج بين على القوم في أنه لم يكن إلها؛ لأن الله تعالى وصفه في الآية بصفات تنافي الآلهية، منها: أنه رسول بعد أن لم يكن، ومنها: أنه كسائر الرسل فيما ظهرت منه وعليه، ومنها: أنه مولود من أم، ومنها: أنهما كانا يعيشان بالغداء كما يعيش سائر الآدميين، وكيف يكون إلها من تكون حياته بالحيلة ولا يقيمه إلا أكل الطعام.
ومنها ما قالوا: إن أكل الطعام في الآية كناية عن قضاء الحاجة؛ لأن الذي يأكل الطعام لا بد له من قضاء الحاجة. فكل هذه الصفات دلالة على كونه عبدا مخلوقا مربوبا مستحيلا أن يكون إلها قديما، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قوله تعالى: { انظر كيف نبين لهم الآيات }؛ أي انظر يا محمد كيف نبين لهم العلامات في أمر عيسى أن لم يكن إلها ولا ابنا له ولا ثالث ثلاثة، { ثم انظر }؛ يا محمد، { أنى يؤفكون }؛ أي من أين يصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل.
والإفك: هو الصرف، كل شيء صرفته فهو مأفوك، تقول: أفكته عنه أفكه إفكا، ويسمى الكذب إفكا؛ لأنه يصرف عن الحق.
[5.76]
قوله تعالى: { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا }؛ أي قل يا محمد لهؤلاء النصارى ومن سلك طريقتهم واتخذ غير الله إلها: أتعبدون من دون الله ما لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا جر نفع إليكم، { والله هو السميع }؛ لمقالتكم في عيسى عليه السلام وأمه، { العليم }؛ بكم وبعقوبتكم.
[5.77]
قوله عز وجل: { قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق }؛ أي قل لهم يا محمد: لا تتجاوزوا الحد في دينكم إلى غير الحق فتقولوا: هل فعل أحد مثل فعل عيسى؟ وتجعلوا لله ولدا؟ فإنه ليس بحق، ويقال: هذا خطاب لليهود والنصارى؛ أي لا ترفعوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة إلى درجة الربوبية، ولا تحطوه عن درجته فتقولوا: إنه مولود على غير رشده.
قوله تعالى: { ولا تتبعوا أهوآء قوم قد ضلوا من قبل }؛ أي لا تتبعوا شهوات أوليائكم ورؤسائكم، ولا تؤثروا الهوى على البيان والبرهان، { وأضلوا كثيرا }؛ من السفلة الذين أطاعوهم، { وضلوا عن سوآء السبيل }؛ وأصروا على ضلالتهم عن قصد الطريق.
[5.78-79]
قوله تعالى : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل }؛ أي طرد الذين كفروا من بني إسرائيل وبوعدوا من رحمة الله، { على لسان داوود }؛ أي بدعائه عليهم حين اعتدوا في السبت، فمسخهم الله قردة. { وعيسى ابن مريم } ، أي ولعنوا بدعاء عيسى حين كفروا بعد ذلك بالمائدة فمسخهم الله خنازير، { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }؛ ذلك اللعن والتعذيب بعصيانهم واستحلالهم المعاصي وقتلهم الأنبياء عليهم السلام بغير حق.
ثم بين الله تعالى سبب المعصية والكفر، فقال تعالى: { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه }؛ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعملونه، واصطلحوا على الكف عن نهي المنكر، { لبئس ما كانوا يفعلون }؛ ودخول اللام في (لبئس) للقسم والتوكيد.
[5.80]
قوله عز وجل: { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا }؛ ترى يا محمد كثيرا من اليهود يوالون مشركي العرب على معاداتك ومحاربتك، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه. وقيل: معناه: ترى كثيرا من المنافقين يتولون اليهود، { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم }؛ أي بئس ما عملوا لأنفسهم حين، { أن سخط الله عليهم }؛ وموضع (أن سخط) نصب على تأويل بئس الشيء ذلك لإن أكسبهم السخط، فانتصب (أن) بلام (كي)، ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار (هو) تقديره: هو أن سخط الله عليهم، { وفي العذاب هم خالدون }؛ أي مقيمون دائمون.
[5.81]
قوله تعالى: { ولو كانوا يؤمنون بالله }؛ معناه: لو كان اليهود يصدقون بوحدانية الله تعالى: { والنبي } ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، { وما أنزل إليه }؛ أي والقرآن الذي أنزل إليه؛ { ما اتخذوهم أوليآء } ، ما اتخذوا كفار قريش وسائر عبدة الأوثان أحباء في العون والنصرة على حرب النبي صلى الله عليه وسلم { ولكن كثيرا منهم }؛ من اليهود؛ { فاسقون }؛ خارجون عن الطاعة، ناقضوا العهد.
[5.82]
قوله عز وجل: { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا }؛ أي لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة لك وللذين آمنوا اليهود، وهم يهود بني قريظة وبني النضير وفدك وخيبر، كانوا أشد اليهود عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله "
قوله تعالى: { والذين أشركوا } يعني مشركي العرب كانوا في العداوة مثل اليهود.
قوله تعالى: { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى }؛ لم يرد جميع النصارى مع ما هم فيه من عداوة المسلمين، وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وقتلهم وأسرهم وأخذ مصاحفهم. وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه. قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: (نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه، وكان النجاشي ملك الحبشة نصرانيا قبل ظهور الإسلام، ثم أسلم هو وأصحابه).
قال المفسرون: ائتمرت قريش أن يفتنوا المسلمين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين، يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن كثير، وعصم الله من شاء منهم، ومنع الله النبي صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه، ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال:
" إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا "
، وأراد به النجاشي واسمه أصحمة، وهو بالحبشية عطية، وإنما النجاشي اسم الملك، كقولهم: كسرى وقيصر.
فخرج إليه سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير، وعبدالله بن مسعود، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهيل، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة وامرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت جثمة، وحاطب بن عمر، وسهيل بن بيضاء. فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف مثقال إلى الحبشة، وذلك في رجب في السنة الخامسة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى.
ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك وجهت عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردوهم إليهم، فعصمهم الله تعالى، وقد ذكرنا هذه القصة في سورة آل عمران.
فلما انصرفا خائبين أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره، وذلك في سنة ست من الهجرة.
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت هاجرت إليه مع زوجها، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها برهة، فأخبرتها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فأنكحها على صداق أوزن بمائة مثقال، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي، وأنفد الصداق إلى أم حبيبة على يدي برهة، فلما جاءتها بذلك أعطتها خمسين مثقالا، فقالت برهة: إن الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئا، فردته إليها ولم تأخذه.
ثم قالت لها برهة: أنا صاحب دهن الملك وبناته، وقد صدقت بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به، فحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام، ثم أمر الملك نساءه أن يبعثن إلى أم حبيبة بما عندهن من عود وعنبر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها ولا ينكره.
وقالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين، وبعث معنا النجاشي الملاحين، فلما خرجنا من البحر ركبا الظهر إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه، فأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشي فبلغته سلام برهة فرد عليها السلام، وأنزل الله تعالى:
عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة
[الممتحنة: 7] يعني أبا سفيان، (ومودة): تزويج أم حبيبة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا أدري أيا بفتح خيبر أسر أم بقدوم جعفر "
وبعث النجاشي بعد أن قدم جعفر المدينة ابنه أرهى بن أصحمة في ستين راكبا من الحبشة، وكتب إليه: يا رسول الله، إني أشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا، قد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني، وإن شئت أن آتيك بنفسي، فعلت. والسلام عليك يا رسول الله. فركبوا سفينة في إثر جعفر وأصحابه، فلما بلغوا وسط البحر غرقوا.
وكان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل في سبعين رجلا منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام منهم بحيرا الراهب، قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان أنزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله تعالى فيهم، { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } ووفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم سبعون.
وقال مقاتل والكلبي: (كانوا أربعين رجلا، اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام). وقال عطاء: (ثمانون رجلا، أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الروم من أهل الشام).
قال قتادة: (نزلت هذه الآية في النصارى الذين هم متمسكون بشريعة عيسى عليه السلام) يعني أن النصارى كانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود، فقوله: (وإذا سمعوا) على هذا التأويل معناه: وإن منهم من إذا سمعوا، أو منهم قوم إذا سمعوا.
وفي الآية ما يشهد لهذا القول أيضا؛ لأن الله تعالى وصفهم بقرب مودتهم للمسلمين، ولم يصفهم بأنهم يوادون المسلمين، ولا يجوز أن يعتقد أحد أن في الآية مدحا للنصارى، وإخبارا أنهم خير من اليهود إلا في معنى شدة العداوة، لأن من أمعن النظر في مقالة اليهود والنصارى علم أن مقالة النصارى أظهر فسادا من مقالة اليهود، لأن اليهود يقرون بالتوحيد في الجملة، وإن كانت فيهم مشبهة تنقض القول بالتوحيد بالشبه، والنصارى لا يكونون مقرين بالتوحيد بوجه من الوجوه.
قوله عز وجل: { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا }؛ معناه: إن قرب مودة النصارى للمسلمين،؛ وقلة مظاهرتهم للمشركين بأن من النصارى قسيسين؛ أي علماء وعباد أصحاب الصوامع، { وأنهم لا يستكبرون }؛ عن اتباع الحق إذا تبين لهم.
والقسيسين في اللغة مأخوذ من القس وهو الشر، يقال: قس فلان الأذى إذا تبعه، والقس: النميمة أيضا. والرهبان: العباد أصحاب الصوامع. وقال قطرب: (القسيس: العالم) بلغة الروم، والرهبان: جمع راهب مثل فارس وفرسان وركبان، وقد يكون رهبان واحد وجمعه رهابين مثل قربان وقرابين. وهو من قول القائل رهب الله أي خافه.
[5.83-84]
قوله عز وجل: { وإذا سمعوا مآ أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }؛ قال ابن عباس: (هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر ابن أبي طالب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشام، فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن عرفوه، فرقوا له ففاضت أعينهم ولم يستكبروا أن يدخلوا في دينه).
ومعنى الآية: وإذا سمعوا القرآن ترى الدمع يسيل من أعينهم بمعرفتهم الحق من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم، { يقولون ربنآ آمنا }؛ أي صدقنا بوحدانيتك وكتابك ورسولك، { فاكتبنا مع الشاهدين }؛ أي مع من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك واحد لا إله غيرك؛ أي اجعلنا في جملتهم.
قال ابن عباس: فلما رجعوا إلى قومهم لاموهم على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقالوا لهم: تركتم ملة عيسى عليه السلام ودين آبائكم، فردوا عليهم كما قال الله عز وجل: { وما لنا لا نؤمن بالله وما جآءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين }؛ أي نحن نرجو أن يدخلنا ربنا في الآخرة مع صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
[5.85]
قوله تعالى: { فأثابهم الله بما قالوا }؛ أي جازاهم الله بأن أوجب لهم الجنة في الآخرة بقولهم (ربنا آمنا)، وقولهم: (وما لنا لا نؤمن بالله). { جنات }؛ أي بساتين، { تجري من تحتها الأنهار }؛ تجري من تحت شجرها ومساكنها وغرفها أنهار الماء والعسل والخمر واللبن، { خالدين فيها وذلك جزآء المحسنين }؛ أي ذلك الثواب جزاء الموحدين المخلصين.
[5.86]
قوله تعالى: { والذين كفروا وكذبوا بآيتنآ } أي الذين جحدوا وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فماتوا على ذلك، ف { أولئك } ، هم، { أصحب } ، أهل، { الجحيم }؛ النار الشديدة الوقود.
[5.87]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل الله لكم }؛ قال المفسرون: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فذكر النار ووصف القيامة، فرق الناس وبكوا، فاجتمع جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أبو بكر؛ وعمر؛ وعلي؛ وعبدالله بن مسعود؛ وعثمان بن مظعون الجمحي؛ والمقداد؛ وعبدالله بن عمر؛ وأبو ذر؛ وسالم مولى أبي حذيفة؛ وسلمان الفارسي؛ وعمار بن ياسر؛ ومعقل بن مصرف رضي الله عنهم، تواثقوا في دار عثمان بن مظعون أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، ويجبوا مذاكيرهم ويعتزلوا النساء، ولا يأكلوا لحما ولا دسما، ويلبسوا المسوح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم هذه الآية).
ومعناها: لا تحرموا على أنفسكم طيبات ما أحل الله لكم من الطعام والشراب واللباس والجماع، ولا تظلموا أنفسكم بقطع المذاكير، { ولا تعتدوا }؛ أي لا تجاوزوا حدود الله بتحريم حلاله، فإن محرم ما أحل الله، كمحل ما حرم الله. قوله تعالى: { إن الله لا يحب المعتدين }؛ أي لا يرضى عمل المعتدين على أنفسهم المتجاوزين حدود الله.
[5.88]
قوله تعالى: { وكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا }؛ أي كلوا مما رزقكم الله من الطعام والشراب حلالا أحله الله لكم، { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون }. وقيل:
" أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم؛ أتى دار عثمان بن مضعون فلم يجده، فقال لامرأة عثمان بن مضعون - أم حكيم بنت أمية واسمها الخولة وكانت عطارة -: " أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ " فكرهت أن تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكرهت أن تبدي خبر زوجها؛ فقالت: يا رسول الله! إن كان أخبرك عثمان فقد صدق، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما جاء عثمان أخبرته زوجته بذلك، فعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: نعم. فقال عليه السلام: " أما أنا؛ فلم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا؛ فصوموا وأفطروا؛ وقوموا وناموا، فأنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، من رغب عن سنتي فليس مني ".
ثم جمع الناس وخطبهم وقال: " ما بال قوم حرموا النساء والطعام الطيب والنوم، أما أنا فلا آمركم أن تكونوا قسيسين أو رهبانا، فإنه ليس من ديني ترك اللحم والنساء، واتخاذ الصوامع، فإن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، واستقيموا ليستقيم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم " ".
وعن سعيد بن المسيب؛ قال:
" جاء عثمان بن مضعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن نفسي تحدثني بأن أختصي، قال: " مهلا يا عثمان! إن اختصاء أمتي الصيام ". قال: يا رسول الله! إن نفسي تحدثني أن أترهب في رؤوس الجبال، قال: " مهلا يا عثمان! فإن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة ".
قال: يا رسول الله! إن نفسي تحدثني أن أخرج من مالي كله. قال: " مهلا يا عثمان! فإن صدقتك يوم بيوم، وتعف بنفسك وعيالك، وترحم المساكين واليتيم، فتعطيهما أفضل من ذلك ". قال: يا رسول الله! إن نفسي تحدثني أن أطلق امرأتي خولة. قال: " مهلا يا عثمان! فإن الهجرة في أمتي من هجر ما حرم الله عليه، أو هاجر إلي في حياتي، أو زار قبري بعد وفاتي، أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع ".
قال: يا رسول الله! فإن نهيتني أن لا أطلقها فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها. قال: " مهلا يا عثمان! فإن المسلم إذا غشي امرأته أو ما ملكت يمينه فلم يكن له من رقعته تلك ولد، كان له وصيفة في الجنة. وإن كان من وقعته تلك ولد، فمات قبله كان له فرطا وشفيعا يوم القيامة. وإن مات بعده كان له نورا يوم القيامة ".
قال: يا رسول الله! نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم. قال: " مهلا يا عثمان! فإني أحب اللحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت ربي أن يطعمنيه في كل يوم لأطعمنيه ". قال: يا رسول الله! فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب. قال: " مهلا يا عثمان! فإن جبريل عليه السلام أمرني بالطيب غبا " ، وقال: " يوم الجمعة لا تركه، يا عثمان لا ترغب عن سنتي، فإن من رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب، صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة " ".
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج، ورأيته يأكل الرطب والبطيخ "
وعن ابن عباس؛ قال: (كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك ثنتان: سرف ومخيلة). وعن عائشة رضي الله عنها:
" " أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يأكل الدجاج والفالوذج، وكان يعجبه الحلواء والعسل "؛ وقال: " إن المؤمن حلو يحب الحلاوة " "
وقال:
" إن في بطن المؤمن زاوية لا يملأوها إلا الحلواء ".
وروي: أن الحسن كان يأكل الفالوذج، فدخل عليه فرقد السبخي، فقال: (يا فرقد، ما تقول في هذا؟) قال: لا آكله ولا أحب أكله، فأقبل الحسن على من عنده كالمتعجب؛ فقال: (لعاب النحل ولباب القمح، وسمن البقر أحل بعينه لكل مسلم).
وجاء رجل إلى الحسن فقال له: إن لي جارا لا يأكل الفالوذج، قال: (ولم؟) قال: لا يؤدي شكره، قال: (أفيشرب الماء البارد؟) قال: نعم، قال: (إن جارك هذا جاهل، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج).
[5.89]
قوله عز وجل: { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم }؛ قال ابن عباس: (هو أن يحلف الرجل بالله في الشيء يرى أنه كذلك). وقالت عائشة: (هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، يصل به كلامه ولا يعقد عليه قلبه). واللغو في اللغة: هو الكلام الساقط الذي لا يعتد به.
قوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان }؛ أي بما وكدتم الأيمان. قرأ أهل الحجاز وحفص وأبو عمرو: (عقدتم) بالتشديد، وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا: بالتخفيف (عقدتم). ومعناه: أن يحلف الرجل على أمر في المستقبل ليفعله ثم لا يفعله، أو يحلف أن لا يفعله ثم يفعله. فمن قرأ (عقدتم) بالتشديد فمعناه المبالغة والتأكيد. وفائدته أن يعتقدها في قلبه، ولو عقدها في أحدهما دون الآخر لم يكن معتقدا، وهو كالتعظيم.
وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله تعالى يقول: (قراءة التشديد لا تحتمل إلا العقد بالقول، وقراءة التخفيف تحتمل عقد القلب، وهو العزيمة والقصد إلى القول). ويحتمل عقد اليمين قولا؛ يقال: عقدت على أمر كذا؛ إذا عزمت عليه.
وقيل: الأصح أن المراد بالعقد القول؛ لأنه لا خلاف بين الأئمة أن القصد من اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة، وإن وجوبها متعلق باللفظ دون القصد. ويحتمل أن يكون معنى التشديد: أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار، وهو يريد التكرار لا يلزمه إلا كفارة واحدة.
وقرأ أهل الشام: (عاقدتم) بألف وهو من المعاقدة، وهو أن يحلف الرجل لصاحبه على مسألته، أو يحلف كل واحد منهما لصاحبه.
قوله تعالى: { فكفارته }؛ أي كفارة ما عقدتم من الأيمان عند الحنث، { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم }؛ أي من أعدل ما تطعمون أهليكم غداء وعشاء ولا وكس ولا شطط.
وقيل: معناه: من أوسطه في الشبع، ولا تفرط في الأكل، ولا يكون دون المغنى عن الجوع، فإن أراد أن يطعمهم الطعام أعطى لكل مسكين نصف صاع من حنطة عند أصحابنا، هكذا روي عن عمر وعلي وعائشة. وقال الشافعي ومالك: (مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم).
والمد: رطل وثلث، وهكذا روي عن زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم أجمعين. وأما غداؤهم وعشاؤهم فلا عبرة بمقدار الطعام، إلا أن يكون فيهم صبي صغير لا يستوفي الأشياء يسيرا فلا يعتد به حينئذ، وإنما قال: يغديهم ويعشيهم؛ لأن ذلك أوسط طعام الأهل؛ لأن أكثر الأكل ثلاث مرات، وأقله وجبة، والغالب الأوسط؛ والأوسط الغالب مرتان. وقال سعيد بن جبير: (يعطي لكل مسكين مدين؛ مد لطعامه ومد لإدامه).
وسئل شريح عن الكفارة؛ فقال: (الخبز والزيت). فقال له السائل: رأيت إن أطعمت الخبز واللحم، فقال: (ذلك أرفع طعام أهلك وطعام الناس).
وعن ابن مسعود وابن عمرو: (أن أعلا ما بطعام الأهل الخبز واللحم، والأدون الخبز البحت بغير إدام، والأوسط الخبز مع السمن ونحوه).
ظاهر الآية يقتضي أنه إذا أعطى مسكينا واحدا طعام العشرة لا يقع إلا عن الواحد، إلا أن أصحابنا إنما اختاروا دفع ذلك إلى الواحد في العشرة أيام على أعشار، والمعنى: لأنه جوز على الحانث سد عشر خلات، ولا فرق بين سد خلة الواحد في عشرة أيام، وسد خلة العشرة في يوم واحد.
قوله تعالى: { أو كسوتهم }؛ قرأ السلمي (أو كسوتهم) بضم الكاف وهما لغتان. ومعنى الآية: أو كسوة عشرة مساكين، وأدنى ما يجوز في الكسوة ثوب واحد أو رداء أو قميص أو إزار وقباء أو كساء. وأما القلنسوة والخمر والعمامة والسراويل، فلا تجوز عن الكسوة في ظاهر الرواية.
وروي عن محمد أن السراويل تجزئ لجواز الصلاة فيها للرجل. وعند الشافعي تجوز السراويل والعمامة. وعند سعيد بن المسيب والضحاك: (يجب لكل مسكين ثوبان).
قوله تعالى: { أو تحرير رقبة }؛ معناه: أو إعتاق مملوك يستوي فيه الذكر والأنثى؛ والصغير والكبير. وظاهر اللفظ يقتضي رقبة مسلمة من العاهات؛ لأن اسم الشخص بكماله، إلا أن الفقهاء اتفقوا أن النقص اليسير لا يمنع جوازها.
ولا يجوز عتق أم الولد، والمعتق بعضه بالإجماع، وأما المدبر فالخلاف فيه كالخلاف في بيعه، وأما المكاتب فيجوز عتقه عن الكفارة إذا لم يؤد شيئا من الكتابة عندنا. وقال الشافعي: (لا يجوز).
ويجوز عندنا عتق الرقبة الكافرة والمؤمنة في كفارة اليمين والظهار؛ لأن الرقبة مبهمة فيهما، إلا العبد المرتد؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه غير محقون الدم. وقال الشافعي: (لا يجوز قياسا على كفارة القتل).
قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام }؛ معناه: إذا لم يكن له فضل عن كسبه وثياب بدنه وما يقتات به في منزله مقدار ما يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم ويعتق رقبة، فعليه صيام ثلاثة أيام. وظاهر الآية: يقتضي أنه يجزئ في الصيام التفريق، وهو قول مالك والشافعي. وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). وعن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاووس؛ أنهم قالوا: (هي متتبعات).
قوله تعالى: { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم }؛ أي ذلك الذي ذكرت لكم، وأمرتكم به كفارة أيمانكم إذا حلفتم. وقوله تعالى: { واحفظوا أيمانكم }؛ أي احفظوها من الحنث، وهذا إذا لم يقع اليمين على منع واجب أو فعل معصية، أما إذا كان اليمين على منع واجب أو فعل معصية، فعلى الحالف أن يحنث نفسه ويكفر عن يمينه.
ويقال: معناه: (احفظوا أيمانكم) راعوا ألفاظ إيمانكم ليعلم الرجل ما حلف عليه فيكفره إذا حنث. ويقال: معناه: لا تحلفوا، كما قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه
إذا بدرت منه الألية برت
والتأويل الأول أقرب إلى ظاهر الآية؛ لأن الإنسان لا يؤمر بحفظ شيء معدوم، لا يقال لمن لا مال له: احفظ مالك.
وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون }؛ أي هكذا يبين الله لكم أمره ونهيه كما بين كفارة اليمين؛ لكي تشكروا إنعامه وبيانه.
[5.90]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس }؛ الميسر: هو القمار كله. والأنصاب: هي الأحجار؛ كانوا ينصبونها ويعبدونها. والأزلام: هي الأزلام التي كانوا يخيلونها عند المعزم على المسير.
نهى الله عن هذه الأشياء، وحرمها بأبلغ أسباب التحريم؛ لأنه تعالى سماها كلها رجسا، والرجس: هو الشيء المستقذر النجس، الذي يرتفع " في القبح " ، ذكره بالفتح؛ يقال: رجس الرجل يرجس، ورجس يرجس. والرجس بفتح الراء: شدة الصوت، ورعد رجاس إذا كان شديد الصوت. وسميت هذه المعاصي رجسا؛ لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشيء المستقذر.
قوله عز وجل: { من عمل الشيطان }؛ أي من تزيينه؛ لأنه هو الداعي إليه والمرغب فيه والمرنن له في قلوب فاعليه. وقوله تعالى: { فاجتنبوه لعلكم تفلحون }؛ أمر باجتنابه وهو تركه باطنا، وظاهر الأمر على الوجوب. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى يجمع الخمر والإيمان في قلب مؤمن أبدا "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" مدمن الخمر كعابد الوثن، ومن شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها، حرمها في الآخرة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساود، وسم العقارب، إذا شربه تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها، فإذا شربها يفسخ لحمه بالجيفة، يتأذى به أهل الموقف. ومن مات قبل أن يتوب من شرب الخمر كان حقا على الله أن يسقيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد أهل جهنم "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لعن الله الخمر وساقيها؛ وشاربها؛ وبائعها؛ ومبتاعها؛ وعاصرها؛ ومعتصرها؛ وحاملها؛ والمحمولة إليه؛ وآكل ثمنها "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" اجتنبوا الخمر، فإنها مفتاح كل شر "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من شرب الخمر بعد أن حرمها الله على لساني، فليس له أن يزوج إذا خطب، ولا يصدق إذا حدث، ولا يشفع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة؛ فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها فحق على الله تعالى أن لا يخلف عليه "
[5.91-93]
قوله عز وجل: { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضآء في الخمر والميسر }؛ وذلك أن من شرب الخمر وسكر زال عقله وارتكب القبائح، وربما عربد على جلسائه، فيؤدي ذلك إلى العداوة والبغضاء، وكذلك القمار يؤدي إلى ذلك. قال قتادة: (كان الرجل يقامر غيره على ماله وأهله، فيقمره ويبقى حزينا سلبا، فيكسبه العداوة والبغضاء لذهاب ماله عنه بغير عوض ولا منة).
قوله تعالى: { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة }؛ أي يريد الشيطان أن يصرفكم عن طاعة الله وعن الصلوات الخمس على ما هو معلوم في العادة من أحوال أهل الشراب والقمار.
قوله تعالى: { فهل أنتم منتهون }؛ معناه: انتهوا عنهما، وهذا نهي بألطف الوجوه؛ ليكون أدعى إلى تنهاكما، كما قال تعالى:
فهل أنتم مسلمون
[هود: 14] معناه: أسلموا. فلما نزلت هذه الآية قالوا: (انتهينا يا رب). فأنزل الله تعالى هذه الآية:
قوله تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا }؛ أي أطيعوا الله والرسول في ترك جميع المعاصي عموما، واحذروا شرب الخمر وتحليلها وسائر المعاصي، { فإن توليتم }؛ أي أعرضتم عن طاعة الله وطاعة الرسول، { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين }؛ أي تبليغ الرسالة عن الله بأوامره ونواهيه بلغة تعرفونها. وأما التوفيق والخذلان والثواب والعقاب، فإلى الله عزوجل.
فلما نزل تحريم الخمر والميسر قال الصحابة: (يا رسول الله! فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟) حتى قال المهاجرون: (يا رسول الله! قتل أصحابنا يوم بدر وماتوا فيما بين بدر وأحد وهم يشربون الخمر؛ فما حال من مات منهم؟) فأنزل الله قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا }؛ أي فيما شربوا من الخمر، { إذا ما اتقوا }؛ الشرك، { وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا }؛ وصدقوا واجتنبوا الخمر والميسر بعد تحريمها، { وآمنوا ثم اتقوا }؛ ما حرم الله كله، { وأحسنوا }.
وقيل: معناه: (ليس على الذين آمنوا - بالله ورسوله - وعملوا الصالحات) يعني الطاعات (جناح) أي حرج ومأثم (فيما طعموا) من الحرام وشربوا من الخمر قبل تحريمها، وقبل العلم بتحريمها إذا ما اجتنبوا الكفر والشرك وسائر المعاصي فيما مضى، { وآمنوا } أي وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وعملوا } الطاعات { ثم اتقوا } شرب الخمر بعد التحريم { وآمنوا } أي أقروها بتحريمها { ثم اتقوا وأحسنوا } أي ثم داوموا على ذلك وضموا إلى ذلك الإحسان في العمل.
وقيل: أراد بالاتقاء الأول: اتقاء جميع المعاصي فيما مضى، وأراد بالثاني: اتقاء المعاصي في المستقبل، وأراد بالثالث: اتقاء ظلم العباد في المعاملات. وقيل: أراد بقوله: (إذا ما اتقوا وآمنوا) إذا ما اجتنبوا شرب الخمر بعد تحريمها وصدقوا بتحريمها، { ثم اتقوا } سائر المعاصي، وأقروا بتحريم ما يحدث تحريمه من بعد مجانبته، ثم جمعوا بين اتقاء المعاصي وإحسان العمل والإحسان إلى الناس.
قوله تعالى: { والله يحب المحسنين }؛ أي يرضى عمل الذين يفعلون الأفعال الحسنة، ويجتنبون قبائحها.
وروي عن ابن عبدالرحمن السلمي أنه قال: (شرب نفر من أهل بدر الخمر وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي لنا حلال! وتأولوا قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } إلى آخر الآية. وكتب يزيد بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر: ابعثهم إلي من قبل أن يفسدوا من معك، فبعثهم إليه، فلما قدموا، جمع عمر رضي الله عنه جماعة " من الصحابة " فقال لهم: ما ترون فيهم؟ قالوا: إنهم افتروا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن؛ فاضرب أعناقهم. وكان في القوم علي كرم الله وجهه وهو ساكت، فقال له عمر: ما ترى؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا فاضربوهم ثمانين جلدة، وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم. فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين وأرسلهم).
وروي: (أن قوما شهدوا عند عمر رضي الله عنه على قدامة بن مضعون أنه شرب الخمر، فأراد عمر أن يجلده؛ فقال قدامة: ليس لك ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } وقرأ الآية. فقال عمر رضي الله عنه: إنك أخطأت التأويل يا قدامة؛ لو اتقيت الله ما شربت). وفي بعض الروايات: (لو اتقيت الله لاجتنبت ما حرم عليك. ثم أمر بإقامة الحد عليه).
وإنما لم يحكموا بكفر قدامة ولم يستتيبوه؛ لأنه كان يتأول الآية على الحال الذي هو فيها، ووجود الصفة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية مكفرة لذنوبه، وأنه لا يستحق العقوبة على شربها مع اعتقاده بتحريمها، وإن إحسانه كفر سيئاته، فردت الصحابة عليه هذا التأويل، فأقيم عليه الحد.
[5.94]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله }؛ أي ليعاملنكم الله معاملة المختبر ليجازيكم على ما يظهر منكم. قوله تعالى: { بشيء من الصيد }؛ اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: (من) ها هنا للتبعيض، وأراد بذلك صيد البر دون صيد البحر، وصيد الإحرام دون الإحلال.
وقال بعضهم: (من) ها هنا للجنس كقوله تعالى:
فاجتنبوا الرجس من الأوثان
[الحج: 30] معناه: اجتنبوا الرجس الذي هو وثن. وقال بعضهم: أراد بقوله: (بشيء من الصيد) بما يكون من جزاء الصيد وإن لم يكن صيدا كالبيض والفرخ والريش، والآية شاملة لجميع هذه المعاني.
قوله تعالى: { تناله أيديكم ورماحكم }؛ أي تأخذونه بأيديكم من فراخ الطير وصغار والوحش والبيض، وما تصيبه رماحكم من كبار الصيد التي لا تصاد باليد. قوله تعالى: { ليعلم الله من يخافه بالغيب }؛ أي ليميز الله من يخافه ممن لا يخافه في السر بينه وبين الله تعالى.
قوله تعالى: { فمن اعتدى بعد ذلك }؛ أي من تجاوز الحد في أخذ صيد البر مع الإحرام، وأخذ الصيد في الحرم بعد البيان له والنهي عنه، { فله عذاب أليم }؛ يعني التعزير والكفارة في الدنيا؛ يفرق الضرب على أعضائه كلها ما خلا الوجه والرأس والفرج، فيضرب ضربا وجيعا ويؤمر بالكفارة، ويكون هذا المتعدي مأخوذا بعذاب الآخرة إن مات قبل التوبة.
[5.95]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }؛ روي أن هاتين الآيتين نزلتا بالحديبية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمين، وكان الصيد من الوحش والطير يغشى رحالهم. وفي قوله { وأنتم حرم } وجهان؛ أحدهما: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، والثاني: وأنتم داخلون في الحرم.
وقوله تعالى: { لا تقتلوا الصيد } دليل على أن كل ما يقتله المحرم من الصيد لا يكون ملكا؛ لأن الله تعالى سمى ذلك قتلا، ولا يجوز أكل المقتول وإنما يجوز أكل المذبوح على شرط الذكاة.
والصيد في اللغة: اسم لكل ممتنع متوحش، فلا يفرق الحكم في وجوب الحل بين المأكول منه وبين غيره، إلا أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية؛ والعقرب؛ والغراب؛ والفأرة؛ والكلب العقور "
وأراد بالكلب العقور: الذئب على ما ورد في بعض الروايات.
قوله تعالى: { ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من النعم }؛ روي أنه نزل في كعب بن عمرو؛ عرض له حمار وحش فطعنه برمحه فقتله، ولم يكن علم بنزول التحريم.
واختلفوا في صفة العمل الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد، فقال الأكثرون من أهل العلم: سواء قتل المحرم الصيد عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، وجعلوا فائدة تخصيص العمل بالذكر في هذه الآية ما في نسخها بقوله: { ومن عاد فينتقم الله منه }؛ لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد.
والقول الثاني: ما روي عن قتادة وطاووس وعطاء؛ أنهم قالوا: (لا شيء على الخاطئ) وهو رواية عن ابن عباس.
والقول الثالث: وهو قول مجاهد والحسن: (أن المراد به إذا قتله ناسيا لإحرامه، وحصل القتل عمدا). وهذا القول يقتضي أن غير العامد الذاكر لإحرامه لا يؤمر بالكفارة، ولكن الله يعاقبه في الآخرة على ما فعله. وعلى هذا التأويل قالوا: إن معنى قوله: { ومن عاد فينتقم الله منه } أي عاد إلى هذا الفعل من بعد العلم بالنهي، كان عقوبته النقمة ينتقم الله منه.
وقال آخرون: هو القتل عمدا وهو ذاكر لإحرامه، فحكم عليه في العمد والخطأ الكفارة والجزاء، وهو اختيار الشافعي. وقال الزهري: (نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة بالخطأ). وقال ابن عباس: (إن قتله عمدا سئل: هل قتل قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال: نعم؛ لم يحكم عليه، ويقال له: اذهب، فينتقم الله منه، وإن قال: لم أقتل قبله شيئا، حكم عليه، فإن عاد إلى قتل الصيد ثانيا وهو محرم بعدما حكم، ولم يحكم عليه ثانيا، ويملأ بطنه وظهره ضربا وجيعا). وعندنا إذا عاد حكم عليه ثانيا، وعليه الجمهور.
وقال بعضهم: إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله تعالى؛ لأنه أعظم من أن يكون له كفارة. والقول الأول أصح هذه الأقاويل كلها؛ لأن سائر جنايات الإحرام لا تختلف بين المعذور وغير المعذور، وإن الله تعالى أحل للمحرم والمريض حلق الرأس على الأذى، وأوجب عليه الفدية.
قوله تعالى: { فجزآء مثل ما قتل من النعم } نونه أهل الكوفة، ورفعوا ال (مثل) على البدل من الجزاء، كأنه فسر الجزاء؛ أي فعليه جزاء مثل الصيد المقتول من النعم. وقرأ الباقون بالإضافة، ومعناه: عليه أن يجزي بمثل المقتول؛ أي يشتري بقيمته من النعم فيذبح. وقد تجوز إضافة الشيء إلى نفسه كما يقال: ثوب جزوبات جديد، ويوم الجمعة.
ويحتمل أن يكون معناه: عليه جزاء مثل النعم المقتول، ومثل النعم المقتول: قيمته من جهة الحكم، { يحكم به ذوا عدل منكم }.
وقوله تعالى: { هديا }؛ منصوب على الحال؛ أي يحكمان بقدر أن يهدي. وقوله تعالى: { بالغ الكعبة }؛ لفظه لفظ المعرفة ومعناه النكرة، كأنه قال: بالغا الكعبة، إلا أن التنوين حذف استخفافا، وكنى بالكعبة عن الحرم؛ لأن حرمته لأجل الكعبة. في ذكر بلوغ الكعبة بيان اختصاص من هذا الجزاء بالحرم، وأنه لا يجوز ذبحه إلا فيه. ومعنى قوله تعالى: { فجزآء مثل ما قتل من النعم } أي فعلى القاتل الفداء مثل المقتول من النعم.
والنعم في اللغة: من الإبل والبقر والغنم، فإذا انفردت الإبل قيل: إنها نعم، وإذا انفردت البقر والغنم لم تسم نعما.
واختلف أهل العلم في كيفية الجزاء، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (ينظر الحكمان العدلان من أهل المعرفة إلى الصيد المقتول، فيقومانه حيا في ذلك المكان وذلك الزمان، فإذا عرفت القيمة خير القاتل، فإن شاء اشترى بتلك القيمة هديا من النعم فذبحه في الحرم، وإن شاء اشترى بها طعاما فأطعمه مساكين الحرم وغيرهم؛ كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاع من تمر أو شعير كما في الكفارات. وإن شاء صام مكان كل صاع من بر نصف يوم، وإن لم يبلغ قيمة الصيد إطعام مسكين، صام يوما كاملا إذا اختار الصوم؛ لأن الصوم مما لا تبعيض فيه).
وقال محمد والشافعي: (إن كان للصيد المقتول مثل من النعم من جهة الخلقة، كان على القاتل النظير في الخلقة؛ فيجب عليه في النعامة بدنة؛ وفي بقر الوحش بقرة؛ وفي الظبي شاة؛ وفي الغزال عنز؛ وفي الأرنب عناق؛ وفي اليربوع جفرة. وإن لم يكن للصيد مثل من جهة الخلقة، كان عليه قيمته). وعن محمد الخيار في هذا إلى الحكمين دون التعيين، وهو قول مالك.
قوله تعالى: { يحكم به ذوا عدل منكم } أي يحكم بالجزاء فقيهان عدلان ينظران إلى أشبه الأشياء به، فيحكمان به.
وروي عن قبيصة بن جابر قال: (خرجنا حجاجا، وكنا إذا صلينا الغداة أوقدنا نارا، وأحلنا بشيء ونتحدث، فبينما نحن ذات يوم إذ سنح لنا ظبي، فابتدرته ورميته بحجر فأصبت حشاه، فوكب درعه فمات، فلما قدمنا مكة سألنا عمر رضي الله عنه وكان حاجا، وكان عبدالرحمن بن عوف جالسا عنده، فسألته عن ذلك فقال لعبدالرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، قال: فاذهب فاهد شاة.
قال: فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم يفجأنا إلا عمر ومعه الدرة، فعلاني بالدرة، قال: أتقتل في الحرم وتغمض الفتوى؟! قال الله تعالى: { يحكم به ذوا عدل منكم } فأنا عمر، وهذا عبدالرحمن).
قوله تعالى: { أو كفارة طعام مساكين }؛ فيه قراءتان؛ أحدهما: الرفع والتنوين في (كفارة)، والرفع في (طعام) من غير تنوين. والأخرى: الرفع في (كفارة) بغير تنوين، والخفض في (طعام) على الإضافة.
قوله تعالى: { أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره }؛ أي ليذوق عقوبة صنعه. والوبال: تقبل الشيء في المكروه، مأخوذ من الوبيل، يقال: طعام وبيل؛ وماء وبيل؛ إذا كانا ثقيلين، قال الله تعالى:
فأخذناه أخذا وبيلا
[المزمل: 16] أي ثقيلا شديدا.
قوله تعالى: { عفا الله عما سلف }؛ أي تجاوز الله عما مضى من قتل الصيد قبل التحريم. قوله تعالى: { ومن عاد فينتقم الله منه }؛ أي من عاد إلى قتل الصيد بعد العلم بالتحريم متعمدا لقتله يعذبه الله في الآخرة ويعاقبه على فعله. وأصل الانتقام: الانتصار والانتصاف، وإذا أضيف إلى الله تعالى أريد به المعاقبة والمجازاة. قوله تعالى: { والله عزيز ذو انتقام }؛ أي منيع بالنقمة ينتقم ممن عصاه.
[5.96]
قوله عز وجل: { أحل لكم صيد البحر }؛ أي أحل لكم اصطياد ما في البحر، { وطعامه }؛ أي ما لفظه البحر وحسر عنه الماء، وهذا قول أبي بكر وعمر وأبي هريرة. وقال بعضهم: (طعامه) هو الملح؛ وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وقتادة.
وقوله تعالى: { متاعا لكم }؛ أي منفعة لكم. وهو مصدر مؤكد للكلام؛ أن تمتعوا متاعا لكم. وقوله تعالى: { وللسيارة }؛ أي ومنفعة للمارة في السفر. قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في قوم من بني مدلج، كانوا أهل صيد البحر، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا نصطاد في البحر، وربما يعلو البحر وربما مد البحر، فيعلو الماء كل شيء، ثم يرجع ويبقى السمك بالأرض، ويذهب الماء عنه فنصيبه مدا، فحلال لنا أكله أم لا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية).
قوله تعالى: { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }؛ أي وحرم عليكم اصطياد ما في البر. ويقال: عين صيد البر ما دمتم محرمين، ولا خلاف في الاصطياد أنه حرام على المحرم في البر، فأما عين الصيد فإن صاده حلال بأمر المحرم أو بإعانته أو دلالته وإشارته حرم على المحرم تناوله، وإن صاده حلال بغير أمر المحرم حل للمحرم تناوله كما روي في حديث أبي قتادة؛ قال:
" كنت في رهط من المحرمين وأنا حلال، فبصرت بحمار وحش فقلت: ناولني الرمح، فأبوا، فأخذته وأتيت الصيد، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فقال: " هل أعنتم؟ هل أشرتم؟ هل دللتم؟ " فقالوا: لا؛ فقال: " إذا فكلوا " ".
قوله تعالى: { واتقوا الله الذي إليه تحشرون }؛ أي اتقوا الله في أخذ الصيد في الإحرام الذي إلى موضع جزائه تبعثون.
[5.97]
قوله عز وجل: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قيما للناس والشهر الحرام }؛ أي جعل الله الكعبة أمنا للناس، بها يقومون ويأمنون، وذلك أن الرجل كان إذا أصاب ذنبا في الجاهلية والإسلام، أو قتل قتيلا لجأ إلى الحرم فأمن بذلك، وكانت الكعبة قواما بمعايشهم وعمادا لهم في أمر دينهم ودنياهم؛ لما يحصل في ذلك من الحج والعمرة والتجارات، وما يجيء إلى الحرم من ثمرات كل شيء.
وقيل: معنى قوله: { قيما للناس } أي قبلة لهم، أمروا أن يقوموا في الصلاة متوجهين إليها. قوله تعالى: { والشهر الحرام } أي جعل الشهر الحرام آمنا أيضا، كانوا إذا دخل الشهر الحرام لم يقتلوا فيه أحدا حتى يمضي.
قوله تعالى: { والهدي والقلائد }؛ جعل الهدي الذي يهدى إلى البيت أمنا للرفقة، وجعل القلائد أمنا، والقلائد البدن من البقر والإبل كانوا يقلدونها بنعل أو خف، وربما كانوا يقلدون رواحلهم إذا رجعوا من مكة من لحاء شجر الحرم فيأمنون بذلك، وكان أهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدي والقلائد فلا يتعرض له تعظيما له.
قوله تعالى: { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموت وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم }؛ معناه: ذلك أمر الجاهلية دليل أنه تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض وما فيه صلاح الخلق إذ جعل في أعظم الأوقات فسادا يؤمن به، وشرع الحج وفيه مصالح الخلق على نحو ما تقدم.
[5.98-99]
قوله تعالى: { اعلموا أن الله شديد العقاب }؛ لمن استحل ما حرم الله، { وأن الله غفور رحيم }؛ لمن تاب. قوله تعالى: { ما على الرسول إلا البلاغ }؛ أي ما على محمد صلى الله عليه وسلم إلا تبليغ الرسالة في أمر الثواب والعقاب، { والله يعلم ما تبدون }؛ أي ما تظهرون من القول والعمل، { وما تكتمون }؛ وليس على محمد طلب سرائركم، ولا يعلم السرائر إلا الله عز وجل.
[5.100]
قوله تعالى: { قل لا يستوي الخبيث والطيب }؛ أي قل يا محمد: لا يستوي الحلال والحرام، { ولو أعجبك كثرة الخبيث }؛ ولو أعجبك كثرة الحرام، فمثقال حبة من الحلال أرجح عند الله من جبال الدنيا من حرام.
وقيل: معناه: ولا يستوي الكافر والمؤمن ولو أعجبك كثرة الكافر، والعدل والفاسق وإن كان في الفساق كثرة، ولا يبارك في الحرام وإنما يبارك في الحلال، { فاتقوا الله يأولي الألباب لعلكم تفلحون }؛ أي اخشوا عذاب الله في أخذ الحرام يا ذوي العقول، لكي تفوزوا بالنجاة والسعادات في الآخرة.
[5.101]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما:
" لما نزل قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } قام رجل من بني أسيد فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟
فوجد من قول ذلك الرجل وجدا شديدا، ثم قال له: " ما كان يؤمنك أن أقول: نعم، فيجب عليكم في كل عام فلا تطيقوه، فإن لم تفعلوه كفرتم، ذروني ما تركتكم " ".
وفي بعض الروايات:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا، فسأله الناس عن أشياء، فقال: " لا تسألوني عن شيء إلا حدثتكم به " ، فأكثروا عليه السؤال حتى سأله رجل عن الحج: أفي كل عام؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأعاد الرجل عليه ثالثا، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو قلت لكم: نعم، لوجبت ولما استطعتم " فقام رجل آخر فقال: أفي الجنة أنا أم في النار؟! فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغير لونه، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبك نبيا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم الغضب ".
وروي:
" أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي؟ فقال: " في النار " ، فقام عمر رضي الله عنه وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بالجاهلية فاعف عنا عفا الله عنك، فسكن غضبه ".
وروي:
" أن رجلا من قريش يقال له عبدالله بن حذافة، وكان يطعن في نسبه إذا لاحى؛ أي يدعى لغير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: " أبوك حذافة ". قال الزهري: فقالت أمه: ما رأيت ولدا أعق منك قط! أكنت تأمن أن تكون أمك قارفت ما قارف " نساء " أهل الجاهلية، فيفضحها على رؤوس الناس ".
وفي رواية أخرى:
" أنه لما قال له: " أبوك حذافة " ، قال: يا رسول الله أبي فلان، قال: " إنك ولد الزانية، وإن الذي ولدت على فراشه كان كثير المال، فتعرضت أمك لحذافة فجامعها فاشتملت بك " "
فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن أظهر لكم جوابها ساءكم، ذلك { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم }؛ وإن تسألوا عنها عند نزول القرآن أظهر لكم جوابا، { عفا الله عنها }؛ أي عن مسألتكم لم يؤاخذكم بالبحث عنها. ويقال: أراد بالعفو الستر عليهم، { والله غفور حليم }؛ أي متجاوز عن العباد، حليم عن الجهال لا يعجل عليهم بالعقوبة.
[5.102]
قوله عز وجل : { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين }؛ أي قد سأل نحو هذه المسائل من قبلكم، قال ابن عباس: (كانت بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء لم تكتب عليهم ولم يؤمروا بها، فإذا بينوا لهم حكمها لم يفعلوا، فعذبهم الله وأهلكهم بسبب ذلك، كما سأل قوم عيسى المائدة ثم كفروا، وسأل قوم صالح الناقة ثم عقروها وكفروا).
[5.103]
قوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة ولا سآئبة ولا وصيلة ولا حام }؛ أي لم يجعل الله ما يقوله كفار قريش من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } ، ولكنهم هم الذين جعلوا من ذات أنفسهم، واختلقوا على الله بأنه حرم هذه الأشياء، { وأكثرهم لا يعقلون } وهم السفلة والعوام لا يعقلون، بل يقلدون رؤساءهم فيما يقولون.
وأما تفسير البحيرة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا، فإن كان البطن الخامس ذكرا ذبحوه لآلهتهم، وكان لحمه للرجال من سدنة آلهتهم ومن أبناء السبيل دون النساء، وإن مات قبل الذبح أكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى نحروا أذنها؛ أي شقوها شقا واسعا وهي البحيرة: لا تركب ولا تذبح ولا تطرد من ماء ولا أكل، وألبانها ومنافعها للرجال من السدنة وأبناء السبيل دون النساء حتى تموت، فاذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء.
وأما السائبة: فكان إذا قدم الرجل من سفر أو برئ من مرض أو بنى بناء، سيب شيئا من إناث الأنعام وسلمها إلى سدنة آلهتهم، فيطعمون منه أبناء السبيل من ألبانها وأسمانها إلا النساء، فإنهم كانوا لا يطعمونهن منها شيئا حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا.
وأما الوصيلة: فهي من الغنم كانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، فإن كان البطن السابع ذكرا ذبحوه لآلهتهم، وإن كانت أنثى صنعوا بها ما يصنعون بالأنثى من البحيرة، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: إنها وصلت أخاها، فلم تذبح الذكر لمكانه منها، وكان منافعهما للرجال دون النساء من السدنة وأبناء السبيل الى أن يموت واحد منهما فيشترك فيه الرجال والنساء.
وأما الحامي: فهو الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى حتى يموت، فيأكله الرجال والنساء.
وقد روي عن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " إني لأعرف أول من سيب السوائب، وأول من غير عهد إبراهيم خليل الله " ، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: " عمرو بن لحي، ولقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه. وإني لأعرف أول من بحر البحائر " ، قالوا: من هو؟ قال: " رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانها، ثم شربه بعد ذلك، ولقد رأيته في النار يعضانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما " ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم الخزاعي: " رأيت عمرو ابن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منه بك ولا بك منه، وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه " ، قال أكثم: يا رسول الله أيضرني شبهه؟ فقال: " إنك مؤمن وهو كافر " ".
[5.104]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ }؛ معناه: إذا قيل لأهل مكة هلموا إلى تحليل وتحريم ما أنزل الله في كتابه وبينه الرسول في سننه، قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من الدين والسنة، يقول الله تعالى: { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا }؛ من الدين والسنة، { ولا يهتدون }؛ الطريق المستقيم.
[5.105]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم }؛ أي الزموا أنفسكم واحفظوها كما يقال: عليك زيدا، فتنصب زيدا على الإغراء بمعنى: الزم زيدا، كأنه تعالى قال: عليكم أيها المؤمنون بإصلاح أنفسكم، ومتابعة سنة نبيكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يضركم ضلالة من ضل من أهل مكة إذ هديتم أنتم، { إلى الله مرجعكم }؛ في الآخرة، { جميعا }؛ البر والفاجر، والمؤمن والكافر، { فينبئكم }؛ فيجزيكم؛ { بما كنتم تعملون }؛ من خير أو شر.
وروي عن السلف في تأويل هذه الآية أحاديث مختلفة الظواهر، وهي متفقة في المعنى، فمنها ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال على المنبر: أيها الناس، إني أراكم تتأولون هذه الآية: { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ما من قوم يعمل بين أظهرهم بالمعاصي فلم يغيروها إلا يوشك أن يعمهم الله بعقابه "
وعن أبي أمامة قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي:
" يا أبا ثعلبة ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، فإن من بعدكم أيام الصبر، والصابر فيها كالقابض على الجمر، والصبر فيها كالقبض على الجمر، والمتمسك فيها بمثل الذي أنتم عليه له كأجر خمسين عاملا منكم ".
ففي هذه الأخبار دليل على أن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط إلا عند العجز عن ذلك. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا رأى أحدكم منكرا واستطاع أن يغيره فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "
وحكي: أنه لما مات الحجاج قال الحسن رضي الله عنه: (اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمد بيد قصيرة، والله ما عرق فيها في سبيل الله عنان، يرجل جمته ويتبختر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحيي، فوقه الله عز وجل، وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل. ثم جعل الحسن يقول: هيهات، والله حال دون ذلك السيف والسوط). وفي هذا الخبر دليل أن السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك الإنكار باليد واللسان.
[5.106-108]
قوله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر، خرجوا من المدينة إلى الشام لتجارة، أحدهم:عدي بن بداء، والآخر عامر بن أوس الداري، وهما نصرانيان، والثالث بديل بن ورقاء مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا، فحضر بديل بن ورقاء الوفاة وكان مسلما، فأوصى إلى صاحبيه، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا، فمات بديل ففتشا متاعه، وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب كان فيه ثلاثمائة مثقال.
فلما قدما المدينة وسلما المتاع إلى أهله، وجد أهله كتابا في درج الثياب فيه أسماء الأمتعة، قالوا لهما: هل باع صاحبكما شيئا من متاعه؟ قالا: لا، فهل طال مرضه فأنفق شيئا؟ قالا: لا، إنما مرض حين قدم البلد، فلم يلبث أن مات. فقال لهما عمرو بن العاص والمطلب ابن أبي وداعة: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه، وفيها إناء منقوش مموه بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال. قالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه. فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا ذلك له، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: يا أيها الذين آمنوا شهادة الحال الذي بينكم إذا حضر أحدكم الموت فأراد الوصية شهادة اثنين ذوي عدل منكم؛ أي من أهل دينكم. وهذه جملة تامة تتناول حكم الشهادة على الوصية في الحضر والسفر.
قوله تعالى: { أو آخران من غيركم }؛ مقيد بالسفر خاصة، معناه: أو آخران من غير أهل دينكم، { إن أنتم ضربتم في الأرض }؛ إن أنتم سافرتم في الأرض، { فأصابتكم }؛ في السفر، { مصيبة الموت }؛ ولم يكن يحضركم مسلمون.
قوله تعالى: { تحبسونهما من بعد الصلاة }؛ أي تقفونهما وهما النصرانيان، والمراد بقوله: { بعد الصلاة } بعد صلاة العصر كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بعد صلاة العصر وهو وقت اجتماع الناس، وأهل الكتاب يعظمونه، { فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا }؛ أي الشاهدان النصرانيان يحلفان بالله إذا ادعى عليهما ورثة الميت بسبب شأنهم في جنايتهما، ويقولان في اليمين: لا نشتري بهذا القول الذي نقوله بأنا دفعنا المال جميعه إليكم عرضا يسيرا من الدنيا، { ولو كان ذا قربى }؛ أي وإن كان الميت ذا قرابة منا في الرحم؛ أي لم نخن في التركة لقرابته منا. روي أنه كان بين الميت المسلم وبين هذين النصرانيين قرابة في الرحم، ومعنى قوله: { إن ارتبتم } أي شككتم.
قوله تعالى: { ولا نكتم شهادة الله }؛ أي ويقولون في اليمين: ولا نكتم شهادة الله، { إنآ إذا لمن الآثمين }؛ أي العاصين إن كتمناهما كما قال تعالى في آية أخرى
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه
[البقرة: 283].
وإنما أضاف الشهادة إلى الله تعالى تعظيما لها وتهويلا لأمرها، وقرأ بعضهم: (شهادة الله) بتنوين (شهادة) ونصب اسم (الله) على معنى: لا نكتم لله شهادة، وقرأ الشعبي: (شهادة الله) بتنوين (شهادة)، وخفض الهاء من اسم (الله) موصولا على القسم، تقديره: إي والله.
وقرأ أبو جعفر (شهادة) بالتنوين (الله) بقطع الألف وكسر الهاء على معنى: ولا نكتم شهادة الله، بالاستفهام وكسر الهاء فجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم.
قال ابن عباس: (فلما نزلت هذه الآية، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وحلفهما بعد الصلاة عند المنبر بالذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا - يخونا - شيئا مما دفع إليهما بديل، فحلفا، فخلى عليه الصلاة والسلام سبيلهما. فمكثا بعد ذلك ما شاء الله ثم ظهر الإناء، فبلغ الورثة ذلك، فسألوا الذي بيده الإناء فقال: اشتريته من تميم وعدي).
قيل: إنه لما طالت المدة أظهرا الإناء ولم يبيعاه، فقال لهما الورثة: إنما حلفتما فما بال الإناء معكما؟ فقالا: إنا كنا اشتريناه منه ولم يكن لنا بينة، فكرهنا أن نقر به لكم فتأخذوه. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: { فإن عثر على أنهما استحقآ إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله }.
معناه: فإن اطلع على أن الوصيين استوجبا ذنبا بالخيانة واليمين الفاجرة حيث قالا: إن الميت لم يبع شيئا من متاعه، ثم قالا بعد ظهور الإناء في أيديهما أنهما ابتاعاه منه، فآخران من أولياء الميت وهما عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة، يقومان مقام النصرانيين الخائنين في اليمين، فيحلفان بالله، { لشهادتنا أحق }؛ بأن الإناء لصاحبنا، وأنهما لا يعلمان بأن الميت باعه في حياته، { من شهادتهما }؛ أي أعدل وأحق بالقبول من شهادة النصرانيين، { وما اعتدينآ }؛ فيما ادعينا وحلفنا، { إنا إذا لمن الظالمين }؛ على أنفسنا لو اعتدينا.
وقوله: { من الذين استحق عليهم الأوليان } راجع إلى قوله { فآخران } ، و { الأوليان } بدل من (آخران) كأنه قال: وآخران من الذين استحق عليهم الوصية، وهم ورثة الميت وأولياؤه، وهما الأوليان بالميت. ويقال: الأوليان باليمين يقومان مقام النصرانيين في اليمين،
ويقال: معنى { استحق عليهم } أي استحق فيهم الإثم وهم الورثة، استحق النصرانيان الإثم بسببهم، وقد تقام على مقام (في)، كما في قوله تعالى:
ولأصلبنكم في جذوع النخل
[طه: 71]. واحد الأوليان: الولى، والجمع: الأولون، والأنثى الولياء، والجمع الوليات والولي.
وقرأ الحسن وحفص: (من الذين استحق عليهم) بفتح التاء والحاء؛ أي وجب عليهم الإثم، ثم قال { الأوليان } راجع إلى قوله { فآخران } الأوليان، ولم يرتفع بالاستحقاق. وقرأ الباقون (استحق) بضم التاء وكسر الحاء على المجهول، يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، استحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم.
وقرأ الحسن: (من الذين استحق عليهم الأولان).
قوله تعالى: { لشهادتنا أحق من شهادتهما } أي يميننا من يمينهما، ونظيره
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله
[النور: 6] أراد الأيمان.
فلما نزلت هذه الآية حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة، فحلفا فدفعا المتاع إلى أولياء الميت. قال ابن عباس: (فذكرت هذه الآية لتميم بعد ما أسلم فقال: صدق الله وبلغ رسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره).
وإنما نقلت اليمين إلى الأولياء؛ لأن الوصيين صح عليهما الإناء، ثم ادعيا أنهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادعى رجل على رجل مالا، فأقر المدعى عليه بذلك، وادعى أنه قضاه، فالقول قول صاحب المال مع يمينه ، وكذلك إذا ادعى سلعة في يد رجل فاعترف بذلك، ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبه منه المدعي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (عن تميم الداري قال: بعنا الإناء بألف درهم، فاقتسمناه أنا وعدي، فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعدما حلفت كاذبا، فأتيت أولياء الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى النبي فسألهم البينة، فلم يكن لهم بينة، فأمر الأولياء أن يحلفوا، فحلفوا، فأخذت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة).
فلذلك قوله تعالى: { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجههآ }؛ أي ذلك لكم أقرب إلى أن تقوم شهود الوصية على وجهها، { أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم }؛ وأقرب إلا أن يخافوا أن ترد عليهم أيمانهم بعد أيمان المسلمين، ويقال: أن يرد الأيمان إلى المدعين المسلمين بعد أيمان المدعى عليهم الكفار.
قوله تعالى: { واتقوا الله }؛ أي اخشوه أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة، { واسمعوا }؛ أي أقبلوا الموعظة، { والله لا يهدي القوم الفاسقين }؛ أي لا يصلح أمر الخائنين عن طاعة الله.
روي عن مجاهد أنه أخذ بظاهر الآية وقال: (إذا مات المؤمن في السفر، ولا يحضره إلا كافر، إن أشهدهما على ذلك، فإن رضي ورثته بذلك، وإلا حلف الشاهدان أنهما صادقان، فإن ظهرا أنهما خانا، حلف اثنان من الورثة، وأبطلت أيمان الشاهدين). وعن هذا قال شريح: (لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني على المسلم إلا في السفر، ولا يجوز في السفر إلا على الوصية).
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن شهادة الكافر لا تقبل على المسلم بوجه من الوجوه؛ لأنه روي أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن، وتلك الآية تقتضي جواز نسخ شهادة الكافر على المسلمين لا محالة؛ لأن قوله تعالى:
واستشهدوا شهيدين من رجالكم
[البقرة: 282] يتناول المؤمنين؛ لأن الخطاب في تلك الآية يوجه إليهم باسم الإيمان وهو قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }.
[5.109]
قوله تعالى: { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم قالوا لا علم لنآ } يعني يوم القيامة، ونصب (يوم) على إضمار اذكروا واحذروا، ويحتمل أنه انتصب بقوله { واتقوا الله } ، والسؤال للرسل توبيخ للذين أرسلوا إليهم، كما في قوله تعالى
وإذا الموءودة سئلت
[التكوير: 8] إنما تسأل الموءودة لتوبيخ قاتلها.
وأما قول الرسل: (لا علم لنا)، فقال ابن عباس والحسن والسدي ومجاهد: (إن هذا الجواب إنما يكون في بعض مواطن القيامة، وذلك عند زفرة جهنم، وجثو الأمم على الركب، لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا قال: نفسي نفسي، فعند ذلك تطير القلوب من أماكنها، فتقول الرسل من شدة هول المسألة وهول الموطن: لا علم لنا) { إنك أنت علام الغيوب }؛ ترجع إليهم عقولهم، فيشهدون على قومهم أنهم بلغوهم الرسالة، وأن قومهم كيف ردوا عليهم.
فإن قيل: كيف يصح ذهول العقل مع قوله تعالى
لا يحزنهم الفزع الأكبر
[الأنبياء: 103] قيل: إن الفزع الأكبر دخولهم جهنم. وعن ابن عباس: (أن معنى: لا علم لنا؛ أي لا علم لنا إلا ما علمتنا)، فحذف الاستثناء. وقيل: معناه: لا علم لنا بتفصيل الأمور.
[5.110]
قوله تعالى: { إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك }؛ معناه: واذكروا أيها المؤمنون { إذ قال الله يعيسى } ، ويجوز أن يكون عطفا على قوله: { يوم يجمع الله الرسل } تقديره: إذ يقول الله: يا عيسى بن مريم، إلا أنه ذكره بلفظ الماضي لتقديم ذكر الوقت.
ومعنى الآية: أظهر منتي عليك بالنبوة وعلى أمك بأن طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين؛ ليكون حجة على من كفر وادعاك إلها، فيكون ذلك حسرة وندامة عليهم يومئذ. والفائدة في ذكر أمه: أن الناس تكلموا فيها كما تكلموا فيه.
ثم عد الله نعمة نعمة: { إذ أيدتك بروح القدس }؛ أعنتك وقربتك بجبريل الطاهر حين حاولت بني إسرائيل قتلك، ويقال: أيدتك به في الحجة في كل أحوالك.
وقوله تعالى: { يعيسى ابن مريم } انتصب (ابن مريم) لأنه منادى مضاف؛ أي يا عيسى يا ابن مريم، قوله تعالى: { اذكر نعمتي عليك } معناه: اذكر نعمتي، لفظة واحدة ومعناها الجمع، كقوله تعالى:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34] أي نعم الله، لأن العدد لا يقع على الواحد.
قوله تعالى: { تكلم الناس في المهد وكهلا }؛ أي تكلم الناس في حجر أمك في حال صغرك، وتخاطبهم كهلا بعد ثلاثين سنة، على صفة واحدة واحدا واحدا، وذلك من أعظم الآيات.
ويقال: أراد بالمهد الذي يربى فيه الطفل حين قال لهم وهو في المهد:
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا
[مريم: 30]. قال الكلبي: (مكث في رسالته بعد ثلاثين سنة ثلاثين شهرا، ثم رفعه الله إليه). وقيل: ثلاث سنين، ثم رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قوله تعالى: { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل }؛ أي علمتك كتب الأنبياء قبلك والفهم، ويقال: أراد بالكتاب الخط بالقلم، وأراد بالحكمة كل صواب منهن من قول أو فعل.
قوله تعالى: { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني }؛ معناه: إذ تصور من الطين كشبه الخفاش بأمري، { فتنفخ فيها }؛ أي في الهيئة، { فتكون طيرا بإذني }؛ يطير بين السماء والأرض بأمر الله، ويكون النفخ كنفخ الراقي.
قوله تعالى: { وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني }؛ الأكمه: الذي ولد أعمى، والأبرص: الذي لا تعالجه الأطباء، وهو الذي إذا غرز الإبرة لا يخرج منه الدم.
قوله تعالى: { وإذ تخرج الموتى بإذني }؛ أي الموتى تخرجهم من قبورهم احياء بإرادتي، والمراد أن الله تعالى كان يأذن له في المسألة والدعاء، فيقع ذلك عن الله.
قوله تعالى: { وإذ كففت بني إسرائيل عنك }؛ معناه وإذ صنعت (صرفت) أولاد يعقوب عنك حين هموا بقتلك، { إذ جئتهم بالبينات }؛ أي بالمعجزات الدالة على رسالتك، { فقال الذين كفروا منهم إن هذا }؛ أي ما هذا الذي يرينا عيسى، { إلا سحر مبين }؛ سحر ظاهر. ومن قرأ (ساحر مبين) أراد به عيسى عليه السلام.
[5.111]
قوله عز وجل: { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي }؛ معناه: وإذ ألهمت الحواريين وهم خواص عيسى، وألقيت في قلوبهم: أن صدقوا بتوحيدي وبرسولي، { قالوا آمنا }؛ وصدقنا، { واشهد }؛ يا عيسى، { بأننا مسلمون }؛ أي مخلصون بالعبادة والتوحيد.
[5.112]
قوله عز وجل: { إذ قال الحواريون يعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السمآء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين }؛ كأنه قال: اذكر نعمتي عليك إذ قال الحواريون.
وقوله تعالى: { هل يستطيع ربك }. قرأ الكسائي (هل تستطيع ربك) بالتاء بإدغام ونصب الباء من ربك، أي هل تقدر أن تسأل ربك؟.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك؟) وفيه ثلاثة أقوال:
أحدهم: أن هذا السؤال كان في ابتداء أمرهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله تعالى ولذلك أنكر عليهم عيسى عليه السلام فقال: (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين) لأنه لم يستكمل إيمانهم في ذلك الوقت.
والقول الثاني: أن معناه: هل يفعل ذلك كما يقول الرجل لآخر: هل تستطيع أن تقوم معي في أمر كذا؟ أي هل أنت فاعله؟
والقول الثالث: أن معناه: هل يستجيب لك ربك؟ وهل يطيعك إن سألته؟ كما تقول: استجاب بمعنى أجاب.
والحواريون: خواص أصحاب عيسى عليه السلام. قال الحسن: (كانوا قصارين) وقال مجاهد: (كانوا صيادين) وقيل: كانوا ملاحين. وقال قتادة: (الحواريون: الوزراء) وقال عكرمة: (هم الأصفياء) وكانوا اثنى عشر رجلا.
[5.113]
قوله تعالى: { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا }؛ أي قال الحواريون: نريد بما سألناك أن نأكل من المائدة، وتسكن قلوبنا بما جئتنا به من المعجزات، { ونعلم أن قد صدقتنا }؛ بأنك رسول الله، وقيل: صدقتنا في دعائك، وفيما دعوتنا من كفاية الله تعالى إيانا، { ونكون عليها }؛ على المائدة؛ { من الشاهدين }؛ إذا رجعنا إلى قومنا.
[5.114]
قوله تعالى: { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنآ أنزل علينا مآئدة من السمآء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا }؛ أي قال عيسى: يا الله، إلا أنه أقيم الميم في آخره مقام النداء في أوله، وقوله: { أنزل علينا مآئدة من السمآء } أي طعاما، { تكون لنا عيدا } أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة يوم سرور لأزماننا ولمن يكون خلفنا. وروي: (أن نزول المائدة كان في يوم الأحد، فاتخذت النصارى ذلك اليوم عيدا). وقرأ زيد ابن ثابت: (لأولانا وأخرانا).
وقوله تعالى: { وآية منك }؛ أي تكون المائدة دلالة وحجة لمن آمن على من كفر، { وارزقنا }؛ أي اجعل ذلك رزقا لنا، وقيل: ارزقنا الشكر عليه، { وأنت خير الرازقين }؛ وأنت أفضل المعطين والموفقين.
[5.115]
قوله تعالى: { قال الله إني منزلها عليكم }؛ أي قال الله: يا عيسى إني منزل المائدة عليكم. قرأ أهل المدينة والشام وقتادة وعاصم: (منزلها) بالتشديد؛ لأنها نزلت مرارا، والتفعيل يدل على التكثير مرة بعد مرة كقوله تعالى
ونزلناه تنزيلا
[الإسراء: 106], وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله: (أنزل علينا).
قوله تعالى: { فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين }؛ أي فمن يكفر بعد نزول المائدة، وقيل: بعد ما أكل من المائدة، فإني أعذبه بجنس من العذاب لا أعذب أحدا من عالمي زمانهم بذلك العذاب، وهو أن جعل الله من كفر منهم بعد نزول المائدة خنازير. وقيل: أراد بهذا عذاب الآخرة، كما روي عن ابن عمر أنه قال (أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون).
وروي عن ابن عباس في سبب نزول المائدة: (أن عيسى كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف رجل أو أكثر من أصحابه الذين يقتدون به، وأهل الزمانة والمرضى والبطارة، فسلك بهم ذات يوم القفار، ففني طعامهم وجاعوا جوعا شديدا، فأعلم الناس تلاميذه الحواريين قالوا: إن كان صاحبكم حقا فليدع ربه ينزل علينا مائدة من السماء، فكلمه في ذلك رجل من الحواريين يقال له: شمعون الصفار، فقال: قل لهم يتقوا الله ولا يسألوا لأنفسهم البلاء، فإنهم إن كفروا بعد نزولها عاقبهم الله. فأخبرهم شمعون بذلك، فقالوا: (نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا).
فقام عيسى عليه السلام فصلى ركعتين، فأوحى الله إليه: (قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين)، ثم أنزل الله مائدة من السماء فوقها منديل، والناس ينظرون إليها وعيسى يبكي، حتى استقرت المائدة بين يدي عيسى وهو يقول: اللهم اجعلها رحمة، ثم كشف المنديل وقال: بسم الله، فإذا على المائدة سمكة مشوية لا شوك فيها ، والودك يسيل منها، والخل عند رأسها، والملح عند ذنبها، وعليها أربعة أرغفة، وعليها البقول إلا الكراث - قال عطية: (كان في السمكة طعم كل شيء).
فقال لهم عيسى: كلوا من رزق ربكم، فأكلوا منها، ورجعت المائدة كما كانت، فلما فرغ القوم إلى قرارهم، وبشروا هذا الحديث لسائر الناس، ضحك من لم يشهد، وقال: ويحكم! إنه قد سحر أعينكم وأخذ بقلوبكم. فمن أراد الله به الخير ثبته على الصبر، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فلعنهم عيسى فباتوا ليلتهم، ثم أصبحوا خنازير ينظر الناس إليهم، الذكر ذكر والأنثى أنثى ويلعنوهم، فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يتوالدوا ولا طعموا ولا شربوا).
وقال بعضهم: لما دعا عيسى ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء، أقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخرهم كما أكل أولهم.
وقال الكلبي: (دعا عيسى عليه السلام شمعون الصفار، وكان أفضل الحواريين، فقال: هل معك طعام؟ قال: نعم؛ معي سمكتان وسبعة أرغفة، قال: علي بها، فقطعها عيسى قطعا صغارا، ثم قال: اقعدوا وترافقوا رفقة، كل رفقة عشرة، ثم قام عيسى فدعا الله فاستجاب له، وأنزل فيه البركة، فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا، ثم قال: كلوا بسم الله، فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم، فأكلوا كلهم وفضل شيء كثير.
وكان الناس يومئذ خمسة آلاف ونيفا، فقال الناس جميعا: نشهد أنك عبد الله ورسوله. ثم سألوه مرة أخرى، فدعا عيسى فأنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة وسمكتين، فصنع بها ما صنع بالمرة الأولى، فلما رجعوا إلى بيوتهم ونشروا هذا الحديث، ضحك منهم من لم يعاين ذلك، وقالوا لهم: إنما سحر أعينكم، فمنهم من ثبته الله تعالى على بصيرته، ومنهم من رجع إلى كفره، فمسخوا خنازير).
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (لما سألت الحواريون عيسى أن ينزل عليهم مائدة، لبس صوفا وبكى؛ وقال: اللهم أنزل علينا مائدة من السماء، وارزقنا عليها طعاما نأكله وأنت خير الرازقين، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة من فوقها، وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها منقضة تهوي حتى نزلت بين أيديهم.
فبكى عيسى وصلى وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، واليهود ينظرون إليها لم يروا مثله قط، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه. فقام عيسى فتوضأ وصلى ركعتين صلاة طويلة، وبكى كثيرا.
وكشف المنديل عنها وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا هي سمكة طويلة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك فيها، تسيل سيلا من الدسم، وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الآخر عسل، وعلى الثالث بيض، وعلى الرابع خبز، وعلى الخامس قديد.
فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة، فقالوا: لا من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، ولكنه شيء أنشأه الله بقدرته العالية، فكلوا مما سألتم يمددكم ربكم ويزيدكم من فضله، فقالوا: يا رسول الله لو أريتنا آية أخرى؟
فقال عيسى عليه السلام: يا سمكة احيي بإذن الله، فاضطربت السمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها، ففزعوا من ذلك. فقال: ما لكم تسألون أشياء فإذا أعطيتموها كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعذبوا، يا سمكة عودي كما كنت بإذن الله تعالى، فعادت مشوية كما كانت.
فقالوا: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها ثم نأكل نحن، فقال: معاذ الله أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها.
فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا عيسى أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين، فقال: كلوا من رزق الله لكم المهنأ ولغيركم البلاء، فأكلوا منها فصدر عنها ألف وثلاثمائة من رجل وامراة وفقير وزمن وأبرص ومبتلى كلهم شبعان يتجشأ.
ثم نظر عيسى إلى السمكة فإذا هي كهيأتها، وطارت الملائكة بالمائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منهم زمن إلا صح، ولا مريض إلا برئ، ولا مبتلى إلا عوفي، ولا فقير إلا استغنى ولم يزل غنيا حتى يموت، وندم من لم يأكل منها من الحواريين.
وكانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والضعفاء والكبار والصغار والرجال والنساء، يزدحمون عليها، فلما رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل صبحا، فلا تزال منصوبة يأكلون منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظرون، وكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما، يعني كانت تنزل غبا كناقة صالح عليه السلام، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها، وقالوا: ترون المائدة حقا نزلت من السماء؟!
فقال لهم عيسى عليه السلام: هلكتم بعذاب الله تعالى، فأوحى الله إليه: أني شرطت على المكذبين شرطا أن من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. فقال عيسى: إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم، فأصبحوا في ديارهم خنازير يسعون في الطرقات والكناسات، ويأكلون العذرة، فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام، وبكى على الممسوخين أهلوهم، فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى، وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا، فيبكون ويشيرون برؤوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام وهلكوا).
[5.116]
قوله عز وجل: { وإذ قال الله يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله }؛ أول هذه الآية معطوف على قوله:
إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك
[المائدة: 110] ويجوز أن يكون عائدا على ما تقدم من قوله:
يوم يجمع الله الرسل
[المائدة: 109] كأنه قال: إذ يقول الله يوم القيامة، وفي آخر السورة ما يدل على هذا، وهو قوله تعالى:
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم
[المائدة: 119] وذكر اللفظ على صيغة الماضي؛ لتحقق أمره كأنه قد وقع وشوهد، ونظيره
ونادى أصحاب الجنة
[الأعراف: 44] وقوله:
وقال الشيطان لما قضي الأمر
[إبراهيم: 22] أي سيقول.
وقال السدي وقطرب: (إن الله تعالى قال لعيسى عليه السلام هذا القول حين رفعه)، واحتجا بقوله :
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم
[المائدة: 118]، ولا خلاف أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، وإنما معنى الآية: وإن تغفر لهم بتوبتهم.
وقال أكثر المفسرين: إنما يقول الله تعالى هذه المقالة يوم القيامة، بدليل ما ذكرنا من قوله:
يوم يجمع الله الرسل
[المائدة: 109]،
يوم ينفع الصادقين صدقهم
[المائدة: 119]، فإن قالوا (إذ) للماضي، قلنا قد تكون بمعنى (إذا) كقوله:
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت
[سبأ: 51] أي إذا فزعوا.
قوله تعالى: { أأنت قلت للناس } يعني أأنت قلت لهم في الدنيا: { اتخذوني وأمي إلهين من دون الله }؟ فإن قيل: ما وجه سؤال الله تعالى لعيسى مع علمه بأنه لم يقل؟ قيل: ذلك توبيخ لقوم عيسى وتحذير لهم عن هذه المقالة. وقيل: أراد الله بذلك أن يقر عيسى بالعبودية على نفسه، فيظهر منه تكذيبهم بذلك، فيكون حجة عليهم.
قال أبو روق وميسرة: (إذ قال الله لعيسى عليه السلام: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ ارتعدت مفاصله، وانفجرت من كل شعرة من جسده عين من الدم).
ثم يقول عيسى عليه السلام مجيبا الله عز وجل: { قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق }؛ أي تنزيها لك يا رب، ما ينبغي لي أن أدعي شيئا لست بجدير له، { إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي }؛ عندي وما في ضميري، وما كان مني في الدنيا، { ولا أعلم ما في نفسك }؛ غيبك، { إنك أنت علام الغيوب }؛ لا يعلم الغيب أحد غيرك. وقيل: معناه: تعلم ما أريد، ولا أعلم ما تريد، { إنك أنت علام الغيوب } أي ما كان وما يكون.
وأما ذكر النفس في قوله: { ولا أعلم ما في نفسك } فعلى من أوجه الكلام: بأن الغيب من الله تعالى في حكم الضمير من الآدميين، والنفس في كلام العرب على ضروب؛ تذكر ويراد بها ذات الشيء، كما يقال: جاءني زيد نفسه؛ أي ذاته، وقتل فلان نفسه، وأهلك فلان نفسه، ويراد بذلك الذات بكمالها.
وتذكر ويراد بها الروح، كما يقال: خرجت نفس فلان؛ أي روحه. وتذكر ويراد بها ما في القلب، كما يقال: أضمر فلان ما في نفسه كذا وكذا.
فإذا احتمل اللفظ هذه الوجوه كلها وجب حمل الآية على أصح الوجوه؛ لقيام الدلالة على وجوب تنزيه صفات الله تعالى عما لا يجوز. ولو كانت النفس لا تستعمل إلا في أمر كائن في غيره لوجب في قوله تعالى:
يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها
[النحل: 111] أن يقال: إن النفس نفسا، فإذا بطل ذلك صح أن المراد به الجملة والذات، كأنه قال: يوم يأتي كل أحد يجادل عن نفسه، فكان المراد بقوله: { ولا أعلم ما في نفسك } جملة الأمر، وحقيقية ما عند الله تعالى.
فإن قيل: ليس في النصارى من اتخذ مريم إلها فما معنى هذا القول؟ قيل: إن لم يكن فيهم من يقول هذا القول اليوم، فلا بد أن يكون فيهم من قال ذلك؛ لأن هذه الآية تدل على أنهم قد قالوا ذلك، وتصديق لكتاب الله تعالى أوجب من التصديق لنقل ناقل.
[5.117]
قوله عز وجل: { ما قلت لهم إلا مآ أمرتني به }؛ أي ما قلت لهم شيئا إلا القول الذي أمرتني به، { أن اعبدوا الله ربي وربكم }؛ أو وحدوه وأطيعوه، { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم }؛ معناه: فلما قبضتني إليك من بينهم، ورفعتني إلى السماء كنت أنت الحفيظ عليهم، { وأنت على كل شيء شهيد }؛ من مقالتي ومقالتهم، مطلع عالم مشاهد.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله: { فلما توفيتني } أمتني، وقالوا: إن عيسى ليس بحي في السماء. إلا أن القول الأول أشهر، ويحتمل أن الله تعالى أماته، ثم أحياه ورفعه إلى السماء.
وقال الحسن: (الوفاة في كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: وفاة الموت كقوله تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر: 42]، ووفاة النوم كقوله تعالى:
وهو الذي يتوفكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار
[الأنعام: 60] أي ينيمكم، ووفاة الرفع كقوله:
يعيسى إني متوفيك
[آل عمران: 55].
[5.118]
قوله تعالى: { إن تعذبهم فإنهم عبادك }؛ قرأ الحسن: (عبدك)، قيل: معناه التبعيض؛ أي إن تعذب الذين أقاموا على الكفر فإنهم عبادك، { وإن تغفر لهم }؛ للذين أسلموا وتابوا، { فإنك أنت العزيز الحكيم }؛ لأنه قال:
أأنت قلت للناس
[المائدة: 116]، وما قلت لهم، وفيهم المسلمون والمشركون، فقوله: { إن تعذبهم } راجع إلى الكافرين، وقوله: { وإن تغفر لهم } راجع إلى المؤمنين.
عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: (وإن تعذبهم على هذه المقالة التي أجزموها فإنهم عبادك، وإن يتوبوا فتغفر لهم). قوله: { فإنك أنت العزيز الحكيم } ، أي المنيع في مغفرتك لهم لا يمنعك أحد مما تريد، الحكيم في أمرك.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي سؤال المغفرة للكفار، والله لا يغفر أن يشرك به، فما معنى هذا السؤال؟ قيل: يحتمل أنه لم يكن في كتابه: إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويحتمل أن يكون معناه: إن تغفر لهم كذبهم الذي قالوا علي.
وقيل: إن عيسى علم أنه منهم من آمن، ومنهم من أقام على الكفر، فكأنه قال: إن تعذب الكفار منهم فإنهم عبادك، وأنت القادر عليهم، وإن تغفر لمن تاب منهم فذلك تفضل منك؛ لأنه كان لك أن لا تفعل ذلك بهم بعد عظيم فريتهم عليك، وكان هذا القول من عيسى عليه السلام على وجه الخضوع والانقياد والاستسلام على معنى أنك أنت المالك والقادر على كل شيء، فلذلك قال: { فإنك أنت العزيز الحكيم } ولو كان قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لأوهم الدعاء بطلب المغفرة والرحمة.
وروي: أنه لما نزلت هذه الآية،
" أحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته بها، وكان بها يقوم وبها يقعد وبها يسجد، ثم قال: " أمتي أمتي يا رب " ، فنزل عليه جبريل فقال: إن الله تعالى يقرؤك السلام ويقول لك: " إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ".
[5.119]
قوله عز وجل: { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم }؛ من قرأ (يوم) بالرفع فمعناه: قال الله لعيسى عليه السلام هذا يوم ينفع النبيين صدقهم بتبليغ الرسالة، والمؤمنين إيمانهم الذي هو صدق في الدنيا والآخرة، ولا ينفع الكفار صدقهم في الآخرة.
ومن قرأ (يوم) بالنصب فعلى الظرف، على معنى: قال الله لعيسى هذا القول الذي تقدم ذكره في يوم ينفع الصادقين صدقهم. وقال الكلبي: (معنى الآية: قال الله: هذا يوم ينفع المؤمنين إيمانهم)، وقيل: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم وفي الآخرة. وقرأ الأعمش (هذا يوم) بالتنوين.
قوله تعالى: { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ أي بساتين تجري من تحت شجرها وغرفها الأنهار، { خالدين فيهآ أبدا }؛ أي إلى الأبد، { رضي الله عنهم }؛ بإيمانهم وطاعتهم، { ورضوا عنه }؛ بإكرامهم في الجنة النجاة الوافرة. وحقيقة الفوز نيل المراد. قوله عز وجل: { ورضوا عنه } أي بما أكرمهم به من الثواب، { ذلك الفوز العظيم } أي ذلك الثواب والخلود في الجنة النجاة الوافرة، وحقيقة الفوز نيل المراد.
[5.120]
قوله عز وجل: { لله ملك السموت والأرض وما فيهن }؛ أي لله خزائن السماوات والأرض، وما فيهن من الخلق، يعطي من شاء ما شاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، { وهو على كل شيء قدير }؛ مما يريد بعباده من المغفرة والعذاب قادر.
والغرض من هذه الآية نفي الربوبية عن عيسى عليه السلام، وبيان أن الله تعالى هو المستحق للعبادة دون غيره، فإنه هو القادر على كل شيء من الجزاء؛ ترغيبا في الطاعة؛ وتحذيرا عن المعصية.
وعن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات "
[6 - سورة الأنعام]
[6.1]
قوله تعالى: { الحمد لله الذي خلق السموت والأرض }؛ قال كعب الأحبار: وأول مفتاح التوراة (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض)، وخاتمتها خاتمة سورة هود
ولله غيب السموت والأرض
[هود: 124]. قال مقاتل: (قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ قال: { الذي خلق السموت والأرض } فكذبوه، فأنزل الله تعالى حامدا نفسه دالا على توحيده: { الحمد لله الذي خلق السموت والأرض } أي خلق السماوات بما فيها من الشمس والقمر والنجوم، والأرض بما فيها من البر والبحر؛ والسهل والجبل؛ والنبات والشجر، خلق السماوات وما فيها في يومين؛ يوم الأحد ويوم الاثنين؛ وخلق الأرض وما فيها في يومين؛ يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء.
قوله تعالى: { وجعل الظلمت والنور }؛ قال السدي: (ظلمة الليل ونور النهار). وقال الواقدي: (كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان؛ إلا في هذه الآية فإنه يريد به الليل والنهار). قال قتادة: (يعني الجنة والنار). وقال الحسن: (يعني الكفر والإيمان).
وقيل: خلق الليل والنهار لمصالح العباد؛ يستريحون بالليل ويبصرون معايشهم بالنهار. وإنما جمع (الظلمات) ووحد (النور) لأن النور يتعدى، والظلمة لا تتعدى.
وقال أهل المعاني: (جعل) ها هنا صلة؛ والعرب تزيد (جعل) في الكلام كقول الشاعر:
وقد جعلت أرى الاتنين أربعة
والواحد اثنين لما هدني الكبر
وتقدير الآية: { الحمد لله الذي خلق السموت والأرض } والظلمات والنور. وقيل: معناه: (خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور)؛ لأنه خلق الظلمة والنور قبل السماوات والأرض. وقال قتادة: (خلق الله السماوات قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار).
وقال وهب: (أول ما خلق الله مكانا مظلما، ثم خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيبة، فصارت ماء وارتفع بخارها ونبذ زبدها، فخلق من البخار السماوات؛ ومن الزبد الأرضين).
قوله عز وجل: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون }؛ أي { ثم الذين كفروا } بعد هذا البيان { بربهم يعدلون } الأوثان؛ أي يشركون. وقيل: معناه: { يعدلون } أي يجعلون لله عديلا ويعبدون الحجارة والأموات؛ وهم يقرون بأن الله خالق هذه الأشياء، فالأصنام لا تعقل شيئا من ذلك.
[6.2]
قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا }؛ معناه: خلقكم من آدم عليه السلام، فأخرج الخطاب له؛ لأنهم ولده، قال السدي: (لما أراد الله خلق آدم، بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها، فاستعاذت الأرض بالله أن ينقص مني، فرجع ولم يأخذ. فبعث ميكائيل؛ فاستعاذت، فبعث ملك الموت؛ فاستعاذت بالله منه؛ فقال: وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره، فأخذ من وجه الأرض، فخلط السوداء والبيضاء والحمراء؛ فلذلك اختلفت الألوان؛ ألوان بني آدم، ثم عجنها بالماء العذب والملح والمسك؛ فلذلك اختلفت أخلاقهم، فقال الله تعالى لملك الموت: رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها؛ لا جرم أن أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك).
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله تعالى خلق آدم من تراب، وجعله طينا، ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا، ثم خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار؛ مر به إبليس لعنه الله، فقال: خلقت لأمر عظيم. ثم نفخ الله فيه الروح ".
قوله تعالى: { ثم قضى أجلا } أي خلقكم من آدم عليه السلام { ثم قضى أجلا } أي جعل لحياتكم وفاة تحيون فيه وهو مدة كل واحد منا من يوم يولد إلى يوم يموت. قوله تعالى: { وأجل مسمى عنده }؛ أي مدة انقضاء الدنيا إلى أن تقوم الساعة؛ ولا يعلم وقت قيامها إلا الله. وقال مجاهد وابن جبير: { ثم قضى أجلا } يعني أجل الدنيا { وأجل مسمى عنده } وهو الآخرة. قوله تعالى: { ثم أنتم تمترون } أي ثم أنتم بعد هذا البيان تشكون في موضع ليس هو موضع الشك. والمرية هي الشك المجلب بالشبهة؛ أصلها من: مريت الناقة إذا مسحت ضرعها لينز لبنها، ويجلبه للحلب.
[6.3]
قوله عز وجل: { وهو الله في السموت وفي الأرض يعلم سركم وجهركم }؛ معناه: هو الله المعبود المنفرد بالتدبير في السماوات والأرض، العالم بما يصلحهما وبما يعمل فيهما. يعلم جهركم وسر أعمالكم وعلانية أموركم، { ويعلم ما تكسبون }؛ أي ما تعملون من خير وشر. وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ من أول سورة الأنعام ثلاث آيات إلى قوله: { ويعلم ما تكسبون } وكل الله به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، وينزل ملك من السماء السابعة معه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له؛ ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا، فإذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: امش في ظلي؛ وكل من ثمار جنتي؛ واشرب من ماء الكوثر؛ واغتسل من ماء السلسبيل؛ وأنت عبدي وأنا ربك ".
[6.4]
قوله عز وجل: { وما تأتيهم من آية من آيت ربهم إلا كانوا عنها معرضين }؛ أي ما تأتي كفار مكة من دلائل التوحيد والنبوة؛ مثل كسوف الشمس والاستسقاء، وكسوف القمر والدخان؛ إلا كانوا عن هذه الآيات والعلامات معرضين مكذبين تاركين لها.
[6.5]
قوله تعالى: { فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون }؛ أي فقد كذب أهل مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن؛ وبما رأوه من انفلاق القمر بمكة، كما روي عن ابن مسعود (أن القمر انفلق فلقتين حتى رأوا اجرابي فلقتي القمر، ثم ذهبت فلقة وبقيت فلقة).
وقوله تعالى: { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون } هذا وعيد لهم؛ أي سيعلمون ما يؤول إليه عاقبة استهزائهم بالرسل والكتب والآيات التي كانت تأتيهم، فقتلهم الله يوم بدر بالسيف، ويأتيهم خبر استهزائهم حين يرون العذاب معاينة. والنبأ عبارة عن خبر الذي له عظم وشأن.
[6.6]
قوله عز وجل: { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن }؛ أي ألم يعلم أهل مكة كم أهلكنا من قبلهم من قرن بكفرهم، مثل قوم نوح وعاد وثمود, { مكنهم في الأرض ما لم نمكن لكم }؛ وأمهلناهم في العمر والولد ورفع الموانع ما لم نمهل لكم، { وأرسلنا السمآء عليهم مدرارا }؛ أي فأنزلنا عليهم المطر دارا دائما يتبع بعضه بعضا، { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم }؛ " أي من تحت " أشجارهم وبساتينهم، فلم يشكروا وعصوا ربهم وكذبوا رسلهم، { فأهلكنهم بذنوبهم }؛ بكفرهم وتكذيبهم، { وأنشأنا من بعدهم }؛ أي من بعد هلاكهم، { قرنا }؛ قوما، { آخرين }؛ فسكنوا ديارهم، ثم بعثت إليهم الرسل، فمن لم يأخذ بملة الرسل ومنهاجهم أهلكهم الله.
والقرن - في قول أكثر المفسرين -: أهل عصر واحد، سموا قرنا؛ لاقترانهم في قرن واحد. ويقال: أهل كل عصر فيهم نبي أو عالم، لاقترانهم بالنبوة والعلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم "
وأراد بالقرن، الأول: الصحابة، وبالثاني: التابعين، وبالثالث: تابعي التابعين. واختلفوا في مدة القرن؛ قال بعضهم: ثمانون سنة، وقيل: مائة سنة، وبين القرنين ثماني عشرة سنة.
[6.7]
قوله عز وجل: { ولو نزلنا عليك كتبا في قرطاس فلمسوه بأيديهم }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي أمية المخزومي؛ قال: يا محمد؛ لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله). وقال مقاتل والكلبي: (نزلت في النضر بن الحارث، وعبدالله ابن أبي أمية، ونوفل بن خويلد؛ قالوا للنبي صلى لله عليه وسلم: لن نؤمن لك حتى تاتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله، فأنزل الله تعالى هذه الآية).
ومعناها: { ولو نزلنا عليك كتبا في } صحيفة وعلقناه بين السماء والأرض ينظرون إليه ويعاينونه ويلمسونه بأيديهم، { لقال الذين كفروا }؛ كفار مكة بعد معاينة ذلك: { إن هذآ }؛ ما هذا؛ { إلا سحر مبين }؛ أي كما قالوا في انشقاق القمر:
سحر مستمر
[القمر: 2] وفي الآية بيان أنهم كانوا معاينين مصرين على التكذيب.
[6.8]
قوله عز وجل: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون }؛ أي قالوا: لولا نزل على محمد ملك نشاهده ونعاينه يخبرنا بأنه نبي، يقول تعالى: { ولو أنزلنا ملكا } كما سألوه فكذبوا لعذبناهم بعذاب الاستئصال { ثم لا ينظرون } أي لا يؤجلون ولا يمهلون بعد نزول الآية المقترحة، نحو ما ذكر الله تعالى في قصة قوم صالح وغيرهم. قال الضحاك: (معناه: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا).
[6.9]
قوله عز وجل: { ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون }؛ أي لو أرسلنا إليهم رسولا من الملائكة لأرسلناه في صورة الإنسان؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة؛ لأن ذلك يؤدي إلى هلاكهم؛ وليكون الشكل إلى الشكل أميل، وبه الذهن إلى الفهم عنه أقرب، وإلى القبول منه أسرع، ولو نظرنا إلى الملك على هيبته لصعقنا.
وقد كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنسان؛ من ذلك أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وجاءت الملائكة إلى إبراهيم عليه السلام في صورة الضيفين، وجاءت الملائكة إلى داود عليه السلام في صورة رجلين يختصمان إليه، وذلك قوله تعالى: { ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا } أي لو أنزلنا إليهم ملكا لجعلنا ذلك في صورة الرجل أيضا.
قوله تعالى: { وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي اختلطنا وشبهنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى شكوا؛ فلا يدرون أملك هو أم رجل؟ وهذا لأنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعدما عرفوه بالصدق والأمانة، ثم لبسوا على أنفسهم وعلى ضعفتهم؛ فقالوا: إنما هو بشر، فلو نزل الملك على صورة رجل للبسوا على أنفسهم أيضا فلم يقبلوا منه وقالوا: إنه في مثل صورتنا!
[6.10]
قوله عز وجل: { ولقد استهزىء برسل من قبلك }؛ أي استهزأت الأمم الماضية بأنبيائهم كما استهزأ بك يا محمد قومك، { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون }؛ أي نزل بهم وحل بالمستهزئين من الكفار عقوبة استهزائهم بالكتاب والرسول عليه الصلاة والسلام.
وقال الضحاك: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد الحرام مع جماعة من المستضعفين: بلال وصهيب وعمار وغيرهم، فمر بهم أبو جهل في ملإ من قريش؛ فقال: تزعم يا محمد أن هؤلاء ملوك الجنة. فأنزل الله تعالى هذه الآية ليثبت فؤاده ويصبر على أذى المشركين). أي إن سخر أهل مكة من أصحابك، فقد فعل ذلك الجهلة برسلهم قبلك.
والحيق في اللغة: ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله، ومنه قوله تعالى:
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر: 43]. وأما الاستهزاء فهو إيهام التفخيم بمعنى التحقير.
[6.11]
قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عقبة المكذبين }؛ أي قل لهم يا محمد سافروا في الأرض، ثم انظروا بأبصاركم وتأملوا بقلوبكم كيف صار إجرام المكذبين بالرسل والكتب مثل عاد وثمود وغيرهم، الذين عذبهم الله تعالى بعذاب الاستئصال، وكانت آثار ديارهم باقية قريبة من مكة. وقال الحسن: (معنى { سيروا في الأرض } أي اقرأوا القرآن وتفكروا فيه، فإن من قرأ القرآن وتفكر فيه فكأنه سار في الأرض ).
[6.12]
قوله عز وجل: { قل لمن ما في السموت والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة }؛ أي قل يا محمد لكفار مكة: لمن ملك ما في السماوات والأرض، فإن أجابوك وقالوا: لله، وإلا فقل لهم " لله " إذ هم يعلمون ويقرون أن الأصنام لا تملك خلق شيء، وإنما الله يملك ذلك.
وقوله تعالى: { كتب على نفسه الرحمة } أي أوجب على نفسه الرحمة فضلا وكرما. أو قيل: معناه: أوجب على نفسه الثواب لمن أطاعه؛ وقيل: أوجب على نفسه الرحمة بإمهال من عصاه؛ ليستدرك ذلك بالتوبة ولم يعاجله بالعقوبة، وهذا استعطاف من الله عز وجل للمتولين عنه إلى الإقبال، وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لما خلق الله تعالى الخلق؛ كتب فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي ".
وقال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: (ما أول شيء ابتدأ الله به؟ فقال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد؛ كتابه الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي).
وفي الخبر: أن لله تعالى مائة رحمة كلها ملىء السماوات والأرض، فأهبط الله تعالى منها رحمة واحدة لأهل الدنيا، فهم بها يتراحمون؛ وبها يتعاطفون؛ وبها يتراحم الإنس والجن وطير السماء وحيتان الماء؛ وما بين الهواء ودواب الأرض وهوامها، وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.
قوله تعالى: { ليجمعنكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه }؛ بدل من الرحمة وتفسير لها، فكأنه قال: ليجمعن بين المؤمنين والكفار، بين المؤمن والكافر في الرزق والنعمة والدولة إلى يوم القيامة، لا شك فيه عند المؤمنين أنه حق كائن، ثم تكون العاقبة بدل البعث للمؤمنين.
قوله تعالى: { الذين خسروا أنفسهم }؛ ابتدأ كلامه؛ وجوابه { فهم لا يؤمنون }؛ لأن { الذين } في موضع شرط؛ وتقدير الآية: الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم ومنازلهم وخدمهم في الجنة في سابق علم الله لا يؤمنون؛ أي لا يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: { ليجمعنكم } كلام مبتدأ على وجه القسم، و { الذين } بدل من الكاف والميم في { ليجمعنكم } ، كأنه قال: ليجمعن هؤلاء المشركين { الذين خسروا أنفسهم } إلى هذا اليوم الذي يجحدونه ويكفرونه. ويحتمل أن يكون قوله: { الذين خسروا أنفسهم } راجعا إلى المكذبين، كأنه قال: عاقبة المكذبين { الذين خسروا أنفسهم }.
[6.13]
قوله عز وجل: { وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم } قال ابن عباس: (وذلك أن كفار مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ قد علمنا ما يحملك على ما تدعونا إليه إلا الحاجة، فنحن نجعل لك من أموالنا حتى تكون أغنانا رجلا، وترجع عما أنت عليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية).
ومعناه: ولله ملك ما استقر { في الليل والنهار } من الخلائق كلهم، وهذا اللفظ يشتمل على جميع المخلوقات؛ لأن من الحيوانات ما يتصرف بالنهار ويسكن بالليل، ومنها ما يتصرف بالليل ويسكن بالنهار. وقال محمد بن جرير: (كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار، والمراد: جميع ما في الأرض؛ لأنه لا شيء من خلق الله تعالى إلا وهو ساكن في الليل والنهار).
وقال أهل المعاني: في الآية إضمار تقديره: وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار. فإن قيل: فلم قال: { وله ما سكن } ولم يقل: وله ما تحرك؟ قيل: لأن الساكن في الأشياء أعم؛ لأنه ما من متحرك إلا وسكن؛ وفي الأشياء الساكنة ما لا يتحرك البتة. قوله تعالى: { وهو السميع العليم } معناه: السميع لمقالة الكفار، العليم بهم وبعقوبتهم. ويقال: هو السميع للأصوات والأقوال، العليم بالأشياء والأرزاق.
[6.14]
وقوله عز وجل: { قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموت والأرض }؛ أي قل لهم يا محمد: أسوى الله أعبد ربا وأتخذ ناصرا، وقوله تعالى: { فاطر السموت والأرض } أي خالقهما ومبدعهما، قال ابن عباس: (ما كنت أدري ما { فاطر السموت والأرض } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي ابتدأتها، يعني ابتدأت حفرها).
قوله تعالى: { وهو يطعم ولا يطعم }؛ أي يرزق ولا يرزق ولا يعاون على الرزق. وقرأ الأعمش: (ولا يطعم) بفتح الياء؛ أي يرزق ولا يأكل؛ أي لا يجوز عليه الحاجة. قوله تعالى: { فاطر السموت } انخفض لأنه نعت لا اسم لله تعالى، ويجوز نصبه على معنى: أعني فاطر السماوات، ويجوز رفعه على إضمار (هو).
قوله تعالى: { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم }؛ أي قل لهم يا محمد: إني أمرت أن أكون أول من أخلص لله بالتوحيد والعبادة من أهل هذا الزمان.
قوله تعالى: { ولا تكونن من المشركين }؛ لا يجوز أن يكون عطفا على قوله: { قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم } لأنه غير مأمور بأن يقول: { ولا تكونن من المشركين } وإنما هو نهي معطوف على أمر من حيث المعنى دون اللفظ؛ لأن معنى الآية: قيل لي كذا: أول من أسلم ولا تكونن من المشركين.
[6.15]
قوله عز وجل: { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } أي قل يا محمد: إني أعلم أني إن عصيت ربي وعبدت غيره، أن ينزل بي عذاب يوم عظيم شأنه وهو يوم القيامة.
[6.16]
قوله تعالى: { من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه }؛ أي من يصرف الله عنه العذاب العظيم يوم القيامة فقد رحمه، { وذلك الفوز المبين }؛ أي النجاة الوافرة الظاهرة. قرأ أهل الكوفة إلا حفصا: (من تصرف) بفتح التاء وكسر الراء؛ وتفسيره ما ذكرناه. وقرأ الباقون (يصرف) على ما لم يسم فاعله؛ أي من يصرف عنه العذاب بأمر الله؛ فقد سبقت رحمة الله له بإيجاب الثواب.
[6.17]
قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو }؛ إن يصبك الله بفقر أو مرض أو بلاء، فلا يقدر أحد من الأصنام وغيرها على كشف ذلك الضر إلا الله، وإنما أطلق هذا اللفظ وإن كان يتصور أن يكشف الإنسان عن صاحبه كربة من الكرب؛ لأن كاشف الضر في الحقيقة هو الله تعالى، إما أن يكشفه بفضله أو نسبة له.
قوله تعالى: { وإن يمسسك بخير }؛ أي بفضل وسعة في الرزق وصحة في الجسم ، فلا مزيل لها إلا هو. إلا أنه لم يقل: فلا مزيل لها إلا هو؛ لأنه لما أكد هذا في الضر دل على هذا في الخير فاستغنى عن إعادته. وإنما قال { يمسسك } مع أن كون المس المعين من صفة الأجسام؛ لأن المعنى يمسسك الله تعالى الضرر. قوله تعالى: { فهو على كل شيء قدير }؛ أي لا يقدر أحد أن يمنعه عن فعل ما أراد فعله من كشف ضر أو غيره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه وهو راكب على بغلة، فلما سار بي مليا التفت إلي وقال لي: " يا غلام ". قلت: لبيك يا رسول الله، قال: " احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وقد مضى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك؛ ما قدروا على ذلك، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله عليك؛ لما قدروا عليه. واعلم: أن النصر مع الصبر، وأن مع الكرب الفرج، وأن مع العسر يسرا " ".
[6.18]
قوله عز وجل: { وهو القاهر فوق عباده }؛ أي هو الغالب على أمر عباده. والقهر: هو الاستعلاء بالاقتدار على الغلبة. وأراد بقوله: { فوق } أنهم تحت التسخير والتذليل عما علاهم من الاقتدار عليهم، لا ينهاك أحد منهم. قوله: { وهو الحكيم الخبير }؛ أي المحكم لصنعه؛ الخبير بأعمال الخلق.
[6.19]
قوله تعالى: { قل أي شيء أكبر شهدة قل الله شهيد بيني وبينكم }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: يا محمد؛ أما وجد الله رسولا يرسله غيرك؟! ما نرى أحدا يصدقك بما تقول؛ ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى؛ فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة ولا نعت، فأرنا من شهد أنك رسول الله كما تزعم. فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: قل لهم يا محمد: أي أحد أعظم وأعدل برهانا وحجة؟ فإن أجابوك وقالوا: الله، وإلا فقل: الله أكبر شهادة من خلقه، وهو شهيد بيني وبينكم، بأني رسول الله، وأن هذا القرآن كلامه. والشاهد هو المبين للدعوى، وقد بين الله تعالى دعوى رسوله بالبراهين والمعجزات والآيات الدالة على توحيد الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ }؛ معناه: أنزل إلي هذا القرآن لأخوفكم به بما فيه من الدلائل؛ وأخبار الأمم السالفة؛ والإنباء بما يكون؛ والتأليف الذي عجز عنه العرب. قوله تعالى: { ومن بلغ } أي وأنذر من بلغه القرآن سواكم من العجم، وغيرهم من الجن والإنس إلى أن تقوم الساعة؛ لأنه ليس من بعد القرآن كتاب، ولا من بعد محمد رسول.
قوله تعالى: { أئنكم لتشهدون أن مع الله ءالهة أخرى قل لا أشهد }؛ استفهام بمعنى الإنكار؛ أي إن كنتم تشهدون بإثبات شريك لله؛ فأنا لا أشهد بما تشهدون به. وإنما قال: (أخرى) ولم يقل أخر؛ لأن الجمع تذكر بلفظ وحدان التأنيث، كما قال تعالى:
قالت الأعراب
[الحجرات: 14] ومثله كثير.
قوله تعالى: { قل إنما هو إله واحد }؛ لا شريك له ولا ولد، { وإنني بريء مما تشركون }؛ به من الأصنام والأوثان.
[6.20]
قوله عز وجل: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم }؛ أي الذين أعطيناهم التوراة والإنجيل يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم بما يجدونه مكتوبا عندهم من صفته ونعته، كما يعرفون أبناءهم إذا رأوهم بين الغلمان. كما روي في الخبر: (أن عمر رضي الله عنه قال لعبدالله بن سلام: يا أبا حمزة؛ أتعرف محمدا صلى الله عليه وسلم كما تعرف ابنك؟ قال: يا عمر؛ إن معرفتي به أشد من معرفتي بابني؛ لأن أمين السماء - يعني جبريل قد جاء بنعته إلى أمين الأرض وهو موسى عليه السلام. فقال عمر: وكيف ذلك؟ قال: أشهد أنه رسول الله حق من الله تعالى، وقد نعته الله تعالى في كتابنا فعرفته، وأما ابني فلا أدري ما أحدث النساء بعدي. فقال عمر رضي الله عنه: وفقك الله يا ابن سلام).
قوله تعالى: { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون }؛ ابتداء كلام معناه: والذين غبنوا أنفسهم بذهاب الدنيا والآخرة عنهم، وهم المعاندون الذين يعرفون ويجحدون من رؤساء اليهود والنصارى، فهم لا يقرون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
[6.21]
قوله عز وجل: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآيته }؛ معناه: أي أحد أظلم في فاحشة أتاها ممن اختلق على الله كذبا بإضافته إلى الله ما لم يضفه إلى نفسه من صفة أو أمر وقول، وهم الذين إذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها؛ قل: إن الله لا يامر بالفحشاء. قوله تعالى: { أو كذب بآيته } أي بدلائله؛ { إنه لا يفلح الظلمون }؛ أي لا يؤمن من عذاب الله ولا يصل إلى مراده؛ وبغيته القوم الكافرون.
[6.22]
قوله تعالى: { ويوم نحشرهم جميعا }؛ أي واذكروا يوم نبعث الكفار وآلهتهم جميعا للحساب والجزاء. وقال بعضهم: الواو عاطفة على قوله:
لا يفلح الظلمون
[الأنعام: 21] كأنه قال: لا يفلحون في الدنيا ويوم نحشرهم. والحشر: جمع الناس إلى موضع معلوم.
قوله تعالى: { ثم نقول للذين أشركوا }؛ معناه: ثم نقول للذين أشركوا بالله غيره: { أين شركآؤكم }؛ آلهتكم: { الذين كنتم }؛ التي كنتم تعبدون من دون الله؛ و؛ { تزعمون } ، أنهم شركاء الله وشفعاؤكم.
[6.23]
قوله تعالى: { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين }؛ أي ثم لم تكن معذرتهم يوم القيامة إلا مقالتهم: { والله ربنا ما كنا مشركين } في دار الدنيا. وإنما سميت المعذرة فتنة؛ لأنها عين الفتنة.
ومن قرأ (فتنتهم) بالنصب فعلى خبر (لم تكن) واسمها (أن قالوا). ومن قرأ (ربنا) بالنصب فمعناه النداء. وقراءة حفص على البدل، ويجوز الرفع على إضمار (هو). وقيل: المراد بالفتنة محبتهم للأوثان التي كانوا مفتتنين بها في الدنيا، فأعلم الله تعالى أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرأوا منه وانتهوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين.
[6.24]
قوله تعالى: { انظر كيف كذبوا على أنفسهم }؛ أي انظر يا محمد كيف صار وبال الكذب عليهم؟ { وضل عنهم }؛ أي عزب عنهم افتراؤهم بما لحقهم من الذهول والدهش، قال الضحاك: (وذلك حين نطقت الجوارح، وشهدت عليهم أيديهم وأرجلهم بعد حلفهم
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23] يقول الله تعالى: { انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون }.
[6.25]
قوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي ءاذانهم وقرا }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن أبا سفيان والوليد بن المغيرة وعتبة وشيبة والنضر بن الحارث وأبي بن خلف وجماعة من أهل مكة؛ كانوا يسمعون إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا للنضر: ما يقول محمد؟ قال: لا أدري ما يقول؟ إلا أني أراه محركا شفتيه ويتكلم بشيء ولا يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولين وأخبارهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية).
ومعناها: ومن أهل مكة من يستمع إلى حديثك وقراءتك، وجعلنا على قلوبهم أغطية كراهة أن يفقهوه؛ وفي آذانهم ثقلا وصمما، فلا يسمعون الهدى. وموضع { أن يفقهوه } نصب على أنه مفعول له؛ أي جعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه. والوقر بفتح الواو: الثقل في الأذن، والوقر بكسر الواو: ما يحمل على الظهر.
قوله تعالى: { وإن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها }؛ أي وإن يروا كل حجة ودلالة لا يقروا ولا يصدقوا بها.
قوله تعالى: { حتى إذا جآءوك يجدلونك }؛ أي يخاصمونك بالباطل؛ { يقول الذين كفروا إن هذآ إلا أسطير الأولين }؛ أي يقول النضر بن الحارث وأصحابه: ما هذا إلا أحاديث الأولين وأباطيلهم.
[6.26]
قوله عز وجل: { وهم ينهون عنه وينأون عنه }؛ قال مقاتل: نزلت في أبي طالب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي
فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحا بذاك يقينا
فأنزل الله تعالى: { وهم ينهون عنه } وينهون الناس عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم { وينأون عنه } أي يتباعدون عما جاء به من الهدى، فلا يصدقونه.
وقال السدي والضحاك: (نزلت الآية في جميع كفار مكة) يعني وهم ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان؛ ويبعدون أنفسهم عنه. { وإن يهلكون }؛ بذلك، { إلا أنفسهم وما يشعرون }؛ وما يعلمون أنهم يهلكون أنفسهم.
[6.27]
قوله عز وجل: { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بآيت ربنا }؛ أي ولو ترى يا محمد كفار قريش إذ حبسوا على النار؛ إذ عاينوها ودخلوها وعرفوا عذابها؛ فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا؛ تمنوا الرجعة إلى الدنيا.
وقرأ ابن السميقع: (وقفوا) فبفتح الواو والقاف من الوقوف. والقراءة الأولى من الوقف، وجواب (لا) محذوف وتقديره: ولو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا، وقيل: لعلمت ماذا ينزل بهم من الخزي والندامة، ورأيت حسرة يا لها من حسرة.
قوله تعالى: { ولا نكذب بآيت ربنا } { ونكون من المؤمنين }؛ قرأ حمزة ويعقوب وحفص: (ولا نكذب) (ونكون) بالنصب على جواب التمني، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء، كما قالوا: يا ليتك تصير إلينا ونكرمك، أو فنكرمك فكلاهما بالنصب.
وقرأ ابن عامر (ولا نكذب) بالرفع (ونكون) بالنصب؛ لأنهم تمنوا الرد وأن يكونوا مؤمنين وأخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم وإن ردوا إلى الدنيا. ومعناه: يا ليتنا نرد، ويا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق بالتصديق. ويجوز أن يكون ذلك رفعا على معنى: ونحن لا نكذب بآيات ربنا، رددنا أو لم نرد.
[6.28]
قوله عز وجل: { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل }؛ أي بل ظهر للذين يتبعون الغواة ما كان الغواة يخفون عنه من أمر البعث والنشور، وما كان رؤساؤهم يخفون من سفلتهم.
وقوله تعالى: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه }؛ أي لو ردوا إلى الدنيا كما سألوا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والشرك. قوله تعالى: { وإنهم لكاذبون }؛ يعني وإنهم لكاذبون في قولهم:
ولا نكذب بآيت ربنا ونكون من المؤمنين
[الأنعام: 27] لأنهم لا يؤمنون لسابق علم الله تعالى فيهم أنهم خلقوا للنار.
[6.29]
قوله تعالى: { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا }؛ أي قال كفار مكة: ما حياتنا إلا كحياة الدنيا، { وما نحن بمبعوثين }؛ بعد الموت.
[6.30]
قوله تعالى: { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم }؛ أي لو ترى يا محمد إذ حبسوا عند ربهم للسؤال والحساب. ويقال: عرفوا ما وعدهم ربهم من البعث والقيامة والجنة والنار. { قال }؛ يقول الله تعالى لهم: { أليس هذا }؛ البعث والعذاب، { بالحق }؛ أي بالصدق، { قالوا بلى وربنا }؛ إنه لحق؛ أي لصدق، { قال }؛ يقول الله تعالى: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } في الدنيا.
وإنما ذكر الذوق بمعنى الخلود؛ ليبين أن حالهم في كل وقت كحال من يعذب بالعذاب المبتدأ. ومعنى { وقفوا على ربهم } أي على حكم ربهم وقضائه، فتقول لهم الملائكة بأمر الله تعالى: أليس هذا العذاب بالحق، قالوا بلى وربنا إنه حق.
[6.31]
قوله تعالى: { قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله }؛ أي قد غبن الذين كذبوا بالبعث بعد الموت، { حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة }؛ أي فجأة ندموا في وقت لا ينفعهم الندامة. وسميت القيامة ساعة؛ لتوهم قيامها في كل ساعة.
وقوله تعالى: { قالوا يحسرتنا على ما فرطنا فيها }؛ أي على ما قصرنا وضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم }؛ معناه: والكفار يحملون أثقال آثامهم فوق ظهروهم بذنوبهم، والذنب من أثقل ما يحمل. وقيل: معناه { على ما فرطنا فيها } أي في الصفقة.
وقوله تعالى: { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } قال السدي: (ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا أتاه رجل قبيح الوجه؛ أسود اللون؛ منتن الرائحة؛ عليه ثياب دنسة، فإذا رآه الظالم قال له: ما أقبحك! فيقول: أنا عملك في الدنيا، فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: طالما كنت أحملك على اللذة والشهوات، فأنت اليوم تحملني. فيركبه وفي يده مقمعة فيضرب بها رأسه؛ فيفضحه على رؤوس الخلائق حتى يدخله النار، فذلك قوله: { يحملون أوزارهم على ظهورهم }.
قوله تعالى: { ألا سآء ما يزرون }؛ أي بئس الشيء الذي يحملون من الآثام. ويقال: بئس الشيء شيئا يزرونه؛ أي يحملونه.
[6.32]
قوله عز وجل: { وما الحيوة الدنيآ إلا لعب ولهو }؛ معناه: ما زينة الدنيا وزهرتها إلا استمتاع؛ يعني من قريب، ثم يعقبه حسرة وندامة. وسمي ذلك لعبا تشبها بلعب الصبيان، يبنون بناء ثم يهدمونه، يلعبون بشيء فيلهون به، كذلك أهل الدنيا يجمعون ما لا يأكلون؛ ويبنون ما لا يسكونون؛ ويأملون ما لا يدركون.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لكفار مكة، يفعلون ما لا يرجون به الثواب، ولا يخشون منه العقاب، ولا يتفكرون في العاقبة كالصبيان والبهائم. واللعب شغل النفس عما لا حقيقة له ولا قصد. واللهو: طلب المزح بمثل ذلك.
قوله تعالى: { وللدار الآخرة خير للذين يتقون }؛ يعني الجنة أفضل للذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش، { أفلا تعقلون }؛ أن الآخرة الباقية خير من الدنيا الفانية. قرأ ابن عامر: (ولدار الآخرة) بلام واحدة على الإضافة.
[6.33]
قوله تعالى: { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون }؛ معناه: قد نعلم إنه ليحزنك ما يقول كفار مكة من تكذيبهم إياك في العلانية وجحودهم بالله، { فإنهم لا يكذبونك }؛ في السر ولا بقلوبهم؛ أي هم يعلمون أنك صادق وكنت تسمى فيهم (الأمين) قبل الرسالة، فلا يحزنك تكذيبهم إياك فيما يعلمون صدقك فيه، { ولكن الظلمين }؛ المشركين، { بآيات الله يجحدون }؛ بألسنتهم ما تشهد به قلوبهم بكذبهم فيه.
وقال السدي: (التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل؛ فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم؛ أخبرني عن محمد؛ أصادق هو أم كاذب؛ فإنه ليس ها هنا أحد يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق؛ وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة؛ فماذا يكون لسائر قريش. فأنزل الله تعالى هذه الآية). وقال: (معنى: { لا يكذبونك } لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتب الأنبياء قبلك: كذبت!.
وقرأ نافع والكسائي: (يكذبونك) بالتخفيف. ومعناه: لا يجدونك كاذبا، يقال: كذبت فلانا بالتشديد إذا قلت له: كذبت، وأكذبت فلانا؛ إذا رأيت ما أتى به كذبا. وقرأ نافع (ليحزنك) بضم الياء، والمعنى واحد.
[6.34]
قوله عز وجل: { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا }؛ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى الكفار، ومعناه: أن الرسل قبلك كذبهم قومهم كما كذبك هؤلاء، وآذوهم كما آذوك؛ فصبر الرسل على تكذيبهم وإيذائهم { حتى أتاهم نصرنا } أي أتاهم نصرنا بإهلاك قومهم، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك إياك وإيذائهم لك حتى يأتيك نصرنا.
قوله تعالى: { ولا مبدل لكلمات الله }؛ أي لا مغير لما وعدك الله من النصر والظفر بقوله:
إنا لننصر رسلنا
[غافر: 51]، { ولقد جآءك من نبإ المرسلين } أي من خبر المرسلين قبلك ما يكون لك فيه سلوة، فاعتبر بأخبارهم.
[6.35]
قوله تعالى: { وإن كان كبر عليك إعراضهم }؛ أي إن كان عظم وثقل عليك يا محمد إعراضهم عن القبول منك وقولهم: لولا أنزل عليه ملك، وسؤالهم كل معجزة شاءوا، { فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السمآء فتأتيهم بآية }؛ فإن استطعت أن تطلب مسلكا نافذا في الأرض؛ كنفق اليربوع، فتدخله هاربا متواريا؛ أو تطلب شيئا يسلمك إلى السماء فتأتيهم بالآية التي سألوكها، فافعل، وليس في القرآن فافعل؛ لأنه قد يحذف ما يكون في الكلام دليلا عليه مثل قول الرجل: إن رأيت أن تمضي معي إلى فلان، ولا يذكر فافعل.
وقد بين الله تعالى في هذه الآية: إن ما تأتي من الآيات بما أحب، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر لا يقدر على الإتيان إلا بما شاء الله، وكان قد علم أنه لو أنزل عليهم الملك وكل آية سألوها لم يؤمنوا، فلم ينزل إلا ما تثبت به الحجة عليهم، فتؤجر بالصبر والثبات على الإيمان بالآية.
قوله تعالى: { ولو شآء الله لجمعهم على الهدى }؛ أي لو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان كما قال:
إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين
[الشعراء: 4]. وقيل: معناه: ولو شاء الله لأطبقهم على الهدى. وقيل: لوفقهم.
وقوله تعالى: { فلا تكونن من الجهلين }؛ أي لا تكونن من الجاهلين بترك الصبر وإظهار الجزع؛ واستشعار الغم لإعراضهم عنك، فإن هذا من فعال الجاهلين. ويقال: معناه: لا تكونن من الجاهلين بمقدوري عليهم.
[6.36]
قوله عز وجل: { إنما يستجيب الذين يسمعون }؛ معناه: إنما يجيب الذين يقبلون الحق، وأما الذي لا يقبل الحق فكأنه أصم أو ميت، قوله تعالى: { والموتى يبعثهم الله }؛ أراد به كفار مكة؛ سماهم موتى لأنهم لم يتدبروا ولم يتأملوا، ولم ينتفعوا بحياتهم، فكانوا بمنزلة الموتى وإن كانوا في صورة أحياء، { ثم إليه يرجعون }؛ في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم.
[6.37]
قوله تعالى: { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه }؛ أي قال كفار قريش: لولا نزل على محمد علامة لنبوته من ربه؛ يعنون الآيات التي كانوا يقترحونها، { قل }؛ يا محمد؛ { إن الله قادر على أن ينزل آية }؛ على ما تقترحونها أنتم، { ولكن أكثرهم لا يعلمون }؛ ما عليهم من المضرة في إنزال هذه الآية، إذ الحكمة تقتضي التعذيب بعذاب الاستئصال لمن كفر بعد إنزال الآية المقترحة.
[6.38]
قوله تعالى: { وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم }؛ أي ما من دابة تدب وتتحرك على وجه الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه في الهواء، إلا أمم أمثالكم، في الفقر والفاقة والحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وأكنتهم وهدايتهم إلى مراشدهم ومصالحهم.
وقيل: معناه: إلا أمم أمثالكم في الخلق والرزق والموت البعث؛ لأنه قال:
والموتى يبعثهم الله
[الأنعام: 36] فيكون معناه: { وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } في أن الله يميتها ويبعثها للجزاء. وقيل: معناه: { إلا أمم أمثالكم } يفقه بعضه عن بعض، كما يفقه بعضكم عن بعض.
وذكر الجناحين في الآية على جهة التأكيد؛ لأنه يقال: طار فلان في الأمر؛ أي أسرع، وفلان طير من الطيور؛ لسرعته في الأمور. وقيل: ذكر الجناحين في الآية لبيان أن المراد به الطير.
قوله تعالى: { ما فرطنا في الكتب من شيء }؛ معناه: ما تركنا في اللوح المحفوظ شيئا إلا كتبناه فيه. ويقال: ما تركنا بيان شيء في القرآن فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين والدنيا، بل قد بينا في الكتاب كل شيء إما مفصلا أو مجملا، أما المفصل كقوله تعالى:
النفس بالنفس والعين بالعين
[المائدة: 45] وأما المجمل كقوله:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7].
وقوله تعالى: { ثم إلى ربهم يحشرون }؛ معناه: أن الطيور والدواب يجمعون مع سائر الخلق يوم القيامة للحساب والجزاء، كما روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله تعالى يحشر الخلق كلهم يوم القيامة؛ والبهائم والدواب والطير وكل شيء؛ فيبلغ من عدل الله تعالى يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، فإذا ميز بين أهل الجنة والنار؛ قال للبهائم والوحوش والطيور: كونوا ترابا تستوي بكم الأرض، فتكون ترابا، فعند ذلك يتمنى الكافر فيقول: يا ليتني كنت ترابا ".
والمراد بهذا الإفناء للبهائم بعد أن أحياها أنه إفناء لا يكون فيه ألم.
[6.39]
قوله عز وجل: { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات }؛ معناه: الذين جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن صم عن الخير لا يسمعون الهدى، خرس لا يتكلمون بخير؛ أي يكون حالهم كحال الأصم الأبكم. وحذف التشبيه من قوله: { صم وبكم } على جهة المبالغة في الوصف، كما يقال في وصف القوم بالبلادة: هؤلاء حمر.
قوله: { في الظلمات } أي في ضلالات الكفر في ظلمة السمع والبصر والقلب، { من يشإ الله يضلله }؛ أي من شاء الله يتركه في ضلالة الكفر، فلا يخرجه منه، { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم }؛ ومن يشأ يرشده ويوفقه للإسلام فيثبته على ذلك حتى يموت عليه، ويقال: معناه: من يشأ الله يضلله في الآخرة عن طريق الجنة إلى طريق النار، ومن يشأ يجعله على طريق الجنة.
[6.40]
قوله عز وجل: { قل أرءيتكم إن أتكم عذاب الله أو أتتكم الساعة }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: أرايتم، والكاف زائدة في بيان الخطاب للتأكيد كما في (ذلك) و(أؤلئك). والمعنى: قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله، كما أتى الأمم الماضين قبلكم المكذبين لرسلهم، أو أئتكم القيامة بأهوالها وشدائدها. ويقال: أراد ب { الساعة } الوقت الذي يصعق فيه العباد، فيموتون كلهم.
قوله تعالى: { أغير الله تدعون }؛ أي أغير الله تدعون في كشف ذلك العذاب ودفع تلك الأهوال عنكم، أم تدعون الله تعالى. وقوله تعالى: { إن كنتم صدقين }؛ أي في مقالتكم أن الأصنام شركاء لله؛ فهلا تدعون الأصنام عند الشدائد. وهو احتجاج من الله عليهم بما لا يدعونه؛ لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله تعالى.
[6.41]
قوله تعالى: { بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شآء }؛ أي بل تدعون الله في كشف العذاب والأهوال، و { بل } للاستدراك بعد النفي، { فيكشف ما تدعون إليه } أي يكشف عنكم الضر الذي من أجله دعوتموه فكشفه. وقوله تعالى: { إن شآء } إنما قرن بالمشيئة؛ لأن كشف العذاب فضل من الله تعالى، وفضل الله يعطيه من يشاء.
وقوله تعالى: { وتنسون ما تشركون }؛ أي وتتركون دعوة آلهتكم عند الشدة إذا أشرفتم على الهلاك؛ واضطربت بكم الأمواج في لجج البحار؛ وفي غير ذلك من السجن والأوجاع التي لا صبر عليها، وقد يذكر النسيان بمعنى الترك كما في قوله:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67] أي تركوا ذكر الله، فتركهم الله في العذاب.
[6.42]
قوله عز وجل: { ولقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فأخذنهم بالبأسآء والضرآء } أي ولقد أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، كما أرسلناك إلى قومك فلم يؤمنوا، فأخذناهم بالبأساء والضراء. والضراء هي الشدة النازلة؛ والبأساء مأخوذة من البأس، وقيل: من البؤس؛ وهو الفقر. والضراء هي الأمراض والأوجاع؛ وهي مأخوذة من الضرر. وقوله تعالى: { لعلهم يتضرعون }؛ أي لكي تخشع القلوب، وتتضرع النفوس عند الشدة؛ فيرجعون إلى الله فيؤمنون به؛ فيكشف عنهم؛ فلم يفعلوا.
[6.43]
قوله عز وجل: { فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا }؛ أي فهلا حين جاءهم بأسنا؛ أي عذابنا؛ دعوا الله وآمنوا به، { ولكن قست قلوبهم }؛ أي يبست وجفت قلوبهم؛ فأقاموا على كفرهم؛ إذ لم يكن في قلوبهم رقة، ولا خوف من الله تعالى ، { وزين لهم الشيطان }؛ أي حسن لهم، { ما كانوا يعملون }؛ في كفرهم؛ بأن أغواهم ودعاهم إلى اللذة والراحة دون التفكر والتدبر ببيان الحق من الباطل.
[6.44]
قوله تعالى: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء }؛ أي فلما تركوا ما وعظوا به وأمروا به { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } مما كان مغلقا عليهم من الخير والرزق والخصب والمطر. وأخصبت بلادهم وكثر خيرهم، { حتى إذا فرحوا }؛ أعجبوا؛ { بمآ أوتوا }؛ أي بما أعطوا من النعم والسعة والصحة؛ { أخذناهم بغتة }؛ أي فجأة بالعذاب بعد أن ابتليناهم في النعمة والشدة؛ فلم يزدادوا إلا كفرا، { فإذا هم مبلسون }؛ أي فإذا هم عند نزول العذاب بهم آيسون من كل خير؛ متحسرون غاية الحسرة. والمبلس: البائس الحزين الشديد الحسرة، ويقال: هو المنقطع عن الحجة.
فإن قيل: لم أنعم الله عليهم حين نسوا ما ذكروا به؛ وهذا موضع العقوبة دون الإنعام؟ قيل فيه قولان: أحدهما: أنه أنعم عليهم بالدعاء لهم إلى الطاعة، فإن الدعاء إلى الطاعة تارة يكون بالعنف والتشديد، وتارة باللين والإنعام.
والثاني: أنه إنما فعل ذلك بهم؛ لأن من ينقل من النعمة والراحة إلى العذاب يجمع عليه العذاب والحسرة على ما فاته؛ فيكون ذلك أشد عليه ممن ينقل من الشدة إلى العذاب.
[6.45]
قوله عز وجل: { فقطع دابر القوم الذين ظلموا }؛ أي استؤصل بالهلاك آخر من بقي من القوم الكافرين. ودابر القوم: آخرهم من نسلهم وغيرهم، بحيث لا يبقى لهم بعد ذلك باقية، { والحمد لله رب العالمين }؛ يجوز أن يكون حمدا من الله تعالى لنفسه على إهلاكه القوم الكافرين والمعاندين بعد أن أعذرهم وأنذرهم. ويجوز أن يكون قوله: { والحمد لله رب العالمين } تعليما من الله " للناس " يحمدونه على إهلاك الظالمين.
وقد قطع الله دابر المعاندين من أهل مكة يوم بدر كما قطع دابر المكذبين قبلهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا رأيت الله تعالى يعطي عبدا في الدنيا على معصيته ما يحب؛ فإن ذلك منه استدراج، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } الآية ".
[6.46]
قوله عز وجل: { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به }؛ أي قل يا محمد لكفار مكة: إن سلب الله سمعكم وأبصاركم التي هي أشرف ما قبلكم من الأعضاء، وختم على قلوبكم؛ فإن سلب عقولكم حتى لا تفهموا بها فعاقبكم بذلك على تكذيبكم الرسل؛ هل من إله غير الله يرد عليكم ما سلبه الله تعالى؟ وهل يقدر على ذلك غيره؟ { انظر }؛ يا محمد؛ { كيف نصرف }؛ نبين لهم؛ { الآيات }؛ في القرآن؛ ونخوفهم بها؛ { ثم هم يصدفون }؛ أي يعرضون عما وضح لهم مكذبين به، لا تتحرك أفئدتهم. والتصريف توجيه المعنى في الجهات تظهره أتم الإظهار.
[6.47]
قوله عز وجل { قل أرءيتكم إن أتكم عذاب الله بغتة أو جهرة }؛ أي أرأيتم إن أتاكم وهذا حالكم في الإصرار على الكفر عذاب الله فجأة وعلانية؛ نهارا جهارا، { هل يهلك إلا القوم الظلمون }؛ إلا أنتم وما أشبهكم؛ لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون. وإنما قابل البغتة بالجهرة وإن كان ضد الجهرة الخفية؛ لأن ما يأتي فجأة فإنما يأتي خفية.
[6.48]
قوله تعالى: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين }؛ أي ليس على الرسل أن يأتوا الناس بما يقترحون عليهم من الآيات، إنما نرسلهم بالتبشير بالجنة للمطيعين؛ والتحذير بالنار للكافرين، { فمن ءامن }؛ بالرسل والكتب؛ { وأصلح }؛ العمل فيما بينه وبين ربه؛ فأقام على إيمانه وتوبته؛ { فلا خوف عليهم }؛ حين يخاف أهل النار، { ولا هم يحزنون }؛ إذا حزنوا.
[6.49]
قوله تعالى: { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } أي يصيبهم العذاب بفسقهم وجحودهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
[6.50]
وقوله عز وجل: { قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك }؛ نزلت هذه الآية جوابا عن قول الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد؛ لولا أنزل عليك كنز فتستغني به؛ فإنك فقير محتاج! وعن قولهم: لولا أنزل عليه ملك، وقولهم: لولا أنزل عليه آية.
ومعناها: قل لهم يا محمد: { لا أقول لكم عندي خزآئن الله } أي لا أدعي أن مفاتيح الرزق بيدي؛ فأقبض وأبسط، وليس خزائن الله مثل خزائن العباد، إنما خزائن الله مقدوراته التي لا توجد إلا بتكوينه إياها، { ولا أعلم الغيب } أي لا أدعي علم الغيب فيما مضى وما سيكون، { ولا أقول لكم إني ملك } من السماء شاهدت ما لم تشاهد البشر، { إن أتبع إلا ما يوحى إلي }؛ أي لا أعلم ولا أقول إلا بما نزله الله على لسان بعض الملائكة، { قل هل يستوي الأعمى والبصير }؛ أي الكافر والمؤمن، ويقال: الجاهل والعالم، { أفلا تتفكرون }؛ في آيات الله ومواعظه.
[6.51]
قوله تعالى: { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم }؛ أي أنذر بالقرآن وخوف به { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } وخوف به الذين يعلمون أن حشرهم إلى ربهم؛ أي إلى موضع لا يملك فيه أحد نفعهم ولا ضرهم إلا الله تعالى. قالوا: والذين يخافون البعث أحد رجلين؛ إما مسلم فينذر ليؤدي حق الله في إسلامه، وإما رجل من أهل الكتاب فهو مقرون بأن الله تعالى خلقهم وأنهم مبعوثون محاسبون. { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون }.
[6.52]
قوله عز وجل: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }؛ قال عبدالله بن مسعود: (مر جماعة من المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وخباب بن الأرت وبلال وعمار بن ياسر وغيرهم من ضعفاء المسلمين؛ فأرادوا الحيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطردوا أصحابه، فقالوا: يا محمد، لو طردت هؤلاء السفلة والعبيد عنك أتاك أشراف قومك ورؤساؤهم يستمعون مقالتك ويصدقونك، وذكروا ذلك أيضا لعمر رضي الله عنه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حرصا على إسلام أشراف قومه، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بعض الذي طلبوه، فأنزل الله هذه الآية). يعلمه أنه لا يجب أن يفضل غنيا ولا شريفا على فقير وضعيف؛ لأن طريقه فيما أرسل به الدين دون أحوال الدنيا.
فذلك قوله تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } أي يعبدون ربهم بالصلاة المفروضة غدوا وعشيا وهم ضعفة الصحابة وصفهم الله بالمواظبة على عبادته في طرفي النهار؛ ثم شهد لهم أنهم مخلصون في الإيمان بقوله: { يريدون وجهه } أي يريدون وجه الله تعالى بذلك؛ ويطلبون رضاه. وذكر الوجه على سبيل التفخيم كقوله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88]. معناه: إلا هو.
قوله تعالى: { ما عليك من حسابهم من شيء }؛ أي ما عليك من حساب عملهم وباطن أمرهم من شيء، { وما من حسابك عليهم من شيء }؛ أي ما عليهم من باطن أمرك شيء ولا يسألون عن عملك ولا تسأل أنت عن عملهم.
وقيل: معناه: ما عليك من رزقهم من شيء، وما من رزقك عليهم من شيء. قوله تعالى: { فتطردهم }؛ جواب { ما عليك من حسابهم }. وقوله تعالى: { فتكون }؛ جواب { ولا تطرد }. { من الظالمين } ، ومعناه: فتكون من الضارين لنفسك أن لو طردتهم.
وتقدير الآية: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فتكون من الظالمين، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم. وقال سلمان وخباب:
" فينا نزلت هذه الآية، فجاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وأصحابهم من المؤلفة، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين، فلما رأوهم حوله حقروهم؛ وقالوا: يا محمد؛ لو جلست في صدر المسجد، ونفيت عنا هؤلاء ورائحة جبابهم لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك. وكان عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها.
فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أنا بطارد المسلمين " فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا مجلسا تعرف العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك؛ فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فأجابهم إلى ذلك، فقالوا: أكتب لنا عليك بذلك كتابا. فدعا بصحيفة ودعا عليا رضي الله عنه ليكتب.
قال: فبينما نحن قعود في ناحية المسجد؛ إذ نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } الآية. فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: " سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم ويتركنا، فأنزل الله تعالى: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم }.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد فندنو منه حتى تكاد ركبنا أن تمس ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال: " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات " ".
وقال مجاهد: (قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لتابعنا محمدا. فأنزل الله هذه الآية). وقال عكرمة: (جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي ونوفل ابن الحارث وعمر بن نوفل إلى أبي طالب؛ قالوا له: لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا؛ فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا، كان أعظم في صدورنا وأطوع لله عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا. فأتى أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحدثه بالذي كلموه.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك يا رسول الله؛ حتى تنظر ما الذي يريدون؛ وإلى ما يضمرون من قولهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي }. قال ابن عباس: (يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة (بالغداة والعشي) يعني صلاة الصبح وصلاة العصر).
[6.53]
قوله تعالى: { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننآ }؛ قال ابن عباس: معناه: (وكذلك ابتلينا (بعضهم ببعض): العربي بالموالي؛ والغني بالفقير؛ والشريف بالوضيع؛ ليقول الأغنياء والأشراف مثل عيينة بن حصين الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: لو طردت هؤلاء السفلة، ومثل أصحابه؛ كانوا يقولون: هؤلاء - يعنون سلمان وأصحابه - من الله عليهم بالمغفرة والإسلام من بيننا). وقال الكلبي: (هو أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد أسلم قبله استنكف أن يسلم، وقال: قد سبقني هذا بالإسلام؛ فلا يسلم).
ومعنى (اللام) في قوله: { ليقولوا } لام العاقبة؛ ومعناه: ليكون عاقبة أمرهما؛ قال الأغنياء والأشراف: أهؤلاء المستضعفون فضلهم الله علينا. ونظير هذه اللام في هذه الآية قوله تعالى:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص: 8]، ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لأجل أن يكون لهم عدوا وحزنا، ولكن عاقبة التقاطهم إياه أن صار لهم عدوا وحزنا.
وقال بعضهم: اللام في قوله: { ليقولوا } معناها الاستفهام؛ أي ليقول بعضهم لبعض استفهاما لا إنكارا: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالإيمان.
والفائدة في ذلك أن الأغنياء كانوا شاكين في أن سبق الفقراء إلى الإيمان وصبرهم على طريقة الدين؛ هل يوجب أن تكون نعمة من الله عظيمة عليهم، فأمرهم الله تعالى أن يستفهموا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لأجله يقوم الفقراء بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم واستحقوا الإعظام، فيظهر عند الاستفهام جواب النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون في سماعهم لذلك مصلحة عظيمة توجب رضاهم بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم أهل الدين. قوله تعالى: { أليس الله بأعلم بالشكرين }؛ استفهام بمعنى التحقيق على معنى أن الله أعلم بمن هو من أهل التوحيد والثواب.
[6.54]
وقوله تعالى: { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلم عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهلة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم }؛ اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؛ فقال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال:
" الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ".
وقال ابن عباس والكلبي: (لما نزلت هذه الآية
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
[الأنعام: 52] الآية، جاء عمر رضي الله عنه معتذرا من مقالته؛ فأنزل الله تعالى: { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا } الذين يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { فقل سلم عليكم } أي قبل الله معذرتهم وتوبتهم). ومعنى السلام: السلامة من جميع الآفات.
وقيل: إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلم على المستضعفين إذا جاءوا إليه، وإنما أمره بأن يبدأهم بالسلام مع أن العادة أن يسلم على القاعد حتى ينبسط إليهم بالسلام عليهم؛ لئلا يحتشموا من الانبساط إليه. قال عطاء: (نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وبلال وسالم ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان ابن مضعون وعمار بن ياسر).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظيمة كبيرة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: { وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلم عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهلة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم }.
واختلفوا في قوله: { سوءا بجهلة } قال مجاهد: (معناه: لا يعرف حلالا من حرام، فمن جهالته ركب الأمر). وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب. وقيل: جهل حين آثر المعصية على الطاعة، واللذة اليسيرة الفانية على الكثيرة الباقية الدائمة، فعلى هذا يسمى مرتكب المعصية جاهلا.
واختلف القراء في قوله تعالى: { أنه من عمل منكم سوءا بجهلة } وقوله: { فأنه غفور رحيم } فكسرهما جميعا ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف والأعمش على الاستئناف. ونصبهما الحسن وابن عامر وعاصم ويعقوب بدلا من الرحمة. وفتح نافع الأول على معنى: وكتب أنه من عمل، وكسر الثاني على الاستئناف.
[6.55]
قوله عز وجل: { وكذلك نفصل الآيات }؛ أي نبين بيانا الأمر والنهي في القرآن من قبل، وكذا نبين وننزل الآيات متفرقة شيئا بعد شيء. وقوله تعالى: { ولتستبين سبيل المجرمين }؛ معطوف على مضمر تقديره: ليظهر الحق من الباطل ولتستبين طريق المجرمين.
وإنما لم يقل: سبيل المؤمنين؛ لأن في الكلام ما يدل عليه؛ لأن معناه ولتستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين. ويقرأ: (وليستبين) بالياء؛ لأن السبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكره؛ وأهل الحجاز تؤنثه.
ودليل التذكير قوله تعالى:
وتصدون عن سبيل الله من آمن به
[الأعراف : 86] ولم يقل بها، ودليل التأنيث قوله تعالى:
قل هذه سبيلي
[يوسف: 108] ولم يقل هذا سبيلي. وقرأ أهل المدينة: (سبيل) بالنصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ معناه: ولتعرف يا محمد سبيل المجرمين؛ فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به عامة المسلمين؛ كأنه ولتستبينوا وتزدادوا معرفة بطريق المجرمين.
[6.56]
قوله تعالى: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله }؛ أي قل يا محمد لعيينة وأصحابه: إني نهيت عن عبادة الذي تعبدون من الأصنام من دون الله، { قل لا أتبع أهوآءكم }؛ فإنكم قد عبدتموه وسألتموه طرد سلمان وبلال وأصحابهما عن طريق الهدى، لا على طريق البينة والبرهان، وقوله تعالى: { قد ضللت إذا }؛ أي قد ضللت إن عبدتها؛ معناه إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق، وسلكت غير سبيل الهدى.
وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رجاء: { قد ضللت } بكسر اللام؛ وهما لغتان؛ إلا أن الفتح أفصح؛ لأنها لغة أهل الحجاز. وقوله: { ومآ أنا من المهتدين }؛ عطف على { ضللت }؛ أي إن أتبع أهواءكم فما أنا من الذين سلكوا طريق الهدى.
[6.57]
وقوله عز وجل: { قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به }؛ أي قل يا محمد: إني على بصيرة وبيان من أمر ربي؛ لا متبع للهوى، { وكذبتم به } أي بالبيان، وإنما ذكر الكناية لأن البينة والبيان بمعنى واحد. ويجوز أن يكون معناه: وكذبتم بما آتيتكم به؛ وهو القرآن. ومعنى البينة: الدلالة بين الحق والباطل.
قوله تعالى: { ما عندي ما تستعجلون به } روي: أن رؤساء قريش كانوا يستعجلون العذاب، حتى قام النضر بن الحارث في الحطيم وقال: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأتنا بالعذاب، فنزلت هذه الآية.
وقيل: معناه: { ما عندي ما تستعجلون به } من الآيات التي تقترحونها. قوله تعالى: { إن الحكم إلا لله }؛ أي ما القضاء وتنزيل الآيات إلا لله، { يقص الحق }؛ أي يحكم بالعدل ويقضي القضاء الحق، { وهو خير الفصلين }؛ أي أعدل الفاصلين.
ومن قرأ (يقض الحق) بالضاد المشددة، فمعناه: يبين ويأمر به، ومن قرأ (يقضي) أي يحكم. وقرأ ابن عباس: (يقضي بالحق). وأما سقوط الياء في قراءة من قرأ (يقض) فإنها سقطت في الخط لالتقاء الساكنين، كما في قوله تعالى:
سندع الزبانية
[العلق: 18]
يوم يدع الداع
[القمر: 6]. وفي جميع المصاحف: (يقض) بغير ياء.
[6.58]
قوله تعالى: { قل لو أن عندي ما تستعجلون به }؛ أي قل يا محمد: { لو أن عندي ما تستعجلون به } من العذاب، { لقضي الأمر بيني وبينكم }؛ أي لأهلكتكم؛ وانقطع ما بيني وبينكم من مطالبتي إياكم بالإخلاص في طاعة الله وعبادته، وامتناعكم من ذلك، { والله أعلم بالظالمين }؛ أي بعقوبتكم ووقت عذابكم.
[6.59]
قوله عز وجل: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو }؛ قرأ ابن السميقع: (مفاتيح الغيب) بالياء. واختلفوا في معنى (مفاتح الغيب) فروى عبدالله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: علم الساعة، ونزول الغيث، وعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت "
وقال السدي: (مفاتح الغيب: خزائن الغيب) وهي المقدورات التي يفتح بها ما في الغيب، وسميت الخزانة مفتاحا؛ لأنه ينفتح منه الأمر).
وقيل: { مفاتح الغيب } ما ينفتح به علم ما في الغيب من وقت نزول العذاب الذي كانوا يستعجلون به وغير ذلك. وقيل: معناه: { وعنده مفاتح الغيب } أي نزول العذاب لا يعلم متى ينزل ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وما يصير إليه من أمري وأمركم إلا هو. وقيل: معناه: { مفاتح الغيب } الآجال وأحوال العباد من السعادة والشقاوة، وعواقب الأمور، وخواتم الأعمال. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (أوتي نبيكم عليه السلام كل شيء إلا مفاتح الغيب). والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح؛ وهو معرفة المغيب.
وقوله تعالى: { ويعلم ما في البر والبحر }؛ أي يعلم ما في البر من النبات والخلق؛ وما في البحر من الدواب والعجائب. وقيل: يعلم رزق كل من في البر والبحر، يسوق إلى كل ذي روح رزقه.
وقوله تعالى: { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها }؛ قال ابن عباس : (ما من شجرة في البر إلا وبها ملك موكل يعلم ما يؤكل منها، وما يسقط من ورقها، ويعلم عدد ما بقي على الشجرة من الورق وما يسقط منه). وقيل: معنى الآية: { وما تسقط من ورقة } من أوراق الشجر، { إلا يعلمها } الله ثابتة وساقطة، ويعلم متى سقوطها وموضع سقوطها.
قوله تعالى: { ولا حبة في ظلمت الأرض }؛ أي كل حبة تكون في الأرض حتى الحبة التي تكون تحت الصخرة التي هي أسفل الأرضين يعلمها الله، وقيل: أراد كل حبة تكون في شقوق الأرض مما يخرج منها النبات. ومن قرأ (ولا حبة) بالرفع فعلى الابتداء؛ وخبره { إلا في كتب مبين }.
وقوله تعالى: { ولا رطب ولا يابس إلا في كتب مبين }؛ أراد بالرطب الماء والخضر، وباليابس الحجر والمدر، كل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، أثبت الله تعالى فيه كل ما يخلق قبل أن يخلقه، كما قال تعالى:
مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأهآ
[الحديد: 22].
واعلم: أنه قد أثبت ما خلق قبل خلقه. والرطب واليابس عبارة عن جميع الأشياء التي تكون في السماوات والأرض؛ لأنها تخلق من أحد هاتين الصفتين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار؛ إلا عليها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، رزق فلان بن فلان ".
فإن قيل: ما الفائدة في كون ذلك مكتوبا في اللوح مع أن الله لا يخفى عليه شيء، وأنه كان عالما بذلك قبل أن يخلقه وقبل أن يكتبه؛ ولم يكتبها ليحفظها ويدريها. قيل: فائدته أن الحوادث إذا حدثت موافقة للمكتوب، ازدادت الملائكة بذلك علما ويقينا بعظم صفات الله عز وجل.
[6.60]
قوله عز وجل: { وهو الذي يتوفكم باليل }؛ معناه: هو الذي يقبضكم عن التصرف بالنوم وما تصيرون في منامكم بالليل في قبضته لا تملكون لأنفسكم تصريفا في أموركم.
والتوفي في اللغة: هو القبض؛ إلا أن روح النائم لا تصير مقبوضة في حال نومه على جهة الحقيقة؛ لأن النائم يستمد من الهواء على حسب ما يفعله المنتبه، ولكن الله يحدث في حال النوم من بدن النائم ضربا من الاسترخاء في إغماء منه، إما بسلب عقله، أو بإحداث فعل في البدن يكون ذلك الفعل سببا لراحة البدن، كما قال تعالى:
وجعلنا نومكم سباتا
[النبأ: 9] فلما صار النائم كالميت في أنه لا يعقل وفي أن تصرفه لا يقع على تمييز؛ شبه بالميت من حيث التوفي على هذا الوجه، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون "
وعلى هذا الوجه يتأول قوله تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
[الزمر: 42] إلى آخر الآية.
وذهب بعضهم إلى أن الروح تخرج من البدن في المنام، ولكن لا تنقطع حركة النائم؛ لأن نظر الروح لم ينقطع عن البدن؛ إذ هو على العود في كل وقت وفي كل ساعة؛ وقال: لا يخرج منه الروح، وإنما يخرج منه الذهن.
قوله تعالى: { ويعلم ما جرحتم بالنهار }؛ أي كسبتم من الخير والشر بالنهار، يقال: جرح واجترح؛ بمعنى كسب واكتسب، وأصل الاجتراح: عمل الجوارح. قوله تعالى: { ثم يبعثكم فيه }؛ أي ينبهكم من نومكم في النهار على علم منه بما اجترحتم من قبل وما تجترحون من بعد، { ليقضى أجل مسمى } أي لتبلغوا الوقت المقدور الذي قدره الله بحيويتكم؛ فتنقطع أرزاقكم وأعمالكم التي تعملون في الدنيا من خير أو شر.
قوله تعالى: { ثم إليه مرجعكم }؛ أي ثم إلى الله مصيركم ومتقلبكم بعد الموت، { ثم ينبئكم بما كنتم تعملون }؛ أي ثم يخبركم في الآخرة بما كنتم تعملون في الدنيا؛ فيجازي كل عامل ما عمل.
[6.61]
قوله عز وجل: { وهو القاهر فوق عباده }؛ أي هو الغالب لعباده المستعلي عليهم بالقدرة، وليس معنى (فوق) معنى المكان؛ لاستحالة إضافة الأماكن إلى الله، وإنما معناه الغلبة والقدرة، ونظيره: فلان فوق فلان في العلم؛ أي أعلم منه.
قوله تعالى: { ويرسل عليكم حفظة }؛ معناه: والمرسل عليكم حفظة، فاكتفى بالفعل عن الاسم. والحفظة: هم الملائكة يحفظون على العباد أعمالهم على ما تقدم.
وقد ورد في الخبر: أن على كل واحد منا ملكين بالليل؛ وملكين بالنهار، يكتب أحدهما الحسنات؛ والآخر السيئات، وصاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد حسنة؛ كتب له بعشر أمثالها؛ وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتب؛ قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك عنه ست ساعات أو سبع ساعات، فإن هو استغفر الله تعالى؛ لم يكتب عليه، وإن لم يستغفر يكتب عليه سيئة واحدة.
قوله تعالى: { حتى إذا جآء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون } معناه: حتى إذا حضر أحدكم الموت؛ قبض روحه ملك الموت وأعوانه، وهم لا يقصرون ولا يؤخرونه طرفة عين، فإن قيل: كيف هنا { توفته رسلنا } وقال في آية أخرى:
قل يتوفاكم ملك الموت
[السجدة: 11]؟ قيل: إن ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح كلها وهو القائم بذلك؛ إلا أن له أعوانا؛ فتارة أضاف قبض الروح إلى ملك الموت؛ لأنه هو المختص بذلك، وتارة أضافه إليه وإلى غيره؛ لأنهم يصدرون في ذلك عن أمره.
وقال مجاهد: (جعلت الأرض لملك الموت كالطشت يتناول من حيث شاء، وله أعوان يتوفون الأنفس، ثم يقبضها منهم). ويقال: إن أعوان ملك الموت يستخرجون الروح من الأعضاء عضوا عضوا، حتى إذا جمعوه في صدره وجعل يغرغر به؛ قبضه حينئذ ملك الموت.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه دخل على مريض يعوده، فرأى ملك الموت عند رأسه؛ فقال: " يا ملك الموت؛ ارفق به، فإنه مؤمن، فقال ملك الموت: يا محمد؛ أبشر وطب نفسا وقر عينا؛ فإني بكل مؤمن رفيق، إني لأقبض روح المؤمن فيصعق أهله فأعتزل في جانب الدار، فأقول: ما لي من ذنب، وإني لمأمور، وإن لي لعودة فالحذر الحذر، وما من أهل بيت مدر ولا وبر، في بحر أو بر، إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات، حتى أني لأعلم بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، والله لو أردت أن أقبض روح بعوضة لما قدرت عليها حتى يأمرني الله تعالى بقبضها " ".
[6.62]
قوله عز وجل: { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق }؛ أي ثم ردهم الملائكة إلى الموضع الذي لا يملك أحد الحكم فيه إلا الله تعالى: وقوله: { مولاهم الحق } أي مولاهم من كل جهة، فإنه يملك خلقهم وإنشاءهم وتربيتهم وإماتتهم وإحياءهم وضرهم ونفعهم، وهو الذي دبر في الابتداء أمرهم حيث أنشأهم. ومعنى قوله تعالى: { مولاهم الحق } أي الذي عبادته حق، ويعطي الثواب الحق، ويتولى العقاب بالحق، وقيل: إن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ لأنه لا مرد للعبد أحسن من مرده إلى مولاه.
قوله تعالى: { ألا له الحكم }؛ كلمة بينة؛ أي اعلموا أن بينة القضاء بين العباد يوم القيامة يحكم فيهم ما شاء وكيف شاء. وقوله تعالى: { وهو أسرع الحاسبين }؛ إذا حاسب فحسابه يسير سريع؛ لأنه لا يحاسب بحقد ولا يتكلم بآلة، ولا يحجزه الكلام مع بعضهم عن الكلام مع غيرهم، بل يحاسب الجميع في دفعة واحدة. ومعنى المحاسبة: تعريف كل واحد ما يستحقه من ثواب أو عقاب؛ حتى روي في الخبر: أنه يكون حسابه في مقدار حلب شاة.
[6.63-64]
قوله عز وجل: { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية }؛ أي قل لهم يا محمد: من ينجيكم من شدائد البر والبحر وأهوالهما. تقول العرب لليوم الذي فيه شدة: يوم مظلم؛ حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب؛ إذا اشتدت ظلمته حتى صار كالليل. ويقال: أراد بالظلمات ظلمة الليل، وظلمة الغيم، وظلمة الأمواج.
وقوله تعالى: { تدعونه تضرعا وخفية } أي تدعونه علانية وسرا، والتضرع: إظهار الضراعة؛ وهي شدة الفقر والحاجة إلى الشيء. وقرأ أبو بكر: (وخفية) بكسر الخاء، وقرأ الأعمش: (وخيفة) من الخوف كما في آخر الأعراف.
قوله تعالى: { لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين }؛ في موضع الحال؛ معناه قائلين: لئن أنجيتنا من هذه الشدائد لنكونن من المؤمنين الموحدين المطيعين. وقوله تعالى: { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب }؛ قل الله ينجيكم من شدائد البر والبحر ومن كل غم، { ثم أنتم تشركون }؛ به الأصنام في الرخاء بعد النجاة، وبعد قيام الحجة عليكم.
[6.65]
وقوله عز وجل: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم }؛ راجع إلى مشركي مكة؛ أي قل لهم يا محمد: { هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } كما بعث على قوم نوح ولوط من الطوفان والحجارة، { أو من تحت أرجلكم }؛ أي هو القادر على أن يخسف بكم، كما فعل بقارون وقومه. ويقال: أراد بقوله: { عذابا من فوقكم } الظلمة، { أو من تحت أرجلكم } أو يغلب عليكم سفهاءكم.
قوله تعالى: { أو يلبسكم شيعا }؛ معناه: أو يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء، بأن يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة. وقيل: معنى: { يلبسكم شيعا } يكلكم إلى أنفسكم ويخليكم من الطاعة بذنوبكم؛ فتختلفوا حتى يذوق بعضكم شدة بعض بالحرب والقتال. وقال: { ويذيق بعضكم بأس بعض }؛ يعني بالسيوف يقتل بعضكم بعضا.
وقوله تعالى: { انظر كيف نصرف الآيات }؛ أي انظر يا محمد كيف نبين لهم الآية على إثر آية، { لعلهم يفقهون }؛ أي لكي يفقهوا أوامر الله، ثم هم لا يفقهون.
قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية؛ شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
" " يا جبريل، ما بقاء أمتي على هذه الخصال الأربع؟! " فقال: إنما أنا عبد مثلك، فادع ربك واسأله لأمتك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتوضأ وأحسن الوضوء؛ ثم قام فصلى وأحسن الصلاة؛ ثم سأل الله أن لا يبعث على أمته عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم، ولا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فنزل جبريل عليه السلام؛ فقال: يا محمد؛ إن الله قد سمع مقالتك، وإنه قد أجارهم من خصلتين: أن لا يبعث عليهم عذابا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم، ولم يخرجهم من الخصلتين الأخرتين ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" سألت ربي أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم؛ فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعني ذلك، وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف ".
[6.66]
قوله عز وجل: { وكذب به قومك وهو الحق }؛ أي كذب بالقرآن قومك وهو الصدق، { قل لست عليكم بوكيل }؛ أي بحفيظ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، وقيل: معناه: لست أقدر أن أحول بينكم وبين الكفر الذي يضركم، كما يدفع الوكيل الضرر عن موكله. وعن ابن عباس: (أن معناه: لست بموكل عليكم؛ أخبركم عن الإيمان، قال: ثم نسخ هذا بآية السيف).
[6.67]
وقوله تعالى: { لكل نبإ مستقر }؛ معناه: لكل وعد ووعيد وقت، وأجل غاية؛ منه ما يكون في الدنيا، ومنه ما يكون في الآخرة، { وسوف تعلمون } ، يا أهل مكة ذلك إذا نزل بكم.
[6.68-69]
قوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }؛ معناه: وإذا رأيت المشركين الذين يكذبون ويستهزئون بك وبالقرآن { فأعرض عنهم } أي اتركهم ولا تجالسهم على وجه الإنكار عليهم، إلا أن يتركوا استهزاءهم ويخوضوا في حديث غير القرآن. وذلك أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين؛ وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوه واستهزؤا به، فنهى الله المؤمنين عن مجالستهم.
قوله تعالى: { وإما ينسينك الشيطن فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظلمين }؛ معناه: وإما يوقعنك الشيطان في النسيان بعد النهي فتجلس معهم، فلا شيء عليك في تلك الحال التي تكون فيها ناسيا، فلا تقعد بعد الذكرى مع قوم إذا ذكرت، ودع مجالسة المشركين فتأثم. قرأ ابن عباس وابن عامر: (ينسينك) بالتشديد.
فلما نزلت هذه الآية قال المسلمون: يا رسول الله؛ لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، لا نستطيع أن نجلس في المسجد الحرام، ولا أن نطوف بالبيت؟ فنزل قوله عز وجل: { وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } ، أي ما على الذين يتقون الشرك والمعاصي والخوض في آثامهم، ومخالفتهم أمر الله من شيء من العقاب. { ولكن ذكرى }؛ أي ولكن ذكروهم بالقرآن ذكرى إذا فعلوا وعظوهم، { لعلهم يتقون }؛ الشرك والاستهزاء والخوض. فموضع (ذكرى) نصب على المصدر، ويجوز أن يكون في موضع رفع؛ أي هو ذكرى.
[6.70]
قوله تعالى: { وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا }؛ أي ذر الكفار الذين اختاروا في أنفسهم اللعب والباطل والاستهزاء. ويقال: معناه: الذين اتخذوا دينهم بهوى أنفسهم، ومن اتخذ دينه بهوى نفسه فهو لاعب. وقال الفراء في معنى الآية: (ليس من قوم إلا ولهم عيد يلهون فيه، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير). وقوله تعالى: { وغرتهم الحيوة الدنيا } معناه: وشغلتهم الحياة الدنيا بما فيها من زهرتها وزينتها.
قوله تعالى: { وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت }؛ أي ذكر بالقرآن وعظ به كراهة أن تبسل نفس بما كسبت. ويقال: قبل أن تبسل نفس. ويقال: لئلا تبسل نفس؛ أي لئلا تهلك نفس. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة والسدي: (تبسل: أي تسلم للهلكة).
وقال ابن زيد: (معناه: وذكر به أن تبسل؛ أي لئلا تبسل؛ أي لئلا تؤخذ). وعن ابن عباس: (أن تفضح). وقال الأخفش: (أن تبسل: أن تجازى). وقال الفراء: (ترتهن)، وقال عطية العوفي: (من قبل أن تبسل نفس؛ أي من قبل أن تسلم إلى خزنة جهنم). والمتبسل: المستسلم.
قوله عز وجل: { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع }؛ أي ليس لتلك النفس من دون الله ولي ولا شفيع؛ أي قريب يمنع العذاب عنها ولا شفيع يشفع لها في الآخرة. قوله تعالى: { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ }؛ أي لو جاءت مكانها بكل ما كان في الأرض جميعا افتداء عن نفسها لا يقبل منها. وسمي الفداء عدلا؛ لأنه مثل للشيء، ويقال لأحد جانبي الحجل: عدل بالكسر؛ لأن كل واحد من العدلين مثل لصاحبه، فمعنى الآية: وإن تفتدي بكل فداء لا يؤخذ منها.
وقوله تعالى: { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم }؛ أي وجيع؛ { بما كانوا يكفرون }؛ أي بما كانوا يجحدون في الدنيا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
[6.71]
قوله عز وجل: { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا }؛ أي قل يا محمد لكفار مكة الذين يدعونكم إلى دين آبائهم: أنعبد سوى الله من الأصنام ما لا ينفعنا إن عبدناه في رزق ولا معاش، ولا يضرنا إن تركناه في رزق ولا معاش، { ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله }؛ عطف على الاستفهام؛ أي كيف نرجع إلى الكفر بعد إذ هدانا الله لدينه، وأكرمنا بمعرفته، فيكون مثلنا؛ ك؛ مثل؛ { كالذي استهوته الشياطين }؛ فأذهبه؛ { في الأرض حيران }؛ ضالا، لا يقال: كالذي زينت له الشياطيين هواه؛ فهو يعمل في الأرض بالمعاصي. وقيل: معناه: كالذي استفرسته الغيلان في المهامة فأضلوه؛ فهو حائر. و(حيران) نصب على الحال.
قرأ الأعمش وحمزة: (كالذي استهواه) بالألف والإمالة، وقرأ طلحة بالألف، وقرأ الحسن: (استهوته الشياطين). وفي مصحف عبدالله: (استهواه الشيطان). قوله تعالى: { له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا }؛ أي له أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم: أن ائتنا واتبعنا؛ فإنا على الطريق، فأبى أن يأتهم ويطيعهم.
وقيل: إن الآية نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر، فأنزل الله تعالى: { قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا }. وقوله: { كالذي استهوته الشياطين } هو عبدالرحمن بن أبي بكر. وقوله تعالى: { له أصحاب يدعونه إلى الهدى } قيل: كان أمه وأبوه يدعوانه إلى الإسلام، وكان الشياطين والكفار يزينون له الكفر إلى أن من الله عليه بعد ذلك بقبول الإسلام. وقوله تعالى: { قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم }؛ أي قل لهم: إن دين الله هو الإسلام؛ وأمرنا لنخلص العبادة؛: { لرب العالمين }.
[6.72]
قوله عز وجل: { وأن أقيموا الصلاة واتقوه }؛ عطف على قوله: { لنسلم } أي أمرنا لنسلم؛ فقيل لنا: أسلموا وأقيموا الصلاة بركوعها وسجودها، { واتقوه } أي اتقوا سخطه؛ { وهو الذي إليه تحشرون }؛ أي تجمعون يوم القيامة.
[6.73]
قوله تعالى: { وهو الذي خلق السموت والأرض بالحق }؛ أي لإقامة أمر الحق؛ وهو الثواب والعقاب في الآخرة، ولم يخلقها باطلا لغير شيء، وقوله تعالى: { ويوم يقول كن فيكون قوله الحق }؛ أي وخلق الخلائق يوم يقول كن فيكون. وقيل: معناه: واتقوه يوم يقول كن فيكون. وقيل: واذكروا يوم يقول ليوم القيامة: كن فيكون مكونا بإذن الله تعالى.
قوله تعالى: { وله الملك يوم ينفخ في الصور }؛ أي الآخرة في أمر يوم القيامة حق كائن لا محالة، وله الملك يومئذ. وتخصيص ذلك اليوم بالملك؛ لأن اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد سوى الله نفع ولا ضر كما قال الله تعالى:
والأمر يومئذ لله
[الانفطار: 19]. والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين؛ فتغشى الخلائق كلهم بالنفخة الأولى؛ ويحيون بالنفخة الثانية، فتكون النفخة الأولى لانتهاء الدنيا؛ والثانية لابتداء الآخرة. قوله تعالى: { علم الغيب والشهدة }؛ أي وعالم ما غاب عن العباد وما علموه؛ { وهو الحكيم }؛ في أمره، { الخبير }؛ بأعمال عباده.
[6.74]
قوله عز وجل: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة }؛ أي اذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر، من قرأ (آزر) بالنصب فموضعه خفض بدل من (أبيه) إلا أنه لا ينصرف؛ لأنه اسم أعجمي، ومن رفعه فعلى النداء؛ أي يا آزر. وكان آزر مسكنه (كوت) قرية من سواد الكوفة.
قال السدي والحسن: (آزر اسم لأبي إبراهيم). وقال الفراء: (هو صفة عيب وسب؛ ومعناه في كلامهم: المعوج). وقيل: معناه: الشيخ لهم. وقيل: قال إبراهيم لأبيه المخطىء، أو قال لأبيه: يا مخطىء. وكان على هذا القول اسم أندتارخ بن ياجوراء. وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: (آزر اسم صنم) وهو على هذا التأويل في موضع نصب، وفي الكلام تقديم وتأخير؛ تقديره: اتخذ آزر أصناما آلهة من دون الله.
وقيل: كان إبراهيم قال لأبيه: لا تتخذوا آزر إلها، أتتخذ أصناما آلهة، { إني أراك وقومك في ضلال }؛ عن الحق؛ { مبين }؛ أي ظاهر الضلالة في ذهاب عن الحق بين.
[6.75-79]
قوله تعالى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض }؛ أي كما أرينا إبراهيم النصرة في دينه والحق في مخالفة قومه؛ نريه ملكوت السماوات والأرض؛ أي ملكها ونريه القدرة التي يقوي بها دلالته على توحيد الله تعالى، وهو ما رأى من السماء والأرض والكواكب والقمر والشمس.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: (معنى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموت والأرض } أي آيات السماوات والأرض؛ وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين، ونظر إلى مكانه في الجنة؛ وذلك قوله تعالى:
وآتيناه أجره في الدنيا
[العنكبوت: 27] يعني أريناه مكانه في الجنة).
وقيل: معنى الآية: كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه أبوه وقومه من المذهب؛ كذلك نريه ملكوت السماوات والأرض. والملكوت: عبارة عن أعظم الملك؛ زيدت الواو والتاء للمبالغة؛ كما يقال: رهبوت خير من رحموت، هذا مثل يقوله العرب؛ معناه: لئن ترهب خير من أن ترحم. فملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم؛ وملكوت الأرض: الجبال والشجر. وقوله تعالى: { وليكون من الموقنين }؛ أي نريه الملكوت ليستدل بذلك على توحيد الله ويثبت على اليقين.
قوله عز وجل: { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي } قال المفسرون: إن إبراهيم ولد في زمان النمرود بن كنعان، وكان النمرود أول من دعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون، فقالوا له: إنه يولد في هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه.
قال السدي: (رأى النمرود في منامه كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوءا، ففزع من ذلك ودعا السحرة والكهان؛ وسألهم عن ذلك فقالوا: هو مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة، يكون هلاكك على يديه. فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته في تلك السنة، وأمر الرجال باعتزال النساء، وجعل عليهم الحراس، فمكث كذلك ما شاء الله).
قال السدي: (خرج النمرود بالرجال إلى العسكر، ونهاهم عن النساء مخافة من ذلك المولود، فبدت له حاجة إلى المدينة، فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر، فدعاه وأمره لحاجته إلى المدينة، وقال له: إنك ثقتي؛ فأقسمت إليك أن لا تدنو من امرأتك ولا تواقعها، ثم أوصاه بحاجته. فلما دخل المدينة وقضى حاجته، قال: لو دخلت على أهلي فرأيت كيف حالهم، فلما نظر إلى امرأته لم يتمالك حتى وقع عليها، وكانت قد طهرت من الحيض، فحملت بإبراهيم عليه السلام، فلما حملت به؛ قالت الكهنة للنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة، فأمر النمرود بذبح كل ولد من الغلمان.
فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض، خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها، فوضعته في موضع، ثم لفته في خرقة وجعلته في الحلفاء، ثم رجعت إلى زوجها فأعلمته، فانطلق أبوه إليه وحفر له سربا في ذلك المكان وجعله فيه، وسد عليه بصخرة مخافة أن تأكله السباع، وكانت أمه تختلف إليه سرا فترضعه، وكان إذا بكى على أمه أتاه جبريل عليه السلام فوضع إصبعه في فمه فيخرج منها اللبن، فكان يمص سبابة نفسه).
وقال أبو روق: (كانت أم إبراهيم كلما جاءته لتنظر إليه وجدته يمص أصابعه، وقالت: ذات يوم نظرت إلى أصابعه، فوجدته يمص من إصبع ماء؛ ومن إصبع لبنا، ومن إصبع عسلا؛ ومن إصبع سمنا).
وقال بعضهم: لما وضعت أم إبراهيم حملها، ذهبت به وحفرت له حفرة وألقته فيها وسدتها عليه بصخرة، ورجعت فسألها أبوه آزر: ما فعل حملك؟ قالت: وضعت غلاما فمات، فصدقها وسكت عنها. وكان إبراهيم يشب في اليوم مثل ما يشب غيره في الشهر، ويشب في الشهر ما يشب غيره في السنة، فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر يوما، ثم أخبرت أمه أزر بخبره وما صنعت به، فلما شب إبراهيم في المغارة وعقل وتكلم، أتته أمه ذات يوم فقال لها: من ربي؟ قالت: أنا! قال: ومن ربك؟ قالت: أبوك! قال: ومن رب أبي؟ قالت: النمرود! قال: ومن رب النمرود؟ قالت: اسكت! فسكت.
ثم رجعت إلى أبيه وأخبرته بذلك، فأتاه آزر؛ قال له: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك؛ قال: ومن رب أمي؟ قال: أنا! قال: ومن ربك؟ قال: النمرود! قال: ومن رب النمرود؟ فلطمه؛ وقال: اسكت؛ فسكت.
ثم أنه خرج بعد ذلك من السرب حين غربت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فقال: لا بد أن يكون لهذه رب وخالق، ثم تفكر في خلق السماوات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني هو ربي، ما لي إله غيره. { فلما جن عليه الليل } أي غشيه الليل؛ رأى الزهرة؛ { قال هذا ربي }. { فلمآ أفل } ذلك النجم؛ قال: لا أحب ربا ليس بدائم. ثم نظر؛ فرأى القمر طالعا في آخر الليل؛ { قال هذا ربي } ، فلما رآه يسري وينتقل من مكان إلى مكان، علم أنه محدث لا يصلح أن يكون ربا؛ ف { قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس } طالعة قد ملأت كل شيء، { قال هذا ربي هذآ أكبر } مما قبله، { فلمآ أفلت } جاء إلى قومه فرآهم يعبدون الأصنام، ف { قال يقوم إني بريء مما تشركون }.
قوله عز وجل: { فلما جن عليه الليل }؛ وأظلم أي غطاه، والتظلم، يقال: يجن جنة الليل؛ وأجنه وجن عليه؛ إذا أظلم، وجنت الميت وأجنته إذا دفنته. وقوله تعالى: { رأى كوكبا قال هذا ربي }؛ في هذا القول ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه قال هذا ربي في ظني؛ لأنه كان في حال فكرة واستدلال، وكان في ذلك الوقت مهلة له للتروي والنظر، فلما رأى الكوكب في علوه وضيائه، قرر في نفسه على ما ينقسم حكمه من كونه ربا خالقا أو مخلوقا مربوبا، فلما رآه طالعا آفلا ومتحركا زائلا، قضى بأنه محدث بمقارنته، أما ذات الحدث وأنه ليس برب، وأن المحدث غير قادر على إحداث الأجسام، وأن ذلك يستحيل منه، كما استحال ذلك من نفسه إذا كان محدثا، فحكم بمساواته له من جهة الحدوث وامتناع كونه خالقا.
ثم لما طلع القمر فوجد صفته في العظم والإشراق وانبساط النور أكبر، قرر في نفسه أيضا على ما ينقسم حكمه فقال: هذا ربي، فلما رآه وتأمله وجده في معنى الكوكب في الطلوع والأفول، فحكم عليه بحكمه، وإن كان أكثر منه ضوءا.
ثم لما رأى الشمس في عظمها وإشراقها وتكامل ضيائها، قال: هذا ربي؛ لأنها كانت تخالف الكواكب والقمر في هذه الأوصاف، فلما رآها أفلت، حكم لها بالحدوث وأنها في حكم الكوكب والقمر منتقلة؛ لوجود دلالة الحدث في الجميع. قالوا: والذي يؤيد هذا التأويل الذي ذكرناه: أن قول إبراهيم على وجه النظر والتفكر، ما ذكره الله عنه أنه عليه السلام قال: { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين }.
والثاني؛ وهو الأقرب إلى الصحة: أن إبراهيم إنما قال هذا في حال الطفولة قبل كمال عقله حين حركة الخواطر للفكرة، والنظر في دلائل توحيد الله تعالى.
فإن قيل: كيف يحمل أن هذا القول من إبراهيم كان على ابتداء النظر، وقد تقدم إنكاره على أبيه وقومه عبادة الأصنام لقوله: { أتتخذ أصناما آلهة }؟ قيل: تقدم الآية في التلاوة لا يوجب أنها مقدمة في الحال، ولا يمتنع أن إبراهيم عليه السلام أنكر على أبيه وقومه بعد هذا النظر الذي ذكرناه.
والثالث: أن قوله: { هذا ربي } كان على وجه الإنكار الذي يكون مع إلغاء الاستفهام، وكان قصده من هذا القول استدراج قومه لإقامة الحجة عليهم وتقربهم إلى الهدى، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، كأنه قال لهم: هذا ربي في زعمكم، كما قال تعالى:
أين شركآؤكم الذين كنتم تزعمون
[الأنعام: 22].
{ فلمآ أفل }؛ الكوكب وتبين " أنه " مسخر مذلل؛ { قال لا أحب الآفلين }؛ أي لا أعظمه تعظيم الرب عز وجل. وقوله تعالى: { قال لئن لم يهدني ربي لأكونن } معناه على هذا القول: لئن لم يثبتني ربي على الهدى؛ لأن الله تعالى أثنى على إبراهيم عليه السلام في آية أخرى بقوله:
إذ جآء ربه بقلب سليم
[الصافات: 84] والسليم: الذي لا شك فيه وفي سلامته من كل عيب.
وقوله عز وجل: { فلمآ رأى القمر بازغا }؛ معناه: فلما رأى القمر طالعا؛ { قال هذا ربي }؛ يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ الطلوع، وقوله تعالى: { فلمآ أفل } أي فلما غاب، { قال لئن لم يهدني ربي }؛ أي لئن لم يرشدني ربي ويثبتني على الطريق المستقيم، { لأكونن من القوم الضالين } عن الهدي.
قوله عز وجل: { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذآ أكبر } أي فلما رأى الشمس طالعة؛ قال: هذا الطالع ربي وهذا النور ربي، { فلمآ أفلت }؛ أي غابت الشمس، { قال يقوم إني بريء مما تشركون } بالله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب.
قالوا: فمن تعبد أنت يا إبراهيم؟ قال: { إني وجهت وجهي للذي فطر السموت والأرض }؛ أي إني أخلصت ديني وعبادتي وجعلت قصدي للذي ابتدأ خلق السماوات والأرض، { حنيفا }؛ أي مائلا من الأديان الباطلة إلى دين الحق ميلا لا رجوع فيه، { ومآ أنا من المشركين }؛ أي لست على دينكم أيها المشركون.
[6.80]
قوله عز وجل: { وحآجه قومه قال أتحجوني في الله وقد هدان }؛ وذلك أن قوم إبراهيم خاصموه في مخالفته إياهم في دينهم وخوفوه بآلهتهم، وقالوا: أما تخاف آلهتنا وأنت تشتمها أن تخبلك وتفسدك؟! وقالوا له: إن موضع أهل كذا قد تركوا عبادة الأصنام فأمحنوا وقحطوا، وأهل موضع كذا أحسنوا عبادة الأصنام فرزقوا السعة والخصب، فأجابهم إبراهيم عليه السلام: { أتحجوني في الله } أي أتخاصموني في توحيد الله ودينه، وقد نصرني الله وعرفني دينه وتوحيده بما نصب لي من الدلائل.
قوله تعالى: { ولا أخاف ما تشركون به }؛ أي لا أخاف من هذه الأشياء التي تعبدونها وهي مما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر. قوله تعالى: { إلا أن يشآء ربي شيئا }؛ استثناء منقطع؛ أي ولكن أخاف مشيئة ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يبلوني بشيء من محن الدنيا. وموضع { أن يشآء } نصب على تقدير: لا أخاف إلا مشيئة الله تعالى.
قوله تعالى: { وسع ربي كل شيء علما }؛ أي أحاط علم ربي بكل شيء، وملأ كل شيء علما، وهو يعلم أنكم على غير الحق، وقوله تعالى: { أفلا تتذكرون }؛ تنبيه على التفكر فيما كان بقوله لهم.
[6.81-82]
قوله عز وجل: { وكيف أخاف مآ أشركتم }؛ وكيف أخاف الأصنام التي أشركتموها مع الله، وهي لا تملك الضر والنفع، بل لا تعرف من عبدها ومن ترك عبادتها، { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله }؛ الذي يملك النفع والضر ويعلم من عبده ومن لم يعبده، { ما لم ينزل به عليكم سلطنا }؛ أي عذرا وحجة لكم؛ { فأي الفريقين أحق بالأمن }؛ أي الموحدون أم المشركون، { إن كنتم تعلمون } ، ذلك.
فلم يجيبوا فأنزل الله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }؛ أي الذين أقروا بتوحيد الله ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، { أولئك لهم الأمن }؛ من العذاب؛ { وهم مهتدون }؛ إلى الحجة، وقيل : إلى الجنة. وقيل: إن قوله: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } قول إبراهيم عليه السلام.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية؛
" شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس كذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان: { إن الشرك لظلم عظيم }؟ ".
[6.83]
قوله عز وجل: { وتلك حجتنآ ءاتينهآ إبرهيم على قومه }؛ أي تلك المقالة التي حاج بها إبراهيم حجتنا أعطيناها ولقناها إبراهيم؛ ليحتج بها على قومه، { نرفع درجت من نشآء }؛ في الدنيا بالحجة والنصرة، وفي الآخرة بالثواب والفضيلة. ومن قرأ (درجات) بالتنوين لا على الإضافة فمعناه: نرفع من نشاء درجات، { إن ربك }؛ يا محمد: { حكيم عليم }؛ في تفضيل بعض الناس على بعض، وتخصيص بعضهم بالنبوة.
[6.84]
قوله عز وجل: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا }؛ أي وهبنا لإبراهيم إسحاق نبيا لصلبه ويعقوب نافلة، { كلا } يعني أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب هديناهم للنبوة والإسلام { ونوحا هدينا من قبل } من قبل إبراهيم، { ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون }؛ أي ومن ذرية نوح، وهذا قول بعضهم؛ جعلوا الهاء راجعة إلى نوح؛ لأنها أقرب إلى اسمه؛ ولأنه ذكر في جملة المعطوفين على داود وسليمان ممن ليس من ذرية إبراهيم وهو من ذرية نوح كيونس عليه السلام وكلوط عليه السلام الذي كان ابن أخ إبراهيم ولم يكن من ولده.
وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم؛ لأنه هو المقصود بالذكر فيما تقدم من الآية، { وكذلك نجزي المحسنين }؛ أي كما تفضلنا على هؤلاء الأنبياء بالنبوة وما يتصل بها من العز والكرامة، كذلك نتفضل على المحسنين.
[6.85]
قوله تعالى: { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين }؛ معناه: ومن ذرية إبراهيم { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من } المرسلين. قال الضحاك: (كان إلياس من ولد إسماعيل بن إبراهيم). وقال بعضهم: معنى الآية: وهدينا (زكريا ويحيى وعيسى وإلياس). وفي الآية حجة على من أنكر في الحسن والحسين أنهما أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالى جعل عيسى - ولا أب له - من ذرية إبراهيم.
[6.86]
قوله تعالى: { وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا }؛ معناه: وهدينا إسماعيل واليسع؛ وهو تلميذ إلياس وخليفته من بعده. وقال محمد بن إسحاق: (هو ابن أخي موسى عليه السلام). و(اليسع) فيه قراءتان: بالتشديد والتخفيف، { وكلا فضلنا على العالمين }؛ أي وكل هؤلاء الأنبياء فضلناهم بالنبوة والإسلام على عالمي زمانهم.
[6.87]
قوله تعالى: { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم }؛ أي هدينا بعض آبائهم من قبلهم مثل آدم وشيت وإدريس، وبعض ذرياتهم من بعدهم؛ وهم أولاد يعقوب. ومن جملة ذرياتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: { وإخوانهم } هم أخوة يوسف في عصرهم، ويحتمل أن يكون المراد بهم كل من آمن معهم، فإنهم كلهم داخلون في هداية الإسلام.
وقوله تعالى: { واجتبيناهم }؛ أي اصطفينا هؤلاء الأنبياء بالنبوة والإخلاص، وجمعنا فيهم خصال الاجتباء؛ مأخوذ من قولهم: جبيت الماء في الحوض واجتبيته؛ إذا جمعته. وقوله تعالى: { وهديناهم إلى صراط مستقيم }؛ أي أثبتناهم على طريق الحق وهو دين الإسلام.
[6.88]
قوله عز وجل: { ذلك هدى الله يهدي به من يشآء من عباده }؛ أي إن ذلك الطريق المستقيم دين الله يوفق له من يشاء ممن كان أهلا لذلك، { ولو أشركوا }؛ أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء طرفة عين مع اصطفاء الله تعالى إياهم، { لحبط عنهم ما }؛ أي لبطلت أعمالهم التي؛ { كانوا يعملون }؛ من الطاعة، فكيف أنتم يا أهل مكة؟!
[6.89]
قوله تعالى: { أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة }؛ أي أولئك الأنبياء صلوات الله عليهم أعطيناهم الكتاب المنزل، والحكم بين الناس، وأكرمناهم بالنبوة والرسالة، { فإن يكفر بها } أي بملة هؤلاء الأنبياء، { هؤلاء }؛ يعني قريشا؛ { فقد وكلنا بها }؛ أي فقد قام بها، { قوما ليسوا بها بكافرين } وهم أهل المدينة وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هم الملائكة، وإنما قال: { فقد وكلنا بها } ولم يقل: فقد قام بها، تشريفا للملائكة بالإضافة إلى نفسه على معنى: أكرمنا ووفقنا إلى الإيمان بها. يقال: معناه: فقد أكرمنا بها قوما ليسوا بها بكافرين؛ فقاموا بها.
[6.90]
قوله تعالى: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ، أي أولئك الأنبياء الذين ذكرناهم من قبل هم الذين أكرمهم الله بالطريقة الحسنة؛ فاقتد بسيرتهم؛ اصبر كما صبروا حتى تستحق من الثواب ما استحقوا. وأما الهاء في (اقتده) فإذا أثبت الهاء في الوقف تتبين بها كسرة الدال، فإن وصلت قلت: { اقتده قل لا أسألكم }.
قوله: { قل لا أسألكم عليه أجرا }؛ معناه: قل يا محمد: لا أسألكم على الإيمان والقرآن جعلا، { إن هو }؛ يعني القرآن، { إلا ذكرى للعالمين }؛ إلا عظة بليغة للجن والإنس. وفي الآية دليل على أن شرائع الأنبياء تلزمنا ما لم نعلم نسخه؛ لأن اسم الهدى يقع على التوحيد والشرائع.
[6.91]
قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل الله على بشر من شيء }؛ قال ابن عباس وسعيد بن جبير في معنى هذه الآية:
" جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له مالك بن الصيف، وكان رأس اليهود؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنشدك الله يا مالك بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام؛ أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ " قال: نعم. قال: " فأنت الحبر السمين، وقد سمنتك مأكلتك التي تطعمك اليهود، ولست تصوم - أي ولست تمسك - " فضحك به بعض القوم، فغضب مالك، وكان حبرا سمينا، ثم التفت إلى عمر رضي الله عنه وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله هذه الآية ".
وقال السدي: (نزلت في فنحاص بن زوراء؛ وهو قائل هذه المقالة). وقال محمد بن كعب: (جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو محتب، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من عند الله، كما جاء به موسى من عند الله؟ فأنزل الله تعالى:
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السمآء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة
[النساء: 153]. فقال رجل من اليهود: ما أنزل الله عليك، ولا على موسى، ولا على عيسى، ولا على أحد شيئا. فأنزل الله هذه الآية ).
ومعناها: ما عظموا الله حق عظمته، ولا عرفوه حق معرفته إذ جحدوا فقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء؛ أي من كتاب ولا وحي، { قل }؛ لهم يا محمد: { من أنزل الكتب الذي جآء به موسى }؛ يعني التوراة؛ { نورا وهدى للناس }؛ أي ضياء للناس وبيانا لهم من الضلالة، { تجعلونه قراطيس }؛ يكتبونه صحائف، { تبدونها }؛ يظهرون ما فيها مما ليس فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم وزمانه ومبعثه ونبوته، { وتخفون كثيرا }؛ أي يسترون ما فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه وآية الرجم.
وقوله تعالى: { وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءابآؤكم }؛ يحتمل أن يكون خطابا للمسلمين، أي علمتم أنتم أيها المؤمنون من الأحكام والحدود ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم. والأظهر: أنه خطاب لليهود؛ لأنه مسوق على ما سبق، معناه: علمتم بالقرآن ما كنتم أخفيتموه قبل نزول القرآن؛ لأنهم قد ضيعوا شيئا كثيرا من القرآن والأحكام، وكانوا يعاندون ولا يعملون حتى صاروا كأنهم لم يعلموه.
قوله تعالى: { قل الله }؛ معناه: إن هم أجابوك وقالوا: أعلمنا الله، وإلا فقل: الله علمكم. ويقال معناه: قل الله أنزل الكتاب على موسى، { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون }؛ أي دعهم واتركهم في باطلهم يلهون، ويقال لكل من عمل ما لا ينفعه: إنما أنت لاعب.
قال ابن عباس: (فلما رجع مالك بن الصيف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، قالوا له: ويلك! ما هذا الذي بلغنا عنك، زعمت أنه ما أنزل الله على بشر من شيء! أرأيت كتابنا من جاء به إلى موسى وهو بشر؟! قال: إنه قد أغضبني، فلذلك قلت ما قلت. قالوا: إذا غضبت قلت غير الحق، والله لا تلي لنا شيئا، فنزعوه عما كان يلي لهم، وولوا مكانه كعب بن الأشرف). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء فيها على الإخبار، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب.
[6.92]
قوله عز وجل: { وهذا كتب أنزلنه مبارك }؛ يعني القرآن الذي كذب به أهل الكتاب ومشركو قريش؛ هو { كتب أنزلنه مبارك } أي فيه بركة ومغفرة للذنوب لمن آمن به، والبركة: ثبوت الخير على النماء والزيادة. وقوله تعالى: { مصدق الذي بين يديه }؛ هو موافق للتوراة والإنجيل وسائر كتب الله في أصل الدين، ويقال: المراد ب { الذي بين يديه } النشأة الثانية.
قوله تعالى: { ولتنذر أم القرى ومن حولها }؛ أي أنزلناه للبركة، ولتخوف به أهل أم القرى، وسميت مكة أم القرى لأنها أصل القرى دحيت الأرض من تحتها، ويقال: لأنها أعظم القرى شأنا، وقيل: لأنها قبلة تأمها الناس بالصلوات إليها.
قوله تعالى: { والذين يؤمنون بالأخرة يؤمنون به }؛ أي الذين يقرون ويصدقون بالبعث يؤمنون بالقرآن، وفي هذا بيان أن الإيمان بالحساب والجزاء يقتضي الإيمان بالقرآن، ولا ينفع بدون الإيمان به وبمحمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: { وهم على صلاتهم يحافظون }؛ أي يداومون على الصلوات الخمس بركوعها وسجودها ومواقيتها.
[6.93]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل مآ أنزل الله }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في مالك بن الصيف ومسيلمة الكذاب الذي كان يدعي النبوة، وفي عبدالله بن سعد بن سرح القرشي،
" كان عبدالله بن سعد يتكلم بالإسلام، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم القرآن الذي ينزل عليه في بعض الأحيان، وكان إذا أملى عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عزيز حكيم، كتب من قلبه: أن الله غفور رحيم، وقال: هذا وذاك سواء.
فلما نزلت الآية التي في سورة قد أفلح: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } إلى قوله تعالى { فكسونا العظام لحما } ، ثم أملاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أملى عليه قوله: { ثم أنشأناه خلقا آخر } عجب عبدالله بن سعد من تفصيل خلق الإنسان، فجرى على لسانه: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال صلى الله عليه وسلم: أكتب، هكذا أنزل علي. فشك عبدالله حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولإن كان كاذبا فلقد قلت كما قال. "
فأنزل الله هذه الآية)
ومعناها: أي أحد أكفر وأشد غبنا في كفره ممن اختلق على الله كذبا، بأن جعل له شريكا وولدا كما قال المشركون ومالك بن الصيف: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله)، والمراد بالذي { قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } مسيلمة الكذاب وكان يسجع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم أن الله أوحى إليه. وأما عبدالله بن سرح فارتد ولحق بالمشركين وقال: أنا أعلمكم بمحمد، فلقد كان يملي علي فأغيره واكتب كما شئت.
قوله عز وجل: { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم }؛ أي لو رأيت الظالمين { في غمرات الموت } لرأيت لهم عذابا عظيما. والظالمون هم الكافرون، وقيل: المنافقون رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في صفوف المشركين، وقد نرى مسلمين بمكة فأخرجهم أهل مكة معهم كرها، فلما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى الشرك، فقالوا: غر هؤلاء دينهم، عنوا به المؤمنين، وقاتلوا مع المشركين فقتلوا جميعا عامتهم.
قوله تعالى: { في غمرات الموت } أي في سكراته ونزعاته وشدائده، وقوله تعالى: { والملائكة باسطوا أيديهم } معناه: أن ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب يبسطون أيديهم عليهم بالعذاب ويقولون لهم: { أخرجوا أنفسكم } أي خلصوا أنفسكم، ولستم تقدرون على خلاص. وقيل: معناه فارقوا أرواحكم الخبيثة، كما يقول: لأحرقنك بالعذاب، لأخرجن نفسك.
قوله تعالى: { اليوم تجزون عذاب الهون }؛ أي يقال لهم يوم قبض الروح، وقيل: يوم القيامة حين معاينة العذاب: اليوم تجزون العذاب الشديد الذي تهانون فيه، { بما كنتم تقولون } ، بكذبكم، { على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } ، وبما كنتم تتعظمون عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
[6.94]
قوله عز وجل: { ولقد جئتمونا فردى كما خلقنكم أول مرة }؛ أي جئتمونا بلا مال ولا ولد كما خلقناكم في الابتداء، والمعنى: أنه يقال لهم: { ولقد جئتمونا فردى }. وفي الخبر:
" أنهم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، قالت عائشة رضي الله عنها: (واسوأتاه! الرجل والمرأة كذلك) فقال صلى الله عليه وسلم: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال، شغل بعضهم عن بعض ".
قوله تعالى: { وتركتم ما خولنكم وراء ظهوركم }؛ أي وخلفتم ما أعطيناكم من الأموال لغيركم أي خلف عليها غيركم في دار الدنيا، ولم تقدموها لأنفسكم، { وما نرى معكم شفعآءكم } ، آلهتكم، { الذين } ، التي، { زعمتم أنهم فيكم شركآء } ، يشفعون لكم ويقربونكم إلي، { لقد تقطع بينكم }؛ أي وصلكم.
ومن قرأ (بينكم) بالنصب فمعناه: تقطع ما بينكم؛ أي ما كنتم فيه من الشركة، { وضل عنكم ما كنتم تزعمون }؛ أنها شفعاؤكم عند الله حين لم يقدروا عن دفع شيء من العذاب عنكم.
وقال الحسن: (معنى قوله: { ولقد جئتمونا فردى } أي كل واحد على حدة). وقال ابن كيسان: (مفردين من المعبودين). وقيل: (فرادى) أي وحدانا لا مال لكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم. فرادى: جمع فرد، مثل سكران وسكارى، كسلان وكسالى. ويقال أيضا: فرادى بجزم الراء وكسرها وفتحها، وجمعه أفراد. وقرأ الأعرج: (فردى) بغير ألف مثل سكرى.
قوله تعالى: { كما خلقنكم أول مرة } أي حفاة عراة غرلا، { وتركتم ما خولنكم وراء ظهوركم } أي ما أعطيناكم وملكناكم من الأموال والأولاد والخدم وراء ظهوركم في الدنيا. قوله تعالى: { لقد تقطع بينكم } قرأ أهل الحجاز والحسن ومجاهد والكسائي وحفص بالنصب؛ وهي قراءة أبي موسى الأشعري، وقرأ الباقون بالرفع.
[6.95]
قوله عز وجل: { إن الله فالق الحب والنوى }؛ أي خالق الحب والنوى، كقوله تعالى:
فاطر السموت والأرض
[الأنعام: 14] أي خالقهما. وقال الحسن وقتادة: { فالق الحب } أي شاق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. والحب: جمع حبة والنوى: جمع نواة.
وقوله تعالى: { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي }؛ أي يخرج الإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان. وسميت النطفة ميتا؛ لأنها من جملة الموات. وقيل: معناه: يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات.
وكل ما يكون ناميا عند أهل اللغة بمنزلة الحي، وما لا يكون ناميا فهو بمنزلة الميت. ويقال: معناه: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، وقوله: { ذلكم الله }؛ أي ذلكم الله الذي يفعل هذا الفعل ؛ هو الله، { فأنى تؤفكون }؛ أي فمن أين تصرفون عن الحق. والإفك في اللغة: هو قلب الشيء وصرفه.
[6.96]
قوله تعالى: { فالق الإصباح }؛ أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل، وقال ابن عباس: (معناه: خالق الإصباح). قال الزجاج: (الإصباح والصبح واحد، والأصباح جمع الصبح). ويقال: الإصباح بكسر الألف المصدر؛ ومعناه الدخول في ضوء النهار.
وقوله تعالى: { وجعل الليل سكنا }؛ لتسكنوا فيه من ظلمته في أوطانكم. وقرأ الحسن: (فالق الأصباح) بالفتح جمع صبح، (وجاعل الليل سكنا) يسكن فيه خلقه. وقرأ النخعي: (وجعل الليل سكنا) على الفعل في معناه: نور النهار بالنور؛ لتبتغوا من فضله، وجعل الليل سكنا.
وقوله تعالى: { والشمس والقمر حسبانا }؛ نصب الشمس على معنى: (وجعل)؛ لأن في (جاعل) معنى جعل؛ أي جعل منازل الشمس والقمر بحسبان معلوم لا يختلف، إذا انتهى إلى أقصى منازله رجع، فإن الشمس تدور على الفلك كله في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم، والقمر يدور على الفلك كله في ثمان وعشرين ليلة، ويكون مستورا في ليلتين، ثم يعود إلى ما كان، فيعرف الناس بذلك آجال عقودهم، وأوقات معاملاتهم وعباداتهم، وسنين أعمارهم.
والحسبان: مصدر، يقال: فلان حسبانه على الله؛ أي حسابه على الله. ويقال: إن الحسبان جمع حساب، كما يقال: شهاب وشهبان. قوله تعالى: { ذلك تقدير العزيز العليم }؛ أي ذلك الذي وصف تدبير العزيز المنيع في سلطانه، الغالب الذي لا يغلب، العالم بمصالح مملكته.
[6.97]
وقوله عز وجل: { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر }؛ أي هو الذي جعل لكم النجوم التي تختلف مواضعها من جهة الشمال والجنوب والدبور والصبا، لتعرفوا بها الطرق من بلد إلى بلد { في ظلمت البر والبحر } أي في المفاوز ولجج البحار في الليلة المظلمة في السفن. فإن من النجوم ما يجعله السائر تلقاء وجهه، ومنها ما يجعله خلفه، ومنها ما يجعله على يمينه، ومنها ما يجعله على شماله؛ لتظهر له الطريق التي تؤديه إلى بغيته. وقوله تعالى: { قد فصلنا الآيت }؛ أي بينا العلامات مفصلة، { لقوم يعلمون }.
[6.98]
قوله تعالى: { وهو الذي أنشأكم من نفس وحدة }؛ أي أنشأ خلقكم من نفس آدم عليه السلام وحدها؛ فإنه خلقنا جميعا منه، وخلق أمنا حواء من ضلع من أضلاع آدم عليه السلام، وإنما من علينا بهذا؛ لأن الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى أن يألف بعضهم بعضا.
وقوله تعالى: { فمستقر ومستودع }؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فمستقر) بكسر القاف على معنى فمنكم مستقر، وقرأ الباقون بفتحها على معنى: ذلك مستقر. قال ابن عباس: (معنى قوله: { فمستقر ومستودع } أي مستقر في أرحام الأمهات، ومستودع في أصلاب الآباء). وقال بعضهم على الضد من هذا، إلا أن لفظ ال (مستقر) فيمن خلف، كلفظ المستودع فيمن لم يخلف أقرب.
وقال ابن مسعود: (معناه: فمستقر في الرحم إلى أن يولد، ومستودع في القبر إلى أن يبعث). وقال الحسن: (مستقر في الدنيا، ومستودع في القبر). وقال مجاهد: (فمستقر على ظهر الأرض في الدنيا، ومستودع عند الله في الآخرة). وقال أبو العالية: (مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حين تموت وحين تبعث). وقال بعضهم: مستقر في الرحم، ومستقر فوق الأرض، ومستقر تحت الأرض، اقرأ:
ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى
[الحج: 5] و
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين
[البقرة: 36]. وقيل: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا. قال الحسن: (يا ابن آدم، أنت وديعة في أهلك، ويوشك أن تلحق بصاحبك، وأنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يوما أن ترد الودائع
وقال آخر:
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا
والناس مفجوع به ومفجع
مستقر أو مستودع قد خلا
والمستقر يزوره المستودع
قوله عز وجل: { قد فصلنا الآيت }؛ أي بينا العلامات الدالات على توحيد الله مفصلة، { لقوم يفقهون }؛ أي لقوم يستدلون بمعاني الآيات.
والفقه في اللغة: هو الفهم لمعنى الكلام، إلا أنه قد جعل في العرف عبارة عن علم الغيب، على معنى أنه استدراك معنى الكلام بالاستنباط عن الأصول، ولهذا لا يجوز أن يوصف الله تعالى بأنه فقيه؛ لأنه يوصف بالعلم، والعلم حجة الاستنباط، ولكنه عالم بجميع الأشياء على وجه واحد.
[6.99]
قوله عز وجل: { وهو الذي أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء }؛ أي أنزل من السماء المطر، فإن الله تعالى منزل المطر من السماء إلى السحاب، وينزل من السحاب إلى الأرض، كما قال تعالى:
ونزلنا من السمآء مآء مبركا
[ق: 9] وقوله تعالى: { فأخرجنا به نبات كل شيء } أي فأخرجنا بالمطر نبات كل صنف من أصناف الحبوب معاشا لهم.
فإن قيل: كيف قال الله تعالى: { فأخرجنا به نبات كل شيء } فجعل المطر سببا للنبات، والفاعل بالسبب يكون مستعينا بفعل السبب، والله تعالى مستغن عن الأسباب؟
قيل: إنما قال الله تعالى: { فأخرجنا به }؛ لأن المطر سبب يؤدي إلى النبات، وليس بمولود له، والله تعالى قادر على إنبات النبات بدون المطر، وإنما يكون الفاعل بالسبب مستعينا بذلك السبب إذا لم يمكنه فعل ذلك الشيء إلا بذلك السبب، كما أن الإنسان إذا لم يمكنه أن يصعد السطح إلا بالسلم، كان السلم آلة الصعود، والطائر إذا صعد السطح بالسلم، لم يكن السلم آلة له؛ لأنه يمكنه أن يصعد السطح بدون السلم.
قوله تعالى: { فأخرجنا منه خضرا }؛ أي أخرجنا من المطر نباتا أخضر؛ وهو ساق السنبلة، وقوله تعالى: { نخرج منه حبا متراكبا }؛ أي نخرج من ساق السنبلة ما قد ركب بعضه بعضا؛ يعني سنابل البر والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب، يركب بعضه بعضا.
قوله تعالى: { ومن النخل من طلعها قنوان دانية }؛ أي عروق قريبة المتناول ينالها القاعد. والقنوان: جمع القنو؛ مثل صنو وصنوان. والقنو: عذق النخلة والعذق؛ بفتح العين: النخلة. قال الزجاج: (في الآية محذوف؛ أي دانية وغير دانية؛ وهي التي تكون بعيدة المتناول).
وقرأ الأعرج: (قنوان) بضم القاف؛ وهي لغة قيس. وقال مجاهد: (معنى قوله: (دانية) أي متدلية). وقال الضحاك: (ملزقة بالأرض).
وقوله تعالى: { وجنت من أعناب }؛ عطف على قوله تعالى: { خضرا } أي وأخرجنا جنات؛ أي بساتين وأشجار ملتفة، وكل نبات متكاتف يستر بعضه بعضا فهو جنة، من جن إذا استتر. وقرأ الأعمش ويحيى بن يعمر وعاصم: (وجنات) بالرفع عطفا على (قنوان) لفظا، وإن لم تكن في المعنى من جنسها، وكذلك قوله تعالى: (والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه) بالرفع أيضا.
وقوله تعالى: { والزيتون والرمان مشتبها وغير متشبه }؛ أي وأخرجنا من شجر الزيتون وشجر الرمان، { مشتبها وغير متشبه } أي منها ما يشبه غيره في الصورة واللون، ومنها ما لا يشبه. وقيل: معناه: متشابها في المنظر واللون، وغير متشابه في الطعم مثل الرمان الحامض والحلو. والفائدة في الجمع بين شجر الزيتون وشجر الرمان في هذه الآية: بأنهما شجرتان يشتمل ورقهما على الغصن من أوله إلى آخره مشتبه بأوراقهما، ومختلف ثمارهما.
قوله تعالى: { انظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه }؛ أي انظروا إلى خروج الثمر نظر الاعتبار إذا عقد وهو غض، وينعه إذا نضج وأخذ اللون من بين أصفر وأبيض وأحمر، فمعناه: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) أي ونضجه وإدراكه. وقرأ أبو رجاء: (ويانعه) بالألف، وقوله تعالى: { انظروا إلى ثمره إذآ أثمر } قرأ أهل الكوفة غير عاصم: (ثمره) بضم الثاء والميم على جمع الثمار، فيكون جمع الجمع؛ لأن الثمر جمع الثمار.
ومعنى الآية: انظروا إلى الثمر في ابتداء طلوعه، وانظروا إليه في انتهاء حاله وقت إدراكه، { إن في ذلكم لأيت لقوم يؤمنون }؛ أي إن في خلق هذه الأشياء، وتصريفها ونقلها من حال إلى حال لعلامات دالة على البعث لقوم يؤمنون بالله. وهذه الآية دالة للمؤمنين وغيرهم، إلا أنه خص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالاستدلال بها.
[6.100]
قوله تعالى: { وجعلوا لله شركآء الجن }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في الزنادقة؛ قالوا: إن الله تعالى وإبليس أخوان؛ فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام وكل خير، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب وكل شر، فذلك قوله تعالى: { وجعلوا لله شركآء الجن }. وقوله تعالى:
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
[الصافات: 158]). وقال مقاتل: (نزلت الآية في جهينة وخزاعة، قالوا: إن صنفا من الملائكة يقال لهم الجن: بنات الله) تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وانتصب (الجن) لكونه بدلا من (شركاء) أو لأنه مفعول ثان على تقدير: وجعلوا الجن شركاء لله؛ كقوله:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
[الزخرف: 19].
قوله تعالى: { وخلقهم }؛ يجوز أن يكون الهاء والميم عائدة إلى أهل الشرك، ويجوز أن تكون عائدة على الجن، على أن المعنى: أن الله خالق الجن؛ فكيف يكونوا شركاء له؟!
وقوله تعالى: { وخرقوا له بنين وبنت بغير علم }؛ أي وكذبوا بنسبة البنين والبنات إلى الله تعالى، فإن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله، والنصارى قالوا: المسيح بن الله، واليهود قالوا: عزير بن الله. وكذبوا كلهم لعنة الله عليهم، يقال: خرق؛ واخترق؛ واختلق؛ وافترى: إذا كذب.
وقرأ أهل المدينة: (وخرقوا) بالتشديد على التكثير. وقوله تعالى: { بغير علم } أي بجهلهم بلا حجة؛ { سبحنه وتعلى عما يصفون }؛ كلمة تنزيه وتبعيد لله تعالى عن كل سوء؛ أي سبحوه أيها المؤمنون عما يقول عليه الجاهلون. وقوله تعالى: (تعالى) علوا من العلو؛ أي استعلى عما وصفوه به. ويجوز في صفات الله تعالى: (علا) ولا يجوز: ارتفع؛ لأن العلو قد يكون بالاقتدار؛ والارتفاع يقتضي الجهة والمكان.
[6.101]
قوله عز وجل: { بديع السموت والأرض }؛ أي مبتدع السماوات والأرض ومنشؤهما ابتداء على غير مثال سبق. وقوله تعالى: { أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة }؛ أي من أين يكون له ولد؛ وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة، ولا يكون الولد إلا من زوجة.
وقوله تعالى: { وخلق كل شيء }؛ نفي للزوجة والولد؛ أي كيف يكون له ولد وصاحبة وقد خلق الأشياء كلها، { وهو بكل شيء عليم }؛ من خلق العباد ومصالحهم؛ وجهل الكفار وعنادهم.
[6.102]
قوله تعالى: { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خلق كل شيء فاعبدوه }؛ معناه: إن الذي خلق الأشياء كلها وعملها وأشركتم به هو الله تعالى ربكم لا إله غيره خالق كل شيء من الخلق فأطيعوه ووحدوه ولا تشركوا بينه وبين غيره في العبادة؛ { وهو على كل شيء وكيل }؛ أي حافظ.
[6.103]
قوله تعالى: { لا تدركه الأبصر }؛ أي لا تدرك الأبصار كنهه؛ { وهو يدرك الأبصر }؛ أي يعلم كنهها وماهيتها؛ فإنه لا أحد يعلم أن الإنسان لم صار يبصر من عينيه ولا يبصر بغيرهما؛ وما الشيء الذي يصير به الإنسان مبصرا؛ وكيف حقيقة البصر، فأعلم الله تعالى أن خلقا من خلقه لا يدرك كنهه ولا يحيطون بعلمه؛ فيكف يحيطون بالله؟!
فمن حمل الآية على هذا التأويل؛ لم يكن فيه ما ينفي الرؤية في الآخرة؛ لأن معنى الرؤية غير معنى الإحاطة بحقيقة الشيء. وقال بعض المفسرين: (إن الإدراك إذا قرن بالبصر؛ كان المراد منه الرؤية، فإنه يقال: أدركت ببصري؛ ورأيت ببصري، بمعنى واحد، كما يقال: أدركت بأذني؛ وسمعت بأذني، بمعنى واحد).
قالوا: وأصل الإدراك: اللحوق؛ نحو قولك: أدركت زمان فلان؛ وأدرك فلان أبا حنيفة؛ وأدرك الزرع والثمرة؛ وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال. وإدراك البصر الشيء ولحوقه به برؤيته إياه، إلا أنه لا يمتنع أن تكون هذه الآية عامة من جهة اللفظ والمراد منها الخصوص توفيقا بين هذه الآية وبين قوله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-23]. قوله تعالى: { وهو اللطيف الخبير }؛ أي اللطيف بعباده في التدبير، الخبير بمصالحهم.
[6.104]
قوله تعالى: { قد جآءكم بصآئر من ربكم فمن أبصر فلنفسه }؛ أي جاءكم القرآن الذي فيه البيان. والبصائر: جمع البصيرة؛ وهي الحجة البينة، فمن أبصر فلنفسه نفعه، { ومن عمي }؛ عن الحق والقرآن؛ { فعليها }؛ فعلى نفسه ضرر ذلك، { ومآ أنا عليكم بحفيظ }؛ أي برقيب أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، فإن الله يجازيكم على أعمالكم.
وقيل: معناه: لست عليكم بحفيظ فأحول بينكم وبين إضراركم بأنفسكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربكم وهو الحفيظ عليكم، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
[6.105]
قوله تعالى: { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست } أي مثل ما صرفنا الآيات وبيناها فيما تلي عليك؛ نصرف الآيات ونبينها في المستقبل لئلا يقولوا: تختلقه من تلقاء نفسك، ولئلا يقولوا درست؛ أي قرأت كتب أهل الكتاب. ومن قرأ (دارست) فمعناه: ذاكرت أهل الكتاب. وكان أهل مكة يقولون: إنما يتعلمه من جبر ويسار؛ وكانا غلامين عبرانيين بمكة.
ومعنى (درست) أدرست هذه الأخبار التي تتلوها علينا، ومعنى (دارست) أي قارأت أهل الكتاب: تعلمت منهم وقرأت عليهم وقرأوا عليك.
وقرأ قتادة: (درست) أي قريت وتليت، وقرأ الحسن وابن عامر ويعقوب: (درست) بفتح الدال والراء والسين وجزم التاء؛ يعني: تقادمت وانمحت وانمضت، وذكر الأخفش: (درست) بضم الراء؛ ومعناها: درست؛ إلا أن ضم الراء أشد مبالغة. وقرأ ابن مسعود والأعمش: (درس) بفتح السين من غير تاء؛ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ولنبينه لقوم يعلمون }؛ أي ولنبين القرآن والتصريف لقوم يعلمون.
[6.106]
قوله تعالى: { اتبع مآ أوحي إليك من ربك }؛ أي اعمل يا محمد بما أنزل إليك من القرآن من حلاله وحرامه؛ { لا إله إلا هو }؛ أنزله. وقوله تعالى: { وأعرض عن المشركين }؛ أي اتركهم في ضلالتهم. وهذا منسوخ بآية السيف. وقيل: معناه: أعرض عنهم استجهالا لهم.
[6.107]
قوله عز وجل: { ولو شآء الله مآ أشركوا }؛ أي لو شاء الله لوفقهم إلى الإيمان، { وما جعلناك عليهم حفيظا }؛ أي يمنعهم عما يضرهم، { ومآ أنت عليهم بوكيل }؛ أي وما أمرنا أن تلزمهم الإيمان شاءوا أم أبوا، فإنك لا يمكنك أن تفعل ذلك بهم، وإنما هو الذي يقدر على فعل هذا، ولكنه لم يفعل حتى لا يزول التكليف.
وإنما جمع بين حفيظ ووكيل لاختلاف معناهما، فإن الحافظ للشيء هو الذي يصونه عما يضره، والوكيل بالشيء هو الذي يجلب الخير إليه.
[6.108]
قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }؛ وذلك حين قال الله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون
[الأنبياء: 98-99] قال المشركون: لئن لم تنته يا محمد عن سب آلهتنا وعيبها لنسبن إلهك الذي تعبده، فأنزل الله تعالى هذه الآية. أي لا تسبوا معبودهم الذي يعبدونه من دون الله فيسبوا الله عدوا وظلما.
ونصب (عدوا) على المصدر؛ أي يعدون عدوا. ويقال: نصب على إرادة اللام؛ أي يسبون بالعدو. وقوله تعالى: { بغير علم } أي بجهلهم يحملهم الغيظ على أن يسبوا معبودكم.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا أراد أن يأمر غيره بالمعروف، ويعلم أن المأمور يقع بذلك فيما هو أشد مما هو فيه من شتم أو ضرب أو قتل، كان الأولى أن لا يأمره ويتركه على ما هو فيه. وقرأ بعضهم: (عدوا بغير علم) أي أعداء؛ نصب على الحال. وقال قتادة: (كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لئلا يسبوا الله، فإنهم قوم جهلة).
قوله تعالى: { كذلك زينا لكل أمة عملهم }؛ أي كما زينا لك دينك وعملك؛ زينا لهم دينهم وعملهم، { كذلك زينا لكل أمة عملهم } الذي يعملونه بميل الطبائع إليه مجازاة لهم على فعلهم، كما قال تعالى:
بل طبع الله عليها بكفرهم
[النساء: 155]. وقوله تعالى: { ثم إلى ربهم مرجعهم }؛ أي مصيرهم ومنقلبهم إلى الله تعالى، { فينبئهم }؛ فيجزيهم؛ { بما كانوا يعملون }؛ في الدنيا.
[6.109]
قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جآءتهم آية ليؤمنن بها }؛ أي حلفوا بالله واجتهدوا في المبالغة في اليمين { لئن جآءتهم آية } أي علامة لنبوتك ليصدقن بها. وعنوا بالآية الآيات التي كانوا يقترحونها عليه، { قل }؛ لهم يا محمد: { إنما الآيت عند الله }؛ إن مجيء الآيات من عند الله؛ إن شاء أنزلها وإن شاء لم ينزلها، وإنما ينزل على حسب المصلحة.
وقوله تعالى: { وما يشعركم }؛ خطاب للمؤمنين؛ { أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون }؛ أي وما يدريكم أيها المؤمنون؛ أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون لما سبق لهم في علم الله تعالى من الشقاوة.
وقرأ مجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير: (إنها) بالكسر على الابتداء؛ وخبره: { لا يؤمنون }. وقرأ الباقون بالفتح؛ ومعناه عند الخليل وسيبويه: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرأ ابن عامر وحمزة: (لا تؤمنون) بالتاء على مخاطبة الكفار؛ أي وما يشعركم يا أهل مكة أنها إذا جاءت لا تؤمنون. وقرأ الباقون بالياء. وقرأ الأعمش: (وما يشعركم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون).
[6.110]
قوله تعالى: { ونقلب أفئدتهم وأبصرهم كما لم يؤمنوا به أول مرة }؛ أي نترك أفئدتهم وأبصارهم منقلبة كما هي في الحيرة التي بهم؛ والغفلة التي فيهم؛ فلا نوفقهم مجازاة لهم فلا يؤمنون { كما لم يؤمنوا به أول مرة } أي أول ما رأوا من الآيات.
وقيل: معناه: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم على جمر جهنم ونارها؛ جزاء على ترك الإيمان وعقوبة عليه، { ونذرهم في طغيانهم يعمهون }؛ أي نتركهم في ضلالتهم يتحيرون ويترددون.
[6.111]
قوله تعالى: { ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشآء الله }؛ نزلت هذه الآية في رهط من أهل مكة من المستهزئين، وهم: الوليد بن المغيرة؛ والعاص بن وائل؛ والأسود بن عبد يغوث؛ وغيرهم. قالوا: يا محمد؛ ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك: أحق ما تقول أم باطل؟ فنؤمن بك، وأرنا الملائكة يشهدون أنك رسول الله، وائتنا بالله والملائكة قبيلا - أي كفيلا - على ما تقول إنه الحق. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعناها: { ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة } معاينة للشهادة على نبوتك كما سألوك، { وكلمهم الموتى } بأنك رسول الله، وأن القرآن كلامه، وجمعنا عندهم كل شيء من الطير والوحوش والسباع وسائر الدواب كفيلا يكفلون بصحة ما تقول يا محمد، ما كانوا ليؤمنوا بك إلا أن يوفقهم الله للإيمان، { ولكن أكثرهم يجهلون }؛ أن الله قادر على ذلك.
ويجوز أن يكون معنى (قبلا) أي قبيلا يقابلهم ويواجههم من المقابلة، ويقال: جماعة على معنى أن القبل جمع القبيل، والقبيل جمع القبيلة؛ كسفينة وسفن. قرأ أهل المدينة والشام: (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء؛ أي معاينة؛ والمعنى: لو ناطقتهم الأرض والسماء والطير والوحوش أن محمدا رسول الله، وأن ما أتاكم به حق، قالوا لهم ذلك معاينة ومشافهة؛ ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله.
[6.112]
قوله عز وجل: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شيطين الإنس والجن } أي كما جعلنا لك ولأمتك أعداء مثل أبي جهل وأصحابه، كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم عدوا. و(شياطين) نصب على البدل من (عدوا) ومفسرا له، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا.
قال ابن عباس في معنى هذه الآية: (إن إبليس قسم جنده فريقين، فبعث فريقا منهم إلى الإنس؛ وفريقا إلى الجن. فشياطين الإنس وشياطين الجن يلتقي بعضهم ببعض، فيقول بعضهم لبعض: أضللت صاحبي بكذا وكذا، أتيته من قبل الشهوات واللذات، ومن قبل المراكب والملابس والطعام والشراب، فإن أعياني من وجه أتيته من وجه آخر، فأضلل صاحبك بمثله).
فذلك قوله عز وجل: { يوحي بعضهم إلى بعض }؛ أي يلقي بعضهم إلى بعض ويملي بعضهم إلى بعض؛ { زخرف القول غرورا }؛ أي المموه الذي يكون فيه تزيين الأعمال القبيحة. وقوله تعالى: { غرورا } نصب على المصدر؛ كأنه قال: يغرون به غرورا.
وذهب بعض المفسرين: (إلى أن الشياطين اسم لكل عات متمرد؛ من الجن ومن الإنس شياطين). كما روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
" دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأمرني أن أصلي ركعتين؛ فصليت وجلست إليه؛ فقال لي: " يا أبا ذر؛ تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ". فقلت: يا رسول الله؛ أومن الإنس شياطين؟! فقال: " أوما تقرأ قوله تعالى: { شيطين الإنس والجن }؟ " ".
قوله تعالى: { ولو شآء ربك ما فعلوه }؛ أي لو شاء ربك أن يمنع الشياطين من الوسوسة ما فعلوه، ولكن يمتحن عباده بما يعلم أنه أبلغ في الحكمة وأجزل في الثواب. قوله تعالى: { فذرهم وما يفترون }؛ أي اتركهم وافترائهم وكذبهم على استجهالاتهم، فإني القادر عليهم.
[6.113]
قوله تعالى: { ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه } عطف على { غرورا }؛ أي يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول الغرور، ولتميل إليه أفئدة الذين لا يقرون بالبعث، ولكن يرضوا القول الزخرف ويكتسبون من الإثم؛ وهو ما قضي عليهم في اللوح المحفوظ، يقال: اقترف فلان ذنبا؛ إذا عمله. وقيل: معنى { وليقترفوا } أي ليختلقوا ويكذبوا. وقرأ النخعي: (ولتصغي) بضم التاء وكسر الغين؛ أي تميل، والإصغاء: الإمالة؛ ومنه الحديث:
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصغي الإناء للهرة ".
والأفئدة: جمع فؤاد؛ مثل أغربة وغراب. { وليقترفوا ما هم مقترفون } أي فليكتسبوا ما هم مكتسبون. وقال ابن زيد: (وليعملوا ما هم عاملون). يقال: اقترف فلان مالا؛ أي اكتسبه، وقارفت الأمر: أي واقعته؛ قال الله تعالى:
ومن يقترف حسنة
[الشورى: 23]. ومن قرأ: (وليرضوه وليقترفوا ) بجزم اللام على لفظ الأمر، فمعناه: التهديد؛ أي اعملوا ما شئتم.
[6.114]
قوله عز وجل: { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا }؛ وذلك أن نفرا من أهل مكة قالوا: يا محمد؛ اجعل بيننا وبينك حكما من اليهود والنصارى، فإنهم قرأوا الكتب قبلك. فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: قل لهم يا محمد: أفغير الله أطلب ربا ومعبودا يساوي حكمه حكم الله؛ فأجعله حكما وهو الذي أنزل إليكم القرآن مفصلا مبينا أمره ونهيه بلغة تعرفونها. ويقال: متفرقا سورة سورة؛ وآية آية.
قوله تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب }؛ أي التوراة؛ هم عبدالله بن سلام وأصحابه؛ { يعلمون أنه }؛ أي القرآن؛ { منزل من ربك }؛ بما تقدم لهم من البشارة في كتبهم بأن الله يبعث في آخر الزمان نبيا من ولد إسماعيل، وينزل عليه القرآن. وقوله تعالى: { بالحق }؛ أي بما أقام لهم من البراهين على ذلك.
وقوله تعالى: { فلا تكونن من الممترين }؛ أي لا تكونن يا محمد من الشاكين في أنهم يعلمون ذلك. ويقال: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، كأنه قال: لا تكونن أيها الجاهل بأمر محمد صلى الله عليه وسلم من الشاكين في أمره. وقرأ الحسن والأعمش وابن عامر وحفص: (منزل) بالتشديد من التنزيل؛ لأنه أنزل نجوما مرة بعد مرة، وقرأ الباقون بالتخفيف من الإنزال.
[6.115]
قوله عز وجل: { وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته }؛ قرأ أهل الكوفة ويعقوب: (كلمة) على التوحيد، وقرأ الباقون: (كلمات) على الجمع. ومعنى الآية: وتم إلزام الحجة على وجه الحكمة، لا ينقصان في ذلك. قوله (صدقا) أي مخبره على ما أخبر به فيما وعد وأوعد، و(عدلا) أي أحكامه كلها عدل، و { لا مبدل لكلماته } أي لا مغير لحكمه ودينه، فإن اليهود والنصارى - وإن غيروا التوراة والإنجيل - لن يمكنهم أن يأتوا بحكم حتى يقوم مقام حكمه.
وقيل: معناه: { وتمت كلمت ربك } أي وجب قول ربك بأنه ناصر محمدا صلى الله عليه وسلم وأن عاقبة الأمر له صدقا وعدلا؛ لا مغير لقوله:
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا
[غافر: 51]. وقوله تعالى: { وهو السميع العليم }؛ ظاهر المعنى.
[6.116-117]
قوله تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } وذلك أن أهل مكة كانوا يستحلون أكل الميتة، ويدعون المسلمين إلى أكلها، وكانوا يقولون: إنما ذلك ذبح الله؛ فهو أحل مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومعناها: إن تطع - يا محمد - أكثر من في الأرض يصرفونك عن دين الله، وإنما قال: { أكثر من في الأرض } لأن أكثرهم كفار ضلال.
قوله تعالى: { إن يتبعون إلا الظن }؛ معناه: إن أكثرهم يتبعون أكابرهم بالشك؛ يتبعونهم فيما يعملون " ويظنون " أنهم على الحق، وإنما يعذبون على هذا الظن؛ لأنهم اقتصروا على الظن والجهل واتبعوا أهواءهم، { وإن هم إلا يخرصون }؛ أي ما هم إلا يكذبون في قولهم: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم بسكاكينكم. قوله تعالى: { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله }؛ أي عن دين الإسلام وشرائعه؛ { وهو أعلم بالمهتدين }؛ بمحمد والإسلام، وإنما قال: { أعلم } لأن الله تعالى يعلم الشيء من كل جهاته، وغيره يعلم الشيء من بعض جهاته.
[6.118]
قوله تعالى: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه }؛ عطف على ما دل عليه الكلام الذي قبله، كأنه قال: كونوا على الهدى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، { إن كنتم بآياته مؤمنين }؛ هذا للترغيب في اعتقاد صحة إباحته وفي أكله.
[6.119]
قوله تعالى: { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه }؛ يعني من الذبائح، وموضع (أن) نصب لأن (في) سقطت، { وقد فصل لكم ما حرم عليكم }؛ أي وقد بين لكم ما حرم عليكم من الميتة والدم والخنزير على ما تقدم في سورة المائدة.
قرأ الحسن وقتادة وأهل المدينة وحفص: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) بالفتح فيهما على معنى: فصل الله. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بضمهما جميعا. وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا: (فصل) بالفتح (وحرم) بالضم. وقرأ عطية العوفي: (فصل) بالتخفيف مفتوحا؛ يعني قطع الحكم فيما حرم عليكم.
وقوله تعالى : { إلا ما اضطررتم إليه }؛ أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله، فقد رخص لكم حينئذ. قوله تعالى: { وإن كثيرا }؛ يعني الكفار يأكلون الميتة والذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها عمدا، والتي يذبحونها لآلهتهم بلا علم عندهم ولا بصيرة، يتبعون الهوى والشهوات في ذلك.
قوله تعالى: { ليضلون بأهوائهم بغير علم }؛ قرأ الحسن وأهل الكوفة بضم الياء لقوله:
يضلوك عن سبيل الله
[الأنعام: 116]. وقرأ الباقون بفتحها لقوله:
هو أعلم من يضل
[الأنعام: 117]. فمعنى من قرأ بضم الياء: أنهم يصرفون الناس عن الهدى بالدعاء إلى أكل الميتة على وجه الجدال والخداع، وقوله: { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } أي أعلم بعقوبة المتجاوزين من الحلال إلى الحرام.
[6.120]
قوله تعالى: { وذروا ظهر الإثم وباطنه }؛ أي لا تقربوا ما حرم الله عليكم جهرا ولا سرا، ويقال: أراد بظاهر الإثم: الزنا الظاهر، وبباطنه: الزنا السر. فالعرب كانوا يرون الزنا ظاهرا معصية، ولا يرونه في الخفية معصية. وقوله تعالى: { إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }؛ أي إن الذين يعملون المعصية ظاهرا وباطنا سيعاقبون في الآخرة بما كانوا يكسبون في الدنيا من المعاصي والفواحش.
[6.121]
قوله عز وجل: { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه }؛ يعني الذبائح. روي عن عبدالله بن عمر: (أنه أتى حرا ذبح شاة نسي أن يذكر اسم الله عليها، فأمر ابن عمر غلامه أن يقوم عنده، فإذا جاء إنسان يشتري منه قال: إن ابن عمر يقول: إنه لم يذكر عليها اسم الله، فلا تشتري).
وقال ابن سيرين: (إذا ترك التسمية ناسيا؛ لم تؤكل). إلا أن أكثر أهل العلم على أن نسيانها لا يوجب التحريم. هكذا روي عن علي وابن عباس ومجاهد وعطاء وابن المسيب؛ قالوا: (إن ترك التسمية ناسيا لا بأس بأكلها؛ لأن خطاب الآية يتناول العامد، إذ الناسي في حال نسيانه لا يكون مكلفا).
وقوله تعالى: { وإنه لفسق }؛ أي إن أكله لفسق. وقيل: إن ترك التسمية، وقيل: المذبوح بغير تسمية الله فسق فيه حين ذبح على غير وجه الحق؛ كقوله:
أو فسقا أهل لغير الله به
[الأنعام: 145].
قوله تعالى: { وإن الشيطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجدلوكم }؛ أي إن الشياطين ليوسوسون لأوليائهم من الإنس؛ وهم: أبو الأخوص الخثعمي وبدين ابن ورقاء الخزاعي وغيرهما من أهل مكة؛ كانوا يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في أكل الميتة واستحلالها. والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في الخفية، { وإن أطعتموهم }؛ في أكل الميتة واستحلالها من غير اضطرار، { إنكم لمشركون }؛ مثلهم.
وفي هذا دليل على أن من استحل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أحل الله؛ فهو مشرك. وإنما سمي مشركا؛ لأنه اتبع غير الله فأشرك بالله غيره.
[6.122]
قوله عز وجل: { أو من كان ميتا فأحيينه } ، قال ابن عباس: (نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل). ويقال: إن المراد بالآية النبي صلى الله عليه وسلم وأبو جهل. ومعنى الآية على القول الأول: أومن كان كافرا، فهديناه إلى المغفرة والإسلام، { وجعلنا له نورا }؛ وهو نور القرآن والإيمان والحكمة؛ { يمشي به في الناس }؛ يضيء بذلك النور فيما بين الناس؛ { كمن مثله في الظلمت }؛ أي كمثل من هو في الضلالة وظلمات الكفر، { ليس بخارج منها }؛ أبدا.
بين الله تعالى بهذه الآية أن أبا جهل ليس بخارج من الضلالة أبدا. وقال بعضهم: المثل زائد؛ تقديره: كمن في الظلمات.
وعن ابن عباس أيضا: (أن معناه: { أو من كان ميتا فأحيينه } يريد حمزة بن عبد المطلب { كمن مثله في الظلمت ليس بخارج منها } أبا جهل؛ رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة كافر، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه يفوت وبيده قوس، فأقبل وهو غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع ويستكين ويقول: أما ترى ما جاء به محمدا، قد سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا. فقال حمزة: ومن أسفه منكم؟! تعبدون الحجارة من دون الله، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. فأنزل الله تعالى هذه الآية).
قوله تعالى: { كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون }؛ أي كما زين لأبي جهل عمله الذي كان يعمل؛ كذلك زين للكافرين أعمالهم مجازاة لهم على كفرهم. وقال الحسن: (ما زينها لهم إلا الشيطان).
[6.123]
قوله تعالى: { وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها }؛ أي جعلنا في كل قرية ذا نور يمشي به في الناس، كذلك جعلنا في كل قرية رؤساءها وكبراء وعظماء أهلها مجرميها. وقيل: معناه: جعلنا في أهل مكة عظماؤهم مجرميها، كذلك جعلنا في كل قرية. وقوله تعالى: { ليمكروا فيها } أي ليصير أمرهم إلى أن يمكروا بالتكبر وتكذيب الرسل، { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } ، أن كل وبال أمرهم يرجع إليهم.
[6.124-125]
قوله تعالى: { وإذا جآءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل مآ أوتي رسل الله }؛ أي إذا جاءت الأكابر المذكورين، وقيل: أهل مكة؛ إذا جاءتهم دلالة واضحة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قالوا: لا نصدق حتى نعطى من الآيات مثل ما أعطي رسل الله المعجزات والدلائل.
وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا. وقال مقاتل: (قال أبو جهل: زاحمنا بنوا عبد المطلب في الشرف؛ حتى إذا كنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا؛ إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فأنزل الله تعالى هذه الآية).
يقول الله تعالى: { الله أعلم حيث يجعل رسالته }؛ أي هو أعلم من يرسل ومن يختص بالرسالة ومن هو أهل لها. وهذا جواب يمنعهم أن يكونوا رسلا حين أنفوا أن يكونوا أتباعا للرسل بعد قيام حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
بين الله تعالى أنه إنما يجعل الرسالة عند من يقوم بأدائها، ولا يجعلها عند من يضيع ولا يصبر على المكاره. وقيل: إنما لم يجعل الله الرسل في الرؤساء والأغنياء؛ لأن الناس يتبعونهم وإن لم يأتوا بالحجج، فيقول من بعدهم: إنما اتبعوهم لأنهم كانوا رؤساء وأكابر.
وقوله تعالى: { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله }؛ أي سيصيب الذين اكتسبوا الجرم مذلة وهوان ثابت لهم عند الله؛ { وعذاب شديد بما كانوا يمكرون }؛ أي بكفرهم وتكذيبهم الرسل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ثم رجع إلى ذكر عمار وأبي جهل) فقال عز وجل: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلم }؛ أي فمن يرد الله أن يوفقه للإسلام يوسع قلبه ويلينه لقبول الإسلام، { ومن يرد أن يضله }؛ أي أن يخذله ويجعله في ضلالة الكفر، { يجعل صدره ضيقا }.
{ حرجا }؛ قيل: الحرج: موضع الشجر الملتف؛ يعني أن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف فيه الشجر.
وقال أهل اللغة: الحرج: أضيق الضيق. وقال مجاهد: (الحرج: الشك) وقال قتادة: (حرجا ملتبسا). وقال النضر بن شميل: (قلقا)، وقال الكلبي: (ليس للخير فيه منفذ). قرأ ابن كثير: (ضيقا) بالتخفيف، وشدده الباقون؛ وهما لغتان مثل هين ولين. وقوله تعالى: (حرجا) قرأ أهل المدينة وأبو بكر بكسر الراء، وفتحها الباقون؛ وهما لغتان مثل دنف ودنف.
قوله تعالى: { كأنما يصعد في السمآء }؛ يعني: يشق عليه الإيمان ويمتنع ويعجز عنه، كما يشق عليه صعود السماء. واختلف القراء في قوله تعالى: { يصعد } فقرأ أهل المدينة والبصرة والكوفة إلا أبا بكر: (يصعد) بتشديد الصاد والعين من غير ألف، وقرأ طلحة والنخعي وأبو بكر: (يصاعد) بتشديد الصاد وبألف بعدها، بمعنى يتصاعد.
وقرأ الأعرج وأبو رجاء وابن كثير: (يصعد) مخففا؛ أي لا يجد مخرجا يمينا ولا شمالا، فكأنه من الضيق يصعد إلى السماء ولا يستطيعه. وقرأ عبدالله (كأنما يتصعد).
وقوله تعالى: { كذلك يجعل الله الرجس }؛ أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة؛ { على الذين لا يؤمنون }؛ أي لا يرغبون ولا يصدقون بالتوحيد.
روي:
" أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله؛ كيف يشرح الله صدره للإسلام؟ قال: " إذا دخل النور في القلب انشرح واستوسع " قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: " التجافي عن دار الغرور؛ والإنابة إلى دار الخلود؛ والاستعداد للموت قبل نزول الموت " ".
وقال بعض المفسرين في معنى الآية: { فمن يرد الله أن يهديه } في الآخرة إلى الثواب ونيل الكرامة { يشرح صدره للإسلم } في الدنيا بالدلالات. ومن يرد أن يقيله عن ثوابه ونيل كرامته في الآخرة { يجعل صدره ضيقا حرجا } في الدنيا عقوبة له على كفره.
[6.126]
قوله عز وجل: { وهذا صراط ربك مستقيما }؛(هذا) إشارة إلى الإسلام، وقيل: إلى بيان القرآن، سمي ذلك مستقيما؛ لأنه يستقيم بمن يسلكه؛ فلا يعرج فيه حتى يورده إلى الجنة، وقوله تعالى: { قد فصلنا الآيات }؛ أي أتينا بآية على إثر آية مفصلة مبينة؛ { لقوم يذكرون }؛ أي يتعظون بآيات الله، ويتفكرون في دلالات القرآن، فلم يبق لأحد عذر في التخلف عن الإيمان بعد هذا البيان.
[6.127]
قوله تعالى: { لهم دار السلم عند ربهم }؛ قال ابن عباس: (الله السلام، وداره الجنة). كأنه قيل لهم: جنة الله. وقال الفراء: (معناه: لهم دار السلام الدائمة من كل آفة وبلية). وقوله تعالى: { عند ربهم } أي في الآخرة. وقيل: معناه: مقيمون عند ربهم؛ { وهو وليهم }؛ أي يتولى أمرهم بنصرهم في الدنيا وإكرامهم في الآخرة، { بما كانوا يعملون }؛ من الطاعة.
[6.128]
قوله تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا يمعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } معناه: يوم نحشر الخلائق كلهم إلى الجزاء، يقول: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ممن أضللتموهم؛ أي أضللتم كثيرا من الإنس وكثير متبعوكم منهم؛ { وقال أوليآؤهم }؛ أي قرناء الجن؛ { من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض }.
أما استمتاع الإنس بالجن فما روى الحسن: (أن العرب كانوا إذا سافروا فنزلوا واديا؛ خافوا على أنفسهم فقالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه؛ فيبيتون في جوار منهم، وكانوا يرون ذلك استجارة بالجن).
وأما استمتاع الجن بالإنس؛ فكان عظماء الجن يقولون: قد سدنا الإنس مع الجن؛ حتى أن الإنس يعوذون بنا، فيزدادون بنا، فيزدادون بذلك شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم. وذلك قوله تعالى:
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا
[الجن: 6].
قوله تعالى: { وبلغنآ أجلنا الذي أجلت لنا }؛ أي أدركنا وقتنا الذي وقت لنا. قيل: إن المراد به وقت البعث، وقيل: إن المراد وقت الموت. وفي هذا دليل على أنه لا يكون للمقتول أجلان بخلاف ما يقول بعض القوم: إن المقتول لو لم يقتل لكان يبقى حيا لا محالة. لأنه قد كان في هؤلاء مقتولون وقد أخبروا كلهم أنهم قد بلغوا أجلهم الذي أجله الله لهم.
قوله تعالى: { قال النار مثوكم }؛ أي قال الله تعالى: النار مقركم ومنزلكم؛ فإنكم قد أقررتم على أنفسكم باستحقاق العذاب ولزوم الحق عليكم، قوله تعالى: { خلدين فيهآ إلا ما شآء الله }؛ قال ابن عباس: (وكان ما شاء الله بقوله:
إن الله لا يغفر أن يشرك به
[النساء: 48]).
وقيل: معناه: { إلا ما شآء الله } ما بين البعث من القبر إلى وقت الفراغ من الحساب؛ فإنه لا يكون لهم عذاب في ذلك الوقت. وقيل: معناه: { إلا ما شآء الله } أن يعذبهم من صنوف العذاب. قوله تعالى: { إن ربك حكيم }؛ في عقابه؛ { عليم }؛ بقدر ما يستحقون من العذاب.
[6.129]
قوله عز وجل: { وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا بما كانوا يكسبون } أي مثل ما قصصنا عليك من تسليط الجن على الإنس؛ كذلك نسلط بعض المجرمين على بعض، ثم ينتقم منهما جميعا في الآخرة بالنار. وقال بعضهم: معناه: يتبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة. وقال بعضهم: يسلط بعضهم على بعض، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" من أعان ظالما سلطه الله عليه ".
[6.130]
قوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي }؛ أي يقول لهم يوم القيامة: يا معشر الجن والإنس؛ لماذا فعلتم ما فعلتم ألم يأتكم رسل منكم يقرأون عليكم القرآن، { وينذرونكم }؛ أي ويخوفونكم؛ { لقآء يومكم هذا }؛ وهو يوم القيامة.
قال ابن عباس: (كانت الرسل تبعث إلى الإنس؛ وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس). قال: (وهذا كقوله:
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان
[الرحمن: 22] يخرج من الملح منهما، وكذلك الرسل من الإنس).
وقوله تعالى: { قالوا شهدنا على أنفسنا }؛ يعني أنهم لا يجدون جوابا إلا الاعتراف بذنوبهم؛ ويقولون: أقررنا على أنفسنا، أنهم بلغوا الرسالة، وكفرنا بهم. يقول الله تعالى: { وغرتهم الحياة الدنيا }؛ أي بزهرتها ونعيمها، { وشهدوا على أنفسهم }؛ في الآخرة؛ { أنهم كانوا كافرين }؛ في الدنيا؛ أي أقروا.
[6.131]
قوله تعالى: { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غفلون } (ذلك) أي ذلك الأمر. وقيل: أراد الإشارة إلى إرسال الرسل. وقوله تعالى: { أن لم يكن ربك } أي معناه: لأجل أنه لم يكن ربك معذب أهل القرى { بظلم } أي بشركهم وذنوبهم { وأهلها غفلون } عن الأمر والنهي وتبليغ الرسل؛ أي لم يكن يهلكهم بذنوبهم قبل أن يأتيهم رسول يبين لهم. وينهاهم عما هم عليه من المعصية، فإن رجعوا وإلا عذبهم الله. وقيل: معناه: لا يهلكهم بظلم منه؛ ولا يعذبهم وهم غافلون لما كلفوا من غير إقامة الحجة بما يقبح ويحسن من غير تنبيه لهم من الرسل.
[6.132]
قوله تعالى: { ولكل درجت مما عملوا } ، أي لكل عامل من الفريقين مراتب في عمله، لأهل الخير درجات في الجنة بعضها فوق بعض، ولأهل الشرك درجات في النار بعضها أشد عذابا من بعض، { وما ربك بغفل عما يعملون }؛ أي لا يجري عليه السهو عن طاعة المطيعين ومعصية العاصين، فيجزي كل عامل بما عمل.
[6.133]
قوله تعالى: { وربك الغني ذو الرحمة }؛ أي هو الغني عن إيمان العباد وطاعتهم. والغني: الذي لا يحتاج إلى شيء؛ فيكون وجود كل شيء عنده وعدمه سواء. وقوله تعالى: { ذو الرحمة } بيان أنه تعالى مع كونه غنيا عن شكر العباد وطاعتهم ذو إنعام عليهم. والمعنى: وربك الغني عن خلقه ذو الرحمة بهم، { إن يشأ يذهبكم }؛ أي إن يشاء يهلكم يا أهل مكة؛ { ويستخلف من بعدكم } ويخلف من بعدكم؛ أي من بعد إهلاككم؛ { ما يشآء }؛ خلقا آخر أطوع لله منكم؛ { كمآ أنشأكم }؛ أي مثل ما ابتدأ خلقكم قرنا بعد قرن؛ { من ذرية }؛ أي من أولاد؛ { قوم آخرين }؛ هالكين.
[6.134]
وقوله تعالى: { إن ما توعدون لآت }؛ أي إن الذي تخافون من البعث والعذاب لكائن لا خلف فيه، { ومآ أنتم بمعجزين }؛ أي فائتين لستم تقدرون أن تعجزوا الله عن إدراككم.
[6.135]
قوله تعالى: { قل يقوم اعملوا على مكانتكم }؛ أي قل لهم يا محمد: اثبتوا على حالتكم وعلى عملكم القبيح الذي أنتم عليه وعلى منازلكم؛ { إني عامل }؛ في أمري على منزلتي، وهذا على سبيل الوعيد والتهديد، { فسوف تعلمون من تكون له عقبة الدار }؛ أي { فسوف تعلمون } أينا يكون له العاقبة المحمودة في الدنيا؛ وفي الآخرة، { إنه لا يفلح الظلمون }؛ أي لا يظفرون بمرادهم. وقرأ السلمي وعاصم (على مكاناتكم) على لفظ الجماعة. وقرأ مجاهد وأهل الكوفة إلا عاصما: (من يكون) بالياء؛ لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي.
[6.136]
وقوله عز وجل: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعم نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركآئنا }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا حرثوا حرثا؛ جعلوا لله خطا؛ وقالوا: ما دون هذا الخط لآلهتنا ينفق عليها وعلى خدام الأصنام، وما وراء هذا الخط لله يتصدق به على أهل الحاجة والمسكنة والسائلين.
وكانوا إذا أرسلوا الماء فيما سموه لله تعالى، فانفجر منه إلى الذي جعلوه لآلهتهم تركوه؛ وقالوا: هذا أحوج والله غني عنه، وإذا انفجر من الذي جعلوه لأصنامهم؛ ردوه وقالوا: ليس لآلهتنا بد من النفقة. وكانوا إذا هلك الذي لآلهتهم: وكثر الذي لله؛ أخذوا الذي لله وأنفقوه على الأصنام، وإذا هلك الذي لله؛ وكثر الذي للأصنام قالوا: لو شاء الله لأزكى الذي له).
ومعنى الآية: وجعل المشركون من أهل مكة لله ما خلق من الزرع والأنعام نصيبا. وللأصنام نصيبا فقالوا: هذا نصيب الله بقولهم، ولم يأمرهم الله تعالى بذلك، وهذا النصيب الآخر لآلهتنا. وفي الاية إضمار تقديره: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا. وقوله تعالى: { بزعمهم } قرأ السلمي والأعمش والكسائي بضم الراء، والباقون بفتحها، وهما لغتان.
وقوله تعالى: { فما كان لشركآئهم فلا يصل إلى الله }؛ أي ما كان من نصيب آلهتهم فلا يرجع إلى الذي جعلوه لله، { وما كان لله فهو يصل إلى شركآئهم }؛ أي يرجع إلى الذي جعلوه لشركائهم، { سآء ما يحكمون }؛ أي بئس ما يقضون؛ يوفون نصيب الأصنام وينقصون نصيب الرحمن، فبئس الحكم حكمهم في الإشراك وبالقسمة. وكانوا يفعلون بالأنعام الثمانية أزواج ونحوها كذلك.
[6.137]
قوله تعالى: { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولدهم شركآؤهم ليردوهم }؛ قال ابن عباس: (كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء كراهية للبنات، وكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبدالله. وكان لآلهتهم خدام يقومون عليهم الذين كانوا يزينون للمشركين قتل أولادهم.).
ومعنى الآية: وكما زين تحريم الحرث والأنعام؛ زين لكثير من المشركين دفن بناتهم أحياء كراهية لهن ومخافة الفقر، وقوله تعالى: { شركآؤهم } أي قرناؤهم وشياطينهم، وقيل: سدنة ألهتهم؛ يعني خدام أصنامهم.
قرأ بعضهم: (زين) على ما لم يسم فاعله، ورفع قوله: { قتل أولدهم شركآؤهم } يحمل على المعنى على الفاعل؛ كأنه قال: من زين لهم، ثم قال (شركاؤهم) على إضمار (زينه). وقرأ ابن عامر بضم الزاي، وقيل: بضم اللام (أولادهم) بالنصب و(شركائهم) بالكسر. ومعنى ذلك: على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: زين لكثير من المشركين قتل شركايهم أولادهم، فيكون معنى الشركاء الكفار القاتلون، المتقدمون منهم والباقون.
وقوله تعالى: { ليردوهم } أي ليهلكوهم. يجوز أن تكون هذه لام العاقبة، إن لم يكن غرضهم بذلك الأمر إهلاكهم، ويجوز أن تكون لام الغرض؛ لأنه قد كان فيهم معاندون وغير معاندين؛ فغلبت صفة المعاندين.
قوله تعالى: { وليلبسوا عليهم دينهم }؛ أي ليخلطوا ويشبهوا عليهم دينهم دين إسماعيل عليه السلام. قوله تعالى: { ولو شآء الله ما فعلوه }؛ أي لو شاء الله لمنعهم من دفن البنات أحياء، { فذرهم وما يفترون }؛ أي اتركهم وافتراءهم على الله أنه أمرهم بدفن بناتهم أحياء، فإن الله تعالى مع قدرته عليهم تركهم؛ فاتركهم أنت، فإن لهم موعدا يحاسبون فيه.
وقرىء: (قتل أولادهم شركائهم) كلاهما بالكسر، فتكون الشركاء من نعت الأولاد؛ لأن أولادهم شركاؤهم في أموالهم.
[6.138]
قوله عز وجل: { وقالوا هذه أنعم وحرث حجر لا يطعمهآ إلا من نشآء بزعمهم }؛ أي قالوا: هذه الأنعام والحرث التي جعلوا بعضها لله وبعضها للأوثان حجر؛ أي حرام لا يأكلها ولا يذوقها إلا من يأذن له في أكلها؛ وهم الرجال دون النساء، { بزعمهم } أي بقولهم .
وقوله تعالى: { وأنعم حرمت ظهورها }؛ هي البحيرة والسائبة والحام؛ حرموا الركوب عليها، وأما الوصيلة فإنها كانت من الغنم خاصة. قوله تعالى: { وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها }؛ أي وأنعام أخر كانوا يذبحونها للأصنام تقربا إليها؛ زعموا أن الله أمرهم بذلك.
قوله تعالى: { افترآء عليه }؛ أي على الله، نصب على معنى: { لا يذكرون اسم الله عليها } كذبا على الله أنه أمرهم بذلك. وقيل: نصب على المصدر؛ أي افتروا افتراء. وقوله تعالى: { سيجزيهم بما كانوا يفترون }؛ أي سيكافئهم بكذبهم وافترائهم على الله.
[6.139]
قوله تعالى: { وقالوا ما في بطون هذه الأنعم خالصة لذكورنا ومحرم على أزوجنا }؛ أي قال أهل الجاهلية: إن الأجنة التي في بطون هذه الأنعام - التي زعموا أنها لأوثانهم - إذا انفصلت عن الأمهات؛ فهي حلال لرجالنا منافعها وألبانها، ومحرم على نسائنا ما دامت تلك حية. وأما تأنيث ال (خالصة)؛ فعلى معنى: سألهم.
قال جماعة: ما في بطون هذه الأنعام أو الأنعام التي في بطون هذه الأنعام. وأما تذكير قوله: { ومحرم } فلأنه مردود على لفظ (ما). وقرأ الأعمش: (خالص لذكورنا) بغيرها، ورده إلى (ما). ومن نصب (خالصة) فعلى القطع؛ تقديره: ما في بطون هذه الأنعام لذكورنا خالصا. وقرأ ابن عباس: (خالصة) بالإضافة إلى الهاء.
قوله تعالى: { وإن يكن ميتة }؛ أي قالوا: وإن تكن أجنة هذه الأنعام ميتة؛ { فهم فيه شركآء }؛ الرجال النساء. قرأ أبو جعفر وابن عامر: (وإن تكن) بالتاء (ميتة) بالرفع على معنى وإن يقع. وقرأ ابن كثير كذلك إلا أنه بالياء، وقرأ أبو بكر التاء (تكن ميتة) بالنصب على معنى: وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ الباقون (يكن) بالياء والنصب، وردوه إلى ما يؤيد ذلك قوله: { فهم فيه شركآء } ولم يقل: فيها.
قوله تعالى: { سيجزيهم وصفهم }؛ أي سيجزيهم في الآخرة بوصفهم الذي وصفوا في هذه الأنعام، إلا أنه لما حذف الباء انتصب، ويجوز أن يكون معناه: سيجزيهم جزاء وصفهم، إلا أنه حذف الجزاء، وأجرى إعرابه على (وصفهم)، { إنه حكيم }؛ في مجازاتهم؛ { عليم }؛ بمقدار جزائهم. والمعنى: سيجزيهم على وصفهم الكذب على الله .
[6.140]
قوله عز وجل: { قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغير علم }؛ أي الذين قتلوا بناتهم أحياء جهلا منهم، { بغير علم } أي بلا بيان ولا حجة. نزلت في ربيعة ومضر الذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء مخافة السبي والفقر، إلا من كان من بني كنانة، فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك. وقرأ الحسن والسلمي وأهل مكة والشام: (قتلوا) بالتشديد على التكثير، وخفف الباقون.
قوله تعالى: { وحرموا ما رزقهم الله افترآء على الله }؛ أي حرموا على أنفسهم ما أعطاهم الله من الرزق ومن الأنعام والحرث، يعني: أن هؤلاء الكفار لجهلهم يقتلون البنات أحياء مخافة الفقر والإنفاق، ثم يجعلون طائفة من أموالهم للأوثان، ويحرمونها على إناث أولادهم.
وقوله: { افترآء على الله } أي يفترون ذلك افتراء على الله؛ بأن الله حرم هذه الأشياء. قوله تعالى: { قد ضلوا }؛ أي ضلوا في فعلهم هذا عن الهدى، { وما كانوا مهتدين }؛ من الضلالة.
[6.141]
قوله تعالى: { وهو الذي أنشأ جنت معروشت وغير معروشت }؛ أول هذه الآية راجع إلى ما قبلها، كأنه قال: افتراء على الله وهو الذي أنشأ جنات؛ أي هو الذي خلق بساتين معروشات؛ وهي الكروم رفع بعض أغصانها على بعض، { وغير معروشت } وهي الشجر والزرع وكل ما لا يرتفع بعضه على بعض، هكذا روي عن ابن عباس والحسن.
ويقال: معنى { معروشت } ما لا يرفع له حيطان، { وغير معروشت } ما لا يجعل له حائط، وقيل: { معروشت } ما انبسط على الأرض وأنبت مما يغرس مثل الكرم والقرع والبطيخ وشبهها، { وغير معروشت } ما قام على ساق فطال مثل النخل والزرع وسائر الأشجار. وقال الضحاك: { معروشت وغير معروشت } الكرم خاصة؛ منها ما غرس؛ ومنها ما لم يغرس). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: (أن ال { معروشت } ما نبته الناس، { وغير معروشت } ما أخذ من البراري والجبال من الثمار). يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه (مغروسات وغير مغروسات) بالغين والسين.
قوله تعالى: { والنخل والزرع مختلفا أكله }؛ معناه: وأنشأ النخل والزرع، وهذا تخصيص بعض ما دخل في عموم الأول؛ لكونهما أعم نفعا من جملة ما يكون في البساتين. وقوله تعالى: { مختلفا أكله } أي مختلفا جملة من الألوان كلها، ومختلف في الطعم من الحلو والحامض والمر؛ والجيد والرديء. ونصب { مختلفا } على الحال؛ أي أنشأه في حال اختلاف أكله. وقد يقال: ارتفع { أكله } بالابتداء { مختلفا } نعته، إلا أنه لما تقدم النعت على الاسم نصب، كما يقال: عندي طباخا غلام قال الشاعر:
الشر مستتر يلقاك عن غرض
والصالحات عليها مغلقا باب
قوله تعالى: { والزيتون والرمان }؛ أي وأنشأ شجر الزيتون والرمان، { متشبها وغير متشبه }؛ أي منها ما هو متشابه؛ ومنها ما هو غير متشابه. وقيل: { متشبها } بالنظر { وغير متشبه } في الطعم؛ نحو: كالرمانتين لونهما واحد؛ وطعمهما مختلف.
قوله تعالى: { كلوا من ثمره إذآ أثمر }؛ هذا أمر إباحة لا أمر إيجاب، والفائدة في قوله تعالى: { إذآ أثمر } إباحة الأكل من قبل إخراج الحق الذي وجب فيه شائعا للمساكين.
قوله تعالى: { وآتوا حقه يوم حصاده }؛ أي أعطوا حق الله تعالى يوم يحصد، أرادوا العشر فيما سقته السماء، ونصف العشر فيما سقي بغرب ودالية. قال ابن عباس والحسن وقال ابن عمر رضي الله عنه: ( { وآتوا حقه } ما يتطوع به الإنسان عند رفع الغلة والتصدق به).
قال مجاهد: (إذا حصدت فحضرك المساكين، فاطرح لهم منه، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه، فإذا عرفت كيله فأخرج زكاته). قال إبراهيم النخعي: (هذه الآية منسوخة بالعشر ونصف العشر). وفي قوله: { حصاده } قراءتان بكسر الحاء وفتحها.
قوله تعالى: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }؛ هذا خطاب للأئمة؛ أي لا تأخذوا فوق حقكم، وقيل: خطاب لأرباب الأموال لا يتصدقوا بالجميع؛ فلا تبقوا للعيال شيئا.
قال ابن عباس: (كانوا يتسرعون بالمعروف عند الحصاد، فيعطون المساكين والفقراء، فعمد ثابت بن قيس بن شماس من بينهم خاصة، فصرم خمسمائة نخلة وقسمها في موضع واحد، ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله ذلك وأنزل قوله تعالى: { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين }. أي لا تجاوزوا الحد فتحتاجوا إلى ما عند الناس.
وقال الأزهري: (الإسراف: هو الإنفاق في معصية الله تعالى ). وقال مجاهد: (لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقته في طاعة الله لم تكن سرفا، ولو أنفقت درهما أو دونه في معصية الله تعالى لكنت مسرفا).
قوله تعالى: { إنه لا يحب المسرفين }؛ ظاهر المعنى، فقيل: معنى (لا تسرفوا) لا تنقصوا عن العشر أو نصف العشر؛ فتمنعوا الصدقة وتأكلوا حق المساكين.
[6.142]
قوله عز وجل: { ومن الأنعم حمولة وفرشا }؛ الحمولة: كبار الإبل التي يمكن الحمل عليها، والفرش: صغارها التي لا يمكن الحمل عليها، سميت فرشا لاستوائها في الصغر والانحطاط كما سوي ما يفرش. وقيل: سميت فرشا؛ لقربها من الإبل، وتسمى أيضا الغنم: فرشا.
والمعنى: مما نشاء من الأنعام حمولة وفرشا. ويقال: أراد بالفرش ما يفرش من الثياب والبسط التي تعمل من الوبر. إلا أن القول الأول أقرب؛ لأن الله تعالى ذكر في الآية بعدها:
ثمنية أزوج
[الأنعام: 143]؛ أي أنشأ الله في الحمولة والفرش ثمانية أزواج.
قوله تعالى: { كلوا مما رزقكم الله }؛ إذن في الأكل من الحرث والأنعام، { ولا تتبعوا خطوت الشيطن }؛ في تحريم الحرث والأنعام؛ أي ولا تتبعوا طرق الشيطان، فإنه لا يدعوكم إلا إلى المعصية، { إنه لكم عدو مبين }؛ أي ظاهر العداوة، وقد بانت عداوته لأبيكم آدم عليه السلام.
[6.143]
قوله تعالى: { ثمنية أزوج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين }؛ معناه: وأنشأ لكم { ثمنية أزوج } أي أصناف، { من الضأن اثنين } ذكر وأنثى، يعني بالذكر زوجا وبالأنثى زوجا، يقال لكل من له قرين: زوج، كما قال تعالى:
اسكن أنت وزوجك الجنة
[الأعراف: 19].
قوله تعالى: { ومن المعز اثنين } أي ذكر وأنثى زوجين اثنين. والضأن: ذوات الإلية، وهو جمع ضائن، كما يقال: تاجر وتجر، وقيل: واحده ضائنة. والمعز: ذوات الأذناب القصار، وفيه قراءتان: تسكين العين؛ وفتحها.
قوله: { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أي قل لهم يا محمد: من أين جاء هذا التحريم الذي تذكرونه أيها الكفار في الولد السابع في الغنم أنه حرام على النساء؛ حرم الله الذكر من الضأن؛ والذكر من المعز؛ فحرم ولدهما لحرمة الإناث؟
فإن جاء هذا التحريم من قبل ذكورهما؛ فيجب أن تكون كل أنثى حرام عليكم، وإن كان من قبل اشتمال أرحام الأنثيين؛ فيجب أن يكون كل أولادهما من الذكر والأنثى حراما عليكم؛ لأن الأرحام تشتمل عليهما جميعا.
قوله تعالى: { نبئوني بعلم إن كنتم صدقين }؛ أي قل للكافرين خبروني وفسروا لي ما حرم عليكم ببيان حجة إن كنتم صادقين في مقالتكم: إن الله حرم الوصيلة ونحوها. وإنما قال: { إن كنتم صدقين } لأن الصدق لا يمكن إلا بعلم.
[6.144-145]
وقوله تعالى: { ومن الإبل اثنين }؛ أي وأنشأ من الإبل اثنين؛ ذكر وأنثى من جملة الثمانية الأزواج، { ومن البقر اثنين }؛ ذكر وأنثى، { قل ءآلذكرين حرم }؛ أي قل لهم يا محمد: إنكم تحرمون الولد من الجاموس والإبل والبقر على النساء، فمن أين جاء هذا التحريم؛ من قبل الذكور؛ { أم الأنثيين }؛ أي من قبل الإناث؟ { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } ، أي من الذي اشتملت عليه أرحام الأنثيين، { أم كنتم شهدآء إذ وصكم الله بهذا }؛ أي أم شاهدتم الله تعالى حرم هذه الأشياء التي تحرمونها وأمركم بتحريمها.
يعني إذا كنتم لا تقرون بنبي من الأنبياء؛ فمن أين علمتم تحريم الله؛ أبالقياس؟ لأن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يناظرهم، ويبين بالحجة فساد قولهم وبطلان اعتقادهم، فلما نزلت هذه الآية
" قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي الأحوص الجشمي ومالك بن عوف - وكان هو الذي يحرم لهم، وكانوا يرجعون إليه فيه - فسكت مالك وتحير في الجواب. فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لك يا مالك لا تتكلم؟ " فقال له مالك: بل تكلم أنت؛ أنا أسمع ".
فنزل قوله تعالى: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم }؛ هذا استفهام بمعنى التوبيخ والتعجب؛ معناه: أي أحد أعتى وأجرأ على الله ممن اختلق على الله كذبا { ليضل الناس بغير علم } أي ليصرف الناس عن دينه وحكمه بالجهل، { إن الله لا يهدي القوم الظلمين }؛ أي لا يهديهم إلى الحجة فيما افتروا على الله، ويقال: لا يهديهم إلى حجته وثوابه.
فلما نزلت هذه الآية قال مالك بن عوف: فيم هذا التحريم الذي حرمه آباؤنا من السائبة والوصيلة والحام والبحيرة؟ فأنزل الله عز وجل: { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به }؛ فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية، ثم قال: " يا مالك؛ أسلم " فقال: إني امرؤ من قومي فأخبرهم عنك. فأبى قومه؛ فقالوا: كيف رأيت؟ فقال: رأيت رجلا معلما. وذكر لهم؛ فقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
ومعنى الآية: قل لهم يا محمد: لا أجد في ما أوحي إلي من القرآن شيئا محرما على آكل يأكله إلا أن يكون ميتة لم يذك؛ وهي تموت حتف أنف. فمن قرأ { إلا أن يكون } بالياء فعلى معنى: إلا أن يكون المأكول ميتة. ومن قرأ بالتاء؛ فعلى معنى: إلا أن تكون تلك الأشياء ميتة. وقرأ علي رضي الله عنه: (يطعمه) بتشديد الطاء، فأدغم التاء في الطاء.
قوله تعالى: { أو دما مسفوحا } أي دما مصبوبا سائلا، فكانوا إذا ذبحوا أكلوا الدم كما يأكلون اللحم. وفي الآية دليل على أن الدم إذا لم يكن سائلا مثل الدم الذي يكون في عروق اللحم المذكى؛ فإنه لا يكون محرما؛ هكذا قال عكرمة وقتادة، وقال عمران بن حدير: (سألت أبا مجلز عما يتلطخ باللحم من الدم حتى يرى فيه حمرة الدم؛ قال: لا بأس به؛ إنما نهي عن الدم المسفوح وهو المهراق السائل، لكن يحرم لعينه). وقوله تعالى: { أو لحم خنزير فإنه رجس } فيه بيان أن لحم الخنزير لا يحرم لكونه ميتة، لكن يحرم لعينه.
وقوله تعالى: { أو فسقا أهل لغير الله به } عطف على قوله: { أو لحم خنزير } والمراد بالفسق: المذبوح للصنم؛ وهو الذي يذكر على ذبحه اسم غير الله. ومعنى: { أهل لغير الله به } أي رفع به؛ مأخوذ من الإهلال الذي هو رفع الصوت؛ ومنه إهلال المحرم في الحج، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه "
وأما الرجس؛ فمعناه: الحرام، وكل ما استقذرته فهو رجس، والرجس العذاب في غير هذا الموضع.
قوله عز وجل: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد }؛ أي من دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات؛ غير طالب التلذذ بتناوله، ولا متجاوز قدر المباح منه؛ { فإن ربك غفور رحيم }؛ إذ رخص لكم تناول هذه الأشياء عند الضرورة؛ أي أكل شيء من هذه المحرمات.
فإن قيل: لم قصر التحريم في هذه الآية على الأشياء المذكورة فيه؛ مع أنه تعالى قد حرم أشياء غيرها في أول سورة المائدة؟ قيل: لأن هذه الآية مكية؛ نزلت في جواب الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم البحيرة ونحوها، فكانت هذه الأربع المحرمات المذكورات في هذه الآية محرمة يوم المجادلة، ثم نزلت بعد هذه الآية تحريم غيرها بقوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير
[المائدة: 3] في سورة المائدة.
وهذه الآية لا تمنع شيئا آخر لخبر الآحاد، والقياس على المحرمات المنصوصة لاتفاق الفقهاء على تحريم أشياء غير مذكورة في هذه الآية كالخمر ولحم القرد والنجاسات. وأما الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه:
" نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع؛ وكل ذي مخلب من الطير "
فهو بمنزلة آية من كتاب الله تعالى؛ لقوله تعالى:
ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
[الحشر: 7].
[6.146-147]
قوله عز وجل: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر }؛ في هذه الآية بيان ما حرم الله على اليهود. قال ابن عباس: (أراد بقوله: { كل ذي ظفر } الإبل والنعام والبط والإوز وما أشبه ذلك مما لا يكون منفرج الأصابع). وقيل: أراد به ما يصيد بالظفر مثل النسور والبراري وما يشاكل ذلك من السباع والكلاب. وقال ابن زيد: (هي الإبل فقط). قرأ الحسن: (كل ذي ظفر) بكسر الظاء وإسكان الفاء. وقرأ أبو السمال: (ظفر) بكسرهما جميعا؛ وهي لغة.
وقوله تعالى: { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما }؛ من الشحم وهو السمن، { أو }؛ ما حملت؛ { الحوايآ }؛ وهي المباعر والأمعاء التي عليها الشحم من داخلها؛ واحدتها حاوية وحاوياء وحوية؛ سميت بذلك لأنها تحوي ما في البطن. وقوله: { أو ما اختلط بعظم }؛ أراد به ما يكون من الشحم المخلط من اللحم على عظم الجنب. وأما الإلية؛ فقد كانت داخلة في التحريم.
قوله تعالى: { ذلك جزينهم ببغيهم }؛ أي ذلك التحريم عاقبناهم بظلمهم، { وإنا لصدقون }؛ فيما نقول إن هذه الأشياء كانت حلالا في الأصل؛ فحرمناها على اليهود بمعصيتهم ومخالفتهم لأنبيائهم، وكانت اليهود مع هذا التحريم يجملون الشحوم فيبيعونها؛ فيستحلون ثمنها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
" لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلو ثمنها؛ إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم بيعه وأكل ثمنه ".
فلما نزلت هذه الآية؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" هذا ما أوحى الله تعالى إلي أنه محرم منه على المسلمين، ومنه على اليهود ".
فقال المشركون: إنك لم تصب فيما قلت، فقال الله عز وجل: { فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة }؛ أي إن أنكروا ولم يقبلوا قولك؛ فقل: { ربكم ذو رحمة واسعة } بالإمهال بأن لن يعاجلكم بالعقوبة؛ { ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين }؛ أي لا يرد عذابه عن المشركين واليهود إذا جاء وقت العذاب.
[6.148]
قوله تعالى: { سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا }؛ أي آباؤنا من قبلنا الذين استننا بهم، { ولا حرمنا }؛ على أنفسنا؛ { من شيء }؛ من الحرث والأنعام، ولكنه شاء لنا الشرك والتحريم.
قال الله تعالى: { كذلك كذب }؛ أي قال؛ { الذين من قبلهم }؛ أي هكذا كذب الذين من قبلهم رسلهم كما كذب قومك، { حتى ذاقوا بأسنا }؛ أي عذابنا. ومن قرأ (كذلك كذب الذين) بالتخفيف؛ فمعناه: كما كذب قومك على الله؛ كذلك كذب من قبلهم من الأمم الخالية على الله؛ حتى ذاقوا عذابنا.
قوله تعالى: { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ }؛ أي قل لهم يا محمد: هل عندكم من علم من بيان وحجة غير ما في القرآن؛ فبينوه لنا، { إن تتبعون إلا الظن }؛ يعني ظنهم في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. قوله تعالى: { وإن أنتم إلا تخرصون }؛ أي ما أنتم إلا تكذبون على الله.
قال المشركون: لو شاء الله ما أشركنا، على وجه الاستهزاء؛ فكذبهم الله في ذلك، وإن كانت المشيئة حقا كما في سورة (المنافقون):
إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
[المنافقون: 1] فكذبهم الله في قولهم: إنك لرسول الله؛ وإن كان ذلك حقا؛ لأنهم قالوا على وجه الاستهزاء.
قوله تعالى: { ولا آباؤنا } عطف على المضمر المتصل؛ معناه: ما أشركنا نحن ولا آباؤنا. ثم اعلم أن بعضهم قال: إن مشيئة المعاصي إذا أضيفت إلى الله تعالى كان معناها الخذلان مجازاة لهم على سوء أفعالهم، وإصرارهم على المعصية.
[6.149]
قوله عز وجل: { قل فلله الحجة البالغة فلو شآء لهداكم أجمعين }؛ أي إن الله قد أبلغكم حجته؛ وهو ما أحله من الثمانية أزواج؛ فلو شاء لوفقكم لدينه وأكرمكم بمعرفته. وقال الحسن: (معناه: قد قامت عليكم الحجة وجاءكم الرسول؛ فلو شاء لوفقكم وأجبركم على الإيمان). و { الحجة البالغة }: التامة الكافية.
[6.150]
قوله تعالى: { قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا }؛ أي قل لهم يا محمد: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذه الأشياء، { فإن شهدوا }؛ بأن الله حرمها، { فلا تشهد } ، أنت يا محمد، { معهم }؛ لأنهم لا يشهدون إلا الباطل.
قوله تعالى: { ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة }؛ أي لا تعمل بهوى الذين جحدوا بك وبالقرآن؛ ولا بهوى الذين لا يصدقون بالبعث. وإنما فصل بين الفريقين؛ لأن من الكفار من يؤمن بالبعث كأهل الكتاب؛ ومنهم من لا يؤمن بذلك كعبدة الأوثان. قوله تعالى: { وهم بربهم يعدلون }؛ أي يسوون بالله تعالى في الطاعة.
[6.151]
قوله عز وجل: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم }؛ أي قل يا محمد لمالك بن عوف الخشمي ولأصحابه: هلموا واجتمعوا أقرأ عليكم الذي حرم ربكم عليكم.
وقوله تعالى: { ألا تشركوا به شيئا }؛ أي أوصيكم وآمركم أن لا تشركوا. ويقال : أتلوا عليكم أن لا تشركوا كما في قوله:
ما منعك ألا تسجد
[الأعراف: 12]. وقوله تعالى: { وبالوالدين إحسانا }؛ أي وأوصيكم بالوالدين؛ أي بالإحسان إلى الوالدين برا بهما وعطفا عليهما، { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق }؛ أي لا تدفنوا بناتكم أحياء مخافة الفقر.
والإملاق في اللغة: نفاد الزاد والنفقة، يقال: أملق الرجل؛ إذا نفد زاده ونفقته ومنه الملق؛ وهو بذل المجهود في تحصيل المراد. قوله تعالى: { نحن نرزقكم وإياهم }؛ أي علينا رزقكم ورزقهم جميعا.
قوله تعالى: { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }؛ أي لا تقربوا الزنا مسرين ولا معلنين، { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } أي إلا بإحدى ثلاث خلال: زنا بعد إحصان؛ وكفر بعد إيمان؛ وقتل نفس بغير حق.
وروي
" أن عثمان رضي الله عنه حين أرادوا قتله أشرف عليهم وقال: " علام تقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصان؛ فعليه الرجم، ورجل قتل عمدا، أو ارتد بعد إسلامه ". فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام؛ ولا قتلت أحدا فأفتدي نفسي منه؛ ولا ارتددت منذ أسلمت؛ إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
قوله تعالى: { ذلكم وصاكم به }؛ أي هذا الذي ذكر لكم أمركم الله في كتابه لكي تفعلوا ما أمركم به، { لعلكم تعقلون }.
[6.152]
قوله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده }؛ أي لا تقربوا مال اليتيم الذي لا أب له إلا لحفظه وتمييزه وإصلاحه، { حتى يبلغ أشده }. قال الشعبي: (هو بلوغ الحلم؛ حيث تكتب الحسنات وتكتب عليه السيئات).
وقال السدي: (الأشد: أن يبلغ ثلاثين سنة). وقال الكلبي: (ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة). وجعل أبو حنيفة غاية الأشد: (خمسا وعشرين سنة؛ فإذا بلغها دفع إليه ماله ما لم يكن معتوها).
قوله تعالى: { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط }؛ أي أتموا الكيل والوزن بالعدل عند البيع والشراء، { لا نكلف نفسا إلا وسعها }؛ أي إلا طاقتها وجهدها. وهذه الآية أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام، وإن كل مجتهد مصيب؛ فإذا اجتهد الإنسان في الكيل والوزن، ووقعت فيه زيادة يسيرة أو نقصان يسير لم يؤاخذه الله به إذا اجتهد جهده، وإنه اعتاد الكيل على ذلك فزاد أو نقص أثبت التراجع إذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين.
قوله تعالى: { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى }؛ أي إذا قلتم فاعدلوا في المقالة. قيل: معناه: قولوا الحق إذا شهدتم وحكمتم ولو كان المشهود عليه أولي قرابة من الشاهد.
قوله تعالى: { وبعهد الله أوفوا }؛ أي أتموا فرائض الله التي أمركم بها، كما قال تعالى:
ألم أعهد إليكم يبني ءادم
[يس: 60]. ويقال: أراد بالعهد في هذه الآية: النذر واليمين، كما قال تعالى:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم
[النحل: 91]. قوله تعالى: { ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون }؛ أي في هذا الذي ذكره الله لكم وأمركم الله به في الكتاب لكي تتعظوا فتمتنعوا عن المحرمات.
[6.153]
قوله عز وجل: { وأن هذا صراطي مستقيما }؛ في الجنة. وقوله تعالى: { فاتبعوه }؛ أي اعتقدوا حلال هذا الدين وحرامه ومأموره ومنهيه، { ولا تتبعوا السبل }؛ أي ولا تتبعوا اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر؛ فإنها سبيل الشيطان وهي طريق النار.
قوله تعالى: { فتفرق بكم عن سبيله }؛ أي فيضلكم ذلك السبل الذي تتبعونه بهواكم عن دين الله الذي هو الإسلام، { ذلكم وصاكم به }؛ أي هذا الذي أمركم الله به في القرآن، { لعلكم تتقون }؛ أي لتتقوا السبل المختلفة وتستقيموا على الإيمان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هذه الثلاث آيات من المحكمات؛ وهن إمام في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان؛ لم ينسخهن شيء في جميع الكتب؛ وهي محرمات على بني آدم كلهم؛ وهن أم الكتاب؛ من عمل بهن دخل الجنة؛ ومن تركهن دخل النار). قال كعب الأحبار: (والذي نفس كعب بيده؛ إن هذه لأول شيء في التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم. إلى آخر الآيات الثلاث).
[6.154]
قوله تعالى: { ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن }؛ معناه: بل آتينا موسى الكتاب. وقيل: معنى (ثم) معنى العطف كأنه قال تعالى: أتل ما حرم ربكم عليكم ثم أتل ما آتاه الله موسى من التوراة. قوله: { تماما على الذي أحسن } أي تماما للأحسن على المحسنين النبي موسى عليه السلام أحدهم.
ويقال: معناه: تماما على ما أحسن موسى عليه السلام. كان موسى عليه السلام محسنا في معرفة العلم وكتب المتقدمين، فأعطيناه التوراة زيادة على ذلك. و(تماما) نصب على القطع. وقيل: على التفسير. وقرأ ابن عمر: (على الذي أحسن) بالرفع على معنى: على الذي هو أحسن.
قوله تعالى: { وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقآء ربهم يؤمنون }؛ أي تتميما بالإحسان إليهم؛ وتبيينا لكل شيء من الحلال والحرام؛ والهدى من الضلالة؛ والنجاة من العذاب لمن آمن به وعمل بما فيه؛ لعلهم بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال يقرون ويصدقون.
[6.155]
قوله تعالى: { وهذا كتب أنزلنه مبارك }؛ أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه فيه بركة وخير كثير لمن آمن به. ومعنى البركة: ثبوت الخير وديمومته، { فاتبعوه }؛ أي اقتدوا به في أوامره ونواهيه، { واتقوا } ، مخالفته وسخطه، { لعلكم ترحمون }؛ لتكونوا على رجاء الرحمة.
[6.156]
قوله تعالى: { أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا }؛ أي كراهة أن يقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا؛ أراد به التوراة لليهود؛ والإنجيل للنصارى، { وإن كنا عن دراستهم لغافلين }؛ أي وقد كنا عن قراءة كتبهم التوراة والإنجيل لغافلين عما فيه. وقيل: معناه: وما كنا عن قراءة كتبهم التوراة والإنجيل إلا غافلين عما فيهما.
[6.157]
قوله تعالى: { أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا الكتاب لكنآ أهدى منهم }؛ أي وكراهة أن يقولوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب كما أنزل على اليهود والنصارى، لكنا أسرع إجابة منهم. وذلك: أن أهل مكة كانوا يقولون: قاتل الله اليهود؛ كيف كذبوا على أنبيائهم، والله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم.
قال الله تعالى: { فقد جآءكم بينة من ربكم }؛ أي القرآن بيانا ودلالة من ربكم، { وهدى }؛ من الضلالة؛ { ورحمة }؛ لمن آمن به واتبعه ، رحم الله بإنزاله عباده.
قوله تعالى: { فمن أظلم ممن كذب بآيات الله }؛ أي لا أجد أعتى ولا أجرأ على الله ممن كذب بآيات الله، { وصدف عنها }؛ أي أعرض عنها، { سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون }؛ أي سنعاقب الذين يعرضون عن آياتنا بأقبح العذاب وأشده بإعراضهم وتكذيبهم.
[6.158]
قوله عز وجل: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة }؛ أي ما ينظر أهل مكة بعد نزول الآيات وقيام الحجج عليهم إلا إتيان ملك الموت وأعوانه لقبض أرواحهم؛ أي لم يبق إلا هذا. قوله: { أو يأتي ربك }؛ معناه: أو يأتي أمر ربك بإهلاكهم والانتقام منهم؛ إما بعقاب عاجل أو بالقيامة. وقوله: { أو يأتي بعض ءايات ربك }؛ يعني طلوع الشمس من مغربها.
قال الحسن: (أو يأتي بعض آيات ربك الحاجة من التوبة)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها؛ ودابة الأرض؛ وخروج الدجال؛ والدخان؛ وخويصة أحدكم - يعني موته -، وأمر العامة - يعني القيامة ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" باب التوبة مفتوح من قبل المغرب مسيرة أربعين سنة، وملك قائم على ذلك الباب يدعو الناس إلى التوبة، فإذا أراد الله أن تطلع الشمس من مغربها؛ طلعت من ذلك الباب سوداء لا نور لها؛ فتوسطت السماء ثم رجعت، فيغلق الباب وترد التوبة، ثم ترجع إلى شرقها لتطلع بعد ذلك مائة وعشرين سنة، إلا أنها سوداء تمر مرا ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا غربت الشمس؛ رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة، وتحبس تحت العرش، فيستأذن من أين تطلع؛ أمن مطلعها أم من مغربها، وكذا القمر، فلا يزالا كذلك حتى يأتي الله بالوقت الذي وقته لتوبة عباده.
وتكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد، ويكثر المنكر فلا ينهى عنه أحد، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس تحت العرش، فإذا مضى مقدار ليلة سجدت، واستأذنت ربها من أين تطلع، فلم يجئ لها جواب حتى يوافقها القمر، فيسجد معها؛ فلا يعرف مقدار تلك الليلة إلا المتهجدون في الأرض؛ وهم يومئذ عصابة قليلة في هوان من الناس.
فينام أحدهم تلك الليلة مثل ما ينام قبلها من الليالي، ثم يقوم فيتهجد ورده؛ فلا يصبح؛ فينكر ذلك، فيخرج وينظر إلى السماء؛ فإذا هي بالليل مكانها والنجوم مستديرة، فينكر ذلك ويظن فيه الظنون، فيقول: خفت قراءتي؛ أو قصرت صلاتي؛ أم قمت قبل حين؟!
ثم يقوم فيعود إلى مصلاه، فيصلي نحو صلاته في الليلة الثانية، ثم ينظر؛ فلا يرى الصبح، فيخرج فإذا هو بالليل كما هو، فيخالطه الخوف، ثم يعود وجلا خائفا إلى مصلاه، فيصلي مثل ورده كل ليلة، ثم ينظر فلا يرى الصبح؛ فيشتد به الخوف.
فيجتمع المتهجدون في كل ليلة من تلك الليالي في مساجدهم، ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء والتضرع. فيرسل الله تعالى جبريل عليه السلام إلى الشمس والقمر فيقول لهما: إن الله يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه، فإنه لا ضوء لكما عندنا ولا نور، فيبكيان عند ذلك وجلا من الله بكاء يسمعه أهل السماوات السبع وأهل سرادقات العرش، ثم يبكي من فيهما من الخلائق من خوف الموت والقيامة.
فبينما المتهجدون يبكون ويتضرعون والغافلون في غفلاتهم؛ إذا بالشمس والقمر قد طلعتا من المغرب أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر كصفتهما في كسوفهما، فذلك قوله تعالى: { وجمع الشمس والقمر } ، فيرتفعان كذلك مثل البعيرين ينازع كل واحد منهما استباقا، فيتصارخ أهل الدنيا حينئذ ويبكون.
فأما الصالحون فينفعهم بكاؤهم، ويكتب لهم عبادة، وأما الفاسقون فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ، ويكتب ذلك عليهم حسرة وندامة. فإذا بلغ الشمس والقمر سرة السماء ومنتصفها، جاء جبريل فأخذ بقرونهما فردهما إلى المغرب؛ فيغربان في باب التوبة ".
فقال عمر: بأبي وأمي أنت يا رسول الله؛ ما باب التوبة؟ قال: " يا عمر؛ خلق الله بابا للتوبة خلف المغرب؛ له مصراعان من ذهب؛ ما بين المصراع إلى المصراع أربعون سنة للراكب، فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغربهما، فإذا غربا في ذلك الباب رد المصراعان والتأم ما بينهما، فيصير كأن لم يكن بينهما صدع. فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل للعبد توبة بعد ذلك، ولم ينفعه حسنة يعملها إلا من كان قبل ذلك محسنا، فإنه يجري عليه ما كان يجري قبل ذلك اليوم ".
فذلك قوله تعالى: { يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت في إيمنها خيرا } ، قال السدي: (لا ينفع أحدا فعل الإيمان ولا فعل الخير في تلك الحالة، فإنما ينفع فعل هذا قبل تلك الحال).
وقيل: معنى (خيرا) إخلاصا؛ أي إذا لم تكن النفس مخلصة قبل مجيء الآيات؛ لا ينفعها الإخلاص بعد مجيء الآيات. { قل انتظروا إنا منتظرون } ،
" فقال أبي بن كعب: يا رسول الله؛ وكيف بالشمس والقمر بعد ذلك؟ وكيف بالناس والدنيا؟ فقال: " يا أبي؛ إن الشمس والقمر يكبتان الضوء بعد ذلك، ثم يطلعان ويغربان كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان. فإن الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية، يلحون على الدنيا حتى تجري إليها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار، ويبنوا فيها البنيان " ".
فقال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب:
" كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: " ما تتذاكرون؟ " قلنا: الساعة يا رسول الله، قال: " إنها لا تقوم حتى يخرج الدجال؛ ودابة الأرض؛ ويأجوج ومأجوج؛ ونار تخرج من قعر عدن، ونزول عيسى؛ وطلوع الشمس من مغربها " ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فإذا طلعت ورآها الناس؛ آمنوا جميعا، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا "
[6.159]
قوله عز وجل: { إن الذين فرقوا دينهم }؛ قرأ حمزة والكسائي: (فارقوا) بالألف؛ أي خرجوا من دينهم وتركوه؛ وهي قراءة علي رضي الله عنه. وقرأ الباقون (فرقوا) بالتشديد بغير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب؛ أي جعلوا دين الله فرقا يتهود قوم، ويتنصر قوم، يدل عليه قوله تعالى: { وكانوا شيعا } أي فرقا مختلفة.
وقال مجاهد: (أراد بهم اليهود) فإنهم كانوا يمالئون المشركين على المسلمين لشدة عداوتهم. وقال قتادة: (هم اليهود والنصارى؛ فإن بعضهم يكفر بعضا). وعن أبي هريرة أنه قال: (هم أهل البدع والضلالة من هذه الأمة، فإن بعضهم يكفر بعضا بالجهالة).
قوله عز وجل: { وكانوا شيعا }؛ أي فرقا مختلفة، والشيع: جمع الشيعة؛ وهي الفرقة التي يتبع بعضها بعضا؛ يقال: شايعه على الأمر؛ إذا اتبعه، وقيل: أصل الشيع الظهور؛ يقال: شاع الحديث يشيع، إذا ظهر.
قوله تعالى: { لست منهم في شيء }؛ أي لست من مذاهبهم الباطلة في شيء؛ أي أنت بريء من جميع ذلك، { إنمآ أمرهم إلى الله }؛ أي مصيرهم ومنقلبهم إلى الله، { ثم ينبئهم }؛ ثم يجزيهم في الآخرة، { بما كانوا يفعلون }؛ أي بما كانوا يعملون في الدنيا، فيندم المبطل، ويفرح المحق.
[6.160]
قوله عز وجل: { من جآء بالحسنة فله عشر أمثالها }؛ أي من جاء بخصلة من الطاعات فله عشر حسنات، { ومن جآء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها }؛ أي من جاء بخصلة من المعصية فلا يجزى إلا مثلها، { وهم لا يظلمون }؛ بالزيادة على مقدار ما يستحقون من العقاب، وإنما قال ذلك لأن الفضل بالنعم جائز، والابتداء بالعقاب لا يجوز. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير ويعقوب: (فله عشر) بالتنوين (أمثالها) بالرفع على معنى: فله حسنات عشر أمثالها.
وقد تكلم أهل العلم بالحسنات العشر التي وعد الله في هذه الآية؛ فقال بعضهم: المراد بها التحديد بالعشرة. وقال بعضهم: المراد بها التضعيف دون التحديد بالعشرة؛ كما يقول القائل: لإن أسديت إلي معروفا لأكافئنك بعشرة أمثاله.
ثم اختلفوا؛ فقال بعضهم: هو كله بفضل وثواب غير ذلك؛ كأنه قال تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر حسنات من النعم والسرورة زيادة على ثواب حسنته. قالوا: ولا يجوز أن تساوى منزلة التفضيل بمنزلة الثواب؛ لأن الثواب لا بد أن يقارنه التعظيم والإجلال.
وقال بعضهم: هذه الحسنات العشر تفضل من الله تعالى؛ قالوا: ويجوز أن يتفضل على من لا يعمل مثل ثواب العامل ابتذالا منه؛ وتفضل في فعله على من لا يستحق عليه شيء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه
" إذا حسن إسلام أحدكم؛ فكل حسنة يعملها يكتب له عشر أمثالها؛ إلى سبعمائة ضعف؛ إلى ما شاء الله. وكل سيئة يعملها؛ يكتب له مثلها إلى أن يلقى الله تعالى "
وعن خريم بن فاتك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الأعمال ستة: موجبتان؛ ومثل بمثل؛ وحسنة بحسنة؛ وحسنة بعشر؛ وحسنة بسبعمائة. فأما الموجبتان؛ فهو من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات وهو مشرك بالله دخل النار. وأما مثل بمثل؛ فمن عمل سيئة؛ فجزاء سيئة بمثلها. وأما حسنة بحسنة؛ فمن هم بحسنة حتى يشعر بها نفسه ويعلمها الله من قلبه؛ كتب له حسنة. وأما حسنة بعشر؛ فمن عمل حسنة فله عشر أمثالها. وأما حسنة بسبعمائة؛ فالنفقة في سبيل الله "
[6.161]
قوله عز وجل: { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم }؛ أي قل لهم يا محمد: إنني وفقني ربي وأرشدني إلى دين الحق الذي أدعو الخلق إليه. قوله تعالى: { دينا قيما }؛ أي دينا هو غاية في الاستقامة.
قرأ أهل الكوفة والشام: (قيما) بكسر القاف وفتح الياء مخففا؛ فمعناه: المصدر؛ كالصغر والكبر، ولم يقل: قوما؛ لأنه من قولك: قام يقوم قياما وقيما. وقرأ الباقون بالتشديد. وتصديق التشديد:
ذلك الدين القيم
[التوبة: 36]
وذلك دين القيمة
[البينة: 5]. والقيم: المستقيم. واختلف النحاة في نصبه؛ فقال الأخفش: (هداني دينا قيما). وقيل: عرفني دينا. وقيل: أعني دينا. وقيل: انتصب على الإغراء؛ أي التزموا دينا واتبعوا دينا.
قوله تعالى: { ملة إبراهيم حنيفا }؛ أي دين إبراهيم؛ وهو بدل من قوله (دينا). وقوله (حنيفا) أي مائلا عن الشرك وجميع الأديان الباطلة ميلا لا رجوع فيه، وهو نصب على الحال؛ كأنه قال: عرفني دين إبراهيم في حال حنيفيته. وقوله تعالى: { وما كان من المشركين } ، أي ما كان إبراهيم عليه السلام على دين المشركين. وإنما أضاف هذا الدين إلى إبراهيم؛ لأن إبراهيم كان معظما في عيون العرب ، وفي قلوب سائر أهل الأديان؛ إذ أهل كل دين يزعمون أنهم يبجلون دين إبراهيم عليه السلام.
[6.162-163]
قوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين }؛ أي قل لهم يا محمد: إن صلاتي بعد الصلوات الخمس المفروضة، { ونسكي } أي طاعتي، وأصل النسك: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، ومنه قولهم للعابد: ناسك. وقال ابن جبير: (معناه: { ونسكي } في الحج والعمرة لله رب العالمين). ويقال: أراد بالصلاة صلاة العيد، وبالنسك الأضحية.
وقوله تعالى: { ومحياي ومماتي } أي وحياتي وموتي لله رب الخلائق كلهم. وإنما أضاف المحيا والممات إلى الله وإن لم يكن ذلك مما يتقرب به إليه؛ لأن الغرض بالآية التبرئ إلى الله تعالى من كل حول وقوة والإقرار له بالعبودية. وقيل: المراد بذلك أن الله تعالى هو المختص بأن يحييه ويميته؛ لا شريك له في ذلك.
قوله تعالى: { لا شريك له وبذلك أمرت }؛ أي أمرني بذلك، { وأنا أول المسلمين }؛ أي أول من استقام على الإيمان من أهل هذا الزمان. قرأ أهل المدينة: (ومحياي) بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها كيلا يجتمع ساكنان. وقرأ السلمي: (ونسكي) بإسكان السين.
وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
" أنه قرب كبشا أملح أقرن؛ فقال: " لا إله إلا الله؛ والله أكبر؛ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له " الآية، ثم ذبح فقال: " شعره وصوفه فداء لشعري من النار، وجلده فداء لجلدي من النار، وعروقه فداء لعروقي من النار " فقالوا: يا رسول الله؛ هنيئا مريئا؛ هذا لك خاصة؟ فقال: " لا؛ بل لأمتي عامة إلى أن تقوم الساعة، أخبرني بذلك جبريل عليه السلام عن ربي عز وجل " ".
[6.164]
قوله عز وجل: { قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء }؛ أي قل يا محمد: أغير الله أطلب إلها لي ولكم { وهو رب كل شيء } أي هو مالكي ومالككم ومالك كل شيء؛ فكيف أطلب النفع من مربوب مثلي ومثلكم، وأدع سؤال ربي يملكني ويملككم؛ فهل يجوز هذا؟ وهل يحسن هذا ؟ لا بد أن يكون جوابه: لا.
قوله تعالى: { ولا تكسب كل نفس إلا عليها }؛ أي لا تعمل كل نفس طاعة ولا معصية إلا عليها. قال أهل الإشارة: ولا تكسب كل نفس من خير أو شر إلا عليها، أما الشر فهو مأخوذ به، وأما الخير فهو مطلوب منه صحة قصده. وخلوه من الرياء والعجب والافتخار به.
قوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى }؛ أي ما تحمل حاملة ثقل أخرى، والمعنى: لا يحمل أحدا ذنب غيره، بل كل نفس مأخوذة بجرمها وعقوبة إثمها. والوزر في اللغة: هو الثقل. قوله تعالى: { ثم إلى ربكم مرجعكم } ، أي مصيركم ومنقلبكم، { فينبئكم }؛ أي فيجزيكم؛ { بما كنتم فيه تختلفون }؛ في دار الدنيا.
[6.165]
قوله تعالى: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض }؛ أي جعلكم يا أمة محمد خلفا في الأرض، والخلائف: جمع الخليفة، وكل قرن خليفة للقرن الذين كانوا قبلهم في الأرض. وقوله تعالى: { ورفع بعضكم فوق بعض درجات }؛ أي فضل بعضكم في المال والمعاش والجاه؛ تقديره: إلى درجات، ثم حذف (إلى) وانتصب (درجات). ويقال: إن الدرجات مفعول على تقدير: ورفعكم درجات، كما يقال: كسوت فلانا ثوبا.
قوله تعالى: { ليبلوكم في مآ آتاكم }؛ أي ليختبركم فيما أعطاكم؛ يختبر الغني بالفقير؛ والفقير بالغني، فيظهر للناس شكر الشاكرين وصبر الصابرين. قوله تعالى: { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم }؛ أي إذا عاقب فإنه سريع العقاب مع أنه موصوف بالحلم والإمهال؛ لأن كل ما هو آت قريب. وقيل: أراد بقوله: { سريع العقاب } سريع الحساب. وقوله تعالى: { وإنه لغفور } أي غفور لمن تاب من الذنوب، { رحيم } بمن مات على التوبة. وقال عطاء: (سريع العقاب لأعدائه، غفور رحيم لأوليائه). والله أعلم.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-2]
قوله عز وجل: { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين }؛ قال ابن عباس: في قوله: { المص }: (معناه: أنا الله أعلم وأفصل). وقيل: اللام افتتاح اسمه: لطيف؛ والميم افتتاح اسمه: مجيد ومالك؛ والصاد افتتاح اسمه: صمد وصادق الوعد وصانع المصنوعات.
وقيل: هي حرف اسم الله الأعظم . وقيل: هي حروف تحوي معان كثيرة. وموضعه رفع بالابتداء، و { كتاب } خبره؛ كأنه قال: المص حروف كتاب أنزل إليك. وقيل: { كتاب } خبر مبتدأ مضمر؛ أي هذا كتاب. وقيل: رفع على التقديم والتأخير؛ يعني: أنزل إليك كتاب؛ وهو القرآن.
قوله: { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي فلا يقع في نفسك شك منه؛ خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم وعنى به الخلق كلهم؛ أي لا ترتابوا وتشكوا. ويقال: الحرج: الضيق؛ أي لا يضيق صدرك من تأدية ما أرسلت به، ولا تخافن من إبلاغ الرسالة، فإنك في أمان الله؛ والله يعصمك من الناس. قوله تعالى: { لتنذر } أي أنزل إليك لتخوف { به } بالقرآن أهل مكة. { وذكرى للمؤمنين } أي وليكون عظة لمن اتبعك.
[7.3]
قوله تعالى: { اتبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء }؛ أي اعملوا بما أنزل إليكم من ربكم. وحقيقة اتباع القرآن تصرف الناس تصريف القرآن لهم وتدبرهم بتدبيره. قوله تعالى: { ولا تتبعوا من دونه أوليآء } أي لا تتخذوا من دونه أوثانا، ولا تتولوا أحدا إلا لوجهه. قوله تعالى: { قليلا ما تذكرون } ، أي قليلا ما تتعظون.
[7.4-5]
قوله تعالى: { وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون } أي وكم من قرية أهلكنا أهلها بأنواع العذاب فجاءها بأسنا ليلا. وسمى الليل بياتا؛ لأنه بيات فيه. قوله تعالى: { أو هم قآئلون } أي وقت الظهيرة؛ يعني نهارا في وقت القائلة. و { قآئلون }: نائمون وقت الهاجرة.
وإنما خص هذين الوقتين بنزول العذاب؛ لأنهما من أوقات الراحة. وقيل: من أوقات الغفلة. ومجيء العذاب في حال الراحة أغلظ وأشد؛ أهلك الله قوم شعيب في نصف النهار، وفي حر شديد وهم قائلون. وفائدة هذه الآية: التهديد والوعيد على معنى: إن لم تتعظوا أتاكم العذاب ليلا أو نهارا كما أتى الأولين الذين لم يتعظوا.
ثم أخبر جل ذكره عن حال من أتاهم العذاب فقال عز وجل: { فما كان دعواهم إذ جآءهم بأسنآ إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين }؛ معناه: لم يكن قولهم ودعاؤهم حين جاءهم عذابنا إلا الاعتراف بالظلم والشرك؛ أي اعتبروا بهم؛ فكما لم ينفعهم تضرعهم عند رؤية البأس؛ كذلك لا ينفعكم إذا جاءكم العذاب تضرعكم.
قال سيبويه: (إن الدعوى تصلح في معنى الدعاء، ويجوز أن يقال: اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ودعاء المسلمين). فإن قيل: إن الهلاك يكون بعد البأس؛ فكيف قال:
أهلكناهم
[الكهف: 59]
أهلكناهآ
[الأنبياء: 6] { فجآءها بأسنا }؟ قيل: إنهما يقعان معا كما يقال: أعطيتني فأحسنت. ويجوز أن يكون التقدير: أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا.
[7.6]
قوله تعالى: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } إخبار عن حالهم يوم القيامة. ودخول الفاء أول في هذه الآية لتقريب ما بين الهلاك وسؤال يوم القيامة. والمعنى: فلنسألن الذين أرسل إليهم: هل بلغتكم الرسل الرسالة؟ وماذا أجبتموهم؟ ولنسألن المرسلين: هل بلغتم قومكم ما أرسلتم به؟ وماذا أجابوكم؟
[7.7]
قوله تعالى: { فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غآئبين }؛ أي لنجزينهم بما عملوا بعلم منا؛ معناه: إنا لنسألهم لنعلم أن ما نسألهم لإقامة الحجة عليهم. قوله: { وما كنا غآئبين } معناه: إنا كنا عالمين بكل شيء من تبليغ الرسالة وجواب الأمم.
[7.8-9]
قوله تعالى: { والوزن يومئذ الحق }؛ أي وزن الأعمال يوم القيامة الحق؛ فلا ينقص من إحسان محسن؛ ولا يزاد على إساءة مسيء. وقال مجاهد: (معناه: والقضاء يومئذ العدل).
قوله: { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون }؛ أي من رجحت حسناته على سيئاته فأولئك هم الظافرون بالمراد، { ومن خفت موازينه } أي رجحت سيئاته على حسناته، { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } عموا حظ أنفسهم، { بما كانوا بآياتنا يظلمون }؛ أي بما كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم يجحدون. فالخسران: ذهاب رأس المال؛ ورأس مال الإنسان نفسه؛ فإذا هلك بسوء عمله فقد خسر نفسه.
وقد تكلموا في ذكر الموازين يوم القيامة؛ قال ابن عباس: (توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان توضع فيه أعمالهم، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة؛ فيوضع في كفة الميزان؛ فتثقل حسناته على سيئاته؛ فيوضع عمله في الجنة عند منازله؛ ثم يقال له: إلحق بعملك؛ فيأتي منازله في الجنة فيعرفها بعمله.
وأما الكافر ؛ فيؤتى بعمله في أقبح صورة؛ فيوضع في كفة الميزان؛ فيخف - والباطل خفيف - ثم يرفع فيوضع في النار، ثم يقال له: إلحق بعملك؛ فيلحق فيأتي منازله في النار).
وقيل: إن المراد بالعمل في هذا الخبر أن الله يجعل للحسنات صورة حسنة؛ وللسيئات صورة قبيحة، إلا أن عين الأعمال توزن؛ لأن الأعمال أعراض منقضية لا تعاد. وقال ابن عمر: (يؤتى بصحف الطاعات وصحف المعاصي، فتوزن الصحف).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يؤتى بالعبد المؤمن يوم القيامة إلى الميزان، ثم يؤتى بتسعة وتسعين سجلا؛ كل واحد منهم مد البصر؛ فيها خطاياه وذنوبه؛ فتوضع في كفة الميزان، ثم تخرج بطاقة من تحت العرش بمقدار أنملة؛ فيها شهادة أن لا إله إلا الله؛ فتوضع في الكفة الأخرى. فيقول العبد: يا رب؛ ما تزن هذه البطاقة مع هذه الصحائف؟! فيأمر الله أن توضع؛ فإذا وضعت في الكفة طاشت الصحف ورجحت البطاقة "
وقال بعضهم: يوزن الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن؛ فلا يزن جناح بعوضة؛ إقرأوا إن شئتم: { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } "
وأما ذكر الموازين بلفظ الجماعة؛ فلأن الميزان يشتمل على الكفتين والخيوط والشاهدين. فإن قيل: ما الحكمة في وزن الأعمال، والله قادر عالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده؟ قيل: لإقامة الحجة عليهم، ونظيره قوله تعالى:
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
[الجاثية: 29] فأخبر بنسخ الأعمال وإثباتها مع علمه بها لما ذكرنا. وقيل: الحكمة فيه تعريف الله العباد ما لهم عنده من جزاء على الخير والشر. وقيل: جعله الله علامة للسعادة والشقاوة. وقيل: لامتحان الله عباده بالإيمان به في الدنيا.
[7.10]
قوله تعالى: { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش }؛ أي مكناكم بالتمليك والإقرار ودفع الموانع، وجعلنا لكم في الأرض معايش؛ وهو ما تعيشون به من الرزق؛ وهو ما يخرج من الأرض من الحبوب والأشجار والثمار. وقيل: معنى (المعايش): التواصل إلى ما يعاش به من الحراثة والتجارة، وأنواع الحرف والزراعات. قوله تعالى : { قليلا ما تشكرون }؛ أي شكركم فيما صنع إليكم قليل. وقيل: معنى قوله: { وجعلنا لكم فيها معايش } أي تعيشون بها أيام حياتكم من المآكل والمشارب.
[7.11]
قوله تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم }؛ أي خلقنا آدم الذي هو أصل خلقتكم، ثم صورناه إنسانا، { ثم قلنا }؛ من بعد خلقه من التراب وتصويره؛ { للملائكة }؛ الذين كانوا في الأرض مع إبليس: { اسجدوا لأدم }؛ سجدة تحية؛ { فسجدوا }؛ المأمورون؛ { إلا إبليس لم يكن من الساجدين }؛ لآدم.
وقيل: معنى الآية: ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم نطفا؛ ثم علقا؛ ثم مضغا؛ ثم عظاما؛ ثم لحما، ثم صورناكم: الحسن والذميم؛ والطويل والقصير، وصورنا لكم عضوا من العين والأنف والأذن واليد والرجل وأشباه ذلك.
قوله تعالى: { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم } قال الأخفش: ((ثم) ها هنا في معنى الواو) أي وقلنا للملائكة اسجدوا لآدم الآن. قوله تعالى للملائكة: { اسجدوا لأدم } قبل خلقنا وتصويرنا.
وأنكر الخليل وسيبويه أن تكون (ثم) بمعنى (الواو)، ولكن تكون للتراخي. ويجوز أن يكون معنى (ثم) ها هنا التراخي من حيث الإخبار دون ترادف الحال.
[7.12]
قوله تعالى: { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك }؛ أي ما منعك أن تسجد، و(لا) زائدة في الكلام كما في قوله تعالى:
لئلا يعلم أهل الكتاب
[الحديد: 29] أي ليعلم أهل الكتاب. وقيل: معناه: ما دعاك إلى أن لا تسجد، وقد علم الله ما منعه من السجود، ولكن مسألته إياه توبيخ له وإظهار أنه معاند ركب المعصية. وعن يحيى بن ثعلب أنه قال: (كان بعضهم يكره أن لا ويقول: تقديره: من قال لك لا تسجد؟).
قوله تعالى: { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين }؛ ليس هذا الجواب عما سأله تعالى من جهة اللفظ؛ لأن هذا الجواب جواب: أيكما خير؟ إلا أن هذا جواب من جهة المعنى، فإن معناه: إنما منعني من السجود إلا أني كنت أفضل منه.
وكان هذا القول من اللعين تجهيلا منه بخالقه؛ كأن قال: إنك فضلت الظلمة على النور وليس ذلك من الحكمة. فأعلم الله تعالى أنه صاغر بهذا القول، وليس الأمر على ما قاله الملعون؛ لأنه رأى أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين في المنفعة، وليس كذلك لأن عامة الثمار والحبوب والفواكه من الطين، وكذلك الملابس كلها لا تخرج إلا من الطين، وعمارة الأرض من الطين، وهو موضع القرار عليه لا استغناء عنه في حال من الأحوال. وأما النار فهي للخراب، وإن كان فيها بعض المنافع.
قال ابن عباس: (أول من قاس فأخطأ القياس إبليس لعنه الله، فمن قاس الدين بتبع من رأيه قرنه الله مع إبليس). وكان قياس إبليس أنه قال: النار خير وأفضل وأصفى وأنور من الطين. وقال ابن سيرين: (أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس).
وقد أخطأ عدو الله حين فضل النار على الطين، بل الطين أفضل من النار من وجوه كثيرة؛ أحسنها: إن جوهر الطين السكون والوقار والحياء والصبر والحلم، وذلك هو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة. ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع والاضطراب، وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه العذاب والهلاك واللعنة والشقاء.
والثاني: أن الطين سبب لجمع الأشياء، والنار سبب لتفرقها. والثالث: أن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر أن في الجنة نارا وفي النار ترابا. والرابع: أن النار سبب عذاب الله تعالى لأعدائه، وليس التراب للعذاب. والخامس: أن التراب مستغن عن النار، والنار تخرج إلى المكان ومكانها التراب).
[7.13]
قوله تعالى: { قال فاهبط منها }؛ أي من الجنة. وقيل: من السماء إلى الأرض، فإن السماء ليس بموضع للمتكبرين. وقيل: معناه: فاهبط من الأرض؛ أي اخرج منها والحق بجزائر البحار، فإنما تسلط به في الجزائر فلا تدخل الأرض إلا كهيئة السارق عليه أطمار يروع فيها، حتى يخرج من الأرض.
قوله تعالى: { فما يكون لك أن تتكبر فيها }؛ أي ليس لك أن تتعظم في الأرض على بني آدم، { فاخرج إنك من الصاغرين }؛ أي من الأذلاء. والصغار هو الذل.
[7.14-15]
قوله تعالى: { قال أنظرني إلى يوم يبعثون }؛ أي قال إبليس حين خشي أن يعاجله الله بالعقوبة: أمهلني وأخر جزائي إلى يوم يبعثون من قبورهم؛ وهي النفخة الأخيرة عند قيام الساعة. أراد الخبيث أن لا يذوق الموت. { قال }؛ الله تعالى: { إنك من المنظرين }؛ أي المؤخرين المؤجلين إلى يوم الوقت المعلوم؛ وهي النفخة الأولى عند موت الخلق كلهم.
وهذا ليس بإجابة إلى ما سأل؛ لأنه سأل الله الإمهال إلى النفخة الثانية، فأبى الله أن يعطيه ذلك،
قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم
[الحجر: 37-38] يعني إلى النفخة الأولى يموت حينئذ أهل السماوات والأرض، ويموت إبليس معهم. وبين النفخة الأولى والثانية أربعين سنة.
واختلفوا في أن الله تعالى هل يجيب دعوة الكافر أم لا؟ قال بعضهم: لا يجيب؛ لأن إجابة الدعاء تكون تعظيما للداعي؛ ولهذا يرجو الإنسان أنه مجاب الدعوة، ولا يحسن من الله تعالى أن يعلم أحدا مدة حياته لما في ذلك من الإغراء بالمعاصي. وكيف يجوز، يجيب الله تعالى إبليس إلى ما سأل، ولم يكن سؤاله على جهة التضرع والخشوع والرغبة إلى الله، وإنما سأل ليغوي الناس ويضلهم. وقال بعضهم: يجوز إجابة دعاء الكافر استدراجا واستضلالا له ولغيره، ولا تكون إجابة الكافر تعظيما له بحال أبدا.
[7.16]
قوله تعالى: { قال فبمآ أغويتني }؛ أي فبما أضللتني عن الهدى، { لأقعدن لهم صراطك المستقيم }؛ أي لأرصدن على طريق بني آدم، وأصدهم عن دينك المستقيم. وقال الحسن: (معنى: { أغويتني } لعنتني). وقيل: { أغويتني } خيبتني، وقد يكون الغوى بمعنى الخيبة. وقيل: { أغويتني } أي أهلكتني.
[7.17]
قوله تعالى: { ثم لآتينهم من بين أيديهم }؛ قال ابن عباس: (معناه: أن إبليس قال: لآتينهم من قبل آخرتهم؛ فلأخبرنهم أنه لا جنة ولا نار، ولا بعث ولا حساب). { ومن خلفهم }؛ أي من قبل دنياهم؛ فلآمرنهم بجمع المال مخافة الفقر وأن لا يؤدوا حقه، { وعن أيمانهم }؛ أي من قبل دينهم فأبين لهم ضلالتهم، وإن كانوا على هدى شبهته عليهم حتى أخرجهم منه، { وعن شمآئلهم }؛ أي من قبل اللذات والشهوات فأزينها لهم، { ولا تجد أكثرهم شاكرين }؛ لنعمتك.
وقال السدي: (معنى: { ثم لآتينهم من بين أيديهم } أراد الدنيا أغويهم إليها، { ومن خلفهم } فمن الآخرة أشككهم فيها وأبعدها عليهم، { وعن أيمانهم } قال: الحق أشككهم فيه، { وعن شمآئلهم } قال: الباطل أخفيه عليهم وأرغبهم فيه).
وقيل: أراد بقوله { وعن أيمانهم } من جهة الحسنات أغفلهم عنها، { وعن شمآئلهم } يعني من جهة السيئات، فإن الحسنات تضاف إلى اليمين، والسيئات تضاف إلى الشمال. وقيل: معنى الاية: ثم لأحتالن في إغوائهم من كل وجه. قال قتادة: (أتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لا يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة ربك، إنما تأتيك الرحمة من فوقك).
وقال شقيق بن إبراهيم: (ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي. أما ما بين يدي؛ فيقول لي: لا تحزن فإن الله غفور رحيم، فأقول: ذلك لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى.
وأما من خلفي؛ فيخوفني الضيعة على ذريتي ومن خلفي، فأقول: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. وأما من قبل يميني؛ فيأتيني من قبل النساء، فأقول: والعاقبة للمتقين. وأما من قبل شمالي؛ فيأتيني من اللذات والشهوات، فأقول: وحيل بينهم وبين ما يشتهون).
وإنما ذكر (من) في قوله: { من بين أيديهم ومن خلفهم } وذكر (عن) في قوله: { وعن أيمانهم وعن شمآئلهم } لأن القدام والخلف يكون لابتداء الغاية، والغاية تذكر بحرف (من). وأما جهة اليمين والشمال فإنها تكون للانحراف، فذكرها ب (عن).
فإن قيل: من أين علم إبليس أنه لا يكون أكثرهم شاكرين؛ أي أكثر الناس شاكرين؟ قيل: إنه ظن بهم ظنا، فوافق ظنه مظنونه، كما قال تعالى:
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه
[سبأ: 20]. وإنما ظن ذلك؛ لأنه لما تمكن من استزلال آدم وحواء؛ علم أن أولادهما أضعف منهما، فيكون تمكنه منهم أكثر.
[7.18]
قوله تعالى: { قال اخرج منها مذءوما مدحورا }؛ أي أخرج من الجنة. وقيل: من السماء، { مذءوما } أي مذؤما معيبا، والذأم والذيم: شدة العيب، يقال: ذامت الرجل ذومة وذأمة ؛ إذا عبته وذمته. قوله: { مدحورا } أي مبعدا من الخير والرحمة. والدحر: الدفع على وجه الهوان والذل.
وقال ابن عباس: { مذءوما } ممقوتا. وقال مجاهد: { مذءوما } صاغرا. وقال أبو العالية: { مذءوما } أي مزدرا. وقال عطاء: { مدءوما } أي ملعونا. وقال الكسائي: (المذموم: المقبوح).
قوله تعالى: { لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين }؛ واللام في قوله: (لمن) لام القسم دخلت على لفظ الشرط والجزاء بمعنى التأكيد والمبالغة؛ كأنه قال تعالى: من تبعك لأبالغن في تعذيبه عذابا شديدا، كذلك قوله تعالى: { لأملأن جهنم منكم أجمعين } أي منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم عليه السلام.
[7.19-25]
قوله تعالى: { ويآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة }؛ أي اسكن أنت وزوجتك الجنة؛ لأن الإضافة إليه دليل على ذلك، وحذف التاء أحسن؛ لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى. وأما الجنة التي أسكنهما الله فيها؛ فهي جنة الخلد في أكثر أقوال أهل العلم، بخلاف ما يقوله بعضهم: إنها كانت بستانا في السماء غير جنة الخلد. وذلك أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام على جهة التشريف.
قوله تعالى: { فكلا من حيث شئتما }؛ أي من أي شيء شئتما موسعا عليكما، { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين }؛ يجوز أن يكون منصوبا؛ لأنه جواب النهي، ويجوز أن يكون مجزوما عطفا على النهي، ومعناه: فتكونا من الضارين أنفسكما.
قوله تعالى: { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين }؛ أي زين لهم الشيطان الأكل من الشجرة؛ ليظهر لهما ما ستر من عوراتهما. والوسوسة: إلقاء المعنى إلى النفس بصوت خفي. والفرق بين وسوس له ووسوس إليه: أن معنى وسوس له: أوهمه، ومعنى وسوس إليه: ألقى إليه.
وإنما سميت العورة سوأة، لأنه يسوء الإنسان انكشافها. قوله تعالى: { إلا أن تكونا ملكين } قرأ بعضهم: (ملكين) بكسر اللام، ومعناه: إلا أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر، وإن لم تكونا ملكين تكونا من الخالدين لا تموتان.
قوله تعالى: { أو تكونا من الخالدين }؛ أي لا تموتان فتفنيان أبدا، فذلك قوله تعالى:
فوسوس إليه الشيطان قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد
[طه: 120] أي على شجرة من أكل منها لم يمت. وقوله تعالى:
وملك لا يبلى
[طه: 120] أي جديد لا يفنى. وعلى قراءة من قرأ (ملكين) بكسر اللام استدلالا له بقوله تعالى:
هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى
[طه: 120].
قيل: كيف أوهمهما أنهما إذا أكلا من تلك الشجرة تغيرت صورتهما إلى صورة الملك، أو يزداد في حياتهما؟ قيل: أوهمهما أن من حكمة الله أن من أكل منها صار ملكا أو ليزيد حياته. وقيل: إنه لم يطمعهما في أن تصير صورتهما كصورة الملك، وإنما أطمعهما في أن تصير منزلتهما منزلة الملك في العلو والرفعة.
قوله تعالى: { وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين }؛ أي حلف لهما إني لكما لمن الناصحين فيما أقول. وإنما قال: { وقاسمهمآ } على لفظ المفاعلة؛ لأنه قابلهما بالحلف، وهذا كما يقال: عاقبت اللص؛ وناولت الرجل.
قال قتادة: (حلف لهما حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله تعالى، وقال لهما: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما). وكان بعض العلماء يقول: (من خادعنا بالله خدعنا). وقال صلى الله عليه وسلم:
" المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم "
وأنشد نفطويه بعضهم:
إن الكريم إذا تشاء خدعته
وترى اللئيم مجربا لا يخدع
قوله تعالى: { فدلاهما بغرور }؛ أي حدرهما من أعلى إلى أسفل؛ لأن الخير عال والشر سافل. وقال بعضهم: معناه: قربهما مما أراد من التورية؛ وهي التقريب مأخوذ من أدلى الدلو، ويقال: فلان يدلي فلانا بالغرور؛ أي يخدعه بكلام زخرف باطل.
وقال مقاتل: { فدلاهما بغرور } أي زين لهما الباطل. فدلاهما بغرور؛ الغرور ما تقدم ذكره بقوله لهما: { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين }. وفي بعض الروايات: أن آدم عليه السلام كان يقول وقت توبته: ما ظننت يا رب أن أحدا يجرأ فيحلف باسمك كاذبا.
قوله تعالى: { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما }؛ فيه دليل أنهما لم يبالغا في الأكل، ولكن لما وصل إلى جوفهما تهافت عنهما لباسهما، وظهر لكل منهما عورة صاحبه فاستحيا، { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة }؛ أي عمدا فأخذ يلزقان عليهما من ورق التين.
والخصف: الإلزاق بعضه إلى بعض، كما يعمل الخصاف الذي يرقع النعل. ومعنى (طفقا) أخذا في العمل، يقال: بات يفعل كذا إذا فعله ليلا، وظل يفعل كذا إذا فعله نهارا، وطفق يفعل كذا إذا فعل في أي وقت كان.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن آدم كان رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس، فلما وقع بالخطيئة بدت سوأته وكان لا يراها، فانطلق هاربا في الجنة، فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره، قال لها: أرسليني! فقالت: لست مرسلتك. فناداه ربه: يا آدم؛ أمني تفر؟ قال: لا، ولكن استحييت "
وقال ابن عباس: (قال الله: يا آدم، ألم يكن لك فيما أبحت لك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى، ولكن وعزتك ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فوعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا بكد. فأهبط إلى الأرض هو وحواء، فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وزع، وسقى وحصد، ثم درس وروى، ثم طحن، ثم عجن، ثم خبز، ثم أكل. فلم يبلغ إلى الأكل حتى بلغ ما شاء الله أن بلغ).
قوله تعالى: { وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكمآ إن الشيطآن لكما عدو مبين }؛ قال محمد بن قيس: (ناداه ربه: يا آدم، لم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال: يا رب؛ أطعمتني حواء. قال: يا حواء؛ لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. فقيل للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس. قال الله تعالى: أما أنت يا حواء؛ فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك، فتمشين في التراب على وجهك، وسيشرخ رأسك كل من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور).
قوله عز وجل: { قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا }؛ أي ضررناها بالمعصية، وهذا اعتراف بالخطيئة على أنفسهما، { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }؛ بالعقوبة.
قوله تعالى: { قال اهبطوا }؛ أي قال اهبطوا من الجنة إلى الأرض، { بعضكم لبعض عدو } ، أي في حال عداوة، { ولكم في الأرض مستقر ومتاع }؛ أي ولكم في الأرض مستقر ومنفعة، { إلى حين }؛ أي إلى منتهى آجالكم. قوله تعالى: { قال فيها تحيون }؛ أي في الأرض تعيشون، { وفيها تموتون }؛ وفي الأرض تقبرون، { ومنها تخرجون }؛ أي من قبوركم للبعث.
[7.26]
قوله تعالى: { يبني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا }؛ أي أنزل الله المطر من السماء فكانت الكسوة منه، يعني أن لباسهم من نبات الأرض من القطن والكتان. وهو ماء السماء، وما يكون من الكسوة من أصواف الأغنام، فقوام الأنعام أيضا من نبات ماء السماء، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقوله: { يواري سوءاتكم } قوله تعالى: { وريشا } يعني مالا) هكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي.
ويقال: تريش الرجل؛ إذ تمول. وقال ابن زيد: (الريش: الجمال). وقرأ عثمان بن عفان والحسن وقتادة: (ورياشا) بالألف وهو جمع ريش، مثل ذئب وذئاب. وقال الأخفش: (الرياش: الخصب والمعاش). وقيل: معنى الريش: ما يتأثث به في البيت من متاعه.
قوله تعالى: { ولباس التقوى }؛ قال قتادة والسدي: (هو العمل الصالح)، { ذلك خير }؛ لأنه يقي من العذاب والعقاب، كأنه قال: لباس التقوى خير من الثياب؛ لأن الفاجر وإن كان حسن الثياب فهو بادي العورة. قال الشاعر:
إني كأني أرى من لا حياء له
ولا أمانة وسط القوم عريانا
وقال ابن جريج: (لباس التقوى هو الإيمان). وقال معبد الجهني: (هو الحياء). وقيل: هو السمت الحسن بالوجه. وقال وهب: (الإيمان عريان؛ ولباسه التقوى؛ وريشه الحياء؛ وماله الفقه؛ وثمرته العمل الصالح). وقيل: لباس التقوى ما يلبس من الثياب للتضرع والتخشع مثل الصوف والثياب الخشنة، وهو خير من لباس الكبر.
قرأ أهل المدينة والشام والكسائي: (ولباس) بالنصب عطفا على قوله: (لباسا). وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء؛ وخبره (خير). وجعلوا (ذلك) صلة في الكلام، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب: (ولباس التقوى خير).
قوله تعالى: { ذلك من آيات الله }؛ معناه: أن إنزال اللباس من دلائل الله على إثبات وحدانيته ونعمه، { لعلهم يذكرون } ، أي لكي يتعظون فيعرفوا أن ذلك كله من الله تعالى.
[7.27]
قوله عز وجل: { يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان كمآ أخرج أبويكم من الجنة }؛ أي لا يضرنكم الشيطان بالدعاء إلى الغي والمعصية كما استزل أبويكم آدم وحواء من الجنة { ينزع عنهما لباسهما } ، فتسبب في نزع لباسهما لحملهما على المعصية، وقوله تعالى: { ليريهما سوءاتهمآ }؛ أي ليظهر لهما عوارتهما أن ذلك يغيظهما، وإنما أضاف الإخراج من الجنة إلى الشيطان؛ لأن ذلك كان بوسوسته وإغوائه.
واختلفوا في لباسهما في الجنة؛ فقال بعضهم: كان من لباس الجنة، عن ابن عباس: (أن لباسهما كان من الظفر؛ أي كان يشبه الظفر، فإنه كان مخلوقا عليهما خلقة الظفر). وقال وهب: (كان لباسهما من النور). ومعنى قوله: { لا يفتننكم الشيطان } أي كونوا على حذر من ذلك، فإنه عدو لكم. وهذا اللفظ أبلغ من أن تقول: لا تقبلوا فتنة الشيطان.
قوله تعالى: { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم }؛ أي إن الشيطان ونسله يرونكم وأنتم لا ترونهم، وإنما قال هكذا؛ لأنا إذا لم نراهم لم نعرف قصدهم بالكيد والإغواء حتى نكون على حذر في نجدة نفوسنا من وساوسه.
وفي هذا بيان أن أحدا من البشر لا يرى الجن، بخلاف ما يقول بعضهم: إن منا من يراهم. وإنما لا يراهم البشر؛ لأنهم أجسام رقيقة تحتاج في رؤيتك إلى أفضل شعاع، والله تعالى لم يعطنا من الشعاع قدر ما يمكننا أن نراهم، وأما هم فإنهم يروننا؛ لأنهم يرى بعضهم بعضا مع أنهم أجسام رقيقة، فلأن يرونا ونحن أجسام كثيفة أولى.
وذهب بعض الناس إلى أنه يجوز أن يراهم البشر، بأن يكشفوا أجسامهم، وقال: وهم ممكنون من ذلك. وقيل: إن هذا لا يصلح؛ لأنه لو أمكنهم أن يكشفوا أجسام أنفسهم أمكنهم أن يكشفوا أجسام غيرهم. وقال مالك بن دينار: (إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصم الله).
وقيل: هو زين لآدم فسكن له، ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وأنت لا تقاومه إلا بعون الله، والشيطان يراك وأنت لا تراه، وهو لا ينساك وأنت تنساه. وفيه يقول بعضهم:
ولا أراه حيثما يراني
وعندما أنساه لا ينساني
فيبدي إن لم يكن سباني
كما سبى آدم من جنان
وقال ذو النون: (إن هو يراك من حيث لا تراه، فإن الله يراه من حيث لا يرى الله، فاستعن بالله عليه، فإن كيد الشيطان كان ضعيفا).
قوله تعالى: { إنا جعلنا الشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون }؛ أي جعلناهم قرناء للذين لا يؤمنون بالله.
[7.28]
قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ آباءنا }؛ معناه: أن كفار مكة كانوا إذا فعلوا معصية يعظم قبحها نحو طوافهم بالبيت عراة، وتحريمهم ما أحل الله تعالى من البحيرة والسائبة، قالوا: وجدنا عليها آباءنا وأسلافنا، { والله أمرنا بها }: أي بهذه الأشياء، { قل }؛ لهم يا محمد: { إن الله لا يأمر بالفحشآء }؛ أي لا يأمرنا بالمعاصي، { أتقولون على الله ما لا تعلمون } استفهام بمعنى الإنكار على جهة إلزام الحجة؛ لأنهم إن قالوا: نقول على الله ما لم نعلم، فضحوا أنفسهم، وإن قالوا: لا نقول على الله ما لا نعلم، لزمتهم الحجة؛ لأنهم لم يكن لهم حجة على ما قالوا.
[7.29-30]
قوله تعالى: { قل أمر ربي بالقسط }؛ أي بالعدل والصواب، وقال ابن عباس: (لا إله إلا الله)، وقال الضحاك: (بالتوحيد). { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد }؛ قال مجاهد والسدي: (أي توجهوا إلى القبلة في الصلاة أداء عند كل مسجد)، وقال الكلبي: (معناه: إذا حضرت الصلاة وأنتم في مسجد، فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي، وإذا لم يكن عنده فليأت أي مسجد شاء، وليصل فيه).
وهذه الآية تدل على وجوب فعل الصلاة المكتوبة في الجماعة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من سمع النداء فلم يجبه، فلا صلاة له "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنظر إلى قوم يتخلفون عن الجماعات، فأحرق عليهم بيوتهم "
قوله تعالى: { وادعوه مخلصين له الدين } ، أي مخلصين له الطاعة والعبادة، قوله تعالى: { كما بدأكم تعودون }؛ أي خلقكم حين خلقكم مؤمنا وكافرا؛ وشقيا وسعيدا، فكما خلقكم فكذلك تعودون إليه يوم القيامة، { فريقا هدى }؛ وهم المؤمنون، { وفريقا حق عليهم الضلالة }؛ وهم أهل الكفر، وهذا قول ابن عباس، كما قال تعالى:
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن
[التغابن: 2] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا، فيبعث المؤمن مؤمنا؛ والكافر كافرا.
وقال الحسن ومجاهد: (معناه: كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء).
قوله تعالى: { إنهم اتخذوا الشياطين أوليآء من دون الله }؛ أي إن أهل الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء بطاعتهم فيما دعوهم إليه، { ويحسبون أنهم مهتدون }؛ أي يظنون أنهم على الهدى.
[7.31-33]
قوله تعالى: { يابني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا } ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف في الثياب التي أذنبنا فيها ودنسناها بالذنوب، فكانت المرأة منهم تطوف بالبيت عريانة بالليل، إلا أنها كانت تتخذ سيورا مقطعة تشد في حقويها، فكانت السيور لا تسترها سترا تاما.
قال المفسرون: كانت بنو عامر في الجاهلية يفعلون ذلك، كان رجالهم يطوفون عراة بالنهار، ونساؤهم ليلا. وحكي أن امرأة كانت تطوف عريانة وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
فما بدا منه فلا أحله
وكانوا إذا قدموا منه طرح أحدهم ثيابه في رجله، فإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه، فأنزل الله هذه الآية: { يابني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد } يعني الثياب. وقال مجاهد: (يعني: ما يواري عورتكم ولو عباءة).
وقال الكلبي: (كانت بنو عامر لا يأكلون من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم، يعظمون بذلك حجهم. وكانت قريش وكنانة يفعلون. فقال المسلمون: يا رسول الله، نحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى: { يابني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا }. { ولا تسرفوا }؛ أي البسوا ثيابكم عند كل مسجد، وكلوا اللحم والدسم، واشربوا من ألبان السوائب والبحائر، { ولا تسرفوا } أي لا تجاوزوا تحريم ما أحل الله لكم.
والإسراف: مجاوزة الحد؛ فتارة تكون مجاوزة الحلال إلى الحرام؛ وتارة تكون مجاوزة الحد في الإنفاق؛ وتارة تكون بأن يأكل الإنسان فوق الشبع فيؤدي به ذلك إلى الضرر.
ويروى: أن هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين ابن واقد: أليس في كتابكم من علم الطب شيء؟ والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان، فقال له: إن الله تعالى قد جمع الطب كله بنصف آية من كتابنا. وقال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا }. فقال النصراني: هل يؤثر عن رسولكم شيء من الطب؟ قال: نعم؛ جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله:
" المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وعودوا كل جسم ما اعتاد "
فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
قوله تعالى: { إنه لا يحب المسرفين }؛ أي لا يرضى عملهم، ولا يثني عليهم: فلما نزلت هذه الآية طاف المسلمون في ثيابهم، وأكلوا اللحم والدسم، فعيرهم المشركون بذلك، فأنزل الله:
قوله تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } أي قل لهم يا محمد: من حرم الثياب التي يتزين بها الناس، ومن حرم المستلذات من الرزق؟ ويقال: أراد بالطيبات: الحلال من الرزق، وفي قوله تعالى: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } أمر للإنسان أن يلبس أحسن ثيابه في الأعياد والجمع.
قوله تعالى: { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة }؛ قال ابن عباس: (معناه: أن المسلمين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامهم؛ ولبسوا من خيار ثيابهم؛ ونكحوا من صالح نسائهم، ثم يخلص الله تعالى الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء).
وتقدير الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا، خالصة يوم القيامة. وقيل: معناه: هي للمؤمنين في الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة.
وقرأ ابن عباس وقتادة ونافع: (خالصة) بالرفع؛ أي قيل: خالصة. وقرأ الباقون بالنصب على الحال والقطع، لأن الكلام قد تم دونه. قوله تعالى: { كذلك نفصل الآيات }؛ أي كما فصلنا لكم الدلائل والأوامر والنواهي، هكذا تفصيلها { لقوم يعلمون }؛ أي يفقهون أوامر الله تعالى.
ثم بين الله تعالى ما حرم عليهم فقال عز وجل: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق }؛ معناه: أن الله تعالى لم يحرم الثياب ولا الطيبات من الرزق، وإنما حرم الذنوب.
والفواحش: هي الكبائر، وقوله تعالى: { ما ظهر منها } أي ما عمل علانية، { وما بطن } يعني سرا. { والإثم } يتناول كل ذنب وأن يكون فيه حد. وفائدة ذكر الإثم: بيان أن التحريم غير مقصور على الكبائر. { والبغي } يتناول الإقدام على الغير { بغير الحق }.
وقوله تعالى: { وأن تشركوا بالله }؛ معناه: وحرم عليكم أن تشركوا بالله، { ما لم ينزل به سلطانا }؛ أي عذرا ولا حجة. ثم بين الله تعالى ما يصير جامعا للمحرمات كلها؛ وهو تحريم القول الذي لا علم لقائله به فقال: { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }.
وقيل: يعني بالفواحش: الطواف عراة، ويعني بقوله: { ما ظهر منها } طواف الرجال عراة بالنهار، { وما بطن } طواف النساء بالليل عراة. وقيل: أراد بقوله: { ما ظهر منها } التعري عن الثياب في الطواف، { وما بطن } يعني الزنا، ويعني ب { الإثم } كل المعاصي. وقوله تعالى: { والبغي } طلب الترأس على الناس بالقهر والاستطالة عليهم بغير حق.
وقال الحسن: (يعني ب { الإثم } الخمر). قال بعضهم:
شربت الإثم حتى ضل عقلي
كذاك الإثم يذهب بالعقول
[7.34]
قوله تعالى: { ولكل أمة أجل فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } تخويف ووعيد من الله تعالى لهم، معناه: ولكل أهل دين مهلة؛ ولكل وقت مؤقت، فإذا انقضت مهلتهم فلا يستأخرون من بعد الأجل ساعة ولا يستقدمون في الأجل. وليس ذكر الساعة في الآية على وجه التحديد، فإنهم لا يستأخرون ولا يستقدمون ساعة ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الأوقات بين الناس.
فإن قيل: لم قال: { يستأخرون } ولم يقل: يتأخرون؟ قيل: معناه: لا يطلبون التأخر عن ذلك لأجل اليأس عنه. وقرأ ابن سيرين: (فإذا جاء آجالهم).
[7.35]
قوله تعالى: { يابني ءادم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي }؛ معناه: يا بني آدم إما أن يأتيكم رسل من جنسكم يقرأون عليكم ويعرضون عليكم كتابي وكلامي، { فمن اتقى } ، الله وأطاع الرسول، { وأصلح }؛ العمل، { فلا خوف عليهم }؛ حين يخاف أهل النار، { ولا هم يحزنون }؛ على ما خلفوا في الدنيا.
[7.36]
قوله تعالى: { والذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنهآ أولئك أصحب النار هم فيها خلدون }؛ ظاهر المعنى. وقيل: معناه: وتكبروا عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
[7.37]
قوله تعالى: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب }؛ أي حظهم مما قضى الله عليهم في الكتاب؛ وهو سواد الوجوه وزرقة الأعين؛ كما قال تعالى:
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة
[الزمر: 60].
وقال الحسن: (معناه: ما كتب لهم من العذاب). وقال مجاهد: (ما سبق من الشقاوة). وقال الربيع: (يعني ينالهم ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال). فإذا فرغت وفنيت؛ { جآءتهم رسلنا يتوفونهم } أي يقبضون أرواحهم؛ يعني ملك الموت وأعوانه).
قوله تعالى: { حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم }؛ يعني إذا جاءتهم ملائكة العذاب يذيقونهم عذابا في الآخرة كما قال تعالى:
ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت
[إبراهيم: 17]. { قالوا }؛ أي فتقول لهم الملائكة - وهم خزنة جهنم: { أين ما كنتم تدعون من دون الله }؛ يعنون الأصنام. يقولون لهم ذلك توبيخا وتنكيرا وحسرة عليهم، { قالوا }؛ فيقول الكفار عند ذلك: { ضلوا عنا }؛ أي ذهب الأصنام عنا. فلم يقدروا لنا على نفع ولا دفع ضر، { وشهدوا على أنفسهم }؛ أي أقروا على أنفسهم، { أنهم كانوا كافرين }؛ في الدنيا. قال مقاتل: (يشهدون على أنفسهم بعدما شهدت عليهم الجوارح بما كتمت الألسن).
[7.38-39]
قوله تعالى: { قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار }؛ معناه: قال الله لهم: ادخلوا النار مع أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار.
قوله تعالى: { كلما دخلت أمة لعنت أختها }؛ في الدين والملة. ولم يقل: أخاها؛ لأنه عنى بها الأمم والجماعة؛ فلعنت المشركون المشركين؛ واليهود اليهود؛ والنصارى النصارى؛ والمجوس المجوس، ويلعن الأتباع القادة ويقولون: لعنكم الله أنتم عزرتمونا. قوله تعالى: { حتى إذا اداركوا فيها جميعا }؛ أي تلاحقوا واجتمعوا في النار.
قرأ الأعمش: (حتى إذا تداركوا فيها). وقرأ النخعي: (حتى إذا ادركوا فيها) بتشديد الدال من غير ألف. والمعنى: حتى إذا اجتمعوا في النار القادة والأتباع؛ { قالت أخراهم لأولاهم }؛ أي قالت أخرى الأمم المكذبة لأول الأمم { ربنا هؤلاء }؛ المقدمون؛ { أضلونا }؛ عن الهدى بإلقاء الشبهة علينا؛ { فآتهم عذابا ضعفا من النار }؛ أي زدهم في عذابهم، واجعل عذابهم مضاعفا مما علينا، { قال }؛ الله تعالى: { لكل ضعف }؛ أي لكل من الأولين والآخرين ضعف من العذاب، { ولكن لا تعلمون }؛ أنتم شدة ما عليهم.
ومن قرأ (ولكن لا يعلمون) بالياء؛ فمعناه: لا يعلم كل فريق منهم مقدار عذاب الفريق الآخر. وقال مقاتل: (معناه: { قالت أخراهم لأولاهم } أي { أخراهم } دخولا النار الأتباع { لأولاهم } وهم القادة). وقال السدي: (أخراهم الذين أتوا في آخر الزمان، لأولاهم يعني الذين شرعوا لهم ذلك الدين).
قوله تعالى: { وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل } أي قالت أول الأمم لآخر الأمم، والمتبوعون للتابعين: لم يكن لكم علينا فضل في شيء حتى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا وينقص من عذابكم، وأنتم كفرتم كما كفرنا، ونحن وأنتم في الكفر سواء، وكذا نكون في العذاب سواء. قوله تعالى: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون }؛ يجوز أن يكون هذا من قول الأولين للآخرين، ويجوز أن يكون قال الله لهم ذلك.
[7.40]
قوله تعالى: { إن الذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السمآء }؛ أي الذين جحدوا بآياتنا وتعظموا عن الإيمان بها؛ لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء إذا ماتوا هوانا، وتفتح للمؤمنين كرامة لهم. وقيل: معناه: لا تفتح لأعمالهم أبواب السماء؛ لأنها خبيثة، بل يهوي بعملهم إلى الأرض السابعة، وترقم في الصخرة التي تحت الأرضين كما قال الله تعالى:
كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * ومآ أدراك ما سجين * كتاب مرقوم
[المطففين: 7-9].
قوله تعالى: { لا تفتح لهم } قراءة الأكثرين بالتاء المشددة راجعة إلى جماعة الأبواب. وقرأ بعضهم بالياء والتخفيف؛ لأن تأنيث الأبواب ليس بحقيقي.
قوله تعالى: { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط }؛ أي لا يدخلون الجنة أبدا كما لا يدخل البعير في خرم الإبرة. وهذا تمثيل في الدلالة على يأس الكفار من دخولهم الجنة. والعرب إذا أرادت تأكيد النفي علقته بما يستحيل كونه، كما قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
والخياط والمخيط بمعنى واحد. وعن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه سئل عن الجمل؛ فقال: هو زوج الناقة؛ كأنه استجهل من سأله وتعجب منه). وفي قراءة ابن عباس: (حتى يلج الجمل) بضم الجيم وتشديد الميم، وهو حبل يسمى القلس. وقال عكرمة: (هو الحبل الذي يصعد به النخل). قوله تعالى: { وكذلك نجزي المجرمين }؛ أي هكذا يجزون.
[7.41]
قوله تعالى: { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش }؛ أي لهم فراش من النار يضطجعون ويقعدون وفوقهم غوائل؛ أي غاشية من فوق غاشية، كما قال تعالى في موضع آخر:
لهم من فوقهم ظلل من النار
[الزمر: 16]. وقال صلى الله عليه وسلم:
" يلبس الكافر لوحين من النار في قبره، فذلك قوله تعالى: لهم من جهنم مهاد "
و { غواش }: وأصل غواش: غواشي بإثبات الياء مع الضمة، فحذفت الضمة والياء استثقالا، وأدخل الثقل ذهاب حركتها ويائه. قوله تعالى: { وكذلك نجزي الظالمين }؛ يعني الكافرين.
[7.42]
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها }؛ أي إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الطاعات بمقدورهم وبوسعهم. { لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي طاقتها وقدرتها، { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }؛ باقون دائمون.
[7.43]
قوله تعالى: { ونزعنا ما في صدورهم من غل }؛ أي نزعنا ما في قلوبهم من غش وحسد وعداء بعضهم على بعض في الدنيا، وألقينا في قلوبهم التوادد في الآخرة حتى لا يحسد بعض أهل الجنة بعضا أعلى درجة منه. قوله تعالى: { تجري من تحتهم الأنهر }؛ أي من تحت شجرهم وغرفهم الأنهار في حال نزعنا ما في قلوبهم؛ تكون (تجري) في موضع الحال.
قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وابن مسعود وعمار بن ياسر وسلمان وأبي ذر، ينزع الله في الآخرة ما كان في قلوبهم من غش بعضهم لبعض في العداوة والثقل الذي كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي اختلفوا فيه، فيدخلون إخوانا متقابلين).
قال: (فأول ما يدخلون الجنة تعرض لهم عينان تجريان، فيشربون من أحد العينين، فيذهب الهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى، فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم، وتصقل وجوههم، ويلبسون بهاء النور، ويطيب الله ريحهم به).
{ وقالوا }؛ فعند ذلك يقولون: { الحمد لله الذي هدانا لهذا }؛ أي أرشدنا إلى ما صرنا به ربنا واغتسلنا من العينين. قوله تعالى: { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله }؛ قرأ ابن عامر: (ما كنا) بغير واو. وقرأ الباقون بالواو: (وما كنا لنهتدي إلى هذا الذي أكرمنا الله به لولا أن الله هدانا إليه) وقال صلى الله عليه وسلم:
" كل أهل النار يرى منزله في الجنة فيقولون: لولا هدانا الله، فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزله في النار فيقولون: لولا أن الله هدانا "
قوله تعالى: { لقد جآءت رسل ربنا بالحق }؛ شهادة منهم بإرساله للحق إليهم؛ أي جاءوا بالصدق؛ فصدقناهم. قوله تعالى: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون }؛ معناه: نادتهم الملائكة: أن هذه الجنة التي وعدتموها في الدنيا بأعمالكم. وقيل: معنى { أورثتموها } أنزلتموها. وفي الخبر: أنه يقال لهم يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي؛ وادخلوا الجنة برحمتي لا بأعمالكم.
[7.44]
قوله تعالى: { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم }؛ وذلك حين يستقر أهل الجنة في الجنة؛ وأهل النار في النار؛ ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار: أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا من الثواب والكرامة حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم من العذاب حقا؟ قالوا نعم ، فاعترفوا في وقت لا ينفعهم الاعتراف. وفي (نعم) قراءتان؛ قراءة الكسائي: (نعم) بكسر العين في القرآن، وقرأ الباقون بالفتح؛ وهما لغتان.
وإنما سأل أهل الجنة أهل النار؛ لأن الكفار كانوا يكذبون المؤمنين فيما يدعون لأنفسهم من الثواب ولهم من العقاب، فلذا سألهم المسلمون تبكيتا لهم، ليكون ذلك حسرة للكافرين وسرورا للمؤمنين.
قوله تعالى: { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين }؛ روي في الخبر:
" أن مناديا ينادي بين الجنة والنار؛ يسمعه الخلائق كلهم: أن رحمة الله تعالى على المحسنين، وأن لعنة الله على الظالمين "
أي على الكافرين. وقرأ بعضهم: (أن لعنة الله) بالتشديد ونصب اللعنة.
[7.45]
قوله تعالى: { الذين يصدون عن سبيل الله }؛ أي عن الدين الذي هو طريق الله إلى جنته، { ويبغونها عوجا }؛ أي يطلبون لها غيرا أو زيفا بإلقاء الشبهة التي يلبسون بها على الناس، { وهم بالآخرة كافرون }؛ أي هم جاحدون بالبعث بعد الموت.
[7.46]
قوله تعالى: { وبينهما حجاب }؛ أي بين الجنة والنار سور يحجب بين الفريقين، كما قال تعالى:
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
[الحديد: 13]. قوله تعالى: { وعلى الأعراف رجال }؛ أي وعلى أعالي السور باب؛ يقال: أعالي عرف وجمعه أعراف؛ ومنه عرف الديك؛ وعرف الأضراس.
والأعراف: سور بين الجنة والنار؛ سمي أعرافا لأن أصحابه، { يعرفون }؛ الناس؛ { كلا بسيماهم }؛ يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم؛ وأهل النار بسواد الوجوه.
قال عبدالله بن عباس: (أصحاب الأعراف: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فحالت حسناتهم بينهم وبين النار، وحالت سيئاتهم بينهم وبين الجنة، فلم يكن لهم حسنات فاضلة يدخلون بها الجنة، ولا سيئات فاضلة يدخلون بها النار، فوقفوا على السور بين الجنة والنار يعرفون الكل بسيماهم. فمن دخل الجنة عرفوه ببياض وجهه أغر محجلا من أثر الوضوء؛ ضاحكا مستبشرا. ومن دخل النار عرفوه بسواد وجهه وزرقة عينيه).
وعن أبي مجلز رحمه الله أنه قال: (هم الملائكة). فبلغ ذلك مجاهد فقال: (كذب أبو مجلز؛ يقول الله تعالى: { وعلى الأعراف رجال }. فبلغ ذلك أبا مجلز؛ فقال: (هم الملائكة، والملائكة ذكور ليس بإناث؛ صورهم صور الرجال).
وقيل: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلون الجنة بفضل رحمته؛ وهم آخر من يدخل الجنة قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار. فإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له: نهر الحياة؛ كأفتات الذهب؛ مكلل باللؤلؤ؛ ترابه المسك. فيلقوا فيه حتى تصبح ألوانهم في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ثم يؤتى بهم فيدخلون الجنة، يسمون مساكين أهل الجنة.
" وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أصحاب الأعراف؟ قال: " هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم؛ فقتلوا فأعتقوا من النار يقتلهم في سبيل الله، وحبسوا عن الجنة بمعصيتهم آباءهم، فهم آخر من يدخل الجنة " "
وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: (هم أولاد الزنا). وعن مجاهد: (أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم، أو أمهاتهم دون آبائهم، فيحبسون في الأعراف إلى أن يقضي الله بين خلقه ثم يدخلون الجنة).
قوله تعالى: { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون }؛ معناه: أن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أصحاب الجنة قالوا لهم: سلام عليكم، فيرد أهل الجنة عليهم السلام. قوله تعالى: { لم يدخلوها } أي لا يدخل أصحاب الأعراف الجنة وهم يطمعون في دخولها، بأن يغفر الله لهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة بحسناتهم. وما جعل الله الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يزيدهم بها.
[7.47]
قوله تعالى: { وإذا صرفت أبصارهم تلقآء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين }؛ معناه: وإذا نظر أصحاب الأعراف إلى أصحاب النار، دعوا الله تعالى واستعاذوا من النار وقالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين في النار؛ أي يدعون بذلك خوفا من الله لأجل معاصيهم.
[7.48-49]
قوله تعالى: { ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا مآ أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون }؛ قال ابن عباس: (إن أصحاب الأعراف ينادون الكبار من الكفار الذين كانوا عظماء في الكفر كالوليد بن المغيرة وأبي جهل وسائر رؤسائهم). يعرفونهم بسيماهم ينادونهم وهم على السور: يا وليد ابن المغيرة! يا أبا جهل بن هشام! يا فلان ابن فلان؛ ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا من المال والولد، وما كنتم تستكبرون؛ أي تتعظمون عن الإيمان بالله عزوجل.
ثم ينظرون إلى الجنة؛ فيرون فيها الضعفاء والمساكين ممن كان يستهزئ بهم كفار مكة؛ مثل صهيب وخباب وعمار وسلمان وبلال وأشبهاههم، فينادون: { أهؤلاء }؛ الضعفاء هم، { الذين أقسمتم }؛ أي حلفتم أيها المشركون وأنتم في الدنيا، { لا ينالهم الله برحمة }؛ يا من أقسمتم لا يدخلهم الله الجنة. قال ابن عباس: (فيقول الله تعالى لأصحاب الأعراف: { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون }.
فإن قيل: كيف يصح هذا التأويل في الحجاب بين الجنة والنار؛ ومعلوم أن الجنة في السماء والنار في الأرض؟ قيل: لم يبين الله حال الحجاب بالمذكور في الآية، ولا قدر المسافة، فلا يمتنع أن يكون بين الجنة والنار وإن بعدت المسافة.
وقرأ بعضهم: (وما كنتم تستكثرون) بالثاء؛ أي تجمعون المال الكثير. وقال مقاتل في تفسير هذه الآية: (إذا قال أصحاب الأعراف لأصحاب النار: ما أغنى عنكم جمعكم. قال لهم أصحاب النار: وأنتم ما أغنى عنكم جمعكم، وأقسموا لتدخلن النار معنا).
فيقول الله تعالى، أو تقول الملائكة لأهل النار: أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة؛ أي لا يصيبهم برحمته. ثم يقال لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
[7.50]
قوله تعالى: { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله }؛ قال ابن عباس: (وذلك أنه لما سكن أهل الجنة الجنة؛ وسكن أهل النار النار؛ وحرم أهل النار الماء والثمار مع ما هم فيه من ألوان العذاب، نادوا أصحاب الجنة: أن اسقونا شيئا من الماء، أو صبوا وأفرغوا علينا، وأطعمونا شيئا مما رزقكم الله من ثمار الجنة). فيجيبهم أهل الجنة: { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } ، أي شراب الجنة وثمارها. وإنما جعل شراب الكافرين الحميم الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود، وطعامهم الضريع والزقوم.
وقيل: إن أهل النار ينادون أهل الجنة بعد أن يستغيثوا فيغاثوا بماء كالمهل، ثم يستغيثوا بالطعام فيغاثوا بالزقوم والضريع، فيقبلون على الصبر فلا يغني عنهم، فيقولون: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، ثم ينادون حينئذ أهل الجنة: يا أهل الجنة! يا أهل السعادة! منكم الآباء والأمهات؛ والأبناء والأخوات؛ والجيران والمعارف والأصدقاء، أفيضوا علينا من الماء حتى تطفئوا حر ما نجد من العطش، أو مما رزقكم الله من الطعام فنأكله لعله يطفئ عنا الجوع. فلا يؤذن لأهل الجنة في الجواب مقدار أربعين سنة، ثم يؤذن لهم في جوابهم؛ فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين، يعنون الماء والطعام.
وفي الآية بيان أن الإنسان لا يستغني عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب، قال أبو الجوزائي: سألت ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ قال: (الماء، أرأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا؟: أفيضوا علينا من الماء).
[7.51]
قوله تعالى: { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحيوة الدنيا }؛ أول الآية نعت للكافرين؛ ومعناه: أنهم اتخذوا دينهم لهو أنفسهم؛ لاهين لاعبين. ويقال: هم الذين اختاروا في دينهم الباطل واللعب والفرح والهزئ، (وغرتهم الحياة الدنيا) أي غرهم ما أصابوه من زينة الدنيا مع ما كانوا فيه من طول الأمل، وكذلك كانوا يستهزئون بالمسلمين، كما روي في الخبر: أن أبا جهل بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يستهزئ به: أن أطعمني من عنب جنتك أو شيئا من الفواكه! فقال أبو بكر رضي الله عنه: (قل إن الله حرمهما على الكافرين).
قوله تعالى: { فاليوم ننسهم كما نسوا لقآء يومهم هذا }؛ { فاليوم } أي يوم القيامة معناه: اليوم نتركهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. ويقال: معنى قوله: { ننسهم } نتركهم، { كما نسوا } أي كما أعرضوا عن العمل للقاء يومهم هذا اعراض الناسي للشيء. وقوله تعالى: { وما كانوا بآيتنا يجحدون } في موضع الجر عطف على (ما نسوا)؛ المعنى: وبجحدهم بآياتنا الدالة على التوحيد { ننسهم كما نسوا لقآء يومهم هذا }.
[7.52]
قوله عز وجل: { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم }؛ أي لقد أتيناهم بالقرآن الذي أتينا به آية بعد آية؛ وسورة بعد سورة على علم منا بأن ذلك أقرب للتدبر. وقوله تعالى: { هدى ورحمة }؛ في موضع نصب على تقدير: هاديا وذا رحمة، { لقوم يؤمنون }؛ أي يصدقون أنه من عند الله.
[7.53]
قوله تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جآءت رسل ربنا بالحق }؛ معناه: ما ينظر أهل مكة إلا عاقبة ما وعدهم الله به في القرآن أنه كائن، منه ما يكون في الدنيا؛ ومنه ما يكون في الآخرة. ويقال معناه: هل ينظرون إلى ما يؤول إليه أمرهم من البعث والعذاب وورود النار.
وقوله تعالى: { يوم يأتي تأويله } أي يوم يأتي عاقبة ما وعدوا فيه؛ وهو يوم القيامة، يقول الذين كفروا وتركوا العمل له في دار الدنيا: قد جاءت رسل ربنا بالصدق في أمر البعث بعد الموت فكذبناهم، { فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ أو نرد }؛ أي يقولون هذا القول حين يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين، فيقال لهم: ليس لكم شفيع، فيقولون: هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل، ونعمل الأعمال الصالحة؟ فذلك قوله تعالى: { فنعمل غير الذي كنا نعمل }. وجواب الاستفهام بالفاء يكون نصبا.
قوله تعالى: { قد خسروا أنفسهم }؛ أي غبنوا حظ أنفسهم من الجنة، فورثهم المؤمنون. وقوله تعالى: { وضل عنهم ما كانوا يفترون }؛ أي بطل عنهم فلم ينفعهم وذهب عنهم آلهتهم؛ وهي التي كانوا يفترون بها على الله تعالى أنها شفعاؤهم. ويقال: معناه: وضل عنهم حينئذ افتراؤهم على الله تعالى.
[7.54]
قوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام }؛ وذلك: أن الله تعالى لما عير المشركين بعبادة الأصنام بقوله:
وضل عنهم ما كانوا يفترون
[الأعراف: 53] سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد؛ من ربك الذي تدعونا إليه؟ فأرادوا بذلك أن يجحدوا معنى في أسمائه، وفي شيء من أفعاله فأنزل الله تعالى هذه الآية، فتحيروا وعجزوا عن الجواب.
ومعنى الآية: أن خالقكم ورازقكم هو الله الذي ابتدأ خلق السماوات والأرض لا على مثال سابق؛ فوحدوه يا أهل مكة واعبدوه وأطيعوه؛ ودعوا هذه الأصنام؛ فإنها لم تخلق سماء ولا أرضا.
قوله تعالى: { في ستة أيام } قال ابن عباس: (أولها الأحد وآخرها يوم الجمعة). قال الحسن: (هي ستة أيام من أيام الدنيا). ويقال: في ستة ساعات من ستة أيام من أول أيام الدنيا. ولو شاء لخلقها في أسرع من اللحظة، ولكنه علم عباده التأني والرفق والتدبير والتثبت في الأمور.
قوله تعالى: { ثم استوى على العرش }؛ اختلف المفسرون في ذلك؛ قال بعضهم: يطلق الاستواء كما نطق به القرآن ولا يكيف، كما أثبت الله ولا نكيفه. وهذا القول محكي عن مالك بن أنس، فإنه سئل عن معنى هذه الآية؛ فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والجحود به كفر، والسؤال عنه بدعة).
وقال بعضهم: معنى { استوى }: استولى، كما يقال: استواء الأمير على بلد كذا؛ أي استولى عليه واحتوى وأحرزه، ولا يراد بذلك الجلوس. قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
أراد بذلك بشر بن مروان، واستواءه على العراق: لا الملك.
وقال بعضهم: لفظ الاستواء في الآية كناية عن نفاذ الأمر وعظم القدرة. وقيل: معناه: ثم أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه، وكذلك
ثم استوى إلى السمآء
[فصلت: 11] أي عمد إلى خلق السماء.
فإن قيل: ما معنى دخول { ثم } في قوله تعالى: { ثم استوى على العرش } ، و { ثم } تكون للحادث، واستيلاء الله تعالى واقتداره وملكه للأشياء ثابت فيما لم يزل ولا يزال؟ قيل: معناه: ثم رفع العرش فوق السماوات واستولى عليه. وإنما أدخل { ثم } متصلة في اللفظ بالاستواء؛ لأن الدلالة قد دلت من جهة العقل على أن اقتداره على الأمور ثابت فيما لم يزل. وهذا مثل قوله تعالى:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين
[محمد: 31] أي حتى يجاهد المجاهدون منكم ونحن عالمون بهم.
ويقال: معنى { ثم } هنا بمعنى الواو على طريق الجمع والعطف دون التراخي، فإن خلق العرش والاستيلاء عليه كان قبل خلق السماوات والأرض. وقد ورد في الخبر:
" أن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم اللوح، فأمر الله القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ثم خلق العرش، ثم خلق السماوات والأرض "
قوله تعالى: { يغشي اليل النهار }؛ أي يغشي بظلمة الليل ضوء النهار، ولم يقل: ويغشي النهار الليل؛ لأن الكلام دليل عليه، وقد بين في آية أخرى فقال: عز وجل:
يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل
[الزمر: 5]. وقرأ (يغشي) و(يغشي) بالتشديد والتخفيف. وقوله تعالى: { يطلبه حثيثا }؛ أي يطلب سواد الليل ضوء النهار سريعا؛ حتى يغلب بسواده بياضه، وكل واحد منهما في طلب صاحبه و تسييره ما بقيت الدنيا. والحث: السريع في السوق من غير فتور.
قوله تعالى: { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره }؛ أي وخلق منه الأشياء مذللات بالمسير في ساعات الليل والنهار، جاريات على مجاريهن بمنافع بني آدم بأمر الله وتدبيره وصنعه. ومن قرأ (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) كلها بالرفع فعلى الابتداء.
قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر }؛ كلمة تنبيه؛ معناه: اعلموا أن خلق الأشياء كلها لله، وأن الأمر - وهو القضاء - نافذ في خلقه. وقوله تعالى: { تبارك الله رب العالمين }؛ أي تعالى الله وهو ثابت لم يزل ولا يزال. ويقال: { تبارك } تفاعل من البركة؛ أي البركة كلها من الله تعالى، واسمه بركة لمن ذكره.
وقوله تعالى: { رب العالمين } أي خالق الخلق أجمعين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من لم يحمد الله على " ما عمل من " عمل صالح وحمد نفسه، قل شكره وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } "
قال الشاعر:
إلى الله كل الأمر في خلقه معاني
وليس إلى المخلوق شيء من الأمر
[7.55]
قوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية }؛ أي ادعوه علانية وسرا، فإن التضرع من الضراعة وهي إظهار شدة الحاجة. ويقال: معنى التضرع: التملق والتخشع والميل في الجهاد، يقال: ضرع يضرع ضرعا إذا مال بإصبعيه يمينا وشمالا خوفا وذلا.
قوله تعالى: { وخفية } أي أدعوا بالخضوع في السر دون العلانية فكأن الله تعالى أمر في الدعاء أن يجمع بين أن يخفيه وبين أن يفعله في غاية الخضوع والانقطاع إليه؛ لإن ذلك أبعد من الرياء.
وهذا القول أصح من الأول لقوله صلى الله عليه وسلم:
" خير الذكر الخفي "
وعن الحسن أنه قال: (كانوا يجتهدون في الدعاء فلا تسمع إلا همسا).
وعن عمر رضي الله عنه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لا يردهما حتى يمسح بهما وجهه "
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأشرفوا على واد، فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: " إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا؛ وإنه معكم " "
وقال الله عز وجل في مدح العبد الصالح ورضي دعاءه:
إذ نادى ربه ندآء خفيا
[مريم: 3].
قوله تعالى: { إنه لا يحب المعتدين }؛ أي لا يحب المتجاوزين في الدعاء. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إياكم والاعتداء في الدعاء، فإن الله لا يحب المعتدين "
واختلفوا في الاعتداء في الدعاء؛ قال بعضهم: هو أن يدعو باللعن والخزي، فيقول: لعن الله فلانا؛ أخزى الله فلانا. أو يدعوا بما لا يحل فيجاوز حد العبودية. وقال بعضهم: هو أن يسأل لنفسه منازل الأنبياء، أو يسأل الله شيئا من حكمته أنه يفعله في الدعاء. وقيل: هو أن يقول: أسألك بحق جبريل وبحق الأنبياء أن تعطيني كذا. وقيل: هو أن يدعو بالصياح. وقيل: هو أن يعمل عمل الفجار ويسأل مسألة الأبرار.
[7.56]
قوله تعالى: { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها }؛ أي لا تفسدوا فيها بالشرك والمعصية بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل إليها، فأمروا فيها بالحلال ونهوا عن الحرام، فتصلح الأرض بالطاعة. وقيل: معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر عنها، ويهلك الحرث بمعاصيكم. وقيل: معناه: لا تجوروا في الأرض فتخربوها؛ لأن الأرض قامت بالعدل، وقد أصلحها الله بالنعمة.
قوله تعالى: { وادعوه خوفا وطمعا }؛ أي واعبده خائفين من عذابه؛ طامعين في رحمته وثوابه. وقال الربيع: { خوفا وطمعا } أي رغبا ورهبا. وقال ابن جريج: (خوف العدل وطمع الفضل). وقال عطية: (خوفا من النيران وطمعا في الجنان). وقال ذو النون المصري: (خوفا من الفراق وطمعا في التلاق).
قوله تعالى: { إن رحمت الله قريب من المحسنين }؛ معناه: إن إنعام الله قريب من المحسنين. ويقال: إن المحسن من أخلص حسناته من الإساءة. وإنما قال: { قريب } ولم يقل: قريبة؛ لأن الرحمة والعفو والغفران في معنى واحد، وما لم يكن فيه تأنيث حقيقي كنت بالخيار، إن شئت ذكرته وإن شئت أنثته.
وقال ابن جبير: (الرحمة هنا الثواب). وقال الأخفش: (هي المطر). فيكون القريب نعتا للمعنى دون اللفظ كقوله:
وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه
[النساء: 8] ولم يقل: منها؛ لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال، وكذلك قوله تعالى:
فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه
[يوسف: 76]، والصاع مذكر إلا أنه أراد به السرقة والسقاية. وقال الكسائي: (أراد إن إتيان رحمة الله قريب، كقوله:
وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا
[الأحزاب: 63]؛ أي لعل إتيانها قريب).
[7.57]
قوله تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته }؛ قرأ عاصم (بشرا) بالباء المضمومة والشين المجزومة؛ يعني أنه ينشر بالمطر، يدل عليه قوله:
الرياح مبشرات
[الروم: 46]. وقرأ (بشرا) بضم الباء والشين على جمع (بشر)؛ مثل نذر ونذير. وقرأ ابن عامر: (نشرا) بالنون المضمومة وإشكال الشين. وقرا حمزة والكسائي: (نشرا) بالنون المفتوحة، وحزم الشين على التخفيف. وقرأ مسروق: (نشرا) بفتحتين؛ أراد منشورا. وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو: (نشرا) بالنون المضمومة وضم الشين.
وقرأ بعضهم: (وهو الذي يرسل الريح) بلفظ الوحدان. واختار أبو عبيد لفظ الجماعة، وكان يقول: (كل ما في القرآن من الرياح ذكر فهو للرحمة، وما كان من ذكر الرياح أنثى فهو للعذاب). واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا هبت ريح:
" اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا ".
والنشر: جمع النشور؛ وهي الرياح التي تهب من كل جانب؛ فتثير السحاب كصبور وصبر. ومن قرأ (نشرا) بضمة واحدة فللتخفيف، كما يقال: رسل ورسل. ومن قرأ (نشرا) بنصب النون على معنى ننشر السحاب نشرا. والنشر خلاف الطي كنشر الثوب بعد طيه، قال الفراء: (النشر من الرياح: الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب). ومن قرا (بشرا) بالباء والضم؛ فهو جمع بشير.
قوله تعالى: { بين يدي رحمته } أي قدام المطر، وقوله تعالى: { حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت }؛ أي سقنا السحاب بأمر الله إلى أرض ليس فيها نبات، قال ابن عباس: (يرسل الله الرياح فتحمل السحاب، فتمر به كما يمر الرجل الناقة والشاة حتى تدر ثم تمطر، فيخرج بالمطر من كل الثمرات).
وقوله تعالى: { سقناه لبلد ميت } أو لأحيا بلدا ميتا لا نبات فيه. وقيل: لا تمطر السماء حتى يرسل الله أربعة أرياح: فالصبا تهيجه، والشمال تجمعه، والجنوب تدره، والدبور تصرفه.
قوله تعالى: { فأنزلنا به المآء }؛ أي بالسحاب، وقيل: بالبلد الميت الذي لا ماء فيه ولا كلأ، ينزل الله به المطر، { فأخرجنا به من كل الثمرات }؛ أي فيخرج به ألوان؛ { كذلك نخرج الموتى }؛ أي مثل ذلك الإخراج الذي ذكرناه في إحياء الأرض الميتة، كذلك نخرج الموتى من قبورهم يوم القيامة، { لعلكم } بما ينالكم، { تذكرون }؛ أي تستدلون على توحيد الله وأنه يبعث من في القبور.
وقال ابن عباس وأبو هريرة: (إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى، مطرت السماء أربعين يوما قبل النفخة الأخيرة مثل مني الرجال، فينبتون من قبورهم من ذلك المطر كما ينبتون في بطون أمهاتهم، وكما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح، ثم يلقي عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية - وهي نفخة البوق - جلسوا وخرجوا من قبورهم، وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم، كما يجد النائم إذا استيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا. فيناديهم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون).
[7.58]
قوله تعالى: { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه }؛ يعني: أن المكان الزاكي من الأرض يخرج ريعه بلا كد ولا عناء ولا مشقة فينتفع به؛ { والذي خبث }؛ ترابه؛ وهي الأرض السبخة، { لا يخرج }؛ ريعها؛ { إلا نكدا }؛ أي في كد وعناء. قال ابن عباس: (هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فإن، المؤمن يسمع الموعظة فينتفع بها، وينفعه القرآن كما ينفع المطر البلد الطيب، والكافر لا يسمع الموعظة ولا يعمل عملا من الطاعة إلا شيئا يسيرا).
والنكد في اللغة: هو القليل الذي لا ينتفع به. وقيل: معنى قوله تعالى: { لا يخرج إلا نكدا } أي عسرا قليلا بعناء ومشقة. وقرأ أبو جعفر: (نكدا) بفتح الكاف؛ أي بالنكد. وقيل: هي لغة في نكد، ويقرأ (نكد) بإسكانها لغة إيضا. ويقال: رجل (نكدا)؛ إذا كان عسرا ممتنعا من إعطاء الحق على وجه البخل.
قوله تعالى: { كذلك نصرف الآيات }؛ أي كما صرفنا لكم آية في إثر آية؛ هكذا نبين الآيات، { لقوم يشكرون }؛ نعم الله تعالى ويعتبرون بآياته وأمثاله.
[7.59]
قوله تعالى: { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه }؛ وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس. وكان نوح نجارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة، { فقال ياقوم اعبدوا الله }؛ أي وحدوه وأطيعوه، ولا تعبدوا معه غيره.
قوله تعالى: { ما لكم من إله غيره }؛ قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: (غيره) بالخفض نعتا للإله. وقرأ الباقون بالرفع على معنى: ما لكم إله غيره. وقيل: على نية التقديم وإن كان مؤخرا في اللفظ؛ تقديره: ما لكم غير الله من إله. وقوله تعالى: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } ، معناه إني أخاف عليكم إن لم تؤمنوا عذاب يوم القيامة. وقد يذكر الخوف ويراد به اليقين.
[7.60]
قوله تعالى: { قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين }؛ أي قال الأشراف والرؤساء من قومه: إنا لنراك يا نوح في ذهاب من الحق بين لنا لمخالفتك.
[7.61-62]
قوله تعالى: { قال يقوم ليس بي ضللة }؛ أي ليس بي ذهاب عن الحق فيما أدعوكم إليه، { ولكني رسول من رب العلمين } ، أي ولكن أرسلني رب العالمين الذي يملك كل شيء. وإنما لم يقل: ليست بي ضلالة؛ لأن معنى الضلالة الضلال. قوله تعالى: { أبلغكم رسالات ربي }؛ أي أؤدي إليكم ما حملني الله من الرسالة، وإنما قال: { رسالات } لأن الرسالة تتضمن أشياء كثيرة من الأمر والنهي؛ والترغيب والترهيب؛ والوعد والوعيد، فذكر تارة بلفظ يدل على الفعل؛ وتارة بلفظ يدل على الوحدان.
قرأ أبو عمرو: (وأبلغكم) بالتخفيف في جميع القرآن كقوله تعالى:
أبلغتكم رسالة ربي
[الأعراف: 79]، و
ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم
[الجن: 28]. وقرأ الباقون مشددا كما قال الله تعالى:
يأيها الرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
[المائدة: 67].
قوله تعالى: { وأنصح لكم } أي أنصح لكم فيما أدعوكم إليه وأحذركم منه. والنصح: إخراج الغش من القول والفعل، يقال: نصحته ونصحت له؛ وشكرته وشكرت له. قوله تعالى: { وأعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم إن لم تتوبوا من الشرك أتاكم العذاب.
[7.63]
قوله تعالى: { أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } الألف في أول هذه الآية ألف استفهام، دخل على واو العطف على جهة الإنكار، فبقيت الواو مفتوحة كما كانت. ومعناها: أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على آدمي منكم مثلكم تعرفون نسبه فيكم، { لينذركم }؛ أي ليعلمكم بموضع المخافة، { ولتتقوا }؛ الشرك والمعاصي، { ولعلكم ترحمون }؛ أي ولكي تطيعوا فترحموا.
[7.64]
قوله تعالى: { فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك }؛ أي فكذبوا نوحا فأنجيناه من الطوفان والمؤمنين الذين كانوا معه في السفينة، وكانوا نحوا من ثمانين إنسانا - كذا قال الكلبي - أربعين رجلا وأربعين أمرأة. وقيل: سام وحام ويافث وأزواجهم، وستة أناس غيرهم.
قوله تعالى: { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنآ }؛ أي بدلائلنا وآياتنا كما؛ { إنهم كانوا قوما عمين }؛ أي قد عموا عن الحق والإيمان. وواحد ال (عمين): عم؛ وهو الذي قد عمي عن الحق. وقيل: معناه: أنهم كانوا قوما جاهلين لأمر الله. وقيل (كفارا). وقيل: عمين عن نزول الغرق بهم.
[7.65]
قوله تعالى: { وإلى عاد أخاهم هودا }؛ أي وأرسلنا إلى عاد؛ وهم قوم من أهل اليمن، وكان اسم ملكهم عادا ، فنسبوا إليه، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. قوله تعالى: { أخاهم هودا } أي أخوهم في النسب لا في الدين، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وإنما أرسل الله إليهم منهم؛ لأنهم له أفهم وإليه أسكن. { قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون }؛ الآية ظاهرة المعنى.
[7.66-67]
قوله تعالى: { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة }؛ أي قال الأشراف والرؤساء الذين كفروا منهم: إنا لنراك في جهالة. والسفاهة في اللغة: خفة الحلم والرأي. وقوله تعالى: { وإنا لنظنك من الكاذبين }؛ يعني إنهم كذبوه في دعوى الرسالة ونزول العذاب بهم، { قال يقوم ليس بي سفاهة }؛ أي لبس بي جهالة، { ولكني رسول من رب العلمين }؛ إليكم فيما يأمركم به من عبادته وتوحيده. وفي الآية موضع أدب لخلق وتعلم من الله حسن جواب السفهاء؛ لأن هودا عليه السلام اقتصر على دفع ما نسبوه إليه بنفي ما قالوه فقط، ولم يقابلهم بشيء من الكلام القبيح، وكذلك فعله نوح عليه السلام؛ فقال: ليس بي ضلالة.
[7.68]
قوله تعالى: { أبلغكم رسلت ربي وأنا لكم ناصح أمين }؛ على التوبة. وقوله { ناصح } أي أدعوكم إلى التوبة، وقد كنت فيكم قبل اليوم أمينا، فكيف تتهمونني اليوم.
[7.69]
قوله تعالى: { أو عجبتم أن جآءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم }؛ قد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد قوم نوح }؛ أي واذكروا هذه النعمة العظيمة بأن أورثكم الأرض بعد هلاك قوم نوح.
والخلفاء: جمع الخليفة على غير لفظ الوحدان؛ لأن لفظه يقتضي أن يجمع على خلائف كما يقال: صحيفة وصحائف إلا أنه مثل ظريف وظرفاء. قوله تعالى: { وزادكم في الخلق بصطة }؛ أي فضيلة في الطول، قال ابن عباس: (أطولهم مائة ذراع، وأقصرهم ستون ذراعا). وقال وهب: (كان رأس أحدهم كالقبة العظيمة، وكان عين أحدهم يفرخ فيها السباع وكذلك مناخرهم). قوله تعالى: { فاذكروا ءالآء الله }؛ أي نعم الله عليكم واعملوا بما تقتضيه نعمه، { لعلكم تفلحون }؛ أي لتظفروا بالنجاة والبقاء.
[7.70]
قوله تعالى: { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا }؛ أي قالوا: يا هود؛ أتأمرنا أن نعبد ربا واحدا، ونترك ما كان يعبد آباؤنا من الآلهة، فقال لهم: إن لم تفعلوا ما آمركم به أتاكم العذاب، قالوا: { فأتنا بما تعدنآ }؛ أي تخوفنا من العذاب، { إن كنت من الصادقين }؛ أنك رسول من عند الله.
[7.71]
قوله تعالى: { قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب }؛ أي قد وجب عليكم من ربكم عذاب وسخط والرجس والرجز بمعنى واحد. قوله تعالى: { أتجدلونني في أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم }؛ أي تخاصمونني في آلهتكم وأنتم صنعتموها بأيديكم، { ما نزل الله بها من سلطان }؛ أي في عبادتها، { فانتظروا }؛ حصول العذاب بكم، { إني معكم من المنتظرين }؛ أن يهلككم الله بعذاب من عنده.
[7.72]
قوله عز وجل: { فأنجيناه والذين معه برحمة منا }؛ أي خلصناه من العذاب والذين معه بنعمة منا عليهم؛ وأمرناهم بالخروج من بين الكفار قبل إنزال العذاب عليهم؛ { وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا }؛ أي استأصلناهم بالريح العقيم، فما بقي منهم أحد. قوله تعالى: { وما كانوا مؤمنين } أي ما أهلكهم الله إلا وكان في علمه أنه لو لم يهلكهم ما كانوا مؤمنين.
فصل: وكانت قصة عاد وإهلاكهم على ما ذكره السدي وغيره من المفسرين: (أن عادا كان مساكنهم اليمن، وكان مساكنهم الأساف؛ وهي رمال يقال لها: رمل عالج ودهمان ونيران، ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا قد فشوا في الأرض. وقهروا أهلها بقوتهم التي أعطاهم الله إياها، وكانوا يعبدون الأوثان.
فبعث الله إليهم هودا نبيا عليه السلام من أوسطهم في النسب، وأفضلهم في الحسب، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يعبدوا غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه وقالوا: من أشد منا قوة؟! وتجبروا في الأرض وبطشوا بطشة الجبارين، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك.
وكان الناس في ذلك الزمان إذا أنزل بهم بلاء وجهد مضوا إلى البيت الحرام بمكة مسلمهم وكافرهم وسألوا الله الفرج، وكل الناس مسلمهم وكافرهم معظما لمكة حرسها الله، عارفا بحرمتها. وكان أهل مكة يومئذ العماليق، أبوهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح، وكان رئيس العماليق يومئذ بمكة رجلا يقال له: معاوية بن بكر، وكانت أمه من عاد.
فلما قحط المطر من عاد وجهدوا؛ قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة يستسقي، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال في سبعين رجلا، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو في خارج مكة، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان؛ وهما قينتان لمعاوية.
فلما رأى طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون من البلاء الذي أصابهم؛ شق ذلك عليه فقال: إخواني وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي، والله لا أدري ما أصنع بهم، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى حاجتهم، فيظنون أن ذلك لضيق مكانهم عنده، وقد هلك قومهم من وارئهم جهدا وعطشا، فشكا ذلك إلى قينتيه الجرادتين؟ فقالتا: قل شعرا لنغنيهم به لا يدرون من قاله، لعل ذلك يخرجهم. فقال: معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم
لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا
قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو
به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم أيامى
وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتهم الجرادتان بهذا، قال بعضهم لبعض: يا قوم، لقد أبطأتم على أصحابكم، فقوموا وادخلوا الحرم واستسقوا، فتقدموا إلى الحرم. فقام قيل بن عنز يستسقي في المسجد، فقال: اللهم إني لم أجيء لمريض فأداويه، ولا لأسير فأفاديه، اللهم اسقنا فإنا قد هلكنا، اللهم اسق عاد ما كنت تسقيهم وقال قومه: اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤالنا مع سؤله. فأنشأ الله سحابة بيضاء؛ وسحابة حمراء؛ وسحابة سوداء، ونودي: يا قيل؛ اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب ما شئت. فقال: اخترت السوداء لأنها أكثر السحاب ماء. فنودي: اخترت رمادا رمدا لا يبقي من آل عاد ولدا ولا شيوخا إلا صاروا همدا.
ثم ساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة والبلاء إلى عاد، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال لهم: المغيث. فلما رأوها فرحوا وقالوا: هذا عارض ممطرنا يقول الله تعالى:
بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها
[الأحقاف: 24-25] أي كل شيء مرت به، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما؛ أي دائبة. فكانت الريح تحمل الضعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم الحجارة، وكانوا قد حفروا لأرجلهم في الأرض وغيبوها إلى ركبهم، فجعلت الريح تدخل تحت أقدامهم، وترفع كل اثنين وتضرب بأحدهما على الآخر في الهواء، ثم تلقيهما في الوادي، والباقون ينظرون حتى رفعتهم كلهم، ثم رمت بالتراب عليهم، فكان يسمع أنينهم من تحت التراب. فاعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حضيرة، فما كان يصيبهم من الريح إلا ما يلين جلودهم وتلذ به أنفسهم.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ قال: [لما أراد الله إرسال الريح العقيم إلى عاد، أوحى الله إلى الريح أن تخرج إلى عاد فينتقم منهم، فخرجت على قدر منخر ثور حتى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب. فقالت الخزان: يا رب؛ لن يطيقها ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها. فأوحى الله: أخرجي على قدر خرق الخاتم، فخرجت على قدر ذلك]. قال السدي: (فلما بعث الله على عاد الريح العقيم ودنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فتبادروا إلى البيوت، فأخرجتهم الريح من البيوت حتى أهلكتهم على ما ذكرناه).
وعن علي رضي الله عنه أنه سأل رجلا من حضرموت: (هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه ندرة حمراء فيه أراك وسدر كثير في ناحية كذا من حضرموت؟) قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ والله إنك نعته نعت رجل قد رآه! قال: (إني لم أره؛ ولكني حدثت عنه). قال: يا أمير المؤمنين؛ وما شأنه؟ قال: فيه قبر هود عليه السلام).
وعن عبد الرحمن بن السائب؛ قال: (بين الركن والمقام وزمزم تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة). وفي بعض الأخبار: أنه كان إذا هلك قوم نبي ونجا هو ومن معه، أتى مكة بمن معه، فيعبدون الله فيها حتى يموتوا.
[7.73]
قوله تعالى: { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }؛ أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا في النسب. وثمود: اسم للقبيلة؛ سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا على عين قليلة الماء، وموضعهم بالحجر بين الشام والمدينة، والثمد: الماء القليل. وثمود في كتاب الله مصروف وغير مصروف، قال الله تعالى:
ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود
[هود: 68] فصرف الأول دون الثاني، فمن صرفه جعله اسما للحي؛ فيكون مذكرا سمي به مذكر، ومن لم يصرفه جعله اسما للقبيلة.
قوله تعالى: { قد جآءتكم بينة من ربكم }؛ أي دلالة فاصلة بين الحق والباطل من ربكم. وقوله تعالى: { هذه ناقة الله لكم آية }؛ إشارة إلى ناقة بعينها. قال ابن عباس: (أتاهم صالح عليه السلام بناقة من الصخرة الملساء بمسألتهم، فتحركت الصخرة بدعائه، فانصدعت عن ناقة عشراء، فلم يؤمنوا). وفي بعض الروايات: أخرج الله من الصخرة ناقة، خلفها سقبها الذي ولدته. قوله تعالى: { لكم آية } أي علامة لنبوتي، فتعتبروا وتوحدوا ربكم.
قوله تعالى: { فذروها تأكل في أرض الله }؛ أي دعوها ترتع في أرض الحجر من العشب، { ولا تمسوها بسوء }؛ أي بقتل أو ضرب أو مكروه، { فيأخذكم عذاب أليم }؛ أي مؤلم إن فعلتم ذلك.
[7.74]
قوله تعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد } أي واذكروا إذ استخلفكم في الأرض من بعد هلاك عاد، { وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا }؛ أي وأنزلكم في الأرض الحجر تبنون في سهولها قصورا في العيص، { وتنحتون الجبال بيوتا }؛ في طول الشتاء. وقيل: إنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون أن ينحتوا من الجبال؛ لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. قوله تعالى: { فاذكروا آلآء الله }؛ أي احفظوا نعم الله عليكم، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }؛ أي ولا تعملوا في الأرض بالمعاصي والدعاء إلى غير عبادة الله تعالى.
[7.75]
قوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه }؛ أي قال الأشراف الرؤساء منهم الذين تعظموا عن الإيمان به { للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه } للذين استضعفوا من المؤمنين: أتعلمون أن صالحا مرسل إليكم من ربه؟
وفي هذا ذم للكافرين من وجهين؛ أحدهما: الاستكبار؛ وهو رفع النفس فوق قدرها وجحود الحق. والآخر: أنهم استضعفوا من كان يجب أن يعظموه ويبجلوه. وفي؛ { قالوا }؛ أي قول قوم صالح: { إنا بمآ أرسل به مؤمنون }؛ مدح لهم حيث ثبتوا على الحق، وأظهروه مع ضعفهم من مقاومة الكفار.
[7.76]
وقوله تعالى: { قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون }؛ أي قال رؤساؤهم الذين تعظموا عن الإيمان بصالح عليه السلام: إنا بالذي صدقتم به من رسالته جاحدون.
[7.77]
قوله تعالى: { فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم }؛ معناه: فعقروا الناقة التي جعل الله لهم آية ودلالة على نبوة نبيهم، وقد كان صالح عليه السلام قال لهم: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء). وإنما أضافها إلى الله على التخصيص والتفصيل، كما يقال: بيت الله.
وقيل: أضيفت إلى الله بأنها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأنثى ولم تكن في صلب ولا رحم، ولم يكن للخلق فيها سعي. قوله تعالى: (آية) نصب على الحال. وقوله تعالى: { وعتوا عن أمر ربهم } أي تجاوزوا الحد في الكفر والفساد. { وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنآ }؛ به من العذاب على قتل الناقة، { إن كنت من المرسلين }.
[7.78]
قوله تعالى: { فأخذتهم الرجفة }؛ أي أخذتهم الزلزلة ثم صيحة جبريل عليه السلام كما قال الله تعالى:
فأخذتهم صاعقة العذاب الهون
[فصلت: 17]. والصاعقة: هي الاحتراق؛ أي احترقوا، { فأصبحوا في دارهم جاثمين }؛ أي ميتين قد همدوا رمادا جثوما. والجثوم: البروك على الركب. وقيل: معنى الصيحة والصاعقة واحد، فإن الصاعقة اسم لما يصعقون به؛ أي يموتون.
[7.79]
قوله تعالى: { فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم }؛ معناه: فأعرض صالح عنهم حين عقروا الناقة، وعرف أن العذاب يأتيهم وقال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم في أداء الرسالة إليكم، { ولكن لا تحبون النصحين }؛ أي من ينصح لكم.
قال ابن عباس: (فخرج صالح ومن معه من المؤمنين؛ وهم مائة وعشرة؛ حتى إذا فصل من عندهم وهو يبكي، التفت خلفه فرأى الدخان ساطعا، فعرف أن القوم قد هلكوا، وكان عددهم ألفا وخمسمائة. فلما هلكوا رجع صالح ومن آمن معه، فسكنوا ديارهم حتى توالدوا وماتوا فيها).
فإن قيل: قوله تعالى: { فتولى عنهم وقال يقوم } عطف على قوله:
فأصبحوا في دارهم جاثمين
[الأعراف: 78]؛ فكيف تكون الصيحة بعد هلاكهم؟ قيل: إن الفاء في قوله: { فتولى عنهم } للتعقيب والإخبار لا لترادف الحال، وهذا راجع إلى حال عقرهم الناقة، لكن الله ساق القصة في أمرهم إلى آخرها، ثم عطف على ذلك ما فعله صالح للكشف عن عذره في مسألة إنزال العذاب بهم بعد كثرة نصحه لهم وإصرارهم على فعلهم. وجواب إخوانه لا يمنع أن صالحا قال هذا القول بعد هلاك القوم ليعتبر بذلك من كان معه من المؤمنين.
فصل: وقصتهم ما حكاه السدي وغيره: (أن عادا لما هلكت عمرت ثمود بعدها، واستخلفوا في الأرض، فنزلوا فيها وكثروا، وكانوا في سعة من عيشهم، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى الله عز وجل حتى شمط وكبر ولا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون.
فلما ألح عليهم في الدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لقوله، فقال لهم: أي آية تريدون؟ فأشاروا له إلى صخرة منفردة من ناحية الحجر، وقالوا له: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة جوفاء عشراء، فإن فعلت آمنا بك وصدقناك.
فأخذ عليهم صالح عليه السلام المواثيق، ففعلوا، فصلى ركعتين ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم تحركت وانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء، كما وصفوا وهم ينظرون، ثم نتجت سقياء مثلها في العظم، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم.
فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء، فكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر يقال لها بئر الناقة، فما ترفعها حتى قد شربت كل ما فيها، لا تدع قطرة واحدة، ثم ترفع رأسها فتنفشج كما تنفحج لهم، فيحلبون ما شاءوا من لبنها، فيشربون ويدخرون، ويملأون آنيتهم كلها، ثم تصدر من على الفج الذي وردت منه؛ لأنها لا تعد أن تصدر من ماء ترد لضيقة.
قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة، فوجدته ستين ذراعا.
وكانوا إذا جاء يومهم وردوا الماء فيشربون ويسقون مواشيهم، ويدخرون من الماء ما يكفيهم اليوم الثاني، فكانوا كذلك، وكانت الناقة إذا رأتها مواشيهم تنفر منها، وكانت الناقة ترعى في وادي الحجر، فكبر ذلك على أهل المواشي منهم، فاجتمعوا وتشاوروا على عقر الناقة.
وكان في ثمود امرأة يقال لها: صدوق، وكانت جميلة الخلق غنية ذات إبل وبقر وغنم، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام، وكانت تحب عقر الناقة؛ لأنها أضرت بمواشيها، فطلبت من ابن عم لها يقال له: مصدع، وجعلت له نفسها إن عقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا، فأجابها إلى ذلك. ثم طلبت قدار بن سالف، وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه ولد زنى، ولكنه ولد على فراش سالف، فقالت له: يا قدار؛ أزوجك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان منيعا في قومه، فأجابها أيضا.
فانطلق قدار ومصدع فاستغووا غواة ثمود، فأتاهم تسعة رهط، فاجتمعوا على عقر الناقة، فأوحى الله إلى صالح: أن قومك سيعقرون الناقة. فقال لهم صالح بذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل. ثم تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. وقالوا: نخرج فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر، فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده قتلناه، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه، فإذا رجعنا قلنا: ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون؛ أي يعلمون أنا خرجنا في سفر لنا.
وكان صالح عليه السلام لا ينام في القرية، وكان له مسجد خارج القرية يقال له: مسجد صالح يبيت فيه، فإذا أصبح أتاهم ووعظهم، فإذا أمسى خرج إلى المسجد. فانطلقوا ودخلوا الغار، فلما كان بالليل سقط عليهم الغار فقتلهم، فلما أصبحوا رآهم رجل فصاح في القرية فقال: ما رضي صالح حتى قتلهم، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة).
وقال ابن إسحاق: (إنما اجتمع التسعة الذين عقروا الناقة، فقالوا: هلم لقتل صالح، فإن كان صادقا فأعجلنا قتله، وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته. فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة).
وقال بعضهم: انطلق قدار ومصدع وأصحابهما التسعة، فرصدوا الناقة حين صدرت على الماء، وقد كمن بها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل صخرة أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم خرج قدار فعقرها بالسيف، فجرت ترغو، ثم طعنها في لبتها ونحرها، وخرج أهل البلد واقتسموا لحمها. فلما رآها سقبها على ذلك، هرب يرغو فرغا ثلاثا ودموعه تنحدر حتى أتى الصخرة التي خلق منها، فانفتحت له فدخلها.
فبلغ صالحا عليه السلام عقر الناقة، فأقبل إليهم، فجعلوا يعتذرون إليه ويقولون: إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا.
فقال صالح: أنظروا؛ هل تدركون سقبها؟ فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا في طلبه فلم يجدوه، فقال صالح: يا قوم؛ لكل دعوة أجل؛ يا قوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب.
وقال ابن إسحاق: (عقروا الناقة وسقبها، وألقوا لحمه ولحم أمه، فقال لهم صالح: أبشروا بعذاب الله ونقمته. فقالوا له: وما علامة ذلك؟ قال: تصبحون غدا وجوهكم مصفرة، وبعد غد محمرة، وبعد ذلك مسودة. وكانوا عقروها يوم الأربعاء.
فأصبحوا يوم الخميس كأن وجوههم طليت بزعفران؛ صغيرهم وكبيرهم؛ وذكرهم وأنثاهم، فأيقنوا بالعذاب، وعلموا أن صالحا قد صدق، فطلبوه ليقتلوه، فهرب منهم واختفى في موضع فلم يجدوه، فجعلوا يعذبون أصحابه الذين آمنوا منهم ليدلوهم عليه.
فلما أصبحوا يوم الجمعة أصبحت وجوههم محمرة كأنها خضبت بالدماء؛ فصاحوا بأجمعهم وضجوا وبكوا، وعرفوا أن العذاب قد دنا إليهم، وجعل كل واحد منهم يخبر الآخر بما يرى في وجهه. ثم أصبحوا يوم السبت وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار والنيل، فصاحوا جميعا: ألا قد حضر العذاب.
فلما أصبحوا يوم الأحد، خرج المسلمون إلى صالح عليه السلام، فمضى بهم إلى الشام، فلما اشتد الضج يوم الأحد، أتتهم صيحة من السماء عظيمة، فيها صوت كل صاعقة، فانفطرت قلوبهم في صدورهم وتقطعت، فلم يبق منهم كبير ولا صغير إلا هلك، كما قال الله تعالى:
إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر
[القمر: 31].
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما؛ قال:
" لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك - يعني مواضع ثمود - قال لأصحابه: " لا يدخلن أحد منكم هذه القرية إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم " ثم قال: " لا تسألوا رسولكم الآيات، فإن هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث الله إليهم الناقة، فكانت ترد من هذا الفج؛ وتصدر من هذا الفج؛ فتشرب ماءهم يوم ورودها " وأراهم مرتقى الفصيل حين ارتقى، ثم أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير حتى جاوزوا الوادي ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنه قال لعلي رضي الله عنه: " أتدري من أشقى الأولين؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " عاقر الناقة ". ثم قال: " أتدري من أشقى الآخرين؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: " قاتلك! " ".
[7.80]
قوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين }؛ معناه: وأرسلنا لوطا إذ قال لقومه: أتأتون السيئة؛ وهي إتيان الذكور في الأدبار. والفاحشة: السيئة العظيمة القبح. وقوله تعالى: { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } أي لم يفعلها أحد قبلكم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أول ما عملوا عملهم الخبيث أن خصبت بلادهم فانتجعها أهل البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شاب ، ثم دعا إلى دبره فنكح، فعبثوا بذلك العمل زمانا، فلما كثر فيهم عجت الأرض إلى ربها، فسمعت السماء فعجت إلى ربها، فسمع العرش فعج إلى ربه، فأمر الله السماء أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم).
[7.81]
وقوله تعالى: { إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء }؛ أي إنكم لتأتون الرجال في أدبارهم شهوة، وتتركون إتيان النساء التي أباح الله لكم، { بل أنتم قوم مسرفون }؛ أي متجاوزون عن الحلال إلى الحرام.
[7.82]
قوله تعالى: { وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } أي ما كان جوابهم إذ قالوا لهم ذلك، إلا أن قالوا؛ أي قال بعضهم لبعض: أخرجوا لوطا ومن آمن معه من بلدكم، { إنهم أناس يتطهرون } أي يتنزهون عن فعلنا ويقذروننا. والعرب تسمي المدينة قرية.
[7.83]
قوله تعالى: { فأنجيناه وأهله إلا امرأته }؛ أي خلصناه وابنتيه زعوراء وريئياء. وأهل الرجل: هم المختصون به اختصاص القرابة، وقوله: { إلا امرأته } أي إلا زوجته كانت على دينهم، وقوله تعالى: { كانت من الغابرين }؛ أي من الباقين في الغبراء؛ غبرت فيمن غبر. ومعناه: بقيت في العذاب ولم تذهب معه، فهلكت مع القوم فيمن هلكوا.
[7.84]
قوله تعالى: { وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين }؛ قال ابن عباس: (أمطرت الحجارة على مسافرهم وعلى الذين لم يكونوا معهم بالمدينة حتى هلكوا، فأما المدينة فقد جعل الله عاليها سافلها). ويقال: أمطروا أولا بالحجارة، ثم خسفت بهم الأرض.
وأما الألف في قوله: { وأمطرنا }؛ قال بعضهم: يقال لكل شيء من العذاب: أمطرت بالألف؛ وللرحمة: مطرت. وقال بعضهم: أمطرت ومطرت بمعنى واحد. قوله تعالى: { فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } أي فانظر من معك في آخر أمر الكافرين المكذبين كيف فعلنا بهم.
[7.85]
قوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره }؛ معناه: ولقد أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا. قال الضحاك: (كان شعيب أفضلهم نسبا؛ وأصدقهم حديثا؛ وأحسنهم وجها) يقال: إنه بكى من خشية الله حتى ذهب بصره وصار أعمى. وأما مدين؛ فإنه مدين بن إبراهيم خليل الله، تزوج رئياء بنت لوط؛ فولدت له وكثر نسله، فصارت مدين مدينتهم أو قبيلتهم.
قوله تعالى: { قد جآءتكم بينة من ربكم }؛ أي برهان ودلالة من ربكم على نبوتي، { فأوفوا الكيل والميزان } ، أي أدوا حقوق الناس بالمكيال والميزان على التمام، { ولا تبخسوا الناس أشياءهم }؛ أي ولا تنقصوا شيئا من حقوقهم، { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } أي لا تعلوا فيه بالمعاصي بعد إصلاح الله إياها بالمحاسن.
وقيل: معناه: لا تظلموا الناس في الأرض بعد أن من الله فيها بالعدل، { ذلكم خير لكم }؛ أي إيفاء الحقوق وترك الفساد في الأرض خير لكم، { إن كنتم مؤمنين }؛ أي مصدقين بالله ورسوله. وقد كان لشعيب عليه السلام آية تدل على نبوته، كما قال تعالى: { قد جآءتكم بينة من ربكم } إلا أنها لم تذكر في القرآن كما أن أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم " ليست " مذكورة في القرآن.
[7.86]
قوله تعالى: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به }؛ أي لا تقعدوا على طريق تخوفون وتصرفون عن دين الله وطاعته من آمن بالله، وذلك أنهم كانوا يخوفون بالقتل كل من قصد شعيبا بالإيمان به. وقوله تعالى: { وتبغونها عوجا }؛ أي تطلبون بها غيرا وزيغا وعدولا عن الحق.
قوله تعالى: { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم }؛ أي احفظوا نعم الله عليكم إذ كنتم قليلا في العدد { فكثركم } فكثر عددكم، ويقال: معنى { فكثركم }: جعلكم أغنياء ذوي قدرة بعد أن كنتم ضعفاء فقراء.
وقوله تعالى: { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين }؛ أي تفكروا كيف كان آخر أمر من كان قبلكم من الكفار في إهلاك الله تعالى لهم، وإنزال العذاب بهم، فتحذروا من سلوك مسالكهم.
[7.87]
قوله تعالى: { وإن كان طآئفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطآئفة لم يؤمنوا }؛ معناه: وإن كان جماعة منكم صدقوا بالذي أرسلت به، وجماعة لم يصدقوا، { فاصبروا حتى يحكم الله بيننا }؛ أي حتى يقضي الله بين المؤمنين والكافرين، { وهو خير الحاكمين }؛ وهو أعدل القاضين؛ سيجزي كل واحد من الفريقين ما يستحقه على عمله في الدنيا والآخرة. فقضى الله بهلاك قوم شعيب.
[7.88]
قوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يشعيب والذين آمنوا معك من قريتنآ أو لتعودن في ملتنا }؛ أي قال الذين تعظموا عن الإيمان به: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لترجعن إلى ديننا، ولا ندعكم في أرضنا على مخالفتنا. { قال }؛ شعيب: { أولو كنا كارهين }؛ معناه: أتعيدوننا في ملتكم وتجبروننا على ذلك وإن كرهنا.
فإن قيل: كيف قالوا لشعيب: { أو لتعودن في ملتنا } وشعيب عليه السلام لم يكن في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر في حال من الأحوال؟ قيل: يجوز أن يكون المراد بهذا الخطاب قومه الذين كانوا على ملتهم؛ فأدخلوه معهم في الخطاب. ويحتمل أنهم توهموا أن شعيبا كان على ملتهم؛ لأنهم لم يروا منه المخالفة لهم إلا في وقت ما دعاهم إلى نبوته.
[7.89]
قوله تعالى: { قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها }؛ أي قد اختلقنا على الله الكذب فيما دعوناكم إليه إن عدنا في ملتكم بعد إذ خلصنا الله منها بالدلالة على بطلانها وتبيين الحق لنا وقبولنا له. قوله تعالى: { وما يكون لنآ أن نعود فيهآ إلا أن يشآء الله ربنا }؛ قال بعضهم: معناه: ما نعود فيها إلا أن يكون في علم الله ومشيئته أن نعود فيها.
وقال بعضهم: معناه: إلا أن يشاء الله أن نكره عليها بالقتل، فنظهر كلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان. قوله تعالى: { وسع ربنا كل شيء علما }؛ أي أحاط ربنا بكل شيء علمه، فهو يعلم ما هو أصلح لنا فيتعبدنا به، وهو يعلم بأنا هل ندخل في ملتكم أو لا ندخل.
قوله تعالى: { على الله توكلنا }؛ أي به وثقنا في الانتصار عليكم، قوله تعالى: { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق }؛ أي اقض بيننا وبينهم بما يدل على أنا على الحق وهم على الباطل، { وأنت خير الفاتحين }؛ والفاتح هنا: الحاكم بلغة أهل عمان؛ يسمى فاتحا؛ لأنه يفتح المشكلات ويفصل الأمور. ويجوز أن يكون معنى الفتح : أظهر أمرنا بإهلاك العدو حتى ينفتح ما بيننا وبينهم؛ أي يظهر ويكشف.
[7.90]
قوله تعالى: { وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون }؛ معناه: قال الأشراف الذين كذبوا شعيبا: لئن اتبعتم شعيبا فيما دعاكم إليه إنكم إذا بمنزلة من ذهب رأس ماله لإفنائكم العمر في ترك الشهوات، فتكونون مغبونين جاهلين.
[7.91]
قوله تعالى: { فأخذتهم الرجفة }؛ أي الزلزلة الشديدة. وقال ابن عباس: (رجفت بهم الأرض وأصابهم حر شديد، ورفعت لهم سحابة، فخرجوا إليها يطلبون الروح منها، فلما كانوا تحتها سالت عليهم بالعذاب ومعه صيحة جبريل عليه السلام. قوله تعالى: { فأصبحوا في دارهم جاثمين }؛ أي بقرب دارهم تحت الظلة كما قال تعالى:
فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم
[الشعراء: 189] وقوله تعالى: { جاثمين } أي ميتين على وجوههم وركبهم. وروي: أنهم احترقوا تحت السحابة، فصاروا ميتين بمنزلة الرماد الجاثم أجسام ملقاة على الأرض.
قال ابن عباس: (فتح الله عليهم بابا من جهنم، فأرسل عليهم منه حرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا جوف البيوت، فلم ينفعهم ماء ولا ظل، فأنضجهم الحر، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة. فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة، فتنادوا: عليكم بها؛ فخرجوا نحوها، فلما اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم؛ ألهبها الله نارا عليهم، ورجفت بهم الأرض؛ فأحرقوا كما يحترق الجراد المقتول وصاروا رمادا، وهو عذاب يوم الظلة).
[7.92]
قوله تعالى: { الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها }؛ يقول الله تعالى: الذين كذبوا شعيبا كأن لم ينزلوا في دارهم. ويقال معنى { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يقيموا فيها مقام المستغني. ويقال: معناه: كأن لم يعيشوا ولم يكونوا. قال الأصمعي: (المغنى: المنزل؛ والمغاني المنازل التي كانوا فيها، يقال: غنينا بمكان كذا؛ أي نزلنا فيه).
وقوله تعالى: { الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين }؛ فيه بيان أن الخسران حل بهم دون المؤمنين، وإنما أعاد ذكر { الذين كذبوا شعيبا } للتغليظ عليهم.
[7.93]
قوله تعالى: { فتولى عنهم وقال يقوم لقد أبلغتكم رسلت ربي ونصحت لكم فكيف ءاسى على قوم كفرين }؛ معناه: فلما رأى العذاب مقبلا عليهم أعرض عنهم بعد الإياس منهم، وخرج من بين أظهرهم. وقوله: { فكيف ءاسى على قوم كفرين } أي كيف يشتد جزعي على قوم كافرين حل بهم العذاب باستحقاقهم له بعد أن نصحتهم فلم يقبلوا. والأسى: الحزن؛ والأسى: الصبر.
[7.94]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأسآء والضرآء لعلهم يضرعون }؛ أي وما أرسلنا في مدينة من رسول فكذبوا إلا عاقبنا أهلها بالبأساء والضراء. فالبأساء: ما نزل بهم من الشدة في نفوسهم، والضراء: ما نزل فيهم من الضرر في أموالهم. وقيل على عكس هذا، وقيل: البأساء: البؤس والشدة وضيق العيش، والضراء: الفقر والجوع. قوله تعالى: { لعلهم يضرعون } أي لكي يتضرعوا ويتوبوا.
[7.95]
قوله تعالى: { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا }؛ أي ثم حولنا مكان الشدة والكرب العاقبة والخصب والسعة حتى كثروا وكثرت أموالهم ومعاشهم. وإنما سميت الشدة سيئة؛ لأنها تسوء الإنسان؛ كما الإحسان حسنة؛ لأنه يحسن أثره على الإنسان، وإلا فالسيئة هي الفعلة القبيحة، والله تعالى لا يفعل القبيح.
وقال الحسن: { عفوا } أي سمنوا؛ وأراد به السمن في المال لا في تعظيم الجسم). وقال قتادة: { حتى عفوا } حتى أشروا وبطروا ولم يشكروا ربهم). وأصله من الكثرة؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" احفوا الشوارب وأعفوا اللحية "
قال الشاعر:
عفوا من بعد إقلال وكانوا
زمانا ليس عندهم بعير
وقال ابن عباس: { حتى عفوا } أي جموا. وقال ابن زيد: (حتى كبروا كما يكبر النبات والريش).
قوله تعالى: { وقالوا قد مس آباءنا الضرآء والسرآء }؛ أي قالوا: هكذا عادة الزمان؛ أي يسيء تارة ويحسن أخرى، وهكذا كانت عادته مع آبائنا. فثبتوا على دينهم ولم يقيلوا عنه، فاثبتوا أنتم على دينكم ولا تقيلوا عنه يقول الله تعالى: { فأخذناهم بغتة }؛ أي أخذناهم بالعذاب فجأة، { وهم لا يشعرون } أي من حيث لا يشعرون بالعذاب. والمعنى: أخذناهم بالعذاب وهم في أمن وهم لا يشعرون بنزوله.
[7.96]
قوله تعالى: { ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السمآء والأرض }؛ معناه: لو أن أهل القرى الذين أهلكناهم بتكذيبهم الرسل قالوا: آمنا بالله وبالرسل واتقوا الشرك والمعاصي لفتحنا عليهم بركات نامية من السماء وهي المطر؛ ومن الأرض وهي النبات والثمار، { ولكن كذبوا }؛ الرسل؛ { فأخذنهم }؛ بالعذاب؛ { بما كانوا يكسبون }؛ من المعاصي.
وفي الآية دلالة أن الكفاية والسعة في الرزق من سعادة المرء؛ أي إذا كان شاكرا. والمراد بقوله:
لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة
[الزخرف: 33] الكثرة التي تكون وبالا على من لا يشكر الله تعالى.
[7.97]
قوله تعالى: { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نآئمون } معناه: أفأمن أهل القرى المكذبة لك يا محمد أن ينزل بهم عذابنا ليلا وهم نائمون في فرشهم ومنازلهم، لا يشعرون بالعذاب لغفلتهم.
[7.98]
قوله تعالى: { أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون } معناه: أوأمن أهل القرى المكذبة لك أن يأتيهم عذابنا نهارا وهم مشغولون بلهوهم ولعبهم. والضحى: صدر النهار عند ارتفاع الشمس.
[7.99]
قوله تعالى: { أفأمنوا مكر الله }؛ معناه: أبعد هذا كله أمنوا عذاب الله لهم من حيث لا يعلمون. وإنما سمي العذاب مكرا على جهة الاتساع والمجاز؛ لأن المكر ينزل بالممكور من الماكر من حيث لا يشعر، وأما المكر الذي هو الاحتيال للإظهار بخلاف الإضمار؛ فذلك لا يجوز على الله. قوله تعالى: { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }.
فإن قيل: أليس الأنبياء قد أمنوا عذاب الله وليسوا من القوم الخاسرين؟ قيل: معنى الآية: لا يأمن عذاب الله من المذنبين. والأنبياء صلوات الله عليهم لا يأمنون عذاب الله على المعصية؛ ولهذا لا يعصون بأنفسهم.
[7.100]
قوله تعالى: { أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلهآ أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم }؛ قرأ قتادة: (أولم نهد) بالنون على التعظيم، ومعنى الآية: أولم يبين الله للذين يخلفون في الأرض من بعد أهلها الذين أهلكهم الله بتكذيبهم الرسل. وقوله تعالى: { أن لو نشآء أصبناهم بذنوبهم } أي أولم نبين لهم مشيئتنا أصبناهم بعقاب ذنوبهم، كما أخذنا من كان قبلهم بذنوبهم.
وقوله تعالى: { ونطبع على قلوبهم }؛ أي نختم عليها عقوبة لهم، وليس هو عطفا على { أصبناهم } لأنه لو عطف عليه لقال: ولطبعنا؛ لأن قوله: { أصبناهم } على لفظ الماضي، وكان معنى { ونطبع }: ونحن نطبع. ومعنى الختم على قلوبهم: بأنهم لا يؤمنون على جهة الذم. وقوله تعالى: { فهم لا يسمعون }؛ أي لا يقبلون الوعظ.
[7.101]
قوله تعالى: { تلك القرى نقص عليك من أنبآئها }؛ أي تلك القرى التي أهلكنا أهلها بجحودهم لآيات الله نقص عليك يا محمد في القرآن من أخبارها كيف أهلكت؛ لما في ذلك من العبرة لمن تدبر حالهم. { ولقد جآءتهم رسلهم بالبينت }؛ أي بالحجج والبراهين القاطعة التي لو اعتبروا بها لاهتدوا.
وقوله تعالى: { فما كانوا ليؤمنوا }؛ قال مجاهد (معناه: فما أهلكناهم إلا وقد كان معلومنا أنهم لا يؤمنون أبدا). وقال الحسن: (معناه: فما كانوا ليؤمنوا لعتوهم وتمردهم في الباطل)، { بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكفرين }؛ أي على قلوب الكافرين بك.
ومعنى الآية: { تلك القرى } أي هذه القرى التي ذكرت لك يا محمد أمرها وأمر أهلها، يعني قرى قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وشعيب. وقوله تعالى: { فما كانوا ليؤمنوا } قال أبي بن كعب: (معناه: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيئ الرسل لما سبق في علم الله أنهم يكذبون).
[7.102]
قوله تعالى: { وما وجدنا لأكثرهم من عهد }؛ أي ما وجدنا لأكثر المهلكين من وفاء فيما أمروا به. تقول العرب: فلان لا عهد له؛ أي لا وفاء له بالعهد. وهذا العهد المذكور في الآية يجوز ما أودع الله العقول من شكر النعمة؛ والقيام بحق المنعم؛ ووجوب طاعة المحسن. ويجوز أن يكون ما أخذ عليهم على ألسنة الرسل من هذه الأمور.
وقوله تعالى: { وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين }؛ أي إنا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد؛ تاركين لما أمروا به من الحلال والحرام. وأما دخول (أن) واللام في مثل هذا، فعلى وجه التأكيد كما يقال: إن ظننت زيدا لقائما، وتريد بذلك تأكيد الظن.
[7.103]
قوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم موسى بآيتنآ إلى فرعون وملإيه فظلموا بها }؛ معناه: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين سبق ذكرهم موسى بدلائلنا وحججنا من العصا واليد والطمس وغير ذلك إلى فرعون وأشراف قومه. ويعني بالرسل الذين بعث موسى من بعدهم: نوحا؛ وهودا؛ وصالحا؛ ولوطا؛ وشعيبا.
واسم (فرعون) أعجمي لا ينصرف؛ اجتمع فيه العجمة والتعريف، وكانوا يسمون كل من ملك مصر بهذا الاسم؛ واسمه: الوليد بن مصعب، وكان من القبط، وعمر أكثر من أربعمائة سنة. قوله تعالى: { فظلموا بها } أي جحدوا بالآيات. وسماه ظلما لأنهم جعلوا بدل وجوب الإيمان بها الكفر، وذلك من أبين الظلم.
قوله تعالى: { فانظر كيف كان عقبة المفسدين }؛ أي فانظر كيف صار آخر أمر المفسدين في العقاب. قال ابن عباس: (كان طول عصا موسى عشرة أذرع على طوله، فكانت من آس الجنة، وكان يضرب بها الأرض فيخرج بها النبات، ويلقيها فإذا هي حية تسعى، ويضرب بها الحجر فيتفجر، وضرب بها باب فرعون ففزع منها؛ فشاب رأسه؛ فاستحيا فخضب بالسواد، وأول من خضب بالسواد فرعون).
[7.104-105]
قوله تعالى: { وقال موسى يفرعون إني رسول من رب العالمين } وذلك أن موسى دخل على فرعون ومعه أخوه هارون، بعثهما الله إليه بالرسالة، فقال موسى: يا فرعون! إني رسول من رب العالمين. فقال له فرعون: كذبت! فقال موسى: { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق }؛ أي جدير بأن لا أقول على الله إلا الحق. وقرأ نافع: (علي) بالتشديد؛ أي واجب علي أن لا أقول على الله إلآ الحق.
وقوله تعالى: { قد جئتكم ببينة من ربكم }؛ أي برهان وحجة من ربكم، { فأرسل معي بني إسرائيل }؛ أي فأطلق بني إسرائيل، ولا تستعبدهم لأحملهم إلى الأرض المقدسة. وكان فرعون وقومه القبط يكلفون بني إسرائيل الأعمال الشاقة، مثل حمل الطين والماء وبناء المنازل وأشباه ذلك.
[7.106-108]
وقوله تعالى: { قال إن كنت جئت بآية } ، معناه: قال فرعون: إن كنت جئت بعلامة لنبوتك، { فأت بهآ إن كنت من الصادقين }؛ في أنك رسول الله؛ { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين }؛ أي ثعبان بين لا لبس فيه ولا تشبيه على أحد أنه ثعبان.
فالثعبان: الحية الصفراء الذكر الأشعر أعظم الحيات؛ لها عرف كعرف الفرس، روي أنها: ملأت دار فرعون، ثم فتحت فاها وأخذت قبة فرعون بين فكيها، وتضرع فرعون إلى موسى، وهرب الناس واستغاثوا بموسى، فأخذها موسى فإذا هي عصا بيده كما كانت.
قال ابن عباس والسدي: (لما فغرت فاها كان بين لحييها ثمانون ذراعا، وضعت لحيها الأسفل في الأرض، ولحيها الأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فوثب من سريره وهرب، وهرب الناس وانهزموا، وكانوا خمسة وعشرين ألفا.
فصاح فرعون: يا موسى! خذها وأنا أومن بربك، وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها؛ فعادت عصا كما كانت. فقال له فرعون: هل معك آية أخرى؟ قال: نعم؛ { ونزع يده فإذا هي بيضآء للناظرين }؛ أي فأدخل يده في جيبه؛ ثم نزعها فإذا هي بيضاء لها شعاع يغلب نور الشمس.
[7.109-110]
قوله تعالى: { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم }؛ أي قال الأشراف من قوم فرعون: إن هذا لساحر حاذق بالسحر { يريد أن يخرجكم من أرضكم }؛ أي قال الأشراف: يريد موسى أن يستميل قلوب بني إسرائيل إلى نفسه، ويتقوى بهم فيقتلكم ويخرجكم من بلادكم، { فماذا تأمرون } أي تشيرون في أمره. كأنهم خاطبوا فرعون، ويجوز أن يكون قوله: { يريد أن يخرجكم } من مقالة فرعون لقومه، ويعني بقوله: { من أرضكم } أرض مصر. وكان بين اليوم الذي دخل يوسف فيه مصر وبين اليوم الذي دخلها موسى فيه رسولا أربعمائة عام.
[7.111]
قوله تعالى: { قالوا أرجه وأخاه }؛ أي قالوا لفرعون: احبسه وأخاه إلى آخر أمرهما، ولا تعجل بقتلهما؛ فتكون عجلتك حجة عليك، { وأرسل في المدآئن حاشرين }؛ أي ابعث الشرط في المدائن التي حولك يحشرون السحرة إليك.
والسحر في اللغة: لطف الحيلة في إظهار الأعجوبة، وأصل ذلك من خفاء الأمر، ومن ذلك سمي آخر الليل سحرا لخفاء الشخص بفيء ظلمته، والسحر: الرئة؛ سميت بذلك لخفاء أمرها بانتفاخها تارة وضمورها أخرى.
[7.112-114]
قوله تعالى: { يأتوك بكل ساحر عليم }؛ قال ابن عباس: (كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم، وكان اللذان يعلمانهم مجوسيين من أهل نينوى). وقال محمد بن إسحاق: (كانوا خمسة عشر ألف ساحر، مع كل واحد منهم حبل وعصا). وقال كعب: (كانوا عشرين ألفا). وقال ابن المنكدر: (كانوا ثمانين ألفا). وقال مقاتل: (كان رئيس السحرة شمعون).
{ وجآء السحرة فرعون }؛ فلما اجتمعوا، { قالوا }؛ لفرعون: { إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين }؛ أي جعلا ومالا؛ { قال نعم وإنكم لمن المقربين }؛ عندي في المنزلة. قال الكلبي: (أي أول من يدخل علي وآخر من يخرج).
[7.115-116]
قوله تعالى: { قالوا يموسى إمآ أن تلقي وإمآ أن نكون نحن الملقين } أي قالت السحرة: يا موسى! إما أن تلقي ما معك من العصا، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال قبلك. { قال ألقوا }؛ ما معكم من الحبال والعصي، { فلمآ ألقوا }؛ ذلك؛ { سحروا أعين الناس واسترهبوهم }؛ أي أخذوا بها أعين الناس، واستدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس، { وجآءوا بسحر عظيم }؛ في أعين الناس.
وكانوا قد جعلوا فيها الزئبق بعد أن صوروها بصورة الحيات، فلما أوقفوها في الشمس اضطربت باضطراب ما فيها من الزئبق؛ لأنه لا يستقر؛ ومتى يزداد مكثه في الشمس زادت حركته، وخيل إلى موسى أن حبالهم وعصيهم حيات كما كانت عصا موسى عليه السلام.
فإن قيل: كيف يجوز من موسى عليه السلام أن يأمرهم بالإلقاء؛ وكان إلقاؤهم إرادة منهم مغالبة موسى؛ وذلك كفر؛ ولا يجوز على الأنبياء أن يأمروا بالكفر؟ قيل: معناه: ألقوا إن كنتم محقين على زعمكم. ويجوز أن يكون أمرهم بالإلقاء لتأكيد معجزته.
[7.117-119]
قوله تعالى: { وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك }؛ من يدك؛ فألقاها؛ { فإذا هي تلقف ما يأفكون }؛ أي تلتقم وتبتلع ما كانوا يكذبون أنها حيات. والإفك: الكذب. وقرئ: (تلقف) بجزم اللام خفيفة. وقرأ سعيد بن جبير: (تلقم).
قال ابن عباس: (لما كثرت حياتهم جعلت عصا موسى تزداد عظما حتى سدت الأفق، ثم فتحت فاها فابتلعت جميع ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، ثم هوت بذنبها فعلقته برأس قبة فرعون وهو فيها، وفتحت فاها لتبتلعه، فصرخ إلى موسى، فأخذها فإذا هي عصا كما كانت.
ونظر السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت، فذلك قوله تعالى: { فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون }؛ أي ظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون من السحر، وقال النضر بن شميل: (فوقع الحق) أي صدعهم وأفزعهم، { فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين }؛ أي رجعوا ذليلين.
[7.120-122]
قوله تعالى: { وألقي السحرة ساجدين }؛ قال الأخفش: (من شدة سرعة سجودهم؛ كأنهم ألقوا، وقد كانوا في اللوح المحفوظ سعداء شهداء). قوله تعالى: { قالوا آمنا برب العالمين }؛ فقال لهم فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: { رب موسى وهارون }؛ فبهت فرعون وندم على ما نالهم، فظهر للناس إنهم آمنوا بالله عز وجل.
[7.123]
قوله تعالى: { قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم }؛ أي قال لهم فرعون: أصدقتم برب موسى وهارون قبل أن آذن لكم في الأيمان، { إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منهآ أهلها }؛ أي إن هذا لشيء واطأتموه عليه حين يدعى النبوة، ثم تظهرون مخالفته في ابتداء الأمر، حتى إذا غلبكم أظهرتم موافقته بعد ذلك. أراد فرعون بهذا القول أن يموه على الناس؛ ليصرف وجوههم إلى نفسه، ثم قال للسحرة: { فسوف تعلمون }؛ ماذا ينزل بكم من النكال.
[7.124]
قوله تعالى: { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف }؛ أي لأقطعن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى من خلاف، { ثم لأصلبنكم أجمعين }؛ على شاطىء نهر مصر على جذوع النخل حتى تموتوا من الجوع والعطش والألم.
[7.125-126]
قوله تعالى: { قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون }؛ أي فقالت السحرة: إنا لا نبالي منء فعلك وعقوبتك، فإن مرجعنا إلى الله يوم القيامة، فإن الحياة وإن طالت؛ فإنها تختم بالممات، قوله تعالى: { وما تنقم منآ إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جآءتنا }؛ أي قالت السحرة: ما تعيب علينا ولا تنكر علينا إلا لأنا صدقنا بعلامات توحيد ربنا؛ لما ظهر لنا أن ذلك حق من الله.
ثم ألهموا الدعاء فقالوا: { ربنآ أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين } أي أصبب علينا صبرا وأنزله علينا؛ ووفقنا على الثبات على الإيمان إلى وقت الوفاة. قال ابن عباس: (فأخذ فرعون السحرة فقطعهم، ثم صلبهم على شاطئ نيل مصر، وخلى سبيل موسى وهارون ولم يتعرض لهما).
[7.127-128]
قوله تعالى: { وقال الملأ من قوم فرعون }؛ من القبط: { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض }؛ أي أتتركهم ليغيروا عليك دينك في أرض مصر ويدعو الناس إلى مخالفتك؛ فينتقض بذلك أمرك وملكك؛ { ويذرك وآلهتك }؛ أي يدعك ولا يعبدك؛ ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها.
قال الحسن: (كأن فرعون يستعبد الناس ويعبد الأصنام بنفسه). وقال السدي: (كان يعبد هو ما استحسن من البقر، ومنه أخذ السامري عبادة البقر).
وقيل: كان فرعون قد صنع أصناما صغارا، وأمر قومه بعبادتها، وقال: أنا رب هذه الأصنام الأعلى، وهم أربابكم.
وقرأ الحسن: (وما تنقم) بفتح القاف لغتان، قال الضحاك: (معناه: وما تطغى علينا). وقال عطاء: (ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا). وقرأ الحسن: (ويذرك) بالرفع عطفا على (أتذر). وقرأ ابن مسعود وابن عباس والضحاك: (وآلهتك) أي عبادتك، فلا يعبدك.
وقيل: أراد بالآلهة الشمس، وكان فرعون وقومه يعبدونها. وقال ابن عباس: (كان لفرعون بقرة يعبدها، وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فكذلك أخرج لهم السامري عجلا). وروي: أنه قيل للحسن: هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال: (نعم؛ كان يعبد تيسا).
قوله تعالى: { قال سنقتل أبنآءهم ونستحيي نسآءهم }؛ أي قال فرعون: سنعود إلى قتل ابنائهم واستخدام نسائهم عقوبة له كما كنا نفعل وقت ولادة موسى. وقوله تعالى: { وإنا فوقهم قاهرون }؛ أي مستعلون عليهم بالقوة.
فشكت بنو إسرائيل إلى موسى ف، { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } أي استيعنوا بالله على دفع بلاء فرعون عنكم، واصبروا على دينكم، { إن الأرض }؛ التي أنتم فيها؛ { لله يورثها }؛ أي يسكنها، { من يشآء من عباده }؛ فيورثكم هذه الأرض بعد إهلاك فرعون وقومه، { والعاقبة للمتقين }؛ أي آخر الأمر للذين يتقون الله. وقيل: أراد بالعاقبة الجنة في الآخرة. وقيل: النصر والظفر. وقيل: السعادة والشهادة.
[7.129]
قوله تعالى: { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن فرعون عاد إلى قتل أبنائهم، وزاد في إتعابهم في العمل، إذ كان يستعملهم قبل مجيء موسى بضرب اللبن والبناء، فلما أتاهم موسى غضب وكلفهم أيضا أشد من ذلك).
قال وهب: (جعلهم أصنافا في خدمته: قوم يحملون السواري من الجبال؛ وقد قرحت أعناقهم وعوانقهم ودبرت ظهورهم من ثقل ذلك، وقوم قد جرحوا من ثقل الحجارة والطين للبناء، وقوم يبنون الطين ويطبخون الآجر، وقوم نجارون، وقوم حدادون. وأما الضعفاء الذين لا يطيقون العمل؛ فجعل عليهم الخراج يؤدونه كل يوم، فمن خرجت عليه الشمس قبل أن يؤدي غلت يمينه إلى عنقه. وأما النساء فيغزلن الكتان وينسجنه).
فلما شكوا إلى موسى (قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا)، { قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم }؛ يعني فرعون وقومه، { ويستخلفكم في الأرض }؛ أي ويجعل لكم سكنا في أرض مصر من بعدهم. و(عسى) كلمة إطماع وما أطمع الله فيه فهو واجب؛ لأن الكريم إذا أطمع وإذا وعد وفى، فيصير كأنه أوجبه على نفسه. وقوله تعالى: { ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون }؛ أي فيرى عملكم كيف تشكرون صنعه، كأنه قال: ويستخلفكم في الأرض؛ لكي تعملوا بطاعة الله.
[7.130]
قوله تعالى: { ولقد أخذنآ آل فرعون بالسنين }؛ أي أخذنا قوم فرعون وأهل دينه بالجوع عاما بعد عام إلى تسعة أعوام. وآل الرجل: خاصته الذين يؤول أمره إليهم؛ وأمرهم إليه. والسنون في كلام العرب: الجدب؛ يقال: مستهم السنون؛ أي الجدب. وقوله تعالى: { ونقص من الثمرات } ، أي زيادة في القحط؛ لأن الثمار قوت الناس وغذاؤهم، { لعلهم يذكرون }؛ أي لكي يتعظوا فيؤمنوا، فلم يتعظوا. وقيل: أراد بقوله: { ونقص من الثمرات } الغلاء.
[7.131]
قوله تعالى: { فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه }؛ أي إذا جاءهم الخصب والخير قالوا: نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها، فمن عادة بلادنا أنها تأتي بالسعة والخصب. ولم يروا لك منا وتفضلا من الله، { وإن تصبهم سيئة }؛ جدوبة وقحط وبلاء وشدة؛ { يطيروا بموسى ومن معه }؛ أي يتشاءموا بموسى وأصحابه؛ فقالوا: أصابنا هذا البلاء من شؤم هؤلاء. والطيرة في اللغة: الشأمة كما روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره الطيرة "
والأصل في هذا: أن العرب كانوا يتفاءلون با لطير؛ فإن جاءهم طائر من جهة اليمين وهو السانح؛ تبركوا به، وإن جاءهم من جهة الشمال وهو البارح يتشاءموا به، ثم كثر قولهم في الطير حتى استعلموه في كل ما تشاءموا به. ومعنى الآية: { يطيروا بموسى ومن معه } أي تشاءموا بهم وقالوا: ما أصابنا بلاء حتى رأيناكم.
وقرأ طلحة (تطيروا) بالتاء وتخفيف الطاء على الفعل الماضي، قال سعيد بن جبير: (كان ملك فرعون أربعمائة سنة، فعاش ثلاثمائة سنة لا يرى مكروها، ولو رأى في تلك المدة جوع يوم، أو حمى يوم، أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية).
قوله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله }؛ معناه: الذي أصابهم من الخصب والجدب والخير والشر كل ذلك من عند الله، { ولكن أكثرهم لا يعلمون }؛ أنه أصابهم من عند الله. وقال ابن عباس: (معناه: ألا إنما مصابهم عند الله). وقال ابن جريج: (الأمر كله من قبل الله).
وقيل: معناه: ألا إنما الشؤم الذي يلحقكم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما نالهم من الدنيا، فإن القحط الذي هم فيه قليل في جنب عقوبة الآخرة. وقرأ الحسن: (ألا إنما طيرهم عند الله) بغير الألف، والمعنى واحد.
[7.132-133]
قوله تعالى: { وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها }؛ قال الخليل: (أصل (مهما): مأما، أبدلت الألف الأولى هآء لتخفيف اللفظ). وقال بعضهم: معنى (مه): أكفف. ثم قال: (ما تأتنا به) بمعنى الشرط؛ أي ما تأتنا به من علامة يا موسى { لتسحرنا بها } أي لتوهمنا أنها الحق، { فما نحن لك بمؤمنين } أي بمصدقين بالرسالة.
وكان موسى عليه السلام رجلا حديدا، فدعا عليهم؛ فأرسل عليهم الطوفان كما قال عز وجل: { فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم }؛ اختلفوا في الطوفان ما هو؟ قال الضحاك: (الغرق). وقال عطاء ومجاهد: (الموت الغالب الشائع). وقال وهب: (الطوفان: هو الطاعون بلغة أهل اليمن). وقال أبو قلابة: (هو الجدري؛ وهم أول من عذبوا به، وبقي في الناس إلى الآن). وقال الأخفش: (هو السيل الشديد). وقال مقاتل: (هو الماء طغى فوق حروثهم).
وقال بعضهم: هو كثرة المطر والريح. الأظهر ما قاله ابن عباس: (أنه المطر الدائم، أرسل الله المطر عليهم ليلا ونهارا من السبت إلى السبت، حتى خربت أبنيتهم، وكاد أن يصير المطر بحرا، فخافوا الغرق).
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: (لما آمنت السحرة واغتلب فرعون، وأبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر، أخذهم الله بالسنين، ونقص من الثمرات، فلما عالجهم موسى بالآيات الأربع: العصا؛ واليد؛ والسنين؛ ونقص من الثمرات، دعا فقال: يا رب! إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتى، وإن قومه قد نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك، ربي فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم من الأمم عبرة.
فبعث الله عليهم الطوفان؛ وهو الماء أرسله عليهم من السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشبكة مختلطة بعضها ببعض، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة واحدة، فأقام ذلك عليهم سبعة أيام.
فقالوا: يا موسى! أدع لنا ربك يكشف عنا المطر، فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه فكشف عنهم ذلك، وأرسل الريح فجففت الأرض، وخرج من النبات شيء لم يروا مثله، فقالوا: هذا الذي كنا نتمناه، وما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا. فلا والله لا نؤمن بك يا موسى، ولا نرسل معك بني إسرائيل.
فنقضوا العهد، وعصوا ربهم واقاموا على كفرهم شهرا، فبعث الله عليهم الجراد، وغشى مصر منه أمر عظيم حال بينهم وبين الماء وغطى الشمس؛ ووقع على الأرض بعضه على بعض ذراعا، فأكل جميع ما ينبت في الأرض؛ وأكل الأشجار؛ حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة؛ حتى مسامير الحديد، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه شيء، فعجلوا إلى موسى و؛ { وقالوا }: يا أيها الساحر! ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، وأرادوا بالساحر العالم يعظمونه.
فدعا موسى ربه، فكشف عنهم الجراد بعد أن أقام في أرضهم سبعة أيام فلم يبق في الأرض جرادة واحدة، ثم نظروا فإذا في بعض المواضع من نواحي مصر بقية من كلأ وزرع، فقالوا: هذا يكفينا بقية عامنا هذا، فلا والله لا نؤمن لك يا موسى ولا نرسل معك بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم القمل؛ وهم صغار الجراد يقال له الدباء. وقيل: أرسل الله عليهم سوس الحنطة، فمكث في أرضهم سبعة أيام، فلم يبق لهم عودا خضرا إلا أكله، ولحس جميع ما بقي في أرضهم.
وقال سعيد بن جبير: (القمل: هو السوس الذي يخرج من الحبوب). يقال: إن موسى عليه السلام أتى إلى كثيب من كثب قرى مصر، وكان كثيبا أهيل عظيما، فضربه بعصاه، فانبعث قملا، فأكل جميع ما على الأرض حتى لحسها، وكان يدخل بين ثيابهم وجلودهم، فينهشهم ويأكل أشعارهم وحواجبهم وأشعار عيونهم، ومنعهم النوم والقرار، وظهر بهم منه الجدري، وكان أحدهم لا يأكل لقمة إلا مملوءة قملا. فصرخوا إلى موسى: أدع لنا ربك في هذه المرة، ونعطيك عهودا ومواثيق لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل.
فدعا ربه فكشف عنهم بعد أن أقام سبعة أيام، ثم قالوا: وما عسى ربك أن يفعل بنا وقد أهلك كل شيء من نبات أرضنا، فعلى أي شيء نؤمن بك؟ إذهب فما استطعت أن تفعله فافعله! فدعا عليهم موسى، فأرسل الله عليهم الضفادع، خرجت عليهم من البحر مثل الليل الدامس، فملأت بيوتهم وطرقهم وأطعمتهم، فلا يكشف أحدهم طعاما ولا شرابا إلا وجد فيه الضفادع.
وكان الرجل إذا جلس تراكبت عليه الضفادع حتى يكون إلى فمه، فإذا هم أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فمه فانشدخت، وكان أحدهم إذا اضطجع تراكب عليه حتى يكونوا ركاما فوق الذراع بعضه على بعض، حتى لا يستطيع أن ينقلب إلى جنب آخر، ولا يقدر على القيام، وكان إذا فتح أحدهم فمه ليأكل لقمة وثبت الضفدع في فمه فسبقت اللقمة، وكانوا لا يوقدون نارا إلا امتلأت ضفادع، وكان بعضهم لا يسمع كلام بعض من كثرة صراخ الضفادع، وكانوا إذا قتلوا واحدا منها جاف ما حوله حتى لا يستطيعون الجلوس فيه).
قال عكرمة وابن عباس: (كانت الضفادع برية، فلما أرسلها الله على قوم فرعون سمعت وأطاعت، فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها بالماء، فلما ضاقت الأرض على قوم فرعون، عجوا وشكوا إلى موسى وبكوا؛ وقالوا: يا موسى! هذه المرة نتوب ولا نعود، ونحلف لك لئن دفعت عنا هذه الضفادع لنؤمنن لك، فأخذ عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا ربه فكشفها عنهم بريح عظيمة نبذتها في البحر، فقال لهم موسى: ويحكم! أي لم تسخطون ربكم، أرسلوا معي بني إسرائيل.
فأبوا ونقضوا العهود والمواثيق وعادوا لكفرهم وتكذيبهم، فدعا عليهم، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وآبارهم دما أحمر عبيطا، وبنو إسرائيل في الماء العذب الطيب، وكان الإسرائيلي يستسقي ماء عذبا صافيا، فإذا أخذه القبطي تحول دما، وكانت القبطية تقول للإسرائيلية: مجي الماء من فمك إلى فمي، فكانت تمجه في فمها فيصير في فم القبطية دما عبيطا.
وكان فرعون يجمع بين الرجلين على الإناء الواحد؛ القبطي والإسرائيلي، فيكون مما يلي الإسرائيلي ماء، ومما يلي القبطي دم، وكان يستقيان من جرة واحدة، فيخرج للإسرائيلي ماء عذب زلال صافي، ويخرج للقبطي دم عبيط. وكان النيل ماؤه طيبا، فإذا أخذه القطبي عاد في إنائه وفي فمه دما.
فمكثوا على هذا سبعة أيام لا يشربون إلا الدم؛ حتى مات كثير منهم، ثم إن فرعون أجهده العطش واشتد به، فيأتون بأوراق الأشجار الرطبة، فيمصها فتصير دما عبيطا وملحا أجاجا، فكانوا لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم، فقال فرعون: أقسم بإلهك يا موسى! لئن كشفت عنا الدم لنؤمنن لك. فدعا موسى ربه، فأذهب عنهم الدم، وعذب ماؤهم، فعادوا لكفرهم إلى أن كان من أمر الغرق ما كان.
قوله تعالى: { آيات مفصلات }؛ أي دلالات واضحات بعضها منفصل من بعض، كل آية من السبت إلى السبت، وبين كل آيتين شهر. قوله تعالى: { فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين }؛ أي مقيمين على كفرهم، فمكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات.
[7.134]
قوله تعالى: { ولما وقع عليهم الرجز قالوا يموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك }؛ معناه: ولما وقع عليهم العذاب الذي تقدم ذكره من الطوفان وغيره. وقال عكرمة: (الرجز: الدم؛ لأنه نغص عيشهم). وقال ابن جبير: (هو الطاعون).
وذلك أن موسى أرى قومه وبني إسرائيل من بعد ما جاء قوم فرعون بالآيات الخمس: الطوفان وغيره، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأرسل عليهم الطاعون، فهلك منهم سبعون ألفا، فقال فرعون عند ذلك: (يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي بما تقدم به إليك أنه يجيب دعاءك إذا دعوته كما أجاب دعاءك في إنزال هذه الآيات، { لئن كشفت عنا الرجز }؛ أي هذا الطاعون. وقرأ سعيد بين جبير ومجاهد: (الرجز) وهما لغتان كالعصو والعصو. قوله تعالى: { لنؤمنن لك }؛ أي لنصدقنك، { ولنرسلن معك بني إسرآئيل }؛ أي لنطلقنهم من التسخير والأعمال الشاقة.
[7.135]
قوله تعالى: { فلما كشفنا عنهم الرجز }؛ أي العذاب، { إلى أجل هم بالغوه }؛ وهو الوقت الذي علم الله من حالهم أن صلاح غيرهم مقالهم إلى ذلك الوقت؛ يعني وقت الغرق، وقوله تعالى: { إذا هم ينكثون } يعني ينكثون العهد.
[7.136]
وقوله تعالى: { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا }؛ وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، فاستعار نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهم، وقلن: إن لنا خروجا إلى عيد. فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل، وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي، فبلغ الخبر فرعون، فركب ومعه ألفا ألف ومائتا ألف، فأدركهم فرعون حين طلعت الشمس، وانتهى موسى إلى البحر، فضرب البحر؛ فانفلق اثنا عشر طريقا، وكانت بنو إسرائيل اثنا عشر سبطا، فعبر كل سبط طريقا.
فأقبل فرعون ومن معه، فدخلوا بعدهم من حيث دخلوا، فلما صاروا جميعا في البحر، أمر الله البحر فالتطم عليهم فغرقوا، فقال بنو إسرائيل لموسى أن يريهم فرعون، فدعا ربه فلفظهم البحر ولفظ فرعون، فنظروا إليه وإلى من معه، فلا يقبل الماء غريقا بعد ذلك أبدا، ورجع موسى ببني إسرائيل، فسكنوا الأرض أرض مصر.
ومعنى قوله: { فأغرقناهم في اليم } أي في البحر بلسان العبرانية. وقوله تعالى: { بأنهم كذبوا بآياتنا } أي بتكذيبهم الآيات التسع التي أتاهم بها موسى: اليد؛ والعصا؛ والسنون؛ ونقص الثمرات؛ والطوفان؛ والجراد؛ والقمل؛ والضفادع؛ والدم. قوله تعالى: { وكانوا عنها غافلين }؛ أي عاقبناهم بتعرضهم لأسباب الغفلة.
[7.137]
وقوله تعالى: { وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض } التي كانوا فيها، { ومغاربها }؛ معناه: أورثنا القوم الذين كانوا يستضعفونهم القبط؛ وهم بنو إسرائيل مشارق الأرض التي كانوا فيها ومغاربها. وقيل: أراد بهذه الأرض الأرض المقدسة: الأردن وفلسطين، { التي باركنا فيها }؛ بارك الله فيها بكثرة المياه والأشجار والثمار، قال ابن عباس: (إن المياه كلها تخرج من تحت الصخرة التي ببيت المقدس).
قوله تعالى: { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرآئيل }؛ أي وتمت عدة ربك؛ يعني قوله تعالى:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
[القصص: 5] وقوله:
عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض
[الأعراف: 129]. قال ابن عباس: (فأهلك الله فرعون وقومه، وأورثهم أرض مصر والشام). وقوله: { بما صبروا }؛ أي بصبرهم على دينهم أن يرجعوا إلى دين فرعون.
قوله تعالى: { ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه }؛ من المكائد، وقوله تعالى: { وما كانوا يعرشون }؛ أي وما كانوا يبنون من البيوت والقصور والكروم والشجر، ويستخدمون بني إسرائيل في بنائها ورفعها. قرأ ابن عامر وأبو بكر: (يعرشون) بضم الراء، وهما لغتان فصيحتان.
[7.138-139]
قوله تعالى: { وجاوزنا ببني إسرآئيل البحر }؛ أي أمرناهم بمجاوزته ويسرناه عليهم حين خلفوا البحر وراءهم على سلامة، وذلك من أعظم نعم الله تعالى، { فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم }؛ أي يعبدون ويواظبون على عبادة أصنام لهم؛ وهو أهل الرقة؛ أناس كفروا بعد إبراهيم، مرت بهم بنو إسرائيل وهم قعود حول أصنامهم، { قالوا يموسى اجعل لنآ إلها }؛ نعبده، { كما لهم آلهة }؛ يعبدونها.
وفي هذا بيان غاية جهلهم وعنادهم، فإن الله خلصهم من عدوهم ونجاهم من الغرق، وقالوا هذا القول حين رأوا هؤلاء القوم يعبدون الأصنام.
قوله تعالى: { قال }؛ لهم موسى: { إنكم قوم تجهلون }؛ صفات الله وما يجوز عليه وما لا يجوز؛ أي لا يعرفون أن الذي يتخذ إلها هو خالق الأجسام. ثم بين أن هؤلاء سيهلكون ويهلك ما يعبدونه فقال: قال الله تعالى: { إن هؤلاء متبر ما هم فيه }؛ أي مهلك ما هم فيه؛ { وباطل }؛ وضلال؛ { ما كانوا يعملون } ، والتبار: هو الهلاك.
[7.140]
قوله تعالى: { قال أغير الله أبغيكم إلها }؛ أي قال لهم: أسوى الله أطلب لكم ربا تعبدونه، { وهو فضلكم على العالمين } ، عالمي زمانكم من القبط وغيرهم بعد ما كنتم مستعبدين أذلاء.
[7.141]
قوله تعالى: { وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب } أي يولونكم سوء العذاب { يقتلون أبنآءكم }؛ أي يذبحونهم، { ويستحيون نسآءكم }؛ أي يستبقونهم للاستخدام، { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم }؛ قرأ حمزة والكسائي: (يعكفون) بكسر الكاف والباقون بضمها وهما لغتان. وقرأ أهل الشام (وإذ أنجاكم من آل فرعون). وقرا الباقون على التكثير (أنجيناكم). وقوله تعالى: { يقتلون أبنآءكم } قرأ نافع بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير.
[7.142]
وقوله تعالى: { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر }؛ قال مجاهد: (كان الله وعد موسى أن يعطيه التوراة لثلاثين ليلة؛ يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة، كأنه قال شهرا وعشرة أيام).
وقال بعضهم: أمر الله موسى إلى موضع بينه له أن يعبده في ذلك الموضع ثلاثين يوما، يصوم النهار ويقوم الليل؛ لينزل عليه التوراة، فلما صام ثلاثين أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خرنوب، فقالت الملائكة: كنا نستنشق منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله أن يصوم عشرا بعد ذلك الخلوف، فذلك قوله { وأتممناها بعشر }. وقوله تعالى: { فتم ميقات ربه أربعين ليلة }؛ أي تم الوقت الذي أمر الله بالعبادة فيه أربعين ليلة.
قوله تعالى: { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي }؛ أي قال موسى لهارون قبل انطلاقه إلى الجبل الذي أمر بالعبادة فيه: قم مقامي في قومي، { وأصلح }؛ فيما بينهم، { ولا تتبع سبيل المفسدين } منهم، ولا ترض بعملهم، وذلك أن موسى كان يشاهد كثرة خلافهم حالا بعد حال، فأوصاه في أمرهم. ومن قرأ (هارون) بالرفع فمعناه : قال هارون.
[7.143]
قوله تعالى: { ولما جآء موسى لميقاتنا وكلمه ربه }؛ أي لما انتهى موسى إلى المكان الذي وقتنا له، وأمرناه بالسير إليه وهو مدين، وقوله تعالى: { وكلمه ربه } أي كلمه من غير ترجمان ولا سفير، كما كلم الأنبياء على ألسنة الملائكة.
فلما ناجاه ربه استحلى كلامه، واشتاق إلى رؤية ربه وطمع فيها، ف { قال رب أرني أنظر إليك }؛ أي اعطني أنظر إليك، { قال لن تراني }؛ ولست تطيق النظر إلي في الدنيا، فمن نظر إلي مات، فقال: إني سمعت كلامك واشتقت إلى رؤيتك، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك، فقال الله تعالى: { ولكن انظر إلى الجبل }؛ أي إلى أعظم جبل لمدين وهو جبل زبير، { فإن استقر مكانه فسوف تراني }.
قوله تعالى: { فلما تجلى ربه للجبل }؛ أي ظهر له من نوره ما شاء، ويقال ألقى عليه نورا من الأنوار، { جعله دكا }؛ أي كسره جبالا صغارا، تقطع الجبل من هيبة الله عز وجل، فصار ثماني فرق، أربع قطع منه وقعن بمكة: ثور وثبير وحراء وغار ثور، وأربع قطع وقعن بالمدينة: أحد وروق ورضوى والمهراس.
وقوله تعالى: { وخر موسى صعقا }؛ أي سقط مغشيا عليه، { فلمآ أفاق } من غشيته، { قال سبحانك }؛ أي تنزيها لك من قولي ومن كل سوء، { تبت إليك }؛ من مسألتي للرؤية، { وأنا أول المؤمنين } من أهل هذا الزمان إنك لا ترى في الدنيا.
وقال الحسن: (قال الله تعالى لموسى: أعرض رؤيتي على الجبل، فإن لم يحملها مع عظمه وبقائه على مر الزمان، فأنت أيضا لا تحملها). قال: (معنى قوله { فلما تجلى ربه للجبل } أي أوحى ربه). قال: (وما رأى موسى ربه قط، ولكن أوحى الله إلى الجبل هل تطيق رؤيتي، فساخ الجبل وموسى ينظر).
وقيل: إن الله تعالى أبرز من العرش مقدارا الظفر فتدكدك الجبل؛ لأن أجسام الدنيا لا تحتمل آيات القيامة والأجسام العلوية، إذ من حكم الدنيا أن تفنى بآيات القيامة، فلا تحتملها الدنيا.
وقرأ بعضهم (دكاء) بالهمز والمد؛ أي طار أعلى الجبل وبقي أسفله دكا، والدكأ واحد الدكوات؛ وهي روابي الأرض التي تكون ناشزة لا تبلغ أن تكون جبلا، وناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام. ويحتمل أن يكون معنى الدك دق الجبل على الأرض، يقال دكدكت الشيء اذا دققته. وقرأ عاصم (دكا) هاهنا بالقصر والتنوين، والتي في الكهف بالمد من غير تنوين، ومدهما حمزة والكسائي والباقين مقصورين منونين.
وقيل: لما سأل موسى ربه أرسل الله الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق، فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى وأمر الله ملائكته يعرضوا على موسى، فقال لهم: اهبطوا إلى عبدي موسى الذي أراد أن يراني، فهبطوا عليه في يد كل ملك منهم مثل النخلة الطويلة نارا شديدة الضوء أشد ضوءا من الشمس، ولباسهم كلهب النار، كلهم يقولون بشدة أصواتهم: سبوح قدوس رب العزة أبدا لا يموت، وفي رأس كل منهم أربعة أوجه.
فلما رآهم موسى فزع وجعل يسبح معهم وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك، فقال له رئيس الملائكة: اصبر لما سألت، ثم رفعت الملائكة أصواتهم، وارتج الجبل واندك وخر العبد موسى صعقا على وجهه، فلما أفاق قال: سبحانك آمنت وصدقت أنه لا يراك أحد في الدنيا، فإذا كان من نظر إلى ملائكتك انخلع قلبه، فما أعظمك يا رب.
وعن سهل: (أن الله تعالى أظهر من سبعين ألف حجاب نورا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا).
قوله تعالى: { وخر موسى صعقا } قال ابن عباس: (مغشيا عليه)، وقال قتادة (ميتا)، وقول ابن عباس أظهر؛ لأن الله تعالى قال { فلمآ أفاق } ولا يقال للميت: أفاق من موته، ولكن يقال: بعث من موته، كما قال تعالى في حديث السبعين
ثم بعثنكم من بعد موتكم
[البقرة: 56].
[7.144]
قوله تعالى: { قال يموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي }؛ أي قال الله: يا موسى إني اتخذتك صفوة برسالتي التي أرسلنا إليك وبكلامي معك من غير وحي، { فخذ مآ آتيتك }؛ أي اعمل بما علمتك من التوراة، { وكن من الشاكرين }؛ لما أعطيتك وأكرمتك.
[7.145]
قوله عز وجل { وكتبنا له في الألواح من كل شيء } أي في تسعة ألواح من الزبرجد الأخضر، وقيل: من الياقوت الأحمر أعطاها الله موسى وفيها التوراة كنقش الخاتم، طول كل لوح عشرة أذرع.
وقوله تعالى: { من كل شيء } يعني من أمور الدين، وقوله تعالى: { موعظة }؛ يعني ما يدعو إلى الطاعة، وزجر عن المعصية بالوعد والوعيد وأخبار الأمم الماضين. وقوله تعالى: { وتفصيلا لكل شيء }؛ معناه: لكل أمر من أمور الدين من الحلال والحرام والأمر والنهي.
قوله تعالى: { فخذها بقوة }؛ أي اعمل بها بجد في طاعة الله ومواظبة عليها. قوله تعالى: { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها }؛ أي أمر قومك يعملوا بأحسن ما بين لهم فيها؛ أي أمروا بالخير ونهوا عن الشر، وعرفوا ما لهم في ذلك، فمرهم يأخذوا بالأحسن. ويقال: مرهم يأخذوا بالفرائض والنوافل دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب. وقيل: معناه: (يأخذوا) بالناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: { سأوريكم دار الفاسقين }؛ أي سوف أريكم جهنم في الآخرة هي دار الخارجين عن طاعة الله، ويقال: أراد به ما مروا عليه في سفرهم من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا بالتكذيب.
وقال قتادة: (معناه سأدخلكم النار وأريكم منازل الكافرين). وقيل: معناه سأريكم دار فرعون وقومه وهي مصر.
[7.146]
قوله تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق }؛ أي سأجعل جزاء المتكبرين الذين لا يؤمنون بالمعجزة الإضلال عن الهدى، وعن معرفة ما أودع الله في الكتاب يقرؤونه ولا يفهمون ما أراد الله به.
وقيل: معناه: سأصرفهم عن الاعتراض على آياتي بالإبطال، وقيل: معناه: سأصرف عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة، ويعني بالذين يتكبرون في الأرض بغير الحق هم الذين يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم ما ليس لغيرهم.
قوله تعالى: { وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها }؛ معناه: وإن يروا كل آية تدل على وحدانية الله ونبوة الأنبياء لا يصدقوا بها، { وإن يروا سبيل الرشد }؛ أي سبيل الإسلام، { لا يتخذوه سبيلا } دينا لأنفسهم، يعني هؤلاء المتكبرين. وقرأ حمزة ومجاهد والأعمش والكسائي بالفتح الاستقامة في الدين، والرشد بضم الراء الاصلاح. وقرأ أبو عبدالرحمن: (وإن يروا سبيل الرشاد) بالألف. وقرأ مالك بن دينار: (وإن يروا) بضم الياء.
قوله تعالى: { وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا }؛ يحتمل أن يكون ذلك موضع الرفع على معنى أمرهم ذلك، ويحتمل أن يكون نصبا على معنى فعل الله ذلك بهم بتكذيبهم بآياتنا، قال مقاتل: (أراد بقوله بآياتنا التسع) كأنه ذهب إلى أنه هذا كله خطاب موسى. قال الكلبي: (معنى { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن) وذهب إلى أن قوله: { سأصرف } خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { وكانوا عنها غافلين }؛ أي عنها لاهين ساهين، لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها.
[7.147]
قوله تعالى: { والذين كذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة }؛ أي بالبعث بعد الموت، { حبطت }؛ بطلت، { أعمالهم }؛ التي عملوها على جهة البر، { هل يجزون }؛ في الآخرة، { إلا ما كانوا يعملون }؛ في الدنيا.
[7.148]
قوله تعالى: { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن موسى كان وعد قومه بالانطلاق إلى الجبل ثلاثين يوما، فلما تأخر رجوعه قال لهم السامري - وكان رجلا مطاعا -: إنكم اتخذتم الحلي من آل فرعون فعاقبكم الله بتلك الجناية، ومنع موسى عنكم، فاجمعوا حتى أحرقها؛ لعل الله أن يرد علينا موسى.
فجمعوا الحلي، وكان السامري صائغا، فجعل الحلي في النار واتخذ منه عجلا ونفخ فيه التراب الذي كان أخذه من أثر فرس جبريل، وكان ذلك الفرس فرس الحياة، ما وضع حافره في موضع إلا اخضر، فلما نفخ فيه شيئا من ذلك التراب صار عجلا جسدا له خوار، فعبدوه وزفوا حوله).
وقيل: إن السامري حين صاغ العجل جعل فيه خروقا تجري فيها الريح، فكان يسمع من تلك الخروق شبه الخوار، فأوهم بني إسرائيل أنه حي يخور.
قال الزجاج: (معنى قوله: { جسدا له خوار } أي جثة لا تعقل، ليس له روح ولا عقل ولا كلام إنما له خوار فقط). وأما إضافة الخوار إلى العجل في الآية فهو كما يقال: صوت الحجر، صوت الطشت وأما الحلي فهو جمع الحلية وهو ما يتزين به من ذهب وفضة. وقال علي رضي الله عنه: (له جؤار) بالجيم والهمز وهو الصوت.
وقوله تعالى: (حليهم) قرأ يعقوب بفتح الحاء وجزم اللام، وقرأ حمزة والكسائي (حليهم) بكسر الحاء واللام وتشديد الياء أتبعا الحاء كسرة اللام، وقرأ الباقون بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء وهما لغتان.
قوله تعالى: { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا }؛ معناه: ألم ينظروا إلى العجل لا يكلمهم بما يجري عليهم نفعا ويدفع عنهم ضرا، ولا يرشدهم طريقا إلى خير ليأتوه ولا الى شر لينتهوا عنه، ولو كان إلها لهداهم؛ لأن الإله لا يهمل عباده. قوله تعالى: { اتخذوه وكانوا ظالمين }؛ يجوز أن يكون معناه: لا يرشدهم الطريق الذي يتخذونه، ويجوز أن يكون ابتداء على معنى: عبدوه وكانوا بعبادتهم إياه ظالمين.
[7.149]
قوله تعالى: { ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا }؛ أي ندموا على عبادتهم العجل، ورأوا أنهم قد ضلوا عن الحق، { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا }؛ عملنا؛ { لنكونن من الخاسرين }؛ بالعقوبة. قال الزجاج: (يقال للنادم على ما فعل المتحسر على ما فرط منه: قد سقط فلان في يده. وأسقط بمعنى سقط الندم في أيديهم).
[7.150]
قوله تعالى: { ولما رجع موسى إلى قومه غضبن أسفا }؛ أي رجع موسى من الجبل إلى قومه شديد الغضب حزينا، { قال بئسما خلفتموني من بعدي }؛ فعلتم خلفي في غيبتي بعبادة العجل، { أعجلتم أمر ربكم }؛ معناه: أستبطأتم وعد ربكم الذي وعد في أربعين ليلة، { وألقى الألواح }؛ من يده التي كانت فيها التوراة وألقاها من يده، { وأخذ برأس أخيه يجره إليه }؛ قال ابن عباس: (أخذ رأسه بيده اليمنى ولحيته بيده اليسرى).
قوله تعالى: { قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني }؛ أي قهروني واستذلوني وهموا بقتلي، وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ولكنه قال (يا ابن أم) لترفقه عليه، وعلى هذه طريقة العرب.
قوله تعالى: { فلا تشمت بي الأعدآء }؛ لا تفرحهم علي ولا تظن أني رضيت بفعل القوم الظالمين، { ولا تجعلني مع القوم الظلمين }؛ فلا تجعلني مع عبدة العجل في الغضب علي، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى.
قرأ ابن عباس والكوفيون إلا حفصا (يا ابن أم) بكسر الميم هنا، وفي طه فحذفوا ياء الإضافة؛ لأن مبنى النداء على الحذف، وبقيت الكسرة على الميم دليلا على ياء الإضافة كقوله (يا عباد، ويا قوم)، وقرأ ابن السميقع (يا ابن أمي) باثبات الياء، وقرأ الباقون بفتح الميم على معنى يا ابن أماه.
وقوله تعالى: { استضعفوني } بعبادة العجل، وقوله تعالى: { فلا تشمت بي الأعدآء } ، قرأ مجاهد ومالك بن دينار: (فلا تشمت) بفتح التاء والميم، ورفع (الأعداء)، والشماتة هي سرور العدو.
فإن قيل: لم جاز لموسى أن يجر برأس هارون ولحيته، والانبياء لا يجوز لأحد أن يستخف بهم، وكان هارون نبيا؟ قيل: إن هذا كان منه على جهة العتاب لا على جهة الهوان. وقيل: لأنه أجراه مجرى نفسه من حيث أنهما كانا في النبوة والأخوة كالنفس الواحدة، وقد يقبض الإنسان عند الغيظ على لحية نفسه، ويعض إبهاميه وشفتيه، كما روي (أن عمر رضي الله عنه كان إذا حزبه أمر فتل شاربه).
إلا أن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى غضبان عليه كغضبه على من عبد العجل، فقال: { ابن أم إن القوم استضعفوني... } الآية. وقيل: إن موسى فعل هذا بهارون في حالة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، وكان ذلك صغيرة منه، كما ألقى الألواح لشدة الغضب، وكان الواجب عليه أن يعظمها.
[7.151]
قوله تعالى: { قال رب اغفر لي ولأخي }؛ ما كان منه من التقصير في رد القوم عن عبادة العجل، { وأدخلنا في رحمتك }؛ أي في جنتك، { وأنت أرحم الراحمين }؛ أي أرحم بنا منا، وأرحم بنا من أبنائنا وأمهاتنا.
[7.152]
قوله عز وجل: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم }؛ معناه: إن الذين اتخذوا العجل إلها سيصيبهم عذاب من ربهم في الآخرة. والغضب من الله: إرادة الانتقام على ما سلف. وقوله تعالى: { وذلة في الحياة الدنيا }؛ أراد به ما أمروا به من استسلامهم للفعل بقعودهم، { وكذلك نجزي المفترين } أي كما جزينا هؤلاء فكذلك نجزي الكاذبين على الله.
[7.153]
قوله تعالى: { والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا } قيل: أراد بالسيئات الشرك وسائر المعاصي إذا تاب صاحبها عنها، { إن ربك من بعدها لغفور رحيم }؛ ظاهر المعنى.
[7.154]
قوله تعالى: { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح }؛ أي سكن عن موسى الغضب وزالت قوة غضبه. وقيل: معناه: سكت موسى عن الغضب، وهذا من المقلوب، كما يقال: أدخلت قلنسوة في رأسي، يريد أدخلت رأسي في قلنسوة. وقوله تعالى: { أخذ الألواح } بعد ما كان ألقاها وبعد ما تكسرت، وذهب منها ستة أسباعها.
قوله تعالى: { وفي نسختها }؛ قال عطاء: (وفيما بقي منها ولم يذهب)، ويقال: معناه: فيما نسخه موسى مما تكسر. وقوله تعالى: { هدى ورحمة }؛ أي بيان من الضلالة ونجاة، { للذين هم لربهم يرهبون }؛ يخشون الله ويعملون بها.
[7.155-157]
قوله تعالى: { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا }؛ ومعناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت الذي وقتنا له يصحبهم مع نفسه عند الخروج إلى الميقات، فيشهدوا عند قومهم على سماع كلام الله، فإنهم كانوا لا يصدقون موسى في أن الله كلمه، وكانوا اثنى عشر سبطا، فاختار موسى من كل سبط ستة، وخلف منهم رجلين، وقال: إنما أمرت بسبعين فليرجع اثنان منكم، ولهما أجر من حضر، فرجع يوشع بن يونا وكالب بن يوقنا، وذهب موسى مع السبعين الى الجبل.
قوله تعالى: { فلما أخذتهم الرجفة }؛ أي الزلزلة الشديدة عند الجبل، { قال }؛ موسى: { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي }؛ أن حملتهم إلى الميقات، وأهلكتني معهم بقتل القبطي، وظن موسى أن الرجفة إنما أخذتهم بسبب عبادة بني إسرائيل العجل، فقال: { أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ } ثم قال: { إن هي إلا فتنتك }؛ يعني ما عبادة العجل إلا بليتك إذ صار الروح في العجل، { تضل بها }؛ بالفتنة، { من تشآء وتهدي من تشآء }.
قوله تعالى: { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا }؛ أي أنت ناصرنا وحافظنا ومتولي أمورنا فاغفر لنا ذنوبنا وارحمنا ولا تعذبنا، { وأنت خير الغافرين }.
وقيل: إن موسى عليه السلام لما هلك السبعون، جعل يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، وقد أهلكت خيارهم؟ فبعثهم الله كما قال:
ثم بعثنكم من بعد موتكم
[البقرة: 56] وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة.
قوله عز وجل: { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة }؛ يعني العلم والعبادة، وقوله تعالى: { وفي الآخرة }؛ أي واكتب لنا في الآخرة حسنة وهي الجنة. قوله تعالى: { إنا هدنآ إليك }؛ أي أنبنا ورجعنا بالتوبة، يقال: هاد يهود؛ إذا رجع، ولم يؤخذ اسم اليهود من هذا وإنما أخذ من تهود.
قوله تعالى: { قال عذابي أصيب به من أشآء }؛ من عبادي ممن هو أهل لذلك، { ورحمتي وسعت كل شيء }؛ يعني وسعت البر والفاجر. قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية تطاول لها إبليس وقال: أنا شيء من الأشياء، فأخرجه الله من ذلك بقوله: { فسأكتبها للذين يتقون } ) أي سأوجبها للذين يتقون الشرك والمعاصي، { ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون }.
فقالت اليهود والنصارى: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا، فأخرجهم الله منها بقوله: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي }؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم سماه أميا لأنه لم يحسن الكتابة، قال الله تعالى:
وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك
[العنكبوت: 48]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب "
قوله تعالى: { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل }؛ يعني نعته وصفته وخاتمه الذي بين كتفيه ونعت أمته وشريعته.
قوله تعالى: { يأمرهم بالمعروف }؛ أي بالتوحيد وشرائع الإسلام؛ { وينهاهم عن المنكر }؛ أي عن كل ما لا يعرف في شريعة ولا سنة. قوله تعالى: { ويحل لهم الطيبات }؛ أي ما اكتسبوه من وجه طيب، { ويحرم عليهم الخبآئث }؛ ما اكتسبوه من وجه خبيث، { ويضع عنهم إصرهم } يعني ثقلهم، قال قتادة: (يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين ومأ أمروا به من قبل أنفسهم في التوراة، وقطع الأعضاء الخاطئة).
وقال عطاء: (يأمرهم بالمعروف وبخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، وينهاهم عن المنكر أي عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام، ويحل لهم الطيب يعني الحلال التي كانت الجهال تحرمها من البحائر والسوائب والوصائل، ويحرم عليهم الخبائث يعني الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وغيره من المحرمات).
قوله تعالى: { والأغلال التي كانت عليهم }؛ كناية عن الأمور الشديدة التي كانت عليهم، كان إذا أصاب ثوب أحدهم شيء من النجاسة وجب قطعه، وكان عليهم أن لا يعملوا في السبت.
قوله تعالى: { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه }؛ أي فالذين صدقوا بهذا النبي وعظموه وأعانوه بالسيف على الأعداء، { واتبعوا النور الذي أنزل معه }؛ يعني القرآن الذي ضياؤه في القلوب كضياء النور في العيون، { أولئك هم المفلحون }؛ أي الظافرون بالمراد والبقاء.
[7.158]
قوله عز وجل: { قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا }؛ قال ابن عباس: (كان كل رسول يبعث إلى قومه، وبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى قومه وغيرهم) ومعنى الآية: قل يا محمد إني رسول الله إليكم كافة أدعوكم إلى طاعة الله وتوحيده واتباعي فيما أديته إليكم.
قوله تعالى: { الذي له ملك السموت والأرض }؛ تعريف الله الذي أرسله إليهم، وقوله تعالى: { لا إله إلا هو }؛ أي لا شريك له في الإلهية، ولا خالق ولا رازق غيره، { يحيي ويميت }؛ أي يحيي الخلق من النطفة، ويميتهم عند انقضاء آجالهم، لا يقدر على ذلك أحد سواه, وقيل: معناه: يحيى الأموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا.
قوله تعالى: { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي }؛ أي صدقوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي لا يكتب، فيؤمن من جهته أن " لا " يقرأ الكتب وينقل إليهم أخبار الماضين، ولكن يتبع ما يوحى إليه، وقوله تعالى: { الذي يؤمن بالله وكلماته }؛ أي بالله وكتبه. ومن قرأ (وكلمته) فهو عيسى، وقوله تعالى: { واتبعوه لعلكم تهتدون }؛ ظاهر المعنى.
[7.159]
قوله تعالى: { ومن قوم موسى أمة }؛ أي جماعة؛ { يهدون بالحق }؛ يدعون إلى الحق، { وبه يعدلون }؛ وبه يحكمون وهم مؤمنو أهل الكتاب عبدالله بن سلام وأصحابه.
وروي عن ابن عباس: (أنهم قوم من بني إسرائيل قبل المشرق، وخلف الصين عند المطلع أخذوا من بيت المقدس، فرمي بهم هناك متمسكين بالتوراة مشتاقين إلى الإسلام، يعملون بفرائض الله، بيوتهم مستوية، والأمانة فيهم فاشية، قبورهم عند أبوابهم، لا تباغض بينهم ولا تحاسد ولا حلف ولا خيانة ولا كذب ولا غش، يعملون بالحق فيما بينهم بلا أمير ولا قاض، مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فعرض عليهم الإسلام فقبلوه).
وذكر مقاتل: (أن بين الصين وبينهم واديا جاريا من رمل، فيمنع الناس من إتيانهم واخبارهم، إلا أنا لا نسمع أخبارهم إلا من النبي صلى الله عليه وسلم أخبره به ربه عز وجل، واخبره به النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس. وقال السدي: (هم قوم بينكم وبينهم نهر من شهد).
قال ابن جريج: (إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا، تبرأ هؤلاء القوم منهم وسألوا أن يفرق الله بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض، فصاروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك مسلمون يصلون إلى قبلتنا).
وقال الكلبي والربيع: (هم قوم خلف الصين على نهر يجري على الرمل سمي نهر أرداف، يمطرون بالليل، يصبحون بالنهار ويزرعون، لا يصل إليهم منا أحد ولا منهم إلينا، وهم على الحق، ذهب جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليلة أسري به فكلمهم.
فقال جبريل: هل تعرفون هذا الذي تكلمونه؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله النبي الأمي، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله؛ إن موسى أوصانا فقال: من أدرك منكم محمدا صلى الله عليه وسلم فليقرؤه مني السلام، فرد محمد صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة، ولم يكن يومئذ نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت).
[7.160]
قوله تعالى: { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما }؛ أي فرقوا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، والسبط في ولد اسحاق كالقبيلة في ولد إسماعيل، وإنما ذكر (اثنتي عشرة) على لفظ التأنيث وإن كان السبط مذكرا؛ لأن الأسباط هي الفرق والجماعات .
فان قيل: كيف قال (أسباطا) بالجمع ولا يجمع ما بعد العشرة على لفظ الجمع، وإنما يقال: اثنى عشر درهما ولا يقال اثنى عشر دراهم؟ قيل: ذكر الزجاج: (أن قوله (أسباطا) بدل لا يميز، كأنه قال: قطعناهم أسباطا اثنتي عشرة). وقرأ أبان بن تغلب ابن زيد عن عاصم (وقطعناهم) بالتخفيف.
قوله تعالى: { وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه }؛ أي أوحينا إليه في التيه حين طلب قومه منه الماء، { أن اضرب بعصاك الحجر }؛ قال ابن عباس: (كان حجرا يحملونه معهم على حمار) ولهذا عرف بالألف واللام.
وقوله تعالى: { فانبجست منه اثنتا عشرة عينا }؛ الانبجاس: خروج الماء قليلا، والانفجار خروجه واسعا، وإنما قال (فانبجست)؛ لأن الماء كان يخرج من الحجر في الابتداء قليلا ثم يتسع فاجتمع فيه صفة الانبجاس والانفجار، وإنما تفجر منه اثنتا عشرة عينا؛ لأنهم كانوا اثنتي عشرة سبطا، وكان لا يخالط كل سبط السبط الآخر، { قد علم كل أناس مشربهم } ، كل سبط موضع شربه.
قوله تعالى: { وظللنا عليهم الغمام } أي ظللنا عليهم بالنهار في التيه ليقيهم حر الشمس، { وأنزلنا عليهم المن والسلوى }؛ فالمن الترنجبين، والسلوى طائر يشبه السماني، قوله تعالى: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } أي من خلال ما رزقناكم من المن والسلوى { وما ظلمونا }؛ أي وما ضرونا بمخالفتهم أمرنا وإعراضهم عن شكر النعمة، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ ولكن ضروا أنفسهم.
[7.161]
قوله تعالى: { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية }؛ أي قيل لهم وقت خروجهم من التيه اسكنوا القرية أريحا ببيت المقدس، { وكلوا منها حيث شئتم }؛ من نعيمها، { وقولوا }؛ مسألتنا؛ { حطة }؛ أي احطط عنا ذنوبنا، { وادخلوا الباب سجدا }؛ باب أريحا خاشعين لله خاضعين، { نغفر لكم خطيئاتكم }؛ ما سلف من ذنوبكم باستغفاركم وخضوعكم.
وقرأ أهل المدينة (تغفر) بالتاء مضمومة، وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة أخرى (خطيتكم). وقوله تعالى: { سنزيد المحسنين }؛ أي الذين لا ذنب لهم في الدنيا نزيدهم فضلا في الآخرة ثوابا.
[7.162]
قوله تعالى: { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم }؛ أي غير الذين ظلموا أنفسهم القول الذي أمروا به ، فقالوا إطة سمقانا؛ أي حنطة حمراء، ويقال قالوا حطة، { فأرسلنا عليهم رجزا من السمآء }؛ أي عذابا أنزلت بهم نارا وأحرقتهم، { بما كانوا يظلمون }؛ بتبديلهم ما أمروا به.
[7.163]
قوله تعالى: { وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر }؛ معناه: سل يا محمد يهود المدينة عن القرية التي كانت بقرب البحر وهي مدينة إيله على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهذا سؤال توبيخ وتقرير وتعريف لهم، لا سؤال تعريف من قبلهم، وفي السؤال لهم بيان أن يهود المدينة جروا على عادة أسلافهم في التمرد في المعصية، فكأن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم ما فعل الله بأهل تلك القرية، أليس قد جعلهم الله قردة بمخالفتهم أمر الله، فما يؤمنكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم من عذاب الله.
قوله تعالى: { إذ يعدون في السبت }؛ أي حيث يتجاوزون الحد بأخذهم السمك في يوم السبت، وقد أمروا أن لا يصطادوا فيه ويتفرغوا للعبادة والطاعة. وقوله تعالى: { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا }؛ قال ابن عباس: (أي ظاهرة على وجه الماء). وقال الضحاك: (متتابعة مثل الكباش البيض السمان يومئذ أن تصاد). قوله تعالى: { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } أي لا يكون يوم السبت، كانت الحيتان تغوص في الماء ولا تأتيهم شرعا.
وقرأ أبو نهيك: (إذ يعدون في السبت) بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال؛ يهيؤن الآلة لأخذها. وقرأ ابن السميقع (في الأسبات) على جمع السبت. وقرأ بعضهم (إذ تأتيهم حيتانهم يوم أسباتهم شرعا) فجعلت طائفة من أهل هذه المدينة يلقون الشبكة في الماء في يوم السبت، ويقولون حتى يقع فيها السمك، ثم لا يخرجون الشبكة من الماء إلا يوم الأحد، وقالوا إنما نصطاد في يوم الأحد، قوله تعالى: { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون }؛ أي كذلك نشدد عليهم في التكليف بعصيانهم وفسقهم.
ووقف بعض القراء على قوله: (كذلك) على معنى لا تأتيهم في غير يوم السبت كما تأتيهم في يوم السبت، ثم ابتدأ فقال (نبلوهم بما كانوا يفسقون). فإن قيل: كيف عرف الله الحيتان الفضل من يوم السبت وغيره من الأيام؟ قيل: لا يمتنع أن الله عرفها ذلك أو قوى دواعيها؛ أي إلى الشروع في يوم السبت معجزة لنبي ذلك الوقت وابتلاء لأولئك القوم.
[7.164]
قوله تعالى: { وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا }؛ في الآية بيان أنه كان في هذه القرية فرقة يعظون المذنبين، والمعنى: إذ قالت عصبة من أهل تلك القرية للواعظين لم تعظون قوما الله مهلكهم في الدنيا أو معذبهم عذابا شديدا في الآخرة؟ ولم يقولوا هذا كراهة للوعظ ولا رضى بالمعصية منهم، ولكن قالوا ذلك ليأسهم عن قبول الوعظ.
وقوله تعالى: { قالوا معذرة إلى ربكم }؛ أي قالت الفرقة الواعظة: موعظتنا إياهم معذرة إلى الله أن نبتلى بذلك عذرا عند الله. ومن قرأ (معذرة) بالنصب فعلى معنى يعتذرون معذرة. وقوله تعالى: { ولعلهم يتقون }؛ أي ورجاء أن يتقوه، فكأن الواعظين لم ييأسوا من قبولهم الوعظ. وقيل: معناه: لعلهم يتقون صيد الحيتان.
[7.165]
قوله تعالى: { فلما نسوا ما ذكروا به }؛ أي فلما تركوا ما وعظوا به، { أنجينا الذين ينهون عن السوء }؛ أي خلصنا الذين ينهون عن حبس السمك في الحظيرة يوم السبت، { وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس }؛ أي شديد، يقال بئس وبيس وبأس إذا اشتد، وبؤس يبؤس بؤسا إذا افتقر. وقوله تعالى: { بما كانوا يفسقون }؛ أي بفسقهم.
ولم يذكر في الآية حال الفرقة الثالثة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: (كان القوم ثلاث فرق، فكانت الفرقة الوسطى تعمل بالسوء، والفرقة اليمنى تنهى وتحذرهم بأس الله، وكانت الأخرى تكف ألسنتها وتمسك أيديها. فلما عملت الوسطى بذلك زمانا، وكثرت أموالهم، ولم ينزل بهم عقوبة، استبشروا وقالوا ما نرى السبت إلا قد حل لنا وذهبت حرمته، وكانوا نحوا من سبعين ألفا، وكانت الفرقة الناهية نحو اثنى عشر ألفا، يقولون لهم: لا تعدوا، ولا تأمنوا من عذاب الله، فلم يتعظوا فأصبحوا وقد مسخهم الله قردة خاسئين، فمكثوا كذلك ثلاثة أيام عبرة للناظرين، ثم ماتوا).
قال ابن عباس: ((وأنجينا الذين ينهون عن السوء) وليت شعري ما صنع الله بالذين لم ينهوا)، وقال عكرمة: (بل أهلكهم الله أيضا وما نجا إلا الذين ينهون عن السوء، وهلك الباقون بظلمهم بالاستحلال وترك الأمر بالمعروف). فقال ابن عباس: (نزل والله بالمداهن ما نزل بالمستحل).
وقال الحسن: (نجت فرقتان، وهلكت فرقة) وأنكر القول الذي ذكر له عن ابن عباس، وقال: (ما هلكت إلا فرقة؛ لأنه ليس شيء أبلغ في الأمر بالمعروف والوعظ من ذكر الوعيد، وقد ذكرت الفرقة الثالثة الوعيد فقالت: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا) وقول الحسن أقرب إلى ظاهر الآية.
[7.166]
قوله تعالى: { فلما عتوا عن ما نهوا عنه }؛ أي أبوا أن يرجعوا عن المعصية، والعاتي هو شديد الدخول في الفساد المتمرد الذي لا يقبل الموعظة. وقوله تعالى: { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين }؛ أي مطرودين مبعدين عن كل خير، من قولهم: خسأت الكلب إذا قلت له: اخسأ على الطرد له. قال ابن عباس: (يا لها من أكلة ما أوخمها أن مسخوا قردة في الدنيا وفي الآخرة النار).
وعن الضحاك قال: (ألقى الله في فكر الناهين حتى باعوا الدور والمساكن، وخرجوا من القرية، فضربوا الخيام خارجا منها، فأقبل العذاب وهم ينظرون، فبدأ المسخ من الرأس حتى صارت لهم أذناب كأذناب القردة، فكان الناهون لا يرون أحدا يخرج من القرية، قالوا: لعل القوم قد خسفوا أو رموا بحجارة من السماء، فحملوا رجلا منهم على سلم فأشرف عليهم، فإذا هم قردة لهم أذناب، فصاح فقال: إن القوم قد صاروا قردة، فكسروا الباب، فدخلوا عليهم منازلهم فإذا هم يبكون ويضربون بالأذناب، يعرف الرجل من المرأة، فقالوا لهم: ألم ننهكم عن معصية الله؟ فأشاروا برؤوسهم: بلى؛ ودموعهم تسيل على خدودهم).
قال أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إنه سئل: هل في أمتك خسف؟ قال: " نعم " قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: " إذا لبسوا الحرير، واستباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وطففوا المكيال والميزان، واتخذوا القينات والمعازف، وضربوا بالدفوف، واستحلوا الصيد في الحرم " ".
وقال عكرمة: (جئت ابن عباس وهو يبكي والمصحف في حجره، فقلت: ما يبكيك؟ قال: هؤلاء الورقات، فإذا هي سورة الأعراف، فقال: أتعرف إيلة؟ قلت: نعم، قال: كان بها حي من اليهود في زمان داود، حرم عليهم صيد الحيتان، واختاروا السبت فابتلوا فيه، وحرم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه إن أطاعوا أجروا، وإن عصوا عذبوا.
وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها الكباش تنطح، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، فوسوس لهم الشيطان، وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتخذوا الحياض وكانوا يسوقون إليها الحيتان يوم الجمعة، فتبقى فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فياخذوها يوم الأحد، فلما رأوا العذاب لا يأتيهم أخذوا وأكلوا وعبوا وكثر مالهم، فلعنهم داود عليه السلام فأصبحوا قردة خاسئين). وقال قتادة: (صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير).
قوله تعالى:
بعذاب بئيس
[الأعراف: 165] أي شديد وجيع، قرأ أهل المدينة بكسر الباء وجزم الياء من غير همز، وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه بهمزة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالفتح وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل؛ وقرأ أهل البصرة (بئيس) بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعيل، وقرأ الحسن (بيس) بكسر الباء وفتح السين على (بيس العذاب)، وقرأ مجاهد (بايس) على وزن فاعل، وقرأ أبو إياس بفتح الباء والياء من غير همز، وقرأ الباقون (بئيس) على وزن فعيل.
[7.167]
قوله تعالى: { وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب }؛ معناه: وإذ علم ربك، وقد يأتي تفعل بمعنى افعل يقال: أوعدني وتوعدني ومعناهما واحد، وقيل: معنى (تأذن) أقسم ربك.
قوله تعالى: { ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } أي ليبعثن على من يبقى منهم من الذين لا يؤمنون من بعدهم الجزية والقتل فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته فوضعوا عليهم الجزية إلى يوم القيامة، وفي هذه الآية دلالة على أن اليهود لا ترفع لهم راية عز إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: { إن ربك لسريع العقاب }؛ يجوز أن يكون المراد به عقوبة الآخرة وكل آت قريب، ويجوز أن يكون المراد به أنه سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا. وقوله تعالى: { وإنه لغفور رحيم }؛ أي لمن تاب عن الكفر والمعاصي.
[7.168]
قوله تعالى: { وقطعناهم في الأرض أمما }؛ معناه: وفرقنا اليهود في البلاد تفريقا شديدا استثنى أمرهم فليس لهم مكان يجتمعون فيه، ولا يمكنهم المقام في موضع إلا على ذل بالقتل والجزية.
قوله تعالى: { منهم الصالحون ومنهم دون ذلك }؛ أراد بالصالحين مؤمني أهل الكتاب، وقيل: أراد بهم الذين وراء نهر أرداف، بمعنى الذين وراء رمل عالج من قوم موسى الذين ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بهم، وقد ذكرنا في ما تقدم. وقوله تعالى: { ومنهم دون ذلك } أراد به الكفار منهم كأنه قال: ومنهم الصالحون ومنهم سوى الصالحين. وقيل: معناه: ومنهم دون ذلك هم في رمل عالج يعني الذين هم في هذه البلاد من اليهود.
قوله تعالى: { وبلوناهم بالحسنات والسيئات }؛ أي اختبرناهم بالخصب والجدب، { لعلهم يرجعون } ، من الكفر إلى الإيمان.
[7.169]
قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتب }؛ أي خلف من بعد هؤلاء الذين قطعناهم في الأرض ذرية سوء، وهم الذين أدركهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن الأعرابي: (الخلف بفتح اللام الصالح، وبإسكان اللام الطالح)، قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل لرد الكلام خلف، ومنه المثل السائر (سكت ألفا ونطق خلفا)، قال النضر بن شميل: (الخلف بفتح اللام وإسكانها في القرن السوء، وأما القرن الصالح فتحريكها لا غير، قال الشاعر:
إنا وجدنا خلفنا بئس الخلف
عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف
وقال محمد بن جرير: (أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام، وفي الذم بتسكينها، وقد تحرك في الذم ويسكن في المدح. قال حسان في المدح:
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا
لأولنا في طاعة الله تابع
قال: (وأحسبه في الذم مأخوذ من خلف اللبن إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد، ومنه قولهم: خلف فم الصائم؛ إذا تغيرت ريحه وفسدت، فكأن الرجل الفاسد مشبه به). والحاصل أن كلا منهما يستعملان في الشر والخير، إلا أن أكثر الاستعمال في الخير بالفتح.
قوله تعالى: { ورثوا الكتب } أي التوراة، والميراث ما صار للباقي من جهة البادي كأنه قال فخلف من بعد الهالكين منهم خلف ورثوا الكتاب. وقوله تعالى: { يأخذون عرض هذا الأدنى }؛ يعني به أخذ الرشوة في الحكم؛ لتغير الحق إلى الباطل. وقال بعضهم: كانوا يحكمون بالحق لكن بالرشوة، وإنما سمي متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه كأنه يعرض فيزول. قال الله تعالى:
هذا عارض ممطرنا
[الأحقاف: 24] أراد بذلك السحاب.
قوله تعالى: { ويقولون سيغفر لنا }؛ أي يقولون مع أخذهم الرشوة أنه سيغفر لنا ذلك، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه }؛ معناه: وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه، وفي هذا بيان أنهم كانوا يصرون على الذنب وأكل الحرام، وكانوا يستغفرون مع الإصرار، فكيف يغفر لهم.
قوله تعالى: { ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب أن لا يقولوا على الله إلا الحق }؛ معناه: ألم يؤخذ عليهم الميثاق في التوراة ألا يقولوا على الله إلا الصدق، وكان في التوراة أن من ارتكب ذنبا عظيما لم يغفر له بالتوبة، { ودرسوا ما فيه }؛ فكانوا يدرسون ما في التوراة، ويذكرون ما أخذ عليهم من المواثيق، يقولون مع إصرارهم على الذنوب: سيغفر لنا.
وقال الحسن: (معنى الآية أنهم كانوا يأخذون الدنيا من كل وجه حرم عليهم ويمنعون كل حق، وينفقون في كل سرف، ويتمنون مع هذه الأشياء على الله الأماني، ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه كما أخذوا، ألم يعرفوا في الكتاب خلاف ما هم عليه). وقرأ السلمي: (وادارسوا فيه مثل اداركوا).
قوله تعالى: { والدار الآخرة خير للذين يتقون }؛ أي يتقون المعاصي والشرك وأكل الحرام، { أفلا تعقلون }؛ ما يدرسون في كتابهم، وقيل: أفلا يعقلون أن الإصرار على الذنب ليس من علامة المغفور لهم.
[7.170]
قوله تعالى: { والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة }؛ معناه: والذين يعملون بما في كتاب الله، قال مجاهد: (هم اليهود والنصارى الذين يمسكون بالكتاب الذي جاء به موسى، لا يحرفونه ولا يكتمونه، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، ولا تتخذونه مأكلة، نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه).
وقال عطاء (يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم). قوله تعالى: (وأقاموا الصلاة) أي عملوا الصالحات، إلا أنه خص الصلاة بالذكر لعظم شأنها، وقوله تعالى: { إنا لا نضيع أجر المصلحين }؛ أي نعطيه أجرهم في القول والعمل.
[7.171]
قوله تعالى: { وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة }؛ معناه: واذكر يا محمد إذ قلعنا الجبل من أصله فجعلناه كالظلة فوق رأس بني إسرائيل، وكل شىء اقتلعته فقد نتقته، ومنه نتقت المرأة إذا أكثرت الولد؛ أي اقتلعت ما رحمها من ولدها، وامرأة منتاق إذا كانت تكثر الولد.
وقال مجاهد: (نتقنا الجبل؛ أي قطعنا الجبل). وقال الفراء: (علقنا). وقال بعضهم: أصل النتوق والنتق أن تقطع الشيء من موضعه فترمي به، وقال أبان بن ثعلبة: (سمعت رجلا من العرب يقول لغلامه خذ الجوالق وانتقه؛ أي نكسه). قوله تعالى: { كأنه ظلة }. قال عطاء (كأنه سقيفة، والظلة كل ما أظلك).
قوله تعالى: { وظنوا أنه واقع بهم }؛ أي ظنوا أنه ساقط عليهم لارتفاعه فوقهم، وكان السبب في رفعه فوقهم أنه لما شق عليهم ما كان في التوارة من المواثيق، وخافوا أن لا يمكنهم الوفاء به امتنعوا عن التزامه، فرفع الله الجبل فوقهم.
وقوله تعالى: { خذوا مآ ءاتينكم بقوة }؛ أي وقلنا لهم خذوا ما آتيناكم بقوة، أي اعملوا به بجد ومواظبة في طاعة، { واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } أي ما في الكتاب الذي أعطيناكم من عظة وجزاء لكي تتقوا المعاصي، وكان دكا حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بما فيها، وكانت شريعة ثقيلة فرفع الله عليهم جبلا على مقدار عسكرهم، وكانوا فرسخا في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتم ما فيها وإلا لنوقعنه عليكم.
قال الحسن: (فلما نظروا إلى الجبل، خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفا أن يسقط عليهم ، فلذلك ليس في الأرض يهودي إلا وهو يسجد على حاجبه الأيسر، ويقولون: هذه السجدة التي رفعت بها عنا العقوبة).
[7.172]
قوله تعالى: { وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى }؛ قال المفسرون: لما خلق الله آدم مسح ظهره، وأخرج منه ذريته كلهم كهيئة الذر، واختلفوا في موضع الميثاق، فقال ابن عباس: (هو بطن نعمان واد جنب عرفة)، وقيل: هي أرض الهند، وقال الكلبي: (هو ما بين مكة والطائف).
وقال السدي: (أخرج الله آدم من الجنة، ولم يهبطه إلى الأرض، فأخرج من ظهره ذريته وكل من هو خارج إلى يوم القيامة، فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية صغارا بيضا مثل اللؤلؤ، فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سودا، وقال لهم: أدخلوا النار ولا أبالي).
فذلك قوله تعالى:
وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين
[الواقعة: 27]،
فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة
[الواقعة: 8-9]، وركب فيهم جميع العقول حتى سمعوا كلام الله وفهموا خطابه، فقال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب لكم سواي، فلا تشركوا بي شيئا، وأني مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتابا فتكلموا ألست بربكم؟ فقالوا: بلى، شهدنا أنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك. فأقروا كلهم طائعين، وأخذ بذلك ميثاقهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصابهم.
فنظر إليهم آدم عليه السلام فرأى فيهم الغني والفقير، وحسن الصورة وغير ذلك، فقال: يا رب لو شئت سويت بينهم، قال: ونظر إلى الأنبياء بينهم يومئذ مثل السرج، فلما أخذ عليهم الميثاق ردهم إلى صلب آدم، فالناس محبوسون في أصلاب آبائهم حتى يخرج كل من أخرجه في ذلك الوقت، وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى، وكل من جحد وكفر، فإنما تغير عنها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا "
فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ ميثاقه، لا يزيد فيهم ولا ينقص منهم.
وتقدير الآية: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذرياتهم، ولم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا يوم الميثاق من ظهره؛ لأنه أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهر بعض على نحو ما يتولد الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم بقوله: { من بني ءادم }؛ لأنه قد علم أنهم كلهم بنوه، وأخرجوا من ظهره.
قوله تعالى: { شهدنآ }؛ يجوز أن يكون هذا من قول الذين أخذ عليهم الميثاق. ثم ابتدأ فقال تعالى: { شهدنآ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }؛ ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: { بلى } ثم يقول الله تعالى: شهدنا عليكم، وأخذنا الميثاق كيلا يقولوا يوم القيامة: { إنا كنا عن هذا غافلين } أي عن هذا الميثاق والإقرار.
[7.173]
قوله تعالى: { أو تقولوا إنمآ أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم }؛ أي ولكيلا تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل، وكنا ذرية من بعدهم فاتبعناهم؛ لأنا قد جعلنا في عقولكم ما يمكنكم أن تعرفوا به صحة ما كان عليه آباؤكم وفساده. وقوله تعالى: { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } ، أي آباؤنا المشركون، يقال لهم: لا نهلككم بما فعل آباؤكم، وإنما نهلككم بما فعلتم أنتم.
فإن قيل كيف يكون الميثاق حجة عليهم - أي على الكفار منهم - وهم لا يذكرون ذلك حين أخرجهم من صلب آدم؟ قيل: لما أرسل الله الرسل، فأخبروهم بذلك الميثاق، وصار قول الرسل حجة عليهم.
قوله: (ذرياتهم) قرأ أهل مكة وأهل الكوفة (ذريتهم) بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف على الجمع، وقوله تعالى:
أن تقولوا يوم القيامة
[الأعراف: 172] { أو تقولوا إنمآ أشرك } قرأ أبو عمرو بالياء، وقرأ الباقون بالتاء فيهما.
[7.174]
وقوله تعالى: { وكذلك نفصل الآيات }؛ أي هكذا نبين الآيات كما بيناها في أمر الميثاق، و { نفصل الآيات } ذكر آية بعد آية من الموعظة والمعصية والوعد والوعيد. قوله تعالى: { ولعلهم يرجعون }؛ أي لكي يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان، والمعنى: ليعلموها مفصلة ولعلهم يرجعون.
[7.175]
وقوله تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها }؛ قال ابن عباس وابن مسعود: (نزلت في بلعم بن باعورا)، قال مجاهد: (ويقال لهم: بلعم بن باعر)، وقال مقاتل: (ويقال له أيضا: بلعام، وكان عابدا من عباد بني إسرائيل، وكان في المدينة التي قصدها موسى عليه السلام، وكان أهل تلك المدينة كفارا، وكان عنده اسم الله الأعظم، فسأله ملكهم أن يدعو على موسى بالاسم الأعظم ليدفعه عن تلك المدينة، فقال لهم: دينه وديني واحد، وهذا شيء لا يكون، فكيف ادعو عليه وهو نبي الله، ومعه الملائكة والمؤمنون، وأنا أعلم من الله ما أعلم، وإني إن فعلت ذلك ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به يفتنونه بالمال والهدايا حتى فتنوه فافتتن.
فركب أتانا له متوجها إلى جبل ليدعو عليه، فما سار على الأتان إلا قليلا فربضت فنزل عنها، فضربها حتى كاد يهلكها، فقامت فركبها فربضت، فضربها فأنطقها الله تعالى، فقالت: يا بلعم ويحك أين تذهب؟ ألا ترى إلى هؤلاء الملائكة أمامي تردني عن وجهي؟ فكيف تريد أن تذهب لتدعو على نبي الله عليه السلام وعلى المؤمنين؟ فخلى سبيلها، وانطلق حتى أتى إلى الجبل وحين وصل إلى الجبل، وجعل يدعو فكان لا يدعو بسوء إلا صرف الله لسانه إلى موسى، فقال له قومه: يا بلعم! إنما أنت تدعو علينا وتدعو لهم؟ فقال: هذا والله الذي أملكه، وأنطق الله به لساني.
ثم امتد لسانه حتى بلغ صدره، فقال لهم: قد ذهب مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، حلوا النساء وزينوهن وأعطوهن الطيب، وأرسلوهن إلى العسكر ومروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم، ففعلوا.
فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة منهم برجل من عظماء بني إسرائيل، فقام إليها فأخذها بيده حين أعجبته بحسنها، ثم أقبل بها إلى موسى وقال له: إني لأظنك أن تقول هذه حرام؟ قال: نعم هي حرام عليك لا تقربها، قال: فوالله لا نطيعك في هذا! ثم دخل بها قبته فوقع عليها، فأرسل الله على بني إسرائيل الطاعون في الوقت.
وكان فنحاص بن العيزرا صاحب أمر موسى، وكان رجلا له بسطة في الخلق وقوة في البطش، وكان غائبا حين صنع ذلك الرجل بالمرأة ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليه القبة، فوجدهما متضاجعين فدقهما بحربته حتى انتظمهما بها جميعا، فخرج بهما يحملهما بالحربة رافعا بهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه وأسند الحربة إلى لحيته وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون من حينئذ عنهم فحسب من هلك من بني إسرائيل في ذلك الطاعون، فوجدوهم سبعين ألفا في ساعة من نهار وهو ما بين أن زنى ذلك الرجل بها إلى أن قتل.
وقال مقاتل: دعا بلعم على موسى وقومه بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجيب له ووقع موسى وقومه في التيه بدعائه عليه، فقال: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ قال: بدعاء بلعم، قال: يا رب فكما سمعت دعاءه فاسمع دعائي عليه، فدعا موسى أن انزع عنه الاسم الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه، ونزع عنه المعرفة، فخرجت منه كحمامة بيضاء، فذلك قوله تعالى: { فانسلخ منها }. إلا أن في هذا ما يمنع صحته ولا يجوز أن يستجاب دعاؤه.
وروي عن عبدالله بن عمران: أن الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي، وهو رجل كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أتاه الله العلم والحكمة، وله أشعار في الموت والبعث، وكان قد علم أن الله يبعث نبيا في وقته، وكان يرجو أن يكون ذلك النبي، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأى من أمره ما رأى، عزم أن لا يؤمن به حسدا له، ومعنى الآية: واقرأ يا محمد خبر الذي آتيناه علم آياتنا وفهم معانيها فصار عالما بها. والنبأ: الخبر عن أمر عظيم، وقوله تعالى: { فانسلخ منها } أي خرج من العلم بها إلى الجهل، ومن الهدى إلى الضلالة، كما يقال: انسلخت الحية من جلدها.
وقوله تعالى: { فأتبعه الشيطان }؛ أي أتبعه بالتزيين لذلك الضلال، ويقال: معنى أتبعه: أدركه، يقال: أتبعت القوم إذا لحقتهم، وتبعتهم إذا سرت إليهم. وقوله تعالى: { فكان من الغاوين }؛ أي كان في علم الله أن يكون في ذلك الوقت من الغاوين، وقيل: صار من الضالين. والغي يذكر بمعنى الهلاك، ويذكر بمعنى الخيبة.
[7.176]
قوله تعالى: { ولو شئنا لرفعناه بها }؛ أي بالآيات بأن نميته على الهدى ونعصمه عن الكفر ونحول بينه وبين المعصية. وقيل: معناه: لفضلناه وشرفناه ورفعناه منزلة بالآيات. قال مجاهد وعطاء: (معناه: ولو شئنا رفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه، { ولكنه أخلد إلى الأرض }؛ أي ركن إلى الأرض)، وقال مجاهد: (سكن إلى الأرض)، وقال مقاتل: (رضي بالدنيا)، وقيل: مال إلى مسافل الأمور، وترك معاليها.
وأصل الإخلاد البقاء والإقامة واللزوم على الدوام، كأنه قال: لزم الميل إلى الأرض، ليعجل الراحة واللذات، يقال: فلان مخلد؛ أي بطيء الشيب. قوله تعالى: { واتبع هواه }؛ أي انقاد لهواه، فلم يرفعه بالآيات، قال عطاء: (أراد الدنيا واتبع شيطانه)، وقال بعضهم: (واتبع هواه) أي امرأته؛ لأنها كانت حملته على الخيانة.
قوله تعالى: { فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث }؛ اللهث: شدة النفس عند الإعياء، وهو في الكلب طبع، فإن كل شيء يلهث من إعياء وعطش ما خلا الكلب، فإنه يلهث في الأحوال كلها، فإنك إن طردته وزجرته يلهث، وإن تركته يلهث، فكذلك الكافر إن وعظته وزجرته لم يتعظ، وإن تركته لم يعقل، وقال ابن عباس: (معناه أن الكافر إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك عنها لم يهتد إليها، كالكلب إن كان رابضا لهث، وإن طرد لهث).
وقيل: هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أم لم يدع، وعظ أو لم يوعظ، كالكلب يلهث ترك أو طرد، وكذلك الكافر إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب، ونظيره قوله تعالى:
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون
[الأعراف: 193].
قوله تعالى: { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا }؛ أي ذلك صفة المكذبين بآياتنا، { فاقصص القصص }؛ أي أقصص عليهم أخبار المنافقين؛ ليعتبروا بهم فلا يسلكوا مسالكهم. وقوله تعالى: { لعلهم يتفكرون }؛ أي رجاء أن لا يتفكروا.
[7.177]
قوله تعالى: { سآء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا }؛ أي بئس الوصف وصف القوم الذين كذبوا بآياتنا، وهذا السوء إنما يرجع إلى فعلهم لا إلى نفس المثل، كأنه قال: ساء فعلهم الذي جلب إليهم الوصف القبيح، فأما المثل من الله فحكمة وصواب، و { مثلا } منصوب على التمييز، أي ساء المثل مثلا: قوله تعالى: { وأنفسهم كانوا يظلمون }؛ أي إنما يصرفون أنفسهم لمعصيتهم، والله تعالى لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة المطيعين.
[7.178]
قوله تعالى: { من يهد الله فهو المهتدي }؛ أي من يوفقه الله لدينه فهو المهتدي من الضلالة، { ومن يضلل }؛ خذله عن دينه، { فأولئك هم الخاسرون }؛ المغبونون بعقوبة الآخرة.
[7.179]
قوله عز وجل: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس }؛ وقال ابن عباس: (معناه: ولقد خلقنا لجهنم أهلا)، { لهم قلوب لا يفقهون بها }؛ الخير، { ولهم أعين لا يبصرون بها }؛ الهدى، { ولهم آذان لا يسمعون بهآ }؛ الحق، { أولئك كالأنعام }؛ في المأكل والمشرب، والذهن لا في الصور، { بل هم أضل }؛ لأن الأنعام مطيعة لله تعالى، والكافر غير مطيع. وقوله تعالى: { أولئك هم الغافلون }؛ أي عن ما ينفعهم وعن ما يحل لهم في الآخرة.
وقيل: إن اللام في قوله: { لجهنم } لام العاقبة، يعني أن عاقبتهم إلى المصير إلى جهنم، وهذا كما قال تعالى:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص: 8] أي كان عاقبتهم أن صار لهم عدوا وإلا فهم التقطوه ليكون لهم قرة عين، كما قال تعالى:
وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه
[القصص: 9]، ويقال:
لدوا للموت وابنوا للخراب
قال الشاعر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال آخر:
ألا كل مولود فللموت يولد
ولست أرى حيا لحي يخلد
وقال آخر:
وللموت تغذوا الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال:
" إن الله تعالى لما ذرأ لجهنم ما ذرأ، كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم "
[7.180]
قوله تعالى: { ولله الأسمآء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمآئه }؛ سبب نزول هذه الآية: أن ((رجلا)) دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال أبو جهل لعنه الله: أليس يزعم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يعبد ربين اثنين؟! فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: ولله الصفات العلى؛ وهي: الرحمن؛ والرحيم؛ والعزيز؛ والجبار؛ والمؤمن؛ والمهيمن؛ والقدوس؛ وأشباه ذلك من الصفات التي معانيها (فادعوه بها) أي بالأسماء الحسنى، لا ينبغي أن يقول: يا سخي؛ يا جلال؛ يا رفيق، ولكن ليقل: يا جواد يا سخي يا قوي يا رحيم كما وصف بها نعته.
قوله تعالى: { وذروا الذين يلحدون في أسمآئه } أي يكذبون، وقال قتادة: (يشركون)، وقال عطاء: (يضاهون) وقال ابن عباس: (إلحادهم في أسماء الله أنهم عدلوا بها عما هي عليه، فسموا بها أوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها، واشتقوا اللات من الله؛ والعزى من العزيز؛ والمناة من المنان).
قرأ الأعمش وحمزة (يلحدون) بفتح الياء والحاء هنا وفي النحل وفي حم، وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الحاء وهما لغتان فصيحتان. والإلحاد: هو الميل عن القصد، وروي عن الكسائي أنه الذي في النحل بفتح الياء والحاء، والذي في الأعراف وحم بالضم، وكان يفرق بين الإلحاد فيقول: (الإلحاد: العدول عن القصد، واللحود: الركون) ويزعم أن الذي في النحل بمعنى الركون. قوله تعالى: { سيجزون ما كانوا يعملون }؛ وعيد لهم على الكفر والتكذيب.
[7.181]
قوله تعالى: { وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون }؛ قال ابن عباس: (وذلك أنه لما ذكر الله تعالى
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون
[الأعراف: 159] قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر الله هؤلاء الرهط بالخير الجسيم، وإن آمنوا بك وصدقوك جعل الله لهم أجران، ولنا أجر واحد، ونحن صدقنا بالكتب وبالرسل، فأنزل الله تعالى: { وممن خلقنآ أمة يهدون بالحق } يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يخلوا الزمان من فرقة منهم علماء أتقياء يدعون الناس إلى الحق).
[7.182]
قوله تعالى: { والذين كذبوا بآيتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } أي الذين كذبوا بدلائلنا سنحطهم إلى العذاب درجة إلى أن يبلغوا إلى العذاب، وقال عطاء: (سنمكن لهم من حيث لا يعلمون). وقال الكلبي: (نزين لهم أعمالهم فنهلكهم). وقال الضحاك: (كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة). وقال الخليل: (سنطوي عمرهم في اغترار منهم).
وقال أهل المعاني: الاستدراج: أن تندرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا، ولا يتابع ولا يجاهر، يقال: استدرج فلانا حتى نعرف ما صنع؛ أي لا تجاهره ولا تكثر عليه السؤال دفعة واحدة، ولكن كلمه درجة درجة وقليلا قليلا حتى نعرف حقيقة ما فعل. وقيل: معنى قوله { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } سنذيقهم من بأسنا قليلا قليلا.
[7.183]
قوله تعالى: { وأملي لهم إن كيدي متين }؛ أي أمهلهم وأطيل لهم المدة، فإنهم لا يفوتونني ولا يفوتني عذابهم ولا يعجزونني عن تعذيبهم. وقوله: { إن كيدي متين } إن صنعي شديد محكم، وأخذي قوي شديد. والكيد: هو الإصرار بالشيء من حيث لا يشعر به.
[7.184]
قوله تعالى: { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة }؛ قال الحسن وقتادة: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ذات ليلة يدعو قريشا إلى عبادة الله قبيلة قبيلة وفخذا فخذا: يا بني فلان، يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال المشركون: إن صاحبكم قد جن؛ بات ليله يصوت إلى الصباح، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: أولم يتفكروا بقلوبهم ليعلموا ويستيقنوا ما بمحمد صلى الله عليه وسلم من جنون.
قوله تعالى: { إن هو إلا نذير مبين }؛ أي ما هو إلا يعلم لموضع المخافة ليتقى ولموضع الأمن ليبتغى. وقوله تعالى: { مبين } أي بين أمره؛ فهلا جالسه الكفار فيطلبوا حقيقة أمره، ويتفكروا في دلائله ومعجزاته.
[7.185]
قوله تعالى: { أولم ينظروا في ملكوت السموت والأرض وما خلق الله من شيء } معناه: أولم ينظروا في السماوات والأرض طالبين لما يدلهم على وحدانية الله تعالى، وعلى صدق رسوله في ما دعاهم إليه. والملكوت: هو الملك العظيم. قوله تعالى: { وما خلق الله من شيء } معناه: وما خلقه الله بعد السماوات والأرض، فإن ذلك يدل على وحدانية الله تعالى مثل ما تدل السماوات والأرض. (ما) بمعنى الذي.
قوله تعالى: { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم }؛ معناه: أولم ينظروا في أن عسى أن يكون قد دنا هلاكهم بعد قيام الحجة عليهم. وقوله تعالى: { فبأي حديث بعده يؤمنون }؛ معناه: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن مع وضوح دلالته فبأي حديث بعده يؤمنون، وليس بعده كتاب منزل ولا نبي مرسل.
[7.186]
قوله تعالى: { من يضلل الله فلا هادي له }؛ إليه، وقوله تعالى: { ويذرهم في طغيانهم يعمهون }؛ أي وندعهم في مجاوزتهم الحد في كفرهم يتجرأون فلا يرجعون إلى الحق، ومن قرأ (ونذرهم) بالنون وضم الراء فهو على الاستئناف، وتقرأ (ونذرهم) بالجزم عطفا على موضع الفاء، والمعنى: من يضلل الله يذره في طغيانه عامها.
[7.187]
قوله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرسها }؛ قال الحسن وقتادة: (سألت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة التي تخوفنا بها؟ فأنزل الله هذه الآية)، ومعناها: { يسألونك عن الساعة } أي أوان قيامها ومتى مثبتها، يقال: رسي الشيء يرسو إذا ثبت، ومنه الجبال الراسيات؛ أي الثابتات، والمرسى: مستقر الشيء الثقيل، وقال ابن عباس: (سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أخبرنا عن الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي، فأنزل الله هذه الآية).
قوله تعالى: { قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتهآ إلا هو }؛ أي علم قيامها عند الله سبحانه، ما لي بها من علم، { لا يجليها لوقتهآ إلا هو } أي لا يكشفها ويظهرها لحينها إلا الله عز وجل، وقال مجاهد: (أي لا يأتي بها إلا هو)، وقال السدي: (لا يرسلها لوقتها إلا هو). ووجه الامتناع عن الإجابة عن بيان وقتها، أن العباد إذا لم يعرفوا وقت قيامها كانوا على حذر من ذلك، فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية.
وقوله تعالى: { ثقلت في السموت والأرض }؛ قال الحسن: (ثقل وضعها على أهل السماوات والأرض من انتثار النجوم وتكوير الشمس وتسيير الجبال). وقال قتادة: (ثقلت على السماوات والأرض لا تطيقها لعظمها). وقال السدي: (ثقل علمها على أهل السماوات والأرض فلم يطيقوا إدراكها وكل شيء خفي فقد ثقل، ولا يعلم قيامها ملك مقرب ولا نبي مرسل).
قوله تعالى: { لا تأتيكم إلا بغتة }؛ أي فجأة لا يعلمون وقت قيامها، فتقوم والرجل يسقي ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يقيم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يهوي بلقمته في فمه، فما يدرك أن يضعها في فمه.
قوله تعالى: { يسألونك كأنك حفي عنها }؛ قال الضحاك ومجاهد: (معناه كأنك عالم بها)، وقال ابن عباس: (هذا على تقديم وتأخير، معناه: { يسألونك كأنك حفي عنها } أي بار لطيف بهم من قوله:
إنه كان بي حفيا
[مريم: 47]، وقيل: معناه كأنك فرح بمسألتهم إياك، وقيل: معناه: كأنك حاكم بها، يقال: تحافينا إلى فلان؛ أي تخاصمنا إليه، والحافي هو الحاكم.
قوله تعالى: { قل إنما علمها عند الله }؛ الفائدة في إعادته رد المعلومات كلها إلى الله، فيكون التكرار على وجه التأكيد، وقيل: أراد بالأول علم وقتها، وبالثاني علم كنهها. قوله تعالى: { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ أنها كائنة وأن علمها عند الله، وفي الآية دلالة على بطلان قول من يدعي العلم بمدة الدنيا، ويستدل بما روي أن الدنيا سبعة آلاف سنة؛ لأنه لو كان كذلك كان قيام الساعة معلوما، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
وأشار إلى السبابة والوسطى، فمعناه تقريب الوقت لا تحديده كما قال تعالى:
فقد جآء أشراطها
[محمد: 18] أي بعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراطها.
[7.188]
قوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شآء الله }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلوا فنشتريه ونربح فيه، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل عنها إلى ما أخصب، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: قل يا محمد لا أقدر على نفع أجره إلى نفسي، ولا على ضر أدفعه عن نفسي إلا ما شاء الله أن يملكني بالتمكين من ذلك.
قوله تعالى: { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير }؛ أي لو كنت أعلم جدوبة الأرض وقحط المطر لادخرت من السنة المخصبة للسنة الجدبة، { وما مسني السوء }؛ الفقر. وقيل: معناه: لو كنت أعلم متى أموت لبادرت بالأعمال الصالحة قبل اقتراب الأجل، فلم أشتغل بغيرها ولا بي جنون ولا آفة كما يقولون.
وقيل: معناه: لو كنت أعلم متى الساعة لبادرت بالجواب عن سؤالكم، فإن المبادرة إلى جواب السائل تكون استكثارا من الخير وما مسني التكذيب منكم. وقوله تعالى: { إن أنا إلا نذير وبشير }؛ أي ما أنا إلا معلم بموضع المخافة ليتقى ولموضع الأمن ليختار، { لقوم يؤمنون }؛ بالبعث.
[7.189-190]
قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة }؛ أي نفس آدم، { وجعل منها زوجها }؛ أي خلق حواء من ضلع من أضلاعه، { ليسكن إليها }؛ أي ليطمئن إليها ويستأنس بها ويأوي إليها لقضاء حاجته منها، { فلما تغشاها }؛ أي جامعها، { حملت }؛ ماءه، { حملا خفيفا فمرت به }؛ فاستمرت بذلك الماء؛ أي قامت وقعدت كما كانت تفعل قبل وهي لا تدري أنه حبل أم لا، ولم تكترث بحملها، يدل عليه قراءة ابن عباس: (فاستمرت به). وقال قتادة: (معنى { فمرت به } استبان حملها) وقرأ يحيى بن يعمر: (فمرت به) مخففا من المرية؛ أي شكت أحملت أم لا.
قوله تعالى: { فلمآ أثقلت دعوا الله ربهما }؛ أي لما كبر الولد في بطنها وتحرك وصارت ذات ثقل بحملها وشق عليها القيام، أتاها إبليس في صورة رجل، فقال: يا حواء ما هذا في بطنك؟ قالت: ما أدري، قال: إني أخاف أن يكون بهيمة، وذلك أول ما حملت، فقالت ذلك لآدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك.
ثم عاد إبليس إليها فقال: يا حواء أنا من الله بمنزلة! فإن دعوت الله ربي إنسانا تسميه بي؟ قالت: نعم، قال: فإني أدعو الله، وكانت هي وآدم يدعوان الله، { لئن آتيتنا صالحا }؛ ولدا حسن الخلق صحيح الجوارح مثلنا، { لنكونن من الشاكرين }؛ لك في هذه النعمة، { فلمآ آتاهما صالحا }؛ سويا صحيحا أتاها إبليس فقال لها : عهدي! قالت: ما اسمك؟ قال: الحرث ولو سمى نفسه فقال عزرائيل لعرفته، ولكنه تسمى بغير اسمه فسمته: عبد الحرث، ورضي آدم فعاش الولد أياما حتى مات.
وهذا لا يصح؛ لأن حواء وإن لم تكن نبية فهي زوجة نبي، وفي الآية ما يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى قال: { جعلا له شركآء فيمآ آتاهما }؛ ومثل هذه القبائح لا يصح إضافتها إلى الأنبياء، ولأن الله تعالى قال: { فتعالى الله عما يشركون }؛ ولأن الواحد منا لو أتاه من يبعثه على أن يسمي ولده عبد شمس أو عبد العزى أو نحو هذا، لم يقبل ذلك، ولو أمكنه أن يعاقبه على ذلك فعل، فكيف يجوز مثل هذا على آدم؟ وقد رفع الله قدره بالنبوة.
وقال الحسن: (معناه: إن الله خلق حواء من ضلع آدم وجعلها سكنا له، وكذلك حال الخلق مع أزواجهم، كأنه قال: وجعل من كل نفس زوجها، كما قال في آية أخرى
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا
[الروم: 21].
قال الحسن: (انقضت قصة آدم عند قوله { ليسكن إليها } ثم أخبر الله عن بعض خلقه أنه تغشى زوجته فحملت حملا خفيفا فمرت به، فلما أثقلها ما في بطنها دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنشكرنك، فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء بعملهما الذي عملاه بأن هوداه أو نصراه أو مجساه؛ أي علماه شيئا من الأديان الخبيثة التي يدعو إليها إبليس، ولهذا أعظم الله شأنه في آخر الآية فقال (فتعالى الله عما يشركون)، ولو كان المراد بالآية آدم وحواء لقال: عما يشركان).
يقال: إن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، ويقال: ولدت لآدم في خمسمائة بطن ألف ولد.
وقرئ (جعلا له شركا) بكسر الشين على المصدر، وكان من حقه أن يقال على هذه القراءة جعلا لغيره شركا؛ لأنهما لا ينكران أن الأصل لله، ويجوز أن يكون معناه: جعلا له ذا شرك فحذف كما في قوله:
وسئل القرية
[يوسف: 82] أي أهل القرية.
[7.191]
قوله تعالى: { أيشركون ما لا يخلق شيئا }؛ معناه أيشركون في العبادة ما لا يقدر على خلق شيء يستحق به العبادة، لأن الخلق هو الذي يدل على الله، والله تعالى إنما يستحق العبادة على الخلق لخلقه أصول النعم التي لا يقدر عليها أحد سواه، مثل الحياة والسمع والبصر والعقل، فإذا لم تقدر الأصنام على خلق شيء لم تحسن عبادتها. قوله تعالى: { وهم يخلقون }؛ معناه: الأصنام مخلوقة منحوتة، وقيل: أراد به الأصنام والعابدين جميعا.
[7.192]
قوله تعالى: { ولا يستطيعون لهم نصرا }؛ أي لا يستطيع الأصنام دفع ضر عنهم، ولا جلب نفع إليهم، { ولآ أنفسهم ينصرون } ، ولا أن تنصر نفسها بأن تدفع عن نفسها من أرادها بسوء. فإن قيل: كيف قال: ولا أنفسهم على لفظ من يعقل والأصنام موات؟ قيل: لأن الكفار كانوا يصورون منها على صورة من يعقل، ويجرونها مجرى من يعقل، فأجرى عليها لفظ ما قدروا ما هم عليه.
[7.193]
قوله عز وجل: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم }؛ أي إن تدعوا الأصنام إلى الهدى لم تقبل الهدى، فإنها لا تهدي غيرها، ولا تهتدي بأنفسها ولا ترد جوابا، وإن دعت إلى الهدى { سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صمتون } أم صمتم عنهم لا يتبعوكم.
[7.194]
قوله تعالى: { إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم }؛ أراد الأصنام مملوكة مخلوقة أشباهكم، سماها عبادا لأنهم صوروها على صورة الإنسان، وقوله تعالى: { فادعوهم }؛ ليس هو الدعاء الأول، ولكن أراد فادعوهم في مهماتكم عند الحاجة إلى كشف الأسواء عنكم.
وقوله تعالى: { فليستجيبوا لكم }؛ أي صيغته صيغة أمر، ومعناه التعجيز؛ أي فليستجيبوا لكم، { إن كنتم صادقين }؛ في أنها آلهة.
[7.195]
قوله تعالى: { ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون }؛ معناه: إن معبودي ينصرني ويدفع كيد الكائدين عني، ومعبودكم لا يقدر على نصركم، فإن قدرتم أنتم على ضر فاجتمعوا أنتم مع الأصنام على كيد ولا تؤجلوني.
وهذا لأنهم كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، عرف الله الكفار بهذه الآية أنهم مفضلون على الأصنام؛ لأن لهم جوارح يتصرفون بها وليس للأصنام ذلك، فكيف يعبدون من هم أفضل منهم؟! فالعجب من أنفسهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مع ما أيده الله به من الآيات والمعجزات والدلائل الظاهرة؛ لأنه بشر مثلهم، ولم يأنفوا من عبادة حجر لا قدرة له ولا تصرف، وهم أفضل منه في القدرة على التصرف.
[7.196]
قوله تعالى: { إن وليي الله الذي نزل الكتاب }؛ معناه: يتولى حفظهم، ويكلؤني ويتولى أمري الذي أنعم علي بإنزال القرآن، { وهو يتولى الصالحين }؛ أي يتولى حفظهم، لا يكلهم إلى غيره ولا تضرهم عداوة من عاداهم.
[7.197]
وقوله تعالى: { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون }؛ الآية قد تقدم تفسيره.
[7.198]
قوله تعالى: { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا }؛ أي كما أنها لا تهدي غيرها فلا تسمع الهدى، { وترهم ينظرون إليك }؛ يا محمد فاتحة أعينهم نحوكم يعني الأصنام ينظرون إليك، { وهم لا يبصرون }؛ وذلك أنهم كانوا يصورونها فيجعلون لها أعينا وآذانا وأرجلا، فإذا نظر الناظر اليها خيل إليه أنها تنظر إليه وهي لا تبصر، أو كانوا يلطخون أفواه الأصنام بالخلوف والعسل، وكانت الذباب يجتمعن عليها، فلا تقدر على دفع الذباب عن أنفسها.
وقال بعضهم: معناه: وتراهم كأنهم ينظرون إليك كقوله تعالى:
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى
[الحج: 2] أي كأنهم سكارى، وقال مقاتل: (معنى قوله { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } أي إن تدعوا يا محمد أنت والمؤمنون كفار مكة إلى الهدى لا يسمعوا، { وترهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } الهدى).
[7.199]
قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }؛ قال ابن عباس والسدي: (معناه: خذ الفضل من أموالهم كما قال تعالى:
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو
[البقرة: 219] وهذا إنما كان قبل فرض الزكاة، فصار منسوخا بالزكاة). وقال الحسن ومجاهد: (خذ العفو من أخلاق الناس في القضاء والاقتضاء وقبول عذرهم وحسن المعاملة معهم وما يسهل عليهم).
وأصل العفو الترك من قوله تعالى:
فمن عفي له من أخيه شيء
[البقرة: 178] أي ترك، والعفو عن الذنب ترك العقوبة. ويقال: معنى العفو المساهلة في الأمور، يقال: خذ ما أتاك عفوا؛ أي سهلا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه سأل جبريل عن هذه الآية فقال: حتى أسأل، فذهب جبريل فقال: " يا محمد؛ إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو من ظلمك " ".
قوله تعالى: { وأمر بالعرف } أي بالمعروف الذي تعرف العقلاء صحته، وقال عطاء: (يعني لا إله إلا الله). وقوله تعالى: { وأعرض عن الجاهلين } أي عن أبي جهل وأصحابه، نسختها آية السيف. ومعنى الإعراض عنهم؛ أي أعرض عنهم بعد إقامة الحجة عليهم، ووقوع الإياس عن قبولهم، ولا تقابلهم بالسفه ولا تجاوبهم استخفافا بهم وصيانة لقدرك، فإن مجاوبة السفيه تضع القدر.
[7.200]
قوله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ فاستعذ بالله }؛ معناه: إما يغرينك بالوسوسة عند الغضب فالتجئ إلى الله واستغث به، { إنه سميع }؛ لدعائك، { عليم }؛ بك، والنزغ هو الإزعاج بالحركة إلى الشر.
[7.201]
قوله تعالى: { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا }؛ معناه: إن الذين اتقوا الشرك والمعاصي إذا مسهم وسوسة من الشيطان بإلقاء خواطر الشر عليهم، فرغوا إلى تذكر ما أوضح الله من الحجة، { فإذا هم مبصرون }؛ عواقب أمورهم، يرجعون من الهوى إلى الهدى.
قرأ النخعي وابن كثير وأبو عمرو والكسائي (طيف)، وقرأ الباقون (طايف) وهما لغتان وقيل: الطائف ما يطوف حول الشيء، والطيف: الوسوسة والخطرة، وقيل: الطائف ما طاف به من الوسوسة، والطيف اللمز والمس. وقرأ سعيد بن جبير (طيف) بالتشديد، وقال الكلبي: (طائف من الشيطان: ذنب)، وقال مجاهد: (الغضب)، وعن مجاهد: (هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه)، وقال السدي: (معنأه: إذا أذنبوا تابوا).
[7.202]
قوله تعالى: { وإخوانهم يمدونهم في الغي }؛ أي وإخوان المشركين وهم الشياطين يدعونهم إلى المعاصي والجهل، يقال لكل كافر أخ من الشياطين يمده في الغي. وقرأ نافع (يمدونهم) بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان. قوله تعالى: { ثم لا يقصرون }؛ أي لا يقصر إخوان المشركين من الوسوسة؛ لأنهم إذا علموا قبولهم لقولهم زادوا في إغوائهم، وزاد الكفار في طاعتهم لهم ، فلا يقصرون كما يقصر المتقون.
وقيل: معنى قوله تعالى: { وإخوانهم يمدونهم في الغي } يعني إخوان الشياطين وهم الضلال يمدون المشركين في الغي. قرأ الجحدري (يمادونهم)، وقرأ عيسى (ثم لا يقصرون) بفتح الياء وضم الصاد.
[7.203]
قوله تعالى: { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها }؛ معناه: وإذا لم تأتهم يا محمد بالآية التي سألوكها تعنتا قالوا: هلا طلبتها من الله فتأتينا بها. وقيل: معناه: هلا أتيت بها من تلقاء نفسك؟ قال الحسن: (كانوا إذا جاءتهم آية كذبوا بها، وإذا أبطأت عليهم التمسوها).
وقوله تعالى: { قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصآئر من ربكم }؛ أي قل لهم: ليست الآيات إلي، ولكن الله يوحي بها علي ما يعلم من المصلحة، وليس لي أن أسأله إنزالها إلا إذا أذن لي في سؤالها. هذا القرآن بصائر من ربكم، { وهدى ورحمة }؛ أي حجج من ربكم وهدى من الضلالة ونجاة من العذاب، { لقوم يؤمنون }؛ يصدقون أنه من الله.
[7.204]
قوله تعالى: { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } قال ابن عباس وابن مسعود وأبو هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والزهري: (إن هذه الآية نزلت في الصلاة). عن أبي العالية الرباحي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى، قرأ أصحابه خلفه حتى نزلت هذه الآية، فسكت القوم)، وقال بعضهم: المراد بالآية وقت نزول القرآن، أمرهم الله بالاستماع والإنصات.
وقال الزجاج: (يحتمل أن يكون معنى الاستماع العمل بما فيه)، وعن ابن عباس قال: (كان المسلمون قبل نزول هذه الآية يتكلمون في الصلاة ويأمرون بحوائجهم، ويجيء الرجل إلى الرجل فيقول له: كم صليتم؟ فيقول كذا، فأنزل الله هذه الآية). والقول الأول أصح وأقرب إلى ظاهر الآية؛ لأنه ليس في الآية تخصيص زمان دون زمان، ولا يجب على القوم الإنصات لقراءة من يقرأ في غير الصلاة.
[7.205]
قوله تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال }؛ يجوز أن يكون الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الخلق، ويجوز أن يكون المعنى: واذكر ربك أيها المستمع للقرآن إذا تلي عليك.
وقوله تعالى: { في نفسك } يعني التفكر في النفس والتعرض لنعم الله مع العلم بأنه لا يقدر عليها أحد سواه، وأنه متى شاء سلبها منه. والمراد بقوله: { ودون الجهر } المتكلم بذكر الله على وجه الخيفة بالتضرع إليه والمخافة منه، ولأن أفضل الدعاء ما كان خفيا على إخلاص وخضوع لا يشوبه رياء وسمعة. وقوله تعالى { في نفسك } إشارة إلى الإخلاص.
وقيل: المراد بقوله: { واذكر ربك في نفسك } الذكر بالكلام الخفي وبقوله: { ودون الجهر } إظهار الكلام بالصوت العالي. وقال ابن عباس: (معنى { واذكر ربك } يعني القراءة في الصلاة { تضرعا } أي جهرا { وخيفة } أي سرا { ودون الجهر من القول } أي دون رفع الصوت في خفض وسكون سمع من خلفك القرآن).
وقال أهل المعاني: { واذكر ربك في نفسك } أي اتعظ بالقرآن واعتبر بآياته، واذكر ربك في ما يأمرك بالطاعة { تضرعا } أي تواضعا وتخشعا { وخيفة } أي خيفة من عقابه. وقال مجاهد: (أمر أن يذكر في الصدور، وأمر بالتضرع والاستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء).
قوله تعالى: { بالغدو والآصال } أي صلاة الغداة والمغرب والعشاء، والأصيل في اللغة: ما بين العصر إلى الليل، وجمعه أصل، ثم آصال جمع الجمع، ثم أصائل. وقيل: يعني { بالغدو والآصال }: البكر والعشاة. وقوله تعالى: { ولا تكن من الغافلين }؛ زيادة تحريض على ذكر الله عز وجل؛ كي لا يغفل الإنسان عن ذلك في أوقات العبادة.
[7.206]
قوله تعالى: { إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه } معناه: أن الملائكة المقربين الذين أكرمهم الله لا يتعظمون عن طاعته إن استكبرتم أنتم فهم أفضل منكم، وهم الملائكة لا يستكبرون عن عبادته وينزهونه عن ما لا يليق به، { وله يسجدون }؛ أي يصلون فيخرون له سجدا في صلاتهم. وقوله تعالى: { عند ربك } يريد قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمسافة.
وعن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كان جبريل عليه السلام إذا أقبل بشيء من القرآن فيه سجود قرأ ثم يخر ساجدا ويأمرني بذلك، ثم يقول: يا محمد واجب عليك وعلى أمتك "
وعن إبراهيم قال: (من قرأ آخر الأعراف إن شاء ركع وإن شاء سجد). وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين النار سترا يوم القيامة، وكان آدم شفيعا له "
[8 - سورة الأنفال]
[8.1]
{ يسألونك عن الأنفال }؛ أي عن الغنائم، { قل الأنفال }؛ الغنائم؛ { لله والرسول }؛ الإضافة للغنائم إلى الله على جهة التشريف، والإضافة إلى الرسول لأنه كان بيان حكمها وتدبيرها إليه؛ لأن الغنائم كانت كلها له كما قال صلى الله عليه وسلم في وبرة أخذها سنام بعير من الفيء:
" والله ما يحل لي من فيئكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ".
وقيل: لما سألوه عن الغنائم؛ لأنها كانت حراما على من قبلهم، كما قال عليه السلام:
" لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها "
وإنما سميت الغنائم أنفالا؛ لأن الأنفال جمع النفل، والنفل الزيادة، والأنفال مما زاده الله هذه الأمة من الحلال، والنافلة من الصلاة ما زاد على الفرض، ويقال لولد الولد: نافلة؛ لأنه زيادة على الولد.
وعن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب أصحابه يوم بدر فقال:
" من قتل قتيلا فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا "
فلما هزم الله المشركين سارع الشباب، وأقبلوا بالأسارى، وأقام الشيوخ عند الرايات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يغتاله أحد من المشركين، فوقع الاختلاف بينهم في استحقاق الغنيمة، فقال الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيامنا أفضل من ذهابهم، فلو أعطيتهم ما وعدتهم لم يبق لنا ولا لعامة أصحابك شيء. وقال الآخرون: نحن قتلنا وأسرنا. وكان ذلك مراجعة بينهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يقول شيئا، فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها يسألونك عن الأنفال لمن هي، ويجوز أن يكون (عن) صلة في الكلام، والمعنى يسألونك الأنفال التي وعدتهم يوم بدر، قل الأنفال لله والرسول ليس لكم فيها شيء. قال عبادة بن الصامت: (لما اختلفنا في غنائم بدر وساءت أخلاقنا، نزعها الله من أيدينا وجعلها إلى رسوله وقسمها بيننا على سواء). وقيل: إن التنفيل المذكور في هذه الآية لرواية غلط وقع من الراوي؛ لأنه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم خلف الوعد واسترجاع ما جعله لأحد منهم، والصحيح: أنهم اختلفوا في الغنائم من غير تنفيل كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }؛ أي اتقوا معاصيه واحذروا مخالفة أمره وأمر رسوله، (وأصلحوا ذات بينكم) أي كونوا مجتمعين على ما يأمركم به الله ورسوله، { وأطيعوا الله ورسوله }؛ في الغنائم وغيرها، { إن كنتم مؤمنين } ، كما تزعمون.
[8.2-3]
قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }؛ معناه: إن صفتهم إذا ذكر الله عندهم فزعت قلوبهم عند الموعظة. والوجل: هو الخوف مع شدة الحزن، والمعنى ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم). قوله تعالى: { وإذا تليت عليهم ءايته }؛ أي قرئت عليهم آياته بالأمر والنهي، { زادتهم إيمنا } ، يقينا وبصيرة بالفرائض مع تصديقهم بالله { وعلى ربهم يتوكلون }؛ أي يفوضون أمورهم إلى الله لا يثقون بغيره.
ثم زاد في نعت المؤمنين فقال: { الذين يقيمون الصلاة }؛ أي يقيمونها بوضوئها وركوعها وسجودها في مواقيتها، { ومما رزقناهم }؛ أعطيناهم من الأموال، { ينفقون } ، في طاعة الله، وإنما خص الله الصلاة والزكاة؛ لعظم شأنهما وتأكيد أمرهما.
[8.4]
قوله تعالى: { أولئك هم المؤمنون حقا }؛ أي أهل هذه الصفة الذين تقدم ذكرهم الذين استحقوا هذه الصفة صدقا، { لهم درجات عند ربهم }؛ أي لهم فضائل ومنازل في الرفعة في الآخرة على قدر أعمالهم، { ومغفرة }؛ لذنوبهم؛ { ورزق }؛ وثواب حسن، { كريم }؛ في الجنة.
[8.5-6]
قوله تعالى: { كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق }؛ وذلك
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن عير قريش أقبلت من الشام، وفيهم أبو سفيان ومخرمة بن نوفل في أربعين رجلا من قريش تجارا، فقال عليه السلام لأصحابه: " هذه عير قريش قد أقبلت، فاخرجوا إليها، فلعل الله أن ينفلكموها فتنتفعوا بها على عدوكم "
فيعدوا على نواضحهم ومعهم فارسان لا غير؛ أحدهما الزبير والآخر المقداد، فخرجوا بغير قوة ولا سلاح، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا لا يرون أنه يكون قتال.
فبلغ ذلك أبو سفيان، فأرسل من الطريق ضمضم بن عمرو الغفاري يخبر أهل مكة أن محمدا قد اعترض لعيركم فأدركوها. فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بنفر المشركين يريدون عيرهم، وقال: [يا محمد إن الله يعدك إحدى الطائفتين، إما العير وإما العسكر] فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فسروا بذلك وأعجبهم، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرف أنهم لا يخالفونه، فقالوا له: (والله لو أمرتنا أن نخوض البحر لخضناه) ثم أخبرهم أن في المشركين كثرة فشق على بعضهم وقالوا: ألا كنت أخبرتنا أنه يكون قتال، فنخرج سلاحنا وقوتنا، إنما خرجنا في ثيابنا نريد العير. فأنزل الله هذه الآية وهم بالروحاء.
ومعناها: امض على وجهك من الروحاء (كما أخرجك ربك من بيتك) أي من المدينة (بالحق) أي الأمر الواجب، { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون }؛ يعني كراهة الطبع للمشقة لا كراهة الحق، وقيل معناه: { يجادلونك في الحق }؛ متكرهين له كما أخرجك ربك من بيتك مع تكرهك له، ومعنى يجادلونك أي يخاصمونك بقولهم: هلا أعلمتنا القتال حتى كنا نستعد له، { بعد ما تبين }؛ أي بعد ما ظهر لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك ربك. قوله تعالى: { كأنما يساقون إلى الموت }؛ أي هم بما عليهم من شدة المشقة لقلة عددهم وعدتهم، وكثرة عدوهم كأنما يساقون إلى الموت، { وهم ينظرون }؛ إلى أسباب الموت.
[8.7-8]
قوله تعالى: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }؛ إما العير وإما العسكر أنها لكم، { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم }؛ وتمنون أن تكون لكم العير دون العسكر، لأن العسكر ذات شوكة وهي السلاح، { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته }؛ أي يظهر الإسلام بوعده الذي أنزل في الفرقان، ويقال: بأمره لكم بالقتال، { ويقطع دابر الكافرين }؛ أي يظهركم على ذات الشوكة فتستأصلوهم، { ليحق الحق ويبطل الباطل }؛ بإهلاك، { ولو كره المجرمون }؛ مشركو مكة.
[8.9]
قوله تعالى: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين }؛ معناه: إذ تستغيثون أيها المسلمون ربكم حين رأيتم قلة عددكم وكثرة عدوكم، فلم يكن لكم مفزع إلا الدعاء لله وطلب المعونة منه { فاستجاب لكم } أي أجابكم، والاستجابة التعطية على موافقة المسألة.
وقوله تعالى: { أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } قال ابن عباس: (كان مع كل ملك ملك فكان جملتهم ألفين). يقال: ردفت الرجل؛ إذا ركبت خلفه، وأردفته إذا أركبته خلفك. وقال عكرمة وقتادة والضحاك: (معناه: بألف من الملائكة متتابعين يتبع بعضهم بعضا)، وقد يجوز أن يقال: أردفت الرجل إذا جاء بعده، وكذلك ردفه. وأما قراءة نافع (مردفين) بفتح الدال فمعناه: أردفهم الله بالمؤمنين، ويقال: أردفته وردفته بمعنى تبعته، قال الشاعر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا
ظننت بآل فاطمة الظنونا
أي جاءت بعدها؛ لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا.
فنزل جبريل في خمسمائة ملك على الميمنة، ونزل ميكائيل في خمسمائة ملك على الميسرة في صورة الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض.
[8.10]
قوله تعالى: { وما جعله الله إلا بشرى }؛ أي ما جعل الله إمداد الملائكة إلا بشارة بالنصر للمؤمنين، وقيل: معناه: ما جعل الله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بإمداد الملائكة إلا بشرى بالنصر.
وقوله تعالى: { ولتطمئن به قلوبكم }؛ أي ولتسكن قلوبكم في الحرب فلا تخافون من عدوكم. قوله تعالى: { وما النصر إلا من عند الله }؛ أي ليس النصر بقلة العدد ولا بكثرته ولا من قبل الملائكة، ولكن النصر من عند الله، { إن الله عزيز }؛ بالنقمة ممن عصى، { حكيم } ، في أفعاله.
وقد اختلفوا هل قاتلت الملائكة يوم بدر مع المؤمنين أم لا؟ قال بعضهم: لم يقاتلوا ولكن الله أيد المؤمنين ليشجع بهم قلوبهم، ويلقي بهم الرعب في قلوب الكافرين، ولو بعثهم الله بالمحاربة لكان يكفي ملك واحد، فإن جبريل أهلك بريشة واحدة سبعا من قرى قوم لوط، وأهلك بصيحة واحدة جميع بلاد ثمود. وهذا القول أقرب إلى ظاهر الآية.
وقال بعضهم: إن الملائكة قاتلت ذلك اليوم؛ لأنه روي أن أبا جهل قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الضرب الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ فقال له: (من الملائكة) فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم!
[8.11]
قوله تعالى: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه }؛ قال جماعة من المفسرين:
" وذلك أنه لما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إلى الكفار، سار بمن معه حتى إذا كان قريبا من بدر لقي رجلين في الطريق، فسألهما: " هل مرت بكما العير؟ " قالا: نعم مرت بنا ليلا، وكان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من المسلمين، فأخذوا الرجلين، وكان أحدهما عبد العباس بن عبد المطلب يقال له أبو رافع، والآخر عبدا لعقبة بن أبي معيط يقال له أسلم كانا يسقيان الماء، فجاؤا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلى بأبي رافع ودفع أسلم إلى أصحابه يسألونه، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي رافع: " من خرج من أهل مكة؟ " فقال: ما بقي أحد إلا وقد خرج، فقال صلى الله عليه وسلم: " أتت مكة اليوم بأفلاذ كبدها " ثم قال: " هل رجع منهم أحد؟ " قال: نعم؛ أبي بن شريف في ثلاثمائة من بني زهرة، وكان خرج لمكان العير، فلما أقبلت العير رجع، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخنس حين خنس بقومه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يسألون أسلم، وكان يقول لهم: خرج فلان وفلان، وأبو بكر رضي الله عنه يضربه بالعصا ويقول له: كذبت بخبر الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن صدقكم ضربتموه، وإن كذبكم تركتموه " فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عرف أمرهم ".
فساروا حتى نزلوا بدرا بجانب الوادي على غير ماء، ونزل المشركون على جانبه الأقصى على الماء، والوادي بينهما فباتوا ليلتهم تلك، فألقى الله على المسلمين النوم فناموا ، ثم استيقظوا وقد أجنبوا وليس معهم ماء، فأتاهم الشيطان فوسوس إليهم وقال: لهم تزعمون أنكم على دين الله وأنتم مجنبون تصلون على الجنابة، والمشركون على الماء.
فأمطر الله الوادي وكان ذا رمل تغيب فيه الأقدام، فاشتد الرمل وتلبدت بذلك أرضهم وأوحل أرض عدوهم، وبنى المسلمون في مكانهم حياضا واغتسلوا من الجنابة وشربوا وسقوا دوابهم وتهيأوا للقتال، فذلك قوله تعالى: { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } أي واذكروا إذ يلقي الله عليكم النعاس، والنعاس: أول النوم قبل أن يثقل. وقوله تعالى: { أمنة منه } أي أمنا من الله منهم بوعد النصر أمنا حتى غشيهم النعاس في حال الاستعداد للقتال. قال ابن عباس: (النعاس عند القتال أمن من الله، وفي الصلاة من الشيطان).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (يغشاكم) واحتجا بقوله تعالى:
يغشى طآئفة منكم
[آل عمران: 154] فجعل الفعل للنعاس.
وقرأ نافع (يغشيكم) على أن الفعل لله تعالى ليكون مطابقا لقوله: (وينزل عليكم من السماء ماء) واحتج بقوله تعالى:
كأنما أغشيت وجوههم
[يونس: 27]. وقرأ الحسن وأبو رجاء وعكرمة وأهل الكوفة وابن عامر ويعقوب (يغشيكم) بالتشديد لقوله تعالى:
فغشاها ما غشى
[النجم: 54].
قوله تعالى: { وينزل عليكم من السمآء مآء ليطهركم به }؛ يعني المطر ليطهركم به من الجنابة والحدث، { ويذهب عنكم رجز الشيطان }؛ وسوسة الشيطان التي كان وسوس إليكم بأن عدوكم قد غلب على الماء، وأنكم في مكان تسوح أقدامكم في الرمل. ويقال: أراد بالرجز الجنابة التي أصابتهم بالاحتلام، فإن الاحتلام إنما يكون من وسوسة الشيطان.
وقرأ سعيد بن المسيب (ليظهركم) بالظاء من أظهركم الله. وقرأ ابن محيصن (رجز) بضم الراء. وقرأ أبو العالية (رجس الشيطان) بالسين، والعرب تعاقب بين السين والزاي فتقول: بزق وبسق، والسراط والزراط.
قوله تعالى: { وليربط على قلوبكم }؛ أي وليشد على قلوبكم بالصبر، ويشجعكم على القتال. وقيل: معناه: وليربط على قلوبكم بالصبر والمطر. قوله تعالى: { ويثبت به الأقدام }؛ أي ويثبت بالمطر الأقدام حتى لا تسوح في الرمل. وقيل: معناه: ويثبت بالبصيرة وقوة القلب الأقدام؛ لأن الأقدام إنما تثبت في الحرب بقوة القلب .
[8.12]
قوله تعالى: { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم }؛ إذ يلهم ربك الملائكة النازلين من السماء { أني معكم } بالنصر للمسلمين، { فثبتوا الذين آمنوا }؛ بالتنبيه والإخطار بالبال، ويقال: بشروهم بالنصر، وقيل: أروهم أنفسكم مددا لهم فإذا عاينوكم ثبتوا. والوحي: إلقاء المعنى الى النفس من وجه خفي.
وعن ابن عباس أنه قال: (سوى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهم، وقدموا راياتهم فوضعوها مواضعها، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له يدعو الله ويستغيث، فهبط جبريل عليه السلام في خمسمائة على ميمنتهم وميكائيل في خمسمائة على ميسرتهم، فكان الملك يأتي الرجل من المسلمين على صورة رجل ويقول له: دنوت من عسكر المشركين فسمعتهم يقولون: والله لإن حملوا علينا لا نثبت لهم أبدا.
وألقى الله في قلوب الكفرة الرعب بعد قيامهم للصف، فقال عتبة بن ربيعة: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش نقاتلهم. فقام إليهم بنو عفراء من الأنصار: عوذ ومعوذ ومعاذا أمهم عفراء وأبوهم الحارث، فمشوا إليهم فقالوا لهم: ارجعوا وأرسلوا إلينا أكفاءنا من بني هاشم، فخرج إليهم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، قال علي: فمشيت إلى الوليد بن عتبة ومشى إلي، فضربته بالسيف أطرت يده، ثم بركت عليه فقتلته، فقام شيبة بن ربيعة إلى عبيدة بن الحارث فاختلفا بضربتين، ثم ضرب عبيدة ضربة أخرى فقطع ساق شيبة، ثم قام حمزة إلى عبيدة بن ربيعة فقال: أنا أسد الله وأسد رسوله، ثم ضربه حمزة فقتله. فقام أبو جهل في أصحابه يحرضهم ويقول: لا يهولنكم ما لقي هؤلاء، فإنهم عجلوا واستحمقوا، ثم حمل هو بنفسه، ثم حمل المسلمون كلهم على قريش فهزموهم).
قوله تعالى: { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب }؛ أي سأقذف في قلوبهم المخافة منكم. علم الله المسلمين كيف يضربونهم، فقال عز وجل: { فاضربوا فوق الأعناق }؛ معناه على الأعناق، وقال عطية والضحاك: (معناه فاضربوا الأعناق)، كقوله تعالى:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب
[محمد: 4]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله تعالى، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق ".
وقال بعضهم { فوق } بمعنى (على)، أي فاضربوا على الأعناق، وقال عكرمة: (معناه فاضربوا الرؤوس). وقال ابن عباس: (فاضربوا الأعناق فما فوقها) يعني الرؤوس والأعناق، نظيره قوله تعالى:
فإن كن نسآء فوق اثنتين
[النساء: 11] أي اثنتين فما فوقهما، وإنما أمر الله تعالى بضرب الرقاب والأعناق؛ لأن أعلى جلدة العنق هو المقتل. قوله تعالى: { واضربوا منهم كل بنان }؛ قال عطية: (يعني كل مفصل)، وقال ابن عباس والضحاك: (يعني الأطراف).
وقال بعضهم معنى قوله تعالى: { فاضربوا فوق الأعناق } الصناديد، وقوله تعالى: { واضربوا منهم كل بنان } يعني السفلة. إلا أن الأول أصح. وقيل: معناه: واضربوا منهم كل عضو أمكنكم، وليس عليكم توقي عضو دون عضو.
وعن أبي سعيد الفاراني أنه كان يقول: (أراد الله أن لا تتلطخ سيوف المسلمين بفرث الكفار، فأمرهم أن يضربوا فوق الأعناق ويضربوا منهم كل بنان). والبنان في اللغة: هو الأصابع وغيرها من الأعضاء التي بها يكون قوام الإنسان صونا لمكانه وحياته، مأخوذ من قولهم: أبنن الرجل بالمقام إذا أقام به.
[8.13]
قوله تعالى: { ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله }؛ أي ذلك الضرب والقتل بأنهم شاقوا أولياء الله ورسوله، والمشاقة أن يصير أحد العدوين في شق والآخر في شق آخر، كما أن المجادلة أن يصير أحدهما في حد غير حد الآخر. وقوله تعالى: { ومن يشاقق الله ورسوله }؛ في ومن يخالف أولياء الله، { فإن الله شديد العقاب } ، له.
وأما إظهار التضعيف في موضع الجزم في قوله { يشاقق } فهو لغة أهل الحجاز، وغيرهم يدغم أحد الحرفين في الآخر لاجتماعهما من جنس واحد، كما قال تعالى في سورة الحشر
ومن يشآق الله
[الآية: 4] بقاف واحدة.
[8.14]
وقوله تعالى: { ذلكم فذوقوه }؛ معناه: إن الذي ذكرت لكم أيها الكفار من العذاب العاجل في الدنيا فذوقوه. ثم بين جل ذكره أن القتل في الدنيا لا يصير كفارة لهم، وأن الله سيعاقبهم في الآخرة بقوله: { وأن للكافرين عذاب النار } ، وإنما قال تعالى في عذاب الدنيا { فذوقوه }؛ لأن الذوق يتناول اليسير من الشيء، وكل ما يلقى الكفار من ضرب أو قتل في الدنيا فهو قليل من العذاب يعجل لهم، ومعظم عذابهم يؤخر إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: { وأن للكافرين عذاب النار } في فتح (أن) وجهان أحدهما: لأنها في موضع الرفع تقديره ذلكم فذوقوه وذلكم أن للكافرين. والثاني: لأنها في موضع النصب؛ تقديره: ذلكم فذوقوه واعلموا أن للكافرين. وقيل: واعلموا بأن للكافرين، فلما حذف الباء نصب.
[8.15]
قوله تعالى: { يآأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار }؛ خطاب من الله للمسلمين حين التقوا بالعدو يوم بدر، معناه: إذا لقيتم الذين كفروا مزاحفة مستعدين لحربهم، فلا تنهزموا حتى تدبروا. والزحف في اللغة: هو الدنو قليلا قليلا، والزحف التداني، يقال: زاحفت القوم إذا ثبت لهم، فكأنه قال تعالى: إذا واقعتموهم للقتال فاثبتوا لهم. والتولية: جعل الشيء يلي غيره وهو متعد إلى مفعولين، وولى دبره إذا جعله إليه.
[8.16]
قوله تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره }؛ أي ومن يجعل ظهره إليهم وقت القتال، { إلا متحرفا لقتال }؛ إلا أن ينحرف ليقاتل في موضع يراه أصلح في باب المحاربة، وليطلب غرة يطمع فيها من العدو. قوله تعالى: { أو متحيزا إلى فئة }؛ أي إلا أن يقصد الانضمام إلى جماعة يمنعونه من العدو، يعني إذا كثر العدو للمؤمنين فيه يلجأون، فيحاربون العدو بعد ذلك معهم؛ كان لهم ترك القتال عند ذلك، ومن ولاهم الدبر على سبيل الانهزام من غير هذين الوجهين، { فقد بآء بغضب من الله } ، فقد احتمل غضبا من الله، { ومأواه }؛ في الآخرة { جهنم وبئس المصير } ، صار إليه.
والتحرف في اللغة: هو الزوال من جهة الاستواء، والتحيز: طلب حيز يكمن فيه.
واختلف العلماء هل الوعيد في هذه الآية مقصور على حرب بدر أم هو عام في جميع الأوقات؟ قال بعضهم: إنه خاص في حرب بدر؛ لأنه لم يكن يومئذ للمسلمين فيه سواهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حاضرا في ذلك الحرب، وكان النصر موعودا إليه يومئذ ومع حضوره، وكان لا يعد غيره فئة، وكان المنهزم عن القتال يومئذ غير متحيز إلى فئة ، فأما اليوم المنهزم عن الحرب يكون متحيزا إلى فئة أعظم من المحاربين من المسلمين. وقال بعضهم: إنه عام في جميع الأوقات، ولا يجوز الانهزام عن قتال المشركين مع قوة القتال، وإلى هذا ذهب ابن عباس، وذكر محمد بن الحسن في السير الكبير (أن الجيش إذا بلغوا اثنى عشر ألفا فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر العدو). واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر من قلة ".
[8.17]
قوله عز وجل: { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم }؛ معناه: لم تقتلوهم يوم بدر بأنفسكم، ولكن الله قتلهم بالملائكة. وأضاف الله قتلهم إلى نفسه؛ لأن السبب في قتلهم كان من الله تعالى، فإنه هو الذي أيد المؤمنين بالملائكة حتى شجع قلوبهم، وأنزل المطر حتى ثبت به الأقدام، وألقى في قلوب المشركين الرعب حتى انهزموا. وقيل: كان المسلمون يقولون قتلنا فلانا وفلانا. فأراد الله تعالى أن لا يعجبوا بأنفسهم.
قوله تعالى: { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }؛ معناه: روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: " ناولني كفا من تراب الوادي " فناوله قبضة، فاستقبل بها وجوه المشركين فرماهم وقال: " شاهت الوجوه وقبحت " فملأ الله أعينهم بها، فلم يبق فيهم أحد إلا وقد شغل بعينه، فحمل عليهم المسلمون فهزموهم "
فذلك قوله تعالى: { وما رميت إذ رميت } أعلم الله أن كفا من التراب لا يملأ عيون ذلك الجيش برمية بشر؛ لأنه تعالى تولى إيصال ذلك إلى أبصارهم من الموضع الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصاب عين كل واحد منهم قسط من ذلك التراب.
قوله تعالى: { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا }؛ أي ولينعم على المؤمنين بالنصر والغنيمة والأسارى نعمة حسنة. وقوله تعالى: { إن الله سميع عليم } ، أي سميع لدعائكم، عليم بأفعالكم وضمائركم.
[8.18]
قوله عز وجل: { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين }؛ أي ذلكم الذي ذكرت من القتل والرمي والإبلاء الحسن، { وأن الله } أي واعلموا أن الله، وفي فتح (أن) من الوجوه مثل ما في قوله:
وأن للكافرين عذاب النار
[الأنفال: 14] وقد بيناه. وقوله تعالى: { موهن كيد الكافرين } أي مضعف كيدهم. قرأ أهل الكوفة إلا حفصا وابن يعقوب وابن عامر (موهن) بالتخفيف، (كيد) بالنصب، وقرأ الحسن والأعمش وحفص (موهن كيد) مخففا مضافا بالخبر طلبا للخفة كقوله:
مرسلوا الناقة
[القمر: 27]
كاشفو العذاب
[الدخان: 15].
[8.19]
قوله تعالى: { إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح }؛ هذا خطاب للكافرين، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر قبل القتال لهم: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير الدينين، اللهم أينا اقطع للرحم وأفسد للجماعة فأحنه اليوم. فاستجاب الله دعاءه على نفسه، فأتاه بالفتح فضربه إبنا عفراء عوف ومعاذ وأجهز عليه ابن مسعود.
وقال السدي والكلبي: (كان المشركون حين خرجوا إلى بدر، تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، اللهم أي الفئتين أحب إليك فانصرهم، اللهم اقض بيننا وبينهم. فأنزل الله هذه الآية، إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فنصر محمد صلى الله عليه وسلم). وقال عكرمة: (قال المشركون: اللهم لا نعرف ما جاء به محمد، فافتح بيننا وبينه بالحق. فأنزل الله هذه الآية { إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح } أي إن تستحكموا فقد جاءكم الحكم، وإن تستقضوا فقد جاءكم القضاء).
وقوله تعالى: { وإن تنتهوا فهو خير لكم }؛ أي وإن تنتهوا عن الشرك والمعاصي فهو خير، { وإن تعودوا }؛ إلى القتال؛ { نعد }؛ بأن نأمر المسلمين بجهادكم وننصرهم عليكم. وقال بعضهم: هذه الآية خطاب للمؤمنين؛ أي استنصروا الله واسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح والنصر، وإن تنتهوا عن فعلكم في الأسارى والفداء يوم بدر فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى فعلكم بالأسارى نعد إلى الإنكار عليكم، { ولن تغني عنكم فئتكم شيئا }؛ أي وإن سلب عنكم النصر حتى لا تغني عنكم جماعتكم شيئا، { ولو كثرت }؛ في العدد. قوله تعالى: { وأن الله مع المؤمنين }؛ قرأ نافع وابن عامر بخفض (إن) وبفتح (أن) بمعنى ولأن الله، وقيل: عطف على قوله
وأن الله موهن كيد الكافرين
[الأنفال: 18]، وقيل: على معنى واعلموا أن الله، وقرأ الباقون (وإن الله) بالكسر على الابتداء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأن قراءة عبد الله: (وإن الله لمع المؤمنين) بالنصر والمعونة.
[8.20]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون }؛ أي أطيعوا الله ورسوله في أمر الغنيمة وغيرها، ولا تولوا عن أمر الله، وأنتم تسمعون ما أنزل الله تعالى، وقال الحسن: (معناه وأنتم تسمعون الحجة في وجوب طاعة الله وطاعة رسوله).
وأما تخصيص المؤمنين بالأمر لهم بالطاعة وإن كانت هذه الطاعة واجبة على غير المؤمنين كوجوبها على المؤمنين، فلأحد معنيين: إما إجلالا لهم ورفعا لقدرهم فيدخل غيرهم في الخطاب على جهة التبع لهم، وإما لأنه لم يعتد بغير المؤمنين؛ لإعراضهم عما وجب عليهم.
[8.21]
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون }؛ أي لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا على جهة القبول، وهم لا يسمعون للقبول، وإنما سمعوا به للرد والإعراض عنه، ويقال: معناه: ولا تكونوا كالذين قالوا قبلنا وهم لا يقبلون، ومنه قوله (سمع الله لمن حمده) أي قبل الله حمد من حمده. واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، قال ابن جريج: (نزلت في المنافقين) وقال الحسن: (في أهل الكتاب). ويقال: في مشركي العرب.
[8.22]
قوله عز وجل: { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون }؛ معناه: أن شر الخليقة على وجه الأرض الكفار الذين لا يسمعون الهدى، ولا يتكلمون بالخير، ولا يتدبرون القرآن. وسماهم صما بكما؛ لأنهم لم ينتفعوا بما سمعوا من دلائل الله تعالى، قال الأخفش: (كل محتاج إلى غذاء فهو دابة). ومعنى الآية: إن شر ما دب على وجه الأرض من خلق الله تعالى الصم البكم عن الحق، فهم لا يسمعونه ولا يعقلونه. وقيل: صم القلوب وعميها، قال الله تعالى:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
[الحج: 46].
[8.23]
قوله تعالى: { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم }؛ أي لو علم الله فيهم أنهم يصلحون بما نورده عليهم من الحجة بآياته لأسمعهم إياها. وقيل: لأسمعهم جواب كل ما سألوه عنه، { ولو أسمعهم لتولوا }؛ ولو بين لهم كل ما يختلج في أنفسهم لتولوا عن الهدى، { وهم معرضون } ، لمعاندتهم.
[8.24]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }؛ معناه: أجيبوا الله والرسول. وقيل: معنى الإجابة طلب الموافقة للداعي على وجه الطاعة. وقيل: الجمع بين الاستجابة لله وللرسول؛ أي استجيبوا لله بسرائركم وللرسول بظواهركم.
وقوله تعالى: { إذا دعاكم لما يحييكم } أي إذا دعاكم إلى العلم الذي يحييكم في أمر الدين. وقيل: معناه: إذا دعاكم إلى الجهاد الذي يحيي أمركم. وقيل: إذا دعاكم إلى ما يكون سببا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة؛ لأنه إذا حصل الامتثال بأمر الله ورسوله، حصلت هذه الحياة الدائمة، وإن لم يحصل الامتثال أدى ذلك إلى العقاب الذي يتمنى معه الموت. قال القتيبي: (معنى قوله تعالى: { لما يحييكم } يعني الشهادة؛ لأن الله تعالى قال في الشهداء
بل أحياء عند ربهم يرزقون
[آل عمران: 169]). واللام في قوله (لما) بمعنى (إلى).
قوله تعالى: { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه }؛ فيه ثلاثة أقوال؛ أحدها: أن معناه: يحول بين المرء وأمله بالموت أو غيره من الآفات، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة، ودعوا التسويف فإن الأجل يحول دون الأمل. وقال مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه لا يتركه يفهم ولا يعقل).
والثاني: أن معناه: أن الله تعالى أقرب إلى ذي القلب من قلبه، فإن الذي يحول بين الشيء وغيره أقرب إلى ذلك الشيء من غيره، كما قال تعالى:
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد
[ق: 16]، وفي هذا تحذير شديد.
والثالث أن معناه: أن الله يقلب القلوب من حال إلى حال كما جاء في الدعاء:
" يا مقلب القلوب "
وقال ابن جبير: (يحول بين الكافر أن يؤمن، وبين المؤمن أن يكفر). وقال ابن عباس والضحاك: (يحول بين المؤمن ومعصيته، ويحول بين الكافر وطاعته). وقال السدي: (يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن، ولا يستطيع أن يكفر إلا بإذنه).
قرأ الحسن: (يحول بين المر) بتشديد الراء من غير همز، وقرأ الزهري بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة.
وقوله تعالى: { وأنه إليه تحشرون }؛ عطف على قوله: { أن الله يحول بين المرء وقلبه }. معناه: واعلموا أن محشركم في الآخرة إلى الله، فيجزي كل عامل بما عمل، إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر.
وقيل: في آخر الآية تأويل الآية؛ أي الذي يحول بين المرء وقلبه قادر على أن يبدل خوفكم أمنا، وأمن عدوكم خوفا، فيجعل القوي ضعيفا والضعيف قويا، والعزيز ذليلا والذليل عزيزا، والشجاع جبانا، والجبان شجاعا، يفعل ما يشاء وما يريد فأجيبوا الرسول في الجهاد ولا تخافوا ضعفكم.
[8.25]
قوله عز وجل: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة }؛ نزلت في عثمان وعلي رضي الله عنهما، أخبر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالفتنة التي تكون تسببها أنها ستكون بعدك يلقاها أصحابك تصيب الظالم والمظلوم، ولا تكون بالظلمة وحدهم خاصة ولكنها عامة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه، فكان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن بسبب علي وعثمان ما لا يخفى على أحد.
قوله تعالى: { لا تصيبن } جواب الأمر بلفظ النهي، كما يقال: أنزل من الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك، معناه: أن تنزل عنها لا تطرحنك، فاذا أثبت النون الخفيفة والثقيلة كان آكد للكلام، ومنه قوله تعالى:
ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده
[النمل: 18].
والمراد بالفتنة القتل الذي ركب الناس فيه بالظلم، وكان أمر الله أمرا باتقاء ترك الإنكار على أهل المعاصي واتقاء الاختلاط بأهل المعصية، قال ابن عباس: (أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب).
قوله تعالى: { واعلموا أن الله شديد العقاب }؛ تحذير شدة العقوبة لمن أهاج الفتن، قال صلى الله عليه وسلم:
" الفتنة راتعة في بلاد الله واضعة خطامها، فالويل لمن أهاجها "
، وفي بعض الأخبار:
" الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ".
[8.26]
قوله تعالى: { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض }؛ نزلت في المهاجرين خاصة؛ أي احفظوا معشر المهاجرين إذ أنتم قليلون في العدة مقهورون في أرض مكة، { تخافون أن يتخطفكم الناس }؛ أي يختلسكم ويذهب بكم أهل مكة، { فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون }؛ فآواكم إلى المدينة وأعانكم يوم بدر بالملائكة، ورزقكم الحلال من الغنائم؛ لكي تشكروا الله وتعرفوا ذلك منه فتطيعوه.
[8.27]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون }؛ نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر،
" فإن بني قريظة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ابعث لنا خليفة من خلفائك ننزل على حكمه، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا إلا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا يقولون: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان عياله وولده وأهله عندهم، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقالوا: يا أبا لبابة أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأشار بيده إلى حلقه؛ أي إنه الذبح فلا تفعلوا، ولم يتكلم بلسانه، فأنزل الله هذه الآية، قال أبو لبابة: (فما زالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني خنت الله ورسوله). فذلك قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } كما فعل أبو لبابة.
فلما نزلت هذه الآية شد أبو لبابة نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال (لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله علي) فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحله بيده، فقال أبو لبابة: (تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أتخلع من مالي) فقال صلى الله عليه وسلم: " يجزيك الثلث أن تتصدق به " ".
وقال ابن عباس: (معنى الآية: لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته). { وتخونوا أماناتكم } أي ولا تخونوا أماناتكم، انتصب على الظرف؛ أي إنكم إن فعلتم ذلك فإنما خنتم أماناتكم عطفا.
ويقال: أراد بقوله: { لا تخونوا الله } الخيانة من الغنائم التي هي عطية الله، والخيانة لله فيها خيانة الرسول أيضا؛ لأنه هو القيم بقسمتها، وقوله: { وتخونوا أماناتكم } يحتمل الخيانة في الغنائم أيضا؛ لأنهم كلهم مشتركون فيها، فمن استبد بشيء منها فقد خان، ويحتمل الخيانة في أثمان بعض الناس بعضا من حقوق أنفسهم، وقال الأخفش: (قوله تعالى: { وتخونوا أماناتكم } عطفا على ما قبله من النهي، تقديره: ولا تخونوا أماناتكم).
[8.28]
قوله تعالى: { واعلموا أنمآ أموالكم وأولادكم فتنة }؛ معناه: أن الإنسان ربما يترك الجهاد ويخون في الأمانات لأجل الأولاد أو حرصا على المال، وقد روينا أن أبا لبابة إنما حمله على ما فعل ماله وأهله وولده الذين كانوا في بني قريظة، لأنه إنما ناصحهم لأجلهم وخان المسلمين بسببهم.
قوله تعالى: { وأن الله عنده أجر عظيم }؛ أي ثواب جسيم في الآخرة لمن لم يعص الله لأجل المال والذرية.
[8.29]
قوله عز وجل: { يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم }؛ أي إن تتقوا الله في الأمانات، فتمتنعوا من معاصيه بأداء فرائضه يجعل لكم نورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل. وقيل: يجعل لكم فتحا ونصرا، كما قال تعالى:
يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
[الأنفال: 41] أراد به يوم عز المؤمنين وخذلان الكافرين.
وقيل: معناه يجعل لكم مخرجا ونجاة في الدنيا والآخرة. وقال الضحاك: (فرقانا: أي ثباتا). قوله تعالى: { ويكفر عنكم سيئاتكم } أي يمح عنكم ذنوبكم، ويستر عليكم خطاياكم ولا يؤاخذكم بها، { والله ذو الفضل العظيم }؛ أي عظيم الفضل على عباده أسدى لهم بالنعم.
[8.30]
قوله تعالى: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } ذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فعقب ما أنعم الله عليه من النصر والظفر يوم بدر وما كان من مكر المشركين في أمره بمكة فقال: { وإذ يمكر بك الذين كفروا } أي اذكر تلك الحالة.
قال ابن عباس: (وذلك أن رؤساء قريش اجتمعوا في دار الندوة يمكرون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتالون له، منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة؛ وأبو جهل؛ وأبو سفيان؛ والنضر بن الحارث؛ وأبو البحتري بن هشام؛ ونبيه ومنبه؛ وأبي بن خلف وربيعة بن الأسود، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ كبير عليه ثياب أطمار، فجلس بينهم فقالوا: ما لك يا شيخ دخلت في خلوتنا بغير إذننا؟! فقال: أنا رجل من أهل نجد قدمت مكة، فأراكم حسنة وجوهكم طيبة روائحكم، فأحببت أن أسمع حديثكم فأقتبس منكم خيرا فدخلت، وإن كرهتم مجلسي خرجت، وما جئتكم إلا أني سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضر معكم، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا. فقالوا: هذا رجل لا بأس عليكم منه.
فتكلموا فيما بينهم، فبدأ عمرو بن هشام فقال: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا، فتجعلوه في بيت تسدون عليه بابه؛ وتشدون عليه وثاقه؛ وتجعلون له كوة تدخلون عليه طعامه وشرابه، فيكون محبوسا عندكم إلى أن يموت. فقال إبليس: بئس ما رأيت! تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت، وقد سمع به من حولكم فتحبسوه، يوشك أن يقاتلكم أهل بيته ويفسدوا عليكم جماعتكم فقالوا صدق والله الشيخ.
ثم تكلم أبو البختري فقال: أرى أن تحملوه على بعير فتشدوا وثاقه عليه، ثم تخرجوه من أرضكم حتى يموت أو يذهب حيث يشاء. فقال إبليس: بئس الرأي ما رأيت! تعمدون إلى رجل له فيكم أهل بيت، وقد سمع به من حولكم أفسد عليكم جماعتكم ومعه منكم طائفة، فتخرجونه إلى غيركم فيأتيهم فيفسد منهم أيضا جماعة بما يرون من حلاوة كلامه وطلاقة لسانه، ويجتمع عليه العرب وتستمع إلى حسن حديثه، ثم ليأتينكم بهم فيخرجوكم من دياركم ويقتل أشرافكم. فقالوا: صدق والله الشيخ.
فتكلم أبو جهل فقال: أرى أن تجتمع من كل بطن منكم رجل يأخذون السيوف، فيضربونه جميعا ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا يدري قومه من يأخذون ولا يقومون على حرب قريش كلها، وإنما إذا رأوا ذلك قبلوا الدية، فتؤدي قريش ديته واسترحنا. فقال إبليس: صدق والله الشاب، وهو أجودكم رأيا، القول قوله لا أرى غيره. فتفرقوا على ذلك.
فنزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأمره بالهجرة إلى المدينة) وكان من أمر الغار ما كان، فذلك قوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } أي ليحبسوك، وهو ما قاله عمرو بن هشام.
ويقال: معنى (ليثبتوك) أي يعتدوك أو يخرجوك. قوله تعالى: { أو يقتلوك } ظاهر، وهو ما قاله أبو جهل، وقوله: { أو يخرجوك } أي من بين أظهرهم إلى غيرهم، وهو ما قاله أبو البحتري بن هشام.
قوله تعالى: { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }؛ أي يريدون بك الشر والهلاك، { ويمكر الله } أي يريد قتلهم ببدر مجازاة لهم على فعلهم وسوء صنعهم. قوله تعالى: { والله خير الماكرين } أي أفضل الصانعين وأقوى المدبرين؛ لأنه لا يمكر إلا بحق وصواب، ومكرهم باطل وظلم.
[8.31]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشآء لقلنا مثل هذا إن هذآ إلا أساطير الأولين }؛ يعني النضر بن الحارث، وذلك أنه كان يختلف تاجرا إلى فارس والحيرة، فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأمم، ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرأون التوراة والإنجيل، فجاء مكة فوجد محمدا يقرأ القرآن، فقال: (قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) أي أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم. وكان النضر يقول: إن هذا الذي يحدثكم به محمد ما هو إلا مثل ما أحدثكم به من أحاديث الأولين، وكان النضر كثير الحديث عن الأمم الخالية.
[8.32]
قوله عز وجل: { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم }؛ نزلت في النضر بن الحارث أيضا، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين في كتبهم، ثم قال: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، كما أمطرتها على قوم لوط، أو ائتنا ببعض ما عذبت به الأمم فيه، فنزل
سأل سآئل بعذاب واقع * للكافرين
[المعارج: 1-2] وكان النضر من بني عبد الدار.
ومعنى الآية: واذكر يا محمد إذا قالوا: اللهم... وأنت بين أظهرهم بمكة ، فلم يعذبهم الله حينئذ وعذبهم من بعد، فأسر النضر يوم بدر وقتل صبرا، وكان الذي أسره المقداد بن الأسود. وقوله تعالى: { هو الحق من عندك } عنادا وتوكيدا وصلة في الكلام، و { الحق } نصب بخبر كان.
[8.33]
قوله تعالى: { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون }؛ قال ابن عباس: (قال الحارث بن عامر بن نوفل: يا محمد، والله إنك فينا لصادق ولا نتهمك، ولكنا متى نؤمن بك غزانا العرب، فنزل { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } ) أي مقيما بين أظهرهم، ولم تعذب أمة قط ونبيها بين أظهرها حتى يخرج منها. { وما كان الله معذبهم } أي وما كان الله ليسلط عليهم عدوهم { وهم يستغفرون } أي يصلون.
[8.34]
قوله تعالى: { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام }؛ يعني عذاب الآخرة، وعن عبدالرحمن بن أبزي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فنزل
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم
[الأنفال: 33] فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فنزل
وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
[الأنفال: 33] وكان من المسلمين بقية بمكة لم يهاجروا، وكانوا يستغفرون الله ويصلون، فلما خرج كفار مكة إلى حرب بدر، ونزل قوله { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } أي يمنعون المؤمنين عنه فعذبهم الله يوم بدر).
قوله تعالى: { وما كانوا أوليآءه }؛ أي ما كان الكفار أولياء المسجد الحرام، قال الحسن: (وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله ذلك عليهم). وقيل: معناه: وما كانوا أولياء الله. وقوله تعالى: { إن أوليآؤه إلا المتقون }؛ أي ما أولياء الله، وقيل: ما أولياء المسجد الحرام إلا المتقون الشرك، { ولكن أكثرهم }؛ الكفار، { لا يعلمون } ، ذلك.
[8.35]
قوله تعالى: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكآء وتصدية }؛ يعني: إن تقرب المشركين إلى الله كان بالصفير والتصفيق، كانوا يفعلون ذلك عند البيت مكان الدعاء والتسبيح. وقيل: كانوا يأتون بأفعال الصلاة، إلا أنهم مع ذلك يصفرون فيها ويصفقون.
والمكاء: طائر أبيض يكون في الحجاز يصفر يسمى باسم بصوته، ويقال: مكا يمكو إذا صفر. وصدى تصدية إذا صفق بيده.
وقال مقاتل: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه ورجلان عن يساره، فيصفرون كما يصفر المكاء، ويصفقون بأيديهم؛ ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءته، وكانوا يفعلون كذلك بصلاة من آمن به، فقتلهم الله يوم بدر). وذلك قوله تعالى: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }؛ ويقال: أراد بهذا أنه يقال لهم يوم القيامة: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون }. وقال أبو جعفر: (سألت أبا سلمة عن قوله تعالى: { إلا مكآء وتصدية } فجمع يديه ثم نفخ فيهما صفيرا). وقال ابن عباس: (كانت قريش يطوفون بالبيت عراة، ويدخلون أصابعهم في أفواههم فيصفرون).
[8.36]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون }؛ نزلت هذه الآية في المطعمين منهم يوم بدر، وكانوا ثلاثة عشر رجلا وهم: أبو جهل وأخوه الحارث؛ والنضر بن الحارث؛ وأبي بن خلف؛ وزمعة بن الأسود؛ وعتبة وشيبة، كان لكل واحد منهم نوبة يوم في الإطعام.
ومعنى الآية: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصدوا الناس عن دين الله، فيستقبح هذه الإنفاق منهم، ثم يكون إنفاقهم ندامة عليهم يوم القيامة، يهزمون ويقتلون ببدر لا تنفعهم نفقتهم.
والحسرة: مأخوذة من الكشف، يقال: حسر رأسه إذا كشفه، والحاسر: كاشف الرأس، فيكون المعنى: ثم يكشف لهم عن ذلك ما يكون حسرة عليهم. قيل: كان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. قوله تعالى: { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }؛ بيان أن ذلك القتل والهزيمة لا يكفران ذنوبهم، وأنهم يحشرون في الآخرة إلى جهنم للجزاء.
[8.37]
وقوله تعالى: { ليميز الله الخبيث من الطيب }؛ أي ليميز الله نفقة المؤمنين من نفقة الكافرين، والعمل السيء من العمل الصالح. وقرئ (ليميز الله) بالتشديد، والمعنى: ليميز الله ذلك الحشر الخبيث من الطيب؛ أي الكافر من المؤمن، فينزل المحق الجنان والكافر النيران.
قوله تعالى: { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم }؛ أي يجعل ما أنفقه المشركون في معصية الله بعضه فوق بعض، فيجعله ركاما فيكوي بذلك جباههم وجنوبهم في جهنم.
وقيل: أراد بقوله { فيركمه جميعا } طرح بعضه على بعض، كما يفعل بالمتاع الخفيف تحقيرا له. وقيل: معنى (فيركمه) أي يجمعه حتى يصير كالسحاب المركوم وهو المجتمع الكثيف فيجعله في جهنم. وقوله تعالى: { أولئك هم الخاسرون }؛ أي هم الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وغشت صفقتهم وخسرت تجارتهم؛ لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة.
[8.38]
قوله عز وجل: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }؛ أي قل لأبي سفيان وأصحابه إن ينتهوا عن الشرك وقتال محمد صلى الله عليه وسلم { يغفر لهم ما قد سلف } أي ما قد مضى من ذنوبهم قبل الإسلام، { وإن يعودوا }؛ لقتال محمد، { فقد مضت سنت الأولين } ، في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفار، وإن للكفار النار في الآخرة. وأنشد بعضهم:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف
ثم انتهى عما أتاه واقترف
لقوله { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }.
[8.39-40]
قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة }؛ أي قاتلوا كفار مكة حتى لا يكون شرك. وقيل: حتى لا يكون كافر بغير عهد؛ لأن الفتنة إنما تكون بأن يترك الكفار بلا عهد، فإن الكافر بغير عهد يكون عزيزا في نفسه يدعو الناس إلى دينه. ويجوز أن يكون المراد بالفتنة كل ما يؤدي إلى الفساد.
وقوله تعالى: { ويكون الدين كله لله }؛ أي وتكون الطاعة كلها لله، فتجتمع الناس على دين الإسلام. وقوله تعالى: { فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير }؛ أي فإن انتهوا عن الشرك فإن الله يجازيهم جزاء البصير بأعمالهم. { وإن تولوا }؛ أي أعرضوا عن طاعة الله، { فاعلموا أن الله مولاكم }؛ أي ناصركم، { نعم المولى }؛ نعم الحافظ والولي، { ونعم النصير }؛ منصركم عليهم.
[8.41]
قوله تعالى: { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }؛ حتى الخيط والمخيط، قال ابن عباس: (كان خمس الغنيمة يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم، سهم لله ورسوله، وواحد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي فيه المحتاج والضعيف ويجعله في عدة المسلمين من السلاح ونحوه، وسهم لذوي قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وسهم ليتامى المسلمين عامة، وسهم لمساكين المسلمين، وسهم لابن السبيل. ثم قسمه أبو بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل، وكذلك فعل عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم).
وبهذا أخذ أبو حنيفة وأصحابه؛ قالوا: إن قوله تعالى { لله خمسه } لافتتاح الكلام باسمه تعالى على طريق التبرك، لا لأن لله نصيبا من الخمس، فإن الدنيا والآخرة كلها له سبحانه، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط بموته؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، وبينهم ذوي القرابات كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم سهمه في من شاء منهم، ألا ترى أنه أعطى بني هاشم وبني المطلب، وأحرم بني نوفل وبني عبد شمس مع مساواتها بني عبد المطلب في القرب؛ لأن بني هاشم لم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام، وإذا بطل هذان السهمان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعنا إلى السهام الثلاثة التي ذكرت معهما، فقسم الخمس على ثلاثة أسهم، ويدخل في استحقاقه فقراء بني هاشم دون أغنيائهم بدلا عما حرموا من الصدقات، وأربعة أخماس الغنيمة للغانمين.
واليتيم من كل جنس من الحيوان الذي ماتت أمه، إلا من بني آدم فإنه إذا مات أبوه. والمسكين الذي أسكنه الضعف عن النهوض لحاجته. وابن السبيل المنطقع عن ماله.
وقال بعضهم: يقسم الخمس الآن على أربعة أسهم، فينفرد سهم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الشافعي: (يقسم الخمس الآن على خمسة أسهم، سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى الأهم فالأهم من مصالح المسلمين)، ومن أصحابه من قال: يصرف إلى الخليفة ، وسهم قرابة ذوي النبي صلى الله عليه وسلم لأغنيائهم وفقرائهم، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل.
قوله تعالى: { إن كنتم آمنتم بالله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان }؛ معناه: اقبلوا ما أمرتم به في الغنيمة إن كنتم صدقتم بتوحيد الله، وبما أنزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { يوم الفرقان } أي يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل بنصر المؤمنين وكبت الكافرين مع ضعف المسلمين وقتلهم. وقوله تعالى: { يوم التقى الجمعان } أي يوم جمع الكافرين والمؤمنين، { والله على كل شيء قدير }؛ من نصر المؤمنين وغير ذلك.
[8.42]
قوله عز وجل: { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم }؛ أي اذكروا يا أصحاب محمد إذ كنتم بالعدوة الدنيا؛ أي شفير الوادي الذي يلي المدينة، يقال لشفير الوادي عدوة وعدوة، { وهم بالعدوة القصوى } يعني المشركين بالجانب الآخر من الوادي على شفير الأبعد من المدينة، وهو الجانب الذي يلي مكة. وقوله تعالى { والركب أسفل منكم } أي والقافلة المقبلة من الشام التي كان أبو سفيان فيها كانت أسفل منهم بثلاثة أميال كانوا نازلين أسفل الوادي.
قوله تعالى: { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد }؛ أي إن الله جمعكم مع المشركين وأصحاب العير في ليلة واحدة بمنزل واحد، ولو تواعدتم للاجتماع هناك لاختلفتم في الميعاد بالعوائق التي تعوق عن ذلك، وبأنكم لو كنتم تعلمون كثرة عدد المشركين وقلة عددكم لم تحضروا في ذلك المكان للقتال. وقوله تعالى: { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا }؛ أي ولكن قدر الله اجتماعكم في ذلك المكان ليقضي الله أمرا كائنا لا محالة من إعزاز المسلمين وإعلائه " الإسلام ". على سائر الأديان.
قوله تعالى: { ليهلك من هلك عن بينة }؛ أي ليموت من مات منهم بعد قيام الحجة عليهم، { ويحيى من حي عن بينة }؛ ويعيش من عاش بعد قيام الحجة عليهم، { وإن الله لسميع }؛ بمقالتكم، { عليم }؛ بضمائركم، يجازيكم على قدر أعمالكم.
قرأ أهل مكة والبصرة (بالعدوة) بكسر العين، وقرأ الباقون بضمها وهما لغتان مشهورتان كالكسوة والكسوة والرشوة والرشوة، وكذلك قوله تعالى: { من حي عن بينة } قرأ نافع والبزي وخلف (حيي ) بيائين مثل (حيي) على الأصل، وقرأ الباقون بياء واحدة مشددة على الإدغام، ومعنى { ليهلك من هلك عن بينة } أي ليموت من مات عن بينة رآها وعبرة عاينها، أو حجة قامت عليه، وكذلك حيوة من يحيى لوعده
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
[الإسراء: 15].
[8.43]
قوله عز وجل: { إذ يريكهم الله في منامك قليلا }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى العدو قليلا في المنام، فقص رؤياه على أصحابه، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين تصديقا لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم)، { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم }؛ أي لجبنتم وتأخرتم عن الصف ولاختلفتم في أمر الحرب، والفشل هو ضعف مع الوجل. قوله تعالى: { ولتنازعتم في الأمر } التنازع أن يحاول كل واحد من الاثنين أن ينزع صاحبه مما هو عليه، { ولكن الله سلم }؛ أي سلمكم من ذلك، { إنه عليم بذات الصدور }؛ أي بما في قلوبكم، علم أنكم لو علمتم كثرة عدد المشركين لرغبتم عن القتال.
[8.44]
قوله: { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور }؛ وذلك أن الله تعالى قلل المشركين في أعين المسلمين ليتجرأ المسلمون على قتالهم، وقلل المسلمين في أعين المشركين كيلا يستعد المشركون لحربهم كل الاستعداد.
روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: (قلت لرجل بجنبي: أتراهم تسعين رجلا؟ قال: هم قريب من المائة، فلما أسرنا رجلا منهم سألناه عن عددهم، قال: كنا ألفا أو تسعمائة وخمسين).
وقوله تعالى: { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } قد تقدم تفسيره، والفائدة في إعادته أن المراد بالأول إعلاء الإسلام على سائر الأديان، وبالثاني قتل المشركين وأسرهم يوم بدر وكلاهما كان كائنا في علم الله.
[8.45]
قوله عز وجل: { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }؛ أي إذا لقيتم جماعة من الكفار فاثبتوا لقتالهم، واذكروا الله كثيرا في الحرب بالدعاء والاستغفار؛ لكي تفلحوا بالظفر على الأعداء.
[8.46]
قوله تعالى: { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا }؛ أي أطيعوا الله ورسوله في الثبات على القتال ولا تختلفوا فيما بينكم في لقاء العدو والتقدم إلى قتالهم فتجبنوا من عدوكم، { وتذهب ريحكم }؛ قال قتادة: (يعني ريح النصر) التي يبعثها الله مع من ينصره كما قال عليه السلام:
" نصرت بالصبا ".
وقيل: معناه: وتذهب دولتكم وقوتكم، وقال مجاهد: (وتذهب نصرتكم)، وقال السدي: (جرأتكم وحدتكم وجلدكم). وقوله تعالى: { واصبروا }؛ أي اصبروا على قتال المشركين ولا تولوهم الأدبار، { إن الله مع الصابرين } ، بالنصر والمعونة.
[8.47]
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئآء الناس } أي قاتلوا لوجه الله ولا تكونوا في خروجكم إلى قتال المشركين كالمشركين الذين خرجوا من ديارهم إلى قتال المسلمين بطرا وهو الطغيان في النعمة ورياء الناس، والرياء: هو إظهار الجميل مع إبطان القبيح. قوله تعالى: { ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط }؛ أي هم مع بطرهم وريائهم يمنعون الناس عن دين الله.
قال ابن عباس: (وذلك أن بعض المشركين قالوا لأبي جهل وأصحابه قبل وصولهم إلى بدر: ارجعوا إلى مكة فقد نحت العير، قالوا: لا حتى تنحر الجزور وتشرب الخمور وتغني القينات، حتى تسمع العرب بمسيرنا. فنزلوا ببدر ومعهم القينات بالدفوف ويتغنين بهجاء المسلمين، فسقاهم كأس المنايا مكان الخمور، وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والصبر في نصر دينه ومؤازرة نبيه صلى الله عليه وسلم).
[8.48]
قوله عز وجل: { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم }؛ أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم يوم بدر، وقال: لا غالب لكم اليوم من أحد من الناس فمنعتكم وكثرتكم وإني دافع عنكم الشر، { فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه }؛ أي لما توافقتا رجع الشيطان القهقرى على عقبيه هاربا خوفا مما رأى، { وقال }؛ للمشركين: { إني بريء منكم إني أرى ما }؛ أي الملائكة تنزل من السماء وأنتم، { لا ترون }؛ وكان يعرف الملائكة ويعرفونه.
قوله عز وجل: { إني أخاف الله }؛ أي أخافه أن يصيبني معكم بعذابه، { والله شديد العقاب }؛ لمن استحقه، قال مقاتل: (كذب عدو الله، ما كان به من خوف من الله، فإن الله قد أنظره إلى الوقت المعلوم، ولكنه خذلهم عند الشدة). ويقال: ظن إبليس أن الوقت الذي أنظره الله قد حضر.
وعن ابن عباس: (أن أهل مكة لما وجدوا العير أرادوا الرجوع، فتمثل لهم إبليس في صورة رجل يقال له: سراقة بن مالك بن جعنم من بني كنانة، فقال: لا ترجعوا حتى تستأصلوهم، فإنكم كثير وهم قليل، ولا غالب لكم اليوم من الناس، وإني معين لكم من بني كنانة، فلا تمرون بأحد من بني كنانة إلا سار معكم، فإنهم لا يخالفونني.
فساروا وسار إبليس معهم، ولم يخرج أحد من بني كنانة، فجعلوا يقولون: يا سراقة أين ما ضممت لنا؟ فيقول: مروني، حتى قدموا بدرا، فلما كان عند القتال رأى إبليس جبريل فنكص على عقبيه راجعا، وقال الحارث بن هشام: يا سراقة أين تذهب؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، فقال الحارث: وما ترى إلا جعاشيش أهل يثرب؟ - والجعشوش: الرجل القصير - فلما رأى الحارث إبليس ينطلق، أهوى به ليأخذه، فدفعه إبليس فرمى به، ثم نكص على عقبيه وقال: - إني - أخاف الله، والله شديد العقاب.
فلما انهزم المشركون جعلوا يقولون: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقدم عليهم فقال: بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس! والذي نحلف به ما بلغني ما تقولون ولا سمعت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فجعلوا يقولون له: أما أتيتنا يوم كذا وكذا؟ وهو يقول: لا؛ والذي نحلف به ما كان من ذا قليل ولا كثير. فلما أسلموا عرفوا أنه إنما كان من الشيطان).
فإن قيل: كيف يجوز أن يتمكن إبليس من أن يخلع صورة نفسه ويلبس صورة سراقة؟ ولو كان قادرا على أن يجعل نفسه صورة إنسان كان قادرا على أن يجعل غيره إنسانا؟ قيل: إذا صحت هذه الرواية، فالجواب: أن الله خلق إبليس في صورة سراقة، والله تعالى قادر على خلق إنسان في مثل صورة سراقة ابتداء، فكان قادرا على أن يصور إبليس في مثل صورة سراقة.
[8.49]
قوله عز وجل: { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم }؛ قرأ الحسن: (الذي في قلوبهم مرض هم المشركون). وقيل: هم أناس كانوا قد تكلموا بكلمة الإيمان حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة من دون علم منهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون معنى قوله: { والذين في قلوبهم مرض } أي شك، وهم الذين لا عزيمة لهم في الكفر ولا في الإسلام، ولم يكونوا أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { غر هؤلاء دينهم } قال ابن عباس: (لما نفر المشركون من مكة إلى بدر ولم يخلفوا بمكة أحدا قد احتلم إلا خرجوا به، وأخرجوا معهم أناسا كانوا قد تكلموا بالإسلام بمكة، فلما التقوا ورأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين، ارتابوا ونافقوا وقالوا لأهل مكة: غر هؤلاء دينهم، يعنون المسلمين غرهم دينهم حين خرجوا مع قلتهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم). فقتل هؤلاء مع المشركين يومئذ، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، كما ذكر الله بعد هذه الآية.
قوله تعالى: { ومن يتوكل على الله }؛ أي ومن يثق بالله في جميع أموره، { فإن الله عزيز }؛ بنصره على عدوه ولو كثر عدده، { حكيم } يضع الأمور مواضعها.
[8.50]
قوله تعالى: { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم }؛ أي لو ترى يا محمد حين يقبض الملائكة أرواح الكفار ببدر يضربون على وجوههم بالأعمدة، وعلى أدبارهم يقولون لهم: { وذوقوا }؛ بعد السيف في الدنيا، { عذاب الحريق }؛ في الآخرة.
[8.51]
وقوله تعالى: { ذلك بما قدمت أيديكم }؛ أي ذلك العذاب الذي عاينتموه بكفركم وخيانتكم، والخيانة إذا أضيفت إلى الإنسان أكدت بذكر اليد في العادة. وقوله تعالى: { وأن الله ليس بظلم للعبيد }؛ أي اعلموا أن الله لا يعذب أحدا بجرم أحد ولا يعذب أحدا بغير ذنب. وموضع (أن) نصب بنزع الخافض عطفا على قوله { بما قدمت } تقديره: وبأن الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه السورة قال: (طوبى لجيش قائدهم رسول الله، ومبارزهم أسد الله، وجهادهم طاعة الله، ومددهم ملائكة الله، وثوابهم رضوان الله).
[8.52]
قوله تعالى: { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم }؛ أي عادة هؤلاء في كفرهم، كعادة آل فرعون والذين من قبلهم، { كفروا بآيات الله } ، التي أتتهم بها الرسل، { فأخذهم }؛ فعاقبهم، { الله بذنوبهم إن الله قوي }؛ في أخذ الأعداء، { شديد العقاب }؛ لمن عصاه.
والدأب في اللغة: العادة، يقال: فلان يدأب في كذا؛ أي يداوم عليه ويتعب نفسه فيه. وآل الرجل: الذين يرجعون إليه بأوكد الأسباب، ولهذا يقال لقرابة الرجل: آل الرجل ولا يقال لأصحابه: آله. قوله تعالى: { كدأب آل فرعون } قال ابن عباس: (معناه كفعل آل فرعون)، وقال عطاء ومجاهد: (كنيتهم)، وقيل: كمثالهم، والمعنى: أن أهل بدر من المشركين فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والتكذيب، ففعل الله بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب.
[8.53]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }؛ أي لم يفعل الله ذلك العقاب بهم بأن الله لم يك مزيلا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم في الدين والنعم إلى أحوال لم يجز لهم أن يغيروا إليها، كما فعل أهل مكة بعد أن أطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف، وأرسل إليهم رسولا منهم، وأنزل إليهم كتابا بلسانهم. ثم إنهم غيروا هذه النعم ولم يشكروها ولا عرفوها من الله، فغير الله ما بهم وأهلكهم وعاقبهم ببدر، ويدخلهم النار في الآخرة.
قال الكلبي: (يعني بالآية أهل مكة، بعث إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فغيروا نعمة الله، وتغييرها كفرها وترك شكرها)، وقال السدي: (نعمة الله يعني محمدا، أنعم الله به على قريش فكذبوه وكفروا به، فنقله الله إلى الأنصار). قوله تعالى: { وأن الله سميع عليم }؛ أي سميع لجميع المخلوقات المسموعات، عليم لمعاناتكم.
[8.54]
قوله تعالى: { كدأب آل فرعون }؛ أي عادتهم في التكذيب بآيات الله كعادة آل فرعون، { والذين من قبلهم }؛ من الأمم الماضية، { كذبوا بآيات ربهم }؛ التي جاءت بها رسلهم، { فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنآ }؛ أي وأهلكنا، { آل فرعون } بالغرق خاصة، { وكل }؛ هؤلاء، { كانوا ظالمين }؛ لأنفسهم، مستحقين العقوبة بسوء أعمالهم .
فإن قيل: لم كرر آل فرعون؟ قيل: المراد بالأول أن هؤلاء جازاهم الله بالقتل والأسر، كما جوزي أولئك بالغرق والهلاك، والمراد بالثاني: أن صنع هؤلاء في النعم التي أنعم الله عليهم كصنع آل فرعون فيما أعطاهم الله من الملك والعز في الدنيا، فلما غير كل فريق النعم غير الله سبحانه ما بهم.
[8.55]
قوله تعالى: { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا }؛ أي إن شر ما يدب على الأرض الذين جحدوا بتوحيد الله ونبوة رسله، مصرين على الكفر، { فهم لا يؤمنون }.
[8.56]
قوله تعالى: { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة } نزلت في يهود بني قريظة، عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يضروا به ولا يعينوا عليه عدوا، فنقضوا العهد وأعانوا أهل مكة بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم مرة أخرى، فركب كعب بن الأشرف إلى أهل مكة، وواثقهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: { عاهدت منهم } أي معهم، قوله تعالى: { وهم لا يتقون }؛ أي لا يخافون الله في نقض العهد.
[8.57]
قوله تعالى: { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون }؛ معناه: فإما تصادفهم في الحرب، فافعل بهم فعلا من القتل والعقوبة والتنكيل تعرف بهم من ورائهم من أعدائك. والتشريد: التبديد والتفريق، ويقال: معنى (شرد بهم) أي أسمع بهم بلغة قريش.
وقال ابن عباس: (فشرد بهم، أي نكل بهم من وراءهم)، وقال ابن جبير: (أنذر بهم من خلفهم). وقيل: اقتلهم قتلا، وقيل: أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن. وقال القتيبي: (سمع بهم) وقرأ ابن مسعود (فشرذ) بالذال المعجمة وهما واحد. وقال قطرب: (التشريد بالدال: التنكيل، وبالذال: التفريق). قوله تعالى: { لعلهم يذكرون } أي لكي يعتبروا فلا ينقضوا العهد الذي بينك وبينهم مخافة أن يحل بهم مثل ما حل ببني قريظة.
[8.58]
قوله تعالى: { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء }؛ أي إذا خفت من قوم بينك وبينهم عهد وخيانة في ذلك العهد من غدر بالمسلمين، أي علمت أنهم يفعلون ذلك بالمسلمين خفية من غير أن يظهر نقض العهد، فانبذ العهد إليهم على سواء منك ومنهم في العلم، ولا تبدأهم بالقتال من قبل أن تعلمهم إعلاما بينا بأنك انقضت العهد.
والمعنى: إما تعلمن يا محمد من قوم معاهدين لك نكث عهد ونقض عهد يظهر لك من آثار الغدر والخيانة كما ظهر لك من بني قريظة والنضير، فانبذ إليهم؛ أي فاطرح إليهم عهدهم على سواء؛ أي أخبرهم وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرأ من الغدر. وقوله تعالى: { إن الله لا يحب الخائنين }؛ أي لا يرضى عمل الذين يخونون بالبدأة بالقتال من غير إعلام بنقض العهد.
[8.59]
قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون }؛ أي لا تظنن يا محمد أن من أفلت من الكفار من هذه الحرب قد سبق إلى الحياة. ويقال: لا تحسبن يا محمد أن أعداءك من الكفار المشركين ربما يقولون لك بأن لا يظفرك الله عز وجل بهم، بل الله تعالى يظهرك عليهم ويظفرك.
وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وحفص بالياء على معنى لا تظنن هؤلاء المشركين إن من مات منهم فقد فات من الله عز وجل، وأن الله لا يبعثه يوم القيامة ولا يعاقبه. وقرأ أهل الشام: (أنهم لا يعجزون) بالفتح، وتكون (لا) صلة تقديره: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون؛ أي لا يفوتون. وقيل معناه: لأنهم، وقرأ عامة القراء بالكسر على الابتداء.
[8.60]
وقوله تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة }؛ أي أعدوا للكفار ما استطعتم من آلات الحرب. وعن ابن عباس وعقبة بن عامر؛ قال:
" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ثم قال: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، لهو المؤمن في الخلاء وقوته عند اللقاء "
ومات عقبة فاوصى بتسعين قوسا مع كل قوس سهامها في سبيل الله، وقال عقبة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله ليدخل الجنة الثلاثة سهم واحد، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والمهدي له، والرامي به "
وقال عليه السلام:
" كل شىء يلهوا به الرجل باطل، إلا رمية بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله، فإنهن من الحق ".
قوله تعالى: { ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم }؛ معناه: ارتبطوا الخيل لهم ولقتالهم؛ أي أعدوا لهم ذلك لتخويف عدو الله وعدوكم { وآخرين من دونهم } أي من دون كفار العرب وأهل الكتاب { لا تعلمونهم } أي لا تعرفونهم. قال ابن عباس: (يعني كفار الجن)، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا يقرب صاحب قوس جني أبدا "
ويقال: إن الجن لا تدخل بيتا فيه قوس ولا سلاح.
قال السدي: (أراد به أهل فارس)، وقال الحسن: (هم المنافقون)، وقال الضحاك: (هم الشياطين)، ولا يمتنع أن يكون الكل مراد بالآية. قوله تعالى: { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم }؛ أي ما تنفقوا من شيء في الجهاد يوف إليكم ثوابه، { وأنتم لا تظلمون }؛ أي لا ينقص شيء من حقكم.
[8.61]
قوله تعالى: { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }؛ معناه: فإن مالت يهود بني قريظة إلى الصلح فمل إليهم وصالحهم، فكان هذا قبل نزول براءة، ثم نسخ بقوله:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5] وبقوله:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
[التوبة: 29].
والسلم والسلم بالخفض والنصب، وإنما قال { فاجنح لها } لأن السلم والمسالمة بمعنى واحد، فرد الكناية إلى المعنى. قوله تعالى: { وتوكل على الله }؛ أي ثق بالله تعالى إن نقضوا العهد، { إنه هو السميع }؛ بمقالتكم { العليم }؛ بما تفعلون.
[8.62]
قوله تعالى: { وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله }؛ معناه: إن يرد الذين يطلبون منك الصلح أن يخدعوك بإظهار الصلح لتكف عنهم إلى أن يتقووا بغيرك، فإن الله كافيك في حربهم وقتالهم، { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين }؛ أي قواك يوم بدر بنصره وقواك بالمؤمنين، وهم الأوس والخزرج.
[8.63]
قوله تعالى: { وألف بين قلوبهم }؛ أي جمعهم على المودة في الإيمان، وقوله تعالى: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا مآ ألفت بين قلوبهم }؛ أي ما قدرت على جمع قلوبهم على الألفة، { ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز }؛ في سلطانه لا يقدر أحد أن يغلبه ويمنعه عن مراده، { حكيم }؛ يضع الأمور في موضعها.
[8.64]
قوله تعالى: { يأيها النبي حسبك الله }؛ أي كافيك الله، { ومن اتبعك من المؤمنين }؛ نزلت في البيداء في غزوة بدر. وقيل: لما أسلم عمر رضي الله عنه نزل { يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين }.
وقال بعض المفسرين: موضع (من) خفض عطفا على الكاف في قوله { حسبك الله } أي وحسب من اتبعك. وقال بعضهم: موضعه رفع عطفا على اسم الله؛ أي حسبك الله ومتبوعك من المؤمنين. قيل: إن هذه الآية قوله تعالى: { يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال.
[8.65-66]
قوله تعالى: { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال }؛ أي رغبهم في القتال، والتحريض: الترغيب في الشيء بما يدعو إليه نحو وعد الثواب على القتال والتنفيل عليه، وقوله تعالى: { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا }؛ هذا وعد من الله؛ أي يقوي واحدا من المسلمين المنتصرين في الدين على عشرة من الكفار، ويقوي مائة صابرة محتسبة على ألف من الكفار.
وقوله تعالى: { بأنهم قوم لا يفقهون }؛ أي ذلك النصر من الله لكم على الكفار وخذلانهم بأنكم تفقهون أمر الله وتصدقونه فيما وعده من الثواب، والكفار لا يفقهون ذلك ولا يصدقونه.
قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث المؤمنين على أن يقاتل الرجل منهم العشرة من الكفار، والمائة منهم الألف من الكفار كما أمر الله، فلما أمر الله المسلمين بقتال الكفار ببدر وكان فرض القتال على المسلمين كما ذكر الله في هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى:
قوله: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا }؛ أي الآن هون الله عليكم القتال الذي فرضه عليكم وسهل الأمر عليكم لتعرفوا فتشكروا، وعلم في الأزل أن في الواحد منكم ضعفا عن قتال العشرة، والمائة عن قتال الألف). وقيل: علم أن فيكم ضعفا في النصرة في أمر الدين.
قرأ عاصم وحمزة وخلف (ضعفا) بفتح الضاد، وقرأ الباقون بضمها أي عجزا عما فرض عليكم، ومن قرأ (ضعفا) فمعناه شيوخا وضعافا، وقرأ أبو جعفر (ضعفاء) بضم الضاد وفتح العين والمد وهمزة من غير تنوين على جمع ضعيف مثل شركاء.
قوله تعالى: { فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين }؛ أمر الله بأن الواحد يثبت للاثنين وضمن له النصر عليهما. قوله تعالى: { وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله }؛ أي بأمر الله، { والله مع الصابرين }؛ أي معين لهم، قال ابن عباس: (من فر من رجلين فقد فر، ومن فر من ثلاثة لم يفر). وهذا إذا كان للواحد المسلم من السلاح والقوة مثل ما لكل واحد من رجلين من الكافرين كان فارا، فأما إذا لم يكن، لم يثبت حكم الفرار.
[8.67]
قوله عز وجل: { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } أي يكون له أسرى من المشركين فيفاديهم أو يمن عليهم، ولكن السيف حتى يمكن في الأرض لا بد من القتال، فيقتل منهم قتلا ذريعا ليرتدع من وراءهم. والإثخان في كل شيء: شدته، يقال: أثخنه المرض إذا اشتد قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح.
قوله تعالى: { تريدون عرض الدنيا }؛ خطاب للذين أسرعوا في أخذ الغنائم وشغلوا أنفسهم بذلك عن القتال، وذلك أنهم لما كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم، ومعناه: تريدون بالقتال المال، وسماه عرضا لقلة لبثه. وقوله تعالى: { والله يريد الآخرة }؛ أي يريد منكم العمل بما تستحقون به ثواب الآخرة، { والله عزيز }؛ أي منيع في سلطانه، { حكيم }؛ في أمره وقضائه، فاعملوا ما أمركم به.
[8.68]
قوله تعالى: { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيمآ أخذتم عذاب عظيم }؛ أي لولا حكم من الله سبق في إباحة الغنائم لمسكم فيما استبحتم قبل الإثخان عذاب عظيم. وقيل: لولا كتاب من الله سبق في أهل بدر أن يغفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر. وقيل: معناه: لولا حكم الله في اللوح المحفوظ وفي القرآن أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون لأصابتكم عقوبة عظيمة.
وعن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: (وذلك أنه لما قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين وأسروا سبعين، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسارى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله هم قومك، فإن تقتلهم يدخلوا النار، ولكن فادهم فيكون الذي تأخذ منهم قوة للمسلمين، ولعل الله يقلب قلوبهم. وقال عمر: يا رسول الله ما أعلم قوما كانوا أشر لنبيهم منهم فاقتلهم.
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم برأي أبي بكر، ثم ضرب لهما مثلا فقال:
" " مثل أبي بكر مثل إبراهيم عليه السلام حيث قال: { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ، ومثل عمر مثل نوح عليه السلام حيث قال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } " ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء على الأسارى ".
فلما كان من الغد أنزل الله هذه الآية
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض...
[الأنفال: 67] إلى آخر الآيتين،
" قال عمر: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر يبكيان، فقلت: ما يبكيكما؟! حتى الأرض إن وجدت بكاء لبكائكما بكت معكما، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنما أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذ الفداء " ، ثم قرأ عليه السلام { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } ".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
" لما جيء بالأسارى يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: " ما تقولون في هؤلاء؟ " فقال أبو بكر: قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك، قدمهم واضرب أعناقهم ، ومكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، ومكني من فلان - بسبب له - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أناس: نأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: نأخذ بقول عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ، ومثلك يا عمر مثل موسى قال: { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } ، ثم قال صلى الله عليه وسلم للأسارى: " أنتم اليوم عالة فلا ينقلبن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق " ثم قال صلى الله عليه وسلم { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ".
قوله تعالى: { لولا كتاب من الله سبق } أي لولا حكم الله في أنه يحل لهم الفدية التي أخذوها من الأسارى. وقيل: معناه: لولا ما سبق لهذه الأمة من الرحمة إذا عملوا الخطايا ثم عرفوا بما عملوا وتابوا ورجعوا. قوله تعالى:
تريدون عرض الدنيا
[الأنفال: 67] مخاطبة لهم لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلت أصحابه، فإن أبا بكر كان مراده إعزاز الدين وهداية الأنصار، ولأن الله قال: { لمسكم فيمآ أخذتم } ولم يقل فيما عزمتم وأسررتم.
[8.69]
قوله: { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا }؛ الفاء في أول هذه الآية للجزاء، المعنى: أحلت لكم الغنائم فكلوا. والطيب: المستلذ، ويوصف الحلال بذلك على التشبيه، فإن المستلذ لا يكون فيه كراهية في الطبع، وكذا الحلال ما لا يكون فيه كراهية في الدنيا.
وقوله تعالى: { واتقوا الله }؛ أي اخشوه ولا تفعلوا شيئا لم تؤمروا به ولم يرخص لكم، { إن الله غفور }؛ لما فرط منكم { رحيم }؛ بكم إذ لم يعذبكم فيما فعلتم قبل الرخصة.
[8.70]
قوله عز وجل: { يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } قال ابن عباس: (وذلك
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وضع الفداء على كل واحد من الأسارى أربعين أوقية من ذهب، وجعل على عمه العباس مائة أوقية، قال العباس: أتجعل علي مائة أوقية وعلى عدوك سهيل بن عمرو أربعين أوقية؟ قال: " نعم؛ لقطعك الرحم ولظلمك " قال: تركتني والله أسأل قريشا ما بقيت، فكيف تترك عمك يسأل الناس بكفه؟!
فقال صلى الله عليه وسلم: " وأين الذهب الذي أعطيته أم الفضل عند مخرجك؟ فقلت: إن حدث بي حدث في وجهي هذا فهو لك ولعبدالله وقثم وللفضل " قال: وما يدريك؟! قال: " أخبرني الله بذلك " فقال: أشهد أنك صادق وإني لم أعلم أنك رسول الله قط قبل اليوم، وإني دفعت إليها الذهب ولم يطلع عليه أحد إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فأسلم وأمر ابن أخيه أن يسلم "
، فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: يا أيها النبي قل للعباس وعقيل وغيرهم من الأسارى: إن يعلم الله في قلوبكم رغبة في الإيمان وإخلاصا في النية، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفدية. يجوز أن يكون المعنى: يخلف عليكم في الدنيا، ويجوز أن يكون: ويجازيكم في الآخرة.
وكان العباس أحد الثلاثة عشر الذين ضمنوا طعام أهل بدر، فخرج معهم بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، ولم تبلغه نوبة الإطعام حتى أسر وأخذ وهي معه فأخذوها منه،
" فلما وضع النبي صلى الله عليه وسلم على العباس الفداء مائة أوقية قال: (يا محمد احتسب لي بالعشرين أوقية من فدائي). فأبى وقال: " أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك " ".
فلما أسلم العباس كان إذا قرأ هذه الآية قال: (صدق الله ورسوله قد أعطاني خيرا مما أخذ مني، أبدلني مكان العشرين أوقية التي أخذت مني عشرين مملوكا، كل مملوك يضرب بعشرين ألفا في التجارة، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، أنجز لي أحد الوعدين، وأنا أرجو أن ينجز لي الوعد الثاني ، أنتظر المغفرة من ربي).
وعن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أنه بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين ثمانين ألفا، فقال العباس: (أعطني من هذا المال) فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أطاق حمله، فجعل العباس يقول: (أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزها، فلا ندري ما يصنع بالأخرى). يعني { يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم ويغفر لكم }.
[8.71]
قوله تعالى: { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } معناه: وإن يرد الذين أطلقتهم من الأسارى خيانتك بأن يعيدوا حربا لك وينصروا عدوك عليك، فقد خانوا الله من قبل بمخالفة ما أخذ عليهم من العهود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عاهد الذين أطلقهم على أن لا يعينوا عليه فخانوه وخالفوا، وقوله تعالى { فأمكن منهم } أي فأمكنك منهم يوم بدر، وإن خانوك فسيمكنك منهم ثانيا، { والله عليم }؛ بكل شيء، { حكيم }؛ في كل ما يفعل.
[8.72-73]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله }؛ أي إن الذين آمنوا بتوحيد الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وهاجروا من مكة إلى المدينة وجاهدوا العدو بأموالهم وأنفسهم في طاعة الله.
ثم ذكر الله الأنصار فقال: { والذين آووا }؛ النبي والمهاجرين معه أعطوهم المأوى وأنزلوهم ديارهم، { ونصروا }؛ أي أعانوهم بالسيف على الكفار، { أولئك بعضهم أوليآء بعض }؛ أي أنصار بعض في الدين والمواريث.
قوله تعالى: { والذين آمنوا ولم يهاجروا }؛ أي والذين صدقوا من أهل مكة في ديارهم ولم يهاجروا إلى المدينة، { ما لكم من ولايتهم من شيء }؛ أي ليس بينكم وبينهم ميراث، { حتى يهاجروا }؛ وإطلاق لفظ الموالاة يقتضي التوارث في الجملة، وإن كان بعض أسباب الموالاة أوكد من بعض.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قام الزبير بن العوام وأناس معه من المسلمين؛ قالوا: يا رسول الله كيف لا يرثنا إخواننا وهم على ديننا من أجل أنهم لم يهاجروا؟ فهل نعينهم على أمر إن استعانونا عليه؟ فأنزل الله تعالى: { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر }.
معناه: وإن قاتلهم الكفار ليردوهم عن الإسلام فانصروهم، { إلا على قوم }؛ إلا أن يقاتلوا قوما، { بينكم وبينهم ميثاق }؛ فاستنصروكم عليهم فلم تقاتلوهم معهم، بل عليهم أن يكفوا عن طلب النصرة منكم لهم عليهم؛ لأنه أمان، وأمان واحد من المسلمين يلزم كافتهم، فيجب الإصلاح بينهم على غير وجه القتال. وقوله تعالى: { والله بما تعملون بصير } ، أي بصير بأعمالكم، يجازيكم عليها.
قال ابن عباس: فمكثوا على هذا ما شاء الله إن يمكثوا، ثم نزل قوله تعالى: { والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض }؛ أي أنصار بعض في الدين، وبعضهم أولياء بعض في الميراث. يعني أن الكافر لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر، بل الكافر يرث من الكافر، والمؤمن يرث المؤمن، فصارت هذه الآية ناسخة للتي قبلها.
قوله تعالى: { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به ولم تورثوا الأعرابي الذي لم يهاجر من المهاجر، ولم تجعلوا ولاية الكافر للكافر وولاية المؤمن للمؤمن، { تكن فتنة } أي بالميل إلى الضلالة وفساد في الدين، فإن الكفار بعضهم أولياء بعض.
[8.74]
قوله تعالى: { والذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا }؛ أي أولئك الذين حققوا إيمانهم بالهجرة وإقامة الجهاد في سبيل الله. وقيل: معناه: أولئك الذين حقق الله إيمانهم بأن أثنى عليهم ومدحهم في كتابه. قوله تعالى: { لهم مغفرة }؛ لذنوبهم { ورزق كريم } في الجنة بأن يطعمهم طعاما يصير كالمسك رشحا ولا يستحيل في أجوافهم نجوا.
[8.75]
قوله تعالى: { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } معناه: والذين آمنوا من بعد المهاجرين السابقين، وهاجروا إلى المدينة وجاهدوا معكم الكفار، فأولئك منكم في الدين والنصرة.
قوله تعالى: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض }؛ أي أن الأقارب بعضهم أولى ببعض في الميراث من غيرهم، هاجروا أو لم يهاجروا إذا كانوا مسلمين، قوله تعالى: { في كتاب الله }؛ يجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن، ويجوز أن يكون معناه في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يراد بالكتاب الحكم، كما قال الله تعالى:
كتب الله لأغلبن
[المجادلة: 21] أي حكم الله، وقوله تعالى: { إن الله بكل شيء عليم }؛ أي عليم بكل ما فرض من المواريث وغير ذلك.
قال قتادة: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة، وكان الرجل يسلم ويهاجر، وكان لا يرث أخاه)، فنسخ الله ذلك بقوله: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وصارت الوراثة بالقرابة كما ذكر الله في سورة النساء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية ".
وعن أبي بن كعب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة الأنفال والتوبة فأنا له شفيع وشهيد يوم القيامة أنه بريء من النفاق، وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة، ورفع له بها عشر درجات ".
[9 - سورة التوبة]
[9.1]
قوله عز وجل: { برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } أي هذه من الله، فيكون رفعا على الابتداء، ويجوز أن يكون (براءة) رفعا بالابتداء، وخبره: { إلى الذين عاهدتم }. والبراءة: رفع العصمة، يقال: فلان بريء من فلان، وبرىء الله من المشركين. وإنما ذكر الله تعالى هذه الآية من العهد؛ لأن المشركين كانوا ينقضون العهد قبل الأجل، ويضمرون الغدر، فأمر الله بنبذ العهد إليهم، إما بخيانة مستورة ظهرت أمارتها منهم، وإما أن يكون شرط النبي عليه السلام لنقضهم في العهد أن يقرهم ما أقرهم الله.
فأما ترك البسملة في أول هذه السورة، فقد روي أن أبي بن كعب سئل عن ذلك فقال: (لأنها نزلت في آخر ما نزل من القرآن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أول كل سورة (بسم الله الرحمن الرحيم) ولم يأمر في سورة البراءة بذلك، فضمت إلى الأنفال لشبهها بها) يعني أن أمر العهود مذكور في الأنفال، وهذه السورة نزلت بنقض العهود. سئل علي رضي الله عنه عن هذا فقال: (لأن هذه السورة نزلت في السيف، وليس للسيف أمان، وبسم الله الرحمن الرحيم من الأمان، ولأن البسملة رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ولا أمان فيه).
[9.2]
قوله تعالى: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر }؛ أي سيروا في الأرض على المهل وأقبلوا وأدبروا في الأرض إلى أن يمضي أربعة. وقيل: هو على الخطاب؛ أي قل لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين من قتل ولا أسر ولا نهب.
ويقال: إن قوله: { فسيحوا في الأرض } بيان أن هذا السيح المذكور في أول هذه السورة إنما هو بعد أربعة أشهر، فإن عهد الكفار باق إلى آخر هذه المدة. قال الحسن: (أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينظر في عهود الكفار، فيقر من كان عهده أربعة أشهر على عهده أن يمضي، ويحط من كان له عهد أكثر من أربعة أشهر، ويرفع عهد من كان له عهد قبل أربعة أشهر فيجعله أربعة أشهر).
واختلفوا في هذه الأربعة أشهر، قال بعضهم: من عشرين ذي القعدة إلى عشرين من ربيع الأول. وروي في الخبر: أن مكة فتحت في سنة ثمان من الهجرة، وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم، واجتمع في تلك السنة في الوقوف المسلمون والمشركون.
" فلما كانت سنة تسع ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وبعث معه عشر آيات من أول براءة أو تسع آيات، وأمره أن يقرأها على أهل مكة، وينبذ إلى كل ذي عهد عهده كما وصف الله تعالى، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه منها إلى مكة، نزل جبريل عليه السلام فقال: للنبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ عنك إلا رجل من أهل بيتك " فدعا عليا رضي الله عنه وأمره بالذهاب إلى مكة، وقال: " كن أنت الذي يقرأ هذه الآيات على أهل مكة، ومر أبا بكر فليصل بالناس ". فسار حتى لحق أبا بكر رضي الله عنه في الطريق، فأخبره بذلك فمضيا، وكان أبو بكر على الموسم ".
فلما كان يوم النحر واجتمع المشركون، قام علي رضي الله عنه عند جمرة العقبة وقال: (يا أيها الناس؛ إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم) فقالوا: بم ذا؟ فقرأ عليهم (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم...) إلى آخر الآيات التي نزلت.
وكان الحج في السنة التي قرأ علي رضي الله عنه فيها هذه السورة في العاشر من ذي القعدة، ثم صار الحج في السنة الثانية في ذي الحجة، وكان السبب في تقديم الحج في سنة العهد ما كان يفعله بنو كنانة في النسيء وهو التأخير. وذهب بعض المفسرين إلى أن الأربعة الأشهر المذكورة في هذه الآية هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
قوله تعالى: { واعلموا أنكم غير معجزي الله }؛ أي غير فائتين عن الله بعد الأربعة الأشهر، فإنكم إن أجلتم هذه الأشهر فلن تفوتوا الله تعالى. وقوله تعالى: { وأن الله مخزي الكافرين }؛ أي معذب الكافرين في الدنيا بالقتل في الآخرة بالنار. والإخزاء: هو الإذلال على وجهه الأدون.
[9.3]
قوله تعالى: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله }؛ أي وإعلام من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر، كذا روى ابن عباس، وسمي يوم النحر يوم الحج الأكبر؛ لأنه اتفقت فيه الأعياد على قول أهل الملل. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه يوم عرفة "
، قال قيس ابن مخرمة:
" خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال: " أما بعد؛ فإن هذا يوم الحج الأكبر ".
ويروى أن عليا رضي الله عنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء إلى الجبانة، فجاءه رجل فأخذ بلجامها وسأله عن يوم الحج الأكبر، فقال: (هو يومك هذا، خل سبيله). وسئل عبدالله بن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر، فقال: (سبحان الله! هو يوم النحر يوم يهراق فيه الدماء ونحلق فيه الشعر ويحل فيه المحرم).
قوله تعالى: { وأذان } عطف على قوله: { برآءة }. قوله تعالى: { أن الله بريء من المشركين ورسوله } أي أن الله ورسوله بريء من المشركين، تقديره: أن الله بريء ورسوله أيضا بريء. ومن قرأ (ورسوله) بالنصب فعلى معنى وأن رسوله بريء.
قوله تعالى: { فإن تبتم فهو خير لكم }؛ أي تبتم من الشرك فهو خير لكم من الإقامة عليه. قوله تعالى: { وإن توليتم }؛ معناه: وإن أعرضتم، { فاعلموا أنكم غير معجزي }؛ فائتين عن؛ { الله }.
وقوله تعالى: { وبشر الذين كفروا بعذاب أليم }؛ تكرار للوعيد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراءة إلى مكة) فقيل لأبي هريرة: بم إذا كنتم تنادون؟ قال: (كنا ننادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يحجن هذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهر فإن الله بريء من عهد المشركين ورسوله).
[9.4]
قوله تعالى: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم }؛ استثناء من الله تعالى من قوله:
برآءة من الله ورسوله
[التوبة: 1] وأراد بقوله: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } بني ضمرة وهم حي من بني كنانة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عند البيت، وكان بقي لهم من عهدهم تسعة من بعد يوم النحر من السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه، وكانوا لم ينقضوا شيئا من عهودهم، ولم يمالوا عدوا على رسول الله عليه السلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن - أبقى - لهم بعهدهم إلى آخر مدتهم.
قوله تعالى: { إن الله يحب المتقين }؛ أي يرضى عمل الذين يتقون نقض العهد. قرأ عطاء (ينقضوكم) بالضاد المعجمة من نقض العهد.
[9.5]
قوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إذا مضت الأشهر التي حرم الله القتال بالعهد فيها، { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم }؛ يقال أراد بذلك الأشهر الحرم المعروفة؛ وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، كأنه قال: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم في الحل أو في الحرم، وخذوهم؛ أي أأسروهم، { واحصروهم }؛ أي احبسوهم، ويقال: أراد بذلك أن يحال بينهم وبين البيت؛ أي امنعوهم دخول مكة. وقوله تعالى: { واقعدوا لهم كل مرصد }؛ أي اقعدوا القتال على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى التجارة، وهو أمر بتضييق السبيل عليهم.
قوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فخلوا سبيلهم } معناه: فإن تابوا عن الشرك، وقبلوا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فأطلقوهم، { إن الله غفور }؛ لما سلف من شركهم، { رحيم }؛ بهم حين قبل توبتهم.
[9.6]
قوله تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }؛ معناه: وإن أحد من المشركين استأمنك ليسمع دعوتك واحتجاجك بالعدل، فأمنه حتى يسمع كلام الله، فإن أراد أن يسلم فرده إلى موضع أمنه، { ذلك }؛ الأمان لهم، { بأنهم قوم لا يعلمون }؛ أمر الله تعالى.
[9.7]
قوله تعالى: { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } أي كيف يكون لهم عهد، وهم يضمرون الغدر في عهودهم عند الله وعند رسوله؛ أي لن يكون لهم عهد يجب الوفاء به، { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم }؛ في وفاء العهد فلم ينقضوه كما نقض غيرهم، { فاستقيموا لهم }؛ بوفاء أجلهم، { إن الله يحب المتقين }؛ لنقض العهد.
[9.8]
قوله تعالى: { كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة }؛ أي كيف يكون لهم العهد، وقال الأخفش: (معناه: كيف لا يقاتلونكم وهم إن يظهروا عليكم لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهدا)، وقال قتادة: (الإل: الحلف)، قال السدي: (هو العهد) ولكنه كرره لما اختلف اللفظان وإن كان معناهما واحد.
قال مجاهد: (الإل هو الله عز وجل) ومنه جبريل وميكائيل، فإن معناهما عبد الله. وأبو بكر لما سمع كلام مسيلمة قال: (هذا كلام ليس هو إل) أي لم يتكلم به الله. وقرأ عكرمة (إيلا) بالياء يعني الله عز وجل، مثل جبريل وميكائيل.
قوله تعالى: { يرضونكم بأفواههم }؛ أي يتكلمون العهد بأفواههم، { وتأبى قلوبهم }؛ إلا نقض العهد، { وأكثرهم فاسقون }. أي متمادون في الكفر.
[9.9]
قوله تعالى: { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا }؛ أي اختاروا على القرآن عرضا يسيرا من الدنيا، { فصدوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون } فصرفوا الناس عن طاعة الله؛ فبئس العمل عملهم، وذلك أنهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكلة أطعمهم إياها أبو سفيان.
[9.10]
قوله تعالى: { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة }؛ فإن قيل: لم أعاد قوله تعالى: { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة }؟ قيل: ليس هذا بإعادة؛ لأن الأول ورد في جميع الكفار الذين نقضوا العهد، والثاني إنما ورد في طائفة من اليهود الذين كانوا ينقضون العهد، فإن هذه الطائفة منهم الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا؛ فإنهم كانوا يكتمون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من المواكلة كانوا يأخذونها من سفلتهم، وكانوا يأخذون الرشاء على الحكم الباطل، ويغيرون أحكام الله التي أنزلها على أنبيائهم. وقوله تعالى: { وأولئك هم المعتدون }؛ يعني في نقض العهد.
[9.11]
قوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلوة وءاتوا الزكوة فإخونكم في الدين }؛ أي فإن تابوا عن الكفر وقبلوا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهم إخوانكم في دين الإسلام، { ونفصل }؛ ونأتي ب، { الأيت }؛ أية بعد آية، { لقوم يعلمون }؛ أمر الله وأحكامه.
[9.12]
قوله تعالى: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم }؛ أي نقضوا أيمانكم والحلف من بعد العهود التي عاهدتهم أن لا يقاتلوك ولا يعينوا عليك ولا على حلفائك، { وطعنوا في دينكم }؛ الإسلام وعابوه، وذلك أنهم قالوا: ليس دين محمد بشيء، { فقاتلوا أئمة الكفر }؛ أي رؤوس الكفر؛ { إنهم لا أيمان لهم }.
قال ابن عباس: (نزلت في أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الذين ينقضون العهد، وهم الذين هموا بإخراج الرسول). وقال مجاهد: (هم أهل فارس والروم).
وقوله تعالى: { إنهم لا أيمان لهم } أي لا عهود لهم؛ جمع يمين، وقال قطرب: (لا وفاء لهم بالعهد). وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر (لا إيمان) بكسر الهمزة؛ أي لا تصديق لهم، قال عطية: (لا دين لهم) أي هم قوم كفار. وقيل: معناه: لا أمان لهم فلا تؤمنوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، فيكون مصدر أمنته إيمانا. قوله تعالى: { لعلهم ينتهون }؛ أي ليرجى منهم الانتهاء عن الكفر ونقض العهد.
وفي الآية بيان أن أهل العهد متى خالفوا أشياء مما عاهدوهم عليه فقد نقض العهد، وأما إذا طعن واحد منهم في الإسلام: فإن كان شرط في عهودهم أن لا يذكروا كتاب الله ولا يذكرون محمدا صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز، ولا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يقطعوا عليه طريقا ولا يعينوا أهل الحرب بدلالة على المسلمين، فإنهم إذا فعلوا ذلك في عهودهم وطعنوا في القرآن وشتموا النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه خلاف بين الفقهاء.
قال أصحابنا: يعذرون ولا يقتلون، واستدلوا بما روى أنس بن مالك رضي الله عنه:
" أن امرأة يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء فقيل: ألا تقتلوها؟ قال: " لا " "
ولحديث عائشة:
" أن قوما من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك! ففهمت عائشة فقالت: وعليكم السام واللعنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة! فإن الله عز وجل يحب الرفق في الأمر كله " فقالت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟! فقال: " بلى قد قلت: عليكم " ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فذهب مالك إلى أن من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم ".
[9.13]
قوله تعالى: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة }؛ قال ابن عباس: (ذلك أن قريشا أعانوا بني الوليد بن بكر وكانوا حلفاءهم على خزاعة؛ وخزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فهزموا خزاعة، فجاء وفد خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقصة، وناشدوا حلفه فقال قائلهم:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
كنا والدا وكنت ولدا
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وبيتونا بالوتير هجدا
نتلوا القرآن ركعا وسجدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" " لا نصرت إن لم أنصركم " فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله أتنصرهم على قومنا؟! قال: " لا نصرت إن لم أنصرهم " ثم أمر الناس أن يتجهزوا إلى فتح مكة، ففتحها الله تعالى على يديه ".
وأحل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتال لخزاعة ولم يحله لأحد غيرهم، فذلك قوله تعالى: { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } أي نقضوا عهودهم يعني قريشا، { وهموا بإخراج الرسول } من مكة حين اجتمعوا على قتله في دار الندوة { وهم بدءوكم أول مرة } أي هم الذين بدأوا بنقض العهد حين قاتلوا خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، { أتخشونهم }؛ أي تخافون أن ينالكم مكروه في قتالهم فتتركوا قتالهم، { فالله أحق أن تخشوه }؛ تخافوه في ترككم لقتالهم، { إن كنتم مؤمنين }؛ مصدقين بعقاب الله وثوابه.
[9.14-15]
قوله تعالى: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم }؛ أي قاتلوا أهل مكة يعذبهم الله بأيديكم بالسيف، { ويخزهم }؛ أي يذلهم، { وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين }؛ يعني بني خزاعة يوم فتح مكة الذين قاتلهم بنو بكر، { ويذهب غيظ قلوبهم }؛ بني خزاعة، فشفى الله صدور بني خزاعة وأذهب غيظ قلوبهم؛ أي كربها ووجدها.
وقوله تعالى: { ويتوب الله على من يشآء }؛ استثناء كلام الله؛ أي يتوب الله على من يشاء من أهل مكة فيهديه للإسلام، { والله عليم }؛ بجميع الأشياء، { حكيم }؛ في جميع الأمور.
[9.16]
قوله تعالى: { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة }؛ معناه: إن ظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا على الإقرار والتصديق فلا تؤمروا بالجهاد، قوله: { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } أي ولما ير الله جهادكم حين تجاهدون، ولما ير الله الذين لم يتخذوا منكم من الكفار بطانة يفشون إليهم سرهم وأمرهم. وكان الله تعالى قد علم أمرهم بالقتال، من يقاتل ممن لا يقاتل، ولكنه يعلم ذلك عيانا، وأراد العلم الذي يجازى عليه وهو علم المشاهدة؛ لأنه يجازيهم على عملهم لا على علمه فيهم.
والوليجة: المدخل في القوم من غيرهم؛ من ولج شيء يلج إذا دخل. والخطاب في الآية للمؤمنين حين شق على بعضهم القتال وكرهوا، فأنزل الله هذه الآية { أم حسبتم أن تتركوا } فلا تؤمروا بالجهاد وتمتحنوا به؛ ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي، وقال قتادة: (معنى وليجة أي خيانة)، وقال الضحاك: (خديعة)، وقال ابن الأنباري: (الوليجة: الدخيلة)، وقال عطاء: (أولياء)، قال الحسن: (كفر ونفاق). وقيل: الوليجة: الرجل من يختص يدخله مودة دون الناس، يقال: هو وليجة وهم وليجة، للواحد والجمع. قوله تعالى: { والله خبير بما تعملون }؛ أي عالم بأعمالكم، وفي هذا تهديد للمنافقين وعظة للمخلصين.
[9.17-18]
قوله تعالى: { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله }؛ قال ابن عباس: (لما أسر العباس يوم بدر، أقبل عليه المسلمون يعيرونه بالكفر وقطيعة الرحم وعون المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظ علي رضي الله عنه القول له، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوءنا ولا تذكرون محاسننا؟! فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟! قال: نعم؛ إن كنتم تجاهدون الأعداء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك الأسير، فنحن أفضل منك أجرا. فانزل الله هذه الآية ردا على العباس). ومعناها: ما كان للمشركين أن يقوموا بعمارة المسجد، وأن المساجد لله. والعمارة على وجهين؛ تذكر ويراد بها البناء وتجديد ما انهدم منها، ويؤنث ويراد بها الزيادة، ومن ذلك العمرة ومعناها زيارة البيت، فانتظمت الآية، نهى المشركين على بناء المساجد وعن عمارتها بالطاعة، فإنهم إنما يعمرونها بعبادة الأوثان ومعصية الله.
ومن قرأ (مسجد الله) على التوحيد أراد المسجد الحرام خاصة وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ومجاهد وسعيد بن جبير وقراءة ابن عباس، وقرأ الباقون (مساجد) بالجمع، وإنما قال (مساجد) لأنه قبلة المساجد كلها. وقيل لعكرمة: لم تقرأ (مساجد) وإنما هو مسجد واحد؟ فقال: (إن الصفا والمروة من مساجد الله).
قوله تعالى: { شاهدين على أنفسهم بالكفر }؛ نصب (شاهدين) على الحال على معنى: ما كانت لهم عمارة المسجد في حال إقرارهم بالكفر، وهم كانوا لا يقولون نحن كفار، ولكن كان كلامهم يدل على كفرهم، وهذا كما يقال للرجل: كلامك يشهد أنك ظالم، وهو قول الحسن، وقال السدي: (شهادتهم على أنفسهم بالكفر، أن اليهودي لو قلت له: ما أنت؟ قال: يهودي، ويقول النصراني: هو نصراني، ويقول المجوسي: هو مجوسي).
وقيل: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم أنها مخلوقة. قوله تعالى: { أولئك حبطت أعمالهم }؛ معناه: إن الكفر أذهب ثواب أعمالهم وهي التي من جنس طاعة المسلمين. قوله تعالى: { وفي النار هم خالدون }؛ ظاهر المراد.
ثم بين الله تعالى من يكون أولى بعمارة المسجد الحرام: قوله تعالى: { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين }؛ معناه: إنما يعمر مساجد الله بطاعة الله من كان في هذه الصفة، قوله: { وأقام الصلاة } يعني إقام الصلاة المفروضة { وآتى الزكاة } الواجبة في ماله، وقوله تعالى: { ولم يخش إلا الله } أي لم يخف من غير الله، ولم يرج إلا ثوابه، وكلمة عسى من الله واجبة، والفائدة في ذكرها في آخر هذه الآية ليكون الإنسان على حذر من فعل ما يحبط ثواب عمله.
[9.19]
قوله تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر }؛ روي عن ابن عباس أنه قال: (قال العباس: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج. فأنزل الله هذه الآية). يعني أن ذلك كان منكم في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك. وروي أن المشركين قالوا: عمارة المسجد الحرام وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد. وكانوا يفتخرون بالحرم، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، فأنزل الله هذه الآية، وأخبرهم أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم عند الله من الشرك بالله.
وقال الحسن: (نزلت هذه الآية في علي والعباس وطلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وذلك أنهم افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، بيدي مفتاحه، قال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال علي: أنا صاحب الجهاد. فأنزل الله هذه الآية: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام } أي أجعلتم صاحب سقاية الحاج وصاحب عمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر، { وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله }؛ وقيل: معناه: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام، جعل السقاية بمعنى الساقي، والعمارة بمعنى العامر، كقوله:
والعاقبة للتقوى
[طه: 132] أي للمتقين.
وقرأ عبدالله بن الزبير وأبي: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) على جميع الساقي والعامر. قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ أي لا يرشدهم إلى الحجة ما داموا مصرين على الكفر، ولا يرشدهم إلى الجنة والثواب.
[9.20]
قوله تعالى: { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله }؛ معناه: الذين صدقوا بتوحيد الله، وهاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا العدو في طاعة الله أعظم درجة عند الله، وهذا كقوله تعالى:
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا
[الفرقان: 24]. قوله تعالى: { وأولئك هم الفائزون }؛ معناه: إن المهاجرين هم الظافرون بأمانهم من الخير، الناجون من النار.
[9.21-22]
قوله تعالى: { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات }؛ أي يبشرهم ربهم في الدنيا على ألسنة الرسل نجاة من العذاب في الآخرة، ورضوان عنهم ويبشرهم بجنات، { لهم فيها نعيم مقيم }؛ دائم لا يزول عنهم. وقوله تعالى: { خالدين فيهآ أبدا }؛ أي دائمين فيها أبدا مع كون النعيم مقيما لهم، { إن الله عنده أجر عظيم }؛ أي ثواب كثير في الجنة.
[9.23]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان }؛ نزلت في المهاجرين، ومعناه: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم الذين بمكة أولياء، تنصرون بهم وتنصرونهم إن اختاروا الكفر على الإيمان، { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون }؛ إنما جعل الظالمين لموالاة الكفار؛ لأن الراضي بالكفر يكون كافرا، وعن الضحاك: (لما أمر الله المؤمنين بالهجرة وكانوا قبل الفتح بمكة من آمن ولم يهاجر، لم يقبل الله إيمانه إلا بمهاجرة الآباء والأقرباء أي بمجانبتهم إذا كانوا كفارا، فقال المسلمون: يا رسول الله! إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين، انقطع آباؤنا وعشيرتنا، وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا؟ فأنزل الله هذه الآية).
وقال الكلبي: (لما أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأخيه وأبيه وامرأته وأقربائه: إنا قد أمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها، فمنهم من يعجبه ذلك فينازع إليه معهم، ومنهم من يأبى أن يهاجر فيقول الرجل لهم: والله لا أنفعكم بشيء ولا أعطيكم ولا أنفق عليكم، ومنهم من تتعلق به زوجته وولده وعياله، فيقولون له: ننشدك الله أن لا تضيعنا، فيرق ويجلس ويترك الهجرة، فأنزل الله هذه الآية { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء } أي أصدقاء فتفشون إليهم سركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة والجهاد إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فيطلعهم على عورة الإسلام وأهله، ويؤثر المكث معهم على الهجرة، { فأولئك هم الظالمون } أي القاضون الواضعون الولاية في غير موضعها.
[9.24]
قوله عز وجل: { قل إن كان آباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم }؛ أي قل يا محمد للذين تركوا الهجرة إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ونساؤكم وقراباتكم، { وأموال اقترفتموها }؛ اكتسبتموها بمكة وأصبتموها، { وتجارة تخشون كسادها }؛ أي عدم نفاقها إذا اشتغلتم بطاعة الله، { ومساكن ترضونهآ }؛ ومنازل تعجبكم الإقامة بها بمكة، { أحب إليكم من }؛ طاعة، { الله ورسوله }؛ بالهجرة إلى المدينة، { وجهاد في سبيله } ، وأحب إليكم من الجهاد في طاعة الله، { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } ، أي فانتظروا حتى يأتي الله بفتح مكة، ويقال: حتى يأتي الله بعذاب عاجل أو آجل، { والله لا يهدي القوم الفاسقين }؛ أي لا يرشد الخارجين عن طاعته إلى معصيته، ولا يهديهم إلى جنته وثوابه.
[9.25]
قوله تعالى: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا }؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من مكة بعد ما فتحها، وكان انفتاحها في بقية أيام رمضان، فمكث بها حتى دخل شوال متوجها إلى حنين ، وبعث رجلا من بني سليم عينا له يقال له عبدالله بن أبي حدرد، فأتى حنينا فكان بينهم يسمع أخبارهم، فسمع مالك بن عوف يقول لأصحابه: أنتم اليوم أربعة آلاف رجل، فإذا لقيتم العدو فاحملوا عليهم حملة رجل واحد، فوالله لا تضربون بأربعة آلاف سيف شيئا إلا أفرج لكم. وكان مالك بن عوف على هوازن، وكنانة بن عبد ياليل على ثقيف، فأقبل ابن أبي حدرد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إليهم في عشرة آلاف رجل، كذا قال الكلبي.
وقال مقاتل: (كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة)، وقال قتادة:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، وألفين من الطلقاء، فقال رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة: يا رسول الله لا نغلب اليوم من قلة، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته وابتلى الله المسلمين بذلك، فلما التقوا حمل العدو عليهم حملة واحد، فلم يقوموا لهم حلب الشاة أن انكشفوا وتبعهم القوم في أدبارهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقود به، والعباس أخذ بالثغر، وحول رسول الله يومئذ نحو من ثلاثمائة رجل من المسلمين وانهزم سائر المسلمين عنه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يركض بغلته نحو الكفار لا يأل، وكانت بغلته شهباء وهو ينادي: " يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار إلي، أين أصحاب الصفة " أي أصحاب سورة البقرة.
وكان العباس ينادي: يا معشر المهاجرين، أين الذين بايعوا تحت الشجرة، يا معشر الذين آووا ونصروا، هلموا فإن هذا رسول الله. وكان العباس صيتا جهوري الصوت، يروي أنه من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى واصبحاه، فأسقطت كل حامل سمعت صوته.
فلما صاح بالمسلمين عطفوا حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها، وقال: لبيك لبيك، وجاؤا عنقا واحدا لنصر دين الله، وأقبل المشركون ليطفؤا نور الله ، فأنزل الله تعالى من السماء جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وأظهر المسلمين عليهم، وحمي الوطيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يتطاول إلى قتالهم، ثم أخذ كفا من الحصى فرماهم به وقال: " شاهت الوجوه، انهزموا ورب الكعبة " فوالله ما زال أمرهم مدبرا وجدهم كليلا، وهرب حينئذ آمرهم مالك بن عوف ".
وقال أبي اسحاق:
" قلت للبراء: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى المسلمون معهم موليا؟ قال: لا والذي لا إله إلا هو، ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبرا قط، ولقد رأيته على بغلته البيضاء يركض نحو الكفار وهو يقول: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " ثم قال للعباس: " ناد يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين " فعطف المسلمون عليه مسرعين، فأنزل الله جنده ونصر عبده وهزم المشركين ونصر المسلمين ".
قال سعيد بن جبير: (أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف ملك)، وقال الحسن ومجاهد: (كانوا ثمانية آلاف)، قال قتادة: (كانوا ستة عشر ألفا)، وقال سعيد بن جبير:
" حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يقف لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء - يعني - النبي صلى الله عليه وسلم تلقانا رجال بيض الثياب حسان الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت اياها "
يعني الملائكة.
وروي أن الملائكة قاتلت يومئذ، في الخبر: أن رجلا من بني نضر بن معاوية قال للمؤمنين وهو في أيديهم: أين الخيل البلق؟ والرجال عليهم الثياب البيض؟ ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم، فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " تلك الملائكة ".
قال:
" فلما هرب أمير المشركين مالك بن عوف انهزم المشركون وولوا مدبرين، وانطلق المسلمون حتى أتوا أوطاسا بها عيال المشركين وأموالهم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين رجلا من الأشعريين أمره عليهم يقال له أبو عامر، فسار معهم إلى أوطاس فقاتل أهلها حتى هزمهم الله وسبى المسلمون عيال المشركين، وهرب مالك ابن عوف حتى أتى إلى الطائف فتحصن بها، وأخذ ماله وأهله في من أخذ، وقتل أبو عامر رضي الله عنه. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحل فيه القتال، رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة فأحرم منها بعمرة، وقسم بها السبي والمال وغنائم حنين وأوطاس.
وتألف أناس منهم أبو سفيان بن حرب، وسهل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فأعطاهم وجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل، فقال طائفة من الأنصار: من الرجل وآثر قومه بالعجب، إن أسيافنا تقطر من دمائهم وغنائمنا ترد عليهم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال: " يا معشر الأنصار ما هذا الذي بلغني عنكم؟ " فقالوا: هو الذي بلغك، وكانوا يكذبون، فقال: " ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم أذلة فأعزكم الله بي؟ وكنتم وكنتم؟ ".
فقال سعد بن عبادة: ائذن لي أتكلم يا رسول الله؟ قال: " تكلم " قال: أما قولك " كنتم ضلالا فهداكم الله بي " بحق كنا كذلك، وأما قولك: " كنتم أذلة فأعزكم الله بي " فقد علمت العرب أنه ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا، فقال عمر: يا سعد أتدري من تكلم؟ قال: نعم يا عمر أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديا وسلكت الناس واديا لسلكت وادي الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم " ثم قال: " يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالشاة والإبل وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم؟ " قالوا: بلى رضينا يا رسول الله، والله ما قلنا ذلك إلا محبة لله ولرسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم ". فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فقال : " أما خطيب الأنصار؛ ولو قال: كنت طريدا فآويناك، وكنت خائفا فآمناك، وكنت مخذولا فنصرناك، وكنت وكنت، لكان قد صدق " فبكت الأنصار "
، وكان مالك بن عوف بعد ذلك ممن أفتتح عامة الشام.
قوله تعالى: { في مواطن كثيرة } أي لقد أعانكم الله على أعدائكم في مواضع كثيرة من قتال بدر وحرب بني قريظة والنضير وحنين وفتح مكة. قوله: { ويوم حنين } أي وأعانكم يوم حنين، وحنين: اسم واد بين مكة والطائف، وأضيف اليوم إلى حنين لوقوع الحرب يومئذ بها.
وقوله تعالى: { إذ أعجبتكم كثرتكم } إذ سرتكم، والإعجاب هو السرور والتعجب، فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا ولا دفعت عنكم سوءا. قوله تعالى: { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت }؛ أي ضاقت عليكم الأرض مع سعتها من خوف العدو، فلم تجدوا موضعا للفرار إليه. قوله تعالى: { ثم وليتم مدبرين }؛ أي أعرضتم منهزمين لا تلوون على أحد. والإدبار الذهاب إلى الخلف.
[9.26]
قوله تعالى: { ثم أنزل الله سكينته على رسوله }؛ أي أنزل أمنه ورحمته على رسوله، { وعلى المؤمنين }؛ حتى عادوا فظفروا. والسكينة في اللغة اسم لما يسكن إليه القلب، وقال الحسن: (أراد بالسكينة الوقار). قوله تعالى: { وأنزل جنودا لم تروها }؛ أي أنزل من السماء ملائكة لنصركم، لم تروها بأعينكم. قوله تعالى: { وعذب الذين كفروا }؛ يعني بالقتل والأسر، { وذلك }؛ العقاب، { جزآء الكافرين }؛ في الدنيا.
[9.27]
قوله تعالى: { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء }؛ أي ثم يتوب من بعد الهزيمة على منء يشاء منهم من كان أهلا لذلك، { والله غفور }؛ لما كان منهم في الشرك إذا تابوا { رحيم }؛ بهم في الإسلام.
[9.28]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }؛ معناه: إنما المشركون قذر، وقيل: خبث. والنجس: مصدر أقيم مقام الاسم لا يثنى ولا يجمع، يقال: رجل نجس وامرأة نجس، ورجال ونساء نجس، ولا يؤنث ولا يجمع؛ فلهذا لم يقل إن المشركين أنجاس، وسمى المشرك نجسا؛ لأن شركه يجري مجرى القذر في أنه يجنب الجنب، كما تتجنب النجاسات؛ أي يجب التبرؤ من المشركين وقطع مودتهم.
والنجاسة على ضربين، نجاسة أعيان، ونجاسة الذنوب، وكان الحسن يقول: (لا تصافح المشركين، فمن صافحهم فليتوضأ)، وقال قتادة: (سماهم الله نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنع من دخول المساجد؛ لأن الجنب لا يدخل المسجد).
قوله تعالى: { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } أي لا ينبغي لهم أن يقربوه للحج والطواف بعد هذا العام، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه، ونادى علي رضي الله عنه فيه ببراءة، وهو سنة تسع من الهجرة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الثاني حجة الوداع في سنة عاشر من الهجرة. قوله تعالى: { فلا يقربوا المسجد الحرام } بيان أن المراد بالآية إبعاد المشركين عن المسجد الحرام، كما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي فيهم في ذلك العام: [ألا لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك وعريان].
قال ابن عباس: (فقال أناس من تجار بكر بن وائل وغيرهم من المشركين بعد قراءة علي رضي الله عنه هذه الآية: ستعلمون يا أهل مكة إذا فعلتم هذا ماذا تلقون من الشدة ومن أين تأكلون، أما والله لتقطعن سبلكم، ولا نحمل إليكم شيئا. فوقع ذلك في نفس أهل مكة وشق عليهم، وألقى الشيطان في قلوب المسلمين حزنا وقال لهم: من أين تعيشون وقد نفى المشركين وقطع عنكم الميرة؟ فقال المسلمون: يا رسول الله قد كنا نصيب من تجاراتهم، فالآن ينقطع عنا الأسواق والتجارة ويذهب الذي كنا نصيبهم فيها، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } ) معناه: وإن خفتم فقرا من إبعاد المشركين، { فسوف يغنيكم الله من فضله } بغيرهم، فأخصبت تبالة وجرش وحملوا إلى مكة الطعام والإدام، وأغنى الله أهل مكة من تجار بني بكر. وروي أن أهل نجد وصنعاء من أهل اليمن أسلموا وحملوا إلى مكة الطعام في البحر والبر.
والعيلة: الفقر والصفاق، يقال: عالى الرجل يعيل عليه، قال الشاعر:
ولا يدري الفقير متى غناؤه
ولا يدري الغني متى يعيل
أي يفتقر. وفي مصحف عبدالله (وإن خفتم عائلة فسوف يغنيكم الله من فضله).
وقوله تعالى: { إن شآء }؛ استثناء، فجاء علم الله أنه سيكون لئلا تترك العباد الاستثناء في أمورهم، ولتنقطع الآمال إلى الله في طلب الغنى منه. قوله تعالى: { إن الله عليم حكيم }؛ أي عليم بخلقه وما يصلحهم، حكيم فيما حكم من أمره.
[9.29]
قوله عز وجل: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله }؛ معناه: قاتلوا اليهود والنصارى الذين لا يؤمنون بآيات الله التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم. وقيل: معنى قوله { لا يؤمنون بالله } ، أي كانوا يصفون الله سبحانه بصفة لا تليق به، لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وقوله تعالى: { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } أي لا يحرمون الخمر والخنزير ونحو ذلك مما لم يقروا بتحريمه.
وقوله تعالى: { ولا يدينون دين الحق }؛ أي لا يعتقدون دين الإسلام ولا يخضعون لله بالتوحيد، وقيل: معنى { دين الحق } أي دين الله؛ لأن الله هو الحق. قوله تعالى: { من الذين أوتوا الكتاب }؛ يعني اليهود والنصارى، { حتى يعطوا الجزية عن يد }؛ أي حتى تؤخذ الجزية من أيديهم وهم قيام إذلاء، والآخذ جالس. ويقال: أراد بالقهر، كأنه قال: عن قهر من المسلمين عليهم واعتراف منهم للمسلمين بأن أيدي المسلمين فوق أيديهم، كما يقال: اليد لفلان في هذا الأمر، ويراد به نفاذ أمره. ويحتمل أن يكون المعنى باليد إنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية عنهم. ويقال: أراد باليد القوة على معنى أنه ليس على الفقير غير المتمول جزية.
وأما طعن المخالف كيف يجوز إقرار الكفار على كفرهم بأداء الجزية بدلا عن الإسلام؟ فالجواب: أنه لا يجوز أن يكون أخذ الجزية عنهم رضى بكفرهم، وإنما الجزية عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر، وإذا جاز إمهالهم بغير الجزية للاستدعاء إلى الإيمان كان إمهالهم بالجزية أولى. قال أبو عبيد: (يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد). قال ابن عباس : (هو أن يعطيها بأيديهم يمشون بها كارهين، ولا يجيئون ركبانا ولا يرسلون بها).
قوله تعالى: { وهم صاغرون }؛ أي ذليلون ومقهورون، قال عكرمة: (معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم)، وقال الكلبي: (هو أنه إذا أعطى الجزية صفع في قفاه)، وقيل: هو أنه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة.
وتؤخذ الجزية أيضا من الصابئين والسامري؛ لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل لأهل البدع فينا، وتؤخذ الجزية أيضا من المجوسي؛ لأنه قد قيل إنهم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم، وعن سعيد بن المسب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس الهجر، وأخذها عمر رضي الله عنه من مجوس أهل السواد).
" روي أن عمر رضي الله عنه قال: لا أدري كيف أصنع بالمجوس، فقال له عبدالرحمن ابن عوف رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحين نساءهم ولا آكلي ذبائحهم " ".
[9.30]
قوله عز وجل: { وقالت اليهود عزير ابن الله }؛ الآية؛ أي قالت اليهود حين قرأ عليهم عزير التوراة عن ظهر قلب: إن الله لم يجعل التوراة في قلب أحد إلا وهو ابنه! وعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن جماعة من اليهود منهم النعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن صيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أن عزيرا ابن الله تعالى! فأنزل الله هذه الآية).
وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب (وقالت اليهود عزير ابن الله) بالتنوين، وقرأ الباقون بغير التنوين، فمن نون قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن يصرف وإن كان أعجميا مثل نوح وهود ولوط، وقال أبو حاتم والمبرد: اختيار التنوين لأنه ليس بصفة والكلام ناقص، و(ابن) في موضع الخبر وليس بنعت، وإنما يحذف التنوين في النعت. ومن ترك التنوين قال لأنه اسم أعجمي. قال الزجاج: (يجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره: عزير ابن الله معبود، على أن يكون (ابن) نعتا للعزير).
قوله تعالى: { وقالت النصارى المسيح ابن الله }؛ هذا قول نصارى نجران، وقوله تعالى: { ذلك قولهم بأفواههم }؛ معناه: أنهم لا يتجاوزون في القول عن العبادة؛ أي المعنى إذ لا برهان لأنهم يعترفون أن الله لا يتخذ صاحبة، فكيف تزعمون أن له ولدا. قوله تعالى: { يضاهئون قول الذين كفروا من قبل }؛ أي يشابهون في قول ذلك قول أهل مكة حين قال: اللات والعزى ومناة. وقيل: أراد يشابهون قول الكفار الذين يقولون الملائكة بنات الله.
قرأ عاصم (يضاهئون) بالهمز، وقرأ العامة بغير همز، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد، وقال قتادة والسدي: (ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالت النصارى: المسيح ابن الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله).
قوله تعالى: { يضاهئون } أي يشابهون، يقال: امرأة أضهيأ إذا شابهت الرجل في أنها لا ثدي لها ولا تحيض. قوله تعالى: { قاتلهم الله }؛ أي لعنهم الله، كذا قال ابن عباس، وقال ابن جريج: (معناه قتلهم الله)، { أنى يؤفكون }؛ أي أنى يكذبون ويصدفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه.
[9.31]
قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله }؛ اتخذ النصارى واليهود علماءهم وعبادهم أربابا؛ أي أطاعوهم في معاصي الله، فجعل الله طاعتهم عبادتهم؛ لأنهم اتبعوهم وتركوا أوامر الله ونواهيه في كتبهم، قال الضحاك: (الأحبار: العلماء) واحدهم حبر وحبر بكسر الحاء وبفتحها، والكسر أفصح، والرهبان من النصارى: أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم. وقوله تعالى: { أربابا من دون الله } أي سادة من دون الله يطيعونهم في معاصي الله. وأما تسمية العالم حبرا فلكثرة كتابته بالحبر، وقيل: لتبحيره المعاني بالبيان الحسن. وأما الراهب فهو الخاشع لله.
وقوله تعالى: { والمسيح ابن مريم }؛ أي اتخذ المسيح إلها. وقوله تعالى: { ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا }؛ أي لم يؤمروا في جميع الكتب ولا على ألسنة الرسل إلا بعبادة إله واحد، وقوله تعالى: { لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } أي تنزيها لله عن الشرك وما لا يليق به.
[9.32]
قوله تعالى: { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم }؛ أي يريدون أن يرد القرآن ودلائل الإسلام بالتكذيب بألسنتهم ، وقال الضحاك: (يريد اليهود والنصارى أن يهلك محمد وأصحابه ولا يعبد الله بالإسلام) { ويأبى الله إلا أن يتم نوره }؛ ويعلي دينه وكلماته ويظهر الإسلام وأهله على أهل كل دين، { ولو كره الكفرون }؛ ذلك.
[9.33]
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله }؛ أي هو الذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن ودين الإسلام، ليظهره على سائر الأديان بالحجة والغلبة، { ولو كره المشركون }. واختلف العلماء في قوله { ليظهره }. قال ابن عباس: (إنها عائدة على الرسول، يعني ليعمه بشرائع الدين كله فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها). قال آخرون: (الهاء) راجع الى دين الحق.
[9.34]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل }؛ معناه: يا أيها الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن إن كثيرا من الأحبار وهم من ولد هارون، قوله: { والرهبان } وهم أصحاب الصوامع وهم دون الأحبار في العلم، قوله تعالى: { ليأكلون أموال الناس بالباطل } أرادوا به أخذ الرشا على الحكم، وما كان لهم من الهدايا من سفلتهم على كتمان بعث النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، هكذا روي عن ابن عباس، وقال السدي: (الأحبار علماء اليهود، والرهبان أصحاب الصوامع من النصارى).
وأما تخصيص الأكل في الآية، فلأن معظم المقصود من التمليك الأكل، فوضع الأكل موضع الملك. قوله تعالى: { ويصدون عن سبيل الله }؛ أي يصرفون الناس عن دين الله.
قوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }؛ أي يجمعونها ويضعون بعضها فوق بعض؛ ولا ينفقون الكنوز في طاعة الله. وقيل: معناه: ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهب؛ لأن في بيان أحدهما حكم الآخر، كما قال تعالى:
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها
[الجمعة: 11]، والدليل على أن هذه الكناية راجعة إلى الذهب والفضة جميعا أنها لو رجعت إلى أحدهما لبقي الآخر عاريا عن الجواب، فيصير كلاما منقطعا لا معنى له، وتقدير الآية: لا ينفقون منها؛ أي لا يؤدون زكاتهما ولا يخرجون حق الله منهما، إلا أنه حذف (من) وأراد إثباتها، بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى
خذ من أموالهم صدقة
[التوبة: 103] قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" في مائتي درهم خمس دراهم، وفي عشرين مثقالا من الذهب نصف مثقال "
ولو كان الواجب إنفاق جميع المال لم يكن لهذا التقدير وجه.
وسمي الذهب ذهبا؛ لأنه يذهب ولا يبقى، وسميت فضة لأنها تنفض؛ أي تفرق ولا تبقى، وحسبك باسمهن دلالة على فنائهما وأنه لا بقاء لهما.
وقوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } أي ضع الوعيد لهم بالعذاب موضع بشارة بالنعم لغيرهم؛ وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كانت تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا).
[9.35]
قوله تعالى: { يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم }؛ أي يوم يوقد على المكنوز في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم عقوبة، قال ابن عباس: (لا يوضع دينار ولا درهم على دينار ولا على درهم، ولكن توسع جلودهم لذلك فلا يمس دينار دينارا ولا درهم درهما).
قوله تعالى: { هذا ما كنزتم لأنفسكم }؛ أي يقال لهم: هذا ما جمعتم في دار الدنيا، { فذوقوا ما كنتم تكنزون } ، فذوقوا عقوبة ما كنتم تجمعون. وسئل أبو بكر الوراق: لم خصت الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ فقال: (لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير انعصر وإذا ضمه وإياه مجلس ازور عليه وولاه ظهره).
عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لما نزلت هذه الآية قالت الصحابة: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر: أنا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال عليه السلام: " لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وبدنا صابرا وزوجة تعينك على إيمانك " ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمي عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فتكوى بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر تسير عليه، كلما مضى عليه آخرها رد عليه أولها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب بقر لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر تسير عليه، كلما مضى آخرها رد عليه أولها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلما مضى عليه آخرها رد أولها حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ".
[9.36]
قوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموت والأرض }؛ معناه: إن عدة الشهور التي تتعلق بها الأحكام من الحج والعمرة والزكاة والأعياد وغيرها اثنا عشر شهرا على منازل العمرة، تارة يكون الحج والصوم في الشتاء، وتارة في الصيف على اعتبار الأهلة. وقوله تعالى: { في كتاب الله } يعني اللوح المحفوظ. قوله تعالى: { يوم خلق السموت والأرض } إنما قال ذلك؛ لأن الله تعالى أجرى الشمس والقمر في السماوات يوم خلق السماوات والأرض.
قوله تعالى: { منهآ أربعة حرم }؛ واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد متتابعة، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، سماها حرما لعظم انتهاك حرمتها، كما خص الحرم بمثل ذلك، وكانت العرب تعظمها وتحرم القتال فيها حتى أن الرجل لو لقي قاتل أبيه أو أخيه فيها لم يهجه.
قوله تعالى: { ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم }؛ أي في أشهر الحرم بالعمل بالمعصية وترك الطاعة. وقيل: باستحلال القتل والغارة. وقيل: معناه: ولا تجعلوا حلالها حراما، ولا حرامها حلالا، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن. ويقال: معناه: فلا تظلموا في الاثني عشر الشهر أنفسكم. قوله تعالى: { ذلك الدين القيم } أي ذلك الحساب المستقيم.
قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة } ويجوز أن يكون الكافة راجعة إلى المسلمين؛ أي قاتلوا جميعا، قوله تعالى: { كما يقاتلونكم كآفة } أي كما يقاتلونكم أي جميعا. قوله تعالى: { واعلموا أن الله مع المتقين }؛ أي معهم بالنصرة.
واختلف العلماء في حرمة القتال في الأشهر الحرم، فقال بعضهم: لا يجوز القتال فيها والغارة لأن الله سماها حرما فيكون قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة } دليلا على جواز القتال فيها على وجه الدفع.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن القتال فيها جائز، والمراد بقوله: { منهآ أربعة حرم } تعظيم انتهاك حرمتها بالظلم والفساد فيها، وتعظيم ثواب الطاعة التي يفعل فيها. قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كآفة } يدل على أن الله أخرج هذه الأشهر الحرم من أن تكون حرما.
وفي باب الجهاد دليلا تقديرا آخر أن أحد الجهاد داخل تحت قوله: { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } وكان الله تعالى ميز الجهاد من الظلم الذي هو إقدام على النفوس والأموال، وقوله تعالى: { كآفة } منصوب على الحال.
قال قتادة وعطاء: (كان القتال كثيرا في الأشهر الحرم، ثم نسخ وأحل فيه بقوله: { وقاتلوا المشركين كآفة } يعني فيهن وفي غيرهن). وقال الزهري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرم القتال في الأشهر الحرم، مما أنزل الله من تحريم ذلك حتى نزلت براءة، وأحل قتال المشركين).
وقال سفيان الثوري لما سئل عن القتال في الأشهر الحرم، قال: (لا بأس بالقتال فيهن وفي غيرهن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وحنييا وثقيفا بالطائف وحاصرهم في الشوال وبعض ذي القعدة، فدل على أن حرمة القتال فيها منسوخ).
[9.37]
قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما }؛ أي إنما تأخير الشهر الحرام من المحرم إلى صفر، واستباحة المحرم زيادة في الكفر يغلط ويخطىء بالنساء سائر الكفار، ومن قرأ (يضل) صفر مكان المحرم، ويحرمون المحرم عاما فلا يقاتلون فيه، ثم يقاتلون في صفر، { ليواطئوا عدة ما حرم الله }؛ أي ليوافقوا في العدد أربعة أشهر، وكانوا يقولون: هذه أربعة بمنزلة أربعة. والمواطأة الموافقة، وأصل النسيء الحاضر ومنه بيع النسيئة، ومنه أنسأ الله في أجل فلان، ومنه المنسأة وهي العصا يرجو بها ويؤخر.
قرأ قتادة ومجاهد وأبو عمرو ونافع غير ورش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وابن عامر (النسيء) بالمد والهمزة وهو مصدر كالسعير والحريق ونحوهما، ويجوز أن يكون مفعولا مصروفا أي فعيل مثل الجريح والقتيل والصريع، تقديره: إنما الشهر المؤخر. وقرأ أبو جعفر وورش (إنما النسي) بالتشديد من غير همزة، وروى ذلك ابن كثير على معنى المنسي أي المتروك، قال الله تعالى:
نسوا الله فنسيهم
[التوبة: 67].
وقوله: { يضل به الذين كفروا } ، قرأ أهل المدينة وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر بفتح الياء وكسر الضاد لأنهم هم الضالون لقوله: { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } ، وقرأ الحسن وقتادة ومجاهد ويعقوب بضم الياء وكسر الضاد؛ أي يضل به الذين كفروا الناس المقتدين بهم، وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بضم الياء وفتح الضاد، وهي قراءة ابن مسعود لقوله: { زين لهم } ، وقوله تعالى: { يحلونه عاما } أي يحلون النسيء.
وقوله تعالى: { ليواطئوا }؛ أي ليوافقوا، وقيل: ليشبهوا، { عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله }؛ أي يحلوا ما حرمه الله من الغارة والقتل في الشهر الحرام، وإنما كان يفعل هكذا بنو كنانة وربما كانوا يؤخرون رجبا ويبدلونه صفرا لتكون الشهور متوالية، وقوله تعالى: { زين لهم سوء أعمالهم }؛ أي حسن في قلوبهم قبح أعمالهم من تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، قال الحسن: (زينتها لهم أنفسهم والشياطين) { والله لا يهدي القوم الكافرين } أي لا يوفقهم مجازاة لكفرهم. وقيل: لا يهديهم إلى الجنة والثواب.
قال ابن عباس: (كان الناسئ رجلا من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وجنادة بن عوف وكان يقوم على الناس فيقول: ألا إن آلهتكم حرمت عليكم صفر العام، فيحرمون فيه الدماء والأموال ويستحلون في المحرم، فإذا كان من قابل نادى: ألا إن آلهتكم حرمت عليكم المحرم العام، فيحرمون فيه الدماء والأموال ويستحلون صفر ليفيدوا منه).
وفي بعض الروايات: أنه كان يقول قبل هذا النداء: يا أيها الناس أنا الذي أعاب ولا خاب ولا مرد لما قضيت، فيقول له المشركون: لبيك ربنا، ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا فيقول: ألا إن صفر العام حلال يريد به المحرم، وربما يقول: حرام، فيحرمون المحرم صفرا، وكان إذا قال الناسيء في المحرم: حلال، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأعلوا السيوف وأغاروا على الناس، وإذا قال: حرم، حلوا الأوتار ونزعوا الأزجة وأغمدوا السيوف.
[9.38]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدنية بعد مرجعه من الطائف، ثم أمره الله بالجهاد لغزوة الروم وأمره بالخروج إلى غزوة تبوك، وذلك في زمان عسرة وشدة من الحر حين طابت ثمار أهل المدينة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الجهاد فكانوا يتثاقلون من الخروج ويحبون الظلال والثمار، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: ما لكم إذا قيل لكم اخرجوا إلى جهاد المشركين تثاقلتم إلى الأرض وتكاسلتم واطمأننتم إلى أوطانكم، { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة }؛ استفهام يعني الإنكار؛ أي آثرتم عمل الدنيا على عمل الآخرة، وآثرتم الحياة في الدنيا على الحياة في الآخرة، { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } أي ما منفعة الدنيا في الآخرة وفي ما يتمتع به أولياء الله في الجنة إلا يسير لأن الدنيا تضمحل ويفنى أهلها، والآخرة دار القرار.
[9.39]
قوله تعالى: { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم }؛ أي إلا تخرجوا مع نبيكم في الجهاد يعذبكم عذاب الاستئصال، ويستبدل قوما غيركم أي أطوع لله منكم، { ولا تضروه شيئا }؛ أي ولا تنقصوا من ملكه شيئا بقعودكم عن الجهاد، { والله على كل شيء }؛ من العذاب والإبدال، { قدير }.
[9.40]
قوله تعالى: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين }؛
" وذلك أن كفار مكة لما أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم أخبره جبريل بذلك وأمره بالخروج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: " نم مكاني على الفراش " وخرج مع أبي بكر رضي الله عنه إلى غار جبل ثور - وهو جبل بأسفل مكة - ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أطراف أصابعه حتى حفيت، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه وجعل يستند به حتى أتى فم الغار، وكان الغار مقرونا بالهوام، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول الغار قال له أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار. فدخل واستبرأه وجعل يسوي الجحرة بثيابه خشية أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي جحران فوضع عقبه عليهما ثم قال: إنزل يا رسول الله، فنزل فكانا في الغار ليلتهما.
فدخل الكفار على علي رضي الله عنه فقالوا له: يا علي أين محمد؟ فقال: لا أدري أين ذهب، فطلبوه من الغد واستأجروا رجلا يقال له كرز بن علقمة الجراح، فقفا لهما الأثر حتى انتهى بهم إلى جبل ثور، فقال: انتهينا إلى هنا وهذا أثره فما أدري أين أخذ يمينا أو شمالا أو صعد الجبل، فصعدوا الجبل يطلبونه، وأعمى الله عليهم مكانه فلم يهتدوا إليه.
فقام رجل منهم يبول مستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعورته، فقال أبو بكر: يا رسول الله ما أراه إلا قد أبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم " لو أبصرنا ما يستقبلنا بعورته ". وأقبل شباب قريش من كل بطن، معهم عصيهم وقسيهم حتى رأوا باب الغار، وكان صلى الله عليه وسلم مر على ثمامة وهي شجرة صغيرة ضعيفة فأمر أبا بكر أن يأخذها معه، فلما سار إلى باب الغار أمره أن يجعلها على باب الغار، وألهم الله العنكبوت فنسجت حتى سترت وجه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وبعث الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا حتى وقعتا على باب الغار بين العنكبوت وبين الشجرة، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامة، ونسج العنكبوت علموا أن ليس في الغار أحد، وكان أبو بكر يقول: يا رسول الله قد أتينا وما أنا إلا رجل واحد، فإن قتلت أنت تهلك هذه الأمة فلا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقال: " لا تحزن يا أبا بكر إن الله معنا ".
ثم نزل المشركون من الجبل، ولم يقدروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغار ثلاثة أيام ولياليهن، وكان عبدالله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار أهل مكة، فلما أمنا طلب " القوم " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالهجرة إلى المدينة، فاستأجر رجلا يقال له عبدالله بن أريقط يهديهم الطريق إلى المدينة فخرج بهما إلى المدينة، فسمع سراقة بن مالك بن مقسم الكناني بخروجه إلى المدينة، فلبس لامته وركب فرسه يتبع آثارهم حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه، فقال: يا محمد أدع الله أن يطلق علي فرسي فأرد عنك من أرى من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن كان صادقا فأطلق فرسه " فرجع سراقة وقدم أبو بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيا المدينة "
هكذا روي وفي هذا قصة طولة.
ومعنى الآية: ألا تنصروا محمدا صلى الله عليه وسلم في الخروج معه إلى تبوك فالله ينصره كما نصره إذ أخرجه الكفار من مكة وهو ثاني اثنين، أي لم يكن معهما غيرهما، وقوله تعالى { ثاني اثنين } نصب على الحال؛ أي وهو أحد اثنين. وقوله تعالى: { إذ هما في الغار }؛ أراد به غار ثور حين خرجا إليه، والغار النقب الذي يكون في الجبل، وقوله تعالى: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }؛ معناه: إذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لا تحزن على قتلي وذهاب الإسلام إن الله يحفظنا ويدفع شر المشركين عنا.
قوله تعالى: { فأنزل الله سكينته عليه }؛ أي أنزل طمأنينة على رسوله حتى سكن واطمأن. ويقال: أنزل سكينته على صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لنا سكنا، وقوله تعالى: { وأيده بجنود لم تروها }؛ معناه: أعان محمدا صلى الله عليه وسلم وقواه يوم بدر والأحزاب وحنين بجنود لم تعاينوها وهم الملائكة.
قوله تعالى: { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى }؛ أي وجعل كلمة الشرك مغلوبة مذمومة، وجعل أهلها أذلة أسفلين، وقوله تعالى: { وكلمة الله هي العليا }؛ أي وجعل كلمة التوحيد هي الكلمة العالية الممدوحة. قوله تعالى: { والله عزيز حكيم }؛ أي منيع بالنقمة ممن عصاه وما حكم به من أمره.
[9.41]
قوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا }؛ أي انفروا إلى الجهاد في سبيل الله شبابا وشيوخا. وقيل: موسرين ومعسرين. وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل. وقيل: نشاطا وغير نشاط، أي خفت عليكم الحركة أو ثقلت. قوله تعالى: { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله }؛ في طاعة الله، { ذلكم }؛ الجهاد، { خير لكم }؛ من القعود عنه، { إن كنتم تعلمون }؛ أن الله صادق في وعده ووعيده.
[9.42]
قوله تعالى: { لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك }؛ اسم كان مضمر تقديره: لو كان المدعو إليه عرضا قريبا؛ أي غنيمة وسفرا سهلا لاتبعوك؛ أي لو علموا أنهم يصيبون مغنما لخرجوا معك، نزل هذا فيمن تخلف من غزوة تبوك من المنافقين.
قوله تعالى: { ولكن بعدت عليهم الشقة } ، أي لكن بعدت عليهم المسافة إلى الشام، { وسيحلفون بالله لو استطعنا }؛ في اعتذارهم إليكم لو كان لنا سعة في الزاد والمال، { لخرجنا معكم }؛ في غزاتكم، { يهلكون أنفسهم }؛ بالأيمان الكاذبة والقعود عن الجهاد، { والله يعلم إنهم لكاذبون }؛ أن لهم سعة في المال والزاد وإنهم لكاذبون في هذا الاعتذار، وقيل: معنى قوله: { وسفرا قاصدا } أي موضعا قريبا.
[9.43]
قوله تعالى: { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا }؛ أي تجاوز الله عنك يا محمد لم أذنت لهم في القعود عن الجهاد حتى يظهر لكم الذين صدقوا في الاعتذار، { وتعلم الكاذبين }؛ في عذرهم، قدم الله العفو على العتاب حتى يسكن قلبه صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد العفو: { لم أذنت لهم } ، ولو أن الله أخبره بالذنب قبل أن يخبره بالعفو لكان يخاف على النبي صلى الله عليه وسلم من هيبته قوله: { لم أذنت لهم }.
[9.44]
قوله تعالى: { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم }؛ أي لا يستأذنك المؤمنون في القعود عن الجهاد، وقوله: { أن يجاهدوا } معناه: أن لا يجاهدوا، { والله عليم بالمتقين }؛ أي عالم بالمخلصين المطيعين فيميزهم عن المنافقين.
[9.45]
قوله تعالى: { إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر }؛ أي إنما يستأذنك في القعود عن الجهاد الذين لا يصدقون بالله وبيوم البعث، { وارتابت قلوبهم }؛ أي شكت واضطربت، { فهم في ريبهم يترددون }؛ شكهم يتخيرون. والريب: الشك مع اضطراب القلب.
[9.46-47]
قوله تعالى: { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة }؛ أي لو أراد الله لهم الخروج معك إلى العدو لاتخذوا له أهبة، { ولكن كره الله انبعاثهم }؛ أي لكن لم يرد الله خروجهم معك، لأنهم لو خرجوا لكان يقع خروجهم على وجه الإضرار بالمسلمين وذلك كفر ومعصية.
قوله تعالى: { فثبطهم }؛ أي حبسهم، يقال: ثبطه عن الأمر إذا حبسه عنه، { وقيل اقعدوا مع القاعدين }؛ أي اقعدوا مع النساء والصبيان. ويجوز أن يكون القائل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله، ويجوز أن يكون قد قال بعضهم لبعض. وقيل: قال لهم الشيطان ووسوس لهم.
ثم بين الله أن لا منفعة للمسلمين في خروجهم، بل عليهم مضرة لهم، فقال تعالى: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا }؛ أي لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا شرا وفسادا. قوله تعالى: { ولأوضعوا خلالكم }؛ أي لأسرعوا فيما بينكم، { يبغونكم الفتنة }؛ أي يطلبون فساد الرأي وعيوب المسلمين، ويقال: ساروا فيكم بالنميمة، والإيضاع: الإسراع في السير، يقال: أوضع البعير إيضاعا.
قوله تعالى: { وفيكم سماعون لهم }؛ أي وفيكم قائلون منهم ما يسمعون منهم، ويقال: في عسكركم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون عنكم، { والله عليم بالظالمين }؛ يجازيهم على سوء أفعالهم.
[9.48]
قوله تعالى: { لقد ابتغوا الفتنة من قبل }؛ أي وقد طلب هؤلاء المنافقون صد أصحابك عن الدين، وردهم إلى الكفر، وتحويل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبدالله بن أبي يوم أحد، وقوله تعالى: { وقلبوا لك الأمور }؛ أي اختالوا فيك وفي إبطال دينك بالتحويل عنك، وتشتت أمرك وكلمتك من قبل غزوة تبوك، فقلبوا لك الأمور ظهرا لبطن، { حتى جآء الحق وظهر أمر الله }؛ أي حق الإسلام، وأظهره الله على سائر الأديان، { وهم كارهون }؛ لذلك. قوله تعالى: { وظهر أمر الله }؛ أي دين الله.
[9.49]
قوله تعالى: { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني }؛
" نزل في جد بن قيس من المنافقين، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى العدو وحرضه على الجهاد، فقال لجد بن قيس: " هل لك في جلاد بني الأصفر، فتتخذ منهم سراري ووصفاء " يعني الروم.
وكان الأصفر رجلا من الحبشة ملك الروم، وغلب على ناحية منها، فتزوجت الحبشة من الروم، فولدت لهم بنات أخذن من بياض الروم وسواد الحبشة، فكن صفرا لعسا لم ير مثلهن، فقال له جد بن قيس: ائذن لي يا رسول الله أن أقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر، فقد عرف قومي عجبي بالنساء، وإني أرى المرأة تعجبني فما أملك نفسي حتى أضع يدي على المحرم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله أعرض عنه وقال: " أذنت لك " ".
وقوله تعالى: { ولا تفتني } أي ائذن لي في التخلف ولا تفتني ببنات الأصفر، قال قتادة: (معناه ولا تؤثمني)، وقوله تعالى: { ألا في الفتنة سقطوا } أي ألا في الإثم والشرك وقعوا بنفاقهم ومخالفتهم أمرك في ترك الجهاد، { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }؛ أي إنهم يدخلون جهنم لا محالة؛ لأن الشيء إذا كان محيطا بالإنسان فإنه لا يفوته.
روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سيدكم يا بني سلمة؟ " قالوا: جد بن قيس، غير أنه بخيل. قال: صلى الله عليه وسلم: " وأي داء أدوى من البخل؟! بل سيدكم الفتى أبيض الجعد بشر ابن البراء بن معرور "
فقال فيه حسان الشعر:
وقال رسول الله والحق قوله
لمن قال منا: من تعدون سيدا؟
فقلت له: جد بن قيس على الذي
ببخله فينا وإن كان أنكدا
فقال: وأي الداء أدوى من الذي
رميتم به لو على به يدا؟!
وسود بشر بن البراء لجوده
وحق لبشر بن البرا أن يسودا
إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله
وقال: خذوه؛ إنني عائد غدا
[9.50]
قوله تعالى: { إن تصبك حسنة تسؤهم }؛ أي إن تصبك يا محمد حسنة من فتح وغنيمة تسؤهم تلك الحسنة وتحزنهم يعني المنافقين، { وإن تصبك مصيبة }؛ أي قتل وهزيمة ونكبة، { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل }؛ أي أخذنا حذرنا بالتخلف عنهم من قبل هذه المصيبة، { ويتولوا }؛ عنك، { وهم فرحون }؛ مسرورون بما أصابك من الشدة.
[9.51]
قوله تعالى: { قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مولانا }؛ أي قل يا محمد للمنافقين: لن يصيبنا إلا ما كتب الله علينا في اللوح المحفوظ، قال الحسن: (معناه: أنا لسنا بمهملين بل جميع ما يصيبنا من خير أو شر فهو مكتوب في اللوح المحفوظ)، ويقال: معناه: قل لن يصيبنا في عاقبة الأمر إلا ما كتب الله لنا من الفتح والنصرة على الكفار، فإن أصابتنا الهزيمة في الحال فإن أمور العبادة لا تجري إلا على تدبير قد أحكم وأبرم. قوله تعالى: { هو مولانا } أي ولينا يحفظنا وينصرنا. قوله تعالى: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }؛ معنى التوكل على الله: تفويض الأمر إليه ثقة به.
[9.52]
قوله تعالى: { قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون }؛ أي هل تنتظرون بنا إلا النصر على الكفار والظفر بهم، أو القتل على وجه الشهادة في الدنيا مع ثواب الآخرة، ونحن ننتظر بكم أحد الشرين: إما أن يصيبكم الله بعذاب الاستئصال من عنده، أو بأن ينصرنا عليكم فنقتلكم بأسيافنا، فانتظروا ما قلت كي ننتظر نحن بكم عذاب الاستئصال والنصرة عليكم.
[9.53]
قوله تعالى: { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم }؛ معناه: إن أنفقتم في الجهاد طائعين من قبل أنفسكم أو مكرهين مخافة القتل لن يتقبل منكم ما أسررتم من الكفر والنفاق، وقد يذكر لفظ الأمر ويراد به الشرط الجزاء كما قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
معناه: إن أحسنت بنا أو أسأت فأنت غير ملومة.
قوله تعالى: { إنكم كنتم قوما فاسقين }؛ تعليل نفي قبول صدقتهم؛ لأن النفاق يحبط الطاعة، ويمنع من استحقاق الثواب.
[9.54]
قوله تعالى: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله }؛ ما منعهم عن إيجاب الثواب لهم على نفقاتهم إلا كفرهم بالله وبرسوله، ومعنى { نفقاتهم } أي صدقاتهم. قرأ حمزة والكسائي وخلف (يقبل) بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء.
وقوله تعالى: { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى }؛ أي متثاقلون لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابا ولا يخافون بتركها عقابا، والمعنى أنهم يصلون مراءاة الناس، { ولا ينفقون إلا وهم كارهون }؛ وكذلك ينفقون في الزكاة وغيرها لأجل التستر بالإسلام، لا لابتغاء ثواب الله. وكسالى جمع كسلان كما يقال سكارى وسكران.
[9.55]
قوله تعالى: { فلا تعجبك أمولهم ولا أولدهم }؛ أي لا تعجبك يا محمد كثرة أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا }؛ وفي الآخرة، قال الحسن: (لا تسرك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليشدد عليهم في التكليف بأن يأمرهم بالإنفاق في الزكاة والغزو وما شاكل ذلك من المكاره التي تشق عليهم؛ لأنهم لا يرجون بذلك ثوابا في الآخرة، ويكونون معذبين بالإنفاق إذ كانوا ينفقونها على كره منهم). وقيل: أراد بقوله { ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا } أي ما ينالهم من المصائب في أموالهم لا تكون كفارة لذنوبهم. قوله تعالى: { وتزهق أنفسهم }؛ أي تخرج أنفسهم على الكفر. قوله تعالى: { وهم كفرون }؛ أي في حال كونهم كافرين. والزهق خروج الشيء بصعوبة وأصله الهلاك.
[9.56]
قوله تعالى: { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم }؛ معناه: أن هؤلاء المنافقين يحلفون للمؤمنين أنهم على دينهم، يقول الله تعالى: { وما هم منكم } أي ليسوا على دينكم، { ولكنهم قوم يفرقون }؛ أي يخافون من المسلمين، فأظهروا الإسلام وأسروا النفاق.
[9.57]
قوله تعالى: { لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون }؛ معناه: لو يجدون حرزا يلجأون إليه ويتحصنون فيه، أو غيرانا في الجبال أو سربا في الأرض، أو قوما يمكنهم الدخول فيما بينهم يحفظونهم عنكم، لصبوا إليهم وهم يجمحون؛ أي يسبقون ويسرعون إسراعا لا يرد وجوههم بشيء. يقال: فرس جموح إذا ذهب في عدوه لم يرده اللجام، قال عطاء في معنى قوله لو يجدون ملجأ: (أي مهربا)، وقال ابن كيسان: (قوما يأمنون فيهم).
قرأ عبدالرحمن بن عوف (أو مغارات) بضم الميم، وقوله تعالى: { أو مدخلا } قال الكلبي: (نفقا في الأرض كنفق اليربوع) وقيل: معناه: موضع دخول يدخلون فيه. وقرأ الحسن (مدخلا) بفتح الميم وتخفيف الدال، وقرأ أبي (مندخلا) بإثبات النون. وقوله تعالى: { لولوا إليه } قرأ الأشهب العقيلي (لوالوا إليه) بالألف من الموالات؛ أي تابعوا وسارعوا.
[9.58]
قوله تعالى: { ومنهم من يلمزك في الصدقات }؛ أي من المنافقين من يعيبك في الصدقات، { فإن أعطوا منها }؛ الصدقة مقدار مرادهم، { رضوا }؛ بالقسمة، { وإن لم يعطوا منها }؛ لا يرضون بالقسمة.
نزلت هذه الآية في أبي الجواظ وغيره من اللمازين من المنافقين، كما روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصدقات فقال أبو الجواظ: ما ترون صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أبا لك، أما كان موسى عليه السلام راعيا! أما كان داود عليه السلام راعيا! " فذهب أبو الجواظ، فقال صلى الله عليه وسلم: " احذروا هذا وأصحابه "
فأنزل الله هذه الآية.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
" كان رسول الله يقسم قسما إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: " ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟! " فقال عمر رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " دعه فإن له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاته وصومه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ".
قرأ الحسن ويعقوب (يلمزك) بضم الميم، وقرأ الأعمش (يلمزك ) بضم الياء وتشديد الميم، يقال: لمزه وهمزه إذا أعابه، ورجل همزة لمزة، وقال عطاء: (معنى يلمزك أي يغتابك). قوله تعالى: { إذا هم يسخطون }؛ قرأ إياد بن لقيط (إذا هم ساخطون).
[9.59]
قوله تعالى: { ولو أنهم رضوا مآ آتاهم الله ورسوله } أي لو رضوا ما رزقهم الله وما يعطيهم رسوله من العطية والصدقة، { وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله }؛ أي كافينا الله سيعطينا الله من رزقه، وسيعطينا رسوله مما يكون عنده من السعة والفضل وقالوا: { إنآ إلى الله }؛ أي فيما عنده من الثواب، { راغبون }؛ لكان خيرا لهم وأعود عليهم، إلا أنه حذف الجواب؛ لأن الحذف للجواب في مثل هذا الموضع أبلغ من الإثبات؛ لأنك إذا حذفت الجواب ذهبت فيه النفس كل مذهب.
[9.60]
قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقرآء والمساكين }؛ قال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد: (الفقير المتعفف الذي لا يسأل الناس، والمسكين الذي يسأل). ومعنى الآية: إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين لا للمنافقين.
قال ابن عباس: (الفقراء هم أصحاب الصفة، صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا نحو أربعمائة رجل لم يكن لهم منازل في المدينة ولا عشائر، فأووا إلى صفة مسجد رسول الله، يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إليه بالليل، فمن كان عنده فضل من المسلمين أتاهم به إذا أمسوا). قال: (والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس).
فعلى هذا المسكين أفقر من الفقير، ومن الدليل على ذلك أن الله قال:
للفقرآء الذين أحصروا في سبيل الله
[البقرة: 273] ثم قال:
يحسبهم الجاهل أغنيآء
[البقرة: 273]، ومعلوم أن الجاهل بحال الفقير لا يحسبه غنيا إلا وله ظاهر جميل ويده حسنة، وقال تعالى:
أو مسكينا ذا متربة
[البلد: 16]. قيل في التفسير: الذي قد لصق بالتراب وهو جائع عار ليس بينه وبين التراب شيء يقيه. وقال أبو العباس ثعلب: (حكي عن بعض أهل اللغة أنه قال: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا؛ بل مسكين. وأنشد الأعرابي:
أما الفقير التي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرا مع وجود الحلوبة ). وقال محمد بن مسلمة: (الفقير الذي لا ملك له) قال: (وكل شيء محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه)، واحتج من قال: إن الفقير أفقر من المسكين بقوله تعالى:
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر
[الكهف: 79] فأضاف السفينة إليهم، وهذا لا دلالة فيه لأنه روي أنهم كانوا فيها أجراء.
قوله تعالى: { والعاملين عليها } ، يعني السعاة الذين يجلبون الصدقة، ويتولون قبضها من أهلها، يعطون منها سواء كانوا أغنياء أم فقراء، واختلفوا في قدر ما يعطون، قال الضحاك: (يعطون الثمن من الصدقة)، وقال مجاهد: (يأكل العمال من السهم الثامن)، وقال عبدالله بن عمرو بن العاص: (يعطون على قدر عمالتهم)، وقال الأعمش: (يعطون بقدر أجور أمثالهم وإن كان أكثر من الثمن)، وقال مالك وأهل العراق: (إنما ذلك للإمام واجتهاده يعطيهم الإمام قدر ما رأى)، وعن ابن عمر: (يعطون بقدر عملهم)، وعند الشافعي: (يعطون ثمن الصدقات).
قوله تعالى: { والمؤلفة قلوبهم }؛ هم قوم كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم على الإسلام، كانوا رؤساء في كل قبيلة، منهم أبو سفيان بن حرب من بني أمية، والأقرع بن حابس، وعقبة بن حصن الفزاري وغيرهما من بني عامر بن لؤي، والحارث بن هشام المخزومي، وسهيل بن عمرو الجمحي من بني أسد، والعباس بن المرداس من بني سليم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء المؤلفة قلوبهم إلى أبي بكر وطلبوا منه سهمهم، فأمرهم أن يكتبوا كتابا، فجاؤا بالكتاب إلى عمر رضي الله عنه ليشهد، فقال عمر: إيش هذا؟ قالوا: سهمنا، فقال عمر رضي الله عنه:
وقل الحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر
[الكهف: 29] إن الإسلام أجل أن يرسى عليه. ثم أخذ عمر كتابهم ومزقه وقال: إنما كان النبي يعطيكم يتألفكم على الإسلام، فاليوم فقد أعز الله الإسلام، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف. فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا: أنت الخليفة أم هو؟! فقال: هو إن شاء! فبطل سهمهم.
قوله تعالى: { وفي الرقاب }؛ معناه عند أكثر الناس في فكاك الرقاب وهم المكاتبون، وذهب مالك إلى أنهم رقاب يبتاعون من الزكاة ويعتقون، فيكون ولاؤهم لجميع المسلمين دون المعتقين، قال: (ولا يعطى المكاتب من الزكاة ولا من الكفارات شيئا).
وقد روي
" أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: علمني عملا يدخلني الجنة؟ قال: " فك الرقبة وأعتق النسمة " قال: أوليسا سواء؟ قال: " لا؛ فك الرقبة أن تعين في عتقها "
، فاقتضى قوله تعالى { وفي الرقاب } المعوضة في العتق.
قوله تعالى: { والغارمين }؛ يعني المديونين الذين لا يكون لهم فضل نصاب على الدين؛ لأن المال وإن كان في أيديهم فهو مستحق أيديهم، وقال مجاهد والزهري: (إنما تحل الصدقة للمديونين إذا كان الدين قد لحقه بغير إسراف ولا معصية)، وقال قتادة: (الغارمون هم قوم لحقهم ديون في غير تبذير ولا فساد)، وعن مجاهد: (أن الغارم من احترق بيته، أو ذهب السيل بماله، أو أدان على عياله).
قوله تعالى: { وفي سبيل الله }؛ أراد به المجاهدين إذا انقطعوا عن أزوادهم وراحلتهم، وقال أبو يوسف: (هم الفقراء الغزاة)، وأما إذا كان الغازي غنيا اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: (لا يعطى الغازي الغني)، وقال الشافعي ومالك: (يعطى الغازي الغني) وحجتهما قوله عليه السلام:
" لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، ورجل اشتراها بماله، ورجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى إليه جاره، وفي سبيل الله وابن السبيل ".
قوله تعالى: { وابن السبيل }؛ هو المسافر المنقطع عن ماله، سمي بذلك لملازمته السبيل، كما يقال: ابن الغني وابن الفقير، قال مجاهد والزهري: (لابن السبيل حق في الزكاة وإن كان غنيا) قال قتادة: (ابن السبيل هو الضيف).
قوله تعالى: { فريضة من الله }؛ أي فرض الله هذه الأشياء فريضة، { والله عليم }؛ بمصالح عباده، { حكيم }؛ في أفعاله. والفرض في ذكر الأصناف في هذه الآية بيان أنه لا يجوز إخراج الصدقة منهم إلى غيرهم؛ لأن الحاجة في جميع الأصناف المذكورين في هذه الآية موجودة، ولأن من عليه الزكاة إذا حمل الزكاة بنفسه إلى الإمام لم يكن لأحد من العمال في ذلك نصيب.
وقال الشافعي: (تقسم الصدقة على الأصناف الثمانية، كما هو مذكور في الآية، إلا أن يفقد صنف فيقسم على الباقين). وقيل: يقسم على أصله على سبعة أصناف؛ لأن المؤلفة قد سقطوا، قال: (ويعطى كل منهم من الثمانية ثلثه من أهل كل صنف، فإن أعطى اثنين ضمن ثلث سهم).
واختلف العلماء في المقدار الذي إذا ملكه رجل دخل في حد الغنى، وخرج من حد الفقر، قال بعضهم: إذا كان عند أهله قوت يومهم، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
" " من سأل عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم " قيل: يا رسول الله وما ظهر الغنى؟ قال: " أن تعلم أن عند أهله ما يعيشهم ويغديهم " ".
وقال بعضهم: اذا ملك أربعين درهما أو عدلها من الذهب، واستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا "
، وكانت الأوقية يومئذ أربعين درهما.
وقال بعضهم: إذا ملك خمسين درهما أو عدلها من الذهب لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خدوش " قيل: يا رسول الله وما غناه؟ قال: " خمسون درهما، أو عدلها من الذهب " ".
والصحيح: أن من ملك مائتي درهم أو عدلها من فرض أو غيره فاضلا عن ما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأتان وفرس، لم تحل له الصدقة لقوله عليه السلام:
" إني أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم "
فجعل الناس فريقين، ولا خلاف أن الذي يملك مائتي درهم يكون غنيا، فوجب أن لا يكون داخلا في الفقراء، ولو كان الاعتبار بالضرورة لكان الذي له غداء دون العشاء أو عشاء دون الغداء لا تحل له الصدقة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" للسائل حق وإن جاء على فرس "
والفرس في الكثير الأحوال يساوي اكثر من أربعين درهما.
[9.61]
قوله تعالى: { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن الجماعة من المنافقين منهم جلاس بن سويد ومخشي بن حمير وأبو ياسر بن قيس وسماك بن يزيد وعبيد بن هلال ورفاعة بن التابوت كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون فيه ما لا يجوز، فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه الخبر، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا في ما نقول، فإن محمدا أذن سامعة. فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: ومن هؤلاء المنافقين من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون هو صاحب أذن يصغي إلى كل أحد، ويقبل كل ما قيل له.
قوله تعالى: { قل أذن خير لكم }؛ أي قيل: هو مستمع بخير لا مستمع بشر، وقيل: معناه: هو يستمع إلى ما هو خير لكم وهو الوحي. وقرأ الحسن: (هو أذن خير لكم) كلاهما بالتنوين والضم، معناه: إن كان كما قلتم فهو خير لكم يقبل عذركم. وقرأ نافع: (قل أذن) بجزم الذال وهو لغة في الأذن. قوله تعالى: { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين }؛ أي يصدق بما أنزل عليه، والإيمان بالله لا يعمل إلا بالحق، ويؤمن للمؤمنين أي يصدق المؤمنين في ما يخبرونه.
واختلفوا في ال (لام) التي للمؤمنين، فقال بعضهم هي زائدة كما في قوله تعالى:
ردف لكم
[النمل: 72] معناه: ردفكم. قال بعضهم: إنما ذكر اللام للفرق بين التصديق والإيمان، فإنه إذا قيل: ويؤمن للمؤمنين لم يقبل غير التصديق، كما في قوله:
ومآ أنت بمؤمن لنا
[يوسف: 17] أي بمصدق، وقوله تعالى:
لن نؤمن لكم
[التوبة: 94] أي لن نصدقكم.
قوله تعالى: { ورحمة للذين آمنوا منكم }؛ قرأ الحسن والأعمش وحمزة بالخفض على معنى: أذن خير وأذن رحمة، وقرأ الباقون: (ورحمة) بالرفع يعني: هو رحمة، جعل الله النبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهم؛ لأنهم إنما نالوا الإيمان بدعائه وهدايته. قوله تعالى: { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم }؛ وعيد من الله لهؤلاء المنافقين على مقالتهم. وقال ابن عباس: (فلما نزلت هذه الآية جاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلفون أنهم لم يقولوا فانزل الله هذه الآية: { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه... }.
[9.62]
قوله تعالى: { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه }؛ ولم يقل يرضوهما؛ لأنه يكره الجمع بين ذكر اسم الله وذكر اسم رسوله في كناية واحدة، كما روي
" أن رجلا قام خطيبا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال صلى الله عليه وسلم: " بئس الخطيب أنت! هلا قلت: ومن يعص الله ورسوله؟ " "
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان. ولكن قولوا ما شاء الله، ثم شاء فلان "
فكره الجمع بين الله وبين غيره في الذكر تعظيما لله. والضمير في قوله { يرضوه } إلى الواحد؛ لأن رضى الله متضمن رضى رسوله. وقوله: { إن كانوا مؤمنين }؛ إن كانوا مصدقين بقلوبهم غير منافقين كما يدعون، فطلبهم رضى الله أولى من طلبهم رضاكم.
[9.63]
قوله تعالى: { ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها }؛ معناه: ألم يخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من خالف الله ورسوله في الدين فيجعل نفسه في حد، والله ورسوله في حد فله نار جهنم، ودخلت (أن) مؤكدة وهي إعادة أن الأولى؛ لأنه لما طال الكلام كانت إعادتها أوكد. ومن قرأ بالكسر فهو على الاستئناف. قوله تعالى: { ذلك الخزي العظيم }؛ أي ذلك الهوان الشديد الدائم.
[9.64]
قوله تعالى: { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم }؛ الكثير من المفسرين على (أن) اخبار من المنافقين أنهم يحذرون أن الله نزل عليهم سورة تخبر عن ما في قلوبهم من النفاق والشرك، فإن بعض المنافقين كانوا يعلمون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا يكفرون عند أهل الشرك عنادا وحسدا، وبعضهم كانوا عند أنفسهم شاكين غير مستبصرين، وكانوا يخافون إذا أذنبوا ذنبا أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن ما يكشف عن نفاقهم، وفي الآية ما يدل على هذا وهو قوله تعالى: { مخرج ما تحذرون } أي مظهر ما تخافون من ظهور النفاق، وعن هذا سميت هذه السورة (سورة الفاضحة)؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى أيضا (الحافرة)؛ لأنها حفرت عن قلوب المنافقين.
وقوله تعالى: { قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون }؛ تهديد وإن كان لفظ الأمر، كما في قوله:
اعملوا ما شئتم
[فصلت: 40]، وذهب الزجاج إلى أن قوله: { يحذر المنافقون } لفظة إخبار ومعناه: الأمر كله، كأنه قال: ليحذر، وهذا كما قال:
والمطلقات يتربصن
[البقرة: 228].
[9.65]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب }؛ وذلك
" أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو في مسيره راجع من غزوة تبوك، وثلاثة نفر يسيرون بين يديه، فجعل رجلان يستهزئان برسول الله ويقولون: إن محمدا قال: نزل في أصحابنا الذين يحلفوا كذا وكذا، والثالث يضحك مما يقولون ولا يتكلم بشيء.
فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يقولون، فدعا عليه السلام عمارا وقال: " إنهم يتحدثون بكذا وكذا، ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب، إنطلق إليهم واسألهم عما يتحدثون، وقل لهم: أحرقتم أحرقكم الله " ففعل ذلك عمار، فجاؤا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويقولون: كنا نخوض ونلعب فيما يخوض فيه الركب إذا سار. "
فأنزل الله هاتين الآيتين.
وعن الحسن وقتادة: (أنهم كانوا في غزوة تبوك، فقالوا: أيطمع هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام؟ هيهات ما أبعده عن ذلك! فأطلع نبيه على ذلك). قوله تعالى: { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون }؛ منه ألف استفهام، معناه: النية لهم على ما كانوا يفعلونه.
[9.66]
قوله تعالى: { لا تعتذروا }؛ أي لا تعتذرون عن مقالتكم، { قد كفرتم بعد إيمانكم }؛ أي قد أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فإنهم قط لم يكونوا مؤمنين، ولكن كانوا منافقين.
قوله تعالى: { إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة }؛ وفيه قراءتان، هذه بالضم على ما لم يسم فاعله، والثانية: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) بالنصب، قال ابن عباس: (معناه: إن يعف عن الرجل الذي لم يتكلم بشيء ولكنه يضحك وهو مخشي بن حمير، يعذب الرجلان اللذان كانا يتكلمان بالهمز) { بأنهم كانوا مجرمين }؛ أي كافرين في السر، وكل معصية جرم إلا أنه أراد بالجرم هاهنا الكفر.
[9.67]
قوله تعالى: { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض }؛ أي بعضهم مضاف إلى بعضهم لاجتماعهم على الشرك والاستهزاء بالمسلمين، كما يقال: أنا من فلان وفلان مني؛ أي أمرنا واحد وكلمتنا واحدة. قوله تعالى: { يأمرون بالمنكر }؛ أي بالكفر والمعاصي، { وينهون عن المعروف }؛ أي عن الإيمان والطاعة. وقوله تعالى: { ويقبضون أيديهم }؛ قال الحسن ومجاهد: (أي يمسكونها عن النفقة في الجهاد)، وقيل: عن الزكوات المفروضة، وقال قتادة: (عن الخيرات كلها).
قوله تعالى: { نسوا الله فنسيهم }؛ أي تركوا أمر الله وأعرضوا عنه حتى صار كالمنسي عندهم بإعراضهم عنه، فتركهم الله من رحمته حتى صاروا كالمنسيين عنده، وإن كان النسيان مما لا يجوز على الله إلا أنه قال (فنسيهم) لمزاوجة الكلام، كما في قوله تعالى:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
[البقرة: 194]، قال تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40]، وقوله تعالى: { إن المنافقين هم الفاسقون }؛ أي هم المتمردون في الكفر والفسق وفي كل شيء، والمتمرد فيه وإن كان النفاق أعظم من الفسق.
[9.68]
وقوله تعالى: { وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها }؛ في الآية جمع بين المنافقين وبين الكفار في التسمية، وإن كان المنافقون هم الكفار؛ لتكون الآية دالة على أن المنافقين يلحقهم الوعيد من جهتين، من جهة الكفر والنفاق.
وجهنم من أسماء النار يقول العرب للبئر البعيدة القعر: جهنام، فيجوز أن تكون جهنم مأخوذة من هذه اللفظة لبعد قعرها. وقوله تعالى: { هي حسبهم }؛ أي كفايتهم على ذنوبهم؛ لأن فيها جزاء أعمالهم. قوله تعالى: { ولعنهم الله }؛ أي أبعدهم من الثواب والمدح في الدنيا، وعن الثواب والرحمة في الآخرة، { ولهم عذاب مقيم }؛ أي عذاب دائم.
[9.69]
قوله تعالى: { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا }؛ أي وعد الله أهل زمانكم على الكفر والنفاق نار جهنم، كما وعد الذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة في البدن وأكثر أموالا وأولادا، { فاستمتعوا بخلاقهم }؛ فانتفعوا بنصيبهم وحظهم في الدنيا، ولم ينفعهم ذلك حين نزل بهم عذاب الله، فكذلك أنتم، والخلاق هو النصيب من الخير.
وقوله تعالى: { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم }؛ أي فاستمتعتم أنتم بنصيبكم من الدنيا وخضتم فيها، { وخضتم كالذي خاضوا }؛ أي خضتم في الكفر والاستهزاء بالمؤمنين كما خاض الأولون.
وقوله تعالى: { أولئك حبطت أعمالهم }؛ أي أهل هذه الصفة حبطت أعمالهم التي عملوها على جهة البر مثل الإنفاق في وجوه الخير ومثل صلة الرحم حبطت، { في الدنيا }؛ حتى لا يستحقوا بها الإكرام والتعظيم في الدنيا، وحبطت في، { والآخرة وأولئك هم الخاسرون }؛ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، والخسران هو ذهاب رأس المال من دون أصله.
[9.70]
قوله تعالى: { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبرهيم وأصحب مدين }؛ معناه: ألم يأت المنافقين والكفار خبر من قبلهم كيف أهلكهم الله عز وجل حين تمردوا في الكفر، واستهزأوا بالمؤمنين وهم قوم نوح، أهلكهم الله بالغرق، وعاد قوم هود أهلكهم الله بالريح، وثمود أهلكهم الله بالصيحة والرجفة وهم قوم صالح، وقوم إبراهيم أهلكهم الله نمرودهم بالبعوض وسائر قومه بالهدم، وأصحاب مدين قوم شعيب أهلكهم الله بالصيحة وعذاب الظلة، ومدين بئر مدين بن إبراهيم نسبت القرية إليه.
قوله تعالى: { والمؤتفكت }؛ أي المنقلبات وهي قريات قوم لوط أهلكهم الله بالخسف، وقلب مدائنهم عليهم. ويقال: أراد بالمؤتفكات كل من انقلب أمرهم عليهم من الخير إلى الشر. يقال: الهالك انقلبت عليه الدنيا. قوله تعالى: { أتتهم رسلهم بالبينت }؛ أي بالحجج والبراهين، { فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ أي لما كذبوا الرسل وكفروا بالآيات أهلكهم، ولم يكن ذلك ظلما؛ لأنهم أستحقوا ذلك بعملهم فكانوا هم الظالمين لأنفسهم.
[9.71]
قوله تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض }؛ أي بعضهم أنصار بعض. قوله تعالى: { يأمرون بالمعروف }؛ أي بالتوحيد واتباع محمد صلى الله عليه وسلم وشرائعه، { وينهون عن المنكر }؛ عن ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، { ويقيمون الصلاة }؛ الخمس بشرائطها، { ويؤتون }؛ ويؤدون، { الزكاة }؛ الواجبة في أمواله، { ويطيعون الله }؛ في الفرائض، { ورسوله }؛ في السنن، { أولئك سيرحمهم الله }؛ أي ينعم عليهم في الآخرة، والرحمة هي النعمة على المحتاج.
وعن بعض أهل الإشارة: سيرحمهم في خمسة مواضع: عند الموت وسكراته، وفي القبر وظلماته، وعند قراءة الكتاب وحسراته، وعند الميزان وندامته، وعند الوقوف بين يدي الله ومسؤولاته. وقوله تعالى: { إن الله عزيز حكيم } أي غالب في ملكه وسلطانه، تجري أفعاله على ما توجبه الحكمة.
[9.72]
قوله تعالى: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ أي بساتين تجري من تحت شجرها وغرفها أنهار الماء والعسل والخمر واللبن، { خالدين فيها }؛ أي مقيمين دائمين فيها. قوله تعالى: { ومساكن طيبة في جنات عدن }؛ أي مساكنها ظاهرة عامرة يطيب بها العيش، قال الحسن: (هي مساكن بناها الله من اللآلئ واليواقيت الحمر والزبرجد الأخضر).
وقوله: { في جنات عدن } أي في بساتين إقامة، قال ابن عباس: (جنات عدن في وسط الجنة، والجنات حولها محدقة بها وهي معطاة منذ خلقها الله حتى ينزلها أهلها النبيون والصديقون والشهداء والصالحون). وعن مجاهد قال: (قال عمر رضي الله عنه وهو على المنبر: هل تدرون ما جنات عدن؟ قصور في الجنة من ذهب، لكل قصر خمسمائة ألف باب، على كل باب نحو خمس وعشرين ألفا من الحور العين، لا يدخلها إلا نبي، وهنيئا لصاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق، وهنيئا لأبي بكر أو شهيد، وإني لعمر الشهادة).
قوله تعالى: { ورضوان من الله أكبر }؛ أي رضى الرب عنهم أكبر وأعظم من هذا النعيم كله لأنهم إنما نالوا ذلك كله برضوان الله عز وجل، والرضوان: إرادة الخير والثواب. قوله تعالى: { ذلك هو الفوز العظيم } أي ذلك الذي ذكرت هو الحياة الوافرة، نجوا من النار وظفروا بالجنة.
وعن الحسن في قوله تعالى: { ورضوان من الله أكبر } أي سرور في الآخرة برضوان الله عنهم يكون أكثر من سرورهم بهذا النعيم كله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أنزل الله أهل الجنة منازلهم، قال : ألا أعطيكم ما هو أكبر من هذا كله؟ فيقولون: بلى يا رب وما أكبر من ذلك؟ يقول الله تعالى: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا ".
[9.73]
قوله تعالى: { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم }؛ أي جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، واغلظ على الفريقين جميعا، { ومأواهم }؛ ومصيرهم في الآخرة، { جهنم وبئس المصير }؛ الموضع الذي يصيرون إليه، وقال الحسن: (معناه جاهد الكفار بالقتال، والمنافقين بالحدود، فإنهم كثيرو التعاطي للأسباب الموجبة للحدود).
[9.74]
قوله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم }؛ قال ابن عباس: (نزلت في عبدالله بن أبي والجلاس بن سويد وعامر ابن النعمان وغيرهم، كانوا خمسة عشر رجلا، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بتبوك وسماهم رجسا، فقال الجلاس: لئن كان ما يقول محمد حقا على إخواننا فنحن شر من الحمير، فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله إن محمدا لصادق ولأنتم شر من الحمير.
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخبره عامر بن قيس بما قال الجلاس، فقال الجلاس: يكذب علي يا رسول الله! فأمرهما رسول الله أن يحلفان على المنبر، فحلفا جميعا، فرفع عامر بن قيس يده إلى السماء، فقال: اللهم أنزل على نبيك وبين الصادق، فقال صلى الله عليه وسلم: " آمين " فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: يحلفان المنافقون بالله ما تكلموا بكلمة الكفر ولقد تكلموا بها وأظهروا الكفر بعد إظهارهم الإسلام. وقيل: كفروا بقولهم ذلك بعد ما كانوا أسلموا على زعمهم.
قوله تعالى: { وهموا بما لم ينالوا }؛ أي قصدوا إلى ما لم يصلوا إلى ذلك، والهم بالشيء في اللغة: مقاربته دون الوقوع فيه، قيل: إنهم كانوا هموا بقتل الذي أنكر عليهم قولهم. وقيل: معنى الآية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى غزوة بني المصطلق، وقد جمعوا له ليقاتلوا، فالتقوا على مائهم فهزمهم الله وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم ورجع، فلما نزل منزلا في الطريق اختصم رجل من أصحاب عبدالله بن أبي ورجل من المخلصين غفاري يقال له جهجاه، فلطم الغفاري صاحب عبدالله بن أبي، فغضب عبدالله وقال: ما صحبنا محمدا إلا لتلطم، ثم نظر إلى أصحابه قال: لقد أمرتكم أن تكفوا طعامكم عن هذا الرجل ومن معه حتى يتفرقوا فلم يفعلوا، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال الغفاري: أتقول مثل هذا؟! والله لئن شئت لألطمنك، قال عبدالله: سمن كلبك يأكلك! فقال زيد بن أرقم وكان غلاما حديث السن: يا عدو الله وعدو رسوله، أتقول هذا؟! والله لأبلغن رسول الله ما قلت.
ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمه وعنده عمر رضي الله عنه، فقال عمر: يا رسول الله مر عباد بن قش فيقتله، فقال: " يا عمر إذا يحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " فبلغ عبدالله بن أبي ما قال زيد بن أرقم، فمشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أشراف الأنصار يصدقونه ويكذبون زيدا ويقولون: يخشى أن يكون زيد قد وهم، وكان أبن أبي يحلف بالله ما قال ذلك، فقال أسيد: يا رسول الله ارفق بعبدالله، فوالله لقد جاء الله تعالى بك وإن قومه ليتوجونه، فهو يرى أنك سلبته ملكا عظيما.
فساء رسول الله يومه ذلك حتى أمسى، وليلته حتى أصبح ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول ابن أبي { وهموا بما لم ينالوا } ونزل { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }.
وقوله تعالى: { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله }؛ معناه: وما طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا أن أغناهم الله من فضله وأغناهم رسوله، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه سلم قدم إلى المدينة وكان أهلها من شدة العيش لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة استغنوا.
قوله تعالى: { فإن يتوبوا يك خيرا لهم }؛ أي إن يتوبوا من النفاق يكن خيرا لهم في الدنيا والآخرة، { وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة } وإن يعرضوا عن التوبة يعذبهم الله في الدنيا بالقتل، ويقال بإظهار حالهم في الآخرة بالنار، { وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير }؛ أي وما لهم في الأرض من حافظ يحفظهم، ولا دافع يدفع عنهم عذاب الله، قال ابن عباس: (فلما نزلت هذه الآية قال الجلاس بن سويد: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قال لك، وأنا استغفر الله عز وجل وأتوب إليه. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تاب وحسنت توبته).
[9.75-76]
قوله تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون }؛ قال ابن عباس: (معناه: ومن المنافقين من عاهد الله وهو ثعلبة بن حاطب، كان له مال بالشام فأبطئ عليه، فجهد لذلك جهدا شديدا، فحلف بالله لئن آتانا من فضله يعني المال الذي له بالشام لنصدقن منه، ولنصلن الرحم ولنؤدين من حق الله، ولنكونن من المقيمين لفرائض الله، فآتاه الله المال الذي كان له بالشام، فبخل بما وعد ولم يفعل ما عاهد الله عليه).
وعن أبي أمامة الباهلي:
" أن ثعلبة بن حاطب جاء إلى رسول الله فقال له: يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، فقل له: " ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدع الله أن يرزقني مالا: فقال: " ويحك يا ثعلبة! أما ترضى أن يكون لك مثل نبي الله " فقال: يا رسول الله صلى الله عليه لو سألت الله أن يسيل على الجبال ذهبا وفضة لسالت، يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا: فوالله لئن آتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارزق ثعلبة مالا " ثلاث مرات.
فاتخذ غنما فنمت حتى ضاقت بها أزقة المدينة فتنحى بها، وكان يشهد الصلوات مع رسول الله ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت بها مرامي المدينة فتنحى بها، وكان يشهد الجمع مع رسول الله، ثم يخرج إليها، ثم نمت فترك الجمع والجماعات، فلما نزل قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقات، رجلا من الأنصار ورجلا من بني سليم، وكتب لهما الصدقة وأسنانها وأمرهما أن يأخذا من الناس، فأتيا ثعلبة، قال لهما: خذا من الناس فإذا فرغتما فمرا علي، ففعلا فقال: ما هذه إلا أخذ الجزية! فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية.
فركب عمر راحلته، ومضى إلى ثعلبة، وقال: ويحك يا ثعلبة! هلكت قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فأقبل ثعلبة يبكي ويحثوا التراب على رأسه ويقول: يا رسول الله هذه صدقتي، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم صدقته حتى قبض، ثم أتى إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبل صدقته، ثم أتى عمر رضي الله عنه فلم يقبل صدقته، فمات في خلافة عثمان ولم يقبل منه عثمان صدقته ".
[9.77]
قوله تعالى: { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }؛ أي أعقبهم ببخلهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم جزاء البخل. وقيل: معناه: فجازاهم ببخلهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله؛ أي بإخلافهم بما وعدوا من التصدق وكذبهم فيما قالوا. وقال الحسن: (معناه: أورثهم الله النفاق في قلوبهم بأن حرمهم التوبة كما حرم إبليس). قالوا: وإنما أراد الله بهذا بأن الله تعالى دلنا على أنه لا يتوب، كما دلنا حال إبليس لأنه لا يتوب؛ لأن الله سلب عنه قدرة التوبة.
قوله تعالى: { إلى يوم يلقونه } معناه على قول الحسن وقتادة: (إلى يوم يلقون الله) أي يلقون اليوم الذي لا يملك فيه الحكم والضر والنفع إلا الله، وفي هذه الآية دلالة على أن من نذر نذرا فيه قربة يجوز أن يقول: إن رزقني الله ألف درهم فعلي أن أتصدق بخمسمائة لزمه الوفاء به، وفيها دلالة جواز تعليق النذر بالشرط نحو أن يقول: إن قدم فلان فلله علي صيام وصدقة، وإن ملكت عبدا، أو هذا العبد فعلي أن أعتقه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر ".
[9.78]
قوله تعالى: { ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب }؛ ألم يعلم المنافقون أن الله يعلم ما يسرون من الكفر، وما يناجون فيه فيما بينهم، وأن الله عالم بكل شيء خفي على العباد، وهذا استفهام بمعنى التوبيخ.
[9.79]
قوله تعالى: { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم }؛ قال ابن عباس:
" وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك يحث الناس على الصدقة، وقال: " اجمعوا صدقاتكم " فجاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أكثرت! هل تركت لأهلك شيئا؟ " قال: يا رسول الله كان لي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة لنفسي وعيالي وهذه أربعة آلاف لأقرضها ربي، فقال صلى الله عليه وسلم " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " فبارك له حتى بلغ ماله حين مات "
، وطلق إحدى نسائه في مرضه وصالحوها عن ربع ثمنها على ثمانين ألفا.
وبعده جاء عمر رضي الله عنه بنحو من ذلك، وجاء عثمان رضي الله عنه وصدقته، وجاء عاصم ابن عدي الأنصاري بسبعين وسق من تمر، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال: يا رسول الله ليلتي كلها أجر بالحرير حتى أصبت ثلث صاعين، أما أحدهما فأمسكته لعيالي، وأما الآخر فأقرضه ربي، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشده في الصدقة. فطعن فيهم المنافقون وقالوا: والله ما جاء هؤلاء بصدقاتهم إلا رياء وسمعة، وقالوا في أبي عقيل: إنه جاء ليذكر بنفسه ويعطى من الصدقة أكثر مما جاء به، وإن الله أغنى عن صاع أبي عقيل، فأنزل الله هذه الآية. ومعناها: الذين يعيبون المطوعين من المؤمنين في الصدقات وهم المنافقون عابوا عمر وعثمان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم.
قوله تعالى: { والذين لا يجدون إلا جهدهم } أي ويعيبون على الذين لا يجدون إلا جهدهم؛ أي طاقتهم من الصدقات، عابوا المكثر بالرياء، والمقل بالإقلال. والجهد بالضم والنصب لغتان بمعنى واحد، ويقال: الجهد بالنصب المشقة، والجهد بالضم الطاقة، وقيل: الجهد بالعمل والجهد في القوة، قرأ عطاء والأعرج (جهدهم) وهما لغتان مثل الوجد والوجد، فالضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة أهل نجد. قوله تعالى: { فيسخرون منهم }؛ أي يستهزؤن بهم، { سخر الله منهم }؛ أي يجازيهم جزاء سخرتهم؛ { ولهم عذاب أليم } ، أي وجيع.
[9.80]
قوله تعالى: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم }؛ وذلك لما نزلت هذه الآية التي قبل هذه أتى المنافقون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فكان عليه السلام يستغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير علم منه بنفاقهم، وكان إذا مات أحد منهم يسألون رسول الله الدعاء والاستغفار لميتهم، فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون، فأعلمه الله بأنهم منافقون، وأخبر أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعهم، فذلك قوله: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وهذه اللفظة لفظة الأمر، ومعناه الخبر؛ أي إن شئت استغفرت لهم، وإن شئت لا تستغفر، فإنك إن استغفرت لهم سبعين مرة لن يغفر الله.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله }؛ في بيان العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الفاسقين }؛ أي لا يوفقهم ولا يرشدهم إلى جنته وثوابه وكرامته، وأما تخصيص (سبعين مرة) بالذكر فهو لتأكيد نفي المغفرة بهذا؛ لأن الشيء إذا بولغ في وصفه أكد بالسبع والسبعين، وهذه كما يقول القائل: لو سألتني حاجتك سبعين مرة لم أقضها، لا يريد أنه إذا أزاد على السبعين قضى حاجته، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو علمت أني لو زدت على السبعين لغفر لهم لزدت عليها ".
[9.81]
قوله تعالى: { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله }؛ أي فرح المخلفون عن غزوة تبوك بقعودهم لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل بقعودهم عن الجهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ عمرو بن ميمون (خلف رسول الله) والمخلف ما يترك الإنسان خلفه، والمتخلف الذي يتأخر بنفسه، والخلاف قد يكون بمعنى المخالفة؛ وقد يكون بمعنى خلف، كما في قوله تعالى:
وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا
[الاسراء: 76]، ويقرأ خلافك على المعنيين. قوله تعالى: { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله }؛ أي كرهوا أن يقاتلوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم.
قوله تعالى: { وقالوا لا تنفروا في الحر }؛ أي قال بعضهم: لا تخرجوا فإن الحر شديد والسفر بعيد، وكانوا يدعون إلى غزوة تبوك في وقت نضج الرطب وهو أشد ما يكون من الحر. قوله تعالى: { قل نار جهنم أشد حرا }؛ أي قل لهم نار جهنم التي استحقوها بترك الخروج الى الجهاد أشد حرا من هذا الحر. قوله تعالى: { لو كانوا يفقهون }؛ أي لو كانوا يفقهون أوامر الله ووعده ووعيده.
[9.82]
قوله تعالى: { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزآء بما كانوا يكسبون } أي فليضحكوا قليلا لأن ذلك لا يبقى وليبكوا كثيرا في الآخرة في النار، وهذا اللفظ أمر، ومعناه الخبر. وقيل: تقديره: فليضحكوا قليلا فيبكون كثيرا، قال أبو موسى الأشعري: (إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو جريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع).
قال ابن عباس: (إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا، فلا يرق لهم دمع ولا يكتحلون بنوم)، قال صلى الله عليه وسلم:
" يرسل الله البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى يرى وجوههم كهيئة الأخدود "
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ".
[9.83]
قوله تعالى: { فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا }؛ معناه: إن رجعك الله من تبوك، إلى طائفة من المنافقين بالمدينة فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى فقل: لن تخرجوا معي أبدا إلى الجهاد، ولن تقاتلوا معي عدوا، { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة }؛ أي في غزوة تبوك، { فاقعدوا مع الخالفين }؛ أي مع النساء والصبيان، هذا قول الحسن.
والخالف الذي يبقى بعد الشاخص، وقيل: هو الذي يبقى لنقص يكون فيه. وعن ابن عباس أن معنى الخالفين: (المتخلفين بغير عذر)، وقيل: إن هذا مأخوذ من قولهم خلف اللبن إذا فسد، والخالف الفاسد، وقيل الخالفون خساس الناس وأدنياؤهم، ويقال فلان خالفه أهله إذا كان دونهم، وقيل: مع الخالفين أي أهل الفساد من قولهم ينبذ خالف أي فاسد، وخلف اللبن خلوفا إذا حمض من طول وضعه في السقاء، وخلف فم الصائم إذا تغيرت رائحته. وقرأ مالك بن دينار (مع الخلفين) بغير ألف، وقال الفراء: يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفا.
[9.84]
قوله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره }؛ أي لا تصل على أحد مات من المنافقين أبدا، ولا تقم على قبر أحد منهم لتدفنه وتدعو له، { إنهم كفروا بالله ورسوله }؛ وجحدوا بالله ورسوله بقلوبهم، وماتوا على الكفر والنفاق، وقال ابن عباس:
" لما مرض عبدالله بن أبي سلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيه فلما دخل عليه طلب منه أن يصلي عليه إذا مات، وأن يقوم على قبره، وأن يكفنه في قميصه الذي يلي جلده، فقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات عبدالله انطلق ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى جنازة أبيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اسمك؟ " قال: الحباب بن عبدالله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنت عبدالله بن عبدالله، إن الحباب هو الشيطان ".
ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فلما قام صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله أتصلي على عدو الله القائل يوم كذا وكذا ؟! فقال: " دعني يا عمر " فعاد عمر لمقالته، فقال صلى الله عليه وسلم: " دعني يا عمر " فعاد لمقالته الثالثة فقال: " قد خيرت في ذلك، ولو علمت أني إذا استغفرت له أكثر من سبعين مرة غفر له لفعلت " وقال: " تأخر عني يا عمر " قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزوجل { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } "
يعني بعد ما صليت على عبدالله بن أبي.
وروي
" أن عبدالله بن أبي لما حضرته الوفاة بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أحد ثوبيه يكفن فيه، فبعث إليه بأحدهما، فقال: ما أريد إلا الذي يلي جلدك من ثيابك، فوجه إليه بذلك، فقيل له في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن قميصي لن يغني عنك من الله شيئا، وعسى أن يسلم بسبب هذا القميص خلق كثير " "
فأسلم ألف من الخوارج! لما رأوه يطلب الاستشفاع بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: (الله أعلم أي صلاة كانت تلك وما خادع رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانا قط)، وقال مقاتل: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يصلي على عبدالله بن أبي، جاء إليه ابنه فقال: أنشدك بالله أن لا تشمت بي الأعداء، وكان ابنه مؤمنا حقا فأنزل الله هذه الآية، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أراد أن يصلي عليه فأخذ جبريل بثوبه، فقال: { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا }.
قوله تعالى: { وماتوا وهم فاسقون }؛ أي ماتوا على الكفر والنفاق، فلما نزلت هذه الآية ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض،
" وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما فعل بعبدالله بن أبي، فقال: " وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه " ".
[9.85]
قوله تعالى: { ولا تعجبك أمولهم وأولدهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم }؛ أي لا تعجبك كثرة أموالهم وأولادهم في الدنيا، إنما يريد الله أن يعذبهم بها، ويخرج أرواحهم بصعوبة، { وهم كفرون }؛ هذا على التقديم والتأخير في الآية على ما تقدم ذكره، فأما التأويل على نظم الآية، فمعناه: إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا بالتشديد عليهم في التكليف بالإنفاق والأمر بالجهاد.
فإن قيل: لم أعاد قوله { ولا تعجبك أمولهم وأولدهم }؟ قيل: فيه قولان: أحدهما بشدة التحذير عن الاغترار بالأموال والأولاد، والثاني: أنه أراد بالأول قوما من المنافقين، وأراد بالثاني قوما آخرين منهم، كما يقال: لا تعجبك أموال زيد وأولاده، ولا تعجبك أموال عمرو وأولاده.
[9.86]
قوله تعالى: { وإذآ أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم }؛ أي إذا أنزلت من القرآن قطعة مشتملة على آيات أحاطت بها أن آمنوا بالله أي صدقوا وداوموا على الإيمان وجاهدوا الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنك في القعود عن الجهاد ذوو السعة والغنى منهم، { وقالوا ذرنا }؛ دعنا واذن لنا، { نكن مع القاعدين }؛ عن الجهاد. والطول في الحقيقة هو الفضل الذي يتمكن به من مطاولة الأعداء.
[9.87]
قوله تعالى: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف }؛ أي رضي المنافقون بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد مع النساء المتخلفات في الحي بعد غزوة أزواجهن. قوله تعالى: { وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }؛ يعني الطبع في اللغة جعل الشيء كالطابع نحو طبع الدينار والدرهم، ويجوز أن يكون الطبع على القلب علامة يقفل الله بها قلب الكافر المعاند ليعلم من يطلع عليه من الملائكة أنه لا يجتهد في طلب الحق، فهم لا يفقهون أوامر الله ونواهيه.
[9.88]
قوله تعالى: { لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم }؛ لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وهم أهل اليقين من الصحابة، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم على ضد ما فعل المنافقون.
قوله تعالى: { وأولئك لهم الخيرات }؛ يجوز أن يكون معناه: أولئك لهم الحسنات المقبولات، فإن الخيرات منافع تسكن النفس إليها، ويجوز أن يكون معناه: الزوجات الحسنات في الجنة، كما قال الله فيهن
خيرات حسان
[الرحمن: 70] واحدة الخيرات خيرة، وهي الفاضلة في كل شيء، قوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون }؛ أي الظافرون بالمراد.
[9.89]
قوله تعالى: { أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ أي أعد الله لهم في الجنة بساتين تجري من تحتها وشجرها ومساكنها الأنهار. قوله تعالى: { خالدين فيها }؛ أي مقيمين دائمين فيها لا يموتون ولا يخرجون منها، { ذلك الفوز العظيم }؛ أي هو النجاة الوافرة، فازوا بالجنة ونعيمها، ونجوا من النار وجحيمها.
[9.90]
قوله تعالى: { وجآء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم }؛ قرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد: (المعذرون) بالتخفيف وهم الذين اعتذروا؛ أي جاؤا بالعذر، وأمرهم رسول الله بالتخلف بعذرهم وهم من المخلفين، وقيل: المعذرون بالتخفيف المبالغون في العذر، كان صلى الله عليه وسلم يقول:
" لعن الله المعذرون "
بالتشديد يعني الذين يقبلون في التخلف بلا علة يوهمون أن لهم عذرا، ولا عذر لهم، والتعذير التقصير في الشيء مع طلب العذر.
وأما القراءة المشهورة (المعذرون) بالتشديد فمعناها ما تقدم يعني المقصرين، قال الفراء: (أصله المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال وثقلت حركة التاء إلى العين).
قوله تعالى: { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله }؛ قرأ العامة (كذبوا) مخففا يعني المنافقين قعدت طائفة منهم من دون أن يعتذروا، وقرأ أبي والحسن: (كذبوا) بالتشديد، وقوله تعالى: { سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم }؛ يجوز أن تكون الفائدة في دخول (من) بيان أن منهم من يسلم، ومنهم من يموت على كفره ونفاقه.
[9.91]
قوله تعالى: { ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله }؛ أي ليس على المرضى والشيوخ الكبار، ولا على المرضى الذين لا يقدرون على الخروج إلى الجهاد، ولا على الذين لا يكون عندهم نفقة ينفقونها في الجهاد وهم الفقراء، ليس عليهم مأثم في القعود عن ذلك إذا كان قعودهم على وجه النصح لله ورسوله، وهو إن سعوا في إصلاح ذات البين وما يرجع على الجهاد، ولا يكون قعودهم للتثريب على المسلمين وإفساد شيء من أمرهم. والنصح: إخراج الغش عن العمل. قوله تعالى: { ما على المحسنين من سبيل }؛ أي ما على المطيعين الموحدين من سبيل في العقاب، { والله غفور }؛ لذنوبهم، { رحيم }؛ إذ أرخص لهم في القعود بالعذر.
[9.92]
قوله تعالى: { ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم }؛ أي وليس على الذين إذا ما أتوك لتحملهم إلى الجهاد بالنفقة، { قلت لا أجد مآ أحملكم عليه }؛ فهؤلاء ليس عليهم حرج في القعود عن الجهاد، قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في سالم بن عمير وعبدالرحمن بن كعب وعمرو بن الحضرمي وعبيدالله ابن كعب وعبد بن مغفل ومعقل بن يسار وصخر بن سلمة الذي كان وقع على امرأته في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر، ونفر من بني مزينة من أهل الحاجة، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله قد ندبنا للخروج معك، فاحملنا لنغزوا معك، ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه، فقال لهم: [لا أجد ما أحملكم عليه] فتولوا وهم يبكون) فذلك قوله تعالى: { تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون }؛ وقال الحسن: (نزلت في أبي موسى الأشعري وجماعة من الأشعريين).
[9.93]
قوله تعالى: { إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء } معناه: إنما السبيل في العقاب على الذين يستأذنونك في القعود عنك وهم أغنياء، { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف }؛ أي مع النساء، { وطبع الله على قلوبهم }؛ مجازاة لهم على فعلهم، { فهم لا يعلمون }؛ أوامر الله عز وجل.
[9.94]
قوله: { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم }؛ أي يعتذر المنافقون إليكم إذا انصرفتم إليهم من هذه الحرب في قعودهم على الجهاد، { قل لا تعتذروا }؛ فإنه بصير بكم وهو الله تعالى، { لن نؤمن لكم }؛ لن نصدقكم، { قد نبأنا الله من أخباركم }؛ قد أخبرنا الله من أسراركم أنه ليس لكم عذر، { وسيرى الله }؛ أي يظهر، { عملكم ورسوله ثم تردون }؛ في الآخرة، { إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم }؛ ما غاب عن العباد، وما عمله العباد فيجزيكم ، { بما كنتم تعملون }؛ من الخير والشر.
[9.95]
قوله تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم }؛ أي سيحلف المنافقون بالله في ما يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم لتعرضوا عنهم، { فأعرضوا عنهم }؛ فلا تعاقبوهم على جهة الهوان لهم، { إنهم رجس }؛ أي هم النتن الذي يجب الاجتناب عنه فاجتنبوهم، { ومأواهم جهنم }؛ ومصيرهم جهنم، { جزآء }؛ لهم على فعلهم { بما كانوا يكسبون }.
[9.96]
قوله تعالى: { يحلفون لكم لترضوا عنهم }؛ أي يحلفون لكم في الاعتذار لترضوا عنهم أنتم من دون أن يطلبوا رضى الله، { فإن ترضوا عنهم } فإن أنت رضيت يا محمد والمؤمنون بحلفهم الكاذب، { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }؛ أي عن الخارجين عن طاعة الله.
[9.97]
قوله تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا }؛ أراد بالأعراب أسدا وغطفان، بين الله أنهم في كفرهم ونفاقهم أشد من منافقي أهل المدينة. وقيل: معناه: أهل البدو أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر. قوله تعالى: { وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم }؛ أي أحرى وأولى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله؛ لأنهم أبعد من سماع التنزيل وإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قيل: إن من بعد من الأمصار ونأى من حضرة العلماء كان أجهل بالأحكام والسنن ممن جالسهم ويسمع منهم، ولهذا لا إمامة لأعرابي في الصلاة.
[9.98]
قوله تعالى: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر } معناه: ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق في الجهاد يحسبه غرما، ولا يحتسب فيه الأجر ولا يرجو الثواب به، إما ينفق خوفا أو رياء، وينتظر بكم الموت والهلاك، ودوائر الزمان وصروفه، يعني أنهم ينتظرون أن ينقلب الزمان عليكم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور المشركين، قوله تعالى: { عليهم دآئرة السوء }؛ أي عاقبة السوء والهلاك، وإنما ينتظرون بكم ما نزل بهم، والسوء بفتح السين المصدر، وبالضم الاسم، وقوله تعالى: { والله سميع عليم }؛ ظاهر المراد.
[9.99]
قوله تعالى: { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر }؛ معناه: من الأعراب من يصدق بالله واليوم الآخر في السر والعلانية، قيل: إن المراد من هذه الآية أسلم وغفار.
قوله تعالى: { ويتخذ ما ينفق قربات عند الله } أي يتخذ نفقته في الجهاد تقربا إلى الله تعالى في طلب المنزلة عنده والثواب، وقوله تعالى: { وصلوات الرسول } أي يطلب بذلك دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة وصلاح الدنيا والآخرة، كما يطلب المنزلة عند الله تعالى.
قوله تعالى: { ألا إنها قربة لهم }؛ هذه كلمة تنبيه؛ أي سيقربهم الله بهذا الإنفاق إذا فعلوه. قوله تعالى: { سيدخلهم الله في رحمته }؛ أي في حسنته وثوابه، { إن الله غفور }؛ لذنوب العباد، { رحيم }؛ لمن تاب وأطاع.
[9.100]
قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان }؛ أراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان، وهم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا، وقال الشعبي: (هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية)، وقيل: هم الذين أنفقوا قبل الهجرة، كما قال الله تعالى:
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل
[الحديد: 10].
وإنما مدح السابقين لأن السابق إمام للتالي، وقوله تعالى: { والأنصار } عطف على المهاجرين، وقرأ بعضهم (والأنصار) بالرفع عطفا على السابقين، وعن عمر رضي الله عنه: (والأنصار الذين اتبعوهم) بغير الواو، وسمع رجلا قرأ (والذين) بالواو فقال: من أقرأك هذه الآية؟ قال: أبي بن كعب، قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما أتاه قال له: يا أبي أقرأته هذه الآية؟ قال: نعم، قال عمر رضي لله عنه: كنت أظن أنا ارتفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدها، فقال أبي: تصديق هذه الآية أول سورة الجمعة
وآخرين منهم لما يلحقوا بهم
[الآية: 3] وأوسط سورة الحشر
والذين جآءوا من بعدهم
[الآية: 10].
وقوله تعالى: { بإحسان } والإحسان هو فعل الحسن، قوله تعالى: { رضي الله عنهم ورضوا عنه }؛ أي رضي الله عنهم بإحسانهم، ورضوا عنه بالثواب والكرامة. قوله تعالى: { وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم }؛ في هذا الموضع بغير (من) إلا ابن كثير فانه يقرأ (من تحتها).
[9.101]
قوله تعالى: { وممن حولكم من الأعراب منفقون }؛ أي ومن حول مدينتكم من الأعراب منافقون، قيل: إنهم مزينة وجهينة. وقوله تعالى: { ومن أهل المدينة }؛ أي ومن أهل مدينتكم منافقون. قوله تعالى: { مردوا على النفاق } أي أقاموا وثبتوا على النفاق، { لا تعلمهم }؛ يا محمد بأعيانهم، { نحن نعلمهم }؛ ونعلم نفاقهم، { سنعذبهم مرتين }؛ أراد العذاب الأول الفضيحة والإخراج من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر.
روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا يوم الجمعة، فقال: " يا فلان أخرج فإنك منافق، يا فلان أخرج فإنك منافق " فأخرجهم بأسمائهم. وكان عمر رضي الله عنه لم يشهد الجمعة لحاجة له، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ عنهم استحياء؛ لأنه لم يشهد الجمعة، وظن الناس قد انصرفوا، واختبؤا هم عن عمر رضي الله عنه وظنوا أن قد علم بأمرهم. فدخل عمر المسجد وإذا هو بالناس لم يصلوا، فقال له رجل: يا عمر قد فضح الله المنافقين ".
وقال الحسن: (أراد بالعذاب الأول السبي والقتل، وبالثاني عذاب القبر)، وقوله تعالى: { ثم يردون إلى عذاب عظيم }؛ أراد به عذاب جهنم.
[9.102-103]
قوله تعالى: { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا }؛ أي في المدينة قوم آخرون أقروا بذنوبهم، خلطوا عملا صالحا بعمل سيء؛ أي تخلفوا عن الغزو ثم تابوا، ويقال: خرجوا إلى الجهاد مرة وتخلفوا مرة، فجمعوا بين العمل الصالح والعمل السيء، كما يقال: خلط الدنانير والدراهم؛ أي جمعها، وخلط الماء واللبن؛ أي أحدهما بالآخر.
وقوله تعالى: { عسى الله أن يتوب عليهم }؛ أي يتجاوز عنهم، { إن الله غفور }؛ لما سلف من ذنوبهم { رحيم }؛ بهم إذ قبل توبتهم. وإنما ذكر لفظ (عسى)؛ ليكون الإنسان بين الطمع والإشفاق، فيكون أبعد من الاتكال والإهمال.
قال ابن عباس:
" نزلت هذه الآية في لبابة بن المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة ابن حذام وغيرهم، وكانوا عشرة أنفس، تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما بلغهم ما أنزل الله عن المتخلفين ندموا على صنيعهم، فربط سبعة منهم أنفسهم على سواري المسجد، وأقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحلهم، وكانوا لا يخرجون إلا لحاجة لا بد لهم منها.
وكانوا على ذلك حتى قدم صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبر بأمرهم، فقال: صلى الله عليه وسلم: " وأنا لا أحلهم حتى أؤمر بهم " فنزلت هذه الآية فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أن (عسى) من الله واجبة، وأمر بحلهم وانطلقوا إليه، وقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فخذها فتصدق بها عنا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أمرت فيها بشيء "
فأنزل الله تعالى:
قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها }؛ ظاهر الآية يقتضي رجوع الكناية في قوله: { خذ من أموالهم } أي المذكورين، وقيل: وهم الذين اعترفوا بذنوبهم، إلا أن كل حكم حكم الله ورسوله في شخص من عباده، فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص، إلا ما قام دليل التخصيص به.
وقيل: قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة } ابتداء ذكر لجميع المسلمين لدلالة الحال على ذلك وإن لم يتقدم ذكر المسلمين كقوله تعالى:
إنا أنزلناه في ليلة القدر
[القدر: 1] يعني القرآن. ومعنى الآية: تطهرهم عن الذنوب وتزكيهم بها؛ أي تصلح أعمالهم. وقيل: معناه: تطهرهم أنت بها من دنس الذنوب.
قوله تعالى: { وصل عليهم }؛ أي استغفر لهم وادع لهم، { إن صلوتك سكن }؛ أي إن دعاءك واستغفارك طمأنينة، { لهم }؛ في أن الله يقبل توبتهم، { والله سميع }؛ بمقالتهم، { عليم }؛ بنياتهم وثوابهم.
[9.104]
قوله تعالى: { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات }؛ استفهام بمعنى التنبيه، وقبول التوبة إيجاب الثواب عليها، وقوله تعالى { ويأخذ الصدقات } أراد به أخذ النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده؛ لأن أخذهم لا يكون إلا بأمر الله، وكأن الله هو الآخذ، { وأن الله هو التواب }؛ أي المتجاوز عن من تاب، { الرحيم }؛ عن من مات على التوبة.
[9.105]
قوله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }؛ أي اعملوا عمل من يعلم أن الله يرى عمله ويتجاوز به، ظاهر المعنى. قوله تعالى: { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون }؛ ظاهر المعنى.
[9.106]
قوله تعالى: { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } معناه: من أهل المدينة قوم آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم بتخلفهم عن الجهاد، وإما يتجاوز عنهم بتوبتهم عن الذنوب، { والله عليم }؛ بهم { حكيم } يحكم في أمرهم ما يشاء. و(إما) في الكلام بوقوع أحد الشيئين، والله تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أن هؤلاء العباد خوطبوا بما يتفاهمون فيما بينهم ليكون أمرهم عندكم على هذا، أي على الخوف.
قال ابن عباس:
" نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين خلفوا وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، وهم من الأنصار تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعب بن مالك: أنا أفره أهل المدينة جملا فمتى ما شئت لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام حتى مضت عليهم ثلاثة أيام ثم آيس أن يلحقهم وندم على صنيعه، وأقام صاحباه معه، وندما لكن لم يفعلا ما فعله أبو لبابة وأوس ووديعة.
ففقدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية، ونهى الناس عن أن يجالسوهم أو يواكلوهم أو يشاربوهم، وأرسل إليهم أن اعتزلوا نساءكم، وأرسل إلى أهليهن، فجاءت امرأة هلال فقالت: إن هلالا شيخ كبير وإن لم آته بطعام هلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " وإياك أن يقربك " قال كعب: فمررت على أبي قتادة فسلمت عليه ولم يرد علي السلام، وكلمته فأبى أن يكلمني، فاستعبرت وقلت: أما والله إنك لتعلم أني أحب الله ورسوله. قال: الله ورسوله أعلم. فمضى على هذا خمسون يوما، فلما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أنزل الله { هو التواب الرحيم } ".
[9.107]
قوله تعالى: { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل }؛ قال ابن عباس:
" وذلك أن سبعة عشر رجلا من المنافقين من بني عمرو بن عوف قالوا فيما بينهم: تعالوا نبني مسجدا يكون متحدثنا ومجمع رأينا بأن تأتوا إلى رسول الله وتستأذنوه أن نبني مسجدا لذوي العلة والليلة المطيرة. فأذن لهم فبنوا مسجدا، وكان يؤمهم في ذلك المسجد مجمع بن الحارثة ، وكان قارئا للقرآن فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: والذين اتخذوا مسجدا للضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين.
قوله تعالى: { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل } أي وانتصارا لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الراهب كان حارب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بناء هذا المسجد، ومضى إلى هرقل ملك الروم يستعين به على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا، قال: " لا تسموه الراهب " ، ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات كافرا بقنسرين موضع بالشام ".
قوله تعالى: { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى }؛ معناه: ليحلف المنافقون أنا لم نرد ببناء هذا المسجد إلا الخير، وهم كذبة في حلفهم لقوله تعالى: { والله يشهد إنهم لكاذبون }؛ ما بنوه للخير.
روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجرا أقبل إليه أبو عامر هذا المذكور فقال له: ما هذا الذي جئت به؟ قال: " الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام " قال أبو عامر: وأنا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنك لست عليها " قال: بلى؛ ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما فعلت ذلك، ولكن جئت بها بيضاء نقية " فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا، فقال صلى الله عليه وسلم: " آمين " فسماه أبو عامر الفاسق.
فلم يزل أبو عامر كذلك إلى أن هزمت هوازن، فخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، وآت بجند من الروم وأخرج محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء، وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا.
فلما فرغوا منه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد بنينا مسجدا لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتيه فتصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا لأتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه ".
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك أتوه فسألوه إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزلت هذه الآية وأعلمه الله تعالى بخبرهم وما هموا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدهشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة، وقال لهم: " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه " فخرجوا سراعا، فأخذوا سعفا من النخل، وأشعلوا فيه النار وهدموه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ كناسة يلقى فيه القمامة والجيف، ومات أبو عامر بالشام وحيدا غريبا. "
وقال عكرمة: (سأل عمر رضي الله عنه رجلا منهم: ماذا أعنت في هذا المسجد، قال: أعنت فيه بسارية، فقال عمر رضي الله عنه: أسر بها في عنقك في نار جهنم). وروي: (أن بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا وسألوا عمر رضي الله عنه أن يصلي بهم الجماعة مجمع بن الحارثة فقال: لا؛ ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار، فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين لا تعجل علي، فوالله لقد صليت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم، وكنت غلاما وهم شيوخ لا يقرءون من القرآن شيئا، فصليت بهم ولا أعلم ما في نفوسهم، فعذره عمر رضي الله عنه وصدقه، وأمره بالصلاة في مسجد قباء). قرأ أهل المدينة والشام الذين اتخذوا بغير (واو) وكذلك هو في مصاحفهم.
[9.108]
قوله تعالى: { لا تقم فيه أبدا }؛ أي لا تصل في مسجد هؤلاء المنافقين أبدا، { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه }؛ يعني مسجد قباء أسس لوجه الله منذ أول يوم بني، ويقال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أحق أن تصلي فيه، ولا يمتنع أن يكون المراد المسجد الذي أسس على التقوى كلا المسجدين، مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء. قوله تعالى: { فيه رجال يحبون أن يتطهروا }؛ في مسجد قباء رجال يحبون أن يتطهروا. قال الحسن: (معناه يتطهرون من الذنوب بالتوبة).
والمشهور أن المراد بالتطهير في هذه الآية الاستنجاء بالماء كما روي:
" أنه لما نزلت هذه الآية وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب قباء وقال: " يا معشر الأنصار إن الله عزوجل قد أحسن الثناء عليكم في طهوركم، فبم تطهرون؟ " قالوا: إنا نتبع الأحجار بالماء؛ أي نستجمر بالحجر ثم نستنجي بالماء، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وسن النبي صلى الله عليه وسلم الاستنجاء بالماء "
قوله تعالى: { والله يحب المطهرين }؛ أي أثنى على المطهرين من الذنوب، والمتطهرين بالماء من الأدناس.
[9.109]
قوله تعالى: { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار }؛ الألف في أول الآية ألف استفهام دخلت في الكلام للإنكار، وقوله تعالى { جرف هار } أي على طرف الهوة، وقوله { هار } ساقط، وأصله هاير، إلا أنه حذف الياء.
والجرف: ما تمر به السيول من الأودية فتسير جانبه وتنثره، ولو وقف الإنسان عليه لسقط وانهار، وشفا الشيء حرفه وهو مقصور يكتب بالألف وتثنيته شفوان.
قرأ نافع وأهل الشام بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وقرأ الباقون بفتحهما. قوله تعالى: { على تقوى من الله } ، قرأ ابن عمر (تقوى) منون، وقوله تعالى { جرف } قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر وخلف بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان، وهي البر التي لم تمطر، وقال أبو عبيد: (بنى الهوة والرمل) والشيء الرخو وما يجرفه السيل في الأودية، والهاير الساقط الذي يتداعى بعضه على إثر بعض كما يتهاوى الرمل، والشيء الرخو، وفي مصحف أبي (فانهارت به قواعده في نار جهنم). قال قتادة: (ذكر لنا أنه حفرت بقعة منها فرؤي الدخان يخرج منها)، وقال جابر بن عبدالله: (رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار).
قوله تعالى: { فانهار به في نار جهنم }؛ أي انهار الجرف بالبناء؛ أي هار به؛ أي كما أن من بنى على جانب نهر صفة ما ذكرنا انهار بناؤه في النهر، فكذلك بناء أهل النفاق مسجد الشقاق كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. وقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ أي لا يوفقهم ولا يهديهم الى جنته وثوابه.
[9.110]
قوله تعالى: { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم }؛ أي لا يزال بنيانهم مسجد الضرار حيرة مترددة في قلوبهم، ويقال شكا واضطرابا، يعني أن شكهم لا يزال وإن زيل ذلك البناء، بل يبقى ذلك في قلوبهم حتى خاب أملهم، اشتد أسفهم بأن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن قيس ووحشيا مولى مقطم بن عدي فخرباه وهدماه، ثم أمر الأنصار بإلقاء الجيف والعذرات الكناسات فيه، إذ لم يبن لله تعالى، فبقي ذلك حسرة وندامة في قلوب المنافقين حتى تقطع قلوبهم؛ أي حتى يموت على ذلك.
ويقال: معناه: لا يزالون شاكين حين يموتوا، فإذا ماتوا صاروا إلى اليقين حيث لا ينفعهم اليقين قال السدي: (معناه: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم؛ أي حزازة وغيظا في قلوبهم؛ أي أن تصدع قلوبهم فيموتوا).
وقرأ الحسن ويعقوب أي (إن) مخففا على الغاية، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة، ولا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا، قرأ شيبة وابن عامر وحمزة وحفص (تقطع) بفتح التاء وتشديد الطاء المعنى تتقطع، ثم حذفت إحدى التائين، وقرأ ابن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمر والكسائي (تقطع) بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل، وقرأ يعقوب (تقطع) بضم التاء خفيفة الطاء من القطع. وروي عن ابن كثير بفتح التاء خفيفة، (قلوبهم) نصبا أي بفعل ذلك أنت بهم.
قوله تعالى: { والله عليم حكيم }؛ أي عليم بأعمالكم، حكيم في ما حكم من هدم مسجدهم وأظهر نفاقهم.
[9.111]
قوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة }؛ معناه: إن الله طلب المؤمنين أن يعدوا أنفسهم وأموالهم ويخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ليثيبهم الجنة على ذلك.
فإن قيل: كيف يصح شراء الجنة على ذلك وهي مملوكة لله تعالى؟ وكيف يشتري أحد ملكه يملكه؟ قيل: إنما ذكر هذا على وجه التلطف للمؤمنين في تأكيد الجزاء كما قال الله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة: 245] فذكر الصدقة بلفظ القرض للتحريض على ذلك والترغيب فيه، إذ القرض يوجب رد المفلس لا محالة، وكأن الله عامل عباده معاملة من هو غير مالك، وعن جعفر الصادق أنه كان يقول: (يا ابن آدم اعرف قدر نفسك، فإن الله عز وجل عرفك قدرك ولم يرض أن يكون لك ثمن غير الجنة).
قوله تعالى: { يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون }؛ فيه بيان عرض الذي لأجله اشتراهم، وهو أن يقاتلوا العدو في طاعة الله، ومعناه: فيقتلون المشركين، ويقتلهم المشركون، وعلى هذا أكثر القراء، حمزة والكسائي (فيقتلون) بالرفع، (ويقتلون) بالنصب، واختار الحسن هذه القراءة لأنه إذا قرئ هكذا كان تسليم النفس إلى الشراء أقرب، وإنما يستحق البائع تسليم الثمن إليه تسليم المبيع.
قوله تعالى: { وعدا عليه حقا }؛ نصب على المصدر؛ أي أوجب الله لهم الجنة ووعدهم وعد حق منه لهم، وإنما قال (حقا) للفصل بين الوعد الذي حجره على وجه الجزاء لهم على العمل، وبين الوعد ينجزه للتصديق على وجه التفضيل لا الجزاء لهم على العمل.
قوله تعالى: { في التوراة والإنجيل والقرآن }؛ أي أوجب الله الجنة للمؤمنين في جميع كتبه التي أنزلها الله على أنبيائه عليهم السلام، قوله تعالى: { ومن أوفى بعهده من الله }؛ أي ليس أحد أوفى من الله في وعده وشرطه، وعدكم وعدا ولا يخلف لوعده.
قوله تعالى: { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به }؛ أي ببيعكم أنفسكم من الله، فإنه لا يشري أرفع من الله سبحانه، ولا ثمن أعلى من الجنة. وقيل: إن هذا أنزل في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم صار عاما في كل من يعمل مثل عملهم.
قال محمد بن كعب:
" لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نقيبا، قال عبدالله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: " اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأموالكم " قالوا: وإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: " الجنة " ، قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزل قوله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } ثم هداهم الله بقوله { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } ".
قال الحسن: (اسمعوا إلى بيعة رابحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة). قال:
" ومر أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، فقال: كلام من هذا؟ فقال: " كلام الله تعالى " وقال: بيع واثق مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى العدو فاستشهد "
وأنشد الأصمعي لجعفر رضي الله عنه:
أثامن بالنفس النفيسة ربها
وليس لها في الخلق كلهم ثمن
بها تشترى الجنات إن أنا بعتها
بشيء سواها إن ذلكم غبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها
لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
وكان جعفر الصادق يقول: (أيا من ليست لهم عنه إنه ليس لأبدانكم بثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها). وأنشد أبو علي الكوفي:
من يشتري قبة في عدن عالية
في ظل طوبى رفيعات مبانيها
دلالها المصطفى والله بائعها
ممن أراد وجبريل مناديها
قوله تعالى: { وذلك هو الفوز العظيم }؛ أي النجاة العظيمة والثواب الوافر؛ لأنها نيل الجنة الباقية بالنفس الفانية.
[9.112]
وقوله تعالى: { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر }؛ في الآية قولان: أحدهما: أن قوله { التائبون العابدون } رفع بالابتداء، كأنه قال: التائبون العابدون... إلى آخر الآية لهم الجنة أيضا؛ أي من قعد عن الجهاد غير مؤازر ولا قاصد تركه، وهو على هذه الصفة في هذه الآية فله الجنة.
والقول الثاني: أن قوله { التائبون } يدل على المقاتلين، كأنه قال: المقاتلون التائبون العابدون، ويجوز أن يكون قوله: { التائبون } رفعا على المدح، أي هم التائبون من الشرك والذنوب، المطيعون لله { الحامدون } الذين يحمدون الله تعالى على كل حال، { السائحون } الصائمون.
كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" سياحة أمتي الصوم "
وإنما سمي الصائم سائحا تشبيها بالسائح في الأرض؛ لأن السائح ممنوع من الشهوات، فكذلك الصائم.
قال الحسن: (أراد السائحين صوامي شهر رمضان)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم:
" السائحون الصائمون "
وسئل سعيد بن جبير عن السائحين فقال: (هم الصائمون)، وقال الشاعر:
برا يصلي ليله ونهاره
يظل كثير الذكر لله سائحا
أي صائما.
وقال الحسن أيضا: (السائحون الذين يصومون عن الحلال وأمسكوا عن الحرام، وهاهنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال، ولا يمسكون عن الحرام، والله ساخط عليهم)، وقال عطاء: (السائحون هم الغزاة والمجاهدون). وسئل عكرمة عن قوله تعالى: { السائحون } فقال: (طلبة العلم).
قوله تعالى: { الراكعون الساجدون } أي الذين يؤدون ما فرض الله عليهم من الركوع والسجود المفروضة، وقوله تعالى: { الآمرون بالمعروف } أي الآمرون بالإيمان والناهون عن الشرك. وقيل: معناه: الآمرون بكل معروف، والناهون عن كل منكر.
وإنما ذكر الناهون بالواو وبخلاف ما سبق؛ لأن النهي عن المنكر لا يكاد يذكر إلا وهو مقرون بالأمر بالمعروف، فدخل الواو ليدل على المقارنة. والمعروف: هو السنة، والمنكر: هو البدعة.
قوله تعالى: { والحافظون لحدود الله }؛ عطف على ما تقدم. وقيل: المراد بهم جميع المذكورين من أول الآية إلى هذا الموضع، وهذه الصفة من أتم ما يكون من المبالغة في وصف العباد بطاعته لله، والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره؛ لأن الله تعالى بين حدوده في الأمر والنهي وفي ما ندب إليه فرغب فيه أو خير فيه، وبين ما هو الأولى في مجرى طاعة الله تعالى، فإذا قام العبد بفرائض الله وانتهى إلى ما أراد الله منه كان من الحافظين لحدود الله، كما روي عن خلف بن أيوب: أنه أمر امرأته أن تمسك إرضاع ولده في بعض الليل وقال: قد تمت له سنتان، قيل له: لو تركتها حتى ترضعه هذه الليلة، قال: فأين قوله تعالى: { والحافظون لحدود الله }. قوله تعالى: { وبشر المؤمنين }؛ أي بشرهم بالجنة.
[9.113]
قوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى }؛ قال ابن عباس:
" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن أبويه أيهما أحدث عهدا به؟ فقيل: أمك، فقال: " هل تعلمون موضع قبرها؟ لعلي آتيه فأستغفر لها، فإن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبويه وهما مشركان " فقال المسلمون: ونحن أيضا نستغفر لآبائنا وأهلينا. فانطلق صلى الله عليه وسلم حتى أتى القبر، فإذا هو بجبريل عليه السلام عند القبر، فوضع يده في صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية ".
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" استأذنت ربي أن أستغفر لوالدي فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرهما فأذن لي "
ومعنى الآية: ما ينبغي وما يجوز للنبي والذين آمنوا أن يطلبوا المغفرة للمشركين، ولو دعتهم رقة القرابة إلى الاستغفار لهم: { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم }؛ أي من بعد ما ظهر أنهم أصحاب النار بأنهم ماتوا على الكفر.
[9.114]
قوله تعالى: { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه }؛ أي ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أبوه له أن يسلم، { فلما تبين له }؛ لإبراهيم، { أنه عدو لله }؛ بأن لم يؤمن حتى مات على الكفر، { تبرأ منه }؛ أي من أبيه ومن دينه.
ويقال: إنما هذه الموعدة إنما كانت من إبراهيم لأبيه، فإنه كان قال لأستغفرن لك ما دمت حيا، ولم يكن الله تعالى أعلم إبراهيم أنه لا يغفر للمشركين، يدل عليه قراءة الحسن (إلا من موعدة وعدها إياه).
قوله تعالى: { إن إبراهيم لأواه حليم }؛ الأواه: التواب. قال ابن مسعود (هو الدعاء)، وقال الحسن وقتادة: (هو الرحيم الرفيق)، ويقال: هو المؤمن بلغة الحبشة، إلا من قال إنه لا يجوز أن يكون في القرآن شيء غير عربي، قال: هذا موافق من العربية بلغة الحبشة. وقيل: الأواه الفقيه، وقال كعب: (هو الذي إذا ذكرت عنده النار قال: آه )، وقيل: هو المتأوه شفقا وفرقا، المتضرع نفسا ولزوما للطاعة، وأما الحليم فهو الذي لا يعجل بعقوبة الجاهل.
[9.115]
قوله تعالى: { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن الله تعالى لما أنزل الفرائض وعمل بها الناس، ثم أنزل بعد ذلك ما نسخها وقد مات ناس وهم يعملون بالأمر الأول مثل الصلاة إلى بيت المقدس وشرب الخمر ونحو ذلك، ومات بعض المؤمنين وهم على القبلة الأولى، فذكر المؤمنون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل هذه الآية).
ومعناها: وما كان الله ليضل عمل قوم وينزل قوما منزلة الضلال بعد إذ هداهم للإيمان حتى يبين لهم ما يتقون من المعاصي، ويقال: حتى يبين الناسخ من المنسوخ، { إن الله بكل شيء }؛ من الناسخ والمنسوخ، وبكل ما فيه مصلحة الخلق، { عليم }.
[9.116]
قوله تعالى: { إن الله له ملك السموت والأرض يحيي ويميت }؛ وذلك أن الله لما أمر المسلمين بقتال المشركين كافة، وكان في المشركين ملوك لا يطمع المسلمون بهم لشوكتهم وعزهم، أخبر الله تعالى أن لله ملك السماوات والأرض، يحيي من يشاء ويميت من يشاء، { وما لكم من دون الله من ولي }؛ يواليكم، { ولا نصير }؛ ينصركم.
[9.117]
قوله تعالى: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة }؛ معناه: وقد تجاوز الله من تولى النبي صلى الله عليه وسلم إذنه للمنافقين بالتخلف، كما قال الله تعالى:
عفا الله عنك لم أذنت لهم
[التوبة: 43]، وتجاوز عن ذنوب المهاجرين والأنصار.
وقيل: أراد بذلك قوما منهم تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرجوا فأدركوه في الطريق. وقوله تعالى: { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } صفة مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم إياه في وقت الشدة في غزوة تبوك، وكانت بهم العسرة في النفقة والركوب والحر والخوف، وكانت الدابة الواحدة بين جماعة يتعقبون عليها، وكانت التمرة تشق بالنصف فيأكلها الرجلان كل واحد نصفها، وربما كانت جماعة يمصون تمرة واحدة، ويشربون عليها، وربما كانوا ينحرون الإبل فيشربون من ماء كروشها في الحر.
قوله تعالى: { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم }؛ أي من بعد ما كاد تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج والجهاد، ويقال من بعد ما كادوا يرجعون عن غزوتهم من الشدة.
قوله تعالى: { ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم }؛ أي ثم خفف عنهم ما أخلفهم عن الحرب حتى كادوا يعقلون عن أنفسهم، وهذا كقوله تعالى:
إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اليل
.. [المزمل: 20] إلى أن قال:
علم أن لن تحصوه فتاب عليكم
[المزمل: 20] أي خفف عنكم، وكقوله:
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم
[البقرة: 187] أي خفف عنكم.
[9.118]
قوله تعالى: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا }؛ أي تاب على الثلاثة، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الذين خلفوا عن قبول توبتهم، { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت }؛ منع سعتها بامتناع الناس من مكالمتهم، { وضاقت عليهم أنفسهم }؛ أي قلوبهم حين كتب قيصر إلى كعب ابن مالك: بلغني أن صاحبك قد جفاك، فالحق بنا فإن لك عندنا منزل وكرامة، فقال كعب: (من خطيئتي أن يطمع في رجل من أهل الكفر).
قوله تعالى: { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه }؛ أي علموا وأيقنوا ألا مفر من عذاب الله إلا إليه بالتوبة، وقوله تعالى: { ثم تاب عليهم }؛ أي قبل توبتهم، { ليتوبوا }؛ أي ليرجعوا عن مثل صنيعهم. ويقال: ليتوب الناس من بعدهم، { إن الله هو التواب }؛ أي المتجاوز عن ذنوب المؤمنين، { الرحيم }؛ بعباده التائبين.
[9.119]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } أي يا أيها الذين آمنوا اخشوا الله ولا تعصوه، وكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وأعمالهم في الشدة والرخاء.
[9.120]
قوله تعالى: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله }؛ أي ما جاز لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، وهذا نهي ورد بلفظ النفي، { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه }؛ أي لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم آثر وأشفق عن نفس محمد صلى الله عليه وسلم، بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية للنبي صلى الله عليه وسلم لما أوجب له من الحقوق عليهم بدعائه لهم إلى الإيمان حتى اهتدوا به ونجوا من النار.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله }؛ أي ذلك الزجر بأنهم في التخلف عن الجهاد، لا يصيبهم عطش ولا تعب في أبدانهم، ولا شدة مجاعة في طاعة الله، ولا يجاوزون مكانا فيظهرون فيه من سهل أو جبل مجاوزتهم ذلك المكان، فإن الإنسان يغيظه أن يطأ أرضه غيره.
قوله تعالى: { ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }؛ أي لا يبطل ثواب من أحسن عملا من جهاد وغيره.
[9.121]
قوله تعالى: { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة }؛ أي لا ينفقون في الجهاد نفقة صغرت أو كبرت، { ولا يقطعون واديا }؛ من الأودية في طلب الكفار، { إلا كتب }؛ ذلك، { لهم ليجزيهم الله أحسن }؛ من أعمالهم التي، { ما كانوا يعملون }؛ في الدنيا.
[9.122]
قوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كآفة }؛ قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية المتقدمة وما فيها من العيوب وبيان نفاقهم، قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سرية أبدا، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالسرايا إلى الغزو، ونفر المؤمنون جميعا وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، أنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية).
ومعناها: أنه ليس للمؤمنين أن ينفروا كافة ويخلفوا رسول الله وحده ليس عنده أحد من المسلمين يتعلم منه الحلال والحرام والشرائع والأحكام، { فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين }؛ أي فهلا خرج من كل جماعة طائفة إلى الجهاد، وتبقى طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليسمع الذين تخلفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، إذا رجعت السرايا علموهم ما علموا فيستوون جميعا في العلم في معرفة الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }؛ أي لينذر الذين تخلفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومهم الذين نفروا إذا رجعوا إليهم من غزاتهم، ويخبروهم بما نزل بعدهم من القرآن، لكي يحذروا كلهم فلا يعملون شيئا بخلاف ما أنزل الله عز وجل.
[9.123]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة }؛ أي قاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوكم مثل بني قريظة والنضير وخيبر؛ أي ابدأوا بمن حولكم، ثم قاتلوا سائر الكفار، لأن الاشتغال بقتال من بعدهم من المشركين مع ترك قتال من قرب لا يؤمن معه هجوم من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين، قوله تعالى: { وليجدوا فيكم غلظة } أي ليكن منكم قول غليظ وشدة عليهم في الوعد؛ كيلا يطمع فيكم أحد من أهل الكفر، { واعلموا أن الله مع المتقين }؛ في النصر على عدوهم.
[9.124]
قوله تعالى: { وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا }؛ معناه: إذا ما أنزلت سورة من القرآن، فمن المنافقين من يقول: إيكم زادته هذه السورة إيمانا؟! إنما كان بعضهم يقول لبعض على جهة الهزء. ويقال: كانوا يقولون للمستضعفين من المسلمين: أيكم زادته هذه الآية يقينا وبصيرة؟ يقول الله تعالى: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا }؛ وهم المخلصون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زادتهم تصديقا مع تصديقهم، { وهم يستبشرون }؛ أي يفرحون بكل ما ينزل من القرآن.
[9.125]
قوله تعالى: { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم }؛ معناه: وأما الذين في قلوبهم شك ونفاق فزادتهم السورة شكا إلى شكهم وكفرا إلى كفرهم، لأنهم كلما كفروا بسورة ازدادوا كفرا، والمؤمنون كلما صدقوا بسورة ازدادوا تصديقا. قوله تعالى: { وماتوا وهم كافرون }؛ إذ هم لشكهم فيما أنزله الله من السورة إلى أن ماتوا على الكفر.
وإنما سمى الله النفاق مرضا؛ لأن الحيرة في القلب مرض في القلب، كما أن الوجع في البدن مرض في البدن.
[9.126]
قوله تعالى: { أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون }؛ معناه: أولا يرى المنافقون أنهم يخسرون بالدعاء إلى الجهاد في كل عام مرة أو مرتين، ويقال: يهلكون بهتك أسرارهم، ثم يظهر الله من سوء نياتهم وخبث سرائرهم. ويقال: كانوا ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين فيعاقبون، ثم لا يتوبون عن نفاقهم ولا يذكرون بما صنع الله بهم بنقضهم العهد. وقرأ حمزة ويعقوب: (أولا ترون) بالتاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
[9.127]
قوله تعالى: { وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض }؛ إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين فخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم وعرض لهم في خطبته، نظر بعض المنافقين إلى بعض، { هل يراكم من أحد }؛ من المخلصين إذا هو قائم فخرج من المسجد، فإذا كان لا يراه أحد خرج من المسجد وانصرف، وإن علموا أن أحدا يراهم قاموا وثبتوا مكانهم حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته.
قوله تعالى: { ثم انصرفوا }؛ أي انصرفوا عن الإيمان والعمل بترك ما يستمعون، ويقال: انصرفوا عن المكان الذي سمعوا فيه، { صرف الله قلوبهم }؛ باللطف الذي يحدثه للمؤمنين. قوله تعالى: { بأنهم قوم لا يفقهون }؛ أي ذلك الصرف بأنهم قوم لا يفقهون ما يريد الله بخطابه.
[9.128]
قوله تعالى: { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم }؛ هذا خطاب لأهل مكة، والمعنى: لقد جاءكم رسول من أهل نسبكم ولسانكم، شريف النسب تعرفونه وتفهمون كلامه. وإنما قال ذلك؛ لأنه أقرب إلى الألفة. وقيل: إن هذا خطاب لجميع الناس، معناه: جاءكم آدمي مثلكم، وهذا أوكد للحجة عليكم؛ لأنكم تفهمون عن من هو من جنسكم.
وقرأ ابن عباس والزهري (من أنفسكم) بفتح الفاء؛ أي من أشرفكم وأفضلكم، من قولك: شيء ذو نفس، وقال: كان من أعلاكم نسبا، قوله تعالى: { عزيز عليه ما عنتم } أي شديد عليه عنتكم وإثمكم، العنت: الضيق والمشقة.
قوله تعالى: { حريص عليكم }؛ أي حريص على إيمانكم وهداكم أن تؤمنوا فتنجوا من العذاب وتفوزوا بالجنة والثواب، والحرص: شدة الطلب للشيء مع الاجتهاد فيه. قوله تعالى: { بالمؤمنين رءوف رحيم }؛ كلام مستأنف: أي وهو شديد الرحمة لجميع المؤمنين، رفيق لمن اتبعه على دينه.
[9.129]
قوله تعالى: { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم }؛ أي فإن أعرضوا عنك وعن الإيمان بك، فقل الله تعالى حسبي لا إله إلا هو؛ أي لا ناصر ولا معين غيره، { عليه توكلت } أي به ثقتي، وإليه فوضت أمري.
قوله تعالى: { رب العرش العظيم } أي خالق السرير العظيم الذي هو أعظم من السماوات والأرض، وإنما خص العرش بذلك؛ لأنه إذا كان رب العرش العظيم مع عظمته، كان رب ما دونه في العظم. وقيل: إنما خص العرش؛ تشريفا للعرش وتعظيما لشأنه. وقرئ في الشواذ (العظيم) بالرفع على نعت الرب.
[10 - سورة يونس]
[10.1]
{ الر }؛ قال ابن عباس: (معناه: أنا الله أرى) وعنه: (أنه من حروف الرحمن). وقيل: أنا الرب لا رب غيره. وقوله تعالى: { تلك آيات الكتاب الحكيم }؛ أي هذه آيات الكتاب، وإنما أضاف السورة إلى القرآن؛ لأنها بعض الكتاب، كما تضاف السورة لأنها بعضه.
وأما وصف القرآن بأنه حكيم؛ فلأن القرآن كالناطق بالحكمة بما فيه بين التمييز بين الحق والباطل. ويقال: معنى الحكيم المحكم بالحلال والحرام والأمر والنهي، يقال: أحكمت الشيء فهو محكم وحكيم، كما يقال: أكرمت الرجل فهو مكرم وكريم.
[10.2]
قوله تعالى: { أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس } معناه: أعجبت قريش أن أوحينا إلى رجل مثلهم من أهل نسبهم أن خوف الناس بالعذاب، { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم }؛ وذلك أن الكفار كانوا يقولون: لم يجد الله رسولا يبعثه إلينا إلا يتيم أبي طالب. ويقال: كانوا يعجبون من البعث بعد الموت.
قوله تعالى: { قدم صدق عند ربهم } أي أعمالهم الصالحة التي قدموها لأنفسهم سلف خير عند ربهم يستوجبون بها المنزلة الرفيعة في آخرتهم عند ربهم، وعن ابن عباس أنه قال : (قدم صدق: شفاعة بينهم لهم هو إمامهم إلى الجنة وهم بالأثر).
قوله تعالى: { قال الكافرون إن هذا لساحر مبين }؛ أي قال كفار مكة: إن هذا القرآن لسحر مبين، وقرأ أهل الكوفة وابن كثير (لساحر) بالألف يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم.
[10.3]
قوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش }؛ ولو شاء لخلقها في أقل من لحظة، ولكنه خلقها للترتيب؛ ليكون حدوث شيء بعد شيء على الترتيب أبلغ للملائكة في التفكر بها من حدوثها كلها في حالة واحدة، وقد تقدم تفسير الاستواء، ودخلت (ثم) على الاستواء وهي في المعنى داخلة على الترتيب، كأنه قال: ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش، فإن تدبير الأمور كلها ينزل من عند العرش، ولهذا ترفع الأيدي في قضاء الحوائج نحو العرش. والاستواء: الاستيلاء، ولم يزل الله سبحانه مستوليا على الأشياء كلها، إلا أن تخصيص العرش لتعظيم شأنه.
قوله تعالى: { يدبر الأمر }؛ أي يقضي القضاء إلى الملائكة من رسله ولا يشركه في تدبير أحد من خلقه. وعن عمرو بن مرة " عن عبدالرحمن بن سابط " قال:
" يدبر أمر الدنيا بأمر الله أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل. أما جبريل فعلى الرياح والجنود، وأما ميكائيل فعلى القطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل عليهم بما يؤمرون به ".
قوله تعالى: { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } جواب قول الكفار أن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فبين الله تعالى ما من ملك مقرب، ولا نبي مرسل يشفع لأحد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فكيف تشفع الأصنام التي ليس لها عقل وتمييز.
قوله تعالى: { ذلكم الله ربكم }؛ أي الذي يفعل ما هو المذكور في هذه الآية من خلق السماوات والأرض وتدبير الخلق هو الله خالقكم ورازقكم، { فاعبدوه }؛ ولا تعبدوا الأصنام فإنها لا تستحق العبادة، وقوله تعالى: { أفلا تذكرون }؛ أي هل تتعظون بالقرآن.
[10.4]
قوله تعالى: { إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا }؛ أي إلى الله سبحانه رجوعكم جميعا، وانتصب قوله: { جميعا } على الحال، وقوله { وعد الله } نصب على المصدر؛ أي وعد الله وعدا، والمعنى وعد الله البعث بعد الموت وعدا حقا كائنا لا شك فيه.
قوله تعالى: { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده }؛ أي يخلقكم في بطون أمهاتكم نطفا، ثم علقا ثم مضغة ثم عظاما، ثم يخرجكم نسما للتمام، ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ثم يبعثكم بعد الموت، وفي هذا بيان أن خلق الشيء على الترتيب حال بعد حال أدل على الترتيب من خلقه جملة واحدة في ساعة واحدة.
قوله تعالى: { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط }؛ فيه بيان أن البعث للجزاء؛ لنجزيهم بالعدل لئلا ننقص من ثواب محسن، ولا نزيد على عقاب مسيء، بل يجازي كلا على قدر عمله كما قال
جزآء وفاقا
[النبأ: 26]. قوله تعالى: { والذين كفروا لهم شراب من حميم }؛ أي من ماء حار قد انتهى حره، { وعذاب أليم }؛ وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، { بما كانوا يكفرون }؛ بالكتب والرسل.
[10.5]
قوله تعالى: { هو الذي جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب }؛ أي هو الذي جعل الشمس ضياء للعالمين بالنهار، والقمر نورا بالليل.
روي في الخبر: أن وجوههما إلى العرش وظهورهما إلى الأرض، يضيء وجوههما لأهل السماوات السبع، وظهورهما لأهل الأرضين السبع، كما قال
وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا
[نوح: 16].
قوله تعالى: { وقدره } أي قدر القمر منازل وهي ثمان وعشرون منزلة في كل شهر. وقيل معناه: { وقدره منازل } لا يجاوزها ولا يقصروها، وقيل: جعل (قدر) لهما يعدى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون المعنى وقدرهما، إلا أنه حذف التثنية للاختصار والإيجاز، كما قال تعالى:
والله ورسوله أحق أن يرضوه
[التوبة: 62].
قوله تعالى: { ما خلق الله ذلك إلا بالحق }؛ أي ما خلق الله الشمس والقمر، إلا لتعلموا الحساب وتعتبروا بهما، وتستدلوا بطلوعها وغروبها على صانعهما.
وقوله: { لتعلموا عدد السنين والحساب } أي لتعلموا بالشمس حساب السنين وحساب الشهور والليالي والأيام على ما تقدم أن القمر يقطع في الشهر ما تقطعه الشمس في السنة ، ويعني بقوله: { والحساب } حساب الأشهر والأيام والساعات، وقوله تعالى: { ما خلق الله ذلك إلا بالحق } رده إلى الفعل والخلق والتدبير، ولو أراد الأعيان المذكورة لقال: تلك إلا بالحق، ثم يخلقه باطلا، بل إظهار الصنعة، ودلالته على قدرته وحكمته.
قوله تعالى: { يفصل الآيات لقوم يعلمون }؛ أي نبين علامات وحدانية الله تعالى بأنه بعد آية { لقوم يعلمون } تفصيل الآيات. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص (يفصل) بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله { ما خلق } فيكون متبعا له، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم.
[10.6-7]
قوله تعالى: { إن في اختلاف اليل والنهار وما خلق الله في السموت والأرض لآيات لقوم يتقون }؛ معناه: إن في اختلاف ألوان الليل والنهار وتقلبها بذهاب الليل وجيئة النهار، وذهاب النهار وجيئة الليل، وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح، والأرض من الجبال والشجر والبحار والأنهار والدواب والنبات، لعلامات لقوم يتقون الله ويخشون عقوبته.
فلم يؤمنوا بهذه الآيات ولم يصدقوا، فأنزل الله عز وجل:
قوله تعالى: { إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيوة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون }؛ معناه: إن الذين لا يخشون عقاب الله، وتنعموا بالحياة الدنيا، فلا يعملون إلا بها ولا يرجون إلى ما ورائها { واطمأنوا بها } أي سكنوا إليها وآثروها على عمل الآخرة، والذين هم عن دلائل توحيدنا غافلون تاركون لها مكذبون بها.
[10.8]
قوله تعالى: { أولئك مأواهم النار }؛ أي أهل هذه الصفة مصيرهم إلى النار، { بما كانوا يكسبون }؛ يعملون في دار الدنيا وقد يذكر الرجاء بمعنى الخوف كما قال الله
ما لكم لا ترجون لله وقارا
[نوح: 13] أي لا تخافون لله عظمة، ويجوز أن يكون المعنى: لا يرجون لقاءنا؛ أي لا يرجون جزاءنا، فجعل لقاء جزائه بمنزلة لقائه.
[10.9]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم }؛ أي إن الذين صدقوا بمحمد والقرآن وعملوا الصالحات يرشدهم ربهم على الصراط إلى الجنة بنور إيمانهم. وقيل: يرشدهم إلى منازلهم في الجنة. وقيل: يثبتهم على الإيمان.
وقوله تعالى: { تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم }؛ أي تجري الأنهار بين أيديهم وهم في الغرف يتطلعون عليها كما قال عز وجل حاكيا عن فرعون
أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي
[الزخرف: 51]. ويجوز أن يكون معناه: تجري من تحت شجرهم وبساتينهم في جنات تنعمون فيها.
[10.10]
قوله تعالى: { دعواهم فيها }؛ أي قولهم ودعاؤهم في الجنة: { سبحانك اللهم }؛ فإذا سمع الخدام وذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون، قال ابن جريج: (يمر الطير على الرجل من أهل الجنة فيشتهيه، فيسبح الله تعالى، فيقع بين يديه فيأكل منه ما شاء، فإذا فرغ قال: الحمد لله). ويقال معنى قوله: { دعواهم فيها } أي مفتتح كلامهم التسبيح، ومختتم كلامهم التحميد، لا أن يكون الحمد آخر كلامهم حتى لا يتكلمون بعده بشيء.
قال طلحة بن عبدالله:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول: سبحان الله، فقال: " هو تنزيه لله من كل سوء " "
وسئل علي رضي الله عنه عن ذلك فقال: (كلمة رضيها الله لنفسه). وقال الحسن: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأ هذه الآية:
" إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح، كما تلهمون أنفسكم ".
قوله تعالى: { وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }؛ أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، وتحييهم الملائكة بالسلام، وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام، كما في قوله تعالى:
تحيتهم يوم يلقونه سلام
[الأحزاب: 44] قرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن (إن الحمد لله) بكسر (إن) وتشديد النون ونصب (الحمد).
[10.11]
قوله تعالى: { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم }؛ قيل: إن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك...
[الأنفال: 32] الآية ثم صارت عامة في كل من يستعجل العقاب الذي يستحقه بالمعاصي.
معناه: ولو يعجل الله للناس الشر كما يعجل الخير إذا دعوا بالرحمة والرزق والعافية لماتوا وهلكوا. وقيل: المراد بهذه الآية دعاء الإنسان على نفسه وولده وقومه، مثل قول الرجل إذا غضب على ولده: اللهم لا تبارك فيه والعنه، وقوله لنفسه: لا رفعني الله من بينكم، والمعنى على هذا: ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر كاستعجالهم الإجابة في الخير { لقضي إليهم أجلهم } أي لفرغ من عذابهم وماتوا جميعا. وقال شهر بن حوشب: (قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملكين الموكلين: لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئا).
وقرأ ابن عامر ويعقوب (لقضى) بفتح القاف والضاد (أجلهم) بفتح اللام، وقرأ الأعمش (لقضينا) وقرأ العامة (لقضي) بضم القاف وكسر الضاد، ورفع قوله (أجلهم).
قوله تعالى: { فنذر الذين لا يرجون لقآءنا في طغيانهم يعمهون } أي نترك الذين لا يخافون البعث في ضلالتهم وكفرهم يتحيرون ويترددون.
[10.12]
قوله تعالى: { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما }؛ نزلت هذه الآية في هشام بن المغيرة المخزومي، ومعناه: إذا أصاب الإنسان الشدة والمرض دعانا لكشفه وهو مضطجع لما به من المرض أو قاعدا إذا هانت العلة، أو قائما إذا بقي أثر العلة، أو كان في شدة معيشة أو غيرها، { فلما كشفنا عنه ضره }؛ رفعنا ما كان به من الشدة استمر على الإعراض عن شكرنا ما أنعمنا عليه في كشف الضر عنه، { مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه }؛ قط؛ أي كأنه لم يمسه ضر، وكأن لم نكشف الضر عنه. قوله تعالى: { كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون }؛ في الشرك من الدعاء في الشدة، وترك الدعاء في الرخاء، فاغتروا بما زين لهم.
[10.13]
قوله تعالى: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا }؛ أي ولقد أهلكنا الأمم الماضية من قبلكم حين كفروا، { وجآءتهم رسلهم بالبينات }؛ بالدلالات الواضحات، { وما كانوا ليؤمنوا }؛ فيه بيان أن الله تعالى إنما أهلكهم؛ لأنه كان المعلوم من حالهم أنه لو أبقاهم أبدا لأدبروا ولم يؤمنوا، ولو كان في بقائهم صلاح لهم ولغيرهم لأبقاهم. وقوله تعالى: { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي هكذا نجزي القوم المشركين، نهلكهم كما أهلكنا الأولين.
[10.14]
قوله تعالى: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون }؛ أي ثم أسكناكم الأرض من بعد الأولين لنجازيكم على ما تعملون من الخير والشر، ونشاهد هل تعتبرون بما صنع بالأولين أم لا؟ وهذا على التهديد؛ أي إن عاملتكم مثل معاملتهم أهلكتكم كما أهلكتهم.
وإنما قال { لننظر }؛ لأنه سبحانه يعامل العبد معاملة المختبر الذي لا يعلم الشيء حتى يكون مظاهرة في العدل، وأنه إنما يجازي العباد على أعمالهم لا على علمه فيهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون "
، قال قتادة: (وذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: صدق ربنا ما جعلنا خلقا إلا لينظر إلى أعمالنا، فأدوا أعمالكم خيرا بالليل والنهار والسر والعلانية).
[10.15]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي }؛ معناه: وإذا قرئ على أهل مكة آياتنا المنزلة في القرآن، قال الذين لا يخشون عقابنا ولا يطمعون في ثوابنا ولا يقرون بالبعث: أئت يا محمد بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا ولا ذكر في البعث والنشور.
قوله تعالى: { أن أبدله } أي قالوا أو بدل هذه بغيره، قل يا محمد { ما يكون لي أن أبدله } أي ما يجوز وما ينبغي لي أن أغيره من قبل نفسي، ما أقول أو ما أعمل إلا ما يوحى إلي من القرآن، { إني أخاف }؛ أعلم، { إن عصيت ربي }؛ فبدلت القرآن أنه يكون علي، { عذاب يوم عظيم }.
[10.16]
قوله تعالى: { قل لو شآء الله ما تلوته عليكم }؛ أي قل يا محمد: لو شاء الله ما قرأت القرآن عليكم بأن كان لا ينزله علي، { ولا أدراكم به }؛ أي ولا أعلمكم الله به؛ أي لو شاء الله أن لا يشعركم، وفي قراءة الحسن (ولا أدراكم به) أي ولا أعلمكم به. وقوله تعالى: { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله }؛ أي ومكثت فيكم دهرا قبل إنزال القرآن، ولم أقل من هذا شيئا، فليس عليكم ذهن الإنسانية أنه ليس من تلقاء نفسي.
قوله تعالى: { أفلا تعقلون }؛ استفهام بمعن الإنكار له: أن الله خالق السماوات والأرض وهو عالم بما فيها، يعلم أن ليس فيهما إله ينفع ويضر غيره، فتخبرونه أنتم بشيء لا يعلمه، فيعلم بأخباركم، وهذا نفي للعلم، والمراد به نفي ما قالوه: من أن شفاعة الأصنام " تنفعهم ".
[10.17]
قوله تعالى: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أجد ممن اختلق على الله كذبا بأن جعل شريكا له أو ولدا إذا ادعى النبوة بغير حق، أو قال: أمرنا بعبادة الأصنام فنتقرب بعبادتها إليه. قوله تعالى: { أو كذب بآيته }؛ أي بأنبيائه ورسله وكتبه، وقوله تعالى: { إنه لا يفلح المجرمون }؛ أي لا يوصلهم إلى مرادهم.
[10.18]
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم }؛ أي وإن أهل مكة يعبدون من دون الله الأصنام التي لا يضرهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها، { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله }؛ فإنه الذي أذن لنا في عبادتها وأنه يستشفعها فينا، وأرادوا بذلك شفاعة الأصنام في مصالح دنياهم؛ لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث.
قوله تعالى: { قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموت ولا في الأرض }؛ هذا لا يكون أبدا. { سبحانه وتعالى عما يشركون }؛ أي تنزيها لله عن كل صفة لا تليق بذاته، وارتفع وتبرأ عما يشركون به من الأصنام والأوثان.
[10.19]
قوله تعالى: { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا }؛ اختلف الناس في المراد بهذه الآية، قال بعضهم: أراد بذلك أن الناس كانوا أمة واحدة في وقت آدم عليه السلام، ثم اختلفوا بأن كفر بعضهم بعضا، وأول من اختلف قابيل وهابيل. ويقال: أراد به الناس كلهم ولدوا على الفطرة، ثم اختلفوا بأن غير بعضهم الفطرة ولم يغير بعضهم، بل ثبت عليها.
وقال بعضهم: أراد بذلك أنهم كانوا أمة واحدة على عهد إبراهيم ونوح عليهما السلام كلهم كانوا كافرين، فتفرقوا بين مؤمن وكافر. ويقال: أراد بالناس هاهنا العرب، كانوا على الشرك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم اختلفوا بعده، فآمن بعضهم وكفر بعضهم . فالقول الأول أقرب إلى ظاهر الآية.
قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون }؛ لو كان لكم من الله سبق ببقاء التكليف على الناس أي وقت معلوم سواء أطاعوه أو عصوه لما علم من المصلحة لهم ولغيرهم في ذلك، لعجل لهم العذاب عند العصيان، فاضطرهم إلى معرفة الحق فيما اختلفوا فيه. وقرأ عيسى بن عمر (لقضى بينهم) بالفتح.
[10.20]
قوله تعالى: { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله }؛ أي يقول كفار مكة: هلا أنزل على محمد آية من ربه، يعنون الآية التي كانوا يقترحونها على سوى الآيات التي أنزل الله تعالى { فقل إنما الغيب لله } أي قل لهم يا محمد نزول الآيات لله تعالى لو علم الإصلاح في زيادة الآيات لأنزل. قوله تعالى: { فانتظروا }؛ أي فانتظروا عقاب الله بالقتل في الدنيا والنار في الآخرة، { إني معكم من المنتظرين }؛ بهلاككم بما أوعد الله تعالى.
[10.21]
قوله تعالى: { وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا }؛ معناه: إذا أعطينا الناس ما يسرون به من العافية والنعمة والرحمة المطر من بعد فقر وبلاء ومرض وقحط وشدة أصابتهم، إذا لهم مكر في آياتنا بالاحتيال في دفعها والتكذيب بها، كانوا لا يقولون: هو رزق الله ورحمته، و(إذا) تنوب عن جواب الشرط كما ينوب الفعل، والمعنى إذا مستهم راحة ورخاء بعد شدة وبلاء. وقيل: مطر بعد قحط إذا لهم كفر وتكذيب. قال مقاتل: (لا يقولون هذا رزق الله، وإنما يقولون: سقينا بنوء كذا) وهو قوله تعالى:
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون
[الواقعة: 82].
قوله تعالى: { قل الله أسرع مكرا } أي أسرع جزاء على المكر وأقدر على ذلك، يسمى الجزاء باسم المجزي عليه. وقيل: معناه: قل الله أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء. قوله تعالى: { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون }؛ أي الكرام الكاتبين، يكتبون ما تمكرون أنتم. قرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب (ما يمكرون) بالياء.
[10.22]
قوله تعالى: { هو الذي يسيركم في البر والبحر }؛ أي هو الذي يسهل عليكم السير ويحفظكم إذا سافرتم في البر على الدواب، وفي البحر على السفن، فالسير في البحر مضاف إلى الله على الحقيقة؛ لأن سير السفينة لا يكون بجري الماء، وبالريح للسفينة.
وأما السير في البر فإضافته إلى الله تعالى على معنى تسخير المركوب، وتسييره بإمساكه بقدرة الله تعالى أيضا. قرأ ابن عامر وأبو جعفر (ينشركم)، والسير من النشر؛ أي نبثكم في البر والبحر.
قوله تعالى: { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف }؛ أي حتى إذا كنتم في السفن، وقد يكون الفلك واحدا، وقد يكون جمعا، فمن جعله واحدا فجمعه أفلاك، ومن جعله جمعا فواحد فلك، كما يقال أسد وأسد.
وقوله تعالى: { وجرين بهم } أي السفن جرين بأهلها بريح لينة ساكنة، وفرحوا بسكون ريحها وأعجبوا، قال الزجاج: (ابتداء الكلام خطاب، وبعد ذلك إخبار عن معانيه؛ لأن مخاطبة الله لعباده لا تكون إلا على لسان الرسول، وذلك بمنزلة الإخبار عن الغائب).
قوله تعالى: { وجآءهم الموج من كل مكان }؛ أي ركوبهم الموج من كل جانب. وقوله تعالى: { وظنوا أنهم أحيط بهم }؛ أي أيقنوا أنه قد دنا هلاكهم، تقول العرب لكل من وقع في الهلاك، أو بلية عظيمة: أحيط بفلان؛ أي أحاط به الهلاك.
قوله تعالى: { دعوا الله مخلصين له الدين }؛ أي دعوا الله ليكشف ذلك عنهم، مخلصين له الاعتقاد، لا يدعون عند الشدة غيره، قال الحسن: (ليس هو إخلاص الإيمان، ولكنه لعلمهم بأنه لا ينجيهم من تلك الشدة إلا الله عز وجل). قوله تعالى: { لئن أنجيتنا من هذه }؛ أي من هذه الريح الشديدة والغرق، { لنكونن من الشاكرين }؛ لك على نعمائك.
[10.23]
قوله تعالى: { فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق }؛ فلما أنجاهم من البحر إذا هم يتطاولون على أنبياء الله وأوليائه، ويعملون بالمعاصي والفساد، والدعاء إلى غير عبادة الله. والبغي في اللغة: الترامي إلى الفساد، يقال: بغى الجرح بغيا إذا ترامى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فسدت.
قوله تعالى: { يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا } أي إنما ظلمكم وتطاولكم يعود ضرره عليكم، ويرجع وباله إليكم، وقوله تعالى: { متاع الحياة الدنيا } أي هو تمتع قليل في الدنيا، ومتاع يذهب ويفنى، ويجوز أن يكون قوله: { متاع الحياة الدنيا } خبر لقوله { إنما بغيكم على أنفسكم } أي لا يتهيأ لكم إلا أن يبغي على بعض في مدة يسيرة من الدنيا مع سرعة انقضائها، { ثم إلينا مرجعكم }؛ بعد الموت، { فننبئكم بما كنتم تعملون }؛ وقرأ حفص (متاع) بالنصب على المصدر.
[10.24]
قوله تعالى: { إنما مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الأرض }؛ معناه: إنما صفة حياة الناس الدنيا وهي الحياة الأولى، صفة ما أنزل الله فينبت به أنواع النبات، واختلط بعضه إلى بعض؛ لأن المطر يختلط بالنبات ويدخل في خلاله. قوله تعالى: { مما يأكل الناس والأنعام }؛ أي مما يصير إلى الناس من الحبوب والثمار، وبعضه علفا للدواب من العشب والكلإ.
قوله تعالى: { حتى إذآ أخذت الأرض زخرفها وازينت }؛ أي زينها من النبات، والزخرف: حسن الشيء، وقوله { وازينت } أي تزينت بنباتها وأثمارها من الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان التي لا غاية لها في الحسن بعدها.
قوله تعالى: { وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ }؛ حسب أهلها إدراك الانتفاع بها. قوله تعالى: { أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا }؛ أي أتاها عقابنا في ليل أو نهار، إما ببرد أو بصواعق محرقة أو غيرها، ويسمى العقاب أمرا؛ لأن أفعال الله سبحانه تضاف إليها بلفظ الأمر؛ لأن ذلك أدل على سرعة السكون من غير استبطاء ولا تعب.
قوله تعالى: { كأن لم تغن بالأمس }؛ أي كأن لم يكن بذلك المكان شيء من الخضر والحسن والنبات، والمغنى: هو الموضع الذي يقام فيه ويعمر، والمغاني: المنازل التي يعمرها الناس بالنزول بها، كما يقال غنينا بمكان كذا إذا نزاد به، ووجه تشبيه الحياة الدنيا بالمطر الذي ينزل فينبت به النبات، ثم يقضى فينقطع أنه كما لا يبقى من ذلك شيء من ذلك النبات، كذلك المتمسك بالدنيا أقوى ما ينتهي إليه أمر دنياه يأتيه الموت.
وقرأ ابن مسعود وتزينت، وقرأ أبو عثمان الشهدي والضحاك (وازانت) على وزن (احمارت)، وقرأ أبو رجاء والشعبي والحسن (وازينت) على مثال (افعلت) مقطوعة الألف ساكنة الزاي، قال قطرب معناه: (أتت بالزينة) كما يقال: اذكرت المرأة وأنثت إذا أتت بالذكور والإناث.
قوله تعالى: { كذلك نفصل الآيات }؛ أي كما فصلناكم، فكذلك نبين الآيات في القرآن، { لقوم يتفكرون }؛ في أمر الدنيا والآخرة، وإنما خص بذلك من يتفكر؛ لأن الغافل عن ذلك والمتغافل لا يكاد ينتفع بهذه الأمور، بل هو كالأنعام وأضل.
[10.25]
قوله تعالى: { والله يدعوا إلى دار السلام }؛ قال ابن عباس: (والله يدعو إلى عمل الجنة)، وقال: (الله السلام، وداره الجنة) { ويهدي من يشآء إلى صراط مستقيم }؛ أي يكرم من يشاء بالكرامة وبالهداية إلى دين القيم، قائم برضاء الله وهو الإسلام، ويقال: معنى دار السلام الدار التي يسلم أهلها عن الآفات والأمراض والهرم والموت، والسلام بمعنى كالرضاع والرضاعة.
[10.26]
قوله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة }؛ أي للذين أحسنوا العمل في الدنيا لهم الحسنى وهي الجنة ولذاتها. قوله تعالى: { وزيادة } روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال حين تلا هذه الآية: (أتدرون ما الزيادة؟ قالوا: ما هي يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى).
وعلى هذا القول حذيفة وأبو موسى وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعيد والحسن وعكرمة وأبو الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل، وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
" إذا دخل أهل الجنة نودوا: أن أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا لم تروه، فيقولون: وما هو؟! ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب وينظرون إليه عز وجل، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم منه ".
وقال ابن عباس: (للذين أحسنوا الحسنى؛ أي للذين شهدوا أن لا إله إلا الله الجنة)، وروى عطية: (أن الحسنى هي الواحدة من الحسنات بواحدة، والزيادة التضعيف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ).
وقيل: الحسنى النصرة، والزيادة النظر، قال الله تعالى:
وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة
[القيامة: 22-23]، وعن علي رضي الله عنه قال: (الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب)، ويقال: الزيادة رضا الرب، كما روي أن أهل الجنة يؤتون بالتحف والكرامات ويقول لهم رسول رب العزة (إن الله تعالى يقول لكم: قد رضيت عنكم فهل رضيتم عني؟).
قوله تعالى: { ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }؛ أي لا يعلو وجوههم ولا يلحقها سواد وهو كسوف الوجه (وذلة) أي ولا هوان ولا حزن، ولا يكون نعيم الجنة كنعيم الدنيا، ولا يشوبه التنغيص ولا التنكيد. والرهق في اللغة هو الرهوق ومنه قولهم للصبي إذا قارب البلوغ: مراهق؛ أي قارب أن يبلغ الاحتلام. والقتر: غبرة فيها سواد. وقرأ الحسن (قتر) بإسكان التاء، وهما لغتان. وباقي الآية ظاهر المعنى.
[10.27]
قوله تعالى: { والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها }؛ معناه: والذين أبوا طاعة الله في ما أمرهم به ونهاهم عنه، يجازيهم الله بما يستحقونه على العقوبة، ولا يجازيهم بأكثر من الاستحقاق، بخلاف الطاعة فإنه تعالى قد يتفضل على المطيع بزيادة الأجر، فإنه كان يجوز أن يتصل ابتداء بتلك الزيادة، والجزاء مرفوع بإضمار، كقوله
ففدية
[البقرة: 196] أي فعليه ذلك، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء خبر { بمثلها } أي مثل، الباء فيه زائدة.
قوله تعالى: { وترهقهم ذلة }؛ أي يعلوهم كآبة وكسوف وهوان؛ لأن العقاب لا يكون عقابا بمجرد الألم، وإنما يكون عقابا بما يقارنه بإرادة الإذلال والإهانة. قوله تعالى: { ما لهم من الله من عاصم }؛ أي ما لهم من حافظ يدفع عنهم عقاب الله. وقوله تعالى: { من عاصم } من هاهنا صلة.
وقوله: { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما }؛ أي كأنما ألبست وجوهم قطعا من الليل، أكثر القراءة على فتح الطاء وهو جمع قطعة، ويكون { مظلما } على هذه القراءة نصبا على الحال، والقطع دون النعت كأنه أراد قطعا من الليل المظلم، فلما حذف الألف واللام نصب على القطع. ويجوز أن يكون حالا؛ أي قطعا من الليل في حال الظلمة.
وقرأ ابن كثير والكسائي ويعقوب (قطعا) ساكنة الطاء؛ أي بعضا كقوله تعالى:
بقطع من اليل
[الحجر: 65] ويكون { مظلما } نعتا للقطع، وقوله تعالى: { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }؛ ظاهر المعنى.
قال ابن عباس رضي الله عنه: (نزلت هذه الآية في أهل الشرك). وقوله: { جزآء سيئة بمثلها } أي قصاص الشرك بالله النار، ليس في النار زيادة على جزاء المثل، إذ لا ذنب أعظم من الشرك، ولا عقاب أشد من النار، كما قال تعالى:
جزآء وفاقا
[النبأ: 26]. وقال صلى الله عليه وسلم:
" أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم إلى يوم القيامة، وإن لونها أشد سوادا من القبر في عينين خضراوين، وأهلها سود، فكذلك طعامها وشرابها، والذي نفس محمد بيده، لو اطلع رجل من أهلها على الأرض لاسودت بها الأرض من شدة سواده ".
[10.28-29]
قوله تعالى: { ويوم نحشرهم جميعا }؛ أي يوم نجمعهم جميعا من قبورهم إلى المحشر للفصل بينهم. ونحشر في اللغة: جمع الحيوان من كل مكان. قوله تعالى: { ثم نقول للذين أشركوا }؛ أي نقول للذين أشركوا في عبادتهم مع الله غيره، وأشركوا في أموالهم كما أخبر الله عنهم بقوله
هذا لله بزعمهم وهذا لشركآئنا
[الأنعام: 136].
وقوله تعالى: { مكانكم أنتم وشركآؤكم }؛ أي يقال لهم: قفوا أنتم وآلهتكم، وهذه كلمة تهديد، كما يقال للغير: مكانك؛ أي الزم مكانك حتى تنتظر ماذا حل بك بسوء صنيعك، وحتى نفصل بينك وبين خصمك.
قوله تعالى: { فزيلنا بينهم }؛ أي ففرقنا بين الكفار وبين آلهتهم في القول بالاختلاف الذي يكون بينهم، وليس هذا من الإزالة ولكنه من قولك: أزلت الشيء عن مكانه أزله أزيلا، والترسل الكثيرة من هذا الباب، والمزايلة المفارقة.
قوله تعالى: { وقال شركآؤهم ما كنتم إيانا تعبدون }؛ معناه: إن الله يسأل الأصنام التي عبدوها: هل أمرتم هؤلاء بعبادتكم؟ فيقولون للذين كانوا يعبدونها ردا عليهم: { ما كنتم إيانا تعبدون } بأمرنا ولم نعلم بعبادتكم، ولم يكن فينا روح فنفعل بعبادتكم، فيقول الكفار: بلى قد عبدناكم، وأمرتمونا فأطعناكم، فتقول الأصنام، كما قال تعالى: { فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم }؛ أي كفى بالله فاصلا للحكم بيننا وبينكم، { إن كنا عن عبادتكم لغافلين }؛ لا نعلم شيئا من ذلك. والفائدة في اختصار الأصنام أن يظهر الله للمشركين ضعف معبودهم، وليزيدهم ذلك حسرة على عبادتهم.
[10.30]
قوله تعالى: { هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت }؛ من قرأ (يبلو) بالياء فالمعنى فنخبر كل نفس ما قدمت من خير أو شر، ومن قرأ (تبلو) بالتاء فالمعنى تقرأ كل " نفس " كتاب عملها. ويجوز أن يكون معناه: تتبع كل نفس جزاء عملها، و { هنالك } من الظروف، أصله هناك، واللام زائدة والكاف للمخاطبة، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف.
وقوله تعالى: { وردوا إلى الله مولاهم الحق }؛ أي ردوا إلى جزاء الله وإلى الموضع الذي لا يملك الحكم فيه أحد إلا الله، والحق هو الذي يكون معنى اللفظ حاصلا فيه على الحقيقة، والله تعالى حق لأن الإلهية حاصلة له على الحقيقة؛ لاقتداره على جميع الأشياء. قوله تعالى: { وضل عنهم ما كانوا يفترون }؛ وبطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب بالأصنام أنها آلهة وأنها تشفع عند الله.
[10.31]
قوله تعالى: { قل من يرزقكم من السمآء }؛ أي قل لكفار مكة: من يرزقكم من السماء المطر؛ ومن { والأرض }؛ النبات والثمار، { أمن يملك } يقدر على أن يخلق لكم، { السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت }؛ أي من يخرج الحي من النطفة، { ويخرج الميت من الحي }؛ أي من يخرج النطفة من الحي، والفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ، والسنبلة من الحبة، والحبة من السنبلة، { ومن يدبر الأمر }؛ أمر العباد على وجه الحكمة، { فسيقولون الله }؛ فيعرفون بالله تعالى هو الذي يفعل هذه الأشياء، وأن الأصنام لا تقدر على شيء من هذا، { فقل أفلا تتقون }؛ فقل لهم يا محمد: أفلا تخافون من عقاب الله، ولم تعبدون الأصنام.
[10.32]
قوله تعالى: { فذلكم الله ربكم الحق }؛ الذي يرزقكم من السماء والأرض، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر، وهو ربكم الحق دون الأصنام الباطلة. قوله تعالى: { فماذا بعد الحق إلا الضلال }؛ أي فما يردكم عن عبادة الله وهو الحق إلى عبادة الأصنام الباطلة إلا الضلال، ومن أين { فأنى تصرفون }؛ عن الإيمان بالله وإخلاص الطاعة له بعد المعرفة.
[10.33]
قوله تعالى: { كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون } أي كما وجبت كلمة العذاب فيهم، وجب على كل من تمرد بالكفر، وقوله: { أنهم لا يؤمنون } يجري مجرى التعليل، كأنه قال بإصرارهم على الكفر؛ لأنه كلما كان تمردهم أكثر، كانوا في الكفر أشد ضلالة، وإلا فقد آمن كثير من الكفار، وقال ابن عباس: (وجبت كلمة العذاب عليهم وهم في صلب آدم عليه السلام).
[10.34]
قوله تعالى: { قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده }؛ أي قل لهم يا محمد: هل من شركائكم الذين أشركتم مع الله في العبادة من ينشئ الخلق من النطفة بعد أن لم يكن، ويجعل فيه الروح؟ قوله تعالى: { ثم يعيده } فيه اختصار؛ لأن الإعادة رد الشيء إلى الحالة الأولى، ولا يكون ذلك إلا بعد فناء، فيكون تقدير الآية: من يبدأ الخلق من النطفة، ثم يفنيه، ثم يعيده في الآخرة. { قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون }؛ أي من أين تصرفون عن الإيمان بالله وإخلاص الطاعة له.
[10.35]
قوله تعالى: { قل هل من شركآئكم من يهدي إلى الحق }؛ أي قل هل من آلهتكم من يهتدي إلى الرشد، وما فيه صلاح لهم، { قل الله يهدي للحق }؛ أي الرشاد وما فيه صلاح الإنسان، يقال: هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد.
وقوله تعالى: { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } معناه: أفمن يدعو إلى عمل الحق أحق أن يطاع ويعمل بأمره، أمن لا يهتدي طريقا إلا أن يحمل فيذهب به حيث يراد، يعني الأصنام، كأنه قال: إن " الأصنام " التي يعبدونها من دون الله لا تهتدي بأنفسها إلا أن يهدى بها عند غيرها.
واختلف القراء في قوله: { أمن لا يهدي } ، وأجودها قراءتان: (يهدي) فتح الهاء، و(يهدي) بكسر الهاء، والأصل في ذلك يهتدي أدغمت التاء في الدال، وطرح فتحها على الهاء، وكسرت الهاء لالتقاء الساكنين.
قوله تعالى: { فما لكم كيف تحكمون }؛ معناه: أي شيء لكم في عبادة الأوثان؟ فيكف تقضون لأنفسكم، فتعبدون من لا يستحق العبادة؟
[10.36]
قوله تعالى: { وما يتبع أكثرهم إلا ظنا }؛ أي ما يعبد أكثرهم الأصنام إلا تقليدا لآبائهم وقبائلهم بظن يظنونه في غير يقين، يعني أن رؤساءهم قالت لهم: إن الأصنام تشفع لهم عند الله، وأما السفلة فلا يعلمون إلا ما قالت رؤساؤهم.
وقوله تعالى: { إن الظن لا يغني من الحق شيئا }؛ أي إن الظن في موضع يمكن الوقوف فيه على العلم لا يغني عن الحق شيئا؛ لأنه لا يكون ذلك بمنزلة من عرف شيئا باليقين ثم ترك ما عرف بالظن، فإن علمه بالظن لا يغني عن عمل الحق شيئا، وعبادة الصنم بالظن لا تغني من عذاب الله شيئا. قوله تعالى: { إن الله عليم بما يفعلون }؛ وعيد لهم على كفرهم.
[10.37]
قوله تعالى: { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله }؛ هذا جواب عن دعواهم على النبي صلى الله عليه وسلم الافتراء على الله وقولهم: إئت بقرآن غير هذا أو بدله، معناه: إن القرآن كلام الله في أعلا طبقات البلاغة بحسن النظام، فليس هذا مما يقدر أحد أن يفتريه على الله، { ولكن تصديق }؛ الكتب المنزلة، { الذي بين يديه } ، من التوراة والإنجيل والزبور؛ لمجيئه شاهدا لها بالصدق، وبكونه مصادقا بما تضمنته تلك الكتب من البشارة.
ويجوز أن يكون معنى التصديق لما { بين يديه } أي التصديق بما بين يدي القرآن من البعث والنشور والحساب. قوله تعالى: { وتفصيل الكتاب }؛ معناه: وتبيين المعاني المختلفة من الحلال والحرام والأمر والنهي، { لا ريب فيه }؛ أي لا شك فيه أنه حق، { من رب العالمين }.
[10.38-39]
قوله تعالى: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله }؛ معناه: بل يقولون: إن محمدا اختلق هذا القرآن من تلقاء نفسه! قل يا محمد: إن كان هو اختلقه فأتوا بسورة من مثل " سور " القرآن، فإنما قال ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم وتعلم اللغة منهم، فإذا لم يأتوا مع حرصهم على تكذيبه وإبطال أمره، دل أن مثله غير مقدور للبشر. ومعنى الآية: فلو قدر هو على افتراء القرآن لقدرتم أنتم على الإتيان بسورة مثله.
قوله تعالى: { وادعوا من استطعتم من دون الله }؛ أي استعينوا على الإتيان بسورة مثل القرآن بكل من قدرتم عليه، { إن كنتم صادقين }؛ أن محمدا اختلقه من تلقاء نفسه، فإن العادة لم تجر بأن يستبد إنسان بالافتراء على كلام لا يقدر أحد أن يأتي بمثله.
فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية فلم يجيبوا، فأنزل الله:
قوله تعالى: { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه }؛ أي بل كذبوا بما لم يدركوا من كيفية ترتيبه ونظمه، وما فيه من الجنة والنار والبعث والقيامة والثواب والعقاب، { ولما يأتهم تأويله }؛ أي ولم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب مما يؤول إليه أمرهم من العقوبة والعذاب على التكذيب.
قوله تعالى: { كذلك كذب الذين من قبلهم }؛ أنبياءهم من البعث، { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين }؛ يعني أن عاقبتهم العذاب والهلاك بتكذيبهم، كذلك يكون عاقبة هؤلاء.
[10.40]
قوله تعالى: { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به }؛ قال ابن عباس: (يعني ومن اليهود من يؤمن بالقرآن في المستقبل، ومنهم من يصر على كفره فلا يؤمن به)، { وربك أعلم بالمفسدين }؛ باليهود من يؤمن ومن لا يؤمن، وقال مقاتل: (نزلت في أهل مكة). وقيل: في الآية إشارة إلى أنه لولا أن الله تعالى علم أن منهم من سيؤمن في المستقبل لأهلكهم جميعا في الحال.
[10.41]
قوله تعالى: { وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم }؛ أي إن كذبك قومك في ما أتيتهم به فقل: لي جزاء عملي، ولكم جزاء أعمالكم، { أنتم بريئون ممآ أعمل }؛ من جزاء عملي، { وأنا بريء مما تعملون }؛ من جزاء أعمالكم، وكان هذا القول مع النبي صلى الله عليه وسلم على جهة حسن العشرة معهم لا لأنه كان شاكا في جزاء عمله وجزاء عملهم، وقال الكلبي ومقاتل: (هذه الآية منسوخة بآية الجهاد).
[10.42]
قوله تعالى: { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون }؛ قال ابن عباس: (نزلت في يهود المدينة، كانوا يبلغون مكة فيأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألونه ويستمعون قراءته فيعجبهم ذلك ويشتهونه؛ ثم تغلب عليهم الشقاوة فلا يؤمنون به). والمعنى: ومنهم من يستمع إليك وهو في المعنى كأنه متفكر في ما تقول وهو غير متفكر فيه.
[10.43]
قوله تعالى: { ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون }؛ نظر من هو في الظاهر مستمع إلى كلامك، وطالب الانتفاع به، وليس في الحقيقة كذلك، قوله:
أفأنت تسمع الصم
[يونس: 42] أي كما لا يقدر أن يسمع كلامك الصم، فكذلك لا يقدر على أن ينتفع من كلامك غير طالب الانتفاع به، وكما أنك لا تقدر على أن تبصر العمي، فكذلك لا تقدر على أن تنفع بما يأتي من الأدلة من ينظر ولا يطلب الانتفاع بها. وفي الآية ما يدل على تفضيل السمع على البصر؛ لأنه تعالى ذكر مع الصم فقدان العقل، ولم يذكر مع العمى إلا فقدان البصر.
[10.44]
قوله تعالى: { إن الله لا يظلم الناس شيئا }؛ أي لا ينقص من حسناتهم، ولا يزيد في سيئاتهم ما يمنعهم الانتفاع بكلامه وأدلته، { ولكن الناس أنفسهم يظلمون }؛ بأن لا يطلبوا الانتفاع به ويعرضوا عن التفكر فيه، أخبر الله في هذه الآية أن تقدير الشقاوة عليهم لم يكن ظلما منه؛ لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، وهم إذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم؛ لأن الفعل منسوب إليهم وإن كان القضاء من الله عز وجل.
[10.45]
قوله تعالى: { ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم }؛ أي ويوم يجمعهم في الموقف كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من النهار، وفي هذا بيان أن المكث في الدنيا وإن طال، كان في جنب الآخرة بمنزلة ساعة من النهار. قوله تعالى: { يتعارفون بينهم } أي يعرف بعضهم بعضا، ويكون في معرفة بعضهم لبعض حسرة على من ضل بقيام الحجة عليهم.
وقال ابن عباس: (وذلك حين يخرجون من قبورهم ثم تنقطع المعرفة)، وقيل: معناه: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من نهارهم، وقال الضحاك: (قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم، فصار كالساعة من النهار لهول ما استقبلوا من آخر البعث والقيامة، يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضا، يقول كل كافر لآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وأنت أورثتني دخول النار بما علمتني وزينته لي). قوله تعالى: { قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله }؛ أي غبن الذين كذبوا بالبعث بعد الموت بذهاب الدنيا والآخرة عنهم، { وما كانوا مهتدين }.
[10.46]
قوله تعالى: { وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم }؛ في الآية وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن ينتقم له منهم، منه في حياته أو بعد مماته، قال المفسرون: كانت وقعة بدر مما أراه الله في حال حياته مما أوعد المشركين من العذاب { أو نتوفينك } قبل أن نريك، { فإلينا مرجعهم } بعد الموت فيجزيهم بأعمالهم.
قال الزجاج: (أعلم الله أنه إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم منهم في الآجل). وقوله تعالى: { فإلينا مرجعهم } أي لا يفوتوننا ولا يعجزوننا. وعن ابن عباس قال:
" نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: إن ربي أمرني أن لا أفارقك اليوم حتى ترضى، فهل رضيت؟ قال: " نعم؛ أراني بعض ما أوعدهم فله الحمد على ذلك " "
وقوله تعالى: { ثم الله شهيد على ما يفعلون }؛ من محاربتك وتكذيبك.
[10.47]
قوله تعالى: { ولكل أمة رسول }؛ أي لكل أمة من الأمم رسول يدعوهم إلى ما أمرهم الله به ونهاهم عنه، ويبشرهم بالجنة ويخوفهم بالنار، { فإذا جآء رسولهم } يوم القيامة شاهد عليهم بأعمالهم { قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون }؛ بالعدل فيوفى كل إنسان جزاء عمله لا ينقص من ثواب محسن، ولا يزاد على عقاب مسيء.
كما روي في الخبر:
" أن الله تعالى يقول للأمم المكذبة يوم القيامة: ألم يأتكم رسلي بكتابي فيه حلالي وحرامي؟ فيقولون: ما أتانا رسول ولا كتاب! ثم يؤتى بالرسول الذي أرسل إليهم فيقول: بل يا رب قد أبلغتهم كتابك ورسالتك. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول الملائكة: نحن نشهد قد أبلغهم رسالتك وكتابك، فيقولون: يا ربنا هؤلاء خلقك يشهدون لك بما شئت! فيختم الله على ألسنتهم ويأذن لجوارحهم في الكلام، فيشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ".
[10.48]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }؛ أي يقول الكفار: وقت لنا وقتا بمجيء هذا الوعد الذي وعدتنا به من العذاب إن كنت من الصادقين أن العذاب ينزل بنا.
[10.49]
قوله تعالى: { قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله }؛ أي قل يا محمد: لا أقدر لنفسي على دفع ضر وجر نفع إلا ما شاء الله أن يقدر لي عليه، فكيف أقدر لكم. { لكل أمة أجل }؛ أي وقت مضروب، { إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }؛ بعد الأجل ولا يتقدمون.
[10.50]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون }؛ أي قل لهم يا محمد: إن أتاكم عذاب الله ليلا أو نهارا ما الذي يستعجل من العذاب المشركون، أي كيف يصنعون وكيف يقبل منكم إيمانكم وهو إيمان الإنجاء إذا نزل بهم العذاب.
[10.51-52]
قوله تعالى: { أثم إذا ما وقع آمنتم به }؛ الألف في أول هذه الآية ألف استفهام، ذكرت على جهة الإنكار، والمعنى إذا نزل عليكم العذاب آمنتم به؟ قالوا: نعم، قل لهم يا محمد: { الآن }؛ تؤمنون { وقد كنتم به تستعجلون }؛ وهو العذاب الدائم الذي لا ينقطع، { ثم قيل }؛ أي يقولون، { للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون }؛ أي تعملون في الدنيا.
[10.53]
قوله تعالى: { ويستنبئونك أحق هو }؛ ويستخبرونك يا محمد: أحق ما تعدنا من العذاب والبعث بعد الموت؟ { قل }؛ نعم وأحلف عليه { إي وربي إنه لحق }؛ إنه صدق وكائن، { ومآ أنتم بمعجزين }؛ الله عن إحلال العذاب بكم، ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى { أحق } هو دين الإسلام؟ قال الزجاج: (معنى قوله: (أي وربي): نعم إنه لحق ؛ أي إن العذاب نازل بكم).
[10.54]
قوله تعالى: { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب }؛ أي لو أن كل إنسان ظالم كان له ما في الأرض جميعا لافتدى به من عذاب الله، ثم لا ينفعه ذلك ولا يقبل منه. قوله تعالى: { وأسروا الندامة } أي أسر القادة الندامة عن الأتباع حين رأوا العذاب، والمعنى: أخفى الرؤساء في الكفر الندامة عن الذين أضلوهم وستروها عنهم، هذا قول عامة المفسرين.
وقال أبو عبيد: (الإسرار من الأضداد، يقال: أسررت الشيء إذا أخفيته، وأسررته إذا أعلنته) قال: (من الإعلان قوله تعالى: { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } أي أظهروها). قيل: معناه: وأخلصوا الندامة، والإسرار الإخلاص. قوله تعالى: { وقضي بينهم بالقسط }؛ أي قضي بين الخلائق كلهم بالعدل، { وهم لا يظلمون }؛ بأن لا يزاد على عذاب المسيء على قدره المستحق.
[10.55-56]
قوله تعالى: { ألا إن لله ما في السماوات والأرض }؛ لا يقدر أحد على منعه من إحلال العقاب بمملوكه، { ألا إن وعد الله حق }؛ بإحلال العقاب بالمجرمين، { ولكن أكثرهم لا يعلمون * هو يحيي ويميت وإليه ترجعون }.
[10.57]
قوله تعالى: { يأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما في الصدور }؛ يعني قريشا، والموعظة القرآن، والمواعظة التي تدعو إلى الصلاح، { وشفآء لما في الصدور } أي دواء لذوي الجهل، والقرآن مزيل للجهل وكاشف لعماء القلوب، { وهدى }؛ وبيان من الضلالة، { ورحمة للمؤمنين }؛ أي ونعمة من الله لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الموعظة الإيابة بما يدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة. ومعنى الشفاء ما يجده من يستدل إعجاز القرآن من الروح بزوال الشرك والتشبيه، وهو شرح الصدر الذي ذكره الله بقوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه
[الزمر: 22]. ومعنى (الهدى) بيان الشرائع من الحلال والحرام والفرض والندب والإيابة. وأما الرحمة فهي الإنعام على المحتاج بدليل أن ملكا لو أهدى إلى ملك لم يكن له منه رحمة عليه، وأما تخصيص المؤمنين بالرحمة؛ فلأنهم هم الذين ينتفعون بنعم الدين.
[10.58]
قوله تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا }؛ قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة: (فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن) وهذا قول عامة المفسرين. وعن أبي سعيد الخدري قال في معنى هذه الآية: (فضل الله القرآن، ورحمته جعلكم من أهله) والمعنى: قل يا محمد لأصحابك: بالقرآن الذي أكرمك الله به والإسلام الذي وفقكم له فافرحوا، { هو خير مما يجمعون } يجمع اليهود والمشركون من الأموال.
وقرأ بعضهم (فلتفرحوا) و(تجمعون) كلاهما بالتاء المخاطبة. وعن محمد بن كعب القرظي قال: (إذا عملت عملا رجاء ثواب الله فافرح، فإنه خير لك مما يجمع أهل الدنيا).
[10.59-60]
قوله تعالى: { قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: أرأيتم ما أنزل الله لكم في الكتاب من رزق جعله لكم حلالا طيبا من الأنعام والحرث، { فجعلتم منه حراما وحلالا }؛ أي جعلتم البحائر والسوائب حلالا للرجال منفعة، وحراما على النساء، وجعلتم لآلهتكم من الحرث نصيبا فحرمتموه على النساء، وأحللتموه للرجال، والله سبحانه لم يحرم شيئا من ذلك، { قل }؛ لهم يا محمد: { ءآلله أذن لكم }؛ أمركم بتحريمه، { أم على الله تفترون }؛ تختلقون الكذب، يعني: بينوا الحجة في ذلك، وإلا فأنتم تفترون على ربكم.
ثم أوعدهم على الكذب فقال: { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة }؛ أي ما ظن الذين يكذبون على الله في التحليل والتحريم ماذا يفعل بهم يوم القيامة، أتظنون أن الله لا يعاقبهم على افترائهم عليه؟ قوله تعالى: { إن الله لذو فضل على الناس }؛ أي لذو من عليهم بتأخير العذاب عنهم، { ولكن أكثرهم لا يشكرون }؛ نعم الله.
[10.61]
قوله تعالى: { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه }؛ أي وما تكون في أمر من الأمور، وقال الحسن: (من شأن الدنيا وحوائجك فيها، وما تتلوا منه، أي من الله نازل منه من قرآن يوحى إليك من سورة أو آية تقرأ على أمتك).
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته داخلون فيه؛ لأن خطاب الرئيس خطاب له ولأتباعه، يدل على ذلك قوله: { ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا } أي ما تعملون أنتم جميعا يا بني آدم عامة ويا أمة محمد من خير أو شر، إلا كنا على أمركم وتلاوتكم وعملكم شهودا إذ تدخلون فيه. قال الفراء: (معناه يقول: الله تعالى شاهد على كل شيء) والمعنى ألا يعلمه فيجازيكم به. والإفاضة الدخول في العمل، وقال ابن الأنباري: (إذ تندفعون فيه) وقال ابن عباس: (إذ تأخذون فيه).
قوله تعالى: { وما يعزب عن ربك }؛ أي ما يغيب وما يبعد، { من مثقال ذرة } ، من وزن نملة حميراء صغيرة من أعمال العباد، { في الأرض ولا في السمآء ولا أصغر من ذلك } ولا أخف من الوزن من الذرة، { ولا أكبر } ، ولا أثقل منه، { إلا في كتاب مبين } ، إلا وهو مع علم الله تعالى ومكتوب في اللوح المحفوظ. والعزوب البعد والذهاب، ويعزب بضم الزاي وكسرها لغتان. قوله تعالى: { مثقال ذرة } أي وزن ذرة، ومثقال الشيء ما وازنه.
قال الفراء: (من نصب قوله تعالى: { أصغر } و { أكبر } فإنما أراد الخفض يتبعهما المثقال والذرة، إلا أنهما لا ينصرفان؛ لأنهما على وزن أفعل اتباع معنى المثقال؛ لأنك لو لقيت من المثقال من كان رفعا وهو كقوله: ما أتاني من أحد عاقل وعاقل، وكذلك: ما لكم من إله غيره وغيره).
وقيل: رفع على الابتداء، وخبره { إلا في كتاب } فمن قرأ (ولا أصغر ولا أكبر) بالنصب فالمعنى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. ومن رفع المعنى: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة، ولا أصغر ولا أكبر.
[10.62-63]
قوله تعالى: { ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } معناه: ألا إن أولياء الله تولاهم الله بحفظه وحياطته، لا خوف عليهم يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما اختلفوا في الدنيا، وقوله تعالى: { الذين آمنوا وكانوا يتقون }؛ تفسير أولياء الله؛ أي الذين يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ويتقون الشرك والفواحش، وعن رسول لله صلى الله عليه وسلم :
" أنه سئل عن أولياء الله فقال: " هم المتحابون في الله " "
، وعنه صلى الله عليه وسلم قال:
" هم الذين إذا رؤوا ذكر الله "
يعني إذا رآهم العامة ذكر من أجل سيماهم في وجوههم.
وسئل عيسى عليه السلام عنهم فقال: (هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، ونظروا إلى آجلها حين نظر الناس إلى عاجلها، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره).
[10.64]
قوله: { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة }؛ معناه: لهم البشرى في الحياة بالقرآن، وفي الآخرة بالجنة. ويقال: أراد بالبشرى في الدنيا بشارة الملائكة
ألا تخافوا ولا تحزنوا...
[فصلت: 30] الآية.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " لم يبق من النبوة بعدي إلا المبشرات " قيل: وما المبشرات؟ قال عليه السلام: " الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح لنفسه " وقرأ له: " وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، فمن أري ذلك فليخبر بها " ".
قوله تعالى: { لا تبديل لكلمات الله }؛ أي لا خلف في وعد الله، وقوله تعالى: { ذلك هو الفوز العظيم }؛ أي ذلكم الذي وعدكم الله هو الثواب الوافر والنجاة الوافرة.
[10.65]
قوله تعالى: { ولا يحزنك قولهم }؛ أي لا يحزنك يا محمد تكذيبهم إياك وتهديدهم لك بالقتل، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على كفرهم وتكذيبهم ونسبتهم له إلى الافتراء على ربه، وقوله تعالى: { إن العزة لله جميعا }؛ استئناف كلام، ولذلك كسرت (إن)، والمعنى: فإن القوة لله جميعا يمنعهم عنك بعزته، ولا يتعذر أحد الا بإذنه وهو ناصرك وناصر دينك، و { هو السميع }؛ لمقالة الكفار { العليم }؛ بضمائرهم. ولا يجوز أن يقرأ (أن العزة) بالنصب لاستحالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحزنه قول الكفار بأن العزة لله جميعا.
[10.66]
قوله تعالى: { ألا إن لله من في السموت ومن في الأرض }؛ أي له من فيهما من الخلق على من لا يعقل. قوله تعالى: { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء }؛ أي ما يتبعون شركاء على الحقيقة والمعرفة، { إن يتبعون إلا الظن }؛ أي ما يدعونهم إلا بالظن بتقليد آبائهم وقول بعضهم:
ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى
[الزمر: 3] ويظنون أنها تشفع لهم يوم القيامة. قوله تعالى: { وإن هم إلا يخرصون }؛ أي ما هم إلا يكذبون في قولهم إنها تشفع لهم عند الله.
[10.67]
قوله: { هو الذي جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا }؛ أي هو الذي جعل لكم الليل لتناموا فيه وتستريحوا عما لحقكم من النصب بالنهار، وخلق النهار مضيئا للذهاب والمجيء وطلب المعيشة، وسماه مبصرا؛ لأنه يبصر فيه كما قال رؤبة: (قد نام ليلي، وتجلى همي). قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات }؛ أي في ذلك للدلالات، { لقوم يسمعون }؛ دلائل الله، ويتفكرون فيها.
[10.68]
قوله تعالى: { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه }؛ أي قال الكفار: اتخذ الله ولدا، فإن المشركين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، سبحانه وتعالى؛ أي تنزيها له عن الولد، والشريك، { هو الغني } ، هو غني عن اتخاذ الولد.
قوله تعالى: { له ما في السموت وما في الأرض }؛ معناه: إن من كان له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فما حاجته الى اتخاذ الولد؟! وإنما يتخذ الولد ذو الضعف ليتقوى به، ويستعين به على بعض أموره، وذو الوحشة ليستأنس به، ومن يخاف الموت على نفسه، فيتخذ الولد ليخلفه في أملاكه بعد موته، والله تعالى لا يجوز عليه السرور ولا المنافع والمصارف، ولا يلحقه الموت، فهو غني عن اتخاذ الولد.
ثم طالب الكفار بالحجة والبرهان، فقال عز وجل: { إن عندكم من سلطان بهذآ }؛ أي ما عندكم من حجة وبرهان على هذا القول، ثم أنكر عليهم ذلك تبكيتا لهم فقال تعالى: { أتقولون على الله ما لا تعلمون }؛ وهذا على حجة الإنكار والرد عليهم؛ أي لم تقولون على الله ما لا علم لكم به ولا حجة لكم عليه.
[10.69-70]
قوله تعالى: { قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } أي قل يا محمد إن الذين يختلقون كذبا؛ يكذبون به على الله تعالى لا يفلحون في الدنيا بالحجة ولا بالآخرة في الثواب، ولا يسعدون في العاقبة وإن اغتروا بطول السلامة. قوله تعالى: { متاع في الدنيا }؛ رفع على معنى ذلك متاع في الدنيا يتمتعون به قليلا ثم ينقضي. وقيل: لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أياما يسيرة، { ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد }؛ الغليظ الذي لا ينقطع، { بما كانوا يكفرون } ، أي بكفرهم بالله ورسوله.
[10.71]
قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ نوح }؛ أي إقرأ عليهم خبر نوح، { إذ قال لقومه يقوم إن كان كبر عليكم }؛ ثقل عليكم وعظم، { مقامي }؛ ومكثي فيكم، { وتذكيري }؛ وعظتي لكم { بآيات الله فعلى الله توكلت }؛ به وثقت وإليه فوضت أمري، وذلك حين قالوا له:
لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين
[الشعراء: 116].
قوله تعالى: { فأجمعوا أمركم وشركآءكم }؛ أي اعزموا على أمركم مع شركائكم. وقيل: معناه: فاعزموا على أمركم، وادعوا لآلهتكم واستعينوا بهم، وأجمعوا على أمر واحد. ومن قرأ (فاجمعوا) بنصب الميم فهو من الجمع.
قوله تعالى: { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة }؛ أي يكن أمركم عليكم ظاهرا منكشفا لا يستره شيء. والغمة مأخوذة من الغمامة، ويقال الغمة الغم؛ أي لا يكون أمركم غما عليكم وفرجوا عن أنفسكم، { ثم اقضوا إلي ولا تنظرون }؛ أي امضوا بما تقصدون من القتل ولا تمهلون.
قال الزجاج: (الواو في قوله { وشركآءكم } بمعنى مع) والمعنى فاجمعوا أمركم مع شركائكم ثم لا يكون أمركم عليكم مبهما، يعني ليكن أمركم ظاهرا منكشفا لا تسترون معاداتي، ثم امضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به. معنى قضاء الشيء امضاؤه والفراغ منه، وهذا أحد معجزات نوح عليه السلام؛ لأنه كان وحيدا، وقد قرعهم بالعجز عن الوصول اليه وإلى قتله، فلم يقدروا عليه بسوء.
[10.72]
قوله تعالى: { فإن توليتم فما سألتكم من أجر }؛ معناه: فإن أعرضتم عن الإيمان بما جئتكم به لم يضرني إعراضكم، فإني لا أطلب منكم أجرا ولا أدعوكم إلى الإيمان لمطمع مني في مالكم، وما دعاني فيما أدعوكم عليه إلا الإيمان بالله، { إن أجري إلا على الله وأمرت }؛ أي وقد أمرني، { أن أكون من }؛ أي مع؛ { المسلمين }؛ على دينهم.
[10.73]
قوله تعالى: { فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك }؛ أي فنجيناه ومن معه من المؤمنين من الغرق في السفينة، { وجعلناهم خلائف }؛ أي جعل الله الذين نجوا مع نوح عليه السلام من الغرق خلفا ومكانا في الأرض من قوم أهلكوا بالتكذيب كما قال تعالى:
وجعلنا ذريته هم الباقين
[الصافات: 77] وذلك أن الناس كانوا من ذريته بعد الغرق، وهلك أهل الأرض جميعا بتكذيبهم لنوح.
قوله تعالى: { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا }؛ أي بدلالتها حسا، { فانظر }؛ يا محمد، { كيف كان عاقبة المنذرين }؛ أي كيف صار آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا، وهذا تهديد لقوم النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيبه حتى لا ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم كما صبر نوح عليه السلام على أذى الكفار مع قلة من معه من المؤمنين.
[10.74-77]
قوله تعالى: { ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم }؛ أي ثم بعثنا من بعد نوح رسلا مثل هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم إلى قومهم، { فجآءوهم بالبينت }؛ بالحجج والبراهين، { فما كانوا ليؤمنوا }؛ ليصدقوا، { بما كذبوا به }؛ في الابتداء، والمعنى: فما كان الذين بعث إليهم الرسل ليؤمنوا بما كذبوا، { من قبل }؛ يعني قوم نوح عليه السلام؛ أي لم يصدقوا به، كما كذب قوم نوح، وكانوا مثلهم في الكفر والعنف، قوله: { كذلك نطبع على قلوب المعتدين }؛ قال ابن عباس: (يريد الله تعالى طبع على قلوبهم فأعماها فلا يبصرون سبيل الهدى). وما بعدها من الآيات:
ظاهر التفسير: { ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملإيه بآيتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون }.
[10.78]
قوله تعالى: { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا }؛ أي قالوا لموسى عليه السلام: أجئتنا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا، واللفت هو الصرف. قوله تعالى: { وتكون لكما الكبريآء في الأرض }؛ أي ويكون لك ولهارون السلطان والملك والشرف في أرض مصر، { وما نحن لكما بمؤمنين }؛ أي بمصدقين. وإنما سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، والكبرياء استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب، فلهذا لا يجوز أن يوصف به أحد غير الله.
[10.79-80]
قوله تعالى: { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم }؛ أي بكل حاذق بالسحر، { فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون } قال هذا لهم على وجه التعجيز لهم، إنكم لا تقدرون على إبطال أمري، فيكون هذا أمر تعجيز كقوله تعالى:
فأتوا بسورة من مثله
[البقرة: 23] ولا يجوز أن يكون هذا أمرا بالسحر، إذ عمل السحر كفر، والأنبياء عليهم السلام لا يأمرون به.
[10.81]
قوله تعالى: { فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر }؛ معناه: فلما ألقت السحرة ما جاؤا به، قال لهم موسى: الذي جئتم به السحر والخداع؛ أي الذي جئتم به سحر. ووقف بعض القراء على { ما جئتم } ثم قال: { السحر } على معنى: أي شيء جئتم به أهو السحر؟ على جهة التوبيخ لهم. قوله تعالى: { إن الله سيبطله }؛ أي يبطل عمل السحرة حتى يظهر الحق من الباطل، { إن الله لا يصلح عمل المفسدين }؛ أي لا يرضى عمل الساحرين.
[10.82]
قوله تعالى: { ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون }؛ أي ينصر دينه الحق بالوعد الذي وعده لموسى كما قال تعالى:
سنشد عضدك بأخيك
[القصص: 35] الى آخر الآية. ويجوز أن يكون معنى الكلمات: ما كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ.
[10.83]
قوله تعالى: { فمآ آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم }؛ أي ما صدق بموسى وبما جاء به إلا ذريته من قوم فرعون، وهم قوم كان آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرئيل، فآمنوا بموسى واتبعوا أمهاتهم وأخوالهم، ولم يسلم آباؤهم الذي كان موسى عليه السلام مبعوثا اليهم.
وقال الحسن: (أراد بقوله تعالى (إلا ذرية من قوم موسى) كان فرعون أجبرهم على تعلم السحر وجعلهم من أصحاب نفسه، فلما أسلمت السحرة وآمنوا بموسى اتبعهم هؤلاء الذرية في الإيمان). وكان يقول: (لم يؤمن من القبط أحد إلا المؤمن الذي يكتم إيمانه من فرعون وقومه).
قوله: { على خوف من فرعون وملئهم } معناه على القول الأول: آمنت به ذريته على خوف من فرعون وآبائهم وقومهم. وعلى القول الثاني: على خوف من فرعون وأشرافهم ورؤسائهم أن يعلم الأشراف أمرهم فيخبروا فرعون فيقتلهم ويعذبهم أو يصرفهم عن دينهم. وقال الزجاج: (إنما قال: { فرعون وملئهم } لأن فرعون ذا أصحاب يأتمرون به).
قوله تعالى: { وإن فرعون لعال في الأرض }؛ أي لمستكبر في أرض مصر، { وإنه لمن المسرفين }؛ في الكفر والمعاصي، والإسراف: هو التجاوز عن الحد في كل شيء. وعن محمد بن المنكدر قال: (عاش فرعون ثلاثمائة واثنين وعشرين سنة لم ير مكروها، ودعا موسى عليه السلام ثلاثين سنة).
[10.84]
قوله تعالى: { وقال موسى يقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا }؛ أي قال موسى لبني إسرائيل: يا قومي إن كنتم صدقتم بالله كما تقولون فأسندوا أموركم إليه؛ { إن كنتم مسلمين } ، إن كنتم مخلصين مستسلمين لأوامره، وذلك حين قالوا لموسى:
أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا
[الأعراف: 129]. وقيل: إن موسى خاطب بالخطاب المذكور في هذه الآية الذرية التي آمنت على خوف من فرعون وملئهم.
[10.85-86]
قوله تعالى: { فقالوا على الله توكلنا }؛ أي قال موسى أسندنا أمورنا إلى الله ووثقنا به، { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين }؛ أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، فيكون ذلك فتنة لهم ولغيرهم. ويقال: يعني لا يمكنهم أن ينزلوا بنا أمرا لا نطيق الصبر عليه فننصرف به عن الدين. قوله تعالى: { ونجنا برحمتك من القوم الكافرين }؛ أي خلصنا بطاعتك من استعبادهم إيانا، فاستجاب الله دعاءهم كما ذكر من بعد.
[10.87]
قوله تعالى: { وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا }؛ وذلك أن فرعون لما أتاه موسى بالرسالة أمر بمساجد بني إسرائيل فكسرت كلها وخربت، ومنعوهم من الصلاة علانية، فأنزل الله هذه الآية، وأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلون فيها خوفا من فرعون. والمعنى: وأوحينا إليهما أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتا، يقال: بوأه إذا عد لغيره بيتا، وتبوأ إذا اتخذ لنفسه بيتا.
قوله تعالى: { واجعلوا بيوتكم قبلة }؛ أي اجعلوها مصلى، { وأقيموا الصلاة } ، فصلوا فيها مستترين من فرعون وقومه. وقيل: معناه: واجعلوا بيوتكم مساجد. وقال الحسن: (واجعلوا بيوتكم نحو القبلة وجبال الكعبة) قال: (وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه من المؤمنين).
وقيل: إنما لم يذكر الله الزكاة في هذه الآية؛ لأن فرعون قد استعبدهم وأخذ أموالهم فلم يكن لهم ما يجب الزكاة فيه. قوله: { وبشر المؤمنين }؛ أي وبشرهم بالثواب في الآخرة، وبالنصر في الدنيا آجلا وعاجلا.
[10.88]
قوله تعالى: { وقال موسى ربنآ إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا }؛ أي قال موسى: إنك أعطيت فرعون وملأه زينة؛ أي زهرة من المركب والحلي والثياب، وأموالا كثيرة من الدراهم والدنانير والعروض. قوله: { ربنا ليضلوا عن سبيلك }؛ أي ربنا أعطيتهم الزينة والأموال ليكون عاقبة أمرهم أن يضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا، وهذه اللام لام العاقبة كما في قوله:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص: 8].
قوله: { ربنا اطمس على أموالهم }؛ معنى الطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها، وحقيقة الطمس ذهاب الشيء عن صورته بمحق الأثر. قال مجاهد وقتادة: (فغير الله أموال فرعون حتى صارت دراهمهم ودنانيرهم حجارة أنصافا وأثلاثا وأرباعا، وكذلك سائر أموالهم حتى السكر والفواكه). قال قتادة: (بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة). وقال عطاء: (لم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه، فلم ينتفع به أحد).
قوله: { واشدد على قلوبهم }؛ معناه: واربط على قلوبهم بالصبر حتى لا يتحولوا عن بلادهم إلى بلاد الخصب فيبقون في هذه العقوبة أبدا. وقيل: معناه: امنعهم عن الإيمان بك، والمعنى اطبع عليها حتى لا تلين ولا تشرح الايمان. قوله: { فلا يؤمنوا }؛ قال الزجاج والفراء: (هذا دعاء عليهم أيضا)، والتأويل فلا آمنوا، { حتى يروا العذاب الأليم }؛ يعني الغرق.
[10.89]
قوله تعالى: { قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما }؛ أي قال الله تعالى لموسى وهارون: قد أجبت دعوتكما، وذلك أن موسى كان يدعو بالدعاء المذكور في الآية، وكان هارون يؤمن على دعائه، فسماها الله داعين، قوله { فاستقيما } أي فاستقيما في دعاء الناس إلى الإيمان، { ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون } لأن سبيلهم كان الغي والضلال، وخفف ابن عباس (تتبعان) من تبع يتبع، والنون الشديدة إنما دخلت مؤكدة للنهي.
[10.90-91]
قوله: { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر }؛ يعني بحر القلزم وهو بقرب نيل مصر، جعله الله لهم يبسا حتى جاوزوه، { فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا }؛ ليبغوا عليهم، { وعدوا }؛ ويظلموهم. قوله: { حتى إذآ أدركه الغرق }؛ حتى إذا ألجم فرعون الغرق من إيمان الإنجاء فلم ينفعه ذلك، فلما، { قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين }؛ قال له جبريل: { آلآن }؛ أي تؤمن عند الغرق، { وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين }؛ بالكفر والمعاصي في وقت المهلة.
روي عن ابن عباس:
" أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو رأيتني وفرعون يدعو بكلمة الإخلاص وأنا أدسه في الماء والطين لشدة غضبي عليه مخافة أن يتوب فيتوب الله عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا جبريل وما شدة غضبك؟ " قال: يا محمد لقوله أنا ربكم الأعلى وهي كلمته الأخيرة، وإنما قالها حين انتهى إلى البحر، وكلمته الأولى: ما علمت لكم من إله غيري، وكان بين الأولى والأخرى أربعين سنة ".
وهذه الرواية صحيحة إلا قوله: (مخافة أن يتوب فيتوب الله عليه) لأنه لا يخلوا إما أن يكون التكليف ثابتا في ذلك الوقت أو غير ثابت، فإن كان ثابتا لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة، ولو منعه من التكلم باللسان لكانت ندامة فرعون بالقلب كافية في توبته؛ لأن الأخرس إذا تاب بالندم بقلبه وعزم على ترك المعاودة إلى القبيح كانت توبته صحيحة.
وإن لم يكن التكليف ثابتا في ذلك الوقت لم يكن للمنع عن التوبة معنى بوجه من الوجوه، وإنما لا يقبل الإيمان في وقت الإلجاء؛ لأن الذي يؤمن في تلك الحالة يعلم أنه لو حاول خلاف ما يؤمر به حيل بينه وبينه، فلا يكون مثابا بإعلاء ذلك الإيمان معرفته من طريق الضرورة دون الاجتهاد.
[10.92]
قوله: { فاليوم ننجيك ببدنك }؛ أي فاليوم نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع؛ أي ببدنك أي بدرعك، قال ابن عباس: (كان فرعون قصيرا طوله ستة أشبار، وكانت لحيته قريبا من قامته، وكانت له درع سلاسلها من ذهب يعرفها جميع بني إسرائيل، فسألت موسى بنو إسرائيل فدعا الله فأخرجه ببدنه حتى واراه، وعرفوا الدرع فطابت أنفسهم بتلك).
ويقال: كان في بني إسرائيل من لا يصدق بهلاك فرعون، ولذلك سأل موسى عليه السلام أن يلقيه الله على نجوة من الأرض ببدنه؛ أي وحده دون قومه. وقيل: معناه: ننجيك من الماء ببدنك دون روحك، فأما روحك فتعذب على كل حال. قوله: { لتكون لمن خلفك آية }؛ أي لمن بعدك من الكفار آية في النكال، لئلا تقول لأحد بعدك مثل مقالتك، وتعرفوا أنك لو كنت إلها ما غرقت. قوله: { وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون }؛ يعني لغافلون عن التفكر في دلائلنا.
[10.93]
قوله تعالى: { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق }؛ أي ولقد أنزلنا بني إسرائيل في موضع خصب وأمن، وهي أرض مصر ما بين أردن وفلسطين، ويقال: هي الأرض المقدسة التي ورثوها من أبيهم إبراهيم عليه السلام، وسماها منزل صدق؛ لأن فضلها على سائر المنازل كفضل الصدق على الكذب. وقيل: هم بنو قريظة والنضير أنزلناهم مبوأ صدق بين المدينة والشام من أرض يثرب، { ورزقناهم من الطيبات }؛ أي من النخل وما فيها من الرطب والتمر.
قوله: { فما اختلفوا حتى جآءهم العلم }؛ معناه أنهم لم يزالوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل لم يختلفوا في ذلك، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به بعضهم وكفر به بعضهم.
ومعنى الآية: ما اختلفوا في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وإنه نبي حتى جاءهم العلم، قال ابن عباس: (يريد القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم)، وقال الفراء: (العلم محمد صلى الله عليه وسلم) لأنه كان معلوما عندهم بنعته، وذلك أن لما جاءهم اختلفوا فيه وفي تصديقه فكفر به أكثرهم).
قوله: { إن ربك }؛ يا محمد، { يقضي بينهم يوم القيامة } ، بتمييز المحق من المبطل، ويجازي كلا منهم بما يستحقه، { فيما كانوا فيه يختلفون } فيدخل المصدقين بك الجنة، ويدخل المكذبين النار.
[10.94-95]
قوله: { فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك }؛ قال أكثر أهل العلم: هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره من الشكاك، ومثل ذلك قوله تعالى:
يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين
[الأحزاب: 1] الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره بدليل قوله:
إن الله كان بما تعملون خبيرا
[النساء: 94]، ولم يقل بما تعمل، قال الزجاج: (إن الله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الخطاب شامل للخلق، فالمعنى: فإن كنتم في شك فاسألوا).
وقال ابن عباس: (لم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يشك في الله ولا في ما أوحى إليه، لكن أراد من آمن به وصدقه في أمرهم أن يسألوا لئلا ينافقوا كما شك المنافقون). وعن ابن عباس أنه قال: (وذلك أن كفار قريش قالوا: إن هذا القرآن الذي يجيء إلى محمد ما يلقيه الشياطين إليه! فأنزل الله هذه الآية).
وأراد بالذين يقرؤون الكتاب مؤمني أهل الكتاب عبدالله بن سلام وأصحابه، فإنهم يستخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا أسأل أحدا ولا أشك فيه بل أشهد أنه الحق "
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله تعالى وأشد يقينا من أن يسألهم، وإنما التقدير: فإن كنت في شك أيها السامع مما أنزلنا على نبيك. ومن عادة العرب أنهم يخاطبون الرجل بشيء يريدون به غيره كما قالوا: إياك أعني واسمعي يا جارة.
وكانت الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب: مؤمن؛ وكافر؛ وشاك، فخاطب الله بهذه الآية الشاك أمره بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله عن النبي صلى الله عليه وسلم المبشر به حتى إذا وافقت صفته في الكتاب المنزل له قبل القرآن صفة النبي صلى الله عليه وسلم على الشاك هو المبشر به.
قوله: { فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين }؛ الشاكين في الحق، وما في الآية ظاهر المعنى.
[10.96-98]
قوله تعالى: { إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون } معناه: إن الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون، { ولو جآءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم }؛ فيصيرون ملجئين إلى الإيمان، فلم يقبل منهم الإيمان حينئذ.
قوله: { فلولا كانت قرية آمنت فنفعهآ إيمانها }؛ أي هلا كانت قرية آمنت عند نزول العذاب فنفعها إيمانها وقبل منهم، { إلا قوم يونس لمآ آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي }؛ لما آمنوا وعلم الله منهم الصدق صرف عنهم عذاب الهون، { في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين }؛ آجالهم المضروبة لهم.
وعن ابن عباس: (معنى قوله { فلولا كانت قرية آمنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس } والمعنى: لم أفعل هذا بأمة قط إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم، فتكون (لولا) معناها النفي. وقال قتادة: (لم يكن هذا معروفا لأمة من الأمم كفرت، ثم آمنت عند نزول العذاب فكشف عنهم إلا قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم).
قوله تعالى: { ومتعناهم إلى حين } آجالهم، وذلك: أن يونس عليه السلام. بعثه الله إلى قومه، فدعاهم إلى طاعة الله وترك الكفر فأبوا، قال: رب فدعوتهم فأبوا، فأوحى الله إليه: أن ادعوهم فإن أجابوك، وإلا فأعلمهم بأن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام. فدعاهم فلم يجيبوا، فأخبرهم بالعذاب وخرج من بينهم، فقالوا: ما جربنا عليه كذبا مذ كان، فاحتالوا لأنفسكم.
فلما كان اليوم الثالث رأوا حمرة وسوادا من السماء كهيئة النار والدخان، فجعلوا يطلبون يونس فلم يجدوا، فلما يئسوا من يونس وجعل يحط السواد والحمرة، فقال قائل منهم: فإن لم تجدوا يونس فإنكم تجدوا رب يونس، فادعوه وتضرعوا إليه.
فخرجوا إلى الصحراء، وأخرجو النساء والصبيان والبهائم، وعجوا إلى الله مؤمنين به، وارتفعت الأصوات، وقربت منهم الحمرة والدخان حتى غشي السواد سطوحهم وبلغهم حر النار، فلما علم الله منهم صدق التوبة رفع عنهم العذاب بعد ما كان غشيهم.
[10.99]
قوله: { ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا }؛ أي لو شاء ربك يا محمد لآمن أهل الأرض كلهم. وقيل: معناه: لو شاء ربك لأن يجبر الناس على الإيمان لآمن من في الأرض كلهم جميعا، كما آمن قوم يونس.
قوله تعالى: { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين }؛ معناه: أفأنت تريد إكراه الناس على الإيمان إن لم يرد الله إكراههم عليه مع أنه قادر على إكراههم عليه، فلا ينبغي لك أن تريد هذا، وأنت غير قادر على إكراههم عليه. وقيل في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يسلم عمه أبو طالب وقومه، فأعلمه الله بهذه الآية أن إسلامهم ليس بيده.
[10.100]
قوله: { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله }؛ أي بتوفيقه، ويقال: إلا بأمره وقد أمر الله الكل بالإيمان، وقيل: معناه: إلا بتمكين الله. قوله تعالى: { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون }؛ قال ابن عباس: (السخط)، قال أبو الحسن: (العذاب على الذين لا يعقلون) أي على الذين لا ينتفعون بعقولهم، وقال الحسن: (يحكم عليهم بالكفر ويدمهم عليه).
[10.101-102]
قوله: { قل انظروا ماذا في السموت والأرض }؛ أي قل لهم يا محمد تفكروا فيما في السماوات والأرض من الآيات والدلالات نحو مسير الشمس والقمر والنجوم في مجاريها في أوقات معلومة على الدوام، ووقوف السماء بغير عمد ولا علاقة، وخروج النتاج من الأمهات، وانظروا إلى الجبال والشجر وغير ذلك، وكل هذا يقتضي مدبر الأمر يشبه الأشياء ولا تشبهه، { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون }. ثم قال حين لم يتفكروا:
قوله تعالى: { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } معناه: ما تنفع الآيات، ولا تدفع عمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن، فهل ينظرون إلا أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم قبلهم من العذاب، يقال: أيام فلان؛ ويراد به أيام دولته ومحنته. قوله تعالى: { قل فانتظروا }؛ أي انتظروا حلول العذاب الذي أوعدكم به { إني معكم من المنتظرين } ، لذلك.
[10.103]
قوله تعالى: { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا }؛ معناه: ثم ننجي رسلنا والمؤمنين من العذاب الذي يحل بالكفار. قوله تعالى: { كذلك حقا علينا ننج المؤمنين }؛ أي كما ننجي الرسل من العذاب كان علينا أن ننجي المؤمنين كلهم من العذاب الذي ينزل بالكفار.
[10.104]
قوله تعالى: { قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله }؛ أي قل لهم: يا أهل مكة إن كنتم في شك من ديني الذي أتيتكم به، فأنا مستيقن فلا أشك في بطلان دينكم، فلا أعبد الذي تعبدون من دون الله بشككم في ديني، { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم }؛ أي يميتكم ويعيدكم، ولا أعبد الذي لا يقدر على الضر والنفع والإحياء والإماتة، { وأمرت أن أكون من المؤمنين }.
[10.105]
قوله تعالى: { وأن أقم وجهك للدين حنيفا }؛ أي وأمرت أن أخلص ديني وعملي لله، والمراد بإقامة الوجه الإقبال على ما أمر به من أمور الدين، { ولا تكونن من المشركين }. وقيل: أراد بذلك إقامة الصلاة. والحنيف: هو المستقيم في الدين. وقيل: هو العادل عن الأديان الباطلة إلى دين الحق.
[10.106]
قوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك }؛ أي ما لا ينفعك إن دعوته، ولا يضرك إن تركت عبادته، { فإن فعلت } ، فإن دعوت غير الله إلها، { فإنك إذا من الظالمين }؛ الضارين لنفسك.
[10.107]
قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو }؛ معناه: إن يرد الله بك ضرا فلا يقدر أحد على دفع ذلك الضرر إلا هو، { وإن يردك بخير }؛ بنعمة وأمر تسر به، { فلا رآد لفضله }؛ مانع لعطيته. قوله تعالى: { يصيب به من يشآء }؛ أي يختص بالفضل من يشاء، { من عباده } على ما توجه الحكمة على ما يستحقون بأعمالهم، { وهو الغفور }؛ لذنوب العباد، { الرحيم }؛ بمن مات على التوبة.
[10.108]
قوله تعالى: { قل يأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم }؛ أي قل يا محمد للناس كلهم: قد جاءكم الحق من ربكم؛ أي الكتاب والرسول ، { فمن اهتدى }؛ بالكتاب والرسول، { فإنما يهتدي لنفسه }؛ أي يرجع نفع هدايته إليه، { ومن ضل فإنما يضل عليها }؛ فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه، { ومآ أنا عليكم بوكيل }؛ أي لست بحفيظ عليكم، أدفع عنك الضر، وأطلب إليكم النفع شئتم أو أبيتم.
[10.109]
قوله تعالى: { واتبع ما يوحى إليك }؛ أي اتبع يا محمد ما تؤمر به في القرآن، { واصبر }؛ على أذاهم، { حتى يحكم الله }؛ يقضي الله بينك وبينهم، { وهو خير الحاكمين }؛ أعدل القاضين؛ لأن الحاكم لا يكون إلا بالصلاح والسداد، وكان حكمه أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم.
[11 - سورة هود]
[11.1]
{ الر }؛ قال ابن عباس: (معناه أنا الله الرحمن). وقوله: { كتاب أحكمت آياته }؛ وقيل: (كتاب) بدل من قوله { الر } لأنه خبره، كأنه قال: هذه الحروف كتاب.
قوله تعالى: { أحكمت آياته } أي أحكمت بالأمر والنهي، { ثم فصلت }؛ بالثواب والعقاب، وقال قتادة: (أحكمت عن الباطل بالحجج والدلائل، ثم فصلت بأن أنزلت شيئا فشيئا). وقال الكلبي: (كتاب أحكمت آياته لم ينسخ بكتاب، كما نسخت الكتب والشرائع به، { ثم فصلت } بينت بالأحكام من الحلال والحرام، والوعد والوعيد). وقوله: { من لدن حكيم خبير }؛ أي من عند حكيم في خلقه وتدبيره، خبير بمن يصدق ويكذب به.
[11.2]
قوله تعالى: { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير }؛ أي أحكم الله القرآن بالحجج لئلا يطيعوا إلا الله. وقيل: معناه: أمركم أن لا تعبدوا غيره إنني لكم من الله معلم بموضع المخافة لتحذروا، وموضع الخير لتطلبوا، ونذير بمعنى منذر، كما في قوله { أليم } يعني مؤلم.
[11.3-4]
قوله: { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه }؛ أي وأمركم أن تطلبوا المغفرة من ربكم، واجعلوها غرضكم وتوصلوا إليها بالتوبة وهي الندم على القبيح، والعزم على ترك المعاودة إليه. وقيل: معناه: وأن استغفروا ربكم بالتوبة عما سلف من ذنوبكم، ثم توبوا إليه عما يقع منكم من الذنوب في المستقبل.
قوله تعالى: { يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى }؛ { يمتعكم } جزم على جواب الأمر؛ أي إن فعلتم ذلك أنعم الله عليكم نعما سابغة حسانا تستبقون بها إلى آجالكم التي قدرها الله لكم، فلم يستأصلكم كما استأصل الأمم المكذبة به قبلكم. قال القتيبي: (أصل الإمتاع الإطالة) يقال: جبل ماتع، وقد متع النهار إذا طال، فمعنى يمتعكم يعمركم.
قوله تعالى: { ويؤت كل ذي فضل فضله }؛ أي من كان ذا فضل في دينه فضله الله في الآخرة بالثواب على عمله. وقيل: يعطي كل ذي عمل صالح أجره وثوابه. وقال ابن عباس: (يعطي كل من فضلت حسناته على سيئاته فضله؛ يعني الجنة وهي فضل الله، يعني أن من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة). وعن ابن مسعود قال في هذه الآية: (من عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، ومن عمل سيئة كتبت له سيئة واحدة، وإن لم يعاقب بتلك السيئة في الدنيا أخذ من عشر حسناته واحدة وبقيت له تسع) ثم قال: (هلك من غلبت آحاده أعشاره).
قوله تعالى: { وإن تولوا }؛ أي إن أعرضوا عن الإيمان والتوبة، { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير }؛ أي عظيم الشأن وهو يوم القيامة، وإنما ذكر الخوف في هذا الموضع؛ لأن الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم، والخوف عليه جائز. قوله تعالى: { إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير }؛ على إعادتكم.
[11.5]
قوله تعالى: { ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق، كان حين يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له أمرا حسنا، وكان حسن المنظر، وكان حسن الحديث، إلا أنه كان يضمر في قلبه خلاف ما يظهر، فأنزل الله في أمره هذه الآية).
يقال: إن طائفة من المشركين بلغ بهم الجهل إلى أن قالوا: إنا اذا أغلقنا أبوابنا، وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم كيف يعلم بنا؟ فأنبأ الله نبيه عليه السلام عما كتموه. ومعنى الآية: ألا إنهم يثنون صدورهم على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكتموا منه ما في صدورهم من عداوته بإظهار المحبة. ويقال: معنى (يثنون) يعرضون بصدورهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون }؛ معناه: ألا حين يتغطون بثيابهم يعلم الله ما يسرون بقلوبهم وفيما بينهم وما يظهرون من محبة أو غيرها، { إنه عليم بذات الصدور }؛ أي عالم بالقلوب التي في الصدور، لأن الصدور مواضع القلوب.
[11.6]
قوله تعالى: { وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها }؛ أي ما من حيوان يدب، قال الزجاج: (الدابة اسم لكل حيوان مميز وغيره، ذكرا كان أو أنثى).
وفي الآية بيان أن الله عالم بالقلوب كلها، وذلك أنه إذا كان ضامنا رزق كل دابة في الأرض، فليس يرزقها إلا وهو يعلم صغيرها وكبيرها، من الذر فما فوقها وما دونها، وإذا علمها فقد علم مستقرها ومستودعها، المستقر موضع قرارها وهو الموضع الذي تأوي إليه، والمستودع هو الموضع الذي تودع فيه، قيل: إنه الرحم، وقيل: هو الموضع الذي تدفن فيه.
وقال قتادة ومجاهد: (أما مستقرها ففي الرحم، وأما مستودعها ففي الصلب) { كل }؛ ذلك عند الله، { في كتاب مبين }؛ يعني اللوح المحفوظ، والمعنى: أن ذلك ثابت في علم الله.
قوله تعالى: { إلا على الله رزقها } قال المفسرون: فضلا لا وجوبا، والله تكفل بذلك بفضله. قال أهل المعاني (على) هاهنا بمعنى (من)، المعنى: إلا من الله رزقها. قوله تعالى: { كل في كتاب مبين } أي رزق كل دابة وأجلها مكتوب في اللوح.
قال ابن عباس: (إن مما خلق الله تعالى لوحا محفوظا من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء، عرضه ما بين السماء والأرض، كتابه نور وقلبه نور، ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء)، قال أبو روق: (أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حجر ملك كريم يسمى ماطوتون).
[11.7]
قوله تعالى: { وهو الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام وكان عرشه على المآء }؛ يعني قبل أن خلق السماوات والأرض، قال ابن عباس: (خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ولو أراد سبحانه خلقها في أقل من لحظة لفعل).
قوله تعالى: { وكان عرشه على المآء } فيه بيان أن السماوات والأرض ليستا بأول خلق، وأنه تقدمهما خلق شيء آخر، وفيه بيان زيادة القدر؛ لأن العرش مع كونه أعظم من السماوات والأرض كان على الماء، ولم يكن ذلك الماء على قرار، ولكن الله عز وجل أمسكه بقدرته.
قوله تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا }؛ أي ليبلوكم فينظر أيكم أحسن عملا، فيثيب المطيع المعتبر بما يرى من آيات السماوات والأرض، ويعاقب أهل العناد.
قوله تعالى: { ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذآ إلا سحر مبين }؛ معناه: ولئن قلت يا محمد للكفار: إنكم مبعوثون من بعد الموت، ليقولن الذين كفروا: ما هذا إلا تمويه ليس له حقيقة، وقد أقروا أن الله خالق السماوات والأرض ويمسكها بغير عمد، لا يعجزه شيء فكيف يشكون في البعث بعد الموت.
[11.8]
قوله تعالى: { ولئن أخرنا عنهم العذاب }؛ معناه: ولئن أخرنا العذاب عن الكفار، { إلى أمة معدودة ليقولن } ، ليقولون: { ما يحبسه } ، ما منعناه: قال ابن عباس ومجاهد: (يعني إلى أجل وحين)، والأمة هاهنا المدة، ليقولن ما يحبس هذا العذاب عنا إن كان ما يقوله محمد حقا، يقول الله تعالى: { ألا يوم يأتيهم }؛ العذاب، { ليس مصروفا عنهم }؛ لا يقدر أحد على صرفه عنهم.
فالمعنى: أنهم لما قالوا: ما يحبس العذاب عنا على وجه الاستهزاء، قال الله تعالى: { ألا يوم يأتيهم } يعني إذا أخذتهم سيوف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تغمد عنهم حتى تعلو كلمة الإخلاص. قوله تعالى: { وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون }؛ أي نزل بهم جزاء استهزائهم وهو العذاب.
[11.9]
قوله تعالى: { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس } لا يصبر على سلب تلك النعمة، ويصير أيئس شيء أقنطه من رحمة الله، قال ابن عباس: (نزلت في الوليد بن المغيرة)، وقيل: في عبدالله بن أبي أمية المخزومي. والرحمة هاهنا الرزق، وقوله: { كفور }؛ أي لا يشكر نعم الله قبل أن تسلب عنه، ولا يصبر بعد أن سلبت .
[11.10]
قوله تعالى: { ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عني }؛ أي ولئن أذقنا الكافر النعم الظاهرة بعد المضرة الظاهرة التي أصابته، ليقولن الكافر: ذهب الشدائد والضر والفاقة والآلام عني، ويفرح بذلك ويبطر ويفجر به على الناس من دون أن يشكر الله على كشف الشدائد عنه.
قوله تعالى: { إنه لفرح فخور }؛ أي بطر مفاخر أوليائي بما وسعت عليه. وإنما نصب اللام في قوله { ليقولن ذهب السيئات } لأنه في موضع الوحدان، وقوله:
ليقولن ما يحبسه
[هود: 8] بضم اللام في موضع لفظ الجماعة، وقوله تعالى:
ليقولن الذين كفروا
[الروم: 58] بنصب اللام أيضا؛ لأن الفعل مقدم على الاسم فذكر بلفظ الوحدان.
[11.11]
قوله تعالى: { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير }؛ استثناء ليس من الأول، معناه: لكن الذين صبروا على الشدائد، وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم أولئك لهم مغفرة لذنوبهم وثواب عظيم على طاعتهم وصبرهم.
[11.12]
قوله تعالى: { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك }؛ سبب نزول هذه الآية: أن المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: لو تركت سبنا وسب آلهتنا جالسناك، وكانوا يؤذونه ويقولون: لولا أنزل على محمد كنز من السماء فيعش به وينفعه، أو جاء معه ملك يشهد له ويعينه على الرسالة.
وقيل: إن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا حتى نؤمن بك ونتبعك، وقال بعض المتكبرين: هلا ينزل عليك يا محمد ملك يشهد لك بالصدق، أو تعطى كنزا تستغني أنت وأتباعك؟ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع سب آلهتهم فأنزل الله هذه الآية. ولا يجوز أن تكون كلمة (لعل) في أول هذه الآية على جهة الشك، وإنما الغرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في ما أمر به؛ كيلا يلتفت على قولهم، وكي لا ييأسوا عن ترك أداء الرسالة.
فلما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: { لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك }. يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: { إنمآ أنت نذير }؛ أي عليك أن تنذرهم وتخوفهم وتأتيهم بما يوحى إليك من الآيات، وليس عليك أن تأتي بشهواتهم وما يفرحون من الآيات، { والله على كل شيء }؛ من مقالتهم وغير ذلك، { وكيل }؛ أي حفيظ.
والفرق بين ضائق وضيق، أن الضائق يكون بضيق عارض، والضيق قصور الشيء عن مقدار غيره أن يكون فيه، وموضع { أن يقولوا } حذف الباء تقديره: ضائق به صدرك بأن يقولوا.
[11.13]
قوله تعالى: { أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات }؛ معناه: بل يقول الكفار: اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه، قل لهم يا محمد: إن كان هذا مفترى على الله فأتوا بعشر سور مثله مفتريات مختلفات، فإن القرآن نزل بلغتكم، وأنا نشأت بين أظهركم، فإن لم يمكنكم أن تأتوا بمثل القرآن فاعلموا أنه من عند الله، { وادعوا من استطعتم من دون الله }؛ أي استعينوا بكل أحد يقدر على الإتيان بعشر سور مثله مفتريات، { إن كنتم صادقين }؛ في مقالتكم أن محمدا اختلقه.
وذهب بعض المفسرين: إلى أن المراد بالسور العشر: من سورة البقرة إلى هذه السورة، والأولى أن يقال: إن المراد فاتوا بعشر سور مثل سور القرآن أي سورة كانت، لأن سورة هود مكية، وسورة البقرة وما بعدها مدنيات.
[11.14]
قوله تعالى: { فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ أي فإن لم يجبك هؤلاء الكفار إلى الإتيان بمثل القرآن، فاعلموا أن هذا القرآن أنزله جبريل بعلم الله وأمره. ويجوز أن يكون بعلم الله؛ أي بما أنزل الله فيه من غيب.
ويجوز أن يكون معناه: فإن لم يستجيبوا لكم؛ أي فإن لم يجبكم الذين دعوتموهم إلى المعاونة إلى الإتيان بمثل هذا القرآن، فقد قامت عليكم الحجة، فاعلموا أنما أنزل بعلم الله، واعلموا أنما أنزله إلا هو، ولا ينزل الوحي أحد غيره، فهل أنتم تخلصون لله في التوحيد والعبادة.
[11.15]
قوله تعالى: { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون }؛ في الآية وجهان:
أحدهما: أن المراد بالآية إذا أتى بالأعمال التي تكون حسنة في العقل مثل صلة الرحم والتصدق وإعانة المظلوم، فإن الله يجازيه على هذه الأعمال في الدنيا بأن يمكنه مما حوله ويعطيه ما يسعى لطلبه وافرا عليه ويقر عينه بذلك.
والثاني: أن المراد بها المنافق إذا خرج للغزو مع المسلمين وهو يريد الغنيمة دون الثواب ونصرة الدين، يجزيه الله على غزوه بأن أمر بإعطائه سهمه من الغنيمة لا يبخس عنه شيء من سهمه.
[11.16]
قوله تعالى: { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار }؛ معناه: إن الذين عملوا لغير الله من الكفار والمنافقين ليس لهم في الآخرة إلا النار، { وحبط ما صنعوا فيها }؛ من الأعمال الحسنة؛ لأنهم لم يروا لها ثوابا، { وباطل ما كانوا يعملون }؛ من خير.
[11.17]
قوله تعالى: { أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه }؛ اختصار معناه: أفمن كان على بينة من ربه، ويتلوه شاهد منه كالذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، وأراد بالبينة البرهان الذي هو من الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم على برهان وحجة من ربه، ويقرأ عليه القرآن شاهد من الله وهو جبريل عليه السلام، هكذا قال أكثر المفسرين أن المراد بقوله: أفمن كان على بينة من ربه هو النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة }؛ أي ومن قبل القرآن كان جبريل يقرأ على موسى التوراة إماما يقتدى به، ونعمة من الله لمن آمن به، و { إماما } بالنصب على الحال، { ورحمة } أي ذا رحمة، وقيل: أراد بقوله: { أفمن كان على بينة } جميع المؤمنين، وأراد بالشاهد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { أولئك يؤمنون به }؛ يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن صدقه.
وقوله تعالى: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده }؛ أي من يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم من أصناف الكفار واليهود والنصارى وغيرهم، فالنار مصيره التي وعد الله في الآخرة. قوله تعالى : { فلا تك في مرية منه }؛ أي لا تكن في شك من القرآن، وظاهر أن هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به جميع الناس. وقوله تعالى: { إنه الحق من ربك }؛ يعني القرآن، { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }؛ أي لا يصدقون في أن القرآن من عند الله.
[11.18]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا }؛ أي ليس أحد أظلم لنفسه من الكاذب على ربه بأن زعم أن له ولدا وشريكا، { أولئك يعرضون على ربهم }؛ معناه: أولئك الكاذبون يساقون يوم القيامة إلى ربهم، ويوقفون في المقامات التي يطالبون فيها بأعمالهم، ويسألون فيها، ويجازون عليها.
قوله تعالى: { ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم }؛ قال ابن عباس ومجاهد: (الأشهاد هم الملائكة والأنبياء)، وقال قتادة: (يعني الخلائق)، وقال مقاتل: (هم الناس).
والأشهاد جمع شاهد مثل ناصر وأنصار وصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف. والمعنى: يقول الأشهاد يوم القيامة من الملائكة والنبيين والعلماء وعامة المؤمنين، ويشيرون إلى الكفار فيقولون: { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } فيفضح الكفار على رؤوس الأشهاد.
وقوله تعالى: { ألا لعنة الله على الظالمين }؛ يجوز أن يكون من قول الأشهاد، ويجوز أن يكون من قول الله، وأراد بالظالمين المشركين، واللعنة: الإبعاد من الخير.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" يدنو المؤمن من ربه يوم القيامة، ثم يقرره بذنوبه: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيسأله عن ما شاء أن يسأله، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته بيمينه. وأما الكفار فينادى عليه على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين ".
[11.19]
قوله تعالى: { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا }؛ أول الآية نعت للظالمين، والمعنى: الذين يسببون للصد من دون الله وطاعته، ويبغون لله سبيل الإسلام زيغا وعوجا، يتأولون القرآن على خلاف تأويله، { وهم بالآخرة هم كافرون }؛ أعاد كلمة (هم)؛ تأكيدا لشأنهم في الكفر.
[11.20]
قوله تعالى: { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض }؛ معناه: أولئك ليسوا بغائبين عن الله في الأرض، ولا مهرب لهم من عذابه حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة.
قوله تعالى: { وما كان لهم من دون الله من أوليآء يضاعف لهم العذاب } أي لا يقتصر لهم على عقاب الكفر، بل يعاقبون على الكفر، وعلى الصد عن سبيل الله. وقيل: معناه: كلما مضى ضعف من العذاب جاءهم ضعف من العذاب.
قوله تعالى: { ما كانوا يستطيعون السمع }؛ أي كان يثقل عليهم سماع الحق من شدة عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، { وما كانوا يبصرون }؛ لأنهم صم عن الحق عمي لا يبصرون ولا يهتدون.
[11.21]
قوله تعالى: { أولئك الذين خسروا أنفسهم }؛ أي أهلكوا أنفسهم في الآخرة، وذكر الهلاك بلفظ الخسران؛ لأن الخسران هو ذهاب رأس المال، ورأس مال الإنسان نفسه. قوله تعالى: { وضل عنهم ما كانوا يفترون }؛ أي ذهب عنهم الانتفاع بأعمالهم التي كانوا يكذبون بها على الله كما قالوا في الدنيا، وقيل: معناه: ذهب عنهم الأصنام التي كانوا يعبدونها في الدنيا، يفترون بقولهم إنها آلهة.
[11.22]
قوله تعالى: { لا جرم }؛ قيل: معنى { لا جرم }: لا بد، ويقال: لا محالة، ويقال: حقا، قال سيبويه: (لا جرم بمعنى حقا). وقال الزجاج: (لا بقاء لما ظنوا أنه ينفعهم) كأنه قال: لا ينفعهم ذلك جرم، { أنهم في الآخرة هم الأخسرون }؛ أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وجرم معناه: كسب، وذلك كقوله:
ولا يجرمنكم
[المائدة: 2].
[11.23-24]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون }؛ الإخبات: الخشوع والتواضع والطمأنينة؛ أي تواضعوا وخشغوا لربهم. وقال مجاهد: (اطمأنوا)، وقال قتادة: (أنابوا). وهذه الآية نازلة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما قبلها نازل في المشركين.
ثم ضرب الله مثلا في الفريقين فقال:
قوله تعالى: { مثل الفريقين كالأعمى والأصم }؛ يعني الكفار، { والبصير والسميع }؛ يعني المؤمنين؛ لأنهم سمعوا الحق وأبصروه واتبعوه. قوله تعالى: { هل يستويان مثلا }؛ أي هل يستوي الأعمى والأصم والبصير والسميع عند عاقل ، كما لا يستويان عند أحد من العقلاء، فكذلك لا يستوي حال المؤمن والكافر عند الله في الدنيا والآخرة، { أفلا تذكرون }؛ أي أفلا تتعظون بأمثال القرآن.
[11.25]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين } ابتدأ بذكر أول رسول جاء بالشريعة بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام، أول من جاء بتحريم الأمهات والأخوات، وقوله تعالى: { إني لكم } من فتح الألف كان التقدير: أرسلنا نوحا بأني لكم، ومن كسر فتقديره ليقول: إني لكم.
[11.26]
وقوله تعالى: { أن لا تعبدوا إلا الله }؛ أي وليقولوا لا تعبدوا إلا الله فإنه لا إله إلا هو، { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم }؛ أي إني أعلم أن يكون عليكم إن لم تؤمنوا عذاب يوم أليم، وإنما وصف اليوم بالألم؛ لأن أسباب الألم تقع فيه، فنسب الألم إليه.
[11.27]
وقوله: { فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا }؛ أي قال الرؤساء والأشراف الذين كفروا من قوم نوح: ما نراك يا نوح إلا بشرا مثلنا في الصورة والخفة، فلم صرت أولى أن تكون نبيا ورسولا لله منا.
قوله تعالى: { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا }؛ ما نراك آمن بك إلا الذين هم أسافلنا وأخسنا، قال ابن عباس: (يريدون المساكين الذين لا عقول لهم ولا شرف ولا مال) والراذل الدون من كل شيء.
قوله تعالى: { بادي الرأي }؛ أي من قرأ (بادئ) بالهمز فمعناه: أنهم اتبعوك بأول الرأي من دون تفكر ونظر، من قولهم: بدأت الأمر؛ أي ابتدأته، ويجوز أن يكون المعنى: بادي الرؤية؛ أي بأول ما تقع الرؤية عليهم يعلم أنهم أراذلنا، وقد يكون الرأي بمعنى الرؤية. قال الله تعالى:
يرونهم مثليهم رأي العين
[آل عمران: 13] أي رؤية العين: ومن قرأ (بادي) بغير همز فمعناه: ظاهر الرأي وهم يعرفون الظاهر ولا تمييز لهم.
ويجوز أن يكون معناه: اتبعوك في الظاهر، وباطنهم على خلاف ذلك. قوله تعالى: { وما نرى لكم علينا من فضل }؛ أي ما نرى لك ولقومك علينا من فضل، فإن الفضل يكون بكثرة المال، وشرف النسب والمنزلة في الدنيا، { بل نظنكم كاذبين }؛ فيما تقولونه على الله، وفيما تدعون إليه.
[11.28]
قوله تعالى: { قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي }؛ أي قال لهم نوح: أخبروني إن كنت على برهان وحجة من ربي، { وآتاني رحمة }؛ نعمة، { من عنده }؛ وهي النبوة، { فعميت }؛ فخفيت، { عليكم } ، هذه النعمة التي ظهرت لمن اتبعوني فلم تبصروها لتفاوتكم، { أنلزمكموها } ، أمكننا أن نجعلكم قابلين لها، { وأنتم لها كارهون }؛ هذا مما لا يكون. قال قتادة: (والله لو استطاع نبي الله ألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك).
فإن قيل: فهلا قال فعميتم عنها وهم الذين كانوا عموا؟ قلنا: قد بينا إنه وضع ذلك موضع: فخفيت عليكم، ثم لا فرق بين اللفظين كما لا فرق بين قولهم: أدخلت الخاتم في الإصبع، وأدخلت الإصبع في الخاتم. ومن قرأ (فعميت) بضم العين وتشديد الميم، فالمعنى: أليست عليكم نبوتي؟.
[11.29]
قوله تعالى: { ويقوم لا أسألكم عليه مالا }؛ أي لا أسألكم على دعائي لكم إلى الله مالا، فتخشون العدم في أموالكم بإجابتي، { إن أجري إلا على الله }؛ أي ما ثوابي إلا على الله يعطيني في الآخرة.
قوله تعالى: { ومآ أنا بطارد الذين آمنوا }؛ قال ابن جريج: (إنهم سألوه طرد الذين آمنوا ليؤمنوا به أنفة من أن يكونوا معهم على سواء، فقال: لا يجوز لي طردهم بقولكم وازدرائكم)، { إنهم ملاقوا }؛ ما وعدهم، { ربهم }؛ فيجزيهم بأعمالهم، ويقال: فيخاصموني عنده إن طردتهم، { ولكني أراكم قوما تجهلون }؛ أوامر الله وما فيه إصلاحكم.
[11.30]
قوله تعالى: { ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم }؛ معناه: يا قوم من يمنعني من العقاب النازل في يوم القيامة إن طردت من آمن بي، وآويت من كفر، { أفلا تذكرون }؛ تتعظون بما أقول لكم فتؤمنون.
[11.31]
قوله تعالى: { ولا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب }؛ أي لا أرفع نفسي فوق منزلتي، فأقول إن عندي مقدورات الله، فأخص بذلك من أشاء، وأمنعه ممن أشاء. وقوله تعالى: { ولا أعلم الغيب } أي ولا أدعي علم الغيب فإني لا أعلم إلا ما علمني الله .
ويقال: إنهم لما قالوا لنوح عليه السلام: إن هؤلاء إنما آمنوا بك، واتبعوك في ظاهر ما ترى منهم، أجابهم نوح بهذا، فقال: لا أقول لكم عندي خزائن الله، يعني غيوب الله التي يعلم منها ما تضمره الناس، فلا أعلم الغيب، ولا أعلم ما يسرونه في أنفسهم، فسبيلي قبول إيمانهم الذي ظهر لي، ومضمراتهم لا يعلمها إلا الله.
قوله تعالى: { ولا أقول إني ملك }؛ هذا جواب لقولهم: ما نراك إلا بشرا مثلنا؛ أي لا أدعي أني ملك نزلت إليكم من السماء. قوله تعالى: { ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا }؛ أي لا أقول للذين تحتقر أعينكم وتستصغر: لن يؤتيكم الله صلاحا في الدنيا وفلاحا في الآخرة، يعني المؤمنين الذين قالوا: هم أراذلنا. قوله تعالى: { الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظلمين }؛ أي إن طردتهم تكذيبا، الظاهر إيمانهم.
[11.32]
قوله تعالى: { قالوا ينوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا }؛ أي قالوا: يا نوح قد خاصمتنا فيما دعوتنا إليه من دين غير آبائنا، فأكثرت خصومتنا ودعاءنا، فلا نقبل منك، { فأتنا بما تعدنآ }؛ أي بما تعدنا أن الله يعذبنا على الكفر، { إن كنت من الصادقين }؛ أراد بهذا القول أن يلبسوا على ضعفائهم أن نوحا عاجز عن إنزال العذاب بهم.
[11.33]
قوله تعالى: { قال إنما يأتيكم به الله إن شآء }؛ أي إن العذاب ليس بيدي، ولكن الله هو الذي يقدر عليه، فينزله عليكم إن شاء، { ومآ أنتم بمعجزين }؛ من إنزال العذاب بكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن نوحا عليه السلام كان إذا جادل قومه ضربوه، فإذا أفاق قال: اللهم اهد قومي؛ فإنهم لا يعلمون ".
[11.34]
قوله تعالى: { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم }؛ معناه: قال لهم: لا ينفعكم دعائي، وتحذيري إياكم إن أردت أن أحذركم من عذاب الله إن كان الله يريد أن يضلكم عن الهدى مجازاة بعملكم، فإن إرادة الله فوق إرادتي، ويكون ما يريد لا ما أريد.
فإن قيل: كيف يجوز أن تكون إرادة إبليس موافقة لإرادة الله، وأرادة نوح مخالفة لإرادة الله؟ فالجواب: إن الله تعالى شاء لأؤلئك القوم الكفر، وشاء لنوح أن يسألهم الإيمان، وشاء لإبليس أن يسألهم الكفر، فالكل بمشيئة الله تعالى. ويقال: معنى قوله: { إن كان الله يريد أن يغويكم } إن كان الله يريد أن يهلككم، وينحيكم من رحمته بكفركم، كما قال:
فسوف يلقون غيا
[مريم: 59] أي هلاكا وعذابا، والغي قد يكون بمعنى الخيبة، كما قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
أي ومن يخب، يقال: غوى الرجل يغوي غيا؛ إذا فسد عليه أمره، أو فسد هو في نفسه، ومنه
وعصى ءادم ربه فغوى
[طه: 121] أي فسد عليه عيشه في الجنة، وهذا يؤول أيضا إلى معنى الخيبة فيها فساد العيش.
وذكر الحسن في معنى الآية: (لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب، فاستدركوا أمركم قبل نزول العذاب لتنتفعوا بنصحي). قوله تعالى: { هو ربكم } أي مالككم يقدر على إنزال العذاب بكم، { وإليه ترجعون }؛ أي إليه مصيركم بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم.
وهذه الآية مما يحتج بها أن الشرط إذا اعترض على الشرط من غير أن يتخللهما الجواب، كان الشرط الثاني مقدما على الأول في المعنى، حتى لو قال قائل: إن دخلت الدار، إن كلمت زيدا فعبدي حر، لا يحنث حتى يكلم ثم يدخل. فيكون تقدير الآية: ولا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم إن أردت أن أنصح لكم.
[11.35]
قوله تعالى: { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي }؛ معناه: أن قومه يقولون: إن نوحا قد تقول على الله الكذب، فأمر الله نوحا أن يجيبهم بالقول اللين بعد المبالغة في إقامة الحجة عليهم، فيقول لهم: { إن افتريته } أي تقولت الكذب على الله فعلي عقوبة إجرامي، { وأنا بريء مما تجرمون }؛ وأنا بريء من عقوبة جرمكم. ويقال: معنى الآية: أم يقول أهل مكة إن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افترى قصة نوح { قل إن افتريته فعلي إجرامي } والإجرام يستعمل في كسب الإثم خاصة.
[11.36]
قوله تعالى: { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } أي وأوحى الله إلى نوح: أنه لن يصدق من قومك سوى من صدق، { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون }؛ فلا تغتم بالحزن عليهم، والابتئاس: هو الغم على وجه الاستكانة للحزن على الشأن. فقيل: إنما دعا نوح عليه السلام بقوله:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
[نوح: 26] بعد هذا الوحي.
[11.37]
قوله تعالى: { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا }؛ أي اصنع السفينة بحفظنا لك حفظ الراعي لغيره لدفع الضرر عنه، وذكر الأعين لتأكيد الحفظ. ويقال: معناه بأعين الملائكة الذين يعرفونك كيف تصنع السفينة.
قوله تعالى: { ووحينا } أي وبأمرنا إياك. قوله تعالى: { ولا تخاطبني في الذين ظلموا }؛ أي لا تراجعني الكلام في نجاة الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، { إنهم مغرقون }؛ بالطوفان.
[11.38-39]
قوله تعالى: { ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } أي لما أخذ نوح في علاج السفينة. ويروى أنه استأجر أجراء ينحتون معه، وكلما مر ملأ من قومه هزئوا به لمعالجته السفينة؛ لأنهم كانوا يرونه يعمل السفينة مع أنه لم يكن بقربه ماء، وكان من لدن آدم عليه السلام إلى نوح يسقون من ماء المطر، فلا بحر ولا نهر جار، فكانوا يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ الضال يصنع هذه السفينة يخوفنا بالغرق، ويجعل للماء أكافا فأين الماء؟! وكانوا يقولون في كلامهم: فرغت من أمر النبوة، وأخذت في أمر النجارة! وكانوا يرونه ينجر الخشب وهي شبه البيت العظيم، فإذا سألوه عن ذلك، قال أعمل سفينة تجري في الماء، ولم يكن هناك قبل ذلك سفينة، فكانوا يتضاحكون ويعجبون من عمله.
و { قال }؛ لهم نوح: { إن تسخروا منا }؛ الآن، { فإنا نسخر منكم }؛ عند نزول العذاب، { كما تسخرون }؛ أنتم الساعة؛ أي إن كنتم تسخرون منا لما ترون من صنعة الفلك، فإنا نعجب من غفلتكم عما أضلكم، { فسوف تعلمون }؛ من أحق بالسخري منا ومنكم، وتعلمون، { من }؛ الذي، { يأتيه عذاب يخزيه }؛ في الدنيا ، { ويحل عليه }؛ وينزل عليه، { عذاب مقيم }؛ دائم في الآخرة.
[11.40]
قوله تعالى: { حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن الله أوحى إليه أن موعدك أن يخرج الماء من آخر مكان في دارك وهو تنور الخابزة، تنور آدم عليه السلام كان يوم حج نوح عليه السلام رأى تنور آدم عليه السلام فحمله معه، ووهبه الله تعالى له).
ثم قال له: إذا رأيت الماء قد فاض منه فاحمل في السفينة ما أمرت به من أجناس الحيوان، { من كل زوجين اثنين }؛ واحمل؛ { وأهلك إلا من سبق عليه القول }؛ بالعذاب وهي امرأته الكافرة وابنه كنعان استثناهما الله من جملة أهله.
قوله تعالى: { ومن آمن }؛ أي احمل من آمن معك أيضا في السفينة، وقال ابن عباس وعكرمة والزهري: (معنى قوله تعالى: { وفار التنور } أي انبجس الماء على وجه الأرض). وقال علي رضي الله عنه: (وفار التنور؛ أي طلع الفجر).
وقوله تعالى: { جآء أمرنا } أي عذابنا، وقوله تعالى: { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } أي احمل في السفينة من كل زوجين اثنين، الذكر زوج والأنثى زوج، وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة؛ قالوا: (ذكرا وأنثى).
فلما فار الماء من التنور أرسل الله السماء بمطر شديد، فأقبلت الوحوش حين أصابها مطر السماء إلى نوح وسخرت، فحمل في السفينة من كل طير زوجين، ومن كل وحش زوجين، وكل دابة وبهيمة زوجين، ومن كل سبع زوجين، وحمل من البقر والغنم خمسة أزواج.
وبعث الله جبريل فقطع فقار العقرب، وضرب فم الحية فحملها في السفينة، وكانت السماء تمطر، وكان هو عند قومه يحذرهم حتى ابتلت أقدامهم، وصار الماء إلى الكعبين، ثم حذرهم حتى صار الماء إلى نصف الساق، ثم حذرهم حتى صار إلى الركب وإلى الحقوين، كل ذلك يحذرهم وينذرهم، وكان ينوح ويبكي عليهم، وقال ابن عباس: (سمي نوحا، لأنه كان ينوح على الإسلام حيث لم يقر به قومه).
فلما بلغ الماء الشدوة قال: غرق قومي، ثم قال لابنه كنعان: (يا بني اركب معنا ) فكثر الماء حتى صار فوق الجبال خمسة عشر ذراعا بالذراع الأول، وكان للسفينة ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض، حمل في الباب الأسفل السباع والهوام، وفي الباب الأوسط الوحش والبهائم، وفي الباب الأعلى بني آدم، وكانوا ثمانين إنسانا، أربعين رجلا وأربعين امرأة، سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، ونساؤهم وإثنان وسبعون إنسانا فيهم الخضر وهو ابن بنت نوح.
واختلفوا في مقدار السفينة، قال الحسن: (كان طولها ألفا ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع)، وقال ابن عباس: (كان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا، وارتفاعها ثلاثين) وهو قول قتادة قال: (وكان لها بابان في عرضها).
وقوله تعالى: { وأهلك إلا من سبق عليه القول } أي واحمل أهلك، يعني ولده وعياله، { إلا من سبق عليه القول } يعني امرأته وأهله وابنه كنعان، و { ومن آمن } يعني واحمل من آمن.
قوله تعالى: { ومآ آمن معه إلا قليل }؛ أي إلا نفر قليل، قيل: ثمانون إنسانا، وقيل: ثلاثة بنين وثلاث كنائن، الكنائن: زوجات البنين، وقال ابن جريج: (كانوا ثمانية أنفس).
[11.41]
قوله تعالى: { وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها }؛ أي قال لهم نوح: اركبوا في السفينة، وقوله { بسم الله } يجوز أن يكون متصلا بقوله { اركبوا } أي اركبوا بسم الله، ويجوز أن يكون متصلا بقوله { مجريها ومرساها } أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها.
وقال الضحاك: (كانوا إذا أرادوا أن تجري السفينة قالوا: بسم الله، فجرت، وإذا أرادوا أن يرسوها قالوا: بسم الله، فرست)، ومن قرأها (مجراها) بنصب الميم فهو عبارة عن الموضع الذي تجري فيه، ولم يقرأ أحد (مرساها) الا بضم الميم، ومن قرأ (مجريها ومرسيها) فهو نعت (الله)، والمعنى بسم الله المجري لها حيث يشاء، { إن ربي لغفور رحيم }.
[11.42]
قوله تعالى: { وهي تجري بهم في موج كالجبال }؛ يعني: السفينة تجري بهم في موج كالجبال العظيمة، { ونادى نوح ابنه }؛ كنعان وكان كافرا، { وكان في معزل }؛ عنه ولم يركب معه، وقيل: معناه: وكان في معزل من دين أبيه: { يبني اركب معنا }؛ في السفينة بشرط الإيمان، ولذلك قال: { ولا تكن مع الكافرين }؛ أي على دينهم فتغرق معهم، وقال الحسن: (إنما دعاه إلى ركوب السفينة؛ لأن ابنه كان يظهر له الإيمان نفاقا، وكان يحس به مؤمنا).
واختلفت القراءة في قوله { يبني اركب معنا }: قرأ بعضهم بكسر الياء على الإضافة وهو الأجود؛ لأن الأصل يا بني ثلاث ياءات، ياء التصغير وياء الفعل وياء الإضافة، فحذفت ياء الإضافة، وتركت الكسرة دليلا على الإضافة، وأدغمت إحدى اليائين في الأخرى. وقرأ بعضهم (يا بني) بفتح الياء على أن أصلها: يا بنيا بالألف، كما تقول العرب: يا غلاما أقبل، تريد يا غلامي أقبل، فتبدل الألف من ياء الإضافة على وجه الندبة والتفجيع، وكان الأصل يا بنيا ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الراء من قوله { اركب }.
[11.43]
قوله تعالى: { قال سآوي إلى جبل يعصمني من المآء }؛ أي قال ابن نوح: سأذهب وأرجع إلى مأوى من الجبل حريز يمنعني من آفات الماء، { قال }؛ له نوح عليه السلام: { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم }؛ بالنجاة، وتقدير الكلام: لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله تعالى، وقال بعضهم: لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا من رحمه الله، وهو نوح عليه السلام فإنه قد جعل الله إليه إركاب المؤمنين في السفينة وقيل: معناه: لا معصوم اليوم إلا من رحمه الله، كما قال الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
المطعوم المكسو، ومنه يقال: سر كاتم أي مكتوم.
قوله تعالى: { وحال بينهما الموج }؛ أي بين كنعان ونوح، وقيل: بين كنعان والجبل، { فكان من المغرقين }.
[11.44]
قوله: { وقيل يأرض ابلعي مآءك ويسمآء أقلعي }؛ أي قيل بعد ما تناهى أمر الطوفان، وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن السماء مطرت أربعين يوما الليل والنهار، وخرج ماء الأرض أربعين يوما الليل والنهار، وسارت بهم السفينة فطافت بهم الأرض كلها في خمسة أشهر لا تستقر على شيء حتى أتت الحرم فلم تدخله، وطافت بالحرم أسبوعا، ورفع البيت الذي بناه آدم إلى السماء، وهو البيت المعمور، جعل الحجر الأسود على أبي قبيس، وأودع فيه، ثم ذهبت بهم السفينة في الأرض حتى انتهت بهم إلى الجودي وهو جبل بأرض الموصل، فاستقرت عليه بعد خمسة أشهر). ويقال: ركب نوح في السفينة لعشر مضين من رجب، وخرج منها يوم عاشوراء، فذلك خمسة أشهر.
فلما استقرت السفينة على الجودي كشف نوح الطبق الذي فيه الطير، فبعث الغراب ليأتيه بالخبر فأبصر جيفة، فوقع عليها وأبطأ على نوح ولم يأته، فأرسل الحدأة على إثره فأبطأت عليه ولم تأته، فدعا على الغراب أن يكون طويل العمر في مخافة وشقاء. ثم أرسل الحمامة بعد الحدأة بسبع فلم تجد موقعا فرجعت، فبسط لها نوح عليه السلام كفه فوقعت عليه، ثم مكث نوح ما شاء الله، ثم أرسلها مرة أخرى فجاءت بعد ذلك فوقعت على الأرض وغابت رجلاها في الطين، فعرف نوح أن الأرض قد ظهرت، فدعا بها فقال: كوني آنس طير وأنعمه وأكيسه.
وقوله تعالى: { وقيل يأرض ابلعي مآءك } أي انشفي الماء الذي خرج منك. قوله تعالى: { ويسمآء أقلعي } أي كفي عن الصب، يقال: أقلعت السماء إذا استمسك المطر حتى لم يبق له أثر، وأقلعت الحمى عن فلان إذا تركته. قوله تعالى: { وغيض المآء }؛ أي ونشف الأرض ماؤها، ويقال غاض الماء يغيض إذا غار في الأرض.
قوله تعالى: { وقضي الأمر }؛ أي وقع هلاك الكفار على التمام، هلك من هلك، ونجا من نجا. قال ابن عباس: (نشفت الأرض ماءها الذي خرج منها، وذهب ماء السماء إلى البحور؛ لأن الله تعالى قال { يأرض ابلعي مآءك } ).
قوله: { واستوت على الجودي }؛ أي استوت السفينة على الجودي شهرا، وهو جبل بالجزيرة، { وقيل بعدا للقوم الظالمين }؛ يجوز أن يكون معناه: قال الله تعالى: { بعدا } أي سخط من رحمة الله للقوم الكافرين، ويجوز أن يكون هذا من قول أهل السفينة حين نجوا من الغرق، وخرجوا من السفينة، قالوا: { بعدا للقوم الظالمين } أي أبعدهم الله من رحمته في الآخرة أيضا.
[11.45-46]
قوله تعالى: { ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي }؛ أي قومي، { وإن وعدك }؛ بنجاة قومي، { الحق }؛ الصدق لا شك فيه، { وأنت أحكم الحاكمين }؛ في قولك وفعلك، وكان دعاء نوح عليه السلام بهذا الدعاء حين حال الموج بينه وبين ابنه كنعان. { قال ينوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح }؛ معناه: قال الله: يا نوح إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، إنما أهلك دينك، وإن ابنك كافر ليس على دينك، فانقطعت العصمة بينك وبينه بكفره وإيمانك.
قوله تعالى: { إنه عمل غير صالح } أي إن سؤالك إياي أن أنجي كافرا عمل غير صالح، قرأ الكسائي ويعقوب (عمل) بكسر الميم وفتح اللام (غير) منصوب، أي إنه عمل بالشرك والتكذيب، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين (غير) بالرفع؛ أي إنه ذو عمل غير صالح. وقيل إن سؤالك إياي نجاة ولدك الذي ليس من أهلك سؤال غير مرض.
قوله تعالى: { فلا تسئلن ما ليس لك به علم }؛ قرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحها، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسرها، والمعنى واحد؛ أي لا تسألني ما ليس لك به علم أنه صواب وأنا أفصله.
قوله تعالى: { إني أعظك أن تكون من الجاهلين }؛ إي إني أعظك أن تسألني سؤال الجاهل، ولكن سلني سؤال العالم بي. والوعظ في اللغة: هو الزجر عن القبيح، وكان نداء نوح { رب إن ابني من أهلي } نداء تعظيم لله تعالى على ظن أن ابنه من أهل دينه, وقوله تعالى { إنه ليس من أهلك } نداء تنبيه على أنه ليس من أهل دينه، ولا من أهل أن يلطف به.
واختلفوا في هذا الابن، فقالوا: إنه لم يكن ابن نوح لقوله تعالى: { إنه ليس من أهلك } أي من ولدك وهو قول مجاهد والحسن، والمعنى على قولهما إنه ولد لغير رشده.
قال قتادة: (وسئل الحسن عنه فقال: (والله ما كان ابنه)، وقرأ
فخانتاهما
[التحريم: 10]! فقلت: إن الله تعالى حكى عنه أنه قال: { إن ابني } وقال: (ونادى نوح ابنه) وأنت تقول: لم يكن ابنه! وإن أهل الكتابين لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال الحسن: (ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟! إنهم يكذبون). وقال ابن جريج: (وناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولد على فراشه). وقال بعضهم: إنما كان ابن امرأته، واستدلوا بقوله { إن ابني من أهلي } ولم يقل إن ابني مني، وهو قول أبي جعفر الباقر.
وقال أكثر المفسرين: إنه كان ولده من صلبه، وقوله تعالى: { ليس من أهلك } أي الذي وعدتك أن أنجيهم، قالوا: وما بغت امرأة نبي قط، وإنما خيانتهما في الدين لا في الفراش، ولأن الله تعالى يعصم أنبياءه صلوات الله عليهم أن يقع من نسائهم ما يلحق بهم عيبا في الدنيا، وإن كان قد يقع منهن ما يكون عيبا في أمر الآخرة، وفي الحديث:
" ما بغت امرأة نبي قط، وكانت خيانتها له أنها كانت تقول للناس: إنه مجنون وكانت تدل على الأضياف "
وهذا قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك.
وقال أبو معاوية البجلي: (قال رجل لسعيد بن جبير: قوله { إن ابني من أهلي } هل كان ابن نوح؟ فسبح الله طويلا، قال: لا إله إلا الله، يحدث الله محمدا نبيه ويقول إنه ابنه وتقول أنت ليس ابنه! كان ابنه ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، فمن ثم قال: { إنه ليس من أهلك } ). وهذا القول أولى بالصواب، وأليق بظاهر الكتاب.
[11.47]
قوله تعالى: { قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم }؛ أي قال نوح: إني أمتنع بك أن أسألك ما ليس لي به علم أنه صواب، { وإلا تغفر لي } خطيئتي هذه وهي هذا السؤال، { وترحمني أكن من الخاسرين } بالوزر والعقوبة.
[11.48]
قوله تعالى: { قيل ينوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك }؛ أي قال الله لنوح: فاهبط من السفينة إلى الأرض بأمن وسلامة من الآفات، (وبركات) أي وخيرات ثابتة عليك وعلى الذين معك من المؤمنين. قوله تعالى: { وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم }؛ أي وأمم سنمتعهم عليهم بعدك في الدنيا ثم يمسهم في الآخرة منا عذاب أليم، وهم الكافرون وأهل الشقاوة.
فهبط نوح ومن معه من الجودي، ولم يكن لواحد منهم نسل إلا لنوح وأولاده، كما قال الله تعالى:
وجعلنا ذريته هم الباقين
[الصافات: 77]، وعن محمد بن كعب قال: (دخل في السلام والبركة كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في الإمتاع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة). وفي الآية دلالة على ذلك؛ لأن لفظ الأمم يدل على الجماعات الكثيرة، ولم يكن مع نوح في السفينة إلا قليل.
[11.49]
قوله تعالى: { تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك }؛ أي تلك القصة التي ذكرتها لك يا محمد قصة نوح من الأمور الغائبة عنك، { ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هذا } ، القرآن وهذا منة من الله تعالى: { فاصبر }؛ على أذى الكفار، كما صبر نوح على أذاهم، واصبر على القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة، وما تلقى من أذى قومك كما صبر نوح على أذى قومه، { إن العاقبة للمتقين }؛ أي آخر الأمر بالسعادة والظفر والنصر للمتقين، كما كانت لنوح ومن آمن به.
[11.50]
قوله تعالى: { وإلى عاد أخاهم هودا }؛ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا في النسب، { قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون }؛ أي وحدوه دون الأصنام فإنها ليست بآلهة، وما أنتم إلا كاذبون في قولكم إنها آلهة.
[11.51]
قوله تعالى: { يقوم لا أسألكم عليه أجرا }؛ أي لا أسألكم على ما أؤدي إليكم من الرسالة مالا فتتهموني أني أبتغي بذلك كسب مال أو تخشون أن ألزمكم غرما في مالكم، { إن أجري إلا على الذي فطرني }؛ أي ما ثوابي إلا على الذي خلقني، { أفلا تعقلون }؛ أن الأمر على ما أقوله. وأصل الفطر الشق، وسمي الخلق فطرا لأنه يظهر به المخلوق كما يظهر الشيء بالشق.
[11.52]
قوله تعالى: { ويقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه }؛ أي استغفروا ربكم من الكفر والذنوب ثم ارجعوا إليه بالندم والعزم على ترك العود في الذنوب، { يرسل السمآء عليكم }؛ بالمطر، { مدرارا }؛ دائما متواترا، { ويزدكم قوة }؛ في أبدانكم وأموالكم، { إلى قوتكم }؛ التي لكم، { ولا تتولوا مجرمين }؛ عما أدعوكم إليه مذنبين.
[11.53]
قوله تعالى: { قالوا يهود ما جئتنا ببينة }؛ أي حجة، وقد جاءهم بمعجزة إلا أنهم لم يعتقدوها حجة، قوله تعالى: { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك }؛ أي قالوا: ما نحن بتاركي عبادة آلهتنا بقولك، { وما نحن لك بمؤمنين }؛ أي بمصدقين فيما تقوله.
[11.54-55]
قوله تعالى: { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء }؛ أي قالوا ما نقول فيك إلا أنه أصابك بعض آلهتنا بجنون فخبل عقلك لسبك إياها، وكان القوم يعلمون وكل أحد أن الذي يعقل ويميز لو أراد أن يصيب غيره بجنون لم يقدر على ذلك، فكيف تقدر الأصنام التي لا عقل لها ولا تمييز؟! والاعتراء افتعال من عراه يعروه إذا مسه وأصابه.
وقوله تعالى: { قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون } { من دونه }؛ أي قال هود: إني أشهد الله على نفسي، واشهدوا أنتم أيضا أني بريء مما تشركون مع الله في العبادة، ولم يكن إشهاده إياهم للاحتجاج بقولهم، وإنما هو للاحتجاج عليهم.
قوله تعالى: { فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون }؛ أي إن قدرتم على قتلي أنتم وآلهتكم، أو على إنزال السوء، فافعلوا ولا تمهلوني طرفة عين، ولم يقل هذا على جهة الأمر لهم، وإنما قال لبيان عجزهم.
[11.56]
قوله تعالى: { إني توكلت على الله ربي وربكم }؛ أي فوضت أمري إلى خالقي وخالقكم متمسكا بطاعته وتاركا لمعصيته، وهذا هو حقيقة التوكل على الله.
وقوله تعالى: { ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتهآ }؛ أي ما من أحد إلا وهو في قهر الله وتحت قدرته، وإنما جعل الأخذ بالناصية كناية عن ذلك؛ لأنك إذا أخذت بناصية غيرك فقد قهرته وأذللته، والناصية مقدم شعر الرأس، قوله تعالى: { إن ربي على صراط مستقيم }؛ أي هو في تدبير عباده لا يفعل إلا الحق، فإنه عادل لا يجور، ويقال: إن معناه: أن طريق العبادة على الله كما قال تعالى
إن ربك لبالمرصاد
[الفجر: 14].
[11.57]
قوله تعالى: { فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم }؛ أي فإن تولوا عن الإيمان فما هو تقصير مني في إبلاغ الرسالة، ولكن لسوء اختياركم، { ويستخلف ربي قوما غيركم }؛ أطوع له منكم؛ أي يهلككم بعذاب استئصال، قد يستخلف بهلاككم قوما غيركم أطوع له منكم، { ولا تضرونه شيئا }؛ أي لا تقدرون على أن تنقصوا شيئا من ملكه وهو سبحانه لا يجوز عليه المضار. قوله تعالى: { إن ربي على كل شيء حفيظ }؛ أي هو شاهد على أعمال العباد للمجازاة، لا يخفى عليه شيء منها.
[11.58]
قوله تعالى: { ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه }؛ أي لما جاء أمرنا بعقاب قوم هود بالريح العقيم، نجينا هودا والمؤمنين به من ذلك العقاب، { برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ }؛ يحتمل أن يكون المراد: أن نجاهم من الريح العقيم، إلا أنه أعاد ذكر النجاة للتأكيد وتفخيم الحال. ويحتمل أن يكون معناه: كما نجينا المؤمنين مما عذب به عاد في الدنيا، فكذلك نجيناهم من عذاب الآخرة.
[11.59-60]
قوله تعالى: { وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله }؛ أي كذبوا بدلائل الله الدالة على وحدانيته وصدق أنبيائه، وعصوا هودا ومن قبله ومن بعده؛ لأنه عليه السلام أرسل بتصديق من قبله وبالبشارة لمن بعده، فلما كذبوه فقد كذبوا الرسل كلهم. قوله تعالى: { واتبعوا أمر كل جبار عنيد }؛ أي أمر كل طاغ عات معرض عن الله، قوله تعالى: { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة }؛ أي أتبعوا بعد الهلاك في هذه الدنيا بالإبعاد عليهم باللعن، فلعنتهم الملائكة والناس ما دامت الدنيا.
قوله تعالى: { ويوم القيامة }؛ أي ويوم القيامة يبعدون من رحمة الله كما أبعدوا في الدنيا. قوله تعالى: { ألا إن عادا كفروا ربهم }؛ أي جحدوا، { ألا بعدا لعاد قوم هود } ، أي أبعدهم الله من رحمته إبعادا. وفي هذا تهديد للكفار، كأنه تعالى قال: انظروا يا أهل مكة كيف فعلت عاد وكيف فعل بهم، فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
[11.61]
قوله تعالى: { وإلى ثمود أخاهم صالحا }؛ في النسب، { قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض }؛ أي أنشأ آباءكم كما قال في آية أخرى
خلقكم من تراب
[الروم: 20]، { واستعمركم فيها }؛ أي المراد أن تكونوا عمار الأرض وسكانها، فمكنكم من عمارتها وأحوجكم إلى المسكن فيها. وقال مجاهد: (معناه: أعمرها لكم مدة أعماركم) من العمرى، وهي الهبة التي يهبها الرجل لغيره على أن تكون للموهوب له مدة حياته، ثم يرجع إلى الواهب.
قوله تعالى: { فاستغفروه ثم توبوا إليه }؛ أي استغفروه من الشرك والذنوب، ثم دوموا على التوبة، { إن ربي قريب }؛ ممن تقرب إليه، { مجيب }؛ لمن دعاه وأطاعه. وأراد بالقرب الإسراع بالرحمة والإجابة؛ لا قرب المسافة.
[11.62]
قوله تعالى: { قالوا يصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا }؛ أي قد كنا نرجوا فيك الخير قبل هذا اليوم لما كان فيك من الخلائق الحسنة والشمائل المرضية، والآن قد دعوتنا إلى غير دين آبائنا قد يئسنا منك، { أتنهانآ أن نعبد ما يعبد آباؤنا }؛ الألف ألف استفهام بمعنى الإنكار. وقوله تعالى: { وإننا لفي شك مما تدعونآ إليه مريب }؛ أي لو أجبناك إلى ما تدعونا إليه لأجبناك على شك ظاهر، فإنا لا نعلم صدقك فيما تقول.
[11.63]
قوله تعالى: { قال يقوم أرأيتم }؛ أخبروني، { إن كنت على بينة }؛ برهان وحجة، { من ربي وآتاني منه رحمة }؛ نعمة وهي النبوة، { فمن ينصرني من الله إن عصيته }؛ فمن يمنع عذاب الله عني إن عصيته مع نعمته علي، { فما تزيدونني غير تخسير }؛ إن عصيت الله في اتباع دينكم إلا خسران الدنيا والآخرة.
[11.64-65]
قوله تعالى: { ويقوم هذه ناقة الله لكم آية }؛ أي دلالة ومعجزة على صدق قولي حيث أخرجتها لكم بإذن الله ناقة عشراء من صخرة ملساء كما سألتم، { فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب * فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب }؛ وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف.
[11.66]
قوله تعالى: { فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا }؛ أي لما جاء أمرنا بالعذاب نجينا صالحا من ذلك، ونجينا الذين آمنوا معه بنعمة منا، { ومن خزي يومئذ } ، الخزي: هو الذل الذي يستحى منه، وهو ما نزل بهم في كل يوم من علامة الأشقياء من اصفرار وجوههم في اليوم الأول، واحمرارها في اليوم الثاني، واسودادها في اليوم الثالث ، وقوله تعالى: { إن ربك هو القوي العزيز }؛ أي هو القادر على أخذ أعدائه، العزيز المنتقم ممن عصاه.
[11.67-68]
قوله تعالى: { وأخذ الذين ظلموا الصيحة }؛ معناه: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وقيل: الذين ظلموا الناقة. والصيحة: جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة هائلة عند صباح اليوم الرابع، لم تحتملها قلوبهم فهلكوا.
وإنما قال في هذه الآية: (وأخذ)، وفي آية أخرى: (وأخذت)؛ لأن الصيحة والصياح واحد، فرد الكناية مرة إلى الصياح ومرة إلى الصيحة.
قوله تعالى: { فأصبحوا في ديارهم جاثمين }؛ أي ميتين قد همدوا رمادا جثوما على الركب. ويقال: أصبحوا في بلادهم جاثمين على وجوههم على الطرف. وقوله تعالى: { كأن لم يغنوا فيهآ }؛ أي كأن لم يكونوا في الأرض قط.
قوله تعالى: { ألا إن ثمود كفروا ربهم }؛ أي بربهم، { ألا بعدا لثمود }؛ أي أبعدهم الله من رحمته. وقرىء (لثمود) بالكسر لقربها من قوله { ألا إن ثمود } ، فمن صرفه جعله اسما، ومن لم يصرفه جعله اسما للقبيلة.
[11.69]
قوله تعالى: { ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن جبريل ومن معه اثني عشر ملكا جاؤا إلى إبراهيم ليبشروه بإسحاق من زوجته سارة).
فلما دخلوا عليه، { قالوا سلاما }؛ أي سلموا عليه سلاما، وقيل: قالوا: نسلم سلاما، وهو نصب على المصدر، وقوله: { قال سلام }؛ أي أجابهم إبراهيم بأن قال: عليكم سلام. وإنما لم يقل عليكم سلاما بالنصب؛ لأنه لو كان كذلك لكان يتوهم أن إبراهيم عليه السلام حكى قول الملائكة أنكم سلمتم سلاما، فخالف بينهما ليكون قوله جوابا لهم. ومن قرأ بكسر السين، فالسلم والسلام بمعنى واحد، كحل وحرم مثل حلال وحرام.
قوله تعالى: { فما لبث أن جآء بعجل حنيذ }؛ أي ما لبث إبراهيم أن جاء بعجل محنوذ؛ أي مشوي، قال ابن عباس: (الحنيذ: النضيج) وهو قول مجاهد وقتادة، والحنذ: إشواء اللحم بالحجارة المحماة في شوء من الأرض، وهو من فعل البادية، وقال مقاتل: (إنما جاءهم بعجل لأنه كان أكثر ماله البقر).
وقال الحسن: (إنما جاءهم بالطعام لأنهم جاؤه على صورة الآدميين، على هيأة الأضياف، ولم يكن شيء أحب إليه من الضيفان، ولو جاؤه على صورة الملائكة لم يكن يقدم إليهم ذلك لعلمه باستغناء الملائكة عن الطعام).
[11.70]
قوله تعالى: { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم }؛ أي لما وضع الطعام بين أيديهم، فرآهم لا يمدون إليه أيديهم أنكرهم، { وأوجس منهم }؛ أضمر في نفسه، { خيفة }؛ خوفا منهم، وكان أهل ذلك الزمان إذا لم يأكل بعضهم من طعام بعض خافوا من غائلته. فلما علمت الملائكة خوفه منهم، { قالوا لا تخف }؛ منا يا إبراهيم، { إنا أرسلنا } ، أي إن الله أرسلنا، { إلى قوم لوط }؛ لنهلكهم.
[11.71]
قوله تعالى: { وامرأته قآئمة فضحكت }؛ معناه: وامرأته سارة كانت قائمة معه على رؤوسهم بالخدمة، ويقال: كانت قائمة من وراء الستر في حال محاورة إبراهيم مع الملائكة، ويقال: إن سارة بنت عم إبراهيم.
قوله تعالى: { فضحكت } أي ضحكت من سرورها بالسلام، فزادوها بشارة بإسحاق عليه السلام، وقال السدي: (إن إبراهيم قال لهم: ألا تأكلون؟! قالوا: إنا قوم لا نأكل إلا بالثمن، قال: كلوا وأدوا ثمنه، قالوا: وما ثمنه؟ قال: أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوه في آخره. فنظر جبريل إلى من معه من الملائكة وقال: حق لهذا أن يتخذه الله خليلا، فضحكت امرأته وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا!).
وقال قتادة: (ضحكت لغفلة قوم لوط، وقرب العذاب منهم). وقيل: ضحكت سرورا بالأمن منهم لما قالوا: لا تخف، وقال عكرمة: (ضحكت أي حاضت).
قوله تعالى: { فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب }؛ قرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب بالنصب على معنى: ووهبنا لها من وراء اسحاق يعقوب، وقيل: بنزع الخافض؛ أي وبشرناها من وراء اسحاق بيعقوب، فلما حذفت الباء نصب.
وقال الزجاج: (لا يجوز أن يكون ذلك في موضع الخفض على ذلك؛ لأنه لا يجوز الفصل بين الجار والمجرور وبينهما واو العطف إلا بإعادة حرف الجر؛ لأنه لا يجوز أن يقال: مررت بزيد في الدار والبيت وعمرو، حتى يقول: وبعمر).
وقوله { فبشرناها بإسحاق } قال المفسرون: كان إبراهيم قد ولد له من هاجر وكبر وشب، فتمنت سارة أن يكون لها ابن وآيست من ذلك لكبر سنها، فبشرت على كبر السن بولد يكون نبيا.
قوله تعالى: { ومن ورآء إسحاق يعقوب } قال الزجاج: (بشروها أنها تلد اسحاق، وأنها تعيش إلى أن ترى ولد ولده، ووراء هاهنا بمعنى بعد)
[11.72]
قوله تعالى: { قالت يويلتى ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا }؛ لا يجوز أن يكون هذا على جهة الإنكار، فإن (يا ويلتا) كلمة تستعملها النساء عند وقوع أمر فظيع، فاستعملتها في هذا الموضع على جهة التعجب، ولهذا قالت: { إن هذا لشيء عجيب }. وأصله: يا ويلتي فأبدل من الياء الألف لأنه أخف من الياء والكسر.
قال ابن عباس: (كانت سارة بنت ثمان وتسعين سنة، وكان زوجها ابن مائة وعشرين، فتعجبت بأن يكون بين شيخين كبيرين ولد)، قوله تعالى: { وهذا بعلي شيخا } أي هذا الذي يعرفونه بعلي، ثم قالت (شيخا) أي انتبهوا له في حال شيخوخته فهو نصب على الحال، وذهب الكوفيون إلى أنه نصب على القطع عن المعرفة إلى النكرة كما يقال: خرج زيد راكبا.
[11.73]
قوله تعالى: { قالوا أتعجبين من أمر الله }؛ أي قالت الملائكة: أتعجبين من قدرة الله وأنت عارفة أن الله قادر على كل شيء؟ قال السدي: (أخذ جبريل عودا يابسا فدلكه بين إصبعيه فإذا هو أخضر يهتز، فعرفت أنه من الله).
قوله تعالى: { رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت }؛ معناه: نعمة الله عليكم في الدين والدنيا وخيراته التامة عليكم يا أهل البيت بيت إبراهيم عليه السلام، { إنه حميد }؛ لأعمالكم، { مجيد }؛ أي كريم يكرمكم بالنعم، الكريم هو الذي يبتدئ بالنعمة قبل الاستحقاق، والمجيد الماجد وهو ذو الشرف والمجد والكرم.
[11.74-75]
قوله تعالى: { فلما ذهب عن إبراهيم الروع }؛ أي الخوف والفزع، { وجآءته البشرى }؛ بإسحاق جعل، { يجادلنا }؛ يجادل رسلنا، { في قوم لوط }.
واختلفوا في هذه المجادلة، فقال بعضهم: سأل عن سبب تعذيب الله لهم سؤال مستقص حتى قال: إن الله أمر باستئصالهم وبتخويفهم بالعقاب، وحتى قال: إن فيها لوطا. وقال بعضهم: أراد بالمجادلة الدعاء والتضرع وشدة الحرص على نجاة القوم رجاء إيمانهم.
كما روي أن إبراهيم عليه السلام قام من الليل يصلي وهو يقول: يا رب أتهلك قوم لوط؟ قيل: يا إبراهيم ليس فيهم مؤمنون، قال: يا رب فإن كان فيهم خمسون أهل بيت مؤمنون أتهلكهم؟ قيل: لا، قال: فأربعون؟ قيل: لا، فلم يزل يردد حتى قيل: إن كان فيهم خمسة أبيات مؤمنين رفعنا عنهم البلاء. يقول الله تعالى:
فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين
[الذاريات: 36].
قيل: لما جادلهم إبراهيم عليه السلام قالت له الرسل: يا إبراهيم أعرض عن هذا الجدال، إنه قد جاء أمر ربك بعذابهم، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود، قوله: { إن إبراهيم لحليم }؛ أي وقور بطيء الغضب، والحليم: المحتمل للأذى مع قدرته على العقوبة والمكافأة، { أواه }؛ بالدعاء، ويقال: الرحيم، ويقال المتأوه خوفا وأسفا على الذنوب، و { منيب }؛ هو الراجع إلى الله.
[11.76]
قوله تعالى: { يإبرهيم أعرض عن هذآ }؛ أي عن جدالك، { إنه قد جآء أمر ربك } بهلاكهم، { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود }؛ غير منصرف عنهم.
[11.77]
قوله تعالى: { ولما جآءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا }؛ يعني لما جاءت الملائكة لوطا ساءه مجيئهم، وضاق بهيأتهم قلبه؛ فإنهم جاؤه في صورة الغلمان المرد الحسان، وكان قد علم عادة قومه، فخاف عليهم من صنع قومه، { وقال }؛ في نفسه: { هذا يوم عصيب }؛ أي شديد لازم شره كالمعصوب بالعصبة، كأنه قال: هذا يوم التف الشر فيه بالشر، وأما ضيق الذرع فيوضع موضع ضيق الصدر، يقال: ضاق فلان بأمره ذرعا إذا لم يجد من المكره في ذلك مخلصا.
قيل: معناه: ضاق بهم وسعا. وكان لوط ضاق وسعه بهم أن يحفظهم. وفي الخبر: أنه جعلهم فيما بين مواشيهم، فلما كان في وقت غفلة الناس حملهم إلى داره، فذهبت امرأته الخبيثة وأخبرتهم، وقالت لهم: إنه قد نزل عند لوط أضياف لم ير قط أحسن وجوها منهم، ولا أطيب ريحا، ولا أنظف ثيابا.
[11.78]
قوله تعالى: { وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات } وذلك أن امرأة لوط لما أخبرتهم بأضيافه، جاؤا إلى داره يسرعون إليه ، ويهرولون هرولة، والإهراع: مشي بين مشيتين، ومن قبل ذلك كانوا يعملون المعاصي، وهي ما كانوا يعملون من الفاحشة مع الذكور، فإنهم كانوا يعملون ذلك من دون أن يخفي بعض عن بعض.
{ قال }: لهم لوط عليه السلام: { يقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم }؛ عرض عليهم بناته نكاحا، وأظهر من نفسه في صونهم ما لا شيء أبلغ منه، أظهر الكرامة في باب الأضياف، فذكر بناته ليدل بذلك على التشديد في دفعهم عما أرادوا. فكان يجوز في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر، كما كان يجوز في شريعتنا في ابتداء الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنته من ابن العاص بن الربيع. ويقال: أراد بقوله { بناتي } بنات قومه؛ لأن النبي يكون للقوم بمنزلة الوالد.
قوله تعالى: { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي }؛ أي اتقوا عقاب الله، ولا تلزموني عيبا في ضيفي، { أليس منكم رجل رشيد }؛ في نفسه فينزجر عن هذا الأمر، ويزجركم عنه.
[11.79-80]
قوله تعالى: { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد }؛ أي ميلنا إلى الغلمان دون النساء، قوله تعالى: { قال لو أن لي بكم قوة }؛ أدفعكم بها عن أضيافي، ويمكنني، { أو آوي إلى ركن شديد }؛ إلى قبيلة أستغيث بها على دفعكم لمنعتكم أشد المنع عما تحاولون.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" رحم الله أخي لوط لقد آوى إلى ركن شديد "
أي التجأ إلى الله وملائكته، وقال ابن عباس: (فلما علم جبريل والملائكة خوف لوط من تهديد قومه، وقد كان لوط أغلق الباب على نفسه وعلى الملائكة وهو يناشد قومه، قال له جبريل: يا لوط إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
[11.81-83]
قوله تعالى: { قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك }؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فقام جبريل في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه وضرب به وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم.
فقال لوط عليه السلام متى موعد هلاكهم ؟ قالوا: الصبح، قال: أريد أسرع من ذلك، فقالوا: أليس الصبح بقريب؟ وذلك قوله تعالى:
ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم
[القمر: 37].
ثم قالوا له: { فأسر بأهلك }؛ وفيه قراءتان (فأسر) بالهمز والوصل، يقال سرى وأسرى بمعنى واحد، قوله تعالى: { بقطع من الليل }؛ أي في آخر الليل عند السحر والهدوء، وقال الضحاك: (بقطع أي ببقية)، وقال قتادة: (بعد ما مضى صدره)، { ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك }.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (امرأتك) رفعا على الاستثناء من الإلتفات؛ أي ولا يلتفت أحد إلا امرأتك، فإنها تلتفت فتهلك. وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء من الإسراء؛ أي فاسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها وخلفها مع قومها. قوله تعالى: { إنه مصيبها مآ أصابهم }؛ ظاهر المعنى.
قوله تعالى: { إن موعدهم }؛ أي قالت الملائكة: إن وقت هلاكهم، { الصبح }؛ فقال لوط: الآن يا جبريل، وإنما ذلك لضيق صدره منهم وشدة غيظه، فقال جبريل: { أليس الصبح بقريب } ، وفي هذا بيان أن الله لا يهلك أحدا قبل انقضاء مدته، وإن ضاقت صدور أوليائه عنه.
وعن ابن عباس: (أن جبريل لما قال للوط: فاسر بأهلك بقطع من الليل، قال لوط: يا جبريل كيف أصنع وأبواب المدينة قد أغلقت، فجمع له جبريل أهله وبقره وغنمه وماله، واحتملهم على جناحه حتى أخرجهم من المدينة، فانطلق بهم متوجها إلى صغر، وهي على أربعة فراسخ من مدائن لوط، وهي إحدى القرى الخمس: سدوم وداد وماو وعامورا وصغر، ولم يكن أهل صغر يعملون عملهم، وكان في كل مدينة ألف مقاتل، فما سار لوط فرسخين حتى سمع الصيحة).
كما روي أن جبريل عليه السلام جعل جناحه في أسفلها فرفعها من الأرض السابعة إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها وجعل أسفلها أعلاها، وأعلاها أسفلها، وأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض، فذلك قوله تعالى: { فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل }؛ قال وهب: (لما رفعت إلى السماء أمطر الله عليها حجارة الكبريت بالنار، ثم قلبت عليهم).
قوله تعالى : { وأمطرنا عليها حجارة من سجيل } قيل: أمطر الله الحجارة على شذاذهم ومسافريهم. واختلفوا في السجيل، فقيل: هو فارسية معربة، وفيه بيان أن تلك الحجارة كانت شديدة صلبة، نحو ما يطبخ من الطين فيصير كالآجر وأصلب منه، يدل عليه قوله تعالى:
لنرسل عليهم حجارة من طين
[الذاريات: 33]. وقال بعضهم: هو من سجيل وهو الإرسال، فيكون معناه: حجارة مرسلة، ويقال: السجيل: سماء الدنيا، وقيل: السجيل والسجين: الشديد من الحجر.
قوله تعالى: { منضود }؛ أي بعضهم فوق بعض. وقوله: { مسومة }؛ أي معلمة بعلامة المعاقبين، وكانت مخططة بالسواد والحمرة والبياض. وقيل: كان مكتوب على كل حجر اسم من هلك به. وقوله تعالى: { عند ربك }؛ أي أعلمتها الملائكة في السماء بأمر الله.
وقوله تعالى: { وما هي من الظالمين ببعيد }؛ أي وما تلك الحجارة من ظالمي أمتك ببعيد، وعن ابن عباس أنه قال: (لا والله لا تذهب الليالي والأيام حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال كما استحلوا النساء، ولا تذهب الأيام والليالي حتى يصيب طوائف من هذه الأمة حجارة من عند ربك).
[11.84]
قوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا }؛ أي وإلى ولد مدين بن إبراهيم أخاهم في النسب، { قال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان }؛ أي ولا تنقصوا حقوق الناس عند الكيل والوزن عليهم بالتطفيف، { إني أراكم بخير }؛ أي إني أراكم في الخصب والرخص ما أوفيتم للناس حقوقهم. وقيل: معناه: إني أراكم في كثرة الأموال، وأنتم مستغنون عن نقصان الكيل والوزن، { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } أي عذابا يحيط بكم فلا يفلت منكم أحد.
[11.85]
قوله تعالى: { ويقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط }؛ أي بالعدل، { ولا تبخسوا الناس أشيآءهم }؛ أي ولا تنقصوهم حقوقهم، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }؛ أي لا تضطربوا في الأرض بالقبيح مفسدين بالمعاصي.
[11.86]
قوله تعالى: { بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ }؛ معناه: ما أبقاه الله خير لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير لكم مما حرم عليكم من البخس والتطفيف إن كنتم مصدقين ما أقوله لكم. ويقال : أراد بالبقية طاعة الله، فإنها هي التي يبقى ثوابها. قوله تعالى: { ومآ أنا عليكم بحفيظ }؛ أي لم أوكل بحفظكم فأقاتلكم وأمنعكم.
[11.87]
قوله تعالى: { قالوا يشعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء }؛ أي قالوا يا شعيب: أكثرة صلواتك التي تفعلها تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا، وتأمرك أن تأمرنا بأن لا نفعل في أموالنا ما نشاء، وقال عطاء: (معنى قوله: أصلاتك؛ أي دينك يأمرك، فكنى عن الدين بالصلاة؛ لأنها من أمر الدين، وكان شعيب كثير الصلاة، فلذلك قالوا هذا).
قوله تعالى: { إنك لأنت الحليم الرشيد }؛ السفيه الجاهل، فذكروا الحليم الرشيد على جهة الاستهزاء، هكذا روي عن ابن عباس، ويقال: قالوا ذلك على جهة التحقيق إنك لأنت الحليم الرشيد في قومك، فكيف تنهانا عن عبادة ما يعبد آباؤنا وعن أن نفعل في أموالنا ما نشاء من البخس والتطفيف، كأنهم استبعدوا أن يكون آباؤهم قد أخطأوا في دينهم ورباهم.
[11.88]
قوله تعالى: { قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي }؛ أي قال لهم شعيب: أخبروني إن كنت على دلالة واضحة من ربي، { ورزقني منه رزقا حسنا }؛ قيل: أراد النبوة فإنها أعظم رزق الله تعالى. وقيل: أراد به المال الحلال. قال ابن عباس: (كان شعيب عليه السلام كثير المال كثير الصلاة)، وقيل: معنى قوله: { رزقا حسنا } أي علما ومعرفة. وأما جواب قوله { إن كنت على بينة من ربي ورزقني } المال الحلال اتبعه الضلال فأبخس وأطفف، أشوب الحلال بالحرام كما تفعلون به.
قوله تعالى: { ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه }؛ أي ما أريد أن تتركوا ما نهيتكم عنه لأعمل أنا به فانتفع، والمعنى لست أنهاكم عن شيء ثم أدخل فيه، { إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت }؛ أي ما أريد إلا الإصلاح في أمر الدين والمعاش بقدر استطاعتي، { وما توفيقي إلا بالله عليه }؛ أي ما توفيقي للصلاح إلا من الله، والتوفيق من الله، هو كل فعل يتفق مع العبد عند اختيار الطاعة والصلاح، ولولاه لكان يختار خلاف ذلك. قوله تعالى: { عليه توكلت }؛ أي فوضت أمري إلى الله، وقوله تعالى: { وإليه أنيب }؛ أي أرجع.
[11.89]
قوله تعالى: { ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح }؛ أي يا قوم لا يكسبنكم عداوتي أن لا تؤمنوا فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق، { أو قوم هود }؛ من الريح العقيم، { أو قوم صالح }؛ من الصيحة، { وما قوم لوط منكم ببعيد }؛ أي قد بلغكم ما أصابهم وهم أقرب إليكم ممن تقدمهم. يجوز أن يكون المراد بذلك قرب زمانهم، ويجوز أن يكون المراد به قرب ديارهم منهم، وكل ذلك أقرب إلى الاعتبار.
[11.90]
قوله: { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه }؛ أي استغفروه من الشرك والذنوب، ثم توبوا إليه بإخلاص، { إن ربي رحيم } بعباده، { ودود } متودد بالنعم وقبول التوبة.
[11.91]
قوله تعالى: { قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول }؛ أي ما نفهم كثيرا ما تقول، قال ابن الأنباري: (معناه ما نفقه صحة كثير مما تقول، يعنون من التوحيد والبعث، وما يأمرهم به من الزكاة وترك البخس، والفقه في اللغة هو استدراك معنى الكلام).
قوله تعالى: { وإنا لنراك فينا ضعيفا }؛ قال ابن عباس: (أرادوا بالضعف أنه ضرير البصر)، وقال ابن جبير: (معناه إنا لنراك أعمى)، وقد روي أنه كان قد ذهب بصره من كثرة بكائه من خشية الله تعالى. وفي بعض الروايات: أنه عمي ثلاث مرات، وكان الله تعالى يرد عليه بصره حتى أوحى إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ قال: شوقا إليك يا رب.
" وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شعيب قال: " ذاك خطيب الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين " ".
قوله تعالى: { ولولا رهطك لرجمناك }؛ أي ولولا عشيرتك لقتلناك بالحجارة، { ومآ أنت علينا بعزيز }؛ أي إنا لا ندع قتلك لعزتك علينا، ولكن لأجل قومك. والمعنى: لست تمتنع علينا أن نقتلك لولا ما نراعي من حق عشيرتك.
[11.92]
قوله تعالى: { قال يقوم أرهطي أعز عليكم من الله }؛ أي إنكم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي والله تعالى أولى بأن يتبع أمره؛ أي إنكم تركتم قتلي لأجل عشيرتي، ولا تتركونه لأجل الله، قوله تعالى: { واتخذتموه ورآءكم ظهريا }؛ أي نبذتم أمر الله وراء ظهوركم، والظهري: ما نبذه الإنسان وراء ظهره، { إن ربي بما تعملون محيط }؛ أي عليم، لا يعزب عنه علم شيء.
[11.93]
قوله تعالى: { ويقوم اعملوا على مكانتكم إني عمل }؛ أي اعملوا على دينكم إني عامل على ديني، وهذا على سبيل التهديد والوعيد، والمكانة والمكان بمعنى واحد. قوله تعالى: { سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه }؛ أي يذله ويهينه، وتعلمون { ومن هو كذب }؛ على الله، { وارتقبوا إني معكم رقيب }؛ أي انتظروا إني منتظر معكم.
[11.94-95]
قوله تعالى: { ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا }؛ أي نجينا شعيبا من ذلك العذاب، ونجينا الذين آمنوا معه برحمة منا، { وأخذت الذين ظلموا الصيحة }؛ يعني من قوم شعيب.
يقال: إن جبريل صاح بهم صيحة، فخرجت أرواحهم من أجسادهم، { فأصبحوا في ديارهم جاثمين }؛ أي ميتين ساقطين صرعى. وقيل: بل واقفين على ركبهم، { كأن لم يغنوا فيهآ }؛ أي كأن لم يكونوا في الأرض قط.
قوله تعالى: { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود }؛ معناه: ألا سحقا وهلاكا لقوم شعيب كما هلكت ثمود، وإنما شبههم بثمود؛ لأن الصيحة كانت سببا في هلاك الفريقين جميعا.
قال ابن عباس: (وذلك أن مدين أصابهم حر شديد، ولم تتحرك الريح ليلا ولا نهارا، فكان يحرقهم بالليل حر القمر، وبالنهار حر الشمس، فنشأت لهم سحابة كهيئة الظلة فيها عذابهم، فأتوها يستظلون تحتها ويطلبون الروح، فسال عليهم العذاب من فوقهم، ورجفت الأرض من العذاب وأحرقتهم السحابة، وذلك قوله تعالى:
فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم
[الشعراء: 189]).
قال: (ولم يعذب أمتان بعذاب واحد إلا قوم شعيب وصالح، فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم).
[11.96-97]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين }؛ أي أرسلنا موسى بدلائلنا، والآية العلامة التي فيها العبرة، وقوله تعالى: { وسلطان مبين } أي وحجة بينة مسلطة على إبطال الفاسد. وقوله تعالى: { إلى فرعون وملئه }؛ وأشراف قومه، { فاتبعوا أمر فرعون }؛ أي اتبعوا قوله وتركوا أمر الله، { ومآ أمر فرعون برشيد }؛ أي ما هو بصائب، إلا أنهم اتبعوا وخالفوا أمر موسى.
[11.98]
قوله تعالى: { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار }؛ أي يمشي أمام قومه يوم القيامة حتى يهجم بهم على النار، وإنما يمشي أمام قومه يوم القيامة لأنهم اتبعوه في الدنيا حتى هداهم إلى طريق النار، فكذلك يمشي بهم في الآخرة حتى يدخل بهم النار.
وأما عطف الماضي الذي هو (فأوردهم) على المستقبل فهو على معنى فهو إذا قدمهم أوردهم النار. وإنما تقدمهم ولم يقل يسبق؛ لأن قوله يسبق قومه لا يدل على أنه يمشي بين أيديهم.
قوله تعالى: { وبئس الورد المورود } فيه إلى النار، والورد في الحقيقة إنما يستعمل في الماء كما قال تعالى:
ولما ورد مآء مدين
[القصص: 23]، ولكن لما كان فرعون وقومه في الآخرة يكونون عطاشى ويردون على ما بهم من العطش استعمل فيهم هذه اللفظة.
[11.99]
قوله تعالى: { وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة }؛ أي وأتبعهم الله في الدنيا لعنة بإبعادهم عن الرحمة بالغرق { ويوم القيامة } لهم لعنة أخرى وهي النار، { بئس الرفد المرفود }؛ بئست اللعنة على إثر اللعنة، ترادفت عليهم اللعنات الغرق في الدنيا والنار في الآخرة.
والرفد في اللغة: هو العون في الأمر إلا أن العطية تسمى رفدا لما فيها من العون، كأنه قال: بئس العطاء ما أعطى. وقال بعضهم: هذا من المقلوب؛ أي بئس الردف المردوف، فالردف: لعنة الله إياهم، والمردوف لعنة الأنبياء والمؤمنين.
[11.100]
قوله تعالى: { ذلك من أنبآء القرى نقصه عليك }؛ أي ذلك الذي ذكرت يا محمد من أخبار الأمم الماضية ينزل به عليك جبريل عليه السلام نقصصهم عليك مرة بعد مرة، مأخوذ من إتباع الشيء الشيء.
قوله تعالى: { منها قآئم وحصيد } أي منها قائم الأبنية وقد باد أهله كما قال تعالى:
وبئر معطلة وقصر مشيد
[الحج: 45]، والحصيد ما هلك بأهله فلا يبقى له مكان ولا أثر نحو مدائن قوم لوط حصدت من الأرض السفلى. والمعنى منها قائم بقيت حيطانه ومنها حصيد مخسوف به قد أمحي أثره، قال ابن عباس: (قائم ينظرون إليه وإلى ما بقي من أثره، وحصيد قد خرب ولم يبق له أثر شبيه بالزرع إذا حصد).
[11.101]
قوله تعالى: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم }؛ أي ما ظلمناهم بإهلاكهم، ولكن ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم، { فما أغنت عنهم آلهتهم }؛ أي فما نفعتهم آلهتهم، { التي يدعون }؛ التي كانوا يعبدونها، { من دون الله من شيء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب }؛ أي تخسير ومنه:
تبت يدآ أبي لهب وتب
[المسد: 1] أي خسرت يداه وخسر هو.
[11.102]
قوله تعالى: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة }؛ معناه: كما أخذ ربك فرعون ومن تقدمه من الكفار، فكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي كافرة. قوله تعالى: { إن أخذه أليم شديد }؛ ظاهر المعنى. وقوله تعالى: { وهي ظالمة } من صفة القرى وهي في الحقيقة لأهلها وسكانها، ونحو هذا قوله
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة
[الأنبياء: 11].
[11.103-104]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة }؛ أي إن في ذلك لعبرة لمن خاف عذاب الآخرة فلا يقتدى بهم، وقوله تعالى: { ذلك يوم مجموع له الناس }؛ معناه: إن يوم القيامة يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، قوله تعالى: { وذلك يوم مشهود }؛ أي يشهده أهل السماوات والأرض. قوله تعالى: { وما نؤخره إلا لأجل معدود }؛ وقد عده الله، وعلم أن صلاح الخلق في إدامة التكليف عليهم إلى ذلك الأجل.
[11.105]
قوله تعالى: { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه }؛ من قرأ (يأتي) بإثبات الياء فعلى الأصل، ومعناه: يوم يأتي ذلك اليوم لا تكلم نفس في الشفاعة إلا بأمر الله، ويقال: لا يجبر أحد أن يتكلم بالاحتجاج وإقامة العذر من مشيئة الله إلا بإذنه، ومن قرأ (يأت) بغير ياء فهي لغة هذيل، وهكذا في مصحف عثمان، ومنه يقول العرب: لا أدر ولا أمض، فيحذف الياء ويجتزئ بالكسر، قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد }؛ أي من الناس شقي وسعيد.
[11.106]
قوله تعالى: { فأما الذين شقوا ففي النار }؛ أي فأما الذين كتبت عليهم الشقاوة ففي النار، وقال بعضهم: شقوا بفعلهم، وقال بعضهم: شقوا في بطون أمهاتهم، فما شقي أحد بفعل إلا بعد ما شقي في بطن أمه، وما شقي في بطن أمه إلا بعد سابق علم الله فيه، وإنما يلحقه اللوم بالشقاوة المحتومة لا بالشقاوة المعلومة، وكذلك السعادة على هذه الجملة.
قوله تعالى: { لهم فيها زفير وشهيق }؛ الزفير شدة الأنين في الصدر، والشهيق الأنين الشديد المرتفع نحو الزعقة التي تكون من شدة الكرب والحزن، وربما يتبعها الغشية، ومن هذا قالوا: إن الزفير أول صوت نهيق الحمار، والشهيق آخر صوت نهيقه، وسمي رأس الجبل شاهقا لارتفاعه.
[11.107]
قوله تعالى: { خالدين فيها }؛ أي دائمين في النار. قوله تعالى: { ما دامت السموت والأرض }؛ قال بعضهم: أراد بذلك مقدار سماء الدنيا وأرضها، وذلك أن العرب إذا أرادت تأكيد التأكيد والتبعيد قالت: ما دامت السماوات والأرض، وما لاح كوكب، وما أضاء القمر، وما اختلف الجديدان، لا يريد بذلك الشرط، وإنما يريد بذلك التأكيد والتبعيد.
قوله تعالى: { إلا ما شآء ربك }؛ أي سوى ما شاء ربك من الخلود بعد مضي مقدار سماء الدنيا وأرضها. وقال بعضهم: معنى الآية: ما دامت سماء الدنيا وأرضها، وسماء الجنة وأرضها، وقوله: { إلا ما شآء ربك } مذكور على وجه التأبيد أيضا. قوله تعالى: { إن ربك فعال لما يريد }؛ أي يفعل ما شاء.
[11.108]
قوله تعالى: { وأما الذين سعدوا }؛ من قرأ (سعدوا) بضم السين فمعناه: رزقوا السعادة، وممن قرأ ذلك أهل الكوفة، قوله: { ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموت والأرض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ }؛ أي أعطاهم النعيم عطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع.
[11.109]
قوله تعالى: { فلا تك في مرية }؛ أي فلا تكن أيها الشاك في مرية، { مما يعبد هؤلاء }؛ من دون الله أنه باطل، والمرية هي الشك مع ظهور دلائل التهمة، وقوله تعالى: { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل }؛ معناه: ما يعبدون إلا على جهة التقليد لآبائهم. قوله تعالى: { وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص }؛ أي حظهم من العذاب غير منقوص عن مقدار ما استحقوا؛ آيسهم الله بهذا القول عن العفو، وقيل: أراد بالنصيب الأرزاق والآجال، وما قدر لهم في دنياهم.
[11.110]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه }؛ أي ولقد أعطينا موسى الكتاب، فصدق به بعضهم، وكذب به بعضهم، { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم }؛ أي لولا وعد الله سبق بإبقاء التكليف عليهم إلى ذكر الوقت لقضى بتعجيل العقاب لمن استحق العقاب في الدنيا، وبتعجيل الثواب لمن استحق الثواب في الدنيا. قوله تعالى: { وإنهم لفي شك منه مريب }؛ أي وإنهم لفي شك من القرآن يريبهم أمره.
[11.111]
قوله تعالى: { وإن كلا لما ليوفينهم ربك }؛ معناه: وإن كلا من الفريقين المصدق والمكذب يجتمعان يوم القيامة فيوفيهم ربك، { أعمالهم }؛ على التمام، { إنه بما يعملون خبير }؛ وبما يستحقون من الجزاء خبير.
قرأ ابن كثير ونافع (وإن كلا لما) كلاهما بالتخفيف، وقرأ أبو بكر عن عاصم (وإن) مخففة (لما) مشددة، والباقون كلاهما بالتشديد، فحجة أبو عمرو والكسائي أن اللام في قوله: (لما) لام التأكيد دخلت في خبر إن، واللام التي في { ليوفينهم } لام القسم، تقديره: والله ليوفينهم، دخلت (ما) للفصل بين اللامين.
وأما حجة نافع وابن كثير في نصبه (كلا) ما قال سيبويه: إنه سمع من العرب من يقول: إن عمرا لمنطلق، فيخففون إن ويعملونها، وأنشده الشاعر:
ووجه حسن النحر
كأن ثدييه حقان
والمعنى على قراءة أبي عمرو (وإن كلا) من السعيد والشقي ليوفينهم ربك أعمالهم، و(ما) زائدة في قوله (لما)، ومن خفف (إن) كان معناه من معنى المشددة، تقول: إن زيدا لقائم، وإن زيدا لقائم، تريد إثبات قيامه، فإذا قلت: إن زيد قائم، فمعناه: ما زيد قائم، ونظيره قوله تعالى:
إن كل نفس لما عليها حافظ
[الطارق: 4] بتخفيف (لما)، تقدير لعلها حافظ، ومن خفف (إن) وشدد (لما) فتأويله الجحد والتحقيق؛ أي ما كل إلا ليوفينهم، ونصب (كلا) على هذا التأويل ب (ليوفينهم) لا ب (أن).
[11.112]
قوله تعالى: { فاستقم كمآ أمرت }؛ أي استقم يا محمد في التمسك بطاعة الله تعالى كما أمرت وليستقم، { ومن تاب معك }؛ من الشرك ، { ولا تطغوا }؛ بمجاوزة أوامر الله تعالى، { إنه بما تعملون }؛ من الخير والشر، { بصير }.
[11.113]
قوله تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا }؛ أي لا تميلوا إلى الذين ظلموا بالأنس بهم والمحبة والرضا بفعلهم، قال السدي: (ولا تداهنوا الظلمة)، وقال أبو العالية: (لا ترضوا بأعمالهم)، وقال عكرمة: (هو أن يحبهم)، وقال قتادة: (ولا تلحقوا المشركين).
قوله تعالى: { فتمسكم النار } أي فتصيبكم كما تصيبهم، { وما لكم من دون الله من أوليآء }؛ من أعوان يدفعون عنكم عذاب الله، { ثم لا تنصرون }؛ على أعدائكم؛ لأن الله تعالى إنما ينصر المطيعين.
[11.114-115]
قوله تعالى: { وأقم الصلاة طرفي النهار }؛ أي وقت الغداة والعصر، { وزلفا من اليل }؛ أي ساعة بعد ساعة من الليل، يعني صلاة المغرب والعشاء. والزلفى جمع الزلفة؛ هي الساعة القريبة من أول الليل.
ويقال: إن صلاة الظهر داخلة في قوله { طرفي النهار }؛ لأنها لا تقام إلا بعد الزوال، فإذا زالت الشمس فقد دخل الطرف الآخر خصوصا إذا اعتبر النهار من طلوع الفجر.
قوله تعالى: { إن الحسنات يذهبن السيئات }؛ أي إن الصلوات الخمس يذهبن الصغائر، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر "
وقيل: إن التوبة تكفر عقاب السيئات، وقيل: أراد بالحسنات: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر. قوله تعالى: { ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين }؛ أي ذلك الخطاب تذكير للذاكرين الذين يذكرون أوامر الله ويأخذون بها، ويذكرون نواهيه فيجتنبون معاصيه.
وعن ابن عباس قال:
" نزلت هذه الآية في رجل يقال له عمر بن عرفة الأنصاري، أتته امرأة تبتاع تمرا فأعجبته، فقال: إن في البيت تمرا أجود منه، فانطلقي معي حتى أعطيك منه.
فانطلقت معه، فلما دخلت البيت وثب عليها، فلم يترك شيئا مما يفعله الرجل بالمرأة إلا وقد فعله، إلا أنه لم يجامعها - يعني أنه ضمها وقبلها وحذف شهوته - فقالت له: اتق الله، فتركها وندم، ثم اغتسل وأتى رسول الله. فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها، ولم يبق شيئا من ما يفعله الرجل بالنساء غير أنه لم يجامعها؟
فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك! ولم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ما أدري، ما أدري عليك حتى يأتي فيك شيء " فحضرت صلاة العصر، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، نزل جبريل عليه السلام ينبؤه بهذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أخاص له أم عام؟ فقال: " بل عام للناس كلهم " ".
[11.116]
قوله تعالى: { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية }؛ أي فهلا كان من القرون الماضية، وقيل: ما كان من القرون من قبلكم ذو تمييز، { ينهون عن الفساد في الأرض }؛ عن المعاصي؛ أي ولماذا أطبقوا كلهم على المعصية حتى استحقوا بذلك عذاب الاستئصال، والبقية في اللغة: ما يمدح به الإنسان، يقال: فلان في بقية، وفي بني فلان بقية.
قوله تعالى: { إلا قليلا ممن أنجينا منهم }؛ كانوا ينهون عن الفساد، وهم الأنبياء عليهم السلام والصالحون، فأنجيناهم من العذاب. قوله تعالى: { واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه }؛ أي أقبلوا على ما خولوا من دنياهم، واستغنوا بذلك عن طاعة الله، فلم ينهوا عن الفساد، وعتوا عن أمر الله، وآثروا الدنيا وبطروا، { وكانوا مجرمين }؛ أي وكانوا مذنبين بترك الأمر بالمعروف.
[11.117]
قوله تعالى: { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } أي لم يكن ليهلك أهل القرى بظلم منه عليهم إذا كان أهلها مصلحين، ولكن إنما كان أهلكهم بظلمهم لأنفسهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن معناه: (ما كان ليهلك أهل القرى بشركهم وهم مصلحون، يتعاطون الحق بينهم، أي ليس من سبيل الكفار إذا قصدوا الحق في المعاملة، وترك الظلم أن ينزل الله بهم عذابا يهلكهم). والمعنى: ما كان الله ليهلكهم بشركهم، وهم مصلحون ما بينهم لا يتظالمون ويتعاطون الحق بينهم، وإنما يهلكهم إذا تظالموا؛ لأن مكافأة الشرك النار؛ أي إنما يهلكهم بزيادة المعصية على الشرك ، كما في قوم لوط وقوم صالح وقوم موسى وغيرهم.
[11.118]
قوله تعالى: { ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة }؛ أي لجعلهم كلهم على دين الإسلام، ولكن علم أنهم كلهم ليسوا بأهل لذلك، وقيل: لو شاء لألجأهم إلى الإيمان لآمنوا كلهم ضرورة، ولكن لو فعل ذلك لزال التكليف.
قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين }؛ أي في الدين على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي وغير ذلك. قوله تعالى: { إلا من رحم ربك }؛ إلا من عصمه الله من الباطل والأديان المخالفة بأن لطف به، ووفقه للإيمان المؤدي إلى الثواب، فهو ناج من الاختلاف بالباطل.
[11.119]
قوله تعالى: { ولذلك خلقهم }؛ أي وللرحمة خلقهم؛ أي لكي يؤمنوا فيرحمهم. وقيل: معناه وللاختلاف خلقهم، فتكون اللام في هذا لام العاقبة. قوله تعالى: { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }؛ أي من كفار الجن وكفار الإنس.
[11.120]
قوله تعالى: { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك }؛ أي كل القصص وكل ما يحتاج إليه نبينه لك من أخبار الرسل ما يطيب ويسكن به قلبك ويزيدك يقينا ويقوي قلبك. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضاق صدره بما يكون من أذى قومه في الله، فقصص الله عليه شيئا من أخبار الرسل المقدمين مع أممهم لنثبت به فؤادك. قوله تعالى: { وجآءك في هذه الحق وموعظة }؛ أي في هذه السورة الصدق من أقاصيص الأنبياء وللوعظ وذكر الجنة والنار.
وخصت هذه السورة بمجيء الحق فيها تشريفا لها ورفعا لمنزلتها. وقيل: أراد بقوله { في هذه } الدنيا، والموعظة: تعريف القبيح للزجر عنه، وتعريف الحسن للترغيب فيه، و؛ هي؛ { وذكرى }؛ الذكرى: { للمؤمنين }.
[11.121-122]
قوله تعالى: { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون } أي اثبتوا على ما أنتم عليه كثبات الرجل على مكانه، وهذا على وجه التهديد، { وانتظروا }؛ ما يعدكم الشيطان، { إنا منتظرون }؛ ما وعد الله بنا ونزول ما وعد الله بكم.
[11.123]
قوله تعالى: { ولله غيب السموت والأرض }؛ أي له ما غاب عن البلاد في السماوات والأرض، { وإليه يرجع الأمر كله }؛ أمر العباد، كله؛ فأطعه وفوض أمرك إليه، { فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون } أي يجزي المحسنين بإحسانه، والمسيء بإساءته. وقرأ (يعملون) بالياء على معنى قل لهم ذلك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من قرأ سورة هود أعطي من الأجر بعدد من صدق نوحا وهودا وشعيبا ولوطا وصالحا وإبراهيم وموسى، ومن كذبهم عشر حسنات، وكان عند الله يوم القيامة من السعداء ".
[12 - سورة يوسف]
[12.1]
{ الر }؛ قد تقدم تفسيره، قوله: { تلك آيات الكتاب المبين }؛ قيل: معناه: هذه الآيات الكتاب المبين، وقيل: معناه: سورة يوسف آيات الكتاب على القول الذي يقول: إن { الر } اسم السورة. وقوله تعالى: { المبين }؛ لأنه يبين الهدى والرشد، وقيل: البين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه.
[12.2]
قوله تعالى: { إنآ أنزلناه قرآنا عربيا }؛ أي أنزلنا القرآن على مجاري كلام العرب في مخاطباتهم، { لعلكم تعقلون }؛ أي لكي يدركوا معناه ويفهموا ما فيه، ولو نزل بغير لغة العرب لم يعلموه.
[12.3]
قوله تعالى: { نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن }؛ أي نحن نبين لك أحسن البينات، والقاص هو الذي يأتي بالقصة على حقيقتها.
واختلف العلماء لم سميت بأحسن القصص من بين الأقاصيص، فقيل: سماها أحسن القصص؛ لأنه ليس قصة في القرآن تتضمن من العبرة والحكم والنكت ما يتضمن هذه القصة. وقيل: سماعا أحسن القصص لامتداد الأوقات في ما بين مبتدأها إلى منتهاها. قال ابن عباس: (كان بين رؤيا يوسف ومسيراته وإخوانه أربعون سنة).
وقيل: سماها أحسن القصص؛ لأن فيها ذكر الأنبياء والملائكة والصالحين، والإنس والجن والأنعام والطير، والملك والمماليك والبحار، والعلماء والجهال، والرجال والنساء وحيلهن ومكرهن، وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير، وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة والتدبير والمعايش، فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدنيا. وقيل: أحسن القصص بمعنى أعجب.
وقيل: أراد بأحسن القصص جميع القصص التي في القرآن، فإن الله تعالى ذكر في القرآن أخبار الأمم الماضية، وحال رسلهم عليهم الصلاة والسلام، وذكر جميع ما يحتاج العباد إليه إلى يوم القيامة بأعذب لفظ في أحسن نظم وترتيب.
قوله تعالى: { بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن } أي أوحينا إليك هذا القرآن. قوله تعالى: { وإن كنت من قبله لمن الغافلين }؛ أي وقد كنت من قبل نزول جبريل عليك بالقرآن غافلا عن قصة يوسف وعن الحكمة فيها.
[12.4-5]
قوله تعالى: { إذ قال يوسف لأبيه يأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا }؛ الآية متصلة بما قبلها، فإن معناه: نحن نقص عليك أحسن القصص، إذ قال يوسف لأبيه. قرأ طلحة بن مصرف (يوسف) بكسر السين، ثم قرأ ابن عباس (يا أبت) بفتح التاء في جميع القرآن، وأصله على هذا يا أبتا، ثم حذفت الألف، وأبقى فتحة دلالة عليها، قال رؤبة:
تقول بنتي قد أنى أناكا
يا أبتا علك أو عساكا
وقرأ الباقون (يا أبت) بالكسرة على الإضافة يقدرها بعدها، وقيل: كسرت؛ لأنها أجريت مجرى التأنيث.
قوله تعالى: { إني رأيت أحد عشر كوكبا } قال المفسرون: رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وهو ابن اثنى عشر سنة، قال ابن عباس: (وذلك أنه قال لأبيه: يا أبت إني رأيت في المنام أحد عشر كوكبا نزلت من أماكنها فسجدت لي، ورأيت { والشمس والقمر }؛ نزلا من أماكنهما فسجدا لي، وأراد بذلك سجدة التحية والعبادة لله عز وجل، كما يقوم الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام).
قال: (وكانت الرؤيا ليلة القدر ليلة الجمعة، وكان تأويل رؤياه عند يعقوب: أن الشمس والقمر هو في حالته، وأن أم يوسف وهي راحيل كانت قد ماتت، وأن الأحد عشر كوكبا إخوة يوسف وكانوا أحد عشر أخا، وإنهم كلهم سيخضعون ليوسف). وإنما تأولها يعقوب على ذلك؛ لأنه لا شيء أضوأ من الشمس والقمر، ويهتدي بضوئهما أهل الأرض، ثم لا شيء بعدهما أضوأ من الكواكب، فدلت رؤياه على أن الذي يخضعون له أئمة الهدى الذين يهتدي الناس بهم.
قوله تعالى: { رأيتهم لي ساجدين }؛ ثانيا ليس بتكرار؛ لأنه أراد بالرؤية الثانية رؤية سجودهم له، وإنما حملت الآية على الرؤيا لا على رؤية العين؛ لأنا نعلم أن الكواكب لا تسجد حقيقة للآدميين، ولهذا قال يعقوب : { لا تقصص رؤياك على إخوتك }.
وعن ابن عباس أنه قال: (لما قص يوسف رؤياه على أبيه نهره وزجره لئلا يفطن إخوته، وقال له في السر: إذا رأيت رؤيا بعدها لا تقصص رؤياك على إخوتك). فذلك قوله تعالى: { قال يبني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا }؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، يعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوا بها حسدوه فأمره بالكتمان، وإنما كان قصها على يعقوب فقط، وهذا القول أقرب إلى ظاهر الآية، أي لا تخبرهم بذلك لئلا يحملهم الحسد إلى قصدك بسوء، ومن الخضوع له على إنزال التثريب عليه والاحتيال لهلاكه، والكيد: هو طلب الشر بالإنسان على جهة الغيظ عليه.
اختلف فيما عناه فيه هذه اللام التي في قوله تعالى: { فيكيدوا لك كيدا } قال بعضهم: معناه: فيكيدوك واللام صلة كقوله تعالى:
لربهم يرهبون
[الأعراف: 154]، وقال بعضهم: هو مثل قولهم: نصحتك ونصحت لك وأشباهه.
قوله تعالى: { إن الشيطان للإنسان عدو مبين }؛ أي إن الشيطان عدو ظاهر العدوان لبني آدم، فلا تذكر رؤياك لإخوتك؛ لئلا يحملهم الشيطان على الحسد وإنزال الضر بك.
وهذا أصل في جواز ترك إظهار النعمة عند من يخشى حسده وكيده، وإن كان الله تعالى: قال:
وأما بنعمة ربك فحدث
[الضحى: 11]، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود ".
[12.6]
قوله تعالى: { وكذلك يجتبيك ربك }؛ أي مثل ما رأيت من سجود الشمس والقمر والكواكب، كذلك يصطفيك ربك ويختارك، { ويعلمك من تأويل الأحاديث }؛ قيل: معناه: من تأويل الرؤيا لأن فيه أحاديث الناس عن رؤياهم. وقيل: معناه: أفهمك عواقب الأمور والحوادث. ويقال: يعلمك الشرائع التي لا تعلم إلا من قبل الله تعالى.
قول تعالى: { ويتم نعمته عليك وعلى ءال يعقوب }؛ أي يتم نعمته عليك بالنبوة كما أتم النعمة؛ قوله تعالى: { كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق }؛ أي يتم النعمة أيضا على أولاد يعقوب بك؛ لأن ذلك يكون سر حالهم؛ أي تكون النبوة فيهم، { إن ربك عليم حكيم } ، في أفعاله.
وفي بعض التفاسير: أن يعقوب عليه السلام كان خطب إلى خاله ابنته راحيل على أن يخدمه سبع سنين فأجابه، فلما حل الأجل زوجه ابنته الكبرى لايا، فقال يعقوب لخاله: لم يكن هذا على شرطي، قال: إنا لا ننكح الصغيرة قبل الكبيرة، فهلم فآخذ مني سبع سنين أخرى وأزوجك راحيل، وكانوا يجمعون بين الأختين، فرعى يعقوب سبع سنين أخرى وزوجه راحيل، ودفع لكل واحدة من ابنتيه أمة تخدمها فوهبتاهما ليعقوب عليه السلام فولدت لايا أربعة بنين: روبيل وسمعون ويهودا ولاوي، وولدت راحيل: يوسف وبنيامين، وولدت الأميان: بنيامين وهابيل ودان ويسائيل وجادوان وآشير. فجملة بنيه اثنا عشر ولدا سوى البنتين.
فإن قال قائل: إن كان يعقوب علم أن الله يجتبي يوسف ويعلمه من تأويل الأحاديث، فلم إذا قال:
لا تقصص رؤياك
[يوسف: 5]؟ وكيف قال لهم:
وأخاف أن يأكله الذئب
[يوسف: 13] مع علمه أن الله سيبعثه رسولا؟
والجواب: أنه عليه السلام كان عالما من طريق القطع أن الله سيبلغه هذه المنزلة، ولكن كان مع ذلك يخاف من وصول المضار إليه بكيدهم، وإن لم يخف الهلاك. وأراد بقوله:
أن يأكله الذئب
[يوسف: 13] الزجر لهم عن التهاون في حفظه، وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه، ولذلك لم يصدقهم في قولهم:
فأكله الذئب
[يوسف: 17]، بل حاجهم بما يظهر به كذبهم.
وقيل: أراد بقوله { ويتم نعمته عليك } التخلص من السجن، كما خلص الله إبراهيم عليه السلام من النار، وإسحاق من الذبح.
[12.7]
قوله تعالى: { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين }؛ معناه: لقد كان في خبر يوسف وإخوته عبرة للسائلين عنهم. وقرأ ابن كثير (آية) كأنه جعل شأنه كله آية للسائلين،
" وذلك أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف، فأخبرهم بها كما في التوراة، فعجبوا منه وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟ قال: " علمنيه ربي " "
وقيل: معناه: للسائلين أي لمن سأل عن أمرهم.
[12.8]
قوله تعالى: { إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا }؛ هذه لام القسم، تقديره: والله ليوسف وأخوه بنيامين أحب إلى أبينا منا، { ونحن عصبة }؛ أي جماعة وكانوا عشرة، سموا عصبة؛ لأن بعضهم يتعصب لبعض، ويعين بعضهم بعضا. والعصبة: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر.
قوله تعالى: { إن أبانا لفي ضلال مبين }؛ أي من الخاطئين في ترك العدل في المحبة بيننا لفي خطأ بين من التدبير باختياره الصغيرين، ولا منفعة له فيهما علينا مع أنا نسعى في منافعه ونرعى له غنمه ونتعهدها.
[12.9]
قوله تعالى: { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم }؛ اختلفوا في قائل هذا القول، قال وهب: (قائله سمعون)، وقال مقاتل: (قاله روبيل)، وقوله تعالى { أو اطرحوه أرضا } يعنون أبعدوه على وجه يقع به اليأس من اجتماعه مع أبيه.
قوله تعالى: { يخل لكم وجه أبيكم } أي يخل لكم وجهه عن يوسف، ويخلص محبته لكم، { وتكونوا من بعده قوما صالحين }؛ أي تتوبوا بعد ذلك من هذا الذنب، ويصلح حالتكم مع أبيكم.
[12.10-12]
قوله تعالى: { قال قآئل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيبت الجب }؛ قال أكثر المفسرين: القائل بهذا هو يهودا، وكان أعقلهم وأشدهم قوة، والمعنى أنه قال لهم اطرحوه في قعر البئر، { يلتقطه بعض السيارة }؛ على الطريق. والغيابة: هو الموضع الذي غاب عن بصرك، والجب: هو البئر التي لم يطو بالحجارة.
قوله تعالى: { إن كنتم فاعلين }؛ معناه: قال لهم: إن كنتم لا بد فاعلين به أمرا فاعدلوا إلى هذا الأمر، وإلا فاتركوا كل ذلك. والظاهر من قوله (الجب) أنه جب مشار إليه معروف، قال وهب: (هو بأرض الأردن على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب).
فلما أبرموا هذا التدبير وعزموا عليه تلطفوا بالوصول إلى مرادهم، وجاؤا إلى أبيهم، فقالوا كما قال الله: { قالوا يأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون }؛ أي ما لك لا تأمنا عليه، فترسله معنا وإنا له لناصحون في الرحمة والبر. قوله: { أرسله معنا غدا يرتع ويلعب }؛ أي يذهب ويجيء وينشط؛ ويقرأ كلاهما بالنون والياء.
والرتع: هو التردد يمينا وشمالا للاتساع في الملاذ. ومن قرأ (يرتع) بالياء فهو من يرتع؛ أي يرعى ماشيته، واللعب: هو الفعل الذي يطلب منه التفريح من غير عاقبة محمودة، وهو على وجهين: مباح ومحظور، كما قال عليه السلام:
" كل لعب حرام إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، ونبله بقوسه، وتأديبه فرسه "
{ وإنا له لحافظون }؛ عن الأسواء؛ وعن كل ما يخاف عليه.
[12.13]
قوله: { قال إني ليحزنني أن تذهبوا به }؛ أي يحزنني ذهابكم به؛ لأنه يفارقني فلا أراه، { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون }؛ ذكر شيئين: الحزن لذهابهم، والخوف عليه أن يجده الذئب وحده وقت غفلتهم عنه فيأكله. وكان يعقوب قد رأى في منامه كأن ذئبا قد عدا على يوسف، فكان خائفا عليه، فمن ذلك قال: { وأخاف أن يأكله الذئب }.
[12.14]
قوله تعالى: { قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة }؛ أي ونحن جماعة ترى الذئب قد قصد، { إنآ إذا لخاسرون }؛ أي لعاجزون والخسران هنا العجز.
[12.15-18]
قوله تعالى: { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيبت الجب }؛ أي فأرسله معهم، فلما ذهبوا به اتفقت دواعيهم أن يجعلوه في الجب، قال السدي: (خرجوا به من عند أبيهم وهم مكرمون له، فلما صاروا في البرية أظهروا له العداوة، فجعل أخ له يضربه، فيستغيث بالآخر فيضربه، لا يرى فيهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه.
فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه لو تعلم ما صنع بابنك؟ فقال لهم يهودا: أليس قد أعطيتموه موثقا ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به في الجب فدلوه فيه، فتعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه وقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به، فقالوا: أدع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يلبسوك ويؤنسوك، فدلوه حتى إذا بلغ نصف البئر ألقوه وأرادوا أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، وآوى إلى صخرة فقام عليها وجعل يبكي، فنادوا فظن أن الرحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة ليقتلوه فمنعهم يهودا، وكان يهودا يأتيه بالطعام).
قوله تعالى { وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا }؛ قال المفسرون: أوحى الله إلى يوسف في البئر تقوية لقلبه: لتصدقن رؤياك، ولتخبرن إخوتك بصنعهم هذا بعد اليوم، { وهم لا يشعرون }؛ بأن يوسف في وقت إخبارك إياهم بأمرهم، وكان فيما أوحي إليه: أن اصبر على ما أصابك واكتم حالك، فإنك تخبرهم بما فعلوا بك.
وعن ابن عباس: قال: (كان يومئذ ابن سبع عشرة سنة وبقي في الجب ثلاثة أيام). وفي بعض الروايات: أنه لما ألقي في الجب جعل يقول: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب: اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، فأوحى الله إليه وهو في البئر: اصبر على ما أصابك واكتم حالك، فإنك تخبر إخوانك في وقت عن ما فعلوا بك في وقت إخبارك إياهم بأمرهم.
ثم عمدوا إلى سخلة فذبحوها، وجعلوا دمها على قميص يوسف، { وجآءوا أباهم عشآء يبكون }؛ أي يتباكون، { قالوا يأبانآ إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق في الرمي، وقيل: نسابق في الاصطياد، { وتركنا يوسف عند متاعنا }؛ ليحفظه، { فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا }؛ أي بمصدق لنا في أمر يوسف لفرط محبتك له وتهمتك إيانا فيه، { ولو كنا صادقين }؛ محل الصدق عندك في غير هذا الحديث.
ثم أروه قميصه ملطخا بالدم، فذلك قوله تعالى: { وجآءوا على قميصه بدم كذب }؛ أي بدم كذب، فلما نظر يعقوب إلى القميص قال: ما عهدت ذئبا حليما مثل هذا الذئب! فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟! ولو أنهم كانوا مزقوا قميصه حين لطخوه بالدم، كان ذلك أبعد عن التهمة عنهم، ولكن لا بد في المعاصي أن يقترن بها الحزنان، { قال }؛ يعقوب: كذبتم، { بل سولت لكم أنفسكم أمرا } أي زينت لكم أنفسكم في هلاك يوسف فضيعتموه، ويقال: إن يعقوب كما قال لهم: لو أكله الذئب فشق قميصه! قالوا: لو قتله اللصوص لما تركوا قميصه، هل يريدون إلا الثياب والمتاع، فسكتوا متحيرين.
قوله تعالى: { فصبر جميل }؛ أي فصبر جميل أولى من الجزع، والصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه، قوله تعالى: { والله المستعان على ما تصفون }؛ أي معناه: أستعين بالله على الصبر في ما يقولون.
وروي: (أن شريحا كان جالسا للقضاء، فجاءته امرأة تبكي وتشكو، فقيل له: يوشك أن تكون هذه مظلومة، فقال شريح: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاء يبكون وهم كذبة).
[12.19]
قوله تعالى: { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم }؛ أي جاءت قافلة من المسافرين بعد أن مكث يوسف عليه السلام في الجب ثلاثة أيام. يروى أنهم جاءوا من قبل مدين يريدون معرفا خطر الطريق، فتحيروا وجعلوا يهيمون حتى وقعوا في الأرض التي فيها الجب، فأرسل كل قوم منهم واردهم، والوارد الذي يقوم القوم لطلب الماء، فوافق الجب مالك بن ذعر وهو رجل من العرب من أهل مدين، { فأدلى دلوه } في البئر، فتعلق بها يوسف، فلم يقدروا على نزعه، فنظروا فرأوا غلاما قد تعلق بالدلو، فنادى أصحابه ف { قال يبشرى هذا غلام } ، قال: ما ذاك يا مالك؟ قال: غلام أحسن ما يكون من الغلمان. فاجتمعوا عليه وأخرجوه.
قال كعب: (كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العين مستوي البطن صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النار وكان يشبه آدم يوم خلقه الله تعالى قبل أن يصيب المعصية). ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن.
وقوله تعالى: { قال يبشرى هذا غلام } من قرأ (يا بشري) أي بياء الإضافة، فهو خطاب للفرح على القلب، كما قال: يا فرحي يا طوباي ويا أسفي. ومن قرأ بغير ياء الإضافة فمعناه تبشير الأصحاب، كما يقال: يا عجبا ويراد به يا أيها القوم اعجبوا.
قوله تعالى: { وأسروه بضاعة }؛ أي أسر الذين وجدوا يوسف من رفقائهم ومن القافلة مخافة أن يطلب أحد منهم الشركة معهم في يوسف عليه السلام، قوله: { وأسروه بضاعة } نصب على المصدر؛ أي قالوا في ما بينهم: إنا نقول إن أهل الماء استبضعوك بضاعة، ويجوز أن يكون { بضاعة } نصبا على الحال على معنى أنهم كتموه حين أعقدوا التجارة فيه.
ويقال: إن قوله { وأسروه بضاعة } راجع إلى إخوة يوسف، فإنه روي أنهم جاؤا بعد ثلاثة أيام فلم يجدوا في البئر، فنظروا فإذا القوم نزول بقرب البئر، فإذا هم بيوسف ، فقالوا لهم: هذا عبد آبق منذ ثلاثة أيام، وقالوا ليوسف: لئن أنكرت أنك عبد لنا فلنقتلنك، وقالوا للقوم: اشتروا منا فذلك معنى قوله { وأسروه بضاعة } بأن طلبوا من يوسف كتمان نسبه، إلا أن القول الأول أقرب إلى ظاهر الآية. قوله تعالى: { والله عليم بما يعملون }؛ أي بيوسف، وهذا يجري مجرى الوعيد.
[12.20]
قوله تعالى: { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة }؛ أي باعوه أخوته من مالك بن ذعر بعشرين درهما، فأصاب كل منهم درهمين فلم يأخذ يهودا نصيبه، وأخذه الباقون، وقال الضحاك: (باعوه باثني عشر درهما). وقال ابن عباس: (معنى قوله { بثمن بخس } أي بثمن حرام؛ لأنه سمى البخس حراما، وسمى الحرام بخسا؛ لأنه لا بركة فيه). وقال الكلبي: (باعوه باثنين وعشرين درهما). وقوله تعالى: { معدودة } أي قليلة، وذكر العدد عبارة عن القلة.
قوله تعالى: { وكانوا فيه من الزاهدين }؛ أي لم يكن لهم فيه رغبة ولا في رده على أبيه، ولم يعلموا منزلته من الله تعالى، يعني: أن إخوة يوسف كانوا في يوسف من الزاهدين؛ لأنهم لم يعرفوا كرامته على الله تعالى. وقيل: كانوا في يمنه من الزاهدين أن عرضهم أن يغيبوه عن أبيه، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، و { وشروه } أي باعوه، قال الشاعر:
وشريت بردا ليتني
من بعد برد كنت هامه
أي بعت بردا وهو غلامه.
ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف ومعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه فإنه آبق سارق كاذب، وقد برئنا إليكم من عيوبه. فحمله مالك بن ذعر على ناقته وسار به نحو مصر، وكان طريقهم على قبر أمه، فلما بلغ قبر أمه أسقط نفسه من الناقة وهو يبكي ويقول: يا أماه ارفعي رأسك من الثرى، وانظري إلى ولدك يوسف وما لقي بعدك من البلايا، يا أماه لو رأيتي ضعفي ودلي، يا أماه لو رأيتني، نزعوا قميصي وشدوني، وفي الجب ألقوني وعلى حر وجهي لطموني، وبالحجارة رجموني.
ثم فقده مالك بن ذعر فصاح في القافلة: ألا إن الغلام رجع إلى أهله، فطلبوه فوجدوه، فقال له رجل منهم: يا غلام قد أخبرنا مواليك أنك آبق سارق، فلم نصدق حتى رأيناك، فقال: والله ما آبقت، ولكنكم مررتم على قبر أمي، فلم أتمالك أن رميت نفسي عليه، فرفع يده فلطم وجهه حتى حمله على ناقته.
وذهبوا به حتى قدموا مصر، فأمره مالك بن ذعر حتى اغتسل ولبس ثوبا حسنا، وعرضه على البيع، فاشتراه قطفير بن رويحب لامرأته، قال وهب: (ترافع الناس في ثمنه وتزايدوا حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا، فابتاعه قطفير بهذا الثمن وأتى به إلى منزله).
[12.21]
قوله تعالى: { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته }؛ واسمها راعيل: { أكرمي مثواه }؛ أي أحسني طول مقامه عندنا، { عسى أن ينفعنآ }؛ في أمورنا ونبيع فنربح في ثمنه، { أو نتخذه ولدا }؛ نسبناه، وكان العزيز عقيما، أو حصورا لا يولد له، إنما قال لما رأى على يوسف من الجمال والعقل والهداية إلى الأمور.
قوله تعالى: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض }؛ أي كما خلصناه من البئر وإخوته كذلك مكناه فيها حتى بلغ ما بلغ. قوله تعالى: { ولنعلمه من تأويل الأحاديث }؛ أي لنعلمه من ضروب العلوم، { والله غالب على أمره } أي لا يقدر أحد منكم دفع ما أراد من أمره، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ أن الله غالب على أمره وهم المشركون.
[12.22]
قوله تعالى: { ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما }؛ قال ابن عباس: (لما بلغ ثماني عشرة سنة آتيناه النبوة والفقه، وجعلناه حكيما عليما)، قال: (والأشد من ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة). ويقال: أقصاه اثنان وستون سنة، فأما الاستواء فهو أربعون سنة. وقال الحسن: (أعطي يوسف الرسالة عند هذه الحالة، وكان أعطي النبوة من قبل).
ويقال: معناه: وآتيناه حكما وعلما بين الناس، فإذا الناس كانوا تحاكموا إلى العزيز، أمره أن يحكم بينهم؛ لما رأى من عقله وأمانته وعلمه. قوله تعالى: { وكذلك نجزي المحسنين }؛ أي كما جزينا يوسف على صبره على المحن، كذلك نجزي المحسنين في أقوالهم وأفعالهم.
[12.23]
قوله تعالى: { وراودته التي هو في بيتها عن نفسه }؛ أي راودته امرأة العزيز واسمها زليخا، وكان يوسف من أحسن البشر، وكان كضوء النهار ونور الشمس، وكان بحيث لا يستطيع آدمي أن يصفه، فراودته أي طالبته لمرادها منه، { وغلقت الأبواب }؛ عليه وعليها وطلبت منه أن يواقعها، قوله { وغلقت الأبواب } قال المفسرون أغلقت سبعة أبواب.
قوله تعالى: { وقالت هيت لك }؛ أي هلم إلى ما هيء لك، قرأ ابن كثير (هيت لك) بفتح الهاء وضم التاء، وقرأ أهل المدينة والشام بكسرها وبفتح التاء، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء، وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه جميعا، هلم وأقبل، قال مجاهد: (تدعوه إلى نفسها وهي كلمة حث).
قوله تعالى: { قال معاذ الله }؛ أي أعوذ بالله أن أفعل ما لا يجوز لي فعله. وقيل: اعتصم بالله عن فعل ما تدعنني إليه. قوله تعالى: { إنه ربي أحسن مثواي }؛ ذهب أكثر المفسرين إلى أن معناه: إن زوجك سيدي أحسن تربيتي ومنزلتي مدة مقامي عنده، لا أخونه في أهله.
سماه ربا للرق الذي كان ثبت له في الظاهر عليه. وقيل: معناه: إن الله تعالى ربي أحسن إلي بتخليصي من البئر وما قصدني قومي من الهلاك، { إنه لا يفلح الظالمون }؛ أي لا يأمن ولا ينجو من عذاب الله الذين يظلمون أنفسهم، أراد بهم الزناة، ويجوز أن يكون أراد لو فعل ما دعته إليه لكان ظالما لزوجها في أهله.
وفي قوله (هيت) خلاف من فتح التاء فلسكونها وسكون الياء قبلها نحو: كيف وأين، ومن ضم التاء فعلى أنها مبنية على الضم نحو حيث ومنذ، ومن قرأ بفتح الهاء وكسر التاء فلأن الأصل في التقاء الساكنين حركة الكسر، ويجوز أن يكون مبنيا على الكسر مثل أمس وجير.
[12.24]
قوله تعالى: { ولقد همت به وهم بها }؛ قال الحسن: (أما همها فأحب هم وهو العزم على الفاحشة، وأما همه فهو ما طبع عليه الرجال من شهوة النساء من دون عزم على الزنا).
واختلف أهل العلم في ذلك، فروي عن ابن عباس أنه سئل: ما بلغ من أمر يوسف؟ قال: (حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن). وعن ابن أبي مليكة قال: سألت ابن عباس: ما بلغ من أمر يوسف؟ قال: (استلقت له على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه) وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والسدي.
وروي عن ابن عباس: (أنه لما راودت يوسف جعلت تذكر محاسنه وتشوقه إلى نفسها، فقالت: يا يوسف ما أحسن ماء عينيك؟ قال: هو أول ما سيل على الأرض من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك؟ قال: هو للتراب يأكله، قالت: ما أحسن شعرك، قال: هو أول ستر من بدني، قالت: ما أحسن صورتك، قال: ربي صورني، قالت، يا يوسف صورة وجهك أنحلت جسمي، قال: إن الشيطان يعينك على ذلك، قالت: فراش الحرير قد بسطته قم فاقض حاجتي، قال: إذن يذهب نصيبي من الجنة، قالت: أدخل في الستر معي، قال ليس بشيء يسترني من ربي.
فلم تزل تدعوه إلى اللذة، ويوسف شاب مستقبل يجد من شبق الشباب ما يجد الرجل، وهي حسناء جميلة حتى لان لها لما يرى من كلفها به وهم بها).
فهذه أقاويل أجلة أهل التفسير، وقال جماعة من المتأخرين: (لا يليق هذا بالأنبياء) وأولوا الآية، قال بعضهم: هم بالفرار، وهذا لا يصح لأن الفرار مذكر، وقيل: هم بضربها ودفعها ومخاصمتها، وقال بعضهم معنى قوله: { وهم بها } بمناها أن تكون له زوجة.
وقال أهل الحقائق: الهم همان: هم مقيم ثابت، وهو إذا كان معه عزم وعقد ونية ورضى مثل هم امرأة العزيز، فالعبد مأخوذ به، وهم عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف، والعبد غير مأخوذ به.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يفعلوا به "
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من أحد يلقى الله قد هم بخطيئة قد عملها، إلا يحيى بن زكريا فإنه لا يهم ولم يفعل ".
وقال بعضهم في قوله { ولقد همت به وهم بها } قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: (همت المرأة بالمعصية مصرة على ذلك، وهم يوسف بالمعصية ولم يأتها). وقيل، همت المرأة عازمة على الزنى، ويوسف عارضه ما يعارض الشباب من خطرات القلب وحديث النفس، فلم يلزمه، وهذا الهم ليس ذنبا إذ الرجل الصائم يخطر بقلبه شراب الماء البارد، فإذا لم يشرب كان غير مؤاخذ بما يحس في نفسه فيه.
وقال الزجاج: (وهم بها وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، إلا أن الله تعالى تفضل عليه بأن أراه البرهان، ألا تراه قال: وما أبرئ نفسي).
قوله تعالى: { لولا أن رأى برهان ربه }؛ اختلفوا في هذا البرهان، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد: (رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله)، وقال قتادة: (سمع صوتا: يا يوسف إنه فعل السفهاء، وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء).
ويقال: خرج كف بينهما بلا جسد مكتوب فيه ثلاثة أسطر؛ إحداها:
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
[البقرة: 281] والثاني:
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة
[الإسراء: 32]، والثالث:
وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين
[الانفطار: 10-11].
وعن محمد بن كعب القرظي قال: (معنى { لولا أن رأى برهان ربه }: لولا ما علمه من قبيح الزنى، ووجوب العقوبة عليه) وهذا كله محذوف الجواب، وجوابه: لولا ذلك لعزم على القبح، وعمل على مقتضى شهوته.
قوله تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشآء }؛ أي كما مكنا له في الأرض، كذلك أريناه البرهان { لنصرف عنه السوء } أي الخيانة (والفحشاء) يعني الزنى. قوله تعالى: { إنه من عبادنا المخلصين }؛ الذين أخلصوا دينهم لله، ومن قرأ بفتح اللام فمعناه: من عبادنا الذين أخلصناهم واصطفيناهم.
[12.25-29]
قوله تعالى: { واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر }؛ قال السدي: (ذلك أن زليخا قالت ليوسف حين أغلقت الباب: ما أحسن شعرك رضي الله عنه إلى آخر الكلام) وقد تقدم ذلك حتى هم بها، فلما رأى البرهان قام مبادرا إلى الباب هاربا، فاتبعته المرأة فأدركته، فلما أحست بقوته مزقت آخر قميصه مانعة له من الخروج. والقد قطع الشيء بأسره طولا.
قوله تعالى: { وألفيا سيدها لدى الباب }؛ صادفا زوجها عند الباب جالسا، فلما رأته هابته، و { قالت } سابقة بإلقاء الذنب على يوسف: { ما جزآء من أراد بأهلك سوءا }؛ يعني الزنى، { إلا أن يسجن }؛ أن يودع في السجن، أو؛ يعذب، { أو عذاب أليم }؛ يعني الضرب الوجيع.
فلما قالت المرأة ذلك، لم يجد يوسف بدا من تبرئة نفسه، { قال هي راودتني عن نفسي }؛ أي طالبتني بمرادها من نفسي فأبيت وفررت منها، فأدركتني وشقت قميصي، { وشهد شاهد } ، وكان مع زوجها بالباب، { من أهلهآ } ، ابن عم لها حكيم، فقال ابن عمها: { إن كان قميصه قد من قبل }؛ إن كان شق القميص من قدامه، { فصدقت }؛ فهي صادقة، { وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين } ، وإن كان من خلفه فهو صادق، وقال الضحاك: (كان الشاهد صبيا في المهد فأنطقه الله تعالى). قيل: كان ذلك الصبي ابن خال المرأة.
قوله تعالى: { فلما رأى قميصه قد من دبر }؛ أي فلما رأى ابن عمها قد القيمص من خلف، ويقال: فلما رأى زوجها ذلك، { قال إنه من كيدكن }؛ أي قولها { ما جزآء من أراد بأهلك سوءا } من مكركن، { إن كيدكن عظيم }.
ثم قال ليوسف بعدما ظهرت براءته: { يوسف أعرض عن هذا }؛ يعني أمسك ذكره حتى لا ينتشر في البلد وفي ما بين الناس، ثم أقبل عليها وقال: { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين }؛ فإن الخطاب كان منك ألقيته على يوسف.
وقد احتج مالك والحسن بن حي في الحكم بالعلامة بهذه الآية: أن اللقطة إذا ادعاها مدع ووصفها وجب على الملتقط أن يدفعها إليه على مذهبهما. ولا حجة لهما في هذه الآية، إذ لا خلاف بين الفقهاء أن الأملاك والأيدي لا تستحق بالعلامات، فإن العطار والدباغ إذا اختلفا في عطر في أيديهما لم يكن العطار أولى به من الدباغ، وكذلك الاسكافي والصيرفي إذا اختلفا في حذاء في يد الصيرفي لم يستحقه الاسكافي؛ لأن ذلك من صناعته.
وعن مجاهد: (أن امرأتين اختصمتا إلى شريح في ولد لهن، فقال شريح: ألقوها مع هذه، فإن هي ردت وفرت واستفزت فهي لها، وإن هربت وفرت فليست لها). وكان ذا القول من شريح على جهة ما يغلب في الظن ليميز المبطل من المدعيين فنحكم عليه بالإقرار.
[12.30-35]
قوله تعالى: { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه }؛ قال ابن عباس: (هن أربع نسوة: أمرأة ساقي الملك، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة صاحب دوابه، قلن في امرأة العزيز: إنها تدعو عبدها إلى نفسها).
قوله تعالى: { قد شغفها حبا }؛ قد خرق حبه حجاب قلبها فلا يعقل غيره، ويقال: قد أحبته حتى دخل حبه شغاف قلبها. والشغاف: جلدة تشتمل على القلب، يقال: شغفه إذا رماه فأصاب ذلك الموضع منه كما يقال كبده إذا أصاب كبده.
قوله تعالى: { حبا } نصب على التمييز كأنهن قلن: أصاب حبه وسط قلبها وسويداء قلبها. وقرأ أبو رجاء والشعبي: بالعين المهملة، ومعناه ذهب بها الحب كل مذهب، مشتق من شعاف الجبال أي رؤوسها. قوله عز وجل: { إنا لنراها في ضلال مبين }؛ أي في الخطأ البين.
قال ابن عباس: (فجعلن يفشين هذا في المدينة، فبلغ ذلك زليخا) فهو قوله تعالى: { فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن }؛ أي فلما سمعت بكلام هؤلاء النسوة وذمهن لها أرسلت إليهن، فدعتهن لوليمة أعدتها لهن، ويقال: إنما سمي قول النسوة مكرا؛ لأنها كانت أطلعتهن واستكتمتهن فأفشين سرها.
قوله تعالى: { وأعتدت لهن متكئا }؛ أي أصلحت وهيأت لهن أمكنة يقعدن عليها، ووسائد يتكين عليها، وفي قراءة ابن عباس (متكا) بالتخفيف بغير همز، قال: (والمتك: الأترج).
قال وهب: (دعت أربعين امرأة، وأعدت لهن أترجا وبطيخا). قوله تعالى: { وآتت كل واحدة منهن سكينا }؛ لتقطع بها الفواكه والأترج على ما جرت به العادة، ويقال: كانت وضعت لهن خبزا ولحما وهذه الفواكه، { وقالت }؛ ليوسف: { اخرج عليهن }؛ وذلك أنها كانت قد أجلسته في مجلس غير الذي كن جلسن فيه. قال عكرمة: (وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على النجوم).
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " مررت ليلة أسري بي فرأيت يوسف عليه السلام، فقلت: يا جبريل من هذا؟ فقال: يوسف " قال: كيف رأيته يا رسول الله؟ قال: " كالقمر ليلة البدر " "
وروي أن يوسف عليه السلام كان إذا مشى في أزقة مصر يرى نور وجهه على الجدارات كما ترى نور الشمس والماء على الجدار.
قوله تعالى: { وقالت اخرج عليهن } فخرج عليهن، { فلما رأينه أكبرنه }؛ أي عظم عندهن، و؛ بلغ من شغل قلوبهن برؤيته ما، { وقطعن أيديهن }؛ بالسكاكين. قال قتادة: (قطعن أيديهن حتى ألقينها وهن لا يشعرن)، ويقال: معنى (أكبرنه) أي حضن، ويقال: معنى (أكبرن) آمن. قيل: أنهن كن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، ولم يجدن الألم لاشتغال قلوبهن برؤية يوسف. قال وهب: (وبلغني أن سبعا من الأربعين ممن كن في ذلك المجلس وجدن بيوسف عليه السلام).
وقوله تعالى: { وقلن حاش لله ما هذا بشرا }؛ أي قلن معاذ الله أن يكون هذا آدميا، { إن هذآ } ، بل هو، { إلا ملك كريم }؛ من السماء، فشبهنه بالملك وهن لا يرين الملك، ولكن الناس إذا وصفوا بالحسن شبهوا بالملك. ومعنى { حاش لله } أي تنزيها لله، وفي قراءة الحسن (إن هذا إلا ملك كريم) بكسر اللام، ويقرأ (ما هذا بشري) أي بعبد مشترى، وليست هذه القراءة بشيء.
قوله تعالى: { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه }؛ أي قالت زليخا: فذلكن الذي لمتنني فيه في حبه وشغفي به، وذا إشارة إلى يوسف ولكن مخاطبة لهن، ثم أقرت لهن فقالت: { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } أي دعوته إلى مرادي فامتنع بالعفة، { ولئن لم يفعل مآ آمره } ما أدعوه إليه، { ليسجنن } في السجن، { وليكونا من الصاغرين }؛ أي الأذلاء فيه مع السراق، وجعلت تقول هذا القول منها قبالته وهو جالس يسمع.
قال ابن عباس: (فلما قالت زليخا هذا القول، قال هؤلاء النسوة ليوسف: أطع مولاتك) فقال كما قال تعالى: { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } أي قال يوسف: يارب نزول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من قبيح الفعل، والسجن أسهل علي من المعصية. ومن قرأ (السجن) بفتح السين فهو المصدر.
قوله تعالى: { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن }؛ أي وإلا تلطف بي بما يصرف عني كيدهن أمل إليهن بهواي، { وأكن من }؛ بمنزلة، { الجاهلين }؛ في فعلي. وفي هذا دليل على أن النسوة طلبن منه مثل ما طلبت امرأة العزيز، فإنه روي أنهن لما رأين يوسف استأذن امرأة العزيز أن تخلو كل واحدة منهن به، وتدعوه إلى امرأة العزيز وإلى طاعتها، فلما خلون به دعته كل واحدة منهن إلى نفسها.
قوله تعالى: { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن }؛ أي فأجابه ربه في دعائه فصرف عنه كيدهن، وعصمه من الفواحش، { إنه هو السميع العليم } لدعاء عباده، العليم بضمائرهم ونياتهم.
قوله تعالى: { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } أي بدا للعزيز وأصحابه من بعد ما رأوا العلامات من شق القميص وقطع الأيدي وقضاء ابن عمها عليها، أن يحبسه إلى مدة حتى تنقطع مقالة الناس، ويأتي على هذا الحديث مدة، فحبسه بعد ظهور عذره خمس سنين.
[12.36-40]
قوله تعالى: { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه }؛ روي: أنه دخل على يوسف بعد دخوله الخمس سنين عبدان للملك، وهو صاحب شرابه وصاحب طعامه، غضب عليهما الملك، واتهم صاحب الطعام أنه يريد أن يسمه، وصاحب الشراب بأنه مالأه على ذلك، وذلك أن أعداء الملك أرادوا المكر بالملك واغتياله، فطلبوا هذين وضمنوا لهما مالا ليسما طعام الملك وشرابه، فأبى الساقي وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام.
فلما حضر وقته قال الساقي: أيها الملك لا تأكل فإنه مسموم، وقال الخباز: أيها الملك لا تشرب فإنه مسموم. فقال الملك للساقي: اشرب، فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى، فجربه الملك على دابة فأكلت من الطعام فماتت، فأمر الملك بحبسهما.
وكان يوسف قد قال لأهل السجن لما دخله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد هذين القيمين لصاحبه: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني برؤيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا. قال ابن مسعود: (ما رأيا شيئا إنما كانا تحالما عليه ليجربا علمه).
وقال قوم: كانا رأياها على حقيقة ويقين، فقال الساقي: أيها العالم إني رأيت كأني في بستان وإذا بكرة عليها ثلاثة عناقيد فجنيتها، وكأن كأس الملك بيدي فعصرتهم فيه وسقيت الملك فشربه، وقال الخباز: إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال من خبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهشه.
وإنما سمي العنب باسم الخمر لأن الشيء يسمى بما يؤول إليه، وقال الضحاك: (الخمر هو العنب) بعينه بلغة عمان، يدل عليه قراءة ابن مسعود (إني أراني أعصر عنبا). قال الأصمعي: (أخبرني المعتز أنه لقي أعرابيا معه عنب، فقال: ما معك؟ قال: خمر).
قوله تعالى: { نبئنا بتأويله }؛ أي أخبرنا بتفسيره وتعبيره، وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا، { إنا نراك من المحسنين }؛ أي العالمين الذين أحسنوا العلم. وقيل: من المحسنين إلينا إن قلت ذلك وفسرت رؤيانا. وعن الضحاك في قوله تعالى: { إنا نراك من المحسنين } قال: (كان إحسانه إذا مرض رجل في السجن قام عليه، وإذا أضاق وسع عليه، وإذا احتاج سأل له). وقيل: إحسانه أنه كان يداوي مريضهم، ويعزي حزينهم.
قال: (فكره يوسف أن يعبر لهما لما علم فيه من المكروه على أحدهم، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره) و { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما }؛ أي لا يأتكما طعام تطعمانه وتأكلانه إلا نبأتكما بتفسيره ولونه أي طعام أكلتموه، قالا له: هذا من فعل الكهنة، قال: ما أنا بكاهن وإنما: { ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون }.
قوله تعالى: { واتبعت ملة آبآئي }؛ أي شريعة آبائي، { إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون }؛ وباقي الآية ظاهر المعنى.
قوله تعالى: { يصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار }؛ وذلك أن يوسف عليه السلام رأى أهل السجن وبين أيديهم أصنام يعبدونها فدعاهم إلى الإسلام وألزمهم الحجة، فقال لهم: أرباب متفرقون شتى لا تضر ولا تنفع خير أم الله الواحد القهار الذي لا ثاني له؟
ثم بين عجز الأصنام وضعفها فقال: { ما تعبدون من دونه إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم }؛ آلهة من غير أن يكون لتلك التسمية حقيقة، { مآ أنزل الله بها من سلطان } أي من حجة وبرهان، { إن الحكم إلا لله } أي ما القضاء والأمر والنهي إلا لله، { أمر ألا تعبدوا إلا إياه }. قوله تعالى: { ذلك الدين القيم }؛ أي الذي أدعوكم إليه هو الدين القائم الذي يرضاه لا عوج فيه، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }.
[12.41]
قوله تعالى: { يصاحبي السجن أمآ أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه }؛ معنى الآية: أما أحدكما وهو الساقي، فيسقي سيده يعني الملك خمرا، وأما العناقيد الثلاثة التي رآها فإنها ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يخرجه الملك ويعود في ما كان عليه، وأما الآخر فيصلب والسلال التي رآها فإنها ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يخرجه الملك في اليوم الرابع فيصلبه فتأكل الطير من رأسه.
فقال الخباز: إني لم أر شيئا، فقال لهما يوسف: { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان }؛ أي فرغ من الأمر الذي سألتما عليه فهو كائن، رأيتما أو لم تريا.
[12.42]
قوله تعالى: { وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك }؛ أي قال يوسف للذي علم أنه ناج منهما، وهو صاحب الشراب: أذكرني عند سيدك الملك أني مظلوم، عدا علي إخوتي فباعوني وأنا حر، وحبست في السجن.
قوله تعالى: { فأنساه الشيطان ذكر ربه }؛ أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك؛ أي شغله عن ذلك بما كان يدعوه إليه من اشتغاله بركوب سوأته وخدمته للملك. وقيل: معناه أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حتى التمس من الناجي منهما أن يذكره عند ربه، وكان من حقه أن يتوكل على الله في ذلك. قوله تعالى: { فلبث في السجن بضع سنين }؛ والبضع ما بين الثلاث إلى التسع.
وفي الخبر: أنه يبقى في السجن بعد هذا القول سبع سنين. وعن الحسن: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" رحم الله أخي يوسف لو أنه ذكر ربه، ولم يستغيث بالملك لم يلبث في السجن ما لبث "
قال: ثم بكى الحسن وقال: (نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس).
وقال مالك بن دينار: (لما قال يوسف للساقي: أذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف أتخذت من دوني وكيلا، لأطيلن حبسك، فبكى يوسف وقال: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى).
ويحكى: أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف السجن، فلما رآه يوسف عرفه وقال: يا أخا المنذرين، ما لي أراك بين الخاطئين؟ فقال له جبريل: ربك يقرؤك السلام ويقول لك: ما استحييت مني إذ استشفعت بالآدميين! فوعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين، قال يوسف: أهو عني في ذلك راض؟ قال: نعم، قال: إذا لا أبالي.
[12.43-44]
قوله تعالى: { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات }؛ روي أن يوسف مرض في السجن، فأمر الله جبريل أن يعوده، فعاده فعرفه لكثرة اختلافه إلى آبائه، فقال له جبريل: يا طاهر بن الطاهر، رب العزة يقول لك: من حببك إلى أبيك من بين إخوتك؟ قال: هو، قال: فمن أنقذك من أيدي إخوتك؟ قال: هو، قال: فمن سهل لك السيارة في الأرض القفر حتى أخرجوك من قعر البئر؟ قال: هو.
ثم نشر جبريل جناحه، وأشار إلى الأرض فانفرجت، قال: يوسف انظر ما ترى؟ قال: أرى هو، ثم أشار إلى الأرض ثانية فانفرجت كلها حتى نظر يوسف إلى الصخرة التي عليها الأرضون، فقال جبريل: ما ترى؟ قال: صخرة عليها درة، قال: فما ترى في فم الدرة؟ قال: أرى طعاما، قال رب العزة يقول لك: أنا أذكر هذه الدرة في هذا الموضع ثم أنساك على وجه الأرض؟ أما استحييت مني حتى تقول لعبد ملك اذكرني عند ربك، ولم تقل يا رب، فعند ذلك قال يوسف: يا رب فاسألك بمنك القديم، وفضلك العميم إلا غفرت لي، قال: يا يوسف أغفر لك وأخرجك من السجن ، ثم كان من رؤيا الملك ما كان.
ومعنى الآية: أن الملك واسمه زيان بن الوليد رأى في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر من أنهار مصر، فخرج من بعدهن سبع بقرات عجاف، فابتلع العجاف السمان فدخلن في بطونهن ولم يزد منهن شيئا، فعجب منهن، ورأى سبع سنبلات خضر وسبع سنبلات أخر يابسات، التوت اليابسات على الخضر فقلبن خضرتهن ولم يسير عليهن شيء منهن.
فأرسل الملك في هذه الرؤيا إلى السحرة والكهنة، فجمعهم ثم قص عليهم ذلك وقال لهم: { يأيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرءيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين }؛ أي قالت الكهنة والسحرة: هذه الرؤيا أباطيل الأحلام كاذبة، وما نحن بتأويل الأحلام المختلفة بعالمين، ليس لها عندنا تأويل.
[12.45-47]
قوله تعالى: { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون }؛ قال صاحب الشراب الذي نجا من السجن والقتل وتذكر بعد سنين، ويقال: هذا بعد انقراض أمة، والأمة في اللغة هي المدة الكثيرة كما أنها في الجماعة الجماعة الكثيرة. ومن قرأ (بعد أمة) فمعناه: بعد نسيان.
وقوله تعالى: { أنا أنبئكم } قول صاحب الشراب لما عجز الكهنة عن تأويل رؤيا الملك، جاء ووقف بين يديه فخاطبه بلفظ الجماعة كما يخاطب الملك، وقال: أنا أخبركم بتعبير هذه الرؤيا، فأرسلون إلى السجن. ثم قال: إنما كنت عصيت فحبستني أنا وخبازك، فرأينا فيها رؤيا فقصصناها على رجل في السجن عالم صالح صادق، فأخبرنا بها فكان كما أخبر، فأرسلون إليه. فأرسلوه فدخل السجن وقال: { يوسف أيها الصديق }؛ وحذف كلمة النداء اختصارا، والصديق: الذي يجري على عاداته في الصدق والتصديق بالحق.
قوله تعالى: { أفتنا في سبع بقرات سمان }؛ خرجن من نهر بيت تبعهن { يأكلهن سبع }؛ بقرات، { عجاف }؛ هالكات من الهزال، وفي { وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات }؛ التوين على الخضر وغلبن خضرتهن. قوله تعالى: { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون }؛ أي لإن أرجع بتأويل ذلك إلى الملك والناس يعلمونه.
فقال له يوسف: أما سبع بقرات سمان فهي سبع سنين خصبة ، وأما سبع بقرات عجاف فهي السنون السبع الجدبة، وأما سبع سنبلات يابسات فهو القحط والغلاء في السنين الجدبة، ثم علمه يوسف عليه السلام كيف يصنعون، كما قال الله تعالى: { قال تزرعون سبع سنين دأبا }؛ أي على ما هو عادتكم في الزراعة، وقيل: معنى قوله { دأبا } بجد واجتهاد.
قوله تعالى: { فما حصدتم فذروه في سنبله }؛ أي فما حصدتم من الزرع، فاتركوه في سنبله ولا تدرسوه، { إلا قليلا مما تأكلون }؛ من ذلك في كل سنة، وإنما أمرهم بهذا؛ لأن الحنطة إذا كانت في سنبلها كانت أبقى منها اذا درست، فإنها إذا درست تآكلت، وفسدت بمضي المدة عليها.
[12.48]
قوله تعالى: { ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد }؛ أي قحطة ضيقة على الناس، تأكلون فيها ما ادخرتم من زروع السنين الخصبة، { يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون }؛ إلا شيئا قليلا تحصنونه في موضع من المواضع، ونسب الأكل إلى السنين القحط على التوسع؛ لأن الأكل كان يقع فيها.
[12.49-50]
قوله تعالى: { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } هذا خبر من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رؤيا الملك، ولكنه من علم الغيب الذي آتاه الله إياه، كما قال قتادة: (زاده الله علما سنة لم يسألوه عنها).
والمعنى: أن يوسف عليه السلام قال له: ثم يأتي من بعد هذه السنين الأربعة عشرة، سنة فيها يغاث الناس. يجوز أن يكون هذا من الغوث؛ أي يغيث الله في تلك السنة عباده فتزكوا فيها زروعهم وفواكههم وأعنابهم. ويجوز أن يكون من الغيث وهو المطر؛ أي آتاهم الله بالأمطار والخصب في تلك السنة.
قوله تعالى: { وفيه يعصرون } قرأ أهل الكوفة إلا عاصما بالتاء؛ لأن الكلام كله خطاب، وقرأ الباقون بالياء رده إلى الناس، قال أكثر المفسرين: يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا، وهنا أراد يعصرون الأعناب والأثمار والحبوب من كثرة الغيث والخير. وقيل: معناه: ينجون من البلاء والشدة، والعصرة النجاة والملجأ، وقال الشاعر:
صاديا يستغيث غير مغاث
ولقد كان عصرة المنجود
ومن قرأ (يعصرون) بضم الياء ونصب الصاد، فمعناه يعصرون من قوله
وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجا
[النبأ: 14].
فلما رجع الرسول إليه وأخبره بمقالته، قال الملك: ائتوني به، فذلك قوله تعالى: { وقال الملك ائتوني به فلما جآءه الرسول }؛ قال له: إن الملك يدعوك، { قال }؛ له يوسف: { ارجع إلى ربك }؛ سيدك الملك، { فاسأله }؛ حتى يسأل، { ما بال } ، عن شأن، { النسوة اللاتي قطعن أيديهن }؛ أكن صادقات على يوسف أم كاذبات عليه، وليعلم صحة براءتي، وأني مظلوم بالحبس، وأبى أن يخرج مع الرسول، { إن ربي بكيدهن عليم }؛ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لقد عجبت من صبر أخي يوسف وكرمه، ولو كنت أنا الذي دعيت إلى الخروج لبادرتهم إلى الباب، ولكنه أحب أن يكون له العذر ".
[12.51-53]
قوله تعالى: { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه }؛ فيه إضمار، تقدير الكلام: فرجع الرسول إلى الملك فأعلمه بذلك، فأرسل الملك إلى النسوة فأحضرهن، ثم قال لهن: { ما خطبكن } أي ما شأنكن إذا طلبتن يوسف عن نفسه، { قلن حاش لله }؛ هذا جواب النسوة للملك بكلمة التنزيه، نزهن يوسف عن ما اتهم به. قوله تعالى: { ما علمنا عليه من سوء }؛ أي من قبيح.
قوله تعالى: { قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق }؛ أي تبين وظهر الحق ليوسف، { أنا راودته عن نفسه }؛ أي دعوته إلى نفسي، { وإنه لمن الصادقين }؛ في قوله إنه لم يراودني.
قال ابن عباس: (فرجع صاحب الشراب إلى يوسف فأخبره بذلك، فقال يوسف: { ذلك } ، الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه في شأن النسوة) { ليعلم } العزيز، { أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } في زوجته في حال غيبته عني.
قال أهل الوعظ: فقال جبريل: بل ولا هممت بها، فقال يوسف: { ومآ أبرىء نفسي }؛ فإن صحت هذه الرواية كان المعنى: وما أبرئ نفسي من الهم؛ أي ما أزكيها، وتزكية النفس مما يذم.
قوله تعالى: { إن النفس لأمارة بالسوء }؛ أي بالقبيح، وذلك لكثرة ما تشتهيه وتسارع إليه. قوله تعالى: { إلا ما رحم ربي }؛ أي إلا ما عصمني ربي بلطفه، و(ما) بمعنى (من)، كقوله
فانكحوا ما طاب لكم
[النساء: 3]، وفي هذا دليل أن أحدا لا يمتنع من المعصية إلا بعصمة الله، وقوله تعالى: { إن ربي غفور رحيم }؛ أي غفور لذنوب المذنبين، رحيم بهم بعد التوبة.
[12.54]
قوله تعالى: { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي }؛ إي قال الملك: ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي، وأعمل على إشارته، فلما جاءه الرسول قال: أجب الملك، قال: الآن.
فخرج يوسف، { فلما }؛ دخل على الملك، { كلمه } ، قال: اللهم إني أسألك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره، ثم سلم عليه يوسف بالعربية، فقال له: وما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية، فقال له: وما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي. فأعجب الملك ما رأى منه.
وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلما رأى الملك حداثة سنه قال لمن عنده: إن هذا علم تأويل رؤياي، ولم تعلمه السحرة ولا الكهنة، ثم أجلسه وقال له: إني أحب أن أسمع تأويل رؤياي شفاها منك.
قال: أيها الملك، رأيت سبع بقرات سمان حسان كشف لك عنهن النيل، خرجن عليك من شاطئه، فبينما أنت تنظر إليهن، ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل وغار ماؤه، فخرج من حمأته ووجله سبع بقرات عجاف شعث غير مقلصات البطون، ليس لهن ضروع ولهن أضراس وأنياب وأكف كأكف الكلاب، فاختطفن بالسمان فافترسوهن افتراس السبع، فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن ومشمشن مخهن وحطمن عظامهن.
فبينا أنت تتعجب إذ بسبع سنبلات خضر وسبع آخر سود في منبت واحد وأصولهن في الماء، إذ هبت ريح فجعلت اليابسات السود على الخضر المثمرات، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن، فهذا ما رأيت من الرؤيا. فقال الملك: والله إن هذه الرؤيا وإن كانت عجبا، فإن الذي سمعت منك أعجب، فما ترى فيها؟ فقال تأويلها كذا وكذا كما قد تقدم.
قوله تعالى: { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين }؛ أي قال له الملك: إنك اليوم لدينا متمكن من فعل ما تريد، نافذ القول والأمر ، قد ظهرت أمانتك، وظهر كذب النساء عليك، ولم تظهر منك خيانة.
[12.55]
قوله تعالى: { قال اجعلني على خزآئن الأرض إني حفيظ عليم }؛ أي قال يوسف: اجعلني على خزائن أرضك، واجعل تدبيرها إلي، وأراد بذلك الخزائن التي يجمع فيها طعام الأرض وأموالها التي كان مصيرها إلى الملك، وكانت أرض مصر أربعين فرسخا في أربعين فرسخا. وإنما قال يوسف ذلك لصلاح الخلق؛ لأن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لإقامة العدل ووضع الأشياء مواضعها، فعلم يوسف أنه لا أحد أقوم بذلك منه.
قوله تعالى: { إني حفيظ عليم } أي حافظ للخزائن، عالم بوضعها مواضعها، وقيل: لجميع ألسن الغرباء الذين يأتونك، فإنه كان يتكلم بالعربي والعبراني والسرياني والقبطي.
وقيل عالم بساعات حاجات الناس، وذلك أن أمر الخبازين أن يجعلوا غداء الملك نصف النهار، فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار، فلما كانت الليلة التي وقع فيها الجوع أول السنين الجدبة، أمر الخبازين أن يجعلوا غداءه مع عشائه ففعلوا، فوقع الجوع في نصف الليل، فهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع، فقرب إليه طعامه. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يمدح نفسه بالأفضل عند من لا يعرفه، وأن المراد بقوله تعالى:
فلا تزكوا أنفسكم
[النجم: 32] النهي من تزكية النفس للفخر والسمعة.
[12.56-57]
قوله تعالى: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشآء }؛ أي كما برأنا ساحته وخلصانه من الحبس، كذلك مكنا له في أرض مصر { يتبوأ منها } أي ينزل بها حيث يشاء، { نصيب برحمتنا من نشآء }.
وروي أن الملك توجه وأعطاه سيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، ثم أمر بأن يجلس عليه، فجلس ولزم الملك بيته وفوض إليه كل أموره، وذلت له سائر الملوك، فلطف يوسف بالناس وأقام فيهم العدل وأخذ يدعوهم إلى الإسلام، فأحبه الناس كلهم وآمن كثير منهم.
قوله تعالى: { ولا نضيع أجر المحسنين }؛ على إحسانهم. قوله تعالى: { ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا }؛ أي ولثواب الآخرة خير من ثواب الدنيا للذين آمنوا بالله وكتبه، { وكانوا يتقون }؛ الكفر والفواحش.
[12.58]
قوله تعالى: { وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه }؛ وهم عشرة، جاؤا من بعد أبيهم في سني القحط لطلب الطعام كما يجيء غيرهم، فدخلوا عليه وكلموه بالعبرانية، وعليه ثياب حرير وطوق ذهب، وهو جالس على سرير ملكه، { فعرفهم }؛ أنهم إخوته، { وهم له منكرون } ، وكانوا لا يعرفونه لطول العهد؛ لأنهم كانوا رأوه صغيرا، ولم يظنوا أنه يصير ملكا، فأمارهم وأحسن إليهم، وفاوضهم في الحديث حتى حدثوه بحديث أبيهم، وقالوا: إن لنا أبا شيخا كبيرا وكنا اثني عشر، فهلك واحد منا في الغنم ووجدنا قميصه وعليه دم فأتينا به أبانا، وله أخ وهو آثر إلى أبينا منا.
[12.59-60]
قوله تعالى: { ولما جهزهم بجهازهم قال }؛ لهم: { ائتوني بأخ لكم من أبيكم }؛ أي لما أعطاهم الميرة وكال لهم كيلهم، قال لهم: { ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل }؛ أعطي الناس حقوقهم على التمام، { وأنا خير المنزلين }؛ للأمور منازلها، { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون }؛ مرة أخرى.
[12.61-62]
قوله: { قالوا سنراود عنه أباه }؛ أي قالوا: سنطلبه من أبيه، { وإنا لفاعلون }؛ أن سنجيء به، وخاف يوسف أن لا يكون عند أبيهم من الرزق ما يرجعون به إليه مرة أخرى.
فأمر أن يجعل دراهمهم في أوعيتهم من غير علم لهم، فذلك قوله تعالى: { وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم }؛ أي قال يوسف لخدامه من مماليكه: اجعلوا دراهمهم ودنانيرهم التي جاؤا بها في رحالهم، { لعلهم يعرفونهآ إذا انقلبوا إلى أهلهم } ، لكي يعرفوا هذه الكرامة مني. ويقال: كي يعرفوا أنها دراهمي، { لعلهم يرجعون } ، فيرجعوها فيردوها علي.
[12.63-64]
قوله تعالى: { فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا منع منا الكيل }؛ في المستقبل إن لم ترسل معنا بنيامين، { فأرسل معنآ أخانا نكتل }؛ لنا وله. ومن قرأ (يكتل) بالياء أي يكتل أخونا، يأخذ لنفسه حملا، { وإنا له لحافظون }؛ حتى نرده عليك. { قال هل آمنكم عليه إلا كمآ أمنتكم على أخيه }؛ يوسف، { من قبل }؛ فضيعتموه وغيبتموه عني، ولئن أرسلت معكم بنيامين، { فالله خير حافظا } ، أي فعلى الله أتوكل، فإن حفظ الله خير من حفظكم. ومن قرأ (حافظ) أي خير حافظ، وكلا نصب على التمييز، { وهو أرحم الراحمين }. قال كعب: (لما قال يعقوب: والله خير حافظا، قال الله تعالى: وعزتي لأردن عليك كلاهما بعد ما توكلت علي).
[12.65]
قوله تعالى: { ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم }؛ أي لما فتحوا أوعيتهم وجدوا دارهمهم ردت إليهم، { قالوا }؛ لأبيهم: { يأبانا ما نبغي }؛ أي ما نظلم ولا نكذب في ما أخبرناك به أن ملك مصر أكرمنا وألطفنا، وهذا إذا كان قوله: { ما نبغي } من البغي، فأما إذا كان من الطلب، فمعناه الاستفهام دون الجحد، وموضع (ما) نصب تقديره أي شيء نريد، وفي قراءة عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما نبغي معناه ما نطلب ".
قوله تعالى: { هذه بضاعتنا ردت إلينا }؛ ابتداء كلام معناه: دراهمنا وهي ثمن الطعام الذي اشتريناه بمصر ردت إلينا، وقوله تعالى: { ونمير أهلنا }؛ أي نمتار لأهلنا، بقوله مار فلان لأهله إذا حمل إليهم قوتهم من غير بلدة. ومن قرأ (نمير) بضم النون، أي نجعلهم أصحاب ميرة، { ونحفظ أخانا }؛ من أن يضيع، { ونزداد كيل بعير }؛ إذا كان هو معنا، وسمي الحمل كيلا؛ لأنه يكال. قوله تعالى: { ذلك كيل يسير }؛ أي هين سريع لا حبس فيه إن أرسلته معنا.
[12.66]
قوله تعالى: { قال }؛ لهم يعقوب: { لن أرسله }؛ بنيامين، { معكم حتى تؤتون موثقا }؛ أي تعطوني عهدا وثيقا، { من الله لتأتنني به }؛ لتردنه علي، { إلا أن يحاط بكم } ، ينزل بكم أمين السماء والأرض لا تقدرون على دفع ذلك، { فلمآ آتوه موثقهم }؛ أي لما حلفوا، { قال }؛ لهم يعقوب: { الله على ما نقول وكيل }؛ أي شهيد حفيظ.
[12.67]
قوله تعالى: { وقال يبني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } قال ابن عباس: (خاف يعقوب على بنيه العين لجمالهم وقوتهم، وكلهم بنو أب واحد). ثم رجع إلى علمه، { ومآ أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله }؛ أي ما القضاء إلا لله، { عليه توكلت }؛ إليه فوضت أمري وأمركم مع التمسك بطاعته والرضا بقضائه، { وعليه فليتوكل المتوكلون }.
واختلف العلماء في أمر العين ، فقال بعضهم: هي حق، واستدلوا بما
" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عوذ الحسن والحسين ورقى لهما من العين وقال " وأعيذكما بالله من كل عين لامة " "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" والعين حق "
وقال بعضهم: إنه يمتد من عين الناظر أجزاء، فتتصل بما يستحسنه فتؤثر فيه كتأثير اللسع من النار والسم.
وأنكر بعض العلماء الإصابة بالعين؛ لأنه لا شبهة في أن الأمراض والأسقام لا تكون إلا من فعل الله؛ لأن الإنسان لا يقدر على ذلك. وفي قوله: { ومآ أغني عنكم من الله من شيء } بيان أنه لا ينفع حذر من قدر.
[12.68]
قوله تعالى: { ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم }؛ أي لما دخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكان لمصر أربعة أبواب، فدخلوها من أبوابها كلها كما أمرهم. قوله تعالى: { ما كان يغني عنهم من الله من شيء }؛ أي ما كان يغني يدفع عنهم شيئا من قضاء الله، يعني: لو قدر الله أن تصيبهم العين لأصابتهم.
قوله تعالى: { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها }؛ وهي دخولهم مصر من أبواب متفرقة. قوله تعالى: { وإنه لذو علم لما علمناه }؛ أي إن يعقوب لذو يقين ومعرفة بالله وبأمر الدين لتعليمنا إياه أن لا يصيب أحدا شيء إلا بقضاء الله، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ ذلك.
[12.69]
قوله تعالى: { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه }؛ أي ضم أخاه بنيامين إلى نفسه، وقيل: أذن له بالدخول عليه، وجلس إخوته بالباب، فلما دخل عليه قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: ما اسم أمك؟ قال: راحيل، قال: فهل لك والد؟ قال: نعم، قال: هل لك إخوة من أبيك؟ قال: عشرة، فقال: هل لك أخ من أمك؟ قال: كان لي أخ من أمي هلك، قال: أحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال: أيها الملك ومن يجد أخا مثلك؟ لكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل.
فخنقت يوسف العبرة، فبكى ثم وثب إليه فاعتنقه، و { قال إني أنا أخوك }؛ وبكى كل واحد منهما، ثم أعلمه يوسف أنه سيحتال في إحباسه عنده، ثم أذن لإخوته بعد ذلك في الدخول عليه.
قوله تعالى: { فلا تبتئس بما كانوا يعملون }؛ أي لا تحزن بما كانوا يعملون بي وبك من حسدنا، وصرف وجه أبينا عنا. فقد جمع الله بيني وبينك، وأرجو أن يجمع الله بيننا وبين يعقوب، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل.
[12.70]
قوله تعالى: { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه }؛ أي فلما كال لهم، أمر أصحابه المختصين به أن يجعلوا الصاع في رحل أخيه بنيامين، وسمي الصاع سقاية؛ لأنه كان قبل ذلك مما يستقي به الملك الخمر وكان من ذهب. وقال ابن عباس: (كان قدحا من زبرجد). وقيل: كان من فضة مموه بالذهب، وكان الشرب في مثل ذلك الإناء جائزا في شريعتهم، فلما كان في أيام القحط أمر الملك أن يكال به الطعام للناس.
قيل: فلما قال يوسف لبنيامين: إني أنا أخوك، قال له: فإني لا أفارقك أبدا، قال يوسف: قد علمت اغتمام والدي لي، فأخاف إن حبستك معي ازداد غمه، ثم لا يمكنني حبسك إلا بأن أشهرك بأمر فظيع، قال: لا أبالي فافعل ما شئت.
قال: فإني أدس صاعي هذا في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي حبسك معي، { ثم أذن مؤذن } ، أي فلما رحلت إخوة يوسف نادى مناد: { أيتها العير إنكم لسارقون }؛ وكان النداء على ظن من هؤلاء الموكلين بالصاع أنهم كذلك.
ولم يكن هذا النداء بأمر يوسف ولا يعلمه؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يأمرون بالكذب، ومن قال: إن هذا النداء كان بأمر يوسف، فيحتمل أن يكون معناه: إنكم لسارقون يوسف على أبيه حين غيبتموه عنه. والعير اسم لقافلة الحمير دون قافلة الإبل، ثم كثر استعماله في كل قافلة.
[12.71-72]
قوله تعالى: { قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون؛ أي قالت إخوة يوسف وأقبلوا على المنادي وأصحابه: ماذا تطلبون أتنسبونا إلى السرقة، { قالوا نفقد }؛ أي نطلب، { صواع الملك }؛ والصواع والصاع واحد وهو السقاية، قوله تعالى: { ولمن جآء به حمل بعير }؛ من الطعام، { وأنا به زعيم }؛ أي كفيل، قال هذا القول المؤذن ، وقال لهم أيضا: إن الملك قد اتهمني، وأخاف عقوبته وسقوط منزلتي عنده إن لم أجد الصاع.
[12.73]
قوله تعالى: { قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض }؛ أي حلفوا بالله وقالوا: لقد علمتم ما جئنا لنفسد في أرض مصر بالسرقة من الناس، { وما كنا سارقين }؛ ما تظنونه.
[12.74-75]
قوله تعالى: { قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين }؛ أي ما جزاء من سرق إن كنتم كاذبين، { قالوا جزآؤه } السارق، { من وجد في رحله } أخذ عبدا لسرقته، { فهو جزاؤه } استرقاقه، { كذلك نجزي الظالمين } أي هكذا جزاء السارقين في أرضنا وهي سنة يعقوب عليه السلام، حكموا على أنفسهم بما كان يطلب يوسف من احتباس أخيه.
[12.76]
قوله تعالى: { فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه } ، أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه، { ثم استخرجها من وعآء أخيه }؛ فلما فتش وعاء أخيه وجد الصاع، فلما رأى أخوة يوسف ذلك، تحيروا ونكسوا رؤوسهم، وقالوا لبنيامين: يا ابن المشؤومة وأخوا المشؤوم! ما الذي حملك على أن تسرق صواع الملك فتفضحنا وتزري بأبيك يعقوب، فجعل يحلف بالله ما سرقته ولا علم لي بمن وضعه.
فلم يقبلوا منه وقالوا له: فمن وضعه في متاعك؟ قال: الذي وضع بضاعتكم في رحالكم في المرة الأولى، فقالوا فيما بينهم: لعل هذا الملك يريد بنا أمرا، فبينما هم في الخصومة إذ أقبل فتى يوسف فأخذ برقبة بنيامين وذهب به إليه.
قوله تعالى: { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } كذلك ضنعنا ليوسف حتى أخذ أخاه، وفي هذا دليل على أن يوسف كان مأذونا له من جهة الله في هذه الحيلة ليضاعف الثواب ليعقوب على فقدهما.
قوله تعالى: { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشآء الله }؛ أي ما كان ليأخذ أخاه في قضاء الملك، لأن من حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يوسف يتمكن من حبس أخيه عنده في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطفا حتى وجد السبيل في ذلك، وهو ما جرى عليه ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فأمروا به وكان ذلك مراده، وهو معنى قوله { إلا أن يشآء الله } وكان ذلك بمشيئة الله. قوله تعالى: { نرفع درجات من نشآء }؛ أي في العلم كما رفعنا درجة يوسف، { وفوق كل ذي علم عليم }؛ أي فوق كل عالم عالم حتى ينتهي العلم إلى الله.
[12.77]
قوله تعالى: { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له }؛ لأبيه وأمه، { من قبل }؛ أي قال أخوة يوسف: إن يسرق بنيامين سقاية الملك { فقد سرق أخ له من قبل } يعنون يوسف، وذلك أن عمة يوسف كانت تحبه وهو صغير، وكان يعقوب لا يتركه عندها، فاحتالت وجاءت بمنطقة أبيها إسحاق فشدتها على وسط يوسف تحت القميص، ثم قالت: فقد سرق منطقة أبي فأنا آخذه بذلك. فهي التي أراد إخوته بإضافتهم السرقة إليه.
وعن مجاهد: (أن يوسف جاءه سائل يوما، فسرق بيضة من البيت فناوله إياها، فعيروه بذلك). وقيل: كان يخبىء الطعام من المائدة للفقراء، وقيل: جاء سائل ولم يكن في المنزل معه أحد، فأعطاه جديا من غير أمر أبيه فهذه سرقته.
قوله تعالى: { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم }؛ أي أخر هذه الكلمة في نفسه، ولم يظهر لهم جوابا، بل { قال }؛ في نفسه: { أنتم شر مكانا }؛ أي صنعا من يوسف بما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، { والله أعلم بما تصفون }؛ به يوسف.
[12.78]
قوله تعالى: { قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه }؛ روي أن يهودا كان أشد بني يعقوب غضبا، وكان إذا غضب صاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت، وكان إذا غضب تقوم كل شعرة من جسده وتنتفخ، فلا يسكن غضبه حتى يمسه واحد من آل يعقوب.
فقال يهودا لبعض أخوته: انظروا كم سوقا بمصر؟ فنظروا فإذا هي عشرة، فقال لإخوته: اكفوني من هذه الأسواق حتى أكفيكم من الملك، ثم قال: تباعدوا مني، فأمر يوسف ابنا له صغيرا، فقال: اذهب فمس ذلك الرجل، فدنا منه فمسه فذهب غضبه، ثم هم أن يصيح ثانية، فقام إليه يوسف فركضه برجله ليريه أنه شديد، ودفعه ثم أخذ بتلابيبه فجذبه فوقع في الأرض. ثم قال: إنكم ترون معشر العبرانيين أن أحدا ليس مثلكم في الشدة.
فقال يهودا لإخوته: هل مسني أحد من آل يعقوب؟ قالوا: لا، وذل يهودا عند ذلك، وقال: أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا في السن، فذكروا هذا على جهة الاسترحام.
وقيل: معناه: كبير القدر لا يحسبن، أين مثله؟ فخذ أحدنا مكانه عبدا. وقيل: وفي هذه دليل أنه كان يجوز لإنسان أن يرق نفسه لغيره، وقد نسخ هذا بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { إنا نراك من المحسنين }؛ إلى كل من يأتيك وقد أوفيت لنا الكيل، ورددت علينا بضاعتنا وقضيت حاجتنا، فإن رددت معنا أخانا كان أعظم منة علينا من جميع ما سبق.
[12.79]
قوله تعالى: { قال }؛ يوسف: { معاذ الله }؛ وهذا نصب على المصدر؛ أي أعوذ بالله، { أن نأخذ }؛ أي أن آخذ بالسرقة، { إلا من وجدنا متاعنا عنده }؛ إذا فعلنا ذلك كنا ظالمين، نحبس من لم نجد متاعنا عنده. يجوز أن يكون أراد إنا، { إنآ إذا لظالمون } ، عندكم وفي حكمكم.
[12.80-81]
قوله تعالى: { فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا }؛ أي لما يئسوا من يوسف أن يرد أخاهم عليهم انفردوا متناجين فيما بينهم يتشاورون كيف يرجعون إلى أبيهم وماذا يقولون له. والتنجي مصدر يعبر به عن الواحد والجميع، وقد يجمع النجي أنجية، قال الشاعر:
إنى إذا ما القوم صاروا أنجيه
واختلفت أعناقهم الأرشيه
هناك أوصي ولا يوصى بيه
قوله تعالى: { قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله }؛ أي قال لهم روبيل وهو أكبرهم في السن: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم عهدا من الله لتردنه عليه.
قوله تعالى: { ومن قبل ما فرطتم في يوسف }؛ أي وتعلمون تفريطكم في يوسف، { فلن أبرح الأرض } أي أرض مصر، { حتى يأذن لي أبي } في البراح، { أو يحكم الله لي }؛ في موت، أو وصول إلى أخي فأرده إلى أبيه { وهو خير الحاكمين }؛ لا يحكم إلا بالحق.
ثم قال لإخوته كما قال الله تعالى:
قوله تعالى: { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق }؛ صواع الملك. وقرأ ابن عباس (سرق) بضم السين وتشديد الراء، { وما شهدنآ إلا بما علمنا }؛ إخبار عن ظاهر وجود الصاع في رحل بنيامين أنه هو الآخذ له، { وما كنا للغيب حافظين }؛ أي ما كنا ندري باطن الأمر في السرقة أنه سرق أو كذب عليه.
[12.82-83]
قوله تعالى: { وسئل القرية التي كنا فيها }؛ أي اسأل من شئت من أهل القرية التي كنا فيها وهي مصر، فإن أمر شائع فيهم، يخبرك به من سألته. وسمى مصر قرية؛ لأن العرب تسمي الأمصار والمدائن قرى. وقيل: أراد بالقرية قرية من قرى مصر وهي التي ارتحلوا من مصر إليها.
قوله: { والعير التي أقبلنا فيها }؛ أي واسأل أهل القافلة التي رجعنا منهم، وكان قد صحبهم قوم كنعان. قوله تعالى: { وإنا لصادقون }؛ أي لصادقون فيما نقول لك. فقال لهم يعقوب كما قال الله تعالى:
قوله تعالى: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل }؛ أي قال: إن ابني لا يسرق، وإنما سهلت لكم أنفسكم أمرا إذا قلتم فيه سرق، فأمري صبر جميل لا جزع فيه.
قوله تعالى: { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا }؛ أي بيوسف وبنيامين وروبيل، { إنه هو العليم }؛ بعباده، { الحكيم }؛ في تدبير أمر خلقه.
[12.84]
قوله تعالى: { وتولى عنهم }؛ أي أعرض عنهم لشدة الحزن، { وقال يأسفى على يوسف }؛ أي أقبل أيها الأسف فقد حان وقتك، والأسف والحزن واحد. وقيل: الأسف أشد من الحزن. قوله تعالى: { وابيضت عيناه من الحزن } ، من شدة البكاء وإلا فالحزن لا يبيض العين، والدمع مما لا يمكن الاحتراز عنه كما قال صلى الله عليه وسلم:
" القلب يحزن والعين تدمع ".
قوله تعالى: { فهو كظيم }؛ أي ممسك للحزن يتردد حزنه في جوفه، وقال عطاء: (الكظيم الحزين)، وقال الضحاك: (كميد)، وقال ابن عباس: (مهموم) قال مقاتل: (لم يبصر بعينين ست سنين حتى كشفه الله بقميص يوسف)، قيل: بلغ من حزن يعقوب حزن سبعين ثكلى.
[12.85]
قوله تعالى: { قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين }؛ أي قال أولاد يعقوب: والله لا تزال تذكر يوسف حتى تكون دنفا أو تموت، والحرض الذائب البالي. وعن الحسن: (حتى تكون حرضا) بضمتين، أراد كالأشنان الموقوف. وقال الربيع: (الحرض يابس الجلد على العظم). وقيل: هو الضعيف الذي لا حراك به.
وإنما أضمر (لا) في قوله (تفتؤ) لأن العرب تقول: والله تدخل هذا الدار، تريد بذلك نفي الدخول، فإذا أرادت للإثبات قالت: لتدخلن.
[12.86-88]
قوله تعالى: { قال إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله }؛ أي قال يعقوب: إنما أشكو غمي وحزني إلى الله. والبث: هو تفريق الحزن الذي لا يكاد يصبر عنه صاحبه حتى يبثه.
وروي أن رجلا قال ليعقوب عليه السلام: ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، قال: فما الذي قوس ظهرك؟ قال: حزني على أخيه. فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فقال عند ذلك: { إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله } فأوحى الله إليه: وعزتي وجلالي لو كانا ميتين لأحييتهما لك حتى تنظر إليهما.
وقيل: إن رجلا دخل عليه فقال له: يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف، فأوحى الله إليه: أتشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي، فقال: قد غفرتها لك، فكان بعد ذلك إذا سئل قال: { إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله }.
قال وهب بن منبه: (أوحى الله إلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ فقال: لا، قال: لأنك شويت وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه!). ويقال: إن سبب ابتلاء يعقوب، أنه كان له بقرة وكان لها عجل، فذبح عجلها بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها يعقوب فأخذه الله به وابتلاه بفقد أعز أولاده من وسيط الواحد!
قوله تعالى: { وأعلم من الله ما لا تعلمون }؛ أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وإنا سنسجد له. وقيل: أعلم أن يوسف حي لم يمت؛ لأنه روي أن ملك الموت دخل على يعقوب، فقال له يعقوب: هل قبضت روح ولدي يوسف في الأرواح؟ قال: لا وستراه عاجلا.
فعند ذلك قال يعقوب لأولاده كما قال الله تعالى: { يبني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه }؛ أي اذهبوا واستخبروا واطلبوا يوسف وأخاه، وقال ابن عباس: (معناه: فالتمسوا يوسف وأخاه)، { ولا تيأسوا من روح الله }؛ أي لا تقنطوا من فرج الله، { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }؛ وسئل ابن عباس عن الفرق بين التحسيس والتجسيس، فقال: (التحسس في الخير، والتجسس في الشر).
وروي أن يعقوب كتب كتابا إلى عزيز مصر: بسم الله الرحمن الرحيم: من يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم إلى عزيز مصر، أما فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، ابتلى الله جدي بأن طرح في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وابتلى عمي إسماعيل بالذبح، ففداه الله بكبش عظيم، وابتلى أبي بالعمى، وابتليت أنا بغيبة ابني يوسف فذهب بصري، وزعمت أن ابني سرق، وما ولدت سارقا، فخل سبيل ابني وإلا فإن الله يفعل ما يشاء.
ثم دفع الكتاب إلى أولاده وقال لهم: إذا دخلتم عليه فقولوا: يا أيا العزيز مسنا وأهلنا الضر، فذلك:
قوله تعالى: { فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر }؛ أي فلما دخلوا في المرة الثالثة قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الشدة من القحط، { وجئنا ببضاعة مزجاة }؛ أي قليلة كاسدة، والمزجاة: هي الشيء اليسير الذي يدافع به. روي أنهم جاؤوا بمتاع الأعراب مثل الأقط والجبن والسمن والصوف، وقيل: جاؤا بدراهم رديئة لا تنفق في الطعام، وقال الضحاك: (النعال والأدم).
قوله تعالى: { فأوف لنا الكيل وتصدق علينآ }؛ أي وفر لنا الكيل، كما كنت توفر في السنين الماضية، ولا تنظر الى قلة بضاعتنا في هذه السنة، وتصدق علينا بنقصان السعر.
وقال سفيان بن عيينة: (سألوا الصدقة وهم أنبياء، وكانت حلالا لهم، وإنما حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم)، وكره مجاهد أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علينا، فان الصدقة إنما هي ممن يبتغي الثواب، وقوله تعالى: { إن الله يجزي المتصدقين }؛ أي على صدقاتهم بأفضل منها.
[12.89-90]
قوله تعالى: { قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون }؛ روي أنهم لما دفعوا الكتاب إليه وقرأه أرعد حتى سقط الكتاب من يده، ثم انتحب انتحابة كاد أن يتقطع منها قلبه، وقال لهم عند ذلك: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه، وقص عليهم جميع ما عملوه به من إلقائهم أياه في الجب، وبيعهم له وقولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، وفعلهم بأخيه حتى صار ذليلا فيما بينهم. وأراد بقوله { إذ أنتم جاهلون } جهالة الصبا، وقيل: أراد إذ أنتم شباب أحداث لا تعرفون أمور الدين.
فلما قص عليهم ذلك، { قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينآ }؛ بصبرنا على الشدة، { إنه من يتق }؛ المعاصي، { ويصبر }؛ على الشدائد، { فإن الله لا يضيع أجر }؛ أي ثواب { المحسنين }.
[12.91]
قوله تعالى: { قالوا تالله لقد آثرك الله علينا }؛ أي فضلك بما أنعم عليك، { وإن كنا لخاطئين }؛ أي وقد كنا عاصين لله في ما فعلنا، وهذا يدل على أنهم ندموا على ما فعلوا.
[12.92]
قوله تعالى: { قال لا تثريب عليكم اليوم }؛ أي لا تعيير عليكم اليوم؛ أي لا أذكر لكم ذنبكم بعد هذا اليوم. وقال ابن عباس: (لا لوم عليكم). قوله تعالى: { يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين }؛ بعباده.
[12.93-95]
قوله تعالى: { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي }؛ أي قال لهم: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يرجع، { يأت بصيرا }؛ كما كان، قال الضحاك: (كان ذلك القميص من نسج الجنة). وقوله تعالى: { وأتوني بأهلكم أجمعين } ، روي أنهم كانوا نحو سبعين إنسانا.
وقوله تعالى: { ولما فصلت العير }؛ روي أنه لما خرجت القافلة من العريش وهي قرية بين مصر وكنعان، بينهم وبين يعقوب ثمانية أيام، { قال أبوهم }؛ قال يعقوب لولد ولده، وكان أولاده كلهم بمصر: { إني لأجد ريح يوسف }. روي أن الريح حملت رائحة يوسف إلى أبيه. قوله تعالى: { لولا أن تفندون }؛ تسفهوني في الرأي لقلت إنه حي.
وقال الخليل: (الفند إنكار العقل من هرم، يقال شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند). وقال ابن عباس: (تفندون تجهلون)، وعن مجاهد: (لولا أن تقولوا ذهب عقلك)، وقال الضحاك وابن جبير: (لولا أن تكذبون)، وقيل: لولا أن تقولوا إني شيخ خرف، وقال أبو عبيدة: (تضللون)، والفند الفساد، قال الشاعر:
يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي
فليس ما فات من أمري بمردود
وفي بعض الروايات: أن ذلك القميص كان من الجنة، وكان الله ألبسه إبراهيم حين ألقي في النار فصارت عليه بردا وسلاما، ثم كساه إبراهيم اسحاق وكساه يعقوب، وكان يعقوب أدرج ذلك القميص في قصبة وعلقه على يوسف لما كان يخاف عليه من العين. وأمره جبريل أن أرسل إليه قميصك هذا فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى أو سقيم إلا عوفي، فلذلك أصاب يعقوب ريحه من بعد ثمانية أيام، { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم }.
[12.96]
قوله تعالى: { فلمآ أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا }؛ البشير هو يهودا، وذلك أن يهودا قال ليوسف: أنا ذهبت بالقميص وهو ملطخ بالدم إليه، فأنا أذهب بالقميص إليه فأخبره بأنك حي وأفرحه كما أحزنته، فكان هو البشير، فحمل القميص وخرج حاسرا حافيا، وكان معه سبعة أرغفة لم يشوق أكلها حتى بلغ كنعان، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، فلما أتاه ألقاه على وجهه فارتد بصيرا.
قال الضحاك: (رجع بصره بعد العمي، وقوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن)، ثم قال يعقوب للبشير: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. قوله تعالى: { قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون }؛ أي ألم أقل لكم إن يوسف حي وكنتم لا تعلمون ذلك.
[12.97-98]
قوله تعالى: { قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ }؛ أي ادع الله أن يغفر لنا ذنوبنا، { إنا كنا خاطئين }؛ أي مسيئين عاصين لله. قوله تعالى: { قال سوف أستغفر لكم ربي }؛ روي أنه قال لهم يوسف: أدعو لكم ربي ليلة الجمعة آخر السحر، { إنه هو الغفور }؛ لعباده، { الرحيم } لهم، ويقال: إنهم التمسوا منه أن يستغفر لهم على الدوام، وأن يجعلهم في ورده في الدعاء.
[12.99-100]
قوله تعالى: { فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه }؛ روي أن يوسف كان يبعث إلى يعقوب بمائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج، فلما دنا من مصر، وكان يوسف قد خرج في أربعة آلاف من الجند، فلما رأى يعقوب الخيل قال: ما هذا؟
قال هو ابنك، فلما دنا كل واحد من صاحبه، ابتدأ يعقوب بالسلام فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان، ثم عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا. فقال يوسف: يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك؟ قال: نعم، قال: يا أبت حزنت علي حتى انحنيت؟ قال: نعم، قال: يا أبت أما علمت أن القيامة تجمعنا؟ قال: إني خشيت أن يسلب دينك فلا نجتمع.
قوله تعالى: { فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه } أي ضمهما إلي نفسه وأنزلهما عنده، قال عامة المفسرين: يعني أباه وخالته؛ لأن أمه كانت قد ماتت قبل ذلك، وكان موتها نفاسها ببنيامين، ولأن بنيامين بلغة العبرانية ابن الوجيع.
قوله تعالى: { وقال ادخلوا مصر إن شآء الله آمنين }؛ من العدو والقحط والأسواء كلها. قوله تعالى: { ورفع أبويه على العرش }؛ أي رفعهما معه على سرير.
قوله تعالى: { وخروا له سجدا }؛ أي سجد له أبوه وخالته وإخوته الأحد عشر سجود تحية وتشريف، وكان في ذلك الزمان يسجد الوضيع للشريف، وقد تقدم نسخ هذا السجود في سورة البقرة، وعن عمر رضي الله عنه: (أنه خرج إلى بعض القرى، فخرج إليه رئيس أهل القرية فسجد له، فقال: ما هذا؟! قال: شيء نصنعه للأمراء والخلفاء، فقال: أسجد لربك الذي خلقك).
ويقال في معنى هذا: إنهم سجدوا شكرا لله على ما أنعم الله عليهم من اجتماعهم على أيسر الأحوال. ويجوز أن يكون معنى السجود الميلان والانحناء، عن ابن عباس: (أن معناه: وخروا لله سجدا), وقوله (له) كناية عن الله.
قوله تعالى: { وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل }؛ أي هذا السجود تصديق رؤياي التي رأيتها من قبل، { قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي } أي أحسن إلي، { إذ أخرجني من السجن }؛ هذا ثناء منه على الله تعالى بإنعامه عليه؛ إذ خلصه ونجاه من العبودية، { وجآء بكم من البدو }؛ وجاء بأبيه وإخوته من البادية إليه. قوله تعالى: { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي }؛ بالحسد، { إن ربي لطيف لما يشآء }؛ أي لطيف في تدبير عباده وبلطفه جمع بيننا على أحسن الأحوال، { إنه هو العليم }؛ بمصالح عباده، { الحكيم } في تدبيرهم.
واختلفوا في المدة التي كانت بين رؤيا يوسف وبين تصديقها، قال سلمان رضي الله عنه: (أربعون سنة)، وقال ابن عباس: (اثنان وعشرون سنة).
[12.101]
قوله تعالى: { رب قد آتيتني من الملك }؛ يعني ملك مصر أربعين فرسخا في أربعين فرسخا، { وعلمتني من تأويل الأحاديث }؛ أي تعبير الرؤيا وتأويل كتب الدين.
قوله تعالى: { فاطر السموت والأرض }؛ نصب على النداء؛ أي يا فاطر السماء والأرض منشئهما على غير مثال، { أنت وليي في الدنيا والآخرة }؛ أي تتولى حفظي وصيانتي، { توفنى مسلما }؛ أي ألطف بي لطفا أثبت به على الإيمان إلى أن يلحقني الموت، { وألحقني بالصالحين }؛ يعني يلحقه بآبائه.
وأما ما كان من أمر زليخا فإنه لما مات العزيز وبقيت أرملة، قالت: أنا من يوسف على رجاء، وأمري كل يوم إلى نقص؛ وذلك بمعصيتي لآله يوسف، فكيف لا أقوم إلى هذا الصنم المشؤوم فأجعله جذاذا، وألحق بيوسف وأسلم على يده؟ لعل إلهه يرحمني ويقضي حاجتي، فقامت وكسرت صنمها وجاءت إلى طريق يوسف، فوقفت له في يوم ركوبه فأقبل مع الأعلام والرايات مكتوبات عليها:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله ومآ أنا من المشركين
[يوسف: 108].
فلما صار يوسف بحذاء زليخا نادت: سبحان من يعلي العبيد ويجعلهم ملوكا بطاعته، ويذل الموالي ويجعلهم عبيدا بمعصيته. فسمع ذلك يوسف فقال: علي بصاحبة هذا الكلام، فأتي بها إليه فقال: من أنت؟ قالت: زليخا أما تعرفني؟! قال: لا، قالت: قد أنكرتني ؟ قال: أشد الإنكار، قالت: أنا الذي راودتك عن نفسك فاستعصمت بإله السماء، فرفعك ووضعني؛ وأعزك وأذلني؛ وأغناك وأفقرني، فعلمت أني في باطل وغرور، فكسرت صنمي وجئتك طائعة مؤمنة أقول: لا إله إلا الله، ليرحمني، فوقعت رحمتها في قلبه، فقال: سلي حاجتك، قالت: أتفعل؟ قال: نعم، قالت: لي ثلاث حوائج يا يوسف قد ذهب بصري فادع الله أن يرد علي لأنظر إلى جمال وجهك، فدعا الله فرد عليها بصرها فأقبلت تنظر إلى يوسف، ثم قالت: وادع الله أن يرد علي حسني وجمالي، فدعا الله فرده عليها ذلك.
فلما نظر يوسف إليها نكس رأسه وقال: أما تسألي الثالثة يا رأس الفتنة؟ قالت: تتزوج بي حلالا؟ قال لها: قومي يا رأس الفتنة هذه حاجة ليس في نفسي قضاؤها، قالت: أما أنا فلا أقنط من رحمة الله، فنزل جبريل على يوسف وقال: إن الله يأمرك أن تتزوج بها، فجعلت تحمد الله وتشكره فتزوجها، فلما دخل بها وجدها عذراء، فولدت له ولدين، وأقام يعقوب عند يوسف ثماني عشرة سنة، ومات قبل يوسف بسنتين.
[12.102]
قوله تعالى: { ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك }؛ أي ذلك الذي ذكرت لك يا محمد من قصة يوسف وإخوته من أخبار ما غاب علمه عنك نوحيه إليك. قوله: { وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم }؛ أي وما كنت عندهم إذ عزموا أمرهم على إلقاء يوسف في الجب، { وهم يمكرون }؛ به، وكان مكرهم إلقاءهم إياه في البئر.
[12.103]
قوله تعالى: { ومآ أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }؛ أي وما أكثر الناس بمؤمنين بالقرآن والرسول ولو حرصت يا محمد على دعائهم إلى الإيمان وجهدت كل الجهد.
[12.104-105]
قوله تعالى: { وما تسألهم عليه من أجر }؛ أي وما تسألهم يا محمد على دعائهم إلى الله من جعل في مالهم فيصدهم ذلك عن الإيمان. قوله تعالى: { إن هو إلا ذكر للعالمين }؛ أي ما القرآن إلا موعظة للعالمين.
وقوله تعالى: { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون }؛ أي فكم من آية دالة على وحدانية الله مما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم، وما في الأرض من الأشجار والجبال والنبات وغير ذلك من الحيوانات، يرونها ويشاهدونها ثم لا يستدلون بذلك على أن لها مدبرا حكيما عليما قادرا لا يشبهه شيء من المخلوقات. ويقال: أراد بالآيات التي في الأرض آيات عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، كان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم ولا يتعظون بهم.
[12.106]
قوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون }؛ أي ما يصدق أكثرهم بلسانهم إلا وهم مشركون به غيره؛ لأنهم يؤمنون من وجه، كما قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله
[الزخرف: 87] ويشركون من وجه وهو عبادتهم الأصنام، وقال الحسن: (المراد بهذه الآية أهل الكتاب معهم إيمان من وجه وشرك من وجه، فإن مع اليهود إيمانا بموسى وكفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم).
[12.107]
قوله: { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله }؛ أي أفأمن الكفار أن يغشاهم العذاب من الله، { أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون } بنزول العذاب.
[12.108]
قوله تعالى: { قل هذه سبيلي }؛ أي هذه الدعوة ديني، وإنما قال: (هذه) لأن السبيل يذكر ويؤنث، { أدعو إلى الله على بصيرة }؛ على معرفة مني بالله تعالى، وقوله تعالى: { أنا ومن اتبعني }؛ معناه: يدعو إلى الله، { وسبحان الله } أي وقل: سبحان الله، { ومآ أنا من المشركين }؛ أي لست معهم على دينهم.
[12.109]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } أي وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا منسوبين إلى القرى مثلك يوحى إليهم كما يوحى إليك، قال الحسن: (لم يرسل الله امرأة ولا رسولا من أهل البادية؛ وذلك لأن أهل الأمصار يكونون أثبت عقولا من أهل البادية، وأشد أحلاما منهم).
قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض }؛ يعني أفلم يسير أهل مكة في الأرض، { فينظروا كيف كان عاقبة }؛ فيروا آثار ديار، { الذين من قبلهم }؛ من الكفار فيخافون ما ينزل بهم من عذاب الله وما نزل بأولئك.
قوله تعالى: { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون }؛ يعني قوله (دار الآخرة) الجنة (خير للذين اتقوا) الكفر والفواحش (أفلا يعقلون) معناه: أفليس لهم ذهن الإنسانية أن الآخرة الباقية خير من الدنيا الفانية، وأضاف الدار الآخرة على سبيل إضافة الشيء إلى نفسه كما يقال يوم الجمعة.
[12.110]
قوله تعالى: { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا }؛ أي حتى إذا يئس الرسل عن إجابة الأمم وأيقنوا أن القوم، { قد كذبوا }؛ تكذيبا لا يرجعون عنه، { جآءهم نصرنا فنجي من نشآء }؛ بإهلاك قومهم، ومن قرأ (كذبوا) بالتخفيف فمعناه: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم في ما أوعدوهم من العذاب. قوله تعالى: { ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين }؛ أي لا يرد عذابنا عن الكافرين.
[12.111]
قوله تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب }؛ أي لقد كان في قصص من تقدم من الأنبياء عبرة لذوي العقول من الناس. وقيل: إن قصة يوسف وإخوته عبرة لمن أراد أن يعتبر فيصبر على البلاء والمحن، كما صبر يعقوب ويوسف حتى ختم الله لهما بالملك والعلو، والفرج من الأحزان، ولا يحسد أحدا كما حسد إخوة يوسف، فلم يغن عنهم كيدهم شيئا.
قوله تعالى: { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه }؛ أي ما كان القرآن حديثا يختلق ولكن كان تصديقا للكتب التي بين يديه من التوارة والإنجيل وغيرهما، ومن قرأ (تصديق) بالرفع فعلى إضمار هو.
قوله تعالى: { وتفصيل كل شيء }؛ أي وبيان كل شيء يحتاج الناس إليه في دينهم، { وهدى ورحمة لقوم يؤمنون }؛ ودلالة ونجاة من العذاب الأليم لقوم يصدقون بمحمد والقرآن.
[13 - سورة الرعد]
[13.1]
{ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق }؛ قال ابن عباس: (معنى المر: أنا الله أعلم وأرى). وقوله تعالى: { تلك آيات الكتاب } أي هذه آيات القرآن، وقوله تعالى: { والذي أنزل إليك من ربك الحق } هو القرآن أيضا، وقال قتادة: (المراد بقوله { تلك آيات الكتاب } الآيات التي أنزلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وسائر الكتب، والمراد ب { والذي أنزل إليك } القرآن)، { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }.
[13.2]
قوله تعالى: { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها }؛ أي هو الذي رفع السماوات، وأقامها واقفة على غير عمد ترونها أنتم كذلك بلا عمد، هكذا قال أكثر المفسرين، وعن ابن عباس في رواية (بعمد لا ترونها، كأنه قال: بغير عمد مرئية). والأول أقرب إلى الصحة؛ لأنه لو كان للسماء عماد لكنا نرى ذلك العماد، لأن مثل السماوات في ثقلها وارتفاعها وعظمها لا يقلها عماد إلا وقد يكون ذلك العماد جسيما عظيما. قوله تعالى: { ثم استوى على العرش }؛ قد تقدم تفسيره.
وقوله تعالى: { وسخر الشمس والقمر }؛ تقديره: الله الذي رفع السماوات بغير عمد، ثم سخر الشمس والقمر وهو مستو على العرش، لأن استيلاء الله على الأشياء قدرته عليها، وقدرة الله لا تكون محدثة. وتسخير الشمس والقمر إجراؤهما لمنافع بني آدم، ومعنى السخر أن يكون الشيء مقهورا لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر. قوله تعالى: { كل يجري لأجل مسمى }؛ إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا، فإذا انفنت الدنيا كورت الشمس وانكدرت النجوم.
قوله تعالى: { يدبر الأمر يفصل الآيات }؛ أي يقضي القضاء، ويبعث الملائكة بالوحي، وينزل الرزق والأقضية، قوله تعالى: { يفصل الآيات } أي يأتي بآية في إثر آية ليكون أمكن للاعتبار والفكر. وقوله تعالى: { لعلكم بلقآء ربكم توقنون }؛ أي لتستيقنوا بالبعث وبما وعدكم الله به من الثواب والعقاب.
[13.3]
قوله تعالى: { وهو الذي مد الأرض }؛ بسطها طولا وعرضا، { وجعل فيها رواسى }؛ أي خلق فيها جبالا ثوابت أوتادا لها، ولو أراد أن يمسكها من غير رواسي لفعل. قوله تعالى: { وأنهارا }؛ أي وأجرى فيها أنهارا. قوله تعالى: { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين }؛ أي وخلق من جميع الثمرات من كل شيء لونين اثنين، وجعل فيها الحلو والحامض، والأسود والأبيض.
وقوله تعالى: { يغشى اليل النهار }؛ أي يأتي بالليل ليذهب بضياء النهار، فتسكن الناس بالليل، ويأتي بضياء النهار ليمحو ظلام الليل فتصرف الناس فيه معايشهم، { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }؛ في صنع الله، فيستدلون بذلك على توحيده.
[13.4]
قوله تعالى: { وفي الأرض قطع متجاورات }؛ منها الجبل الصلب، ومنها الأرض الجرز التي لا يمكن النبات عليها إلا بالمشقة ، ومنها الأرض النحسة، ومنها الأرض الطيبة، وهذه الأراضي في ذلك متجاورات ملتزقة، { وجنات من أعناب }؛ أي وبساتين من كروم، { وزرع }؛ ويجوز في القراءة (وجنات) على معنى: وجعل فيها جنات، ومن قرأ (وزرع) بالضم فهو عطف على القطع لأن الزرع لا يكون في الجنات، وقرأ العامة (وزرع ونخيل) بالكسر على المجاورة.
قوله تعالى: { ونخيل صنوان وغير صنوان }؛ أي مجتمع أصولها في أصل واحد، ونخيل متفرق أصولها، والصنوان جمع الصنو، ويعني الصنوان أن يكون أصل واحد تخرج منه النخلتان والثلاث والأربع كما ورد في الحديث:
" عم الرجل صنو أبيه ".
قوله تعالى: { يسقى بمآء واحد }؛ إما المطر وإما النهر، { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ، بعض أكلها أفضل من بعض في الطعم حتى يكون بعضها حلوا، وبعضها حامضا، وبعضها مرا، والتراب واحد، وألوان الثمر وطعمها مختلفة، وذلك من الدليل على وحدانية الله عز وجل؛ لأنه المحدث لها، والله تعالى قدير حكيم قد أحدثها على علم منه بها.
وقال مجاهد: (هذا مثل بني آدم، أصلهم تراب واحد، ثم منهم صالح وخبيث، وكامل الخلقة وناقص الخلقة، وسيء الخلق)، { إن في ذلك لآيات }؛ أي لعلامات دالات على وحدانية الله؛ { لقوم يعقلون }؛ إن في ذلك من الله.
[13.5]
قوله تعالى: { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد }؛ معناه وإن تعجب يا محمد من تكذيب أهل مكة وإشراكهم بالله مع ما تقدم من الدلائل على توحيد الله قولهم عجب عند العقلاء العارفين حيث قالوا: إذا كنا ترابا أنبعث وترد فينا الروح بعد الموت والبلاء؟! وإنما سمي قولهم { أإذا كنا ترابا } أعجب؛ لأن البعث أسهل في القدرة مما بين الله لهم؛ إذ البعث إعادة إلى ما كان، والإعادة أسهل في طباع الآدميين من الإنشاء.
قوله تعالى: { أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم }؛ أي تغل أيمانهم إلى أعناقهم السلاسل في النار، ويكون يسارهم وراء ظهورهم وهم مصفدون من قرونهم الى أقدامهم. قوله تعالى: { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
[13.6]
قوله تعالى: { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة }؛ أي يستعجلونك بالعذاب الذي توعدهم به على وجه التكذيب والاستهزاء قبل الثواب الذي تعدهم على الإيمان، يعني مشركي مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم العذاب استهزاء منهم بذلك، فقالوا:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء
[الأنفال: 32].
قوله تعالى: { وقد خلت من قبلهم المثلات }؛ العقوبات من الله في الأمم الماضية، والمثلة العقوبة في اللغة. قوله تعالى: { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم }؛ أي لذو تجاوز على الناس على ظلمهم لأنفسهم، قوله تعالى: { وإن ربك لشديد العقاب }؛ لمن استحقه.
[13.7]
قوله تعالى: { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه }؛ أي ويقول الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن: هلا نزل عليه آية من ربه لنبوته، يعنون الآيات التي كانوا يقترحونها عليه نحو ما ذكر الله تعالى من قولهم:
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
[الإسراء: 90]. الى آخر الآيات.
يقول الله تعالى: { إنمآ أنت منذر }؛ أي أنت يا محمد معلم بموضع المخافة، وليس إنزال الآيات إليك، وإنما هو إلى الله. قوله تعالى: { ولكل قوم هاد }؛ من جعل هذه الواو للجمع فوصلها بما قبلها كان تقدير الكلام: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم. ومن قطع هذه الواو كان المعنى: لكل قوم هاد؛ أي نبي مثلك يهديهم. وقال سعيد بن جبير والضحاك: (الهادي هو الله)، والمعنى: أنت منذر تنذر، والله هادي كل قوم، يهدي من يشاء.
[13.8]
قوله تعالى: { الله يعلم ما تحمل كل أنثى }؛ يعني من علقة أو مضغة أو ذكر أو أنثى أو كامل الخلق أو ناقص الخلق أو واحد أو اثنين أو أكثر. قوله تعالى: { وما تغيض الأرحام وما تزداد }؛ أي وما تنقص من الأشهر التسعة في الحمل وما تزداد عليهما، فإن الولد قد يولد في ستة أشهر فيعيش، ويولد لسنتين فيعيش، وقال الحسن: (وما تنقص بالسقط، وما تزداد بالتمام). والغيض هو النقصان.
قوله تعالى: { وكل شيء عنده بمقدار }؛ أي بحد لا يجاوزه ولا ينقص منه ، ويدخل الولد فيه لأنه قد قدر أجل حياته وموته، وصحته ومرضه، ونقصان عقله وكماله، وقدر له ما جرى من رزق وما سيكون منه من طاعة ومعصية وولد وغير ذلك.
[13.9]
قوله تعالى: { عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال }؛ أي عالم ما غاب عن العباد، وما علمه العباد. وقيل: الغيب ما يكون، والشهادة ما كان. الكبير: السيد الكامل المالك المقتدر على كل شيء، المتعال عما يقول المشركون.
[13.10]
قوله تعالى: { سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به }؛ أي سواء من أخفى القول وكتمه، ومن جهر به وأظهره، فالسر والجهر عند الله سواء. قوله تعالى: { ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار }؛ أي ومن هو مستتر متوار بالليل، { وسارب بالنهار } أي ظاهر في الطرقات، علم الله فيهم سواء.
قال الزجاج: (معنى الآية: الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات، علم الله فيهم جميعا سواء). ومعنى السارب: الظاهر بالنهار في سربه؛ أي في طريقه وتصرفه في حوائجه، وعن قطرب في: (مستخف بالليل: أي ظاهر، وسارب بالنهار: أي مستتر) يقال: سرب الوحش إذا دخل في كناسه، والأول أبين وأبلغ في وصف عالم الغيب.
[13.11]
قوله تعالى: { له معقبات من بين يديه ومن خلفه }؛ أي للإنسان مساويات، والكناية في قوله تعالى (له) رد على من أسر القول ومن جهر به وهم الآدميون. وقال بعضهم: (له معقبات) أي لله تعالى ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل.
وقوله تعالى: { من بين يديه ومن خلفه } يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار، ومن خلفه؛ أي وراء ظهره ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
واختلفوا في المعقبات، قال بعضهم: الكرام الكاتبون؛ وهم أربعة: ملكان بالليل وملكان بالنهار.
قوله تعالى: { يحفظونه من أمر الله }؛ أي بأمر الله حتى ينهوا به إلى المقادير، فيخلوا بينه وبين المقادير، قال كعب الأحبار: (لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لخطفتكم الجن).
قوله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }؛ أي لا يسلب قوما نعمة حتى يعملوا المعاصي، يعني بهذا أهل مكة، بعث فيهم رسولا منهم، وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فلم يعرفوا هذه النعمة وغيروها وجعلوها لأهل المدينة.
قوله تعالى: { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له }؛ أي إذا أراد الله إنزال عذاب على قوم فلا دافع له، { وما لهم من دونه من وال }؛ يتولاهم وينصرهم، ويقال: من ملجأ يلجؤون إليه، والموئل هو الملجأ.
[13.12]
قوله تعالى: { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا }؛ أي خوفا للمسافر أن يؤذيه ويبل ثيابه وطريقه فلا يمكنه السير، وطمعا للمقيم أن يسقي حرثه. قوله تعالى: { وينشىء السحاب الثقال }؛ أي يخلق السحاب الثقال بالمطر فيجريه في الجو.
[13.13]
قوله تعالى: { ويسبح الرعد بحمده }؛ روي أن الرعد اسم ملك يزجر السحاب يؤلف بعضه إلى بعض، وتسبيحه زجره للسحاب، قال عكرمة: (هو كالحادي للإبل).
وعن ابن عباس قال:
" أقبلت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء، فإن أصبت فيها اتبعناك وآمنا بك، قال: " اسألوا " قالوا: أخبرنا عن الرعد، قال: " ملك من الملائكة موكل بالسحاب، معه مخاريق يسوق بها السحاب حيث يشاء الله " قالوا: صدقت، فما الذي يسمع؟ قال: " زجر السحاب إذا زجره الملك " قالوا: صدقت ".
وقال عطية: (الرعد ملك وهذا تسبيحه، والبرق سوطه الذي يزجر به السحاب، يقال لذلك الملك: رعد، ولصوته: رعد). وقال أبو هريرة:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد قال: " سبحان من يسبح الرعد بحمده " "
، وكان ابن عباس إذا سمع الرعد قال: (سبحان الذي سبحت له).
قال ابن عباس: (من سمع صوت الرعد فقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير. فإن أصابته صاعقة فعلي ديته).
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع الرعد والصواعق قال: " اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك " ".
قوله تعالى: { والملائكة من خيفته }؛ يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته. قوله تعالى: { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء }؛ أي يرسل النيران التي تسقط من الغيوم فيحرق ما تقع عليه نيران البرق، فيهلك بها من يشاء من خلقه. قوله تعالى: { وهم يجادلون في الله }؛ أي الكفار يخاصمون في الله وفي إثبات شريك معه، { وهو شديد المحال } أي شديد القوة والعقوبة.
[13.14]
قوله تعالى: { له دعوة الحق }؛ أي له كلمة الإخلاص، شهادة أن لا إله إلا الله. قوله تعالى: { والذين يدعون من دونه } أي آلهتهم، { لا يستجيبون لهم بشيء } ما يستجيب { إلا كباسط كفيه إلى المآء } يدعوه لعطشه مشيرا مريدا بإشارته أن، { ليبلغ } الماء، { فاه وما هو } أي وليس الماء، { ببالغه } ومن المحال أن يجيبه بإشارته، وإن كان الماء في بئر، أو ماء على بعد نهر أبعد في الإحالة، وكما لا يبلغ الماء فم هذا الرجل ولا يجيبه وإن مات من العطش، كذلك لا ينفع الصنم لمن عبده بوجه من الوجوه، قال عطاء: (معناه كالرجل العطشان الجالس على شفير البئر، يمد يده في البئر فلا يبلغ الماء ولا الماء يرتفع إلى يده)، { وما دعآء الكافرين إلا في ضلال }؛ عن الصواب وذهاب عن الحق؛ لأن الأصنام لا تسمع ولا تقدر على الإجابة.
[13.15]
قوله تعالى: { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال }؛ أي ولله يسجد ويصلي ويعبد من في السماوات والأرض والملائكة، ومن دخل الإسلام طوعا يسجد له طائعا، والمكره هو الذي قوتل وسبي وأجبر على الإسلام، ويقال: أراد بقوله (طوعا) أهل الإخلاص، و(كرها) أهل النفاق، قوله { وظلالهم بالغدو } يعني إذا سجد الإنسان سجد معه ظله، قال الحسن: (أما ظل الكافر فيسجد لله، وأما هو فلا يسجد، فبئس والله ما يصنع).
[13.16-17]
قوله تعالى: { قل من رب السموت والأرض قل الله }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: من رب السماوات والأرض؟ فإن أجابوك وقالوا: هو الله، وإلا فقل: الله ربهما، و { قل }؛ لهم: { أفاتخذتم من دونه أوليآء }؛ أي أربابا، { لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا }؛ فكيف يملكون لكم النفع والضر.
قوله تعالى: { قل هل يستوي الأعمى والبصير }؛ أي قل لهم: هل يستوي أعمى القلب الذي يعدل عن عبادة الخالق؟ هل يستوي مع البصير بقلبه، العالم بأنه تعالى إلهه ووليه والقادر على نفعه ودفع الضر عنه، { أم هل تستوي الظلمات والنور }؛ فيه تشبيه الكفر بالظلمات، وتشبيه الإيمان بالنور.
قوله تعالى: { أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه }؛ معناه: أجعل الكفار لله شركاء، خلقت شركاؤهم شيئا كما خلق الله، { فتشابه الخلق عليهم }؛ فلم يعرفوا خلق الشركاء من خلق الله فأشركوها معه في العبادة؛ { قل الله خالق كل شيء }؛ بلا شريك، فإذا لم يكن الخلق إلا من واحد لم يكن الخالق إلا واحدا، فهو الذي يستحق العبادة بلا شريك، { وهو الواحد القهار }؛ الغالب لكل شيء، لا يقهره أحد.
ثم ضرب الله مثلا للحق والباطل، وقال تعالى: { أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها }؛ أنزل مطرا فسالت أودية من ذلك المطر بقدر الأودية، فما كان منها كبيرا سال بقدره، وما كان صغيرا سال بقدره. قوله تعالى: { فاحتمل السيل زبدا رابيا } أي عاليا مرتفعا على الماء، والسيل ما يسيل من الموضع المرتفع.
قوله تعالى: { ومما يوقدون عليه في النار ابتغآء حلية }؛ أي ومما تطرحون في النار من الذهب والفضة لطلب حلية تلبسونها زبد؛ أي خبث مثل زبد الماء. قوله تعالى: { أو متاع زبد مثله }؛ أراد به الحديد والرصاص وما يشاكله مما يوقد عليه في النار؛ لاتخاذ المتاع له زبد؛ أي خبث مثل ذلك الماء.
قوله تعالى: { كذلك يضرب الله الحق والباطل }؛ أي هكذا يضرب الله مثل الحق والباطل، { فأما الزبد فيذهب جفآء }؛ أما زبد هذه الأشياء، فيذهب ناحية لا ينتفع به، فإن زبد الماء يتعلق بأصول الأشجار وجنبات الوادي. والجفاء: ما رمى به الوادي، وجفاه في جنباته، يقال: أجفأت القدر زبدها إذا قذفت به، وكما أن زبد الماء يذهب بحيث لا ينتفع به، كذلك خبث الذهب والفضة والحديد، { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }.
قوله تعالى: { كذلك يضرب الله الأمثال }؛ للناس في أمر دينهم، كما ضرب لكم المثل، قال قتادة: (هن ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد، يقول: كما أنزل الله من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها، الصغير على الصغير على مقداره، والكبير على مقداره، كذلك أنزل الله القرآن، فاحتمل القلوب على قدرها، ذا اليقين على قدر يقينه، وذا الشك على قدر شكه).
قال: (ثم شبه خطرات ووساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء، وذلك من خبث البرية لا عين الماء، كذلك ما يقع في النفس من وهم وشك فهو ذات النفس لا من الحق).
قال: (ثم بين أن الزبد يذهب جفاء؛ أي هباء باطلا ويبقى صفو الماء، كذلك يبطل الشك وسوء الخطرات ويبقى الجوف كما هو، وكذلك ما يوقد عليه في النار لمنافع الناس يبطل زبده وخبثه ويبقى خالصه وصفوه، كذلك الباطل يذهب ويبقى الحق).
[13.18]
قوله تعالى: { للذين استجابوا لربهم الحسنى }؛ فيه بيان الذي يبقى مما تقدم ذكره فهو مثل لمن يستجيب لربه، والذي يذهب جفاء هو مثل لمن لا يستجيب. والمراد ب (الحسنى) في الآية الجنة ونعيمها.
وقوله تعالى: { والذين لم يستجيبوا له }؛ أي الذين لم يستجيبوا لربهم إلى الإيمان، { لو أن لهم ما في الأرض جميعا }؛ من الذهب وسائر الأموال، { ومثله معه }؛ وضعفه معه، { لافتدوا به }؛ لفادوا به أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة لو قبل منهم ذلك ولكن لا يقبل.
قوله تعالى: { أولئك لهم سوء الحساب }؛ أي شدته، والمناقشة فيه، قال إبراهيم النخعي: (هو أن يؤخذوا بذنوبهم كلها من دون أن يغفر لهم شيء منها). قوله تعالى: { ومأواهم جهنم }؛ أي مصيرهم في الآخرة جهنم، { وبئس المهاد }؛ أي المأوى، يتقلبون في النار ويقعدون ويضطجعون عليها.
[13.19]
قوله تعالى: { أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى }؛ معناه: أفمن يعلم إنما أنزل إليك من القرآن أنه الحق فآمن به، كمن هو كافر يعلم. قوله تعالى: { إنما يتذكر أولوا الألباب }؛ أي ذوو العقول.
[13.20-21]
ثم وصفهم فقال: { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق } يريد بالعهد الذين عاهدتم عليه في صلب آدم. قوله تعالى: { والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل }؛ قيل: المراد به مواصلة المؤمنين فيما بينهم بالموالاة وصلة الرحم بالبر والشفقة، وقيل: أراد بذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل، { ويخشون ربهم }؛ أي عقاب ربهم، { ويخافون سوء الحساب }؛ أي يخافون أن يؤاخذوا بالعقاب.
[13.22-24]
قوله تعالى: { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم }؛ معطوف على قوله
الذين يوفون بعهد الله
[الرعد: 20] ومعناه: الذين صبروا على أداء الفرائض واجتناب المحارم ومقاساة شدائد الدنيا لطلب ثواب الله ورضاه، { وأقاموا الصلاة }؛ المفروضة، { وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية }؛ أي أخرجوا من أموالهم جميعا الصدقات المفروضات خفية وجهرا.
قوله تعالى: { ويدرءون بالحسنة السيئة } ، وإنما يكون درؤهم بالحسنة السيئة على وجهين، أحدهما: العلم والوعظ بالكلام الحسن، والثاني: أن يقاتلوهم ويقبضوا على أيديهم.
قوله تعالى: { أولئك لهم عقبى الدار }؛ أي أهل هذه الصفة لهم الدار التي أعقبتها لهم أعمالهم وهي الجنة. ثم بين الله صفة الجنة فقال: { جنات عدن يدخلونها }؛ قال ابن عباس: (وهي وسط الجنة، وهي معدن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين).
قوله تعالى: { ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم }؛ أي ويدخلها من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } يعني من أبواب البساتين يقولون لهم: { سلام عليكم بما صبرتم } على شدائد الدنيا، وعلى المشقة في طاعة الله، فنعم الدار التي أعقبتها لهم أعمالهم، قال ابن عباس: (لكل واحد من أهل جنات عدن جنة من درة مجوفة لها ألف باب مصراعه من الذهب، يدخل عليه من كل باب ملك يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، { فنعم عقبى الدار }.
[13.25]
قوله تعالى: { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه }؛ أي الذين يتركون فرائض الله من بعد تأكيد العهد عليهم، { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض }؛ بالظلم والدعاء إلى غير عبادة الله، { أولئك لهم اللعنة }؛ أي ما يبعدهم من رحمة الله، { ولهم سوء الدار }؛ وهو النار في الآخرة، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أعجل الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الغموس تدع الديار بلاقع ".
[13.26]
قوله تعالى: { الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر }؛ أي يوسع الرزق في الدنيا على من يشاء، ويضيق على من يشاء، { وفرحوا بالحياة الدنيا } يعني مشركي مكة أشروا وبطروا، { وما الحياة الدنيا في }؛ جنب نعيم، { الآخرة إلا }؛ شيء قليل، { متاع }؛ كمتاع يتمتع به ثم يفنى ويذهب، قال صلى الله عليه وسلم:
" وما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما جعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ".
[13.27]
قوله تعالى: { ويقول الذين كفروا }؛ أي يقولون على جهة التعنت: { لولا }؛ هلا، { أنزل عليه }؛ على محمد، { آية من ربه }؛ يعني الآيات التي يقترحونها عليه، { قل } يا محمد: { إن الله يضل من يشآء } عن ثوابه وكرامته، { ويهدي } ، لدينه من أقبل، { إليه }؛ إلى الله و، { من أناب }؛ رجع عن الكفر.
[13.28]
قوله تعالى: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله }؛ معناه: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، تسكن قلوبهم إلى ما وعدهم الله به من ثواب، { ألا بذكر }؛ بوعد الله، { الله تطمئن القلوب }.
[13.29]
قوله تعالى: { الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم }؛ أي لهم العيش الطيب والكرامة والغبطة، { وحسن مآب }؛ حسن المرجع، وقال مجاهد: (طوبى اسم الجنة بلغة الحبشة)، وعن أبي هريرة: (اسم شجرة في الجنة ساقها من ذهب، وورقها الحلل، وثمرها من كل لون وأغصانها متدلية في الجنة، ليس منزل إلا وفيه غصن من أغصانها، وتحته كثبان المسك والعنبر والزعفران، لو ركب رجل قلوصا، ثم دار بالشجرة لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت القلوص هرما).
[13.30]
قوله تعالى: { كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلهآ أمم }؛ أي هكذا أرسلناك إلى أمة قد مضت من قبلها أمم أرسلنا فيهم الرسل، { لتتلوا عليهم الذي أوحينآ إليك }؛ يعني القرآن، { وهم يكفرون بالرحمن }؛ يعني أهل مكة فإنهم كانوا يقولون ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وكانوا يسمونه رحمان اليمامة.
قوله تعالى: { قل هو ربي لا إله إلا هو }؛ قل لهم: الرحمن ربي لا إله إلا هو، { عليه توكلت وإليه متاب }؛ أي وإليه أتوب من ذنوبي.
[13.31]
قوله تعالى: { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى }؛ وذلك أن عبدالله بن أمية المخزومي، وجماعة من كفار مكة قالوا: يا محمد سير لنا جبال مكة، فأذهبها حتى تنفسح فيها فإن أرضنا ضيقة، ثم اجعل لنا فيها عيونا وأنهارا، وقرب أسفارنا فيما بيننا وبين الشام فإن السفر بعيد، وافعل كما فعل سليمان بالرياح بزعمك، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: { ولو أن قرآنا سيرت به } أذهبت به الجبال عن وجه الأرض قطعت به الأرض مسيرة شهر في يوم أو أحيي به الموتى فتكلموا، لكان هذا القرآن لما فيه من الدلالات الكثيرة على صحة هذا الدين، ولو أمكن أن نجعل هذه الأمور لشيء من كتب الله لأمكن بهذا القرآن.
وأما حذف جواب (لو) في هذه الآية فهي على وجه الاختصار؛ لأن في الكلام دليلا عليه. قوله تعالى: { بل لله الأمر جميعا }؛ أي بل الله هو المالك لهذه الأشياء، القادر عليها، ولكن لا يختار إلا ما فيه مصلحة العباد.
قوله تعالى: { أفلم ييأس الذين آمنوا }؛ معناه: أفلم يعلم الذين آمنوا، { أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا }؛ إلى الإيمان بالإلجاء إليه أن الله تعالى قادر على ذلك، ولكن لو فعل لبطل الامتحان والتكليف، والإياس بمعنى العلم في لغة النخع.
قوله تعالى: { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة }؛ أي ولا يزال الذين كفروا في عقوبات من قبل الله يزجرهم عن الكفر، ويحثهم على التمسك بدين الله، كما نزل بقريش من القحط، وبقوم فرعون من الشدائد.
قوله تعالى: { أو تحل قريبا من دارهم }؛ راجع إلى القارعة، والقارعة: هي النازلة والشدائد التي تنزل بأمر عظيم، ويقال: أراد بالقارعة سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، وبقوله { أو تحل قريبا } معناه: أو تنزل أنت يا محمد مع أصحابك قريبا من مكة تقاتلهم على الدين، { حتى يأتي وعد الله }؛ أي وقت إهلاك الكفار، وقيل: فتح مكة، وقيل: ما وعد الله من عذابهم في الآخرة، { إن الله لا يخلف الميعاد }؛ ما وعد من عقاب الكفار.
[13.32]
قوله تعالى: { ولقد استهزئ برسل من قبلك }؛ أي ولقد استهزئ بالأنبياء من قبلك كما استهزأ بك قومك، { فأمليت } فأمهلت، { للذين كفروا } بعد استهزائهم بالرسل، { ثم أخذتهم } بذنوبهم، { فكيف كان عقاب } فانظر كيف كان عاقبة ما حل من عقاب الله بهم، فلا يكن في صدرك حرج من استهزائهم.
[13.33]
قوله تعالى: { أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت }؛ بالتدبير ويعلم ما كسبت ويجازيها عليه، كمن لا يعلم ذلك ولا يقدر على المجازاة.
قوله تعالى: { وجعلوا لله شركآء }؛ في العبادة بين الأصنام، { قل سموهم }؛ هؤلاء الشركاء بأسمائهم التي تستحقها، وسموا منفعتها وتدبيرها؛ لأن لها شركة مع الله، كما يوصف الله بالخالق والرازق والمحيي والمميت.
قوله تعالى: { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض }؛ أي أتخبرون الله بما لا يصح أن يكون معلوما وهو كون الأصنام مستحقة للعبادة، وهذا على وجه الإنكار، وقوله تعالى: { أم بظاهر من القول }؛ إنكار أيضا معناه: أسميتم الأصنام آلهة بظاهر كتاب من كتب الله، وقيل: أسميتموهم آلهة بحجة ظاهرة، بل سميتموهم بقول باطل ليس لكم دليل عليه.
قوله تعالى: { بل زين للذين كفروا مكرهم }؛ أي زين لهم قولهم وفعلهم في عبادة غير الله، وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. قوله تعالى: { وصدوا عن السبيل }؛ من قرأ بفتح الصاد فالمعنى صرفوا الناس عن دين الله، ومن قرأ برفعها فالمعنى صدهم رؤساؤهم عن دين الله. قوله تعالى: { ومن يضلل الله فما له من هاد }؛ ظاهر المعنى.
[13.34]
قوله تعالى: { لهم عذاب في الحياة الدنيا }؛ الأسقام والقتل والأسر، { ولعذاب الآخرة أشق }؛ أي أغلظ من عذاب الدنيا، { وما لهم من الله من واق }؛ يقيهم من عذاب الله.
[13.35]
قوله تعالى: { مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دآئم وظلها }؛ أي صفة الجنة التي وعد المتقون الكفر والمعاصي: أنها تجري من تحتها الأنهار، ثمرها دائم، لا كجنان الدنيا تظهر بظهور ورقها في حال دون حال ، وظلها أيضا دائم ليس فيه شمس ولا أذى.
قوله تعالى: { تلك عقبى الذين اتقوا }؛ أي دار المتقين الجنة في العاقبة، { وعقبى الكافرين النار } ، ودار الكافرين في العاقبة النار، وفي الحديث:
" أن الرجل من أهل الجنة تقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا، فإذا أكل سقي شرابا طهورا، فتصير رشحا تخرج من جسده أطيب من ريح المسك، ثم تعود شهوته إلى ما كانت ".
[13.36]
قوله تعالى: { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك }؛ وذلك أن عبدالله بن سلام، ومن أسلم معه من أهل الكتاب، قالوا: يا رسول الله؛ ما شأن ذكر الرحمن في القرآن قليل وهو في التوراة كثير؟ فنزل
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
[الاسراء: 110] ونزل { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك } من ذكر الرحمن وغير ذلك.
قوله تعالى: { ومن الأحزاب من ينكر بعضه }؛ أي ومن اليهود والنصارى من ينكر بعض " ما في " القرآن، وإنهم كانوا يقرون بصحة " قصة " يوسف وغيرها مما لا يكون فيه نسخ شريعتهم، وكانوا ينكرون من القرآن ما لا يوافق مذهبهم ودينهم.
قوله تعالى: { قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو }؛ الخلائق { وإليه مآب }؛ رجوعي في الآخرة.
[13.37]
قوله تعالى: { وكذلك أنزلناه حكما عربيا }؛ أي كما أنزلنا على الأنبياء المتقدمين بلسانهم كذلك أنزلنا اليك القرآن حكما عربيا، والحكم: هو الفصل بين الشيئين على ما توجبه الحكمة، وقد يكون الحكم بمعنى الحكمة، كما في قوله تعالى
وآتيناه الحكم صبيا
[مريم: 12] أي الحكم والنبوة.
قوله تعالى: { ولئن اتبعت أهواءهم }؛ أي دين اليهود وقبلتهم { بعد ما جآءك من العلم }؛ أي دين الله دين ابراهيم وقبلته الكعبة { ما لك من الله من ولي }؛ أي من ناصر ينصرك، { ولا واق }؛ أي لا دافع يدفع العقاب عنك.
[13.38-39]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن اليهود كانوا يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم بتزوج النساء حتى قالوا: لو كان محمد نبينا لشغلته النبوة عن تزويج النساء، فأنزل الله هذه الآية). والمعنى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، وجعلنا لهم نساء أكثر من نسائك، وأولادا أكثر من أولادك، كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولسليمان ثلاثمائة امرأة مهرية وستمائة سرية.
قوله تعالى: { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله }؛ أي هل يملك أحد من الرسل أن يأتي بآية إلا بإذن الله، فإنه سبحانه هو المالك للآيات لا يقدر أن يأتي أحد شيئا منها إلا بإذنه.
قوله تعالى: { لكل أجل كتاب }؛ أي لكل مدة من آجال العباد في الحياة والفناء كتاب قد كتب الله ذلك للملائكة؛ ليدلهم به على علمه بالأشياء. قوله تعالى: { يمحوا الله ما يشآء ويثبت }؛ قال ابن عباس: (يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما كتبوه من أعمال العباد ما لا جزاء له، ويترك ما له الثواب والعقاب). وقال الضحاك: (يمحو الله ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه)، وعن الحسن: (يمحو أجل من حان أجله، ويدع أجل من لم يحن أجله ميتا). وقيل: يمحو الله ما يشاء من الطاعات بإحباطها بالمعاصي، ومن المعاصي بتكفيرها بالطاعات.
وقد اختلفوا: هل يدخل في المحو والإثبات السعادة والشقاوة، والموت الحياة أم لا؟ قال ابن عباس: (لا يدخل)، وقال عمرو بن مسعود: (تدخل فيه السعادة والشقاوة)، وكان من دعاء عمر: (اللهم إن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، وإن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء، فإنك تمحو وتثبت ما تشاء وعندك أم الكتاب)
قوله تعالى: { وعنده أم الكتاب }؛ أي أصل الكتاب، قيل: إنه اللوح المحفوظ كتب الله فيه كل شيء قبل أن يخلق العباد، ولا يزاد فيه شيء ولا ينقص منه شيء.
[13.40]
قوله تعالى: { وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك }؛ أي فإما نرينك يا محمد بعض الذي نعدهم من نصر المؤمنين على الكفار، أو نقبضك إلينا قبل أن يكون ما نعدهم من العذاب في حياتك، { فإنما عليك البلاغ }؛ أي بلاغ ما أنزل إليك، { وعلينا الحساب }؛ وعلينا حساب ما يعملون، والجزاء عليه.
[13.41]
قوله تعالى: { أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها }؛ قال ابن عباس: (معناه أولم ير أهل مكة أنا ننقص الأرض من أطرافها بفتح ديارهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين)، وقال الحسن: (أراد بنقص أطراف الأرض ذهاب فقهائها وخيار أهلها). قال: (ومثل العلماء مثل النجوم إذا بدت اقتدوا بها، وإذا أظلمت سكنوا، وموت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار).
قوله تعالى: { والله يحكم لا معقب لحكمه }؛ أي والله يحكم بفتح البلدان لا يتعقب أحد حكمه بالرد، { وهو سريع الحساب)؛ إذا حاسب محاسبة سريع الحساب.
[13.42]
قوله تعالى: { وقد مكر الذين من قبلهم }؛ أي قد مكر الذين من قبل هؤلاء الكفار بأنبيائهم صلوات الله عليهم، وبمن آمن به، { فلله المكر جميعا }؛ وعند الله جزاء مكرهم جميعا، فإن ما يفعله الله من إيصال المكروه يثبت، ومكرهم يضمحل.
قوله تعالى: { يعلم ما تكسب كل نفس }؛ من خير أو شر فيجازيها عليه. قوله تعالى: { وسيعلم الكفار }؛ تهديد لهم أنهم إذا جهلوا اليوم عاقبة أمرهم فسيعلمون إذا صاروا إلى الآخرة، { لمن عقبى الدار }؛ المحمودة، لهم أم للمؤمنين؟
[13.43]
قوله تعالى: { ويقول الذين كفروا لست مرسلا }؛ أي ويقول الذين كفروا من اليهود وغيرهم: يا محمد لست مرسلا من الله، ومن يشهد لك على رسالتك، { قل }؛ لهم يا محمد: { كفى بالله شهيدا بيني وبينكم }؛ على أني مرسل إليكم، شهادة الله على أنني نبيه من المعجزات لا شاهد أعدل من ذلك.
قوله تعالى: { ومن عنده علم الكتاب }؛ كان ابن عباس يقرأ (ومن عنده علم) بالنصب ويقول: (هو عبدالله بن سلام وأصحابه، كان عندهم في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته) وكان يقول: (هذه الآية نزلت بالمدينة؛ لأن هؤلاء أسلموا بالمدينة).
وكان ابن مسعود يقرأ (ومن عنده) بالخفض على معنى أن القرآن من عند الله، وكان يقول: (هذه السورة مكية، وعبدالله بن سلام أسلم بالمدينة وقرئ (ومن عنده علم الكتاب) بخفض (من) وضم العين وكسر اللام من علم، هكذا روي عن سعيد ابن جبير.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1]
{ الر كتاب أنزلناه إليك }؛ قد تقدم تفسيرها، وقوله تعالى: (كتاب) خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون خبر (ألر) { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور }؛ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، { بإذن ربهم } بأمر ربهم أمرك أن تدعوهم إلى الإيمان، وتزجرهم عن الكفر. قوله تعالى: { إلى صراط العزيز الحميد }؛ أي الى دين العزيز الحميد الذي لا يمكن أن يغلب ويقهر، والحميد المستحق للحمد.
[14.2]
قوله تعالى: { الله الذي له ما في السموت وما في الأرض }؛ من قرأ برفع الهاء فعلى الابتداء، ومن قرأ بالخفض جعله بدلا من الحمد، قوله تعالى: { وويل للكافرين من عذاب شديد }؛ الويل كلمة تستعمل في الشدة، ويقال: هو واد في جهنم.
[14.3]
قوله تعالى: { الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة }؛ أي يختارونها عليها، { ويصدون عن سبيل الله }؛ أي يعرضون عن طاعة الله من الصد وهو الإعراض، ويجوز أن يكون معناه: ويمنعون الناس.
وقوله تعالى: { ويبغونها عوجا }؛ أي ويطلبون بدين الله العوج، والعوج بكسر العين في الدين، وبفتحها في العصا، وقوله تعالى: { أولئك في ضلال بعيد }؛ أي في ذهاب عن الحق بعيد.
[14.4]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم }؛ أي بلغتهم ليبين لهم ما أمروا به ونهوا عنه، فيفهموا ويتعلموا، { فيضل الله من يشآء }؛ من كان أهلا لذلك، { ويهدي }؛ لدينه، { من يشآء وهو العزيز الحكيم }.
[14.5]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنآ }؛ أي بدلائلنا وحججنا التي دلت على صحة نبوته مثل العصا واليد وغيرهما، { أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور }. قوله تعالى: { وذكرهم بأيام الله }؛ أي بنعيم الله، وقيل: بوقائع الله في الأيام السالفة من قوم نوح وعاد وثمود. وقيل: بنعيم الله ونقمه، والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد.
وقوله تعالى: { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور }؛ أي إن في ذلك التذكير لدلالات على قدرة الله لكل صبار شكور على طاعته، وعن معصيته، وشكور لأنعم الله، والشكر هو إظهار النعمة على جهة الاعتراف بها.
[14.6]
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم }؛ هذه الآية قد سبق تفسيرها في سورة البقرة.
[14.7]
قوله تعالى: { وإذ تأذن ربكم }؛ هذه عطف على قوله
إذ أنجاكم
[ابراهيم: 6] كأنه قال: اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم، وإذ تأذن ربكم، وهذا إخبار عن ما قال موسى لقومه؛ أي أعلمكم في الكتاب، { لئن شكرتم } نعمتي { لأزيدنكم } نعمة، { ولئن كفرتم }؛ نعمتي، { إن عذابي لشديد }؛ لمن كفر.
قال ابن عباس: (معنى الآية: لئن وحدتموني وأطعتموني، لأزيدنكم نعمة)، قال قتادة: (حق الله أن يعطي من سأله، ويزيد من شكره)، وقوله تعالى { ولئن كفرتم } أي جحدتم حقي وحق نعمتي إن عذابي لشديد.
[14.8]
قوله تعالى: { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا }؛ بنعمته، { فإن الله لغني }؛ عن طاعتكم، لم يأمركم بطاعته لحاجته إليها وهو ال { حميد }؛ لمن وحده وأطاعه.
[14.9]
قوله تعالى: { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم }؛ قيل: إن الخطاب في هذه الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو خطاب موسى لقومه.
قوله تعالى: { والذين من بعدهم } يعني قوم شعيب وغيرهم، { لا يعلمهم إلا الله } ، لا يعلم عددهم إلا الله، { جآءتهم رسلهم بالبينت }؛ أي بالدلائل الواضحات { فردوا أيديهم في أفوههم }؛ قال ابن عباس: (عضوا أناملهم غيظا على الرسل فيما ادعوا من النبوة)، وقال مجاهد: (هذا كناية عن الجحد والتكذيب). وقيل: معناه: وضع الكفار أيديهم على أفواه أنبيائهم.
قوله تعالى: { وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننآ إليه }؛ بسبب من التوحيد، { مريب }؛ ظاهر الشك، والريب الشك مع التهمة.
[14.10]
قوله تعالى: { قالت رسلهم أفي الله شك }؛ أي في توحيد الله شك، وهذا إنكار من الرسل عليهم؛ أي لا شك في توحيد الله، { فاطر السموت والأرض }؛ أي خالقهما فكيف يشكون فيه ودلائل وحدانيته ظاهرة، { يدعوكم }؛ إلى دينه، { ليغفر لكم من ذنوبكم }؛ في الجاهلية، { ويؤخركم إلى أجل مسمى }؛ منتهى آجالكم، فلا يعذبكم بعذاب الاستئصال.
وأما دخول (من) في قوله { من ذنوبكم } فيجوز أن تكون للجنس، كما في قوله
فاجتنبوا الرجس من الأوثان
[الحج: 30]، ويجوز أن تكون للتبعيض؛ أي ليغفر لكم بعض ذنوبكم، فادعوا الله وارغبوا إليه في مغفرة الذنوب كلها.
قوله: { قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا }؛ أي قالت الأمم لرسلهم: هل أنتم إلا آدميون مثلنا لا فضل لكم علينا، { تريدون أن تصدونا }؛ تمنعونا، { عما كان يعبد آبآؤنا }؛ من الأصنام، { فأتونا بسلطان مبين }؛ فأتوا بحجة واضحة بينة، يعنون الآيات التي كانوا يقترحونها على أنبيائهم.
[14.11-12]
قوله تعالى: { قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم }؛ كما قلتم، { ولكن الله يمن على من يشآء من عباده }؛ كما أنعم علينا بأن أرسلنا، { وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله }؛ ولا نملك الآيات التي تقترحون علينا ونحن بشر مثلكم. قوله تعالى: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ظاهر المعنى.
قالت الكفار لهم: فتوكلوا أنتم على الله حتى ترون ما يفعل بكم، قالت الرسل: { وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا }؛ أي حسبنا، والهداية من الله هي الدلالة على الحق والرشد، { ولنصبرن على مآ آذيتمونا }؛ على أذاكم، { وعلى الله فليتوكل المتوكلون }؛ والتوكل هو التمسك بطاعة الله مع الرضا بقضائه وتدبيره.
[14.13-14]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ }؛ أي قالت الكفار لرسلهم: لا نساكنكم على مخالفتكم ديننا { أو لتعودن في ملتنا } وقد ذكرنا في قصة شعيب، { فأوحى إليهم ربهم } ، فأوحى الله إلى الرسل: { لنهلكن الظالمين } ، أي الكفار، { ولنسكننكم الأرض }؛ أرضهم وديارهم، { من بعدهم }؛ من بعد هلاكهم، وهذا نهاية ما في الإنعام، فإن هذا جزاء من توكل على الله، { ذلك }؛ جزاء، { لمن خاف مقامي }؛ مقام العباد عندي، { وخاف وعيد }؛ وخاف وعيدي بالعقاب ولمن عصاني.
[14.15]
قوله تعالى: { واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد }؛ أي سألت الرسل ربهم أن يحكم بينهم وبين الكفار؛ لأن الفتح ها هنا بمعنى الحكم، يقال للحاكم: الفتاح، فلما فزعت الرسل إلى ربهم بانجاز الوعد، فتح لهم ما طلبوه فخاب كل جبار عنيد.
والجبار: هو الطالب للخير والعلو فوق كل علو ، والعنيد: هو الدافع للحق على جهة الاستنكار، وقال قتادة: (العنيد: المعرض عن طاعة الله)، وقال مجاهد: (هو المجانب للحق).
[14.16-17]
قوله تعالى: { من ورآئه جهنم }؛ معناه أمام هذا الجبار بعد الموت جهنم، والوراء يكون من خلف وقدام. قوله تعالى: { ويسقى من مآء صديد }؛ أي يسقى من ماء يسيل من جلود أهل النار من القيح والدم، قال ابن عباس: (في جهنم أودية، في تلك الأودية صديد أهل النار وقيحهم ودماؤهم، فيسقون من ذلك الصديد قد نتن ريحه) { يتجرعه }؛ شاربه، والملك يضربه بالمقامع ويقول له: اشرب، فيقول: لا أطيقه، فيضربه حتى يشربه جرعة جرعة، ولا يكاد يسيغه من نتنه وحره.
قوله تعالى: { ولا يكاد يسيغه }؛ لا يقدر أن يبتلعه، والإساغة هو دخول المشروب في حلقه مع قبول النفس له، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه فيه، فإذا شربه قطع أمعاءه، فتخرج أمعاؤه من الجانب الآخر "
كما قال تعالى:
وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم
[محمد: 15].
قوله تعالى: { ويأتيه الموت من كل مكان }؛ أي ويأتيه غم الموت من قدامه، ومن كل مكان كان فيه يموت بدون ذلك في الدنيا، قال ابن عباس: (يأتيه الموت من تحت كل شعرة في جسده). قيل: وتأتيه النيران من كل جانب، { وما هو بميت } ، فيستريح من العذاب، { ومن ورآئه عذاب غليظ }؛ أي ومن بعد ذلك عذاب شديد أشد مما تقدم لا ينقطع ولا يفتر.
[14.18]
قوله تعالى: { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف }؛ أي مثل أعمال الذين كفروا بربهم في انتفاعه بها كرماد اشتدت به الريح في يوم ذي عاصف، يقول: كما لا يقدر أحد على الانتفاع على جمع ذلك الرماد إذا ذرته الريح الشديدة، فكذلك هؤلاء الكفار؛ { لا يقدرون مما كسبوا على شيء }؛ أي لا يقدرون على الانتفاع بشيء من الأعمال التي عملوها على جهة البر مثل صلة الرحم ونحوها. وأما الكفر والمعاصي فلا يكون كرماد اشتدت به الريح . قوله تعالى: { ذلك هو الضلال البعيد }؛ أي ذلك الذي ذكر هو الذهاب عن التنفع البعيد عن الحق والهدى.
[14.19-20]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله خلق السموت والأرض بالحق }؛ أي ألم تعلم - يا محمد - أن الله خلق السماوات والأرض على ما توجب الحكمة وتقتضيه المصلحة، والحق هو وضع الشيء موضعه.
قوله تعالى: { إن يشأ يذهبكم }؛ أيها الكفار؛ أي يهلككم، { ويأت بخلق جديد }؛ ويخلق قوما آخرين أطوع لله منكم، { وما ذلك على الله بعزيز } ، أي وليس ذلك على الله بشديد ولا متعذر.
[14.21]
قوله تعالى: { وبرزوا لله جميعا }؛ أي إذا كان يوم القيامة برز الناس من قبورهم للمسائلة والمحاسبة، فيسألون عن أعمالهم ويجازون عليها، { فقال الضعفاء }؛ أتباع الظلمة والعصاة، { للذين استكبروا }؛ وهم الرؤساء والقادة: { إنا كنا لكم تبعا }؛ في المعصية والظلم في الدنيا، { فهل أنتم مغنون }؛ دافعون، { عنا من عذاب الله من شيء }. فيقول لهم رؤساؤهم: { قالوا لو هدانا الله } أي ما نخلص به من هذا العذاب، { لهديناكم }؛ إليه؛ أي لا مطمع لنا في ذلك، فكيف تطمعون في مثله من جهتنا؟ { سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص }؛ أي لا حيلة لنا سواء أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص من هذا العذاب.
[14.22]
قوله تعالى: { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق }؛ هذا إخبار عن خطبة الشيطان، وذلك أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قام إبليس خطيبا على منبر من نار، فقال: يا أهل النار إن الله وعدكم وعدا، وكان حقا وعده، { ووعدتكم } ، أنا، { فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان } الإكراه على المعصية، ولا حجة على ما قلت، { إلا أن دعوتكم }؛ إلى طاعتي بالوسوسة، { فاستجبتم لي }؛ بسوء اختياركم، { فلا تلوموني }؛ على ما حل بكم من العقاب، { ولوموا أنفسكم }؛ فإني لم أجبركم على المعصية، { مآ أنا بمصرخكم }؛ أي بمغيثكم، { ومآ أنتم بمصرخي }؛ ولا أنتم بمغيثي، والإصراخ في اللغة: هو المستغيث إغاثة به. ويحكى أن أعرابيا أتى على رجل يقرأ هذه الآية، فقال: قاتله الله ما أفصحه!
قوله تعالى: { إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل }؛ إخبار عن كلام إبليس، ومعناه: إني كفرت من قبل بالذي أشركتمون به في الطاعة من قبل أن أشركتموني به؛ أي كفرت بربي من قبل ما عدلتموني به. ويقال: معناه: إني كفرت الآن بما كان من إشراككم إياي في الطاعة إذ أطعتموني وجعلتموني كأني رب، فصيرتموني شريكا لربكم، وأنا أكفر اليوم بشرككم.
قوله تعالى: { إن الظالمين لهم عذاب أليم }؛ أي قال الله تعالى: إن الظالمين من إبليس وغيره لهم عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
[14.23]
قوله تعالى: { وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ أي في جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، { خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام }؛ أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، ويرسل الله الملائكة إليهم بالسلام.
[14.24-25]
قوله تعالى: { ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة }؛ أي ألم تعلم يا محمد كيف وصف الله شبها كلمة طيبة وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله والإقرار بالنبوة؛ كشجرة طيبة الثمر، وهي النخلة التي لا شيء أحلى من ثمرها وهو الرطب، كما لا كلام أحسن من كلمة الرب.
قوله تعالى: { أصلها ثابت وفرعها في السمآء }؛ فيه شبه ثبات الإيمان وما فيه من الأدلة، بقرار النخلة التي أصلها ثابت على نهاية الثبات في تمكن فرعها في الأرض، بل المعرفة في قلب المؤمن أثبت من عروق النخلة؛ لأن النخلة تقلع، ومعرفة العارف لا يقدر أحد من الناس أن يخرجها من قلبه.
وقوله تعالى: { وفرعها في السمآء }؛ تؤتي أكلها، فيه تشبيه أعمال المخلصين التي هي فروع الإيمان في أنها ترتفع وتعلو إلى جانب السماء؛ لأن الأعمال لا تصلح إلا بالإيمان، والأصل هو الإيمان، والفروع هو الأعمال الصالحة. قوله تعالى: { تؤتي أكلها كل حين }؛ فيه تشبيه ما يحصل من الثواب الدائم الذي لا منزلة أعلى منه، وقوله تعالى: { بإذن ربها }؛ أي بعلمه وقدرته.
قوله تعالى: { ويضرب الله الأمثال للناس }؛ أي يبين الله الأشياء للناس في صفة التوحيد والدين، { لعلهم يتذكرون } لكي يتعظوا ويؤمنوا.
[14.26]
قوله تعالى: { ومثل كلمة خبيثة }؛ يعني كلمة الشرك، { كشجرة خبيثة }؛ يعني شجرة الحنظل ليس فيها حلاوة ولا منفعة ولا رائحة طيبة، بل تضر من تناولها، فكذلك كلمة الكفر تضر صاحبها. قوله تعالى: { اجتثت من فوق الأرض }؛ أي اقتلعت، معناه: كما أنه ليس لشجرة الحنظل أصل تثبت عليه وتقر، ولكن تقلع وتؤخذ حبته من أصله، فكذلك الكفر يبطله الله ويستأصل أهله. قوله تعالى: { ما لها من قرار }؛ فإن الريح تقلعها وتذهب، كذلك ليس لكلمة الكفر حجة يحتج بها صاحبها.
[14.27]
قوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }؛ أي يثبت الله الذين آمنوا بقول ثابت وهو: لا إله إلا الله في الحياة الدنيا، وفي الآخرة يعني القبر، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن المؤمن إذا دخل قبره وأتاه منكر ونكير وقالا له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبته الله فيقول: الله ربي؛ والإسلام ديني؛ ومحمد نبيي. فيقولان: صدقت هكذا كنت في الدنيا، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقولان له: هذا كان منزلك لو كفرت بربك، فإذا آمنت بربك فهذا منزلك، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويفسح له في قبره.
وإن كان كافرا أو منافقا فيقولان له: ما تقول لهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون كذا وكذا. فيقولان له: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا لك لو آمنت، فأما إذا كفرت فإن الله بدلك به هذا، ويفتح له باب إلى النار، ثم يقمعه بالمطراق قمعة فيصيح صيحة يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين، فلا يسمع صوته شيء إلا لعنه، ثم يفتح له باب إلى النار يدخل عليه من ريحها وسمومها، ويقال له: نم نومة اللديغ، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه "
فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }؛ { ويضل الله الظالمين }؛ أي ويهلكهم، { ويفعل الله ما يشآء }؛ من التثبيت والإضلال، لا مانع له مما يفعله.
[14.28-29]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا }؛ فيه تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم من صنع المشركين، فإنهم بدلوا نعمة الله بالكفر، ثم لم يقتصروا على هذا في أنفسهم حتى أضلوا قومهم، { وأحلوا قومهم دار البوار }؛ أي دار الهلاك وهي: { جهنم يصلونها }؛ أي يدخلونها يوم القيامة، { وبئس القرار }؛ قرار من يكون قراره النار، وقوله تعالى: { جهنم } بنصب (يصلونها).
[14.30]
قوله تعالى: { وجعلوا لله أندادا }؛ أي أمثالا ونظراء، { ليضلوا عن سبيله }؛ أي كان عاقبتهم الضلال عن دين الله، { قل تمتعوا }؛ قليلا في الدنيا، { فإن مصيركم إلى النار }.
[14.31]
قوله تعالى: { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة }؛ في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين بما يؤديهم إلى النعيم المقيم، وقوله تعالى: { يقيموا الصلاة } أي يؤدونها لمواقيتها بشرائطها.
واختلفوا في جزم { يقيموا } قيل: لأنه جواب الأمر، وقال بعضهم: تقديره: قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا. قوله تعالى: { وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية }؛ من الأموال في وجه البر من الفرائض والنوافل، سرا في النوافل، وعلانية في الفرائض، { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه }؛ يوم لا يقبل البدل للتخلص من النار، { ولا خلال }؛ أي ولا مودة يكون فيها تخليص أحدهما للآخر.
[14.32-33]
قوله تعالى: { الله الذي خلق السموت والأرض وأنزل من السمآء مآء }؛ يعني المطر، { فأخرج به من الثمرات رزقا لكم }؛ أي من الثمار ما تنتفعون به. قوله تعالى: { وسخر لكم الفلك }؛ أي السفن، { لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار } ، وتجري حيث تشاؤون، { وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين }؛ أي سخرها لكم إلى يوم القيامة، { وسخر لكم اليل والنهار }؛ بأن أتى بهما متعاقبين لينصرف الناس في معايشهم بالنهار ويهدأوا بالليل.
[14.34]
قوله تعالى: { وآتاكم من كل ما سألتموه }؛ من العاقبة وغير ذلك، ومن قرأ (من كل) بالتنوين فالمعنى: أعطاكم من كل ما تقدم ذكره من النعم، ثم قال (ما سألتموه) أي لم تسألوه، بل ابتدأكم بذلك تفضلا.
قوله تعالى: { وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها }؛ أي إنعامه، والنعمة ها هنا اسم أقيم مقام المصدر، ولذلك لم يجمع، (لا تحصوها) أي تأتوا على جميعها بالعد. وقيل: لا تحفظوها ولا تطيقوا عدها.
قوله تعالى: { إن الإنسان لظلوم كفار }؛ معناه: إن الإنسان مع هذه النعم لظلوم لنفسه كفار لنعم ربه. والإنسان: اسم جنس لكن يقصد به في هذا الموضع الكافر خاصة.
[14.35-36]
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا }؛ أي واذكر إذ قال إبراهيم بعد ما بنى البيت: رب اجعل مكة آمنا يأمن فيها الناس والوحش، فاستجاب الله دعاءه حتى اجتمع فيه الناس مع شدة العداوة بينهم، وتدنوا الوحوش فيه من الناس فتأمن منهم. وإنما عرف البلد في هذه الآية ونكرها في البقرة؛ لأن النكرة إذا أعيدت تعرفت.
قوله تعالى: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام }؛ أي والطف بي وبني لطفا نتجنب به عبادة الأصنام، { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس }؛ يعني الأصنام، وأضاف الإضلال إلى الأصنام، وإن لم تكن تفعل شيئا؛ لأنهم ضلوا بعبادتهم. قوله تعالى: { فمن تبعني فإنه مني } أي فمن تبعني على ديني فإنه مني ومعي، { ومن عصاني }؛ خالفني في ديني، { فإنك غفور رحيم }؛ أي غفور لذنوبهم، رحيم بهم.
[14.37]
قوله تعالى: { ربنآ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع }؛ أي قال إبراهيم: إني أسكنت بعض ذريتي، وهو إسماعيل مع أمه هاجر، بواد جدب لا ينبت شيئا، وأراد به وادي مكة وهو الأبطح. قوله تعالى: { عند بيتك المحرم }؛ أي عند المسجد الحرام، سماه المحرم لأنه لا يستطيع أحد الوصول إلا بالإحرام. وقيل: أراد به حرمة الاصطياد والقتل، كما روي في الخبر:
" أن مكة حرام لا يختلي خلاؤها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها ".
وقوله تعالى: { ربنا ليقيموا الصلاة }؛ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة بحرم مكة، { فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم }؛ أي تسرع إليهم، قال مجاهد: (لو قال إبراهيم: أفئدة الناس، لزاحمتهم الروم وفارس، ولكن قال: أفئدة من الناس)، وقال ابن جبير: (لو قال إبراهيم: أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال: أفئدة من الناس فهم المسلمون).
وقرئ (تهوى) بنصب الواو من هوى يهوى إذا أحب، إلا أن القراءة المعروفة بالكسر. قوله تعالى: { وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون }؛ ظاهر المعنى.
[14.38-39]
قوله تعالى: { ربنآ إنك تعلم ما نخفي وما نعلن }؛ أي ما تسر أنفسنا وما تظهر. قوله تعالى: { وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السمآء }؛ يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم، ويحتمل أن يكون قولا من الله معترض بين الكلامين، كأنه صدق إبراهيم فإنه لا يخفى على الله من شيء.
ثم رجع إلى قول إبراهيم: { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق }؛ روي أن إبراهيم كان ابن مائة سنة يوم ولد له إسحاق، وكانت سارة يومئذ بنت تسع وتسعين سنة، وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاثة عشرة سنة. وقوله تعالى: { إن ربي لسميع الدعآء }؛ أي قابل للدعاء.
[14.40-41]
قوله تعالى: { رب اجعلني مقيم الصلاة } ، أي مداوما على إقامة الصلاة، واجعل؛ { ومن ذريتي }؛ من يقيم الصلاة، { ربنا وتقبل دعآء }؛ أي أجب دعائي، { ربنا اغفر لي ولوالدي }؛ قال بعضهم: أراد آدم وحواء؛ لأن الله تعالى كان نهاه عن الاستغفار لأبيه من بعد ما تبين له أنه عدو لله.
وقال بعضهم: أراد أبويه الأدنيين، فكان إبراهيم يستغفر لأبويه عن موعدة وعد بها إياه. وقرأ بعضهم (ولوالدتي) لأن أمه كانت مسلمة. قوله تعالى: { وللمؤمنين يوم يقوم الحساب }؛ أي يوم يحاسب الخلق.
[14.42]
قوله تعالى: { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون }؛ أي لا تظنن الله يا محمد غافلا عن أعمال الظالمين ومجازاتهم على ما يعملون، { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار }؛ قال ابن عباس: (إذا سيقوا إلى النار شخصت أبصارهم إليها)، وقال الحسن: (تشخص أبصارهم إلى إجابة الداعي حين يدعوهم من قبورهم، لا يغمضون أعينهم من هول ذلك اليوم).
[14.43-44]
قوله تعالى: { مهطعين مقنعي رءوسهم }؛ أي مسرعين نحو البلاء الذي ينزل بهم، والإهطاع: الإسراع، وقال مجاهد: (مهطعين؛ أي مديمين النظر)، قال الخليل: (المهطع: الذي قد أقبل على الشيء بنظره ولا يرفع عينيه عنه). قوله تعالى: { مقنعي رءوسهم } أي رافعي رؤوسهم إلى ما يرون في السماء من الانفطار، وانتشار الكواكب، وتكوير الشمس ونحو ذلك.
قوله تعالى: { لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء }؛ أي لا يغمضون أعينهم من الهول والفزع، وقوله تعالى: { وأفئدتهم هوآء } أي قلوبهم خالية من خير، وقيل: مجوفة لا عقول فيها، قال السدي: (هوت أفئدتهم بين موضعها وبين الحنجرة، فلا هي عائدة إلى موضعها، ولا هي خارجة منها).
ثم عاد إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب } أي أعلمهم بموضع المخافة يوم يأتيهم العذاب وهو يوم القيامة؛ { فيقول الذين ظلموا }؛ أي الكفار: { ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب }؛ أعدنا إلى حال التكليف، { نجب دعوتك ونتبع الرسل }؛ واستمهلوا مدة يسيرة كي يجيبوا الدعوة ويتبعوا الرسل، فقال الله تعالى: { أولم تكونوا أقسمتم من قبل }؛ أي حلفتم من قبل هذا في الدنيا، { ما لكم من زوال }؛ من الدنيا الى الآخرة كما قال الله تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت
[النحل: 38].
[14.45]
قوله تعالى: { وسكنتم في مسكن الذين ظلموا أنفسهم }؛ أي سكنتم في مساكن عاد وثمود، { وتبين لكم كيف فعلنا بهم }؛ أي ظهر لكم كيف كفروا بالله ورسله، وكيف عاقبهم الله، والمعنى: كان ينبغي أن ينزجروا أو يرتدعوا الكفر اعتبارا بمساكنهم بعد ما تبين لكم كيف فعلنا بهم. قوله تعالى: { وضربنا لكم الأمثال }؛ أي وبينا لكم الأمثال في القرآن المنبه على التفكر، فلم يعتبروا بتلك الأمثال.
[14.46]
قوله تعالى: { وقد مكروا مكرهم }؛ أي قد مكرت الأمم الماضية بأنبيائهم ما أمكنهم من المكر، والله تعالى عالم بمكرهم، { وعند الله مكرهم }؛ جزاء، { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال }؛ من قرأ (لتزول) بكسر اللام فالمعنى: وإن كان مكرهم قصدا منهم إلى أن تزول منه الجبال، ثم لا تزول منه الجبال، فكيف يزول منه الدين الذي هو أثبت من الجبال.
وقيل: معناه الجحد، كأنه قال: وما كان مكرهم ليزول منه دين الإسلام وثبوته كثبوت الجبال، واستحقر مكرهم. ومن قرأ (لتزول) بفتح اللام فمعناه: وإن مكرهم قد بلغ منتهاه حتى تزول منه الجبال، فلا يضر ذلك أنبياء الله ورسله، فإن الله وعد رسله النصر، لقوله:
ليظهره على الدين كله
[الفتح: 28].
[14.47]
قوله تعالى: { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله }؛ أي لا تظنن الله يا محمد مخلف رسله ما وعدهم من النصر وإظهار الدين، { إن الله عزيز }؛ لا يعجزه شيء، { ذو انتقام }؛ ذو نقمة ممن عصاه وكفر به.
[14.48]
قوله تعالى: { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموت }؛ تبديلها أن يزاد فيها وينقص منها، وتستوي جبالها وأوديتها، وتمد الأديم العكاظي أرضا بيضاء كالفضة، وتبديل السماوات انفطارها وانتشار كواكبها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
وذهب بعضهم: إلى أن الآية على ظاهرها، وأن هذه الأرض تبدل يومئذ بأرض أخرى، كما روي عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ علي هذه الآية فقلت: يا رسول الله فأين تكون الناس؟ قال: " على جسر جهنم " يعني الصراط، وأما السماوات على هذا القول، فإنها تطوى وتبدل سماء أخرى، كما قال الله تعالى:
يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب كما بدأنآ أول خلق نعيده
[الأنبياء: 104]. قوله تعالى: { وبرزوا لله الواحد القهار }؛ أي وبرزوا من قبورهم للمحاسبة.
[14.49]
قوله تعالى: { وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد }؛ أي وترى يا محمد الذين أجرموا يوم القيامة (مقرنين) أي مجموعين مع الشياطين { في الأصفاد } أي في الأغلال والسلاسل، كما روي في الخبر:
" أنه يقرن كل كافر مع شيطانه في غل من حديد وقيد من من حديد "
والأصفاد الأغلال، واحدها صفد وصفاد. وقيل: الأصفاد الأغلال والقيود.
[14.50-51]
قوله تعالى: { سرابيلهم من قطران }؛ أي قميصهم من نار سوداء كالقطران، وهو الذي تهنأ به الإبل، ومن قرأ (من قطر) فالمعنى: من نحاس مذاب قد بلغ النهاية في الحماية. وتحتمل أنهم يسربلون سربا؛ لأن أحدهما من القطر، والاخر من القطران.
قوله تعالى: { وتغشى وجوههم النار }؛ أي يعلو وجوههم النار، وذلك أن بين الكافر وشيطانه حجرا من الكبريت يشتعل في وجهه، { ليجزى الله كل نفس ما كسبت }؛ ليجزي الذين أساؤا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، { إن الله سريع الحساب }؛ إذا حاسب فحسابه سريع؛ لأنه لا يحاسب بعقد وإشارة، ولا يتكلم بلسان، وإنه يكلم الجميع في وقت واحد.
[14.52]
قوله تعالى: { هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد }؛ أي هذا القرآن ذكر بالغ وموعظة كافية للناس، وليخوفوا بذكر العقاب، { وليذكر أولوا الألباب }؛ أي ليتعظ ذوو العقول من الناس، فيوصلهم ذلك إلى الجنة، ويخلصهم من النار.
عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام، وبعدد من لم يعبدها ".
[15 - سورة الحجر]
[15.1]
{ الر تلك آيات الكتاب }؛ قد تقدم تفسير الر، ومعنى { تلك آيات الكتاب } أي هذه آيات الكتاب الذي وعدت إنزاله عليك. قوله تعالى: { وقرآن مبين } أي مبين للحلال والحرام، مميز بين الحق والباطل.
[15.2]
قوله تعالى: { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين }؛ أي ربما يأتي على الكفار يوم يتمنون أن لو كانوا مسلمين، وذلك في الآخرة إذا صار المسلمون إلى الجنة والكفار إلى النار.
قال ابن عباس: (وذلك أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، أحبس قوم من المسلمين ومن المنافقين على الصراط، فيقول المنافقون لهم: نحن حبسنا بكفرنا ونفاقنا، فما نفعكم إيمانكم بمحمد؟ فعند ذلك يصيحون صيحة لما عيرهم المنافقون، فيسمعها أهل الجنة، فيقومون إلى آدم ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى يطلبون الشفاعة لهم، فيحيلونهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم، وذلك هو المقام المحمود، فيدخلهم الله الجنة، فإذا نظر المنافقون إليهم تمنوا أن لو كانوا مسلمين).
[15.3]
قوله تعالى: { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل }؛ أي اتركهم يا محمد يأكلوا في الدنيا كالأنعام، ويتلذذوا قليلا، ويشغلهم الأمل الطويل عن طاعة الله، { فسوف يعلمون } ، فسيعلمون ماذا ينزل بهم من العذاب، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن أخوف ما أخاف على أمتي شيئين: طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ".
[15.4-5]
قوله تعالى: { ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون }؛ أي أجل ينتهون إليه لا يهلكهم الله حتى ينتهون إليه، لا يهلك أمة قبل أجلها الذي كتب لها، ولا تؤخر عن أجلها طرفة عين، فلا يفتر هؤلاء الكفار بتأخير وقت إهلاكهم، فإنه إذا جاء الوقت الذي كتب الله هلاكهم فيه، لم يتأخروا عنه كما لا يتقدمون عليه.
وفي هذا بيان أنه لا يموت أحد ولا يقتل إلا لأجله الذي جعله الله له، ولا يعترض على هذا بقول من قال: يجب أن لا يكون القاتل ظالما للمقتول؛ لأنه لو لم يقتله كان يموت في ذلك الوقت! قلنا: كان يموت من غير ألم القتل، فكان القاتل بإيصال ذلك الألم إليه ظالما له.
[15.6-7]
قوله تعالى: { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون }؛ أي قال الكفار من أهل مكة وهم: عبدالله بن أمية المخزومي وأصحابه؛ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذي نزل عليه الذكر في دعواه وفي زعمه إنك لمجنون في دعواك أنه نزل عليك هذا. فإنهم كانوا لا يقرون بأن القرآن أنزل عليه، وقوله تعالى: { لو ما تأتينا بالملائكة }؛ أي هلا تأتينا بالملائكة من السماء يشهدون أنك رسول الله، { إن كنت من الصادقين }؛ فيما تدعي.
[15.8]
قوله تعالى: { ما ننزل الملائكة إلا بالحق }؛ جواب من الله لهم يقول: ما تتنزل الملائكة من السماء إلا بالرسالة والعقاب والموت، كل ذلك حق. قوله تعالى: { وما كانوا إذا منظرين }؛ أي وما كانوا إذا مؤجلين إذا نزلت عليهم الملائكة، بل يستأصلون بالعذاب حينئذ، إلا من يكون له المعلوم من حاله أنه يؤمن.
[15.9]
قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }؛ الذي جعلناه معجزا لا يقدر على الإتيان بمثله، فهو محفوظ من الزيادة والنقصان، ويقال: هو محفوظ من كيد المشركين بالإبطال.
[15.10]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين }؛ أي ولقد أرسلنا رسلا من قبلك في الأمم الأولين، والشيع: جمع شيعة، والشيعة : الأمة والفرقة.
[15.11-13]
قوله تعالى: { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون }؛ في إنكار التوحيد والبعث، كما يفعل بك قومك. قوله تعالى: { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به }؛ بأن تسمعهم ويفهمهم ثم لا يؤمنون به. وقيل: معناه: كذلك نسلك الاستهزاء في قلوب المجرمين حتى يمتنعوا عنه. والسلك: إدخال الشيء في الشيء. قوله تعالى: { وقد خلت سنة الأولين } بعذاب الاستئصال عند معاندتهم في التكذيب.
[15.14-15]
قوله تعالى: { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا }؛ أي لو فتحنا على هؤلاء الكفار بابا من السماء ينظرون إليه، فظلوا يصعدون إليه وينزلون عنه، لم يؤمنوا وقالوا: (إنما سكرت أبصارنا) أي غطيت أبصارنا وأغشيت عن حقيقة الرؤية، { بل نحن قوم مسحورون }؛ نحن قوم قد سحرنا، وتخيل لنا هذه الأشياء على خلاف حقائقها، كما قالوا حين انشق القمر وعاينوه: هذا سحر مستمر.
ومن قرأ (سكرت) بالتخفيف فهو من السكر، وقراءة التشديد؛ لتكثير الفعل والمبالغة.
[15.16-18]
قوله تعالى: { ولقد جعلنا في السماء بروجا }؛ وهي منازل الشمس والقمر والكواكب التسعة، وهي اثنا عشر برجا: أولها الحمل والثور إلى آخرها. قوله تعالى: { وزيناها للناظرين }؛ أي زينا السماء بالكواكب للناظرين إليها. قوله تعالى: { وحفظناها من كل شيطان رجيم }؛ أي حفظنا السماء أن يدخل فيها شيطان يمكنه الاستماع إلى كلام الملائكة.
قال ابن عباس: (كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات كلها، وكانوا يقعدون في السماء مقاعد للسمع، فيستمعون إلى ما هو كائن في الأرض من الملائكة، فينزلون به على كهنتهم، فيتكلم به الكهنة للناس، حتى بعث عيسى عليه السلام فمنعوا من ثلاث سماوات، وكانوا يصعدون إلى أربع سماوات إلى أن بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، فمنعوا من السماوات السبع، وحرست السماء بالنجوم والملائكة، فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فمنهم من يأتي على نفسه، ومنهم من يخبل). فذلك قوله تعالى: { إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين }؛ أي نجم مضيء حار يتوقد لا يخطؤه، والشهاب: هو الكوكب المنقض.
[15.19]
قوله تعالى : { والأرض مددناها }؛ أي بسطناها، { وألقينا فيها رواسي }؛ أي جبالا ثوابت أوتادا لها، { وأنبتنا فيها }؛ أي في الجبال، { من كل شيء موزون)؛ من كل ما يوزن مثل الذهب والفضة والحديد والصفر والنحاس والرصاص. ويجوز أن يكون المعنى: وأنبتنا في الأرض من كل شيء من النبات والثمار مقدور مقسوم لا يجاوز ما قدره الله على ما تقتضيه الحكمة. وأما تخصيص الموزون فلأن ما يكال من الحبوب يعاقبه الوزن أيضا.
[15.20]
قوله تعالى: { وجعلنا لكم فيها معايش } أي جعلنا لكم في الأرض معايش مما تأكلون وتشربون وتلبسون، وقوله تعالى: { ومن لستم له برازقين }؛ أي وجعلنا لمن لستم له برازقين معايش من الدواب وغيرها، وجاءت (من) لغير الناس كقوله تعالى
فمنهم من يمشي على بطنه
[النور: 45] الآية. وقيل: المعنى: وجعلنا لكم من لستم له برازقين، كأنه قال: جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم العبيد والدواب، وكفيناكم مؤنة أرزاقها.
[15.21]
قوله تعالى: { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه }؛ أي ما من شيء تحتاجون إليه من النبات والثمار والأمطار، إلا ومفاتيحه إلينا وهو في مقدورنا. قوله تعالى: { وما ننزله إلا بقدر معلوم }؛ أي ما ننزل الرزق والمطر إلا بمقدار معلوم تقتضي الحكمة إنزاله، ويعلم الخزان مقاديره، كما روي في الخبر:
" مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها، إلا يوم الطوفان فإنه طغى الماء يومئذ على خزانه، فلم يحفظوا ما خرج منه يومئذ ".
[15.22]
قوله تعالى: { وأرسلنا الرياح لواقح }؛ أي ذات لقاح تأتي بالسحاب وتلقح الشجر، فالريح هي الملقحة للسحاب؛ أي المحملة للسحاب المطر، قال ابن مسعود: (يبعث الله الريح فتلقح السحاب، ثم تمر به فيدر كما تدر النعجة، ثم يمطر)، وعنه أيضا قال: (خلق الله الماء في الريح فتفرغه الريح في السحاب ثم تمر به). قوله تعالى: { فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه }؛ يعني المطر، { ومآ أنتم له بخازنين }؛ أي لستم لذلك الماء بخازنين ولا مفاتيحه بأيديكم.
[15.23]
قوله تعالى: { وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون }؛ أي نحيي بالبعث في الآخرة، ونميت في الدنيا ونحن الوارثون لما في السماوات والأرض بعد موت أهلها، ومعنى الإرث: الخلائق كلهم يموتون ولا يبقى إلا الله عز وجل، وما يبقى للحي بعد الميت يسمى ميراثا.
[15.24]
قوله تعالى: { ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } أي علمنا الأولين منكم وعلمنا الآخرين، وقيل: ولقد علمنا السابقين منكم إلى الطاعة، ولقد علمنا المتأخرين عن الطاعة.
وعن ابن عباس قال: (كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر النساء، وكان بعضهم يتقدم في الصف الأول لئلا يراها، وكان بعضهم يكون في آخر الصف، فإذا ركع تقول هكذا، ونظر من تحت إبطه، فأنزل الله هذه الآية).
[15.25]
قوله تعالى: { وإن ربك هو يحشرهم }؛ أي يجمعهم للجزاء والحساب، { إنه حكيم }؛ في أفعاله، { عليم }؛ بما يستحقه كل واحد منهم.
[15.26]
قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون }؛ يعني آدم، والصلصال: هو الطين اليابس الذي لم تصبه نار، فإذا ضربته صل؛ أي صوت، وإذا مسه النار فهو فخار. والحمأ: جمع الحمأة، وهو الطين المتغير إلى السواد. والمسنون: متغير الرائحة إلى النتن من قوله
لم يتسنه
[البقرة: 259]. وهو الذي أتت عليه السنون.
وذلك أن أدم كان في الأصل ترابا ثم عجن ذلك التراب بالماء فصار طينا، ثم صار حمأ مسنونا ثم صور، وترك مصورا حتى يبس فصار صلصالا، فمكث أربعين سنة ثم صار بشرا، لحما ودما وعظما، ثم نفخ فيه الروح.
[15.27]
قوله تعالى: { والجآن خلقناه من قبل من نار السموم }؛ قيل: إن الجان أبو الجن وهو إبليس، فمن أسلم من ولده فهو جني، ومن كفر فهو شيطان، وقوله تعالى: { من قبل } أي من قبل آدم، وقال الكلبي: (الجن ولد الجن وليس هو بإبليس، إنما إبليس أبو الشياطين).
قوله تعالى: { من نار السموم } أي من نار حارة، قال ابن مسعود: (سمومكم هذه جزء من سبعين جزءا من السموم الذي خلق منه الجان)، ويقال: السموم نار صافية لا دخان لها، ومن هذا سميت الريح المحرقة الحارة سموما. وأما المارج الذي ذكره الله تعالى في قوله
وخلق الجآن من مارج من نار
[الرحمن: 15] فمعنى المارج ما اختلط من لهب النار.
[15.28-30]
قوله تعالى: { وإذ قال ربك للملآئكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون }؛ قد تقدم تفسيره، { فإذا سويته }؛ أي جمعت خلقه باليدين والرجلين والعينين وسائر الأعضاء، { ونفخت فيه من روحي }؛ وأدخلت فيه روحا فصار بشرا بعد ما كان طينا يابسا، { فقعوا له }؛ على وجوهكم، { ساجدين }؛ أي خاضعين له بالتحية، { فسجد الملائكة كلهم أجمعون }؛ لآدم سجود تحية له، وعبادة لله، وقوله تعالى: { أجمعون } يدل على اجتماعهم في السجود في حالة واحدة.
[15.31-35]
قوله تعالى: { إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين }؛ أي امتنع من السجود لآدم، { قال يإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر }؛ أي كيف ينبغي أن أسجد له، وأنا أشرف منه أصلا وهو، { خلقته من صلصال من حمإ مسنون } ، من طين يتصلصل مجوف محتاج إلى الطعام والشراب، وهو من حمأ، والحمأ ظلمة وسواد، والمسنون من الحمأ منتن، { قال }؛ الله تعالى: { فاخرج منها }؛ أي من الجنة، وقيل: من الأرض، فألحقه بجزر البحار، { فإنك رجيم }؛ أي مطرود من الرحمة، مبعد من الخير، { وإن عليك }؛ مع هذا، { اللعنة }؛ لعنة الله ولعنة الخلائق، { إلى يوم الدين } يوم الجزاء وهو يوم القيامة، وهو أول من عصى الله من أهل السماوات والأرض.
[15.36-39]
قوله تعالى: { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون }؛ أي أجلني إلى يوم يبعث الخلائق، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، { قال }؛ الله تعالى: { فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } أي وقت النفخة الأولى حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض، وبين النفخة الأولى والثانية أربعون سنة.
وهذا لم يكن إجابة من الله لإبليس إلى ما سأل، لأنه لم يكن أجله ما دون آخر التكليف ثم أجله إليه، ولكن كان في علم الله أنه لم يسأل لكان أجله يمتد إلى آخر التكليف، فيكون هذا جواب إهانة لا جواب له.
فلما لم يعط الخبيث ما سأل من النظرة { قال رب بمآ أغويتني }؛ أي خيبتني من جنتك ورحمتك، { لأزينن لهم }؛ لبني آدم، { في الأرض ولأغوينهم أجمعين }؛ من الشهوات واللذات حتى يختاروها على ما عندك.
[15.40]
قوله تعالى: { إلا عبادك منهم المخلصين }؛ من قرأ بكسر اللام فمعناه: الذين أخلصوا الطاعة لك، ومن نصبها فمعناه: الذين أخلصتهم لنفسك.
[15.41]
قوله تعالى: { قال هذا صراط علي مستقيم }؛ أي افعل ما شئت، فإن طريقك علي لا تفوتني، وهذا تهديد لإبليس، وقيل: معناه: علي ممر من أطاعك وعلي ممر من عصاك، كما قال:
إن ربك لبالمرصاد
[الفجر:14]، وقيل: معناه: إن هذا دين مستقيم علي بيانه والهداية إليه.
[15.42]
قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }؛ أي لا تقدر أن تحملهم على المعصية وتكرههم عليها، { إلا من اتبعك من الغاوين } ، ولكن من يتبعك فإنما يتبعك باختياره.
[15.43-44]
قوله تعالى: { وإن جهنم لموعدهم أجمعين }؛ أي لموعد إبليس ومن تبعه. قوله تعالى: { لها سبعة أبواب }؛ بعضها أسفل من بعض، وكل طبق منها أشد حرا من الذي فوقه سبعين ضعفا، والباب الأول أهون حرا، ولو أن رجلا بالمشرق فكشف عنها بالمغرب لخرج دماغه من منخريه من شدة حرها.
والطبق الأول: جهنم، فيه أهل القبلة من أهل الكبائر إذا ماتوا غير تائبين. الثاني: لظى، وفيه النصارى. والثالث: الحطمة، وفيه اليهود. الرابع: السعير، وفيه المجوس. الخامس: سقر؛ وفيه المشركين وأهل الأهواء المختلفة، السادس: الجحيم، وفيه الصابئون والزنادقة، السابع: الهاوية، وفيه المنافقون، فذلك قوله تعالى: { لكل باب منهم جزء مقسوم }.
[15.45-46]
قوله تعالى: { إن المتقين في جنات وعيون }؛ أي المتقين للمعاصي بالإيمان والطاعة في بساتين وأنهار ظاهرة تنبع مثل الفوارات، وتجري بلا أخدود، يقال لهم يوم القيامة: { ادخلوها بسلام }؛ ادخلوا الجنة بسلام؛ أي سلام من الآفات، وقيل: بتحية من الله، { آمنين } ، من كل ما تكرهون.
[15.47]
قوله تعالى: { ونزعنا ما في صدورهم من غل }؛ أي نزعنا ما في صدور أهل الجنة من أسباب العداوة من الحقد والحسد والتباغض، { إخونا }؛ أي حتى يصيروا بمنزلة الإخوان، { على سرر }؛ من ذهب، { متقبلين }؛ في الزيادة تسير بهم سروهم في الجنان، بعضها إلى بعض، والسرر جمع سرير. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخونا على سرر متقبلين } ).
[15.48]
قوله تعالى: { لا يمسهم فيها نصب }؛ أي لا يتعبون أنفسهم في طلب العيش، { وما هم منها بمخرجين }؛ ولا يخافون الإخراج منها أبدا، شباب لا يهرمون؛ أصحاء لا يسقمون؛ أحياء لا يموتون.
[15.49-50]
قوله تعالى: { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم }؛ أي أخبر عبادي أني أنا الغفور لذنوب من تاب، الرحيم لمن مات على التوبة. قوله تعالى: { وأن عذابي هو العذاب الأليم }؛ لمن استحقه.
[15.51]
قوله تعالى: { ونبئهم عن ضيف إبراهيم }؛ أي أخبرهم عن أضياف إبراهيم وهم الملائكة، إلا أنه قال (عن ضيف) لأن الضيف مصدر. قوله تعالى: { إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما }؛ قد تقدم تفسيره.
[15.52-56]
قوله تعالى: { قال إنا منكم وجلون }؛ أي قال لهم إبراهيم حين لم يطعموا من طعامه: إنا منكم فزعون، والوجل: هو الفزع، { قالوا لا توجل }؛ أي لا تخف، { إنا نبشرك بغلام عليم }؛ بمولود إذا ولد كان غلاما، وإذا بلغ كان عليما، { قال أبشرتموني }؛ بالولد، { على أن مسني الكبر }؛ بالشيب. قوله تعالى: { فبم تبشرون }؛ قال هذا على جهة التعجب. وقيل: أراد فتبشرون بهذا من عند الله، أو من تلقاء أنفسكم. { قالوا بشرناك بالحق }؛ أي بأمر الله، فإن أمر الله لا يكون إلا حقا، { فلا تكن من القانطين }؛ من رحمة الله، ثم { قال }؛ لهم: كيف أقنط من رحمة الله، { ومن يقنط }؛ منها، { من رحمة ربه إلا الضآلون }.
[15.57-58]
قوله تعالى: { قال فما خطبكم أيها المرسلون }؛ أي ما شأنكم أيها المرسلون؛ لأنهم رسل الله، { قالوا إنآ أرسلنآ إلى }؛ أي لهلاك، { قوم مجرمين }؛ وهم قوم لوط.
[15.59-60]
قوله تعالى: { إلا آل لوط }؛ أي إلا خاصة الذين آمنوا به، { إنا لمنجوهم أجمعين }؛ من الهلاك. قوله تعالى: { إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين }؛ استثناء من الهاء والميم، وكانت امرأته منافقة واسمها واعلة، فقدر عليها الهلاك، والغابرون هم الباقون في موضع العذاب.
[15.61-64]
قوله تعالى: { فلما جآء آل لوط المرسلون }؛ أي لما جاء الملائكة آل لوط، { قال }؛ لهم لوط: { إنكم قوم منكرون }؛ وإنما قال لهم ذلك؛ لأنهم جاؤه على هيئة وجمال لم يكن قد شاهد مثلهم في الجمال، وكان يعلم طلب قومه لأمثالهم، فخاف عليهم منهم فقال: إنكم قوم أنكر مجيئكم إلي في هذه الديار، { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون }؛ أي بالعذاب الذي يكون فيه. قوله تعالى: { وآتيناك بالحق }؛ بأمر من الله، { وإنا لصادقون }؛ في ذلك.
[15.65]
قوله تعالى: { فأسر بأهلك بقطع من اليل }؛ أي ببعض من الليل عند السحر، { واتبع أدبارهم }؛ أي كن فيمن يسير خلفهم؛ كي لا ينالهم العذاب، وقوله تعالى: { ولا يلتفت منكم أحد } أي لا يتخلف في موضع الهلاك، وقيل: لا يلتفت إلى شيء يخلفه؛ أي لا يعرج على شيء، { وامضوا حيث تؤمرون } بالمضي إليه وهو صفد.
[15.66]
قوله تعالى: { وقضينآ إليه ذلك الأمر }؛ أي وأوحينا إليه ذلك الأمر. قوله تعالى: { أن دابر هؤلآء مقطوع }؛ في موضع نصب بدل من قوله (ذلك الأمر)، وقيل: في موضع خفض؛ لأن المعنى بأن دابر هؤلاء مقطوع، وقطع الدابر هو الإتيان على آخرهم بالهلاك حتى لا يبقى منهم أحد. وقوله تعالى: { مصبحين }؛ أي مستأصلون عند الصباح، ولا يبقى لهم نسل ولا عقب.
[15.67-70]
قوله تعالى: { وجآء أهل المدينة يستبشرون }؛ أي أهل مدينة قوم لوط وهي سدوم، يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط لعملهم الخبيث، فإنهم كانوا يجاهرون بهذه الفاحشة، وقال لهم لوط: { قال إن هؤلآء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا الله }؛ في الحرام، { ولا تخزون }؛ ولا تذلون في أمري، { قالوا أو لم ننهك عن العالمين }؛ أي عن ضيافة الغرباء.
[15.71]
قوله تعالى: { قال هؤلآء بناتي }؛ أزوجكموهن، { إن كنتم }؛ لا بد، { فاعلين }؛ مثل هذا الفعل، وذلك أنه لم يجد ما يتقي به أضيافه أبلغ من عرض بناته عليهم للتزويج، وافتداء ضيفه ببناته في الشفاعة، وقد كان علم أنهم لا يرغبون في التزويج. وقيل: أراد بقوله { بناتي } بنات قومي؛ لأن نساء أمة كل نبي بمنزلة بناته في نفقته عليهن.
[15.72]
قوله تعالى: { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }؛ هذا قسم بحياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقسم بحياة أحد غيره، تقديره: لعمرك قسمي، إلا أنه حذف الخبر، وجوابه: إنهم لفي غفلتهم يتحيرون.
[15.73-74]
قوله تعالى: { فأخذتهم الصيحة مشرقين }؛ أي وقت الإشراق، وذلك أن الملائكة قلعوا مدائنهم وقت الصبح، فرفعوها إلى قريب من السماء، ثم قلبوها عند طلوع الشمس، وصاح بهم جبريل حينئذ، { فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } ، وقد تقدم تفسير باقي الآية في سورة هود.
[15.75-77]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين }؛ أي في إهلاك قوم لوط لآيات للمتفرسين، والمتوسمون هم النظار المثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة السمة. قوله تعالى: { وإنها لبسبيل مقيم }؛ أي إن قريات قوم لوط لبطريق واضح ولا يندرس ولا يخفى على طريق قومك إلى الشام، والمعنى أن الاعتبار بها ممكن. وقوله تعالى: { إن في ذلك لآية للمؤمنين }؛ أي لدلالة للمؤمنين الذين يصدقون بذلك.
[15.78-79]
قوله تعالى: { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين }؛ أي وقد كان أصحاب الأيكة وهو قوم شعيب لظالمين بكفرهم، والأيكة: الشجر الملتف الكبير، وكان شعيب بعث إلى قومين، إلى أهل مدين كانوا يطففون الكيل والوزن فأهلكوا بالصيحة، وبعث إلى أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة.
ويقال: إن مدين والأيكة واحد، كانت الأيكة عند مدين، فخرجوا من مدين إليها يطلبون الروح عندها، فأخذهم عذاب يوم الظلة، واضطرم المكان عليهم نارا فهلكوا عن آخرهم. قوله تعالى: { فانتقمنا منهم }؛ أي بالعذاب، { وإنهما لبإمام مبين }؛ أي إن قريات لوط ومواضع شعيب لعلى طريق مبين.
[15.80-81]
قوله تعالى: { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين }؛ أي ولقد كذب قوم صالح ومن تقدم من المرسلين، والحجر ديار ثمود، وإنما سموا أصحاب الحجر؛ لأن الحجر اسم لواد كانوا يسكنون عنده، وقوله تعالى: { وآتيناهم آياتنا }؛ يريد الناقة، { فكانوا عنها معرضين }.
[15.82-84]
قوله تعالى: { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين }؛ أي ينقبون بيوتهم في الجبال آمنين من الموت لطول أعمارهم، وقيل: من الحر وسقوط السقف. قوله تعالى: { فأخذتهم الصيحة مصبحين }؛ أي وقت الصبح صاح بهم جبريل فهلكوا، { فمآ أغنى عنهم }؛ من عذاب الله، { ما كانوا يكسبون }؛ من الأموال .
[15.85-86]
قوله تعالى: { وما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق }؛ أي للحق وإظهار الحق لم نخلقهما عبثا، { وإن الساعة لآتية }؛ يعني القيامة لمجازاة الناس كلهم، { فاصفح الصفح الجميل }؛ أي أعرض عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم، فإن مجاوبة السفيه سفه، قال مجاهد: (هذا منسوخ بآية القتال). قوله تعالى: { إن ربك هو الخلاق العليم }؛ أي الخالق للإنسان، العالم بتدبير خلقه.
[15.87]
قوله تعالى: { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم }؛ أي أكرمناك يا محمد بسبع من المثاني، قيل: هي السبع الطوال، وهي السور السبع من أول البقرة إلى الأنفال والتوبة، وهما جميعا سورة واحدة، وسميت هذه السورة مثاني؛ لأنه ثنى فيها الأقاصيص، والأمر والنهي، والوعيد، والمحكم، والمتشابه.
وقال ابن عباس: (السبع المثاني فاتحة الكتاب) هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال:
" ما أنزل الله في التوراة والإنجيل والزبور مثل فاتحة الكتاب، وإنها السبع المثاني ".
وإنما سميت هذه السورة مثاني؛ لأنها تثنى في كل صلاة. وإنما خص هذه السورة من جملة القرآن تعظيما لها؛ لأن كمال الصلاة متعلق بها، كما خص جبريل وميكائيل من جملة الملائكة تعظيما لهما. قوله تعالى: { والقرآن العظيم }؛ أي وآتيناك القرآن العظيم.
[15.88]
قوله تعالى: { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم }؛ أي لا تنظرن بعين الرغبة إلى ما أعطينا من الأموال رجالا من بني قريظة والنضير وغيرهم من قريش، فإن ما نعطيك من النبوة والقرآن أعظم مما أعطيناهم من الأموال، { ولا تحزن عليهم }؛ بما أنعمنا عليهم من ما لم ننعم به عليك.
ويقال: لا تحزن على هلاكهم إن لم يؤمنوا، وهذا القول أقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجوز أن يحسد أحدا بما أنعم الله به عليه من نعيم الدنيا، وإنما كان يحزن على إصرارهم على الكفر. قوله تعالى: { واخفض جناحك للمؤمنين }؛ أي تواضع، وألن جناحك للمؤمنين؛ لكي يتبعك الناس على دينك، ولا ينفروا من عندك.
[15.89-93]
قوله تعالى: { وقل إني أنا النذير المبين }؛ أي المعلم بموضع المخافة، المبين لكم بلغة تصدقونها . قوله تعالى: { كمآ أنزلنا على المقتسمين }؛ قال الحسن: (معناه: وأنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين وهم اليهود والنصارى). سماهم مقتسمين؛ لأنهم اقتسموا كتب الله تعالى، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، وهم، { الذين جعلوا القرآن عضين }؛ أي فرقوه فآمنوا ببعضه وهو ما وافق دينهم، وكفروا ببعضه وهو ما خالف دينهم.
وقال بعضهم: رهط من أهل مكة، قال مقاتل: (ستة عشر رجلا بعثهم الوليد ابن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا الأعقاب، وقعدوا على طريقها، فإذا جاء الحجاج قال فريق منهم: لا تغتروا بهذا الخارج منا المدعي النبوة فإنه مجنون، وقالت طائفة أخرى على طريق أخرى: إنه كاهن، وقالت طائفة أخرى: شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما، فإذا سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صدق أولئك يعني المقتسمين).
قوله تعالى: { الذين جعلوا القرآن عضين } هم هؤلاء المقتسمين جزءوا القرآن، فقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: كذب، وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، وقال بعضهم: مفترى. ومعنى التعضية: التفريق، يقال: عضيت الشيء إذا فرقته. قوله تعالى: { فوربك لنسألنهم أجمعين }؛ أي في الآخرة، { عما كانوا يعملون }؛ من تفريق القرآن، وصرفهم الناس عن دين محمد صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذه الآية قال:
" فوربك لنسألنهم يوم القيامة عن قول لا إله إلا الله "
وقال عبدالله: (والذي لا إله غيره ما منكم أحد إلا ويسأله الله يوم القيامة فيقول: يا ابن آدم ماذا عملت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين).
واعترضت الملحدة على هذه الآية، وعلى قوله تعالى
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن
[الرحمن: 39] وحكموا عليهم بالتناقض!
والجواب: إنه لا يقال لهم هل عملتم كذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن نقول لهم: لم عملتم كذا، وقال قطرب: (السؤال على ضربين: سؤال استعلام واستخبار، وسؤال تقرير وتوبيخ، فقوله تعالى:
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن
[الرحمن:39] يعني لا يسألهم سؤال استخبار؛ لأنه عالم قبل أن يخلقهم، وقوله تعالى: { لنسألنهم أجمعين } سؤال تقرير وتقريع).
[15.94]
قوله تعالى: { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين }؛ أي أظهر أمرك بمكة واتركهم حتى يجيء أمر الله بقتالهم، وكان صلى الله عليه وسلم مستخفيا بمكة قبل نزول هذه الآية، لا يظهر شيئا مما أنزل الله عليه، فلما نزلت هذه الآية أظهر النبي صلى الله عليه وسلم أمره وأعلنه بمكة.
[15.95-96]
قوله تعالى: { إنا كفيناك المستهزئين }؛ بك، { الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون }؛ وهم خمسة نفر أهلكهم الله في يوم واحد، منهم العاص بن وائل، نزل شعبا من ذلك الشعاب، فلما وضع قدمه على الأرض قال: لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئا، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير فمات مكانه.
ومنهم الحارث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه عطش شديد فلم يزل يشرب حتى انقد مكانه فمات.
ومنهم الأسود بن عبدالمطلب بن الحارث، قعد إلى أصل شجرة، فجعل جبريل يضرب رأسه على الشجرة حتى مات، وكان يستغيث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحدا صنع بك شيئا غير نفسك.
ومنهم الأسود بن عبد يغوث خرج من أهله فأصابه السموم فاسود حتى صار حبنا، واتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب حتى مات.
ومنهم الوليد بن المغيرة خرج يتبختر في مشيته حتى وقف على رجل يعمل السهام، فتعلق سهم بثوبه فجعل رداءه على كتفه فأصاب السهم أكحله فقطعه، ثم لم ينقطع عنه الدم حتى مات، فذلك قوله { إنا كفيناك المستهزئين } أي بك وبالقرآن.
[15.97-99]
قوله تعالى: { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون }؛ أي ولقد نعلم يا محمد أنك يضيق صدرك بما يقولون من التكذيب بأنك شاعر وساحر وكاهن، قوله تعالى: { فسبح بحمد ربك }؛ أي فصل بأمر ربك، واحمده بالثناء عليه، { وكن من الساجدين }؛ أي من العابدين لله. قوله تعالى: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }؛ أي استقم على عبادة ربك وطاعته حتى يأتيك الموت، سماه يقينا؛ لأنه موقن به.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن أسبح بحمد ربي وأكون من الساجدين "
، وقال الضحاك: (معنى قوله { فسبح بحمد ربك } أي قل سبحان الله وبحمده، { وكن من الساجدين } أي المصلين، فكان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة).
وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار، وبعدد المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
[16 - سورة النحل]
[16.1]
{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه }؛ قال ابن عباس: (لما نزل قوله تعالى:
اقتربت الساعة
[القمر: 1] قال الكفار بعضهم لبعض: إن يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيئا قالوا: ما نرى شيئا، فأنزل الله
اقترب للناس حسابهم
[الأنبياء: 1]، فانتظروا قرب الساعة، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا تخوفنا به، فأنزل الله عز وجل { أتى أمر الله } فوثب النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك أن العذاب قد أتى، فقال الله { فلا تستعجلوه } يعني العذاب، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم).
وأما ذكر لفظ الإتيان في هذا؛ فلأن أمر الله في القرب بمنزلة ما قد أتى، كما قال تعالى:
ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
[النحل: 77]. قوله تعالى: { سبحانه وتعالى عما يشركون }؛أي تنزيها له تعالى بصفات المدح عما يشركون به من الأصنام.
[16.2]
قوله تعالى: { ينزل الملائكة بالروح من أمره }؛ أي ينزل الملائكة بالوحي، { على من يشآء من عباده }؛ قرأ الأعمش (ينزل) بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي، قال ابن عباس: (يعني بالملائكة جبريل وحده)، ويسمى الوحي روحا؛ لأنه تحيا به القلوب والحق، ويموت الكفر والباطل.
قوله تعالى: { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا }؛ أي أن أعلموا بالتخويف أن لا إله إلا الله، { فاتقون }؛ أي فاتقوا المعاصي. قوله تعالى: { أن أنذروا } في موضع النصب بنزع الخافض؛ أي بأن أنذروا.
[16.3-4]
قوله تعالى: { خلق السموت والأرض بالحق } ، أي ليستدل بهما على توحيد الله، وليعمل بالحق، { تعالى عما يشركون }؛ من أن يكون له شريك. قوله تعالى: { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } قال ابن عباس: (نزل في أبي بن خلف الجمحي حين قال
من يحيي العظام وهي رميم
[يس: 78]. والمعنى: خلق الإنسان من نطفة منتنة وأنعم عليه حالا بعد حال إلى أن أبلغه الحالة التي تخاصم عن نفسه، فينكر إعادته بعد موته.
[16.5]
قوله تعالى: { والأنعام خلقها }؛ أي وخلق لكم الأنعام، وهي ذوات الحقاف والأظلاف دون الحوافر. وقوله تعالى: { لكم فيها دفء ومنافع }؛ أي ما يدفيكم من أصوافها وأوبارها من الأكسية ونحوها، ومن القلانس واللحاف، ومنافع أخر من ألبانها ونسلها، والركوب والحمل عليها، والفرش والبيوت من أصوافها. قوله تعالى: { ومنها تأكلون }؛ يعني لحومها.
[16.6]
قوله تعالى: { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون }؛ أي ولكم فيها منظر حسن، يقال: هذه مواشي فلان، فيكون له في ذلك جمال، قال قتادة: (وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها)، وقوله تعالى: { حين تريحون } أي حين تريحونها في العشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوي إليها، { وحين تسرحون } أي تخرجون بها بالغداة من مراحها إلى مسارحها.
[16.7]
قوله تعالى: { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس }؛ أراد به الإبل تحمل أمتعتكم وزادكم، وما يثقل عليكم إلى بلد قصدتموه للحج إلى مكة، أو تجارة إلى سائر البلدان، لولا الإبل لكان لا يمكنكم بلوغ تلك البلد إلا بجهد ومشقة. وقوله تعالى: { إن ربكم لرؤوف رحيم }؛ أي متفضل منعم عليكم.
[16.8]
قوله تعالى: { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة }؛ أي وخلق لكم الخيل والبغال والحمير؛ لتركبوها وتتزينوا بها زينة، فيحصل لكم منافعها، وحسن منظرها للناس، كما قال تعالى:
المال والبنون زينة الحياة الدنيا
[الكهف: 46]. قوله تعالى: { ويخلق ما لا تعلمون }؛ أي يخلق أشياء لا تعرفونها لم يسمها لكم.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " إن الله تعالى خلق أرضا بيضاء مثل الدنيا ثلاثين مرة محشوة خلقا من خلق الله، لا يعلمون أن الله يعصى طرفة عين " قالوا: يا رسول الله أمن ولد آدم هم؟ قال: " ما يعلمون أن الله خلق آدم؟ " قالوا: فأين إبليس عنهم؟ قال: " ما يعلمون أن الله خلق إبليس " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ويخلق ما لا تعلمون } ".
وهذه الآية مما يستدل بها على كراهية لحم الخيل على مذهب أبي حنيفة؛ لأن الله تعالى قال في الأنعام
ومنها تأكلون
[النحل: 5] ولم يذكر في آية الخيل والبغال إلا الركوب والزينة.
[16.9]
قوله تعالى: { وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر }؛ أي وعلى الله بيان الهدى والضلالة ليتبع الهدى وتجتنب الضلالة، كما قال تعالى:
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
[الانسان: 3]، وقال تعالى:
فألهمها فجورها وتقواها
[الشمس: 8]. قوله تعالى: { ومنها جآئر } أي من الطرق ما هو عادل عن الحق، قال: يعني اليهودية والنصرانية والمجوسية، وقال ابن المبارك: (يعني الأهواء والبدع). قوله: { ولو شآء لهداكم أجمعين }؛ إلى جنته وثوابه، ولأرشدكم كلكم.
[16.10]
قوله تعالى: { هو الذي أنزل من السماء مآء لكم منه شراب }؛ مثل البرك والغدران، ولكم، { ومنه شجر فيه تسيمون }؛ ترعون أنعامكم، يعني الكلأ والأشجار التي ترعاه الإبل.
[16.11]
قوله تعالى: { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }؛ ظاهر المعنى.
[16.12]
قوله تعالى: { وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }؛ تسخير الليل والنهار، مجيء كل واحد منهما عقب الآخر بتقدير الله؛ لينصرف الناس في معايشهم بالنهار، ويسكنوا بالليل، وتسخير الشمس والقمر والنجوم مجيئه بها في أوقات معلومة.
[16.13]
قوله تعالى: { وما ذرأ لكم في الأرض }؛ أي وسخر لكم ما خلق في الأرض من الدواب والأشجار وغيرها، { مختلفا ألوانه } ، ومناظره وصوره، { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون }؛ دلائل الله.
[16.14]
قوله تعالى: { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا }؛ يعني السمك، { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها }؛ وهو العرض لاستخراج اللؤلؤ والمرجان لتلبسه نساؤكم.
قوله تعالى: { وترى الفلك مواخر فيه }؛ أي وترى السفن في البحر مقبلة ومدبرة تشق الماء يمينا وشمالا، يقال : مخرت السفينة البحر، إذا جرت جريا شقت الماء شقا، والمخر صوت هبوب الريح، والسفينة تجري بالريح، فسميت السفينة مواخر، والواحدة ماخرة. قوله تعالى: { ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }؛ يعني لتركبوه للتجارة، فتطلبوا الربح من فضل الله لكي تشكروا نعمه.
[16.15]
قوله تعالى: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم }؛ أي وجعل فيها جبالا عالية يابسة لئلا تحرك بكم الأرض و؛ أجرى فيها، { وأنهارا } ، مثل النيل والفرات ودجلة وسيحون وجيحون، وجعل فيها، { وسبلا لعلكم تهتدون } ، طرق منافعكم؛ لكي تهتدوا إلى الموضع الذي تقصدونه.
[16.16]
قوله تعالى: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون }؛ أي جعل في الأرض أعلاما للمسافرين من الجبال وغير ذلك. قوله تعالى: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } معناه: إن من يسير بالليل فإنما يهتدي إلى الطرق في البر والبحر بالنجوم مثل الثريا وبنات نعش والفرقدين، يهتدي بها إلى القبلة والطرق.
[16.17]
قوله تعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق }؛ أي أفمن يخلق هذه الأشياء وهو الله تعالى كمن لا يقدر أن يخلق شيئا وهي الأصنام، { أفلا تذكرون } أنهما لا يستويان في استحقاق العبادة.
[16.18]
قوله تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ }؛ يعني إذا أردتم أن تعرفوا بفاضل نعم الله عليكم في الخلق والرزق والتمكن من الأمور في الدنيا لم تقدروا على إحصاء هذه النعم، { إن الله لغفور }؛ لذنوب عباده إذا تابوا، { رحيم }؛ بهم بالإمهال إلى وقت التوبة.
[16.19-21]
قوله تعالى: { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون * والذين يدعون من دون الله }؛ يعني الأصنام، { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون }؛ والله تعالى هو الخالق لها. قوله: { أموات غير أحيآء }؛ يعني الأصنام، والمعنى: كيف تخلق شيئا، وهي أموات لا روح لها.
وإنما جمع بين قوله { أموات } وبين قوله { غير أحيآء } لأنه يقال: فلان ميت وإن كان حيا، إذا كان لا ينتفع به، فكأن الله تعالى بين أنه لم يسم الأصنام أمواتا من حيث أنه لا ينتفع بها، ولكن لأنه لا حياة فيها، فكيف يعبدون ما لا يخلق وما لا يرزق ولا ينفع، وهو مع ذلك من الأموات.
قوله تعالى: { وما يشعرون أيان يبعثون }؛ أي وما تشعر الأصنام متى يبعث الناس من القبور فيحاسبون، فكيف يرجو الكفار الجزاء من قبل الأصنام، و(أيان) كلمة اختصار أصلها (أي) و (أن).
[16.22]
قوله تعالى: { إلهكم إله واحد }؛ وهو عز وجل، { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة }؛ للحق، { وهم مستكبرون }؛ وهم متعظمون عن قبول الحق أنفة من اتباعه واتباعك.
[16.23]
قوله تعالى: { لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون }؛ أي حقا إن الله يعلم سرهم وعلانيتهم، { إنه لا يحب المستكبرين }.
[16.24]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم }؛ أي إذا قيل لهؤلاء الكفار: ما الذي يدعي محمد صلى الله عليه وسلم أنه ينزل عليه من الله، { قالوا أساطير الأولين } أي الذي تذكرون أنه منزل كلام الأولين، وما يسطرون في كتبهم من الأخبار والأقاصيص.
[16.25]
قوله تعالى: { ليحملوا أوزارهم }؛ أي آثامهم، { كاملة } ، أي وافرة، { يوم القيامة }؛ ليحملوا، { ومن أوزار }؛ أي آثام، { الذين يضلونهم } ، يصرفونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، { بغير علم } ، بلا علم ولا حجة، يعني يكون عليهم إثم إضلالهم غيرهم لا أن يحملوا ذنوب غيرهم، كما قال الله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164]. وقوله تعالى: { ألا سآء ما يزرون }؛ ظاهر المعنى.
[16.26]
وقوله تعالى: { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد }؛ أي قد مكر الذين من قبل هؤلاء بأنبيائهم، كما مكر هؤلاء المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة؛ ليصدوا الناس عن دين الله، فأتى الله بنيان أولئك من القواعد بالعذاب، { فخر } ، فوقع، { عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب }؛ الهدم والاستئصال، { من حيث لا يشعرون }؛ بإتيان العذاب منه.
وقد اختلفوا في هؤلاء الذي خر عليهم السقف، قال بعضهم: هو نمرود بن كنعان الذي بنى صرحا طوله خمسة آلاف وخمسون ذراعا، وعرضه عرض ثلاثة آلاف وخمسون ذراعا؛ ليصعد إلى السماء، فوقع الصرح على الذي كانوا فيه، وأهلك الله نمرود بالبعوض. وقال بعضهم: هذا على وجه المثل، فكأنه جعل أعمالهم بمنزل الباني بناء سقط عليه.
[16.27-29]
قوله تعالى: { ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركآئي الذين كنتم تشاقون فيهم }؛ تشركونهم معي في العبادة، وقوله تعالى: { قال الذين أوتوا العلم }؛ أي قال المؤمنون: { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } إن الذل اليوم والهوان على الكافرين، { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } تقبض أرواحهم في حال ظلمهم لأنفسهم بالكفر، { فألقوا السلم } ، واستسلموا وانقادوا للمذلة والهوان، يقولون: { ما كنا نعمل من سوء }؛ أي من معصية في الدنيا، فيقول المؤمنون: { بلى }؛ قد فعلتم ذلك، { إن الله عليم بما كنتم تعملون }؛ وتقول لهم خزنة جهنم، { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين }؛ عن توحيد الله وعبادته.
[16.30-31]
قوله تعالى: { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن أهل مكة لما بعثوا إلى أعقاب مكة رجالا؛ ليصدوا الناس عن دين الله، بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجالا من أصحابه: عبدالله بن مسعود وغيره، فكان وافد الناس إذا قدم فرده الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان، سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أنزل ربكم؟ قالوا: خيرا) أي أنزل حقا وصوابا).
وعلى هذا انتصب قوله (خيرا)، وإنما ارتفع قوله في جواب المقتسمين من كفار مكة (أساطير الأولين) لأنهم كانوا لا يقرون بإنزاله، بل كانوا يقولون على جهة التكذيب هو أساطير الأولين.
قوله تعالى: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة }؛ أراد بالحسنة الثناء والمدح على ألسنة المؤمنين، وقيل: للذين قالوا لا إله إلا الله يضعف له بعشر، { ولدار الآخرة خير }؛ يعني الجنة خير مما يصل إليهم في الدنيا، { ولنعم دار المتقين }.
ثم فسر دار المتقين فقال: { جنات عدن }؛ أي بساتين إقامة، { يدخلونها } ، يوم القيامة، { تجري من تحتها }؛ أي من تحت أشجارها، { الأنهار لهم فيها ما يشآؤون كذلك يجزي الله }؛ كذلك تكون مجازاة الله، { المتقين }؛ للشرك والمعاصي.
[16.32]
قوله تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة }؛ عند قبض أرواحهم، { طيبين }؛ أي زاكية أعمالهم متمسكين بما أمروا به مجتنبين لما نهوا عنه، طيبة أرواحهم بما يبشرون به من الجنة، { يقولون }؛ أي يقول لهم الملائكة: { سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون }؛ في الدنيا.
[16.33]
قوله تعالى: { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة }؛ أي ما ينظر أهل مكة في تكذيبهم للرسول واستبطائهم العذاب، إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، { أو يأتي أمر ربك }؛ بعذاب الاستئصال، { كذلك فعل الذين من قبلهم }؛ هؤلاء الكفار من تكذيب الرسل مثل ما فعل هؤلاء فعذبهم الله { وما ظلمهم الله }؛ بذلك، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ ظلموا أنفسهم حيث فعلوا ما استوجبوا به العذاب.
[16.34]
قوله تعالى: { فأصابهم سيئات ما عملوا }؛ أي عقاب ما عملوا، أراد بالسيئات العقاب كما قال تعالى:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40] { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }؛ أي وحل بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب.
[16.35]
قوله تعالى: { وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء }؛ هذا نظير الآية التي في الأنعام
سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا
[النحل: 148] قد تقدم تفسيره، يعني كفار أهل مكة.
وقوله تعالى: { كذلك فعل الذين من قبلهم }؛ من الأمم الماضية من تكذيب الأنبياء مثل ما فعل هؤلاء، فلم يكن ذلك حجة لهم، { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين }؛ عن الله بلغة يعرفونها. وقال بعضهم: إنما قالوا هذا القول استهزاء وسخرية كما قال قوم شعيب: أتنهانا عما كان يعبد آباؤنا.
[16.36]
قوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا }؛ كما بعثناك رسولا في هؤلاء، { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }؛ أي اجتنبوا الشيطان وعبادة كل ما تعبدون من دون الله، { فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي الكفر. قوله تعالى: { فسيروا في الأرض }؛ أي في أرض الذين عاقبهم الله، { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين }؛ أي كيف صار عاقبة مكرهم.
[16.37]
قوله تعالى: { إن تحرص على هداهم }؛ أي إن تطلب يا محمد من جهتك هداهم، { فإن الله لا يهدي من يضل }؛ أي يحكم عليه بالضلالة، ومن يضلله الله فلا يهدي ولا يهتدي، { وما لهم من ناصرين }؛ أي من يدفع عنهم العذاب.
[16.38]
قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت }؛ أي حلف الكفار بالله مجتهدين في اليمين: أنه لا يبعث الله من يموت، وقوله تعالى: { بلى وعدا عليه حقا }؛ أي قل: بلى، وقيل: إن الله تولى الجواب بنفسه، كأنه قال: ليبعثهم بعد الموت وعدا عليه.
انتصب قوله { حقا } على المصدر؛ أي وعد وعدا حقا كأنما أوجبه على نفسه، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ أنه حق.
[16.39]
قوله تعالى: { ليبين لهم الذي يختلفون فيه }؛ معناه: يبعثهم لكي يبين لهم ما يختلفون فيه من الدين { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } في الدنيا بأن لا جنة ولا نار.
[16.40]
قوله تعالى: { إنما قولنا لشيء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون } أي إنما أمرنا في البعث وغيره إذا أردنا أن نقول له: كن؛ فيكون. من رفع (فيكون) معناه: فهو يكون، ومن نصب فعلى جواب كن، وقيل: عطفا على (أن يقول).
[16.41-42]
قوله تعالى: { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وصهيب وبلال وأصحابه الذين هاجروا إلى المدينة من بعد ما عذبهم أهل مكة).
والمعنى: والذين هجروا أوطانهم في طاعة الله، وساروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعد ما ظلمهم الكفار، { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } ، أرضا كريمة وهي المدينة بدل أوطانهم، { ولأجر الآخرة أكبر }؛ لهم مما أعطيناهم في الدنيا، { لو كانوا يعلمون } يعلم الكفار.
ثم وصفهم فقال: { الذين صبروا }؛ يعني على الشدائد والعبادات، وصبروا عن المحرمات، { وعلى ربهم يتوكلون } في طلب الدين والدنيا.
[16.43]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم }؛ نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث رسولا من الملائكة لا رجلا منا. ومعنى الآية { ومآ أرسلنا من قبلك } يا محمد إلى الأمم الماضية إلا رجالا أوحينا إليهم كما أوحينا إليك، { فاسألوا }؛ يا أهل مكة، { أهل الذكر }؛ أي الكتاب، { إن كنتم لا تعلمون }؛ أن الرسل كانت من البشر.
[16.44]
قوله تعالى: { بالبينات والزبر }؛ راجع إلى قوله تعالى
نوحي إليهم
[النحل: 43]. وقيل: في هذا إضمار كأنه قال: وأرسلناهم بالبينات والزبر. والبينات: هي الدلالات الواضحات، والزبر: جمع الزبور وهو الكتاب. قوله تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر }؛ أي القرآن، { لتبين للناس ما نزل إليهم }؛ الحلال والحرام والحق والباطل، { ولعلهم يتفكرون }؛ فيه فيؤمنوا به.
[16.45-46]
قوله تعالى: { أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض }؛ قال ابن عباس: (يعني أهل مكة عملوا السيئات؛ يعني الشرك)؛ وقيل: معناه: أفأمن الذين مكروا في تكذيب الرسل وأذى المسلمين أن يخسف الله بهم كما خسف بقارون، { أو يأتيهم العذاب من حيث }؛ موضع، { لا يشعرون } أي لا يعلمون، { أو يأخذهم في تقلبهم }؛ أي في أسفارهم وتجارتهم وتصرفهم، { فما هم بمعجزين }؛ الله على ما يريد إحلاله بهم.
[16.47]
قوله تعالى: { أو يأخذهم على تخوف }؛ أي على تنقص إما بقتل أو بموت؛ الأول فالأول حتى يهلكوا عن آخرهم، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ما كنت أدري ما معنى (على تخوف) حتى سمعت قول الشاعر:
تخوف السير منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن
وقال الحسن: (معناه: أن يخوفهم بأن يهلك قرية لتنزجر قرية أخرى). وقوله تعالى: { فإن ربكم لرؤوف رحيم }؛ أي شديد الرحمة بتأخير العذاب عن الكفار، أو شديد الرحمة على من تاب منهم.
[16.48]
قوله تعالى: { أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء }؛ أي من شخص قائم من شجر أو إنسان أو نحو ذلك، { يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمآئل }؛ أي يتميل ظلاله عن اليمين والشمائل، إذا طلعت الشمس وإذا غربت، { سجدا لله }؛ أي ميلانها أو دورانها من موضع إلى موضع سجودها، فيسجد الظل غدوة إلى أن يفيء الظل، ثم يسجد أيضا إلى الليل. وفي هذا دليل توحيد الله تعالى، قال الحسن: (أما ظلك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد). قوله: { وهم داخرون } أي صاغرون ذليلون.
[16.49-50]
قوله تعالى: { ولله يسجد ما في السموت وما في الأرض من دآبة }؛ أي ما دب على الأرض، { والملائكة وهم لا يستكبرون }؛ أي ويخضع الملائكة وهم لا يتعظمون عن الخضوع له ، { يخافون ربهم من فوقهم }؛ أي يخافون عقاب ربهم من فوقهم. وقيل: يخافون ربهم خوف المقهور من القاهر، فذكر لفظ فوق على هذا المعنى.
وقوله تعالى: { ويفعلون ما يؤمرون }؛ يعني الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن لله ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة الله، وتجري دموعهم وتضطرب أجنحتهم، لا تقطر من دموعهم قطرة إلا صارت ملكا قائما، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ".
وعن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: (من سجد هذه السجدة إيمانا وتصديقا، أعطاه الله بعدد الملائكة والشمس والقمر والنجوم، وقطر المطر ونبات الأرض وترابها ورملها ومدرها، وبعدد ما دب على وجه الأرض حسنة حسنة).
[16.51-55]
قوله تعالى: { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد }؛ يجوز أن يكون قوله (اثنين) تأكيدا لما سبق، ويجوز أن يكون المعنى: لا تتخذوا اثنين إلهين إنما الله إله واحد، { فإياي فارهبون }؛ أي فاخشون ولا تخشوا أحدا غيري، { وله ما في السموت والأرض }؛ ظاهر المعنى.
قوله تعالى: { وله الدين واصبا }؛ أي دائما، وقوله تعالى (واصبا) انتصب على القطع وإن كان فيه الوصف، والوصب: شدة التعب؛ لأن الله هو المستحق أن يعبد في جميع الأوقات. قوله تعالى: { أفغير الله تتقون }؛ إنكار عليهم. قوله تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله }؛ ظاهر المعنى.
وقوله تعالى: { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون }؛ أي فإليه تتضرعون في كشفه، والجؤار في اللغة: رفع الصوت، فكأنه قال: فإليه تضجون وتصيحون، { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون }؛ عاد فريق منكم إلى الشرك، { ليكفروا بمآ آتيناهم }؛ أي ليجحدوا نعمة الله في كشف الضر عنهم. ثم أوعدهم فقال: { فتمتعوا فسوف تعلمون }؛ أي فتمتعوا في الدنيا، فسوف تعلمون ما يحل بكم من العقاب.
[16.56]
قوله تعالى: { ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم }؛ أي ويجعلون للأصنام التي لا تعلم نصيبا مما رزقناهم ، وهو ما كانوا يجعلون لها من السائبة والبحيرة والحام وبعض الحرث. ويجوز أن يكون: { لما لا يعلمون } راجعا إلى الكفار على معنى أنهم لا يعلمون أنها تنفعهم ولا تضرهم. قوله تعالى: { تالله لتسألن عما كنتم تفترون }؛ قسم بأن الله يسألهم في الآخرة عن افترائهم فيما جعلوه للاصنام.
[16.57]
قوله تعالى: { ويجعلون لله البنات سبحانه }؛ معناه: إنهم يقولون: إن الملائكة بنات الله، وقوله تعالى { سبحانه } تنزيها لله تعالى عما لا يليق به. وقوله تعالى: { ولهم ما يشتهون }؛ أي ما يختارون لأنفسهم من البنين دون البنات.
[16.58]
قوله تعالى: { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا }؛ أي ظهر أثر كراهة الحزن على وجهه من ذلك، يقال لمن لقي مكروها: قد اسود وجهه غما وحزنا وخجلا. قوله تعالى: { وهو كظيم }؛ أي ممتلئ غيظا وغما يتردد حزنه في جوفه.
[16.59]
قوله تعالى: { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به }؛ أي يختفي من المبشرين له بذلك ومن جلسائه من كراهة ما بشر به من الأنثى، { أيمسكه على هون }؛ أي أيحفظ المبشر به على هون ومشقة، والهون: الهوان، { أم يدسه }؛ أي يدفنه، { في التراب }؛ حيا كما كان في عادة العرب كان إذا ولد لأحدهم أنثى حفر لها حفرة وألقاها فيها ودفنها حتى تموت، وهي الموءدة.
وأما لفظ التذكير في قوله { أيمسكه على } فإنه راجع إلى المبشر به. قوله تعالى: { ألا سآء ما يحكمون }؛ أي ألا ساء ما يقضون من اختيار البنين لأنفسهم، وإضافة البنات إلى الله وقتل الموءودة.
[16.60]
قوله تعالى: { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء }؛ أي لهم صفة السوء من احتياجهم إلى الولد، وكراهيتهم الإناث خوف العار، { ولله المثل الأعلى }؛ أي الصفة العليا وهي الألوهية والربوبية لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وقوله تعالى: { وهو العزيز الحكيم }؛ أي الغالب الذي لا يقدر أحد أن يغلبه، الحكيم في أمره وتدبيره.
[16.61]
قوله تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم }؛ أي بعقاب معاصيهم عاجلا، { ما ترك عليها }؛ أي على الأرض، { من دآبة ولكن يؤخرهم }؛ أي يمهلهم، { إلى أجل مسمى }؛ أي إلى وقت ضربه لامهالهم، { فإذا جآء أجلهم } ذلك الوقت، { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }؛ لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون.
فإن قيل: كيف قال { ما ترك عليها من دابة } مع علمنا أن في الناس من هو غير ظالم، قيل: معناه: (ما ترك عليها من دابة ظالمة). وقيل: معناه: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم عاجلا لانقطع النسل؛ لأنه لا أحد إلا وقد كان في آبائه وأجداده من هو ظالم.
فإن قيل: في الآية تعميم الناس والدواب في الهلاك؛ فأي شيء يوجب هلاك الدواب؟ قيل: إن الدواب إنما خلقها الله لمنافع الناس، فإذا هلكت الناس بمنع المطر عنهم، لم يبق في الأرض دابة إلا وهلكت، وإذا هلك الناس بوجه من الوجوه لم تبق الدواب.
[16.62]
قوله تعالى: { ويجعلون لله ما يكرهون }؛ لأنفسهم. في الآية إعادة ذكر جهل الكفار أنهم يجعلون لله ما يكرهون لأنفسهم وهو البنات، { وتصف ألسنتهم }؛ مع ذلك، { الكذب أن لهم الحسنى }؛ أي أن لهم الجنة في الآخرة. قوله تعالى: { لا جرم أن لهم النار }؛ أي حقا، وقيل: لا بد ولا محالة أن لهم النار، { وأنهم مفرطون }؛ أي مقدمون إلى النار، والفارط في اللغة: هو القادم إلى الماء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" وأنا فرطكم على الحوض "
أي سابقكم.
ومن قرأ (مفرطون) بكسر الراء، فهم الذين أفرطوا في الذنوب والمعاصي، ومن قرأ (مفرطون) بالتشديد فهو من التفريط وهو التقصير.
[16.63]
قوله تعالى: { تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم }؛ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي كما أرسلناك إلى هؤلاء أرسلنا إلى أمم من قبلك، فزين لهم الشيطان أعمالهم في الكفر والتكذيب، { فهو وليهم اليوم }؛ في الدنيا يتبعون إغواءه، ويقال: (هو وليهم يوم القيامة) أي يقال لهم يومئذ: هذا وليكم، فيكلكم الله يومئذ إلى من لا يملك دفع العذاب عن نفسه، فكيف يدفع عنهم العذاب، ومن كان الشيطان وليه دخل النار، { ولهم عذاب أليم }.
[16.64-65]
قوله تعالى: { ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه }؛ أي لتبين لهم الحق من الباطل، وأنزلناه، { وهدى } ، دلالة، { ورحمة لقوم يؤمنون }؛ أي للمؤمنين. قوله تعالى: { والله أنزل من السمآء مآء }؛ يعني المطر، { فأحيا به الأرض بعد موتهآ }؛ أي يبسها، { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون }؛ أدلة الله، ويتفكرون فيها.
[16.66]
قوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا }؛ من دون أن يظهر فيه لون الدم ولا رائحة الفرث، { سآئغا للشاربين }؛ أي متيسر الجري في الحلق، لا يغص به شاربه. وإنما لم يقل في بطونها؛ لأن الأنعام والنعيم واحد، فكأنه رد الكناية إلى النعيم. وفي قوله تعالى { نسقيكم } قرآءتان: فتح النون وضمها، يقال سقى وأسقى بمعنى واحد.
[16.67]
قوله تعالى: { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا }؛ أراد بالسكر المسكر؛ وهو من العنب الخمر، ومن النخيل نقيع التمر إذا غلى واشتد، نزلت هذه الآية وهما لهم حلال يومئذ، هكذا قال ابن عباس، والرزق الحسن: ما أحل منها مثل الخل والزبيب والتمر.
وسئل بعضهم عن هذه الآية فقال: (السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما حل من ثمرها). قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لقوم يعقلون }؛ دلائل الله.
[16.68]
قوله تعالى: { وأوحى ربك إلى النحل }؛ أي وألهم ربك النحل وعرفها ووفر عليها ودعاها إلى ما هو مذكور في هذه الآية، وسمى الإلهام وحيا؛ لأن الوحي هو ظهور المعنى للنفس على وجه خفي، وقد ألهم الله كل دابة التماس منافعها واجتناب مضارها، إلا أن أمر النحل أعجب؛ لأن فيها من لطيف الصنعة ما فيه أعظم معتبر، فإن الله ألهمها اتخاذ المنازل والمساكن، وأن تأكل من كل الثمرات لمنافع بني آدم، وأن لا تقذف ما أكلته بعد ما صار عسلا إلا على حجر صاف أو مكان نظيف لا يخالطه طين ولا تراب.
قوله تعالى: { أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر }؛ فهي تتخذ من الجبال بيوتا إذا لم تكن لأحد، وقوله تعالى: { ومما يعرشون }؛ يعني مما يبني الناس لها من خلاياها ومساكنها، ولولا التسخير وإلهام الله ما كانت تأوي إلى ما يبنى لها.
[16.69]
قوله تعالى: { ثم كلي من كل الثمرات }؛ أي من ألوان الثمر كله، { فاسلكي سبل ربك ذللا }؛ أي طرق ربك لطلب الرعي، وقوله تعالى { ذللا } يجوز أن يكون من نعت السبل؛ أي لا يتوعر عليها مكان سلكته، وهي ترعى الأماكن البعيدة ذات العاص، قد ذلل الله لها مسالكها أي سهلها. وقال ابن عباس: (ذللا نعت النحل؛ أي مطيعة بالتسخير وإخراج العسل من بطونها).
قوله تعالى: { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه }؛ يعني العسل يلقيه النحل أبيض وأصفر وأحمر، يقال: إنه يخرج من شبابها الأبيض، ومن كهولها الأصفر، ومن شيوخها الأحمر. قوله تعالى: { فيه شفآء للناس }؛ أي في ذلك الشراب شفاء للأوجاع التي شفاؤها فيه، كذا قال السدي.
وليس إذا كان في الناس من يضره العسل لمعنى في نفسه ما يوجب أن يخرج العسل من كونه شفاء للناس، فإن الله جعل الماء حياة لكل شيء، وربما يكون الماء سببا للهلاك، لكن الاعتبار للأعم، وقال قتادة: (فيه شفاء للناس من الأدواء)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل "
، { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }.
[16.70]
قوله تعالى: { والله خلقكم ثم يتوفاكم }؛ أي خلقكم في بطون أمهاتكم طورا بعد طور حتى أخرجكم ورباكم إلى أن يقبض أرواحكم عند آجالكم، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر }؛ حتى يعود في كبره وهرمه في نقصان قوته ونقصان عقله إلى مثل حال الطفولة.
قوله تعالى: { لكي لا يعلم بعد علم شيئا }؛ أي لكي يصير كالصبي الذي لا عقل له، وقال السدي: (أرذل العمر الخرف)، وقال قتادة: (تسعون سنة) وعن علي رضي الله عنه: (أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة). قوله تعالى: { إن الله عليم قدير }؛ أي عليم بكل شيء، قادر على تحويل الأحوال.
[16.71]
قوله تعالى: { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق }؛ أي في المال والخدم والنعم، وجعل بعضكم سادة وبعضكم مماليك، { فما الذين فضلوا }؛ أي فما أرباب الأخدام وفضلوا، { برآدي رزقهم على ما ملكت أيمانهم }؛ أي المماليك، { فهم فيه سوآء }؛ فيسوونهم مع أنفسهم في الملك.
فإذا لم ترضوا في الحكمة أن يشرككم مماليككم أيبطلوا فضلكم؟ فكيف يرضى الله من خلقه أن يجعلوا له شريكا في الملك من خلقه، وهذا مثل ضربه الله للمشركين فقال: إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف يجعلون عبادي معي سواء؟
قوله تعالى: { أفبنعمة الله يجحدون }؛ أي أتصفون نعمة الله إلى غيره وتشكرونه عليها فتجحدون نعمة الله، فإن من أضاف النعمة إلى غير المنعم وشكر عليها فقد جحد النعمة.
[16.72]
قوله تعالى: { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا }؛ أي جعل لكم من جنسكم نساء، { وجعل لكم من أزواجكم }؛ أي من نسائكم؛ { بنين وحفدة } ، قيل: إن الحفدة الأختان، وقيل: ولد الولد، وقيل: الخدم، وحقيقة الحفدة من يعاون على ما يحتاج، سرعة من الحفد والإسراع، ويقال لكل من أسرع في الخدمة والعمل: حفدة، ومنه قولهم في دعاء الوتر (نسعى ونحفد) أي نسرع في طاعتك.
قوله تعالى: { ورزقكم من الطيبات }؛ أي من الملاذ والحلال، وقوله تعالى: { أفبالباطل يؤمنون }؛ أي أفبالأصنام يؤمنون، { وبنعمت الله هم يكفرون }؛ أي يجحدون بإضافتها إلى غير الله.
[16.73]
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموت والأرض شيئا }؛ أي ويعبدون الأصنام التي لا تملك لهم رزقا من السماوات بإنزال الغيث، ولا من الأرض بإنبات النبات شيئا قليلا ولا كثيرا، { ولا يستطيعون }؛ أي لا يملكون، وليست لهم استطاعة.
[16.74]
قوله تعالى: { فلا تضربوا لله الأمثال }؛ أي لا تجعلوا لله الأشباه؛ لأنه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء. قوله تعالى: { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي إن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، وأنتم لا تعلمون قدر عظمتي حيث أشركتموني وعجزتموني أن أبعث خلقي.
[16.75]
قوله تعالى: { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء }؛ أي ضرب الله المثل بعبد مملوك لا يقدر على شيء، { ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا }؛ وهو الحر، فهو ينفق منه خفية وعلانية؛ { هل يستوون }؛ في المثل، كما أن الحر الذي يملك وينفق سرا وعلانية، والذي لا يملك شيئا ينفقه، لا يستويان في المثل، كما لا يستوي المنعم الذي جاءت من قبله النعمة، والأصنام الموات التي لا تقدر على النعمة. قوله تعالى: { الحمد لله }؛ أي قل الحمد لله الذي أوضح لنا السبيل والطريق، { بل أكثرهم }؛ الكفار، { لا يعلمون }؛ ذلك.
[16.76]
قوله تعالى: { وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم لا يقدر على شيء }؛ أي وضرب الله المثل برجلين؛ أحدهما أخرس لا يقدر على شيء من الكلام، ويقال الأبكم هو الذي ولد أصم لا يسمع ولا يفهم ولا يمكنه أن يفهم غيره، { وهو كل على مولاه }؛ اي ثقيل على وليه وصاحبه، { أينما يوجهه لا يأت بخير }؛ لا يهتدي إلى منفعة ولا إلى خير، { هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل }؛ ناطق متكلم آمر بالعدل، تام التمييز، { وهو على صراط مستقيم }؛ أي دين مستقيم، وهذا مثل للمؤمن والكافر.
[16.77]
قوله تعالى: { ولله غيب السموت والأرض ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير }؛ قيل: هذه الآية نزلت جوابا عن سؤال قريش: متى الساعة؟ وهي ظاهرة المعنى.
[16.78]
قوله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا }؛ أي أخرجكم جاهلين، { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة }؛ أي خلق لكم الحواس التي بها تعلمون نعمته وقدرته، { لعلكم تشكرون }.
[16.79]
قوله تعالى: { ألم يروا إلى الطير مسخرت في جو السمآء ما يمسكهن إلا الله }؛ أي ألم يروا إلى الطير مذللات في الهواء ما يمسكهن حتى يسقطن على الأرض إلا الله { إن في ذلك لأيت }؛ أي دلالات على وحدانية الله، { لقوم يؤمنون }.
[16.80]
قوله تعالى: { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا }؛ أي بيوت المدر والحجر مواضع تسكنون فيها، { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا }؛ وهي الخيام، { تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم } ، تخف عليكم نقلها وحملها من مكان إلى مكان، يوم سفركم ويوم إقامتكم، { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ }؛ وجعل لكم من أصواف الضأن، وأوبار الإبل، وأشعار الماعز، { أثاثا }؛ أي متاعا للبيت من الفرش والأكسية والبسط، { ومتاعا إلى حين }؛ أي منفعة تنتفعون بها إلى حين آجالكم.
[16.81]
قوله تعالى: { والله جعل لكم مما خلق ظلالا }؛ أي أشياء تستظلون بها مثل الأشجار ونحوها، { وجعل لكم من الجبال أكنانا }؛ وهي الكهوف والغيران يدخلها الناس ليسكنوا فيها من الحر والبرد.
قوله تعالى: { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر }؛ أي جعل لكم سرابيل يعني القميص من القطن والكتان والصوف يدفع عنكم الحر في الصيف والبرد في الشتاء. ولم يذكر البرد في الآية؛ لأنه لما ذكر الحر فقد دل به على ما في مقابلته من البرد.
قوله تعالى: { وسرابيل تقيكم بأسكم }؛ أراد به الدورع من الحديد يتقون بها في الحرب سلاح العدو، يعني الطعن والضرب والرمي.
قوله تعالى: { كذلك يتم نعمته عليكم }؛ في سائر الأشياء، كما أتمها عليكم في هذه الأشياء، { لعلكم تسلمون }؛ لكي تسلموا، قال ابن عباس: (معنى قوله تعالى { لعلكم تسلمون } أي لعلكم يا أهل مكة تعلمون أنه لا يقدر على هذا غير الله فتؤمنوا به وتصدقوا رسوله). وفي قراءة ابن عباس (لعلكم تسلمون) بنصب التاء من الجراحات إذا لبستم الدروع من الحديد، ومن الحر والبرد إذا لبستم القميص.
[16.82-83]
قوله تعالى: { فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين } أي إن أعرضوا عن الإيمان، فإنما عليك يا محمد البلاغ الظاهر، وهو أن تبلغ الرسالة، وتبين الدلالة، فلما ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه النعم، قالوا: أنعم يا محمد هذه كلها من الله؟
ثم قالوا: شفاعة آلهتنا، فأنزل الله تعالى قوله: { يعرفون نعمت الله }؛ أي يعرفون أن هذه النعم كلها من الله، { ثم ينكرونها } ، بإضافتها إلى الأوثان، ويشكرون الأوثان عليها. قوله تعالى: { وأكثرهم الكافرون }؛ أي كلهم يكفرون بالله وبنعمته، فذكر الأكثر والمراد به الجميع.
[16.84]
قوله تعالى: { ويوم نبعث من كل أمة شهيدا }؛ يعني يوم القيامة تشهد الأنبياء على أممهم بما فعلوا من التصديق والتكذيب، وتشهد العدول من كل عصر على أهل عصرهم. قوله تعالى: { ثم لا يؤذن للذين كفروا }؛ أي لا يؤذن لهم بعد شهادة الرسل في الاعتذار، { ولا هم يستعتبون }؛ ولا ينفعهم الاعتذار يومئذ ولا يجابون إلى الرد إلى الدنيا.
[16.85]
قوله تعالى: { وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم }؛ أي إذا رأوه بالدخول فيه، فلا نرفعه عنهم في وقت ونشدد في وقت، { ولا هم ينظرون }؛ ولا يؤجلون بتأخير العذاب إلى وقت آخر.
[16.86-87]
قوله تعالى: { وإذا رأى الذين أشركوا }؛ أي إذا رأى الذين أشركوا الأصنام مع الله في العبادة، { شركآءهم } ، يعني الأصنام، { قالوا ربنا هؤلآء }؛ الأصنام، { شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك }؛ التي أشركناها معك في العبادة، فألقى الأصنام { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } في أنا آلهة وفي أنا أمرناكم بالعبادة، { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } ، واستسلموا كلهم لأمر الله يومئذ، { وضل عنهم ما كانوا يفترون }. والفائدة في إعادة الأصنام يومئذ: أن يعيرهم الله بها، وأن يعذبهم بها في الدنيا.
[16.88]
قوله تعالى: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون }؛ الذين كفروا بالله ورسله، وصدوا عن سبيل الله بامتناعهم عنه ومنع الناس عنه، زدناهم عذابا فوق العذاب، قال ابن مسعود: (زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال)، وقيل: زيدوا حيات كأمثال الفيلة. وقيل: تجري فوق رؤوسهم أنهار من نحاس ذائب إذا وقع على كف الرجل اشتعل الجسد منه نارا، فليس فيها عذاب أشد منه.
[16.89]
قوله تعالى: { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم }؛ فيه بيان أن كل عصر لا يخلو من شهيد على الناس، { وجئنا بك }؛ يا محمد، { شهيدا على هؤلآء }؛ يعني قومه. قوله تعالى: { ونزلنا عليك الكتاب }؛ أي القرآن، { تبيانا لكل شيء }؛ من أمور الدين، { وهدى ورحمة وبشرى } وبشارة، { للمسلمين }.
[16.90]
قوله تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان }؛ يعني بالعدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال، ولا يفعل إلا ما هو عدل، ولا يقول إلا ما هو حسن، قال ابن عباس: (العدل شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض).
وقيل: العدل هو الإنصاف، ويدخل فيه إنصاف المرء من نفسه لغيره في الحقوق والأمانات، ومن نفسه لنفسه فيما يكون حقا عليه من شكر نعم الله، وأن لا يعبد غيره، وأن لا يصف الله بما لا يليق به من الصفات.
قوله تعالى: { والإحسان } يدخل في ذلك المتفضل على الغير، إما بالمال، وإما بالمعاشرة الجميلة من قول أو فعل، أو إكرام أو بحسب. قوله تعالى: { وإيتآء ذي القربى }؛ أي صلة الأرحام.
قوله تعالى: { وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }؛ فالفحشاء: الزنى، والمنكر: الشرك، والبغي: الظلم والكبر. وقيل: الفحشاء: ما عظم قبحه من قول أو فعل، سرا كان أو علانية، والمنكر: ما يظهر للناس، فيجب إنكاره، والبغي: الاستطالة والظلم.
وقيل في معنى الآية: إن الله يأمر بالعدل: بالتوحيد، والإحسان: الإخلاص، وقيل: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وقيل: الإحسان العفو عن الناس، وقيل: العدل: استواء السر والعلانية، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: تكون علانيته أحسن من سريرته.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على الوليد: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } فقال: يا ابن أخي أعد علي، فأعاد عليه فقال: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورف وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر. قوله تعالى: { يعظكم لعلكم تذكرون }؛ معناه يأمركم بثلاث أن تفعلوهن، وينهاكم عن ثلاث؛ لتنتهوا عنهن لعلكم تتعظون بما تؤمرون، وتحترزون عن التقصير.
[16.91]
قوله تعالى: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم }؛ أي أتموا العهود التي بينكم وبين الناس إذا حلفتم بالله تعالى، { ولا تنقضوا الأيمان }؛ العهود، { بعد توكيدها }؛ توثيقها باسم، { وقد جعلتم }؛ قلتم: { الله عليكم كفيلا }؛ شهيدا عليكم بالوفاء، { إن الله يعلم ما تفعلون }؛ من النقض والوفاء فيجزيكم عليه. وفي الآية دلالة على أن الرجل إذا قال: علي عهد الله إن فعلت كذا كان يمينا؛ لأنه تعالى ذكر العهد في أول الآية، ثم عقبه بقوله: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها }.
[16.92]
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا }؛ أي لا تكونوا في نقض العهود كالتي نقضت غزلها من بعد إبرام وإحكام، وهي امرأة من قريش أم أخنس بن شريق تعرف ب (ريطة الحمقاء)، كانت تغزل من الصوف والشعر والوبر بمغزل عظيم مثل طول الذراع وصنارة في رأس المغزل مثل طول الإصبع وفلكة عظيمة، فإذا غزلته وأبرمته أمرت جاريتها فنقضته. والأنكاث: جمع نكث، وهو ما تنقض من غزل الشعر والقطن ونحوهما، والمعنى: لا تكونوا في نقض الإيمان كهذه المرأة، غزلت غزلا، وأحكمته ثم نقضته فجعلته أنكاثا، والأنكاث: ما يقطع من الخيوط.
قوله تعالى: { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم }؛ أي تتخذون عهودكم دخلا وخديعة وغشا وخيانة بينكم. قوله تعالى: { أن تكون أمة هي أربى من أمة }؛ أي لأن تكون جماعة هي أعز وأكثر من جماعة، قال مجاهد: (إنهم كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء، ويحالفون الأكثر، فنهاهم الله عن ذلك).
وحاصل التأويل النهي عن أن تحلف على شيء وهو منطو على خلافه، وأن يغر غيره يمينه. قوله تعالى: { إنما يبلوكم الله به }؛ أي إنما يخبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد، { وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون }؛ في الدنيا من الحق والباطل.
[16.93]
قوله تعالى: { ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة }؛ أي أهل ملة واحدة ودين واحد، { ولكن يضل من يشآء ويهدي من يشآء }؛ بتوفيقه فضلا منه، { ولتسألن } ، يوم القيامة، { عما كنتم تعملون }؛ من الخير والشر.
[16.94]
قوله تعالى: { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم }؛ أي مكرا وخديعة، { فتزل قدم }؛ فتزلوا عن طاعة الله كما تزل قدم الرجل، { بعد ثبوتها } جعل الله زلة القدم عبارة عن سخط الله، وثبات القدم عبارة عن رضى الله.
وقيل: معنى قوله تعالى: { فتزل قدم بعد ثبوتها } أي فتهلكوا بعد أن كنتم آمنين، وقال ابن عباس: (فتزل عن الإيمان بعد المعرفة). قوله تعالى: { وتذوقوا السوء }؛ يعني العذاب، { بما صددتم عن سبيل الله }؛ أي بما منعتم الناس عن دين الله، { ولكم عذاب عظيم }؛ في الآخرة.
[16.95]
قوله تعالى: { ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا }؛ أي لا تختاروا الحلف بالله كذبا عرضا يسيرا من الدنيا، ولكن أوفوا بها، { إنما عند الله هو خير لكم } أي فإن ما عند الله من الثواب في الآخرة على الوفاء هو خير لكم مما عندكم، { إن كنتم تعلمون }؛ ثواب الله.
[16.96-97]
قوله تعالى: { ما عندكم ينفد }؛ أي يفنى ولا يبقى، { وما عند الله }؛ من الثواب في الآخرة على الوفاء، { باق } ، هو خير لكم مما عندكم يدوم ويبقى. قوله تعالى: { ولنجزين الذين صبروا }؛ قرأ ابن كثير وعاصم بالنون، وقرأ الباقون بالياء، ومعناه: الذين صبروا على الوفاء وعلى الطاعة، { أجرهم }؛ بالطاعات، { بأحسن ما كانوا يعملون }؛ دون إسرارها، ويعفو عن سيئاتها.
قال ابن عباس:
" (وذلك أن رجلا من حضرموت يقال له عيدان بن الأشوع قال: يا رسول الله إن الأشعث بن قيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطعها، فقال صلى الله عليه وسلم: " ليشهد لك أحد " قال: إن القوم كلهم يعلمون أني صادق، ولكنه أكرم عليهم مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشعث: " ما يقول صاحبك؟ " قال: الباطل والكذب يا رسول الله، قال: " أتحلف؟ " قال: نعم، فهم بالحلف.
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية: { ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا... } إلى آخر الآيتين. فقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأشعث فقال: أما ما عندي فينفذ، وأما ما بصاحبي فيجزى بأحسن ما كان يعمل، اللهم إنه صادق في ما قال، لقد اقتطعت أرضه، والله ما أدري كم هي، ولكن يأخذ ما شاء من أرضي ومثلها معها بما أكلت من ثمرها "
فأنزل الله هذه الآية بعد ذلك في الأشعث:
قوله تعالى: { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن }؛ أي من عمل صالحا فيما بينه وبين ربه وأقر بالحق وهو مع ذلك مؤمن { فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ، قيل: المراد بها القناعة بما يؤتى من الرزق الحلال، كما روي عن وهب بن منبه أنه قال: (الحياة الطيبة هي القناعة بما رزق).
وقيل: هي أن يكون صدره منفرجا بما يعتقده من دلائل الله تعالى، وبما يعرفه من وجوب مفارقة المعاصي، فيصير قليل الهم في أمور دنياه. وقيل: الحياة الطيبة الجنة؛ لأنه لم يطب لأحد حياة إلا فيها.
[16.98]
قوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي إذا أردت قراءة القرآن، ونظيره
إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
[المائدة: 6]، وقوله تعالى:
وإذا قلتم فاعدلوا
[الأنعام: 152].
وفائدة الأمر بالاستعاذة قبل القراءة نفي وسواس الشيطان عند القراءة، وقد أجمعت الفقهاء على أن الاستعاذة قبل القراءة إلا ما روي عن أبي داود بن علي ومالك أنهم قالوا: (الاستعاذة بعد القراءة) أخذوا بظاهر الآية.
[16.99-100]
قوله تعالى: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون }؛ أي إن الشيطان ليس له سلطنة على المؤمن إلا في الوسوسة، { إنما سلطانه على الذين يتولونه }؛ على الذين يقبلون دعاءه، { والذين هم به }؛ بالله، { مشركون }؛ فإنهم جعلوا له سلطانا على أنفسهم.
[16.101]
قوله تعالى: { وإذا بدلنآ آية مكان آية }؛ أي اذا نسخنا آية أو أتينا مكانها أخرى، { والله أعلم بما ينزل }؛ أي بمصالح العباد، ينزل في كل وقت ما هو الأصلح لهم، { قالوا }؛ أي قالت كفار قريش: { إنمآ أنت }؛ يا محمد، { مفتر بل أكثرهم لا يعلمون }؛ كاذب في الناسخ والمنسوخ، مختلق من تلقاء نفسك! وذلك أن المشركين قالوا: إنك يا محمد تسحر أصحابك، وتأمرهم اليوم بأمر وتنهاهم عنه غدا! قال الله: ولكن أكثرهم لا يعلمون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حقيقة القرآن.
[16.102]
قوله تعالى: { قل نزله روح القدس من ربك }؛ أي قل نزل القرآن جبريل من ربك، { بالحق ليثبت الذين آمنوا }؛ ويقويهم لإيمانهم؛ ليزدادوا تصديقا ويقينا، { وهدى وبشرى للمسلمين }.
[16.103-104]
قوله تعالى: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن كفار مكة كانوا يقولون: إن القرآن ليس من عند الله، وإنما يعلم النبي بشر، أرادوا بذلك جبرا ويسارا كانا عالمين نصرانيين، وكان صلى الله عليه وسلم يحدثهما ويعلمهما، وكانا يقرءآن كتابهما بالعربية، وكانا قد أسلما). وقيل: كانوا يعنون بقولهم (بشر): سلمان الفارسي.
قوله تعالى: { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي }؛ أي لسان الذي يميلون إليه ويزعمون أنه يعلمك أعجمي، { وهذا }؛ القرآن الذي يقرءونه، { لسان عربي مبين }؛ فكيف يقدر الأعجمي على تعليم مثله. قوله تعالى: { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله }؛ إلى ثوابه، { ولهم عذاب أليم }؛ وجيع في الآخرة.
[16.105]
قوله تعالى: { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون }؛ معناه: إنما يكذب على الله من لا يؤمن بدلائله، بين الله أن الذين نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الافتراء هم أحق به.
[16.106]
قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }؛ يجوز أن يكون من كفر رفعا على البدل من (الكاذبين)، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، وقوله تعالى { فعليهم غضب من الله } خبر له أو خبر لقوله { ولكن من شرح بالكفر صدرا }. والمراد بقوله { إلا من أكره }: عمار بن ياسر.
روي:
" أن المشركين أخذوه في طريق مكة، فعذبوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فلما فعل ذلك تركوه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدموع من عينيه، فأخبره القصة، فأنزل الله هذه الآية، فقال له صلى الله عليه وسلم: " كيف وجدت قلبك؟ " قال: مطمئنا بالإيمان. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن عادوا فعد " ".
وقوله عليه السلام:
" إن عادوا فعد "
على جهة الإباحة والرخصة دون الإيجاب، فإن المكره على الكفر إذا صبر حتى قتل كان أعظم لأجره، والإكراه السماح لإجراء كلمة الكفر على اللسان، وهو أن يخاف التلف على نفسه، أو على عضو من أعضائه إن لم يفعل ما أمر به.
قوله تعالى: { ولكن من شرح بالكفر صدرا } ، أي فسح صدره للكفر بالقبول وأتى به على الاختيار، { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } قيل: إنها نزلت في أبي سرح القرشي رجع إلى الشرك، وباح بالكفر ولحق بمكة.
[16.107]
قوله تعالى: { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة }؛ أي ذلك العذاب بأنهم اختاروا الحياة الدنيا على ثواب الآخرة، { وأن الله لا يهدي القوم الكافرين }؛ إلى جنته وثوابه.
[16.108-109]
قوله تعالى: { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون }؛ قد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { لا جرم أنهم }؛ أي حقا { في الآخرة هم الخاسرون }؛ أي خسروا أنفسهم.
[16.110]
قوله تعالى: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا }؛ نزلت في قوم بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم إنهم هاجروا إلى المدينة من بعد ما عذبهم أهل مكة، { ثم جاهدوا وصبروا }؛ مع النبي صلى الله عليه وسلم فصبروا على الجهاد، فوعدهم الله المغفرة لما كان فيهم من التخلف عن الهجرة.
وذلك أنهم كانوا مستضعفين بمكة وكانوا مؤمنين، فعذبهم أهل مكة حتى ارتدوا عن الإسلام ليسلموا من شرهم، ثم هاجروا من بعد ما فتنوا؛ أي من بعد ما عذبوا، ثم جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وصبروا على الجهاد، { إن ربك من بعدها }؛ تلك الفتنة وتلك الفعلة التي فعلوها من التلفظ بكلمة الكفر، { لغفور رحيم }؛ وقرأ ابن عامر (فتنوا) بفتح الفاء؛ أي فتنوا أنفسهم بإظهار ما أظهروا للفتنة.
[16.111]
قوله تعالى: { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها }؛ يجوز أن يكون { يوم } منصوبا بنزع الخافض أي في يوم تأتي كل نفس، ويجوز أن يكون المعنى: واذكر يوم تأتي كل نفس، وهو يوم القيامة، يجادل فيه كل إنسان عن نفسه، { وتوفى كل نفس }؛ برة أو فاجرة، { ما عملت وهم لا يظلمون } ، جزاء ما عملت من خير أو شر، لا ينقص من ثواب محسن، ولا يزاد على عقاب مسيء.
واختلفوا في المجادلة المذكورة في الآية، قال بعضهم: هو قول الكفار: ما كنا مشركين، وقولهم: ربنا هؤلاء أضلونا. ومعنى الآية: إن كل أحد لا تهمه إلا نفسه، فهو يخاصم ويحتج عن نفسه، لا يتفرغ إلى غيره.
[16.112]
قوله تعالى: { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة }؛ يعني مكة كان أهلها آمنين لا يهاج أهلها ولا يغار عليها، بخلاف قرى سائر العرب، لأن العرب كانت لا تقصد مكة احتراما لحرم الله، وقوله تعالى: { مطمئنة } أي قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا الانتقال، كما يحتاج إليه سائر العرب.
قوله تعالى: { يأتيها رزقها رغدا من كل مكان }؛ أي كان الرزق واسعا على أهل مكة يحمل إليهم من البر والبحر، كما قال تعالى
يجبى إليه ثمرات كل شيء
[القصص: 57]، { فكفرت }؛ فكفر أهل مكة، { بأنعم الله } ، حين كذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وخالفوه، وكذبوا بالقرآن بعد قيام الحجة عليهم، { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } ، فعاقبهم الله سبع سنين بالقحط، وخوفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن عساكره وسراياه، { بما كانوا يصنعون } ، من تكذيبه.
روي أنه بلغ بهم من الجوع ما لا غاية بعده حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب، وكان ذلك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسني يوسف "
فاستجاب الله دعاءه حتى صار أمرهم إلى هذه الحالة.
[16.113]
قوله تعالى: { ولقد جآءهم رسول منهم }؛ أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم، { فكذبوه فأخذهم العذاب }؛ الذي تقدم ذكره من الجوع والخوف، { وهم ظالمون }؛ وكانوا ظالمين لأنفسهم.
[16.114-115]
قوله تعالى: { فكلوا مما رزقكم الله حللا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم }؛ أي كلو يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله حلالا طيبا إلى آخر الآيتين، قد تقدم تفسيرهما في سورة البقرة.
[16.116-117]
قوله تعالى: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام }؛ أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة، فتحلوا الميتة، وتحرموا بعض الزرع والأنعام، كما تقدم ذكره في سورة الأنعام. قوله تعالى: { لتفتروا على الله الكذب }؛ أي لتكذبوا على الله بقولكم أن هذا من عند الله.
وقوله تعالى: { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون }؛ أي لا يظفرون بالمراد، ولا ينجون يوم القيامة، إنما لهم في الدنيا { متاع قليل }؛ ثم يتعقبهم، { ولهم عذاب أليم }.
[16.118]
قوله تعالى: { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل }؛ أراد به ما بينه الله في سورة الأنعام، وقد تقدم هناك، وفيه بيان أن التحريم الذي كان في اليهود كان من قبل الله، وأنه مخالف للتحريم الذي كان في كفار مكة. وقوله تعالى: { وما ظلمناهم }؛ أي وما ظلمناهم بتحريم ذلك، فإن تحريمها كان عقوبة لهم، ولا تكون العقوبة ظلما، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ بمخالفتهم أمر الله تعالى.
[16.119]
قوله تعالى: { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }؛ فيه بيان أن من ارتكب المعاصي، وخالف أمر الله، واستعمل الجهالة في ارتكابه، لم يمنعه ذلك من التوبة، فإنه إذا تاب وأصلح في المستقبل، محا الله عنه كل السيئات، قال ابن عباس: (كل سوء يعمله ابن آدم فهو جاهل فيه، وإن كان يعلم أن ارتكابه ركوب سيئة).
[16.120]
قوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا }؛ فيه بيان أن إبراهيم كان هو القدوة للناس بالخير، وسمي الإمام (أمة)؛ لأنه يجمع خصال الخير، ويقال للرجل المنفرد بدين لا يشركه فيه غيره: أمة، ويقال للعالم: أمة، والأمة: الرجل الجامع للخير.
قوله تعالى: { قانتا لله حنيفا } القانت: هو الدائم على الطاعة، والقنوت: هو الدوام على الطاعة، والقانت: هو المطيع، والحنيف قد تقدم تفسيره، { ولم يك من المشركين }؛ كما ادعاه كفار قريش، فإنهم يدعون أنهم يتبعون دين إبراهيم.
[16.121]
قوله تعالى: { شاكرا لأنعمه }؛ أي كان إبراهيم شاكرا لنعم الله عليه، وانتصب قوله { شاكرا } على البدل من قوله
أمة قانتا
[النحل: 120]. وقوله: { اجتباه }؛ أي اصطفاه بالنبوة واختاره، { وهداه إلى صراط مستقيم }؛ أي إلى دين الإسلام.
[16.122]
قوله تعالى: { وآتيناه في الدنيا حسنة }؛ قال ابن عباس: (يعني الذكر الحسن)، وقال الحسن: (هي النبوة)، وقال مجاهد: (لسان صدق في الآخرين) وقال مقاتل: (يعني الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قولهم: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم). قوله تعالى: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين }؛ أي مع المرسلين في الجنة .
[16.123]
قوله تعالى: { ثم أوحينآ إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين }؛ أي أمرناك يا محمد باتباع ملة إبراهيم في مجانبة الكفار، كما كان إبراهيم يتجنبهم.
فإن قيل: كيف يجوز أن يوصي الفاضل بمتابعة المفضول، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل الأنبياء؟ فكيف أمره الله بمتابعة إبراهيم عليه السلام؟ قيل: إن إبراهيم عليه السلام كان قد سبق إلى اتباع الحق، ولا يكون في سبق المفضول إلى اتباع الحق عيب على الفاضل في اتباعه.
[16.124]
قوله تعالى: { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }؛ وهم اليهود، وذلك أن موسى قال لبني إسرائيل: تفرغوا إلى الله في كل سبعة أيام يوما واحدا، فاعبدوه في يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه شيئا من أمور الدنيا، وستة أيام لمعايشكم وصنائعكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، وقالوا: لا نبتغي إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، يعنون السبت، فجعل ذلك عليهم فيه، وقالت جماعة منهم: بل أعظم الأيام يوم الأحد؛ لأنه اليوم الذي بدأ الله فيه بخلق الأشياء، فاختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم، أي تركوا تعظيم يوم الجمعة.
[16.125]
قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة }؛ أي أدع إلى سبيل دين الله { بالحكمة } يعني بالنبوة، { والموعظة } يعني القرآن، وقيل: التخويف بالعذاب على جهة إظهار الشفقة عليهم ليكون ذلك أقرب إلى إجابتهم. قوله تعالى: { وجدلهم بالتي هي أحسن }؛ أي بالرفق واللطف، وذكر أحسن ما عنده من الحجج، وأعرض عن أذاهم، ولا تقصر في أداء الرسالة والدعاء إلى الحق، قيل: إن هذه الآية نسختها آية السيف. وقوله تعالى: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين }؛ أي هو أعلم بمن يقبل الهدى ومن لا يقبله، فيجزي كلا على ما عمل.
[16.126]
قوله تعالى: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }؛ وذلك
" أن حمزة ابن عبدالمطلب وأصحابه الذين قتلوا يوم أحد مثل بهم المشركون، عمدوا إلى حمزة فشقوا بطنه، وأخذت منه هند بنت عتبة كبده، فجعلت تلوكها ثم تطرحها، وقطعوا مذاكيره وجدعوا أنفه وأذنيه، ومثلوا به أشد المثلة، وكذلك سائر شهداء أحد مثل بهم المشركون، بقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم.
فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة لم ينظر إلى شيء قط أوجع إلى قلبه منه، فقال: " رحمة الله عليك، فإنك كنت فعالا للخير، وصالا للرحم، والله لئن أظفرني الله بهم لأقتلن بك سبعين منهم، ولأمثلن سبعين منهم " وقال المسلمون: والله لئن أمكننا الله منهم، لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات. فأنزل الله تعالى هذه الآية { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين }؛ فقال صلى الله عليه وسلم: " أصبر ولا أمثل " وكفر عن يمينه "
، فنزل قوله تعالى: { واصبر وما صبرك إلا بالله }؛ أي ما صبرك إلا بمعونة الله وتوفيقه، ولا تقدر على الصبر في الحزن الذي لحقك بسبب الشهداء، إلا أن يسهل الله عليك.
[16.127-128]
قوله تعالى: { ولا تحزن عليهم }؛ أي لا تحزن على الكفار إذا امتنعوا من الاستجابة لك. وقيل: لا تحزن على الشهداء، فإن الله أنزلهم منازلهم في الجنة، لو رأيتهم في الكرامة التي أكرمهم الله بها لغبطتهم عليها. قوله تعالى: { ولا تك في ضيق مما يمكرون }؛ أي لا يضيق صدرك من مكرهم، فيكون ذلك شاغلا عن ما كلفته من الدعاء إلى سبيل ربك. قوله تعالى: { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }؛ أي مع المتقين المحسنين، وهم المسلمون ينصرهم ويظهرهم على الكفار ويعينهم عليه.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1]
قوله تعالى: { سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله }؛ أي سبحان الذي أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة من مسجد مكة إلى مسجد بيت المقدس.
وسمي مسجد بيت المقدس المسجد الأقصى؛ لأنه لم يكن وراءه مسجد يعبد الله فيه. وقيل: لأنه أبعد المساجد التي تزار، قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق... "
وذكر حديث المعراج.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (أسري به من بيت أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي كرم الله وجهه، والحرم كله مسجد). وعن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ أنها كانت تقول: (ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيت)، قال مقاتل: (كان الإسراء قبل الهجرة بسنة).
قوله تعالى: { الذي باركنا حوله } صفة بيت المقدس، بارك الله فيما حوله بالأشجار والأثمار والأنهار حتى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر: وقيل: يعني { باركنا حوله }: جعلناه موضعا للأنبياء عليهم السلام، وفيه مهبط الملائكة، وفيه الوحي، وفيه الصخرة. قوله تعالى: { لنريه من آياتنآ }؛ أي من عجائب قدرتنا، { إنه هو السميع }؛ لمقالة قريش وإنكارهم { البصير }؛ بهم وبأعمالهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لما كان ليلة أسري بي وأنا بين النائم واليقظان، جاءني جبريل عليه السلام وقال لي: يا محمد قم، فقمت فإذا جبريل معه ميكائيل، فقال لي: توضأ، فتوضأت، ثم قال لي: انطلق يا محمد، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى ربك. فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد، فإذا بالبراق دابة فوق الحمار ودون البغل، خده كخد الإنسان، وذنبه كذنب البعير، وأظلافه كأظلاف البقر، وصدره كأنه ياقوتة حمراء، وظهره كأنه درة بيضاء، عليه رحل من رحال الجنة، خطوه منتهى طرفه. فقال لي: اركب، فلما وضعت يدي عليه شمس، فقال جبريل: مهلا يا براق؛ أما تستحي! فوالله ما ركبك نبي أكرم على الله من هذا، هو محمد صلى الله عليه وسلم. فارتعش البراق، وتصبب عرقا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خفض حتى لزق بالأرض، فركبته واستويت على ظهره.
قام جبريل نحو المسجد الأقصى يخطو مد البصر، والبراق يتبعه لا يفوت أحدهما الآخر حتى أتيت بيت المقدس، فإذا بالملائكة قد نزلوا من السماء يتلقوني بالبشارة والكرامة من عند الله، فلما وصلت باب المسجد أنزلني جبريل، وربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، وكان للبراق خطام من حرير الجنة، فصليت في المسجد ركعتين، والملائكة خلفي صفوفا يصلون معي.
ثم أخذ جبريل بيدي، وانطلق بي إلى الصخرة فصعد بي عليها. وإذا معراج أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء، إحدى عارضيه من ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء، ودرجه زمرد مكلل بالدر والياقوت، فاحتملني جبريل حتى وضعني على جناحيه، ثم صعد بي ذلك المعراج حتى وصل بي إلى السماء الدنيا.
فقرع الباب فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: من معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. ففتحوا الباب فدخلنا، فقالوا: مرحبا ولنعم المجيء جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيت على آدم فسلمت عليه، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أبوك آدم، فسلمت عليه فقال: مرحبا بك، بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الثانية، فاستفتح جبريل ففتحوا لنا وقالوا: مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولنعم المجيء جاء رسول الله، فأتيت على عيسى ويحيى فقلت: يا جبريل من هذان؟ قال: عيسى ويحيى ابنا الخالة، فسلمت عليهما، فقالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم انطلقنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل، فقالوا: من هذا؟ قال: جبريل ومعي محمد صلى الله عليه وسلم، ففتحوا وقالوا: مرحبا به ولنعم المجيء جاء، قال: فأتيت على يوسف عليه السلام فقال: مرحبا بالأخ الصالح.
ثم أتينا السماء الرابعة فكان من الاستفتاح والجواب مثل ما تقدم، فوجدت إدريس فقال لي: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. وفي السماء الخامسة وجدت هارون فقال لي كذلك، وفي السماء السادسة وجدت موسى فقال لي كذلك، وفي السماء السابعة وجدت إبراهيم فقال لي: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإن نبقها مثل قلال هجر، وورقها كأذان الفيلة، ورأيت أربعة أنهار تجري من أصلها، فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: النهران الباطنان في الجنة، وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات، وفيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله، ومقام جبريل في وسطها، فلما انتهيت إليها فقال لي جبريل: تقدم، فقلت: تقدم أنت يا جبريل! فقال: بل تقدم أنت يا محمد؛ فأنت أكرم على الله مني.
قال: فتقدمت وجبريل على إثري حتى انتهائي إلى حجاب من ذهب، فحركه، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل ومعي محمد، فأخرج الملك يده من تحت الحجاب، فاحتملني وتخلف جبريل، فقلت: إلى أين؟ فقال: وما منا إلا له مقام معلوم، وإنما أذن لي في الدنو من الحجاب لإكرامك وإجلالك. فانطلق بي الملك في أسرع من طرفة عين إلى حجاب آخر، فحركه فقال الملك: من هذا؟ فقال: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم معي، فأخرج يده من الحجاب، فاحتملني حتى وسعني بين يديه.
فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتى سبعين حجابا، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة سنة، وما بين الحجاب إلى الحجاب خمسمائة سنة، ثم احتملت إلى العرش "
فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حيث شاء الله، ورأى من العجائب والقدرة ما شاء الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أمرت بخمسين صلاة كل يوم، فأقبلت حتى أتيت موسى، فسألني: بم أمرت؟ فقلت: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال: فرجعت إلى ربي فحط عني خمسا، فأقبلت حتى أتيت موسى فذكرت له ذلك، فقال لي: ارجع فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فحط عني خمسا أخرى، فلم أزل كذلك يقول لي موسى: ارجع واسأله التخفيف، وأنا أرجع حتى بقيت خمس صلوات، فقال لي موسى: اسأله التخفيف، فقلت له: لقد رجعت حتى استحييت من ربي، فنوديت: أن قد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي وجعلت كل حسنة بعشر أمثالها ".
قال ابن عباس:
" (فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الليل إلى مكة وأخبر قريشا كذبوه، ثم سألوه عن صفة بيت المقدس وما كان عن يمينه حين دخل، وما كان عن يساره حين خرج، وما استقبله، فأخبرهم بصفاتها كلها، وقال: " مررت على عير بني فلان، وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه " قالوا: فأخبرنا عن عيرنا نحن، قال: مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ قال: " كذا وكذا، وفيها فلان، وتقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطان، تطلع عليكم عند طلوع الشمس ".
قال: فخرجوا يشتدون نحو التثنية وهم يقولون: لقد وصف محمد شيئا فسنكذبه، فلما أتوا كداء جلسوا عليها، فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه، إذ قائل منهم يقول: هذه والله الشمس قد طلعت، وقال آخر: وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق، فيها فلان وفلان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا) ".
وسعى ناس من المشركين إلى أبي بكر وقالوا: هذا صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى الشام في ليلة واحدة، ورجع قبل الصبح، قال: (فكيف لا أصدقه على ذلك؟!) قالوا: أتصدقه أنه ذهب إلى الشام؟ فقال: (إن كان قال ذلك فقد صدق) قالوا: أتصدقه أنه ذهب إلى الشام في ليلة واحدة ورجع قبل الصبح؟ قال: (فكيف لا أصدقه على ذلك) فسمي أبا بكر الصديق. وأما المشركون فقالوا: ما سمعنا بهذا قط، إن هذا إلا سحر مبين.
فإن قيل إنما قال الله { أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } فلم قلتم أسرى به إلى السماء؟ قلنا: الأخبار في ذلك متواترة ظاهرة، وما ذكره في سورة النجم دليل على صحة ذلك.
[17.2]
قوله تعالى: { وآتينآ موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل }؛ أي أعطينا موسى التوراة وجعلناه دلالة لبني إسرائيل، { ألا تتخذوا من دوني وكيلا }؛ ربا، ولا تتوكلوا على غيري، ومن قرأ { ألا تتخذوا } بالتاء، فهو على الخطاب بعد الغيبة مثل
الحمد لله رب العالمين
[الفاتحة: 2] ثم قال:
إياك نعبد وإياك نستعين
[الفاتحة: 5].
[17.3]
قوله تعالى: { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا }؛ أي يا ذرية من حملنا مع نوح، والناس كلهم ذرية نوح، ثم اثنى على نوح فقال: { إنه كان عبدا شكورا } لنعم الله، كان إذا أكل أو شرب أو اكتسى أو احتذى قال: الحمد لله.
[17.4]
قوله تعالى: { وقضينآ إلى بني إسرائيل في الكتاب }؛ أي أخبرناهم في التوراة، { لتفسدن في الأرض مرتين }؛ أي لتعصن كرتين بقتل النفوس، وتخريب الديار، وأخذ الأموال، { ولتعلن علوا كبيرا }؛ ولتظلمن ظلما عظيما.
[17.5]
قوله تعالى: { فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولي بأس شديد }؛ أي سلطنا عليكم عبادا لنا ذوي عدة في القتال، { فجاسوا خلال الديار }؛ قال ابن عباس: (وهم بختنصر وأصحابه المجوس، سلطهم الله على بني إسرائيل حين عصت في أول الفسادين، فقتل منهم بختنصر أربعين ألفا ممن كان يقرأ التوراة، ودخل ديارهم وطلبهم طلبا شديدا حتى كانوا ينظرون في الأزقة والبيوت، هل بقي أحد لم يقتلوه، واستأسروا من بقي بعد الأربعين ألفا، ومضوا بهم إلى بلادهم، فمكث الأسراء في أيديهم تسعين سنة حتى مات بختنصر). قوله تعالى: { وكان وعدا مفعولا }؛ أي وعدا كائنا لا محالة.
[17.6]
قوله تعالى: { ثم رددنا لكم الكرة عليهم }؛ أي جعلنا لكم الدولة والرجعة عليهم، { وأمددناكم بأموال وبنين }؛ أي وأعطيناكم أموالا وبنين، { وجعلناكم أكثر نفيرا }؛ أي أكثر عددا ينفرون إليهم.
وذلك أن رجلا من أهل الكتاب يقال له: كورش غزا أرض بابل، وهي بلاد بختنصر، فظهر عليهم فقتلهم وسكن ديارهم، وتزوج امرأة من بني إسرائيل أخت ملك بني إسرائيل، فطلبت من زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم ففعل، فمكث في بيت المقدس مائتين وعشرين سنة، وقامت بينهم الأنبياء، ورجعوا الى أحسن ما كانوا عليه، فذلك قوله تعالى: { ثم رددنا لكم الكرة عليهم }.
وعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:
" إن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا الأنبياء، بعث الله عليهم ملك الروم بختنصر، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرهم وفتحها، فقتل على دم يحيى بن زكريا أربعين ألفا - وقيل: سبعين ألفا - وسبى أهلها، وسلب حلي بيت المقدس، وكان سليمان ابن داود قد بناه من ذهب وياقوت وزبرجد، وعموده ذهب، أعطاه الله ذلك وسخر الشياطين له يأتونه بهذه الأشياء.
ثم سار بختنصر بالأسارى حتى نزل بابل فأقام بنو إسرائيل في مدته سنة تتعبد المجوس وأبناء المجوس، ثم إن الله تعالى رحمهم فسلط ملكا من ملوك فارس يقال له كورش وكان مؤمنا، فسار إليهم فاستنقذ بني إسرائيل منهم، واستنقذ حلي بيت المقدس حتى رده إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين الله زمانا، ثم عادوا إلى المعاصي، فسلط الله عليهم ملكا آخر وحرق بيت المقدس وسباهم ".
قوله تعالى:
فإذا جآء وعد أولاهما
[الإسراء: 5] يعني أولى المرتين، واختلفوا فيها، فعلى قول قتادة: (إفسادهم في المرة الأولى ما تركوا من أحكام التوراة، وعصوا ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى، وركبوا المحارم).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه (أن الفساد الأول قتل زكريا)، وقيل: قتلهم شعيا نبي الله في الشجرة، قال ابن اسحاق: (إن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل، وإنما المقتول شعيا).
قوله تعالى:
بعثنا عليكم عبادا لنآ
[الإسراء: 5] يعني جالوت وجنوده، وقال ابن اسحاق: (بختنصر البابلي وأصحابه، أولي بأس شديد؛ أي ذوي بطش شديد في الحرب، فجاسوا خلال الديار؛ أي طافوا وداروا). وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، قال حسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد
فجاس به الأعداء عرض العساكر
وقيل: (فجاسوا) أي طلبوا من فيها كما تجاس الأخبار.
وقوله تعالى:
فإذا جآء وعد الآخرة
[الإسراء: 7] أي المرة الآخرة، وهو قصدهم قتل عيسى حين رفع، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام، فسلط الله عليهم ططوس بن استيباتيوس فارس والروم حين قتلوهم وسبوهم، فذلك قوله تعالى:
ليسوءوا وجوهكم
[الإسراء: 7].
[17.7]
قوله تعالى: { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم }؛ أي منفعة إحسانكم راجعة إليكم، { وإن أسأتم فلها }؛ أي فإلى أنفسكم، ولم يقل فإليها على جهة المقابلة للكلام الأول، ومثل هذه الحروف قد تقام بعضها مقام بعض، كما في قوله تعالى:
بأن ربك أوحى لها
[الزلزلة: 5] أي إليها.
قوله تعالى: { فإذا جآء وعد الآخرة }؛ أي وعد المرة الآخرة في الفساد، { ليسوءوا وجوهكم }؛ بالقتل والسبي، { وليدخلوا المسجد }؛ أي مسجد بيت المقدس، { كما دخلوه }؛ دخله بختنصر وأصحابه، { أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا }؛ أي وليخربوا ما علوا عليه تخريبا، والتبار والرماد والهلاك بمعنى واحد.
ذلك أن الله سلط عليهم بعد مائتين وعشرين سنة ططوس بن استيباتوس الرومي، فحاصرهم وقتل منهم مائة ألف وثمانين، وخرب بيت المقدس، وذلك بعد قتلهم يحيى عليه السلام، فلم يزل كذلك خرابا إلى أن بناه المسلمون، فلم يدخله رومي بعد ذلك إلا خائفا، كما قال تعالى:
أولئك ما كان لهم أن يدخلوهآ إلا خآئفين
[البقرة: 114].
وذهب بعضهم إلى أن بختنصر غزا بني إسرائيل مرتين، ففتح مدينتهم في المرة الأولى، وجاسوا خلالها يقتلون فيهم، فتابت بنو إسرائيل إلى الله تعالى فأظهرهم الله تعالى على بختنصر فرد عنهم، ثم بعث الله إلى بني اسرائيل (أرضيا) النبي عليه السلام، فقام فيهم بوحي الله تعالى، فضربوه وقيدوه وحبسوه، فسلط الله عليهم بختنصر مرة أخرى ففعل ما فعل.
[17.8]
قوله تعالى: { عسى ربكم أن يرحمكم }؛ أي بعد استقامة منكم، { وإن عدتم }؛ لمعصية، { عدنا }؛ إلى العقوبة، قال قتادة: (فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فعاد الله عليهم بالعقوبة بإذلالهم بأخذ الجزية والقتل، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون). قوله تعالى: { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا }؛ أي محتبسا من قولك: حصرته فهو محصور إذا حبسته، وقيل: فراشا ومهادا تشبيها بالحصير الذي يبسط ويفرش.
[17.9-10]
قوله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }؛ أي يهدي للحالة التي هي أقوم الحالات، والطريقة التي هي أصوب، وقيل: يرشد إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات، وهي كلمة التوحيد والطاعة لله تعالى والإيمان به وبرسله.
قوله تعالى: { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا }؛ ثوابا عظيما وهو الجنة، { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما }؛ أي إن الذين لا يؤمنون بالآخرة يبشرهم بعذاب أليم وهو النار.
[17.11]
قوله تعالى: { ويدع الإنسان بالشر دعآءه بالخير }؛ أي يدعو على نفسه وعلى ولده بالسوء عند الضجر والغضب، فيقول: اللهم العنه اللهم أهلكه ونحو ذلك، كدعائه ربه بأن يهب له العافية والنعمة، ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده، فلو استجاب الله له إذا دعاه باللعن والهلاك، كما يستجاب له إذا دعاه بالخير لهلك، ولكن الله تعالى بفضله لا يستجيب له، ونظير هذا
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم
[يونس: 11].
قوله تعالى: { وكان الإنسان عجولا }؛ أي عجولا في الدعاء بما يكره أن يستجاب له، وقال ابن عباس: (معناه ضجورا لا صبر له على السراء والضراء). وقيل: أراد به آدم عليه السلام لما نفخ في الروح فبلغ إلى رجليه، قصد القيام قبل أن يجري فيه الروح فسقط، فقيل له: لا تعجل).
[17.12]
قوله تعالى: { وجعلنا اليل والنهار آيتين }؛ أي علامتين تدلان على قدرة خالقهما، { فمحونآ آية اليل }؛ أي ضوء القمر، قال ابن عباس: (أراد به السواد الذي في القمر، وذلك أن الله خلق القمر أول ما خلقه على صورة الشمس، وكانت شمس بالليل وشمس بالنهار، وكان لا يعرف الليل من النهار، فأمر الله جبريل فمسح بجناحيه شمس الليل فذهب ضوءها، وبقي علامة جناحه وهو السواد الذي يرونه في جوف القمر).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: (جعل الله نور الشمس سبعين جزءا، ونور القمر سبعين جزءا، فأمحي من نور القمر تسعة وستون جزءا فجعلها من نور الشمس، فصار ضوء الشمس مائة وثلاثين جزءا، والقمر جزءا واحدا).
قوله تعالى: { وجعلنآ آية النهار مبصرة }؛ وهي الشمس مبصرة مضيئة منيرة، { لتبتغوا فضلا من ربكم }؛ أي لتسكنوا بالليل، وتطلبوا معايشكم بالنهار، إلا أنه حذف لتسكنوا بالليل؛ لأنه ذكره في موضع آخر، { ولتعلموا عدد السنين والحساب }؛ أي جعلنا ذلك لتعلموا حساب الشهور والأيام ومواقيت الصلاة والصيام والحج، يعني بمحو آية الليل، { وكل شيء }؛ من الأمر والنهي والحلال والحرام، { فصلناه تفصيلا }؛ أي بيناه في القرآن؛ ليكون أقرب إلى معرفتكم، وبيناه تبيينا؛ لئلا يلتبس بغيره.
[17.13]
قوله تعالى: { وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه }؛ أي ألزمناه عمله من خير أو شر في عنقه، فجعلنا جزاء عمله لازما له، كما يقال: هذا الحق في عنق فلان وفي ذمته، قال مجاهد: (مكتوب في ورقة معلقة في عنقه شقي أو سعيد) روى الحكم عن مجاهد: (ما من مولود إلا وفي عنقه مكتوب شقي أو سعيد).
وفي الآية تشبيه العمل بالطائر الذي يجيء من ناحية اليمين فيتبرك به، والذي يجيء من ذات الشمال فيتشاءم به، وأما الإضافة إلى العنق دون سائر الأعضاء؛ فلأن ما يتزين به من طوق أو ما يشين من غل فإنما يضاف إلى الأعناق.
قوله تعالى: { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا }؛ أي يرفع الله يوم القيامة كتابه يرى فيه جزاء أعماله، قرأ الحسن ومجاهد: (ونخرج) على ما لم يسم فاعله، على معنى: ونخرج له الطائر كتابا. وانتصب قوله (كتابا) على الحال.
وقرأ أبو جعفر: (ويخرج) بالياء مسمى الفاعل؛ أي ويخرج له الطائر يوم القيامة. وقرأ يحيى بن وثاب (ويخرج) بضم الياء وكسر الراء، المعنى: ويخرج الله له كتابا، وقرأ الحسن ومجاهد: (ألزمناه طيره) بغير ألف، وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه فاعله، وما هو صائر إليه من شقاوة أو سعادة. قوله تعالى: (يلقاه منشورا) قرأ أبو جعفر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، يعني يلقى الإنسان ذلك الكتاب الذي يؤتى، وقرأ الباقون بالتخفيف؛ أي يراه منشورة فيه حسناته وسيئاته.
قال ابن عباس (يعطى المؤمن كتابا بيمينه وهي صحيفته، يقرأ فيها حسناته وسيئاته في بطنها: عملت كذا، وقلت كذا في سنة كذا، في شهر كذا، في يوم كذا، في ساعة كذا، في مكان كذا. فإذا انتهى إلى أسفلها قيل له: قد غفر الله لك، إقرأ ما في ظاهرها، فيقرأ حسناته فيسره ما يرى فيها، ويشرق لونه عند ذلك
فيقول هآؤم اقرءوا كتبيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه
[الحاقة: 19 - 20]).
قال: (ويعطى الكافر كتابه بشماله، فيقرأ حسناته في باطنها، فيجد عملت كذا في سنة كذا، في شهر كذا، في يوم كذا، في ساعة كذا. فإذا انتهى إلى آخرها قيل له: هذه حسناتك قد ردت عليك، إقرأ ما في ظاهر كتابك، فيرى ما في ظاهر كتابه كل سيئاته، كل صغيرة وكبيرة، فيسود وجهه وتزرق عيناه، ويقول عند ذلك
يليتني لم أوت كتبيه * ولم أدر ما حسابيه
[الحاقة: 25 - 26]).
[17.14]
قوله تعالى: { اقرأ كتبك }؛ أي يقال له اقرأ كتابك، قال الحسن: (يقرؤه أميا كان أو غير أمي)، وقال قتادة: (يقرؤه يومئذ من لم يكن قارئا). قوله تعالى: { كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا }؛ أي محاسبا، وإنما جعل محاسبا لنفسه؛ لأنه إذا رأى أعماله كلها مكتوبة، ورأى خير أعماله مكتوبا لم ينقص من ثوابه شيء، ولم يزد على عقابه شيء كفاه ذلك في الحساب، وكان الحسن يقول: (يا ابن آدم لقد عدل عليك من جعلك لنفسك حسيبا).
[17.15]
قوله تعالى: { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه }؛ أي منفعة هدايته راجعة إليه، { ومن ضل فإنما يضل عليها }؛ أي ومن ضل في الدنيا، فإن وبال ضلاله راجع إليه، { ولا تزر وازرة وزر أخرى }؛ أي لا يحمل أحد حمل غيره، فلا يؤخذ بذنب غيره، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }؛ إقامة للحجة، وقطعا للعذر.
[17.16]
قوله تعالى: { وإذآ أردنآ أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها }؛ أي إذا أردنا الحكم بهلاك قرية، { أمرنا مترفيها } جبابرتها ورؤساءها بالطاعة فعملوا بالمعاصي، وهذا كما يقال للرجل: أمرتك فعصيتني، يعني أمرتك لتطيعني فخالفتني.
وإنما ذكر الرؤساء دون المتبوعين؛ لأن غيرهم تبع لهم، فيكون الأمر لهم بالطاعة أمر للأتباع. وقرأ مجاهد وأبو رجاء (أمرنا) بالتشديد؛ أي جعلنا لهم إمرة وسلطانا. وقوله تعالى: { فحق عليها القول }؛ أي وجب عليها القول بالعذاب، { فدمرناها تدميرا }؛ أي أهلكناها هلاكا.
[17.17]
قوله تعالى: { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح }؛ أي أهلكنا قرونا كثيرة بعد نوح، قال ابن عباس: (القرن مائة وعشرون سنة)، وقال المازني: (مائة سنة)، وقوله تعالى: { وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا }؛ ظاهر المعنى.
[17.18]
قوله تعالى: { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشآء لمن نريد }؛ أي من كان همه مقصورا على طلب الدنيا دون الآخرة، نحو أن يكون يريد بالجهاد الغنيمة وبعمله الذي فرضه الله عليه في الدنيا ويغنمها خاصة، عجلنا له في الدنيا ما نشاء من عرض الدنيا لا ما يشاء العبد، ولمن يريد أن يعطيه لا لكل من يطلب، فأدخل الله تعالى في إعطاء المراد من العاجلة استثناء من استثناء في العطية ، واستثناء في المعطين؛ لئلا يثق الطالبون للدنيا بأنهم لا محالة سينالون بسعيهم ما يريدون.
قوله تعالى: { ثم جعلنا له جهنم }؛ أي بهذا الذي لم يرد الله بعمله، { يصلاها }؛ أي يدخلها، { مذموما }؛ بذم نفسه ويذمه الناس، { مدحورا }؛ أي مطرودا مبعدا من كل خير.
[17.19]
قوله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن }؛ شرط الله تعالى في ذلك ثلاثة شرائط: أحدها: أن يريد بعمله ثواب الآخرة بالإخلاص في النية.
والثاني: أن يسعى في العمل الذي يستحق به ثواب الآخرة. والثالث أن يكون مؤمنا؛ لأنه إذا كان كافرا لا ينتفع بشيء من عمله.
قوله تعالى: { فأولئك كان سعيهم مشكورا }؛ أي تضعف لهم الحسنات، وتمحى عنهم السيئات، وترفع لهم الدرجات، وقال مجاهد: (شكره أن يثبهم على طاعتهم له، ويعفو عن سيئاتهم).
[17.20]
قوله تعالى: { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطآء ربك }؛ أي كل واحد من الفريقين ممن يريد الدنيا، وممن يريد الآخرة نمده من رزق ربك، { وما كان عطآء }؛ رزق، { ربك محظورا }؛ أي محبوسا من البر والفاجر. وفي هذا بيان أن نعم الدنيا مشتركة بينهم، بخلاف نعم الآخرة التي هي خاصة للمتقين، ألا ترى أن سائر نعم الله من الشمس والقمر؛ والهواء والماء؛ والنبات والحيوانات؛ والأغذية والأدوية؛ وصحة الجسم والعافية؛ وغير ذلك شاملة للمؤمن والكافر.
[17.21]
قوله تعالى: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض }؛ أي انظر يا محمد كيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق في الدنيا بالمال والخدم، منهم المقل ومنهم المكثر، هذا في الدنيا، { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا }؛ أي ولدرجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا، وفضائل الآخرة وثوابها أرفع مما فضلوا في الدنيا، فينبغي أن يكون سعيهم للآخرة أكثر.
[17.22]
قوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلها آخر }؛ قيل: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به كافة المكلفين كما في قوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65]. وقيل: هو خطاب للإنسان، كأنه قال: لا تجعل أيها الإنسان مع من له العطايا عاجلا وآجلا إلها آخر، { فتقعد }؛ فتبقى في جهنم، { مذموما مخذولا }؛ لا ناصر لك.
[17.23]
قوله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا }؛ برا بهما وعطفا عليهما، وقوله تعالى: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما }؛ أي إن عاشا عندك أيها الإنسان حتى يكبرا، وقرأ حمزة والكسائي (يبلغان)؛ لأن الوالدين قد ذكر قبله.
قوله تعالى: { فلا تقل لهمآ أف }؛ تقذرا حين ترى منهما شيئا من الأذى، بل أمط عنهما كما كانا يميطان عنك في حالة الصغر، والأف هو وسخ الأظفار، والتف وسخ الأذن، والمعنى: لا تتأذى بهما، كما لم يكونا يتأذيان بك، قال صلى الله عليه وسلم
" لو علم الله شيئا من العقوق أدنى من أف لحرمه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل، فلن يدخل الجنة. وليعمل البار ما شاء أن يعمل، فلن يدخل النار ".
قوله تعالى: { ولا تنهرهما }؛ أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح في وجوههما، ولا تكلمهما ضجرا، { وقل لهما قولا كريما }؛ أي يكون فيه كرامة لهما كقول العبد المذنب للسيد الغليظ، كذا قال ابن المسيب، وقال عطاء: (لا تشتمهما ولا تبكيهما، وقل لهما: يا أبتاه، يا أماه).
[17.24]
قوله تعالى: { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة }؛ أي وكن لهما متضرعا متذللا، فإن خفض الجناح عبارة عن الخضوع، والمبالغة في التذلل والتواضع، وعن عطاء أنه قال: (جناحك يدك، فلا ينبغي لك أن ترفع يديك عند أبويك، ولا أن تحد بصرك عليهما تعظيما لهما).
وعن عروة بن الزبير قال: (ما أبر والده من أحد النظر إليه). وقيل: خفض الجناح عبارة عن السكون، قرأ الحسن وسعيد بن جبير وعاصم: (جناح الذل) بكسر الذال؛ أي لا تستصعب معهما.
قوله تعالى: { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا }؛ وهذا أمر بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة إذا كانا مسلمين، والمعنى: رب ارحمهما مثل رحمتهما أياي في صغري حتى ربياني، وقال قتادة: (هكذا علمتم، بهذا أمرتم).
قال صلى الله عليه وسلم:
" رضا الله مع رضا الوالدين، وسخط الله مع سخط الوالدين "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" " من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح، أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن كان واحدا فواحد. ومن أمسى مسخطا لوالديه وأصبح، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار، وإن كان واحدا فواحد " فقال رجل: يا رسول الله فإن ظلماه؟ قال: " وإن ظلماه؛ وإن ظلماه؛ وإن ظلماه " ثلاث مرات ".
[17.25]
قوله تعالى: { ربكم أعلم بما في نفوسكم }؛ أي هو أعلم بما في قلوبكم من الرحمة عليهما، والمعنى: ربكم أعلم بما تضمرون من البر والعقوق، فمن ندرت منه نادرة وهو لا يضمر عقوقا غفر الله له ذلك. قوله تعالى: { إن تكونوا صالحين }؛ أي إن تكونوا مطيعين لله تعالى، { فإنه كان للأوابين غفورا }؛ أي للراجعين من الذنوب إلى طاعة الله، النادمين على المعاصي والزلات. والأواب: هو الذي يتوب مرة بعد مرة، كلما أذنب بادر إلى التوبة. وعن مجاهد: (أن الأواب: هو الذي يذكر ذنبه في الخلاء فيستغفر منه).
[17.26-27]
قوله تعالى: { وآت ذا القربى حقه }؛ قال ابن عباس: (أراد بذي القربى قرابة الإنسان، وحقه ما يصل به رحمه). وقال بعضهم: أراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وحقهم هو الحق الذي يجب لهم من الخمس. والتأويل الأول أقرب إلى ظاهر الآية؛ لأن ذكر القرابة معطوف على ذكر الوالدين، وذلك عام في جميع الناس. قوله تعالى: { والمسكين وابن السبيل }؛ أي وآت المسكين وابن السبيل حقهم الذي وجب لهم من الزكاة والعشر وغيرهما.
قوله تعالى: { ولا تبذر تبذيرا }؛ التبذير: تفريق المال في المعصية، قال مجاهد: (لو أنفق درهما أو مدا في معصية الله تعالى كان مبذرا، ولو أنفق في مثل أبي قبيس في طاعة الله تعالى لم يكن مبذرا). قوله تعالى: { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين }؛ أي أتباع الشياطين، يتبعونهم ويجرون على سننهم، وقيل: يقرنون بالشياطين في النار، { وكان الشيطان لربه كفورا }.
[17.28]
قوله تعالى: { وإما تعرضن عنهم ابتغآء رحمة من ربك ترجوها }؛ معناه: إن أعرضت عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم من ذوي القربى والمساكين انتظار رزق يأتيك من الله تعالى؛ لأنك لا تجد ما تصلهم، وكنت منتظرا لرزق ربك ترجوه من الله لتعطيهم منه، { فقل لهم }؛ عند ذلك، { قولا ميسورا }؛ سهلا لينا، نحو أن تعدهم عدة حسنة وبقول: افعل؛ وكرامة ليس عندي اليوم شيء، وسوف أعطيكم؛ وأقضي حقكم إذا ادركت الغلة، ووصل إلي مالي الذي في موضع كذا. أو تقول: يرزقنا الله وإياكم من فضله.
[17.29]
قوله تعالى: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك }؛ أي تبخل بالمنع من حقوقهم الواجبة لهم، ومراده: الذي يترك الإنفاق يكون بمنزلة من غلت يداه إلى عنقه، فلا يعطي من ماله شيئا في الخير، وسمي البخل بمثل هذه الصفات، يقولون: فلان قصير الباع، وإذا كان كريما قالوا: طويل الباع، وقال صلى الله عليه وسلم لنسائه:
" أسرعكن لحاقا أطولكن يدا "
فكانت زينب بنت جحش؛ لأنها كانت أكثرهن صدقة.
قوله تعالى: { ولا تبسطها كل البسط }؛ أي لا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه، { فتقعد ملوما محسورا }؛ ذا حسرة تلوم نفسك وتلام، وتبقى الحسرة على ما تخرجه من يدك، والحسرة: الغم لانحسار ما فات، وحسر عن ذراعه يحسر حسرا إذا كشف عنه.
وقد قيل: إن المراد بالخطاب في هذه الآية غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم ينفقون جميع أملاكهم في سبيل الله تعالى، مثل ما فعله أبو بكر رضي الله عنه حتى يبقى في عباءة، فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.
وإنما نهى الله تعالى عن الإفراط في الإنفاق من خيف عليه الحسرة على ما يخرجه من يده، كما روي:
" أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من ذهب، فقال: وجدتها في معدن كذا ولا أملك غيرها، فتصدق بها، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها حتى لو أصابه بها لشجه، ثم قال: " إن أحدكم ليتصدق بجميع ماله، ثم يقعد يتكفف الناس "
ومن الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن داخلا في هذا الخطاب: أن الله تعالى قال { ملوما محسورا } ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحسر على ما كان يملكه.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن سبب نزول هذه الآية ما روي:
" أن امرأة بعثت ابنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: قل: إن أمي تستكسيك درعا، فإن قال لك حتى يأتينا شيء، فقل له: فإنها تستكسيك قميصك، ففعل الابن كما قالت أمه، فنزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ودفعه إليه، ولم يبق له قميص يخرج فيه إلى الصلاة "
، فنزلت هذه الآية بما فيها من الدلالة بالنهي عن الإمساك، فيكون التحسر على هذا القول لتأخر خروجه إلى الصلاة بسبب القميص.
[17.30]
قوله تعالى: { إن ربك يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر }؛ أي يوسع الرزق لمن يشاء، ويضيق على من يشاء، على ما يرى فيه المصلحة، { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا }؛ وهذا كما قال الله تعالى:
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن
[الشورى: 27].
[17.31]
قوله تعالى: { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق }؛ أي خشية الفقر والإقتار، { نحن نرزقهم وإياكم }؛ نزل في جماعة كانوا يدفنون بناتهم خشية الفاقة، ولئلا يحتاجوا إلى النفقة عليهم، وكان ذلك مستفيضا شائعا بينهم وهي الموءودة التي ذكرها الله تعالى في قوله
وإذا الموءودة سئلت
[التكوير: 8].
وقوله تعالى: { نحن نرزقهم وإياكم } أي إن رزقكم ورزق بناتكم على الله، وإن كان لسبب يجري على أيديكم، فإن الله تعالى لو لم يقوكم على الاكتساب ولم يمكنكم من تحصيل النفقة لم تتمكنوا من تحصيل.
قوله تعالى: { إن قتلهم كان خطئا كبيرا }؛ أي إن دفنهم أحياء كان ذنبا عظيما في العقوبة، يقال: خطأ الرجل يخطأ خطأ مثل أثم يأثم إثما، وقرأ ابن عامر (خطأ) بفتح الخاء على أنه مصدر أخطأ، فيكون المعنى على هذا أن قتلهم كان غير صواب.
[17.32]
قوله تعالى: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة }؛ الفاحشة ما تفاحش قبحه وتعظم، فكان الزنى قبيحا في الفعل قبل ورود السمع؛ لأن فيه قطع الأنساب وما يتعلق به من المحرمات، وإبطال حق الولد على الوالد.
قال صلى الله عليه وسلم:
" وفي الزنى ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة. فأما اللواتي في الدنيا: فيذهب نور الوجه ويقطع الرزق ويسرع الفناء. وأما اللواتي في الآخرة: فغضب الرب وسوء الحساب والدخول في النار "
، قوله تعالى: { وسآء سبيلا }؛ أي بئس الزنى طريقا لمن يسلكه.
[17.33]
قوله تعالى: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق }؛ أي لا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بحق تستحق قتلها به، وهو أن يقتل نفسا بغير حق، أو يزني وهو محصن، أو يرتد عن الإسلام.
قوله تعالى: { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا }؛ أي من قتل بغير حق، فقد جعلنا لوارثه حجة في كتاب الله تعالى في إيجاب القود على القاتل، وعن ابن عباس أنه قال: (المراد بهذا السلطان: أن للولي أن يقتل إن شاء، أو أخذ الدية، أو عفى). ويجوز أن يكون المراد بالسلطان السلطان الذي يلي الأمر والنهي يجب عليه أن يعين ولي القتيل حتى يطلب قاتله.
قوله تعالى: { فلا يسرف في القتل }؛ السرف: أن يقتل غير القاتل كما يفعله العرب. وقيل: معناه: ولا تمثلوا بالقاتل في القتل. قوله تعالى: { إنه كان منصورا }؛ يعني ولي المقتول، حكم الله له بذلك، وأمر المؤمنين أن يعينوه، ويجب أيضا على الإمام أن يدفع إليه القاتل. ويقال: معناه: إن المقتول كان منصورا بالثواب وبإيجاب القصاص لوليه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن من أعتى الناس على الله ثلاثة: رجل قتل غير قاتله، أو قتل بدخن في الجاهلية، أو قتل في حرم الله ".
[17.34]
قوله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن }؛ أي إلا بما يؤدي إلى حفظه وصيانته وتمييزه، وإنما خص اليتيم بذلك؛ لأن الطمع في ماله أكثر، وهو إلى الحفظ أحوج لعجزه عن حفظه بنفسه. قوله تعالى: { حتى يبلغ أشده }؛ أي حتى يكمل ثماني عشرة سنة. وقيل: معناه: حتى يبلغ وقت الحلم ويكمل عقله.
قوله تعالى : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا }؛ أي وأوفوا بعهد الله إليكم في أموال اليتامى، وكل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، { إن العهد كان مسؤولا } عنه للجزاء، فحذف استكفاء بدلالة الحال.
[17.35]
قوله تعالى: { وأوفوا الكيل إذا كلتم }؛ أي أتموه ولا تبخسوه، { وزنوا بالقسطاس المستقيم }؛ أي بميزان العدل، قرأ أهل الكوفة (بالقسطاس) بكسر القاف وهما لغتان. قوله تعالى: { ذلك خير وأحسن تأويلا }؛ أي ذلك الذي أمرتكم به خير لكم وأحسن عاقبة، والتأويل: هو الذي إليه مرجع الشيء من قولهم آليؤول.
[17.36]
قوله تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم }؛ أي لا تقل ما ليس لك به علم، وقال قتادة: (لا تقل: سمعت ورأيت، ولم تر ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم).
والقفو في اللغة: اتباع الأمر كأنه يتبع الأثر، ومنه القيافة، كانت العرب يتبعون فيها أثر الآباء، ويقول: قفوت الشيء أقفوه؛ إذا اتبعت أثره، والمعنى على هذا: لا تتبعن لسانك من القول ما ليس لك به علم.
قوله تعالى: { إن السمع والبصر والفؤاد }؛ يعني إن المرء مسؤول يوم القيامة عما يفعله بهذه الجوارح من الاستماع لما لا يحل، والنظر الى ما لا يجوز، والارادة لما يقبح. قوله تعالى: { كل أولئك كان عنه مسؤولا }؛ أي كل هذه الجوارج والأعضاء، ولم يقل تلك، قال الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
ويجوز أن يكون راجعا إلى أصحابها وأربابها.
[17.37]
قوله تعالى: { ولا تمش في الأرض مرحا }؛ أي بطرا وكبرا وخيلاء، والمرح: شدة الفرح، { إنك لن تخرق الأرض }؛ بقدميك وكبرك، { ولن تبلغ الجبال }؛ بعظمتك، { طولا }؛ أي لا تطاول الجبال فاستقصر نفسك عندما ترى من سعة الأرض وبسطها وعظم الجبال وطولها. من قرأ (مرحا) بنصب الراء فهو المصدر، ومن قرأ بكسر الراء فهو اسم الفاعل.
[17.38]
قوله تعالى: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها }؛ أي كل ما تقدم من قوله تعالى
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق
[الإسراء: 31] إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة فيه، وهذا على قراءة من قرأ (سيئة ) بالنصب، وقرأ ابن عامر والكوفيون (سيئه عند ربك) على الإضافة بمعنى: هذا الذي ذكرته من قوله تعالى
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
[الإسراء: 23] إلى هذه الآية ذكر الحسن، والسيء وقوله تعالى { مكروها } على قراءة من قرأ سيئة بالنصب بدل من سيئه.
[17.39]
قوله تعالى: { ذلك ممآ أوحى إليك ربك من الحكمة }؛ أي ذلك الذي سبق ذكره من هذه الأشياء مما أوحى إليك ربك من صواب القول والعمل، { ولا تجعل مع الله إلها آخر }؛ هذا خطاب لكل مؤمن، كأنه قال: ولا تجعل أيها الإنسان، { فتلقى في جهنم ملوما }؛ تلوم نفسك، { مدحورا }؛ أي مطرودا من رحمة الله تعالى.
قال الكلبي وابن عباس: (هذه الثماني عشرة آية من قوله تعالى: { ولا تجعل مع الله إلها آخر... } إلى قوله تعالى:
كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها
[الإسراء: 38] كانت في ألواح موسى عليه السلام حين كتبها الله له، وقد أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم وهي في الكتب كلها موجودة لم تنسخ قط).
[17.40]
قوله تعالى: { أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا }؛ خطاب للمشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله منكرا عليهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والمعنى: أفحكم لكم ربكم بالبنين، فأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه، فأخلصكم بالأجل وجعل لنفسه الأدون، ولا يكون هذا من الحكمة أن يخص الحكيم عدوه بالأشرف ويختار لنفسه الأدون. قوله تعالى: { إنكم لتقولون قولا عظيما }؛ في الكفر والفرية على الله تعالى.
[17.41]
قوله تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا }؛ أي بينا في هذا القرآن من الأمثال والعبر ليتعظوا بها، { وما يزيدهم }؛ تصريف الأمثال، { إلا نفورا }؛ أي تباعدا عن الإيمان. قرأ الأعمش وحمزة (ليذكروا) مخففا.
[17.42]
قوله تعالى: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا }؛ أي قل لهم يا محمد: لو كان مع الله آلهة كما تقولون أنتم إذا لطلبوا ما يفرقهم إلى مالك العرش لعلوه عليهم وكونه أفضل منهم، وهذا قول مجاهد. وذهب أكثر المفسرين إلى أن المعنى: لطلبوا مغالبته، وابتغوا طريقا ليقهروه، كفعل الملوك يطلب كل واحد مغالبة صاحبه ليصفو له الملك. وقرأ ابن كثير (كما يقولون) بالياء على معنى: كما يقول المشركون.
[17.43]
قوله تعالى: { سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا }؛ قرأ الأعمش وحمزة والكسائي (عما تقولون) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. ومعنى الآية: تنزيها لله عن كل ما لا يليق به من الولد والشريك؛ أي يرفع عما يقولون من إضافة البنات إلى الله تعالى. وقوله تعالى { علوا كبيرا } أي تعظيما كبيرا، ولم يقل تعاليا؛ لأن المصدر قد يذكر لا على لفظ الأول كما في قوله تعالى:
وتبتل إليه تبتيلا
[المزمل: 8].
[17.44]
قوله تعالى: { تسبح له السموت السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده }؛ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالتاء، وقرأ غيرهم بالياء. قال إبراهيم النخعي وجماعة من المفسرين: (إن كل شيء سبح لله حتى صرير الباب)، ولهذا قال الله تعالى: { ولكن لا تفقهون تسبيحهم }؛ أي لا تعلمون، قال الحسن والضحاك: (يعني كل شيء فيه الروح)، وقال قتادة: (يعني الحيوانات)، وقال عكرمة: (والشجر يسبح والاسطوانة تسبح).
وقيل: إن التراب يسبح ما دام يابسا، فإذا ابتل ترك التسبيح! وإن الماء يسبح ما دام جاريا، فإذا ركد ترك التسبيح! وإن الورق ما دام على الشجر يسبح، فإذا سقط ترك التسبيح! وإن الثوب يسبح ما دام جديدا، فإذا توسخ ترك التسبيح! وإن الوحش إذا صاحت سبحت، فإذا سكتت تركت التسبيح.
وعن أنس رضي الله عنه قال:
" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ كفا من حصى فسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا التسبيح، فصبهن في أيدينا فما سبحن في أيدينا "
قوله تعالى: { إنه كان حليما غفورا }؛ أي حليما لا يعجل بعقاب الكفار، غفورا يستر الذنوب على عباده.
[17.45-46]
قوله تعالى: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا }؛ نزل في قوم من المشركين كادوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن، قال الكلبي: (هم أبو سفيان والنضر بن الحرث وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه)
وعن سعيد بن جبير قال:
" لما نزلت { تبت يدآ أبي لهب وتب } جاءت امرأة أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فقال: يا رسول الله لو تجنبت عن امرأة أبي لهب لئلا تسمعك، فإنها امرأة ندية، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه سيحال بيني وبينها " فجاءت أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر، وهي تقول: هذا مما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك يا رسول الله، قال: إنها لن تراني، وقرأ { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا }. قال: فجاءت حتى قامت عند أبي بكر ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب البيت ما هجاك، فاندفعت راجعة، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: " لا ". قال: لم؟ قال: " نزل ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت " ".
قوله تعالى: { حجابا مستورا } أي ساترا لهم عن إدراكه. قوله تعالى: { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه }؛ أي منعناهم عن تدبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم في وقت مخصوص، وهو الوقت الذي أرادوا إيذاءه فيه، { وفي ءاذانهم وقرا }؛ ففي ذلك الوقت صرفنا آذانهم عن الاستماع إليه، والمعنى: طبعنا على قلوبهم.
قوله تعالى: { وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده }؛ يعني إذا قلت: لا إله إلا الله، وأنت تتلو القرآن، { ولوا على أدبرهم نفورا } ، قال ابن عباس: (كارهين أن يوحدوا الله)، وقال قتادة:
" إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون، وكبر عليهم "
والمعنى: انصرفوا عنك هاربين؛ كراهة لما يسمعونه من توحيد الله.
[17.47]
قوله تعالى: { نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك }؛ أي نحن أعلم بما يستمعون إليه من قراءة القرآن، أنهم لماذا يستمعون وأن قصدهم به الأذى دون طلب الحق، فيسمعون إلى قراءتك، { وإذ هم نجوى }؛ في أمرك يتناجون، فيقول بعضهم: هذا كاهن، ويقول بعضهم: هذا ساحر، ويقول بعضهم: هذا مجنون، ويقول بعضهم: هذا شاعر.
وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه أن يتخذ طعاما، فيدعو إليه أشراف قريش من المشركين، ففعل ذلك، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى التوحيد، فكانوا يستمعون ويقولون فيما بينهم متناجين: هو ساحر، وهو مجنون مسحور.
فأخبر الله تعالى نبيه بذلك، وأنزل عليه { نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى } أي يتناجون بينهم بالتكذيب والاستهزاء، { إذ يقول الظالمون }؛ أي أولئك المشركون: { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } أي مغلوب العقل قد سحر، وأزيل عن حد الاستواء.
[17.48]
قوله تعالى: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال }؛ أي كيف وصفوا لك الأشباه، فشبهوك بالمجنون والكاهن والساحر، { فضلوا }؛ عن الحق، { فلا يستطيعون سبيلا }؛ مخرجا عن الضلال إلى الهدى.
[17.49]
قوله تعالى: { وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا }؛ أي إذا صرنا عظاما بالية وصرنا ترابا، { أءنا لمبعوثون }؛ لنبعث بعد ذلك؛ { خلقا جديدا }؛أي أنبعث بعد ذلك؟ وهذا استفهام إنكار وتعجب منهم. والرفات في اللغة: كل شيء يحطم ويكسر، قال ابن عباس: (يقولون: إذا ذهب اللحم والعروق وتفتت عظام قد بلت، فإذا مسيته بين يديك انسحق، أنبعث بعد ذلك).
[17.50-52]
قوله تعالى: { قل كونوا حجارة أو حديدا }؛ أي قل لهم يا محمد: كونوا حجارة إن قدرتم عليها، أو أشد منها بأن تكونوا حديدا، أو أقوى من الحديد؛ { أو خلقا مما يكبر في صدوركم }؛ أو أي شيء من الخلق نحو السماوات والأرض والجبال، فإني أعيدكم لا محالة إلى ما كنتم عليه من قبل.
قوله تعالى: { فسيقولون من يعيدنا } أي إذا قلت لهم ذلك فسيقولون لك: من يعيدنا؟ { قل }؛ لهم: يعيدكم، { الذي فطركم أول مرة }؛ لأن من قدر على البناء كان على الهدم أقدر، ومن قدر على ابتداء الشيء كان على إعادته أقدر.
قوله: { فسينغضون إليك رؤوسهم }؛ أي فسيحركون إليك رؤوسهم تعجبا لقولك، والإنغاض: تحرك الرأس بالارتفاع والانخفاض على جهة الاستهزاء والاستبطاء، { ويقولون متى هو }؛ أي متى تكون الإعادة، { قل عسى أن يكون قريبا }؛ أي قل عسى أن تكون الإعادة قريبة، و(عسى) من الله واجبة، { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده }؛ في النفخة الثانية، فتجيبون داعي الله حامدين لله، قال سعيد بن جبير: (يخرجون من قبورهم يقولون: سبحانك وبحمدك، ولا ينفعهم في ذلك اليوم؛ لأنهم حمدوا حين لا ينفعهم الحمد).
قوله: { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا }؛ أي تظنون أنكم لم تلبثوا في الدنيا إلا قليلا لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة، كما قال الحسن: (كأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل).
ومن المفسرين من قال: هذه الآية خطاب للمؤمنين؛ لأنهم يستجيبون لله بحمده على إحسانه إليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كأني بأهل لا إله إلا الله وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ".
[17.53]
قوله تعالى: { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن }؛ وذلك
" أن المشركين كانوا يؤذون الصحابة رضي الله عنهم بالقول والفعل بمكة، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم، فقال: " إني لم أؤمر فيهم بشيء " "
وكان ذلك قبل أن يؤمر بالجهاد.
والمعنى: قل للمؤمنين يقولون للكفار، والمقالة التي هي أحسن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه الرفق، ويقولون لهم: يهديكم الله. قوله تعالى: { إن الشيطان ينزغ بينهم }؛ أي يغري المشركين على المسلمين، فيوقع العداوة بينهم ويفسد نيتهم، { إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا }؛ مظهرا للعداوة.
[17.54]
قوله تعالى: { ربكم أعلم بكم }؛ أي بأحوالكم، { إن يشأ يرحمكم }؛ بأن ينجيكم من كفار مكة وينصركم عليهم، { أو إن يشأ يعذبكم }؛ أي يسلطهم عليكم، { ومآ أرسلناك عليهم وكيلا }؛ أي حفيظا وكفيلا؛ أي ما وكل إليك إيمانهم، إن شاء الله تعالى هداهم، وإن شاء خذلهم.
[17.55]
قوله تعالى : { وربك أعلم بمن في السموت والأرض }؛ لأنه خلقهم فهدى بعضهم وأضل بعضهم على علم منه بهم، لم يختر بعض الملائكة والأنبياء لميله إليهم، وإنما أختارهم لعلمه بباطنهم، وقوله تعالى: { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض }.
قال قتادة: (اتخذ الله إبراهيم خليلا، وكلم الله موسى تكليما، وجعل عيسى كلمته وروحه، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر). قوله تعالى: { وآتينا داوود زبورا }؛ يعني كتابه الذي أعطاه إياه، وهو مائة وخمسون سورة، ليس فيها حكم ولا فريضة، وإنما هو ثناء على الله تعالى.
[17.56]
قوله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه }؛ أي قال المفسرون: ابتلى الله كفار مكة بالقحط سنين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية؛ أي قل للمشركين: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة، { فلا يملكون كشف الضر }؛ أي البؤس والشدة، { عنكم ولا تحويلا } التحويل: النقل من حال الى حال.
[17.57]
قوله تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب }؛ معناه: أولئك الذين يدعون إلى الله في طلب الجنة، ويطلبون التقرب إليه، فكيف تعبدونهم أنتم. والوسيلة: القربة إلى الله تعالى.
قوله تعالى: { أيهم أقرب } أي أقرب إلى الله بالوسيلة، يعني يتقربون إليه بالعمل الصالح، وعن ابن مسعود في تفسير هذه الآية: (أن قوما من الإنس كانوا يعبدون قوما من الجن، فأسلم الجن وبقي الإنس على كفرهم، فأنزل الله هذه الآية).
وقوله تعالى: { يبتغون إلى ربهم الوسيلة } أي يطلبون أن يعلموا أيهم أقرب إلى الله. قوله تعالى: { ويرجون رحمته }؛ أي يريدون جنته، { ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا }؛ أي مما يجب أن يحذر عنه.
[17.58]
قوله تعالى: { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا }؛ يعني بالموت أو معذبوها بعذاب الاستئصال، ومعنى { وإن من قرية }: وما من قرية قال ابن مسعود: (إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكها)، وقال مقاتل: (أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب).
قوله تعالى: { كان ذلك في الكتاب مسطورا }؛ أي قضاء من الله، كما يسمعون ليس منه بد، وقيل: كان ذلك في اللوح المحفوظ مكتوبا، فإنه مكتوب فيه كيف يهلكهم الله، ومتى يهلكهم، وبأي عذاب يهلكهم.
[17.59]
قوله تعالى: { وما منعنآ أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون }؛ وذلك أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: حول لنا الصفا ذهبا، ونح الجبال عنا لننفسح، فأنزل الله هذه الآية؛ أي إن حولته فلم يؤمنوا لم أمهلهم لسنتي في من قبلهم.
وموضع (أن) الأولى نصب بتكذيب الأولين برفع المنع عليه، وموضع (أن) الثانية رفع تقديره: وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بها، وهذا اللفظ أغنى عن لفظ المنع على طريق المجاز؛ لأن المنع لا يجوز على الله تعالى.
قوله تعالى: { وآتينا ثمود الناقة مبصرة }؛ أي أخرجنا لثمود الناقة ليبصروا بها الهدى من الضلالة، والسعادة من الشقاوة، { فظلموا بها }؛ أي جحدوا بها وعقروها. قوله تعالى: { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا }؛ أي العبر والدلالات إلا تخويفا للعباد ليؤمنوا، فإذا لم يفعلوا عذبوا.
قال قتادة: (يخوف الله الخلق بما شاء من آية لعلهم يعتبرون أو يرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد عبدالله بن مسعود فقال: يا أيها الناس إن الله يستعتبكم فاعتبوه). وعن الحسن في قوله: { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } قال: (الموت الذريع).
[17.60]
قوله تعالى: { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس }؛ علما وقدرة فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته، وهو مانعك منهم وحافظك، فلا تتهيب وتخاف منهم، وامض بما أمرت به من تبليغ الرسالة، وقال مقاتل: (معناه: أحاط بالناس؛ أي أهل مكة أنها ستفتح لك).
قوله تعالى: { وما جعلنا الرءيا التي أريناك إلا فتنة للناس }؛ قال أكثر المفسرين: يعني ما ذكر في أول هذه السورة من الإسراء في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى على معنى أنها شدة من التكليف، كما روي أن المشركين استعظموا ذلك وكذبوه، فيكون معنى الرؤيا رؤية العين.
قوله تعالى: { والشجرة الملعونة في القرآن }؛ أي وما جعلنا الشجرة الملعونة إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة: شجرة الزقوم، يقول العرب: لكل طعام منار معلوم، وسموها فتنة؛ لأنهم قالوا: إن النار تأكل الشجرة، فكيف تنبت الشجرة في النار؟!
وقال ابن الزبعرى: (ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد) فهذا الكلام منهم هو فتنتهم؛ أي فتنوا بذلك. قوله تعالى: { ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا }؛ أي نخوفهم بما نرسل الآيات، فما يزدادون إلا تجاوزا عن الحد.
[17.61-62]
قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس }؛ قد تقدم تفسير ذلك. وقوله تعالى: { قال أأسجد لمن خلقت طينا }؛ أي قال إبليس: أأسجد لآدم وهو مخلوق من طين؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار، ونصب (طينا) على الحال.
قال الله تعالى حاكيا عن إبليس: { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } أي قال إبليس: أخبرني عن هذا الذي كرمته علي، لم كرمته علي، وقد خلقتني من نار وخلقته من طين؟! اعتقد إبليس أن النار أكرم أصلا من الطين.
قوله تعالى: { لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا }؛ أي لأستأصلن ذريته بإغوائهم، إلا قليلا منهم وهم الذين عصمتهم مني، تقول العرب: احتنكت السنة أموالنا؛ أي استأصلتها، قال الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت
واحتنكت حلقت، واحتنكت الجراد ما على الأرض. وقيل: معنى { لأحتنكن } أي لأقتطعن ذريته إلى المعاصي، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال، إذا اقتطعه. وقيل: معناه: لأقودن ذريته إلى المعاصي وإلى النار، من قولهم: حنك دابته يحنكها من الأسفل بحبل يقودها به.
[17.63]
قوله تعالى: { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزآؤكم جزاء موفورا }؛ أي فمن تبعك من ذرية آدم فإن جهنم جزاؤكم جزاء وافرا مكملا. قوله: { واستفزز من استطعت منهم بصوتك }؛ أي استنزل واستخف واستجهل من استطعت منهم بدعائك في المعصية، من قولهم: صوت فلان، إذا دعاه، ويقال: أراد بالصوت صوت الغناء والمزامير، وهذا لعلى وجه التهديد وإن كان في صورة الأمر كقوله تعالى:
اعملوا ما شئتم
[فصلت: 40] وكقولهم: أجهد جهدك.
[17.64]
قوله تعالى: { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك }؛ أي صح بخيلك ورجلك احثثهم على الإغواء، يقال: أجلب على العدو، إذا جمع عليهم الخيول، والمعنى على هذا: إجمع عليهم كل ما تقدر من مكائد، وقال مقاتل: (معناه: استعن عليهم بركاب جندك ومشاتهم). والجلب هو قود الشيء وسوقه بالصوت، يقال للغنم: جلب وجلوبة؛ أي جلبت من موضع إلى آخر، قال الحسن: (كل راكب في معصية الله فهو من خيل إبليس، وكل ماش في معصية الله فهو من رجل الشيطان)، وقرأ حفص (ورجلك) بنصب الراء وكسر الجيم وهما لغتان، أتبع كسرة الجيم كسرة اللام، وهذا على طريق الإهانة لإبليس، لا أن له خيلا ورجلا، كما يقول الرجل لغيره: أجمع خيلك ورجلك وما أمكنك.
قوله تعالى: { وشاركهم في الأموال والأولاد }؛ شركته في الأموال أن يجعلوا شيئا من أموالهم لغير الله، كما جعلوا من الحرث والأنعام، وشركته في الأولاد أن سموا أولادهم: عبد يغوث، وعبد شمس، وعبد الحرب. وقال بعضهم: شركته في أولادهم أولاد الزنى، كذا قال مجاهد والضحاك. ويقال شركته في الأموال كل ما أخذ من حرام وأنفق في حرام، وشركته في الأولاد الذي يهوداه أبواه وينصرانه ويمجسانه.
قوله تعالى: { وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا }؛ أي منيهم بما شئت من الغرور: من طول الحياة، والتشكيك في البعث، وما تكون مواعيد الشيطان إلا غرورا؛ أي تزيينا باطلا.
[17.65-66]
قوله تعالى: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }؛ أي " إلا " في الوسوسة، فإما أن يمنعهم عن الطاعة، أو يحملهم على المعصية فلا، وقيل: معناه: إن أوليائي ليس لك عليهم حجة. قوله تعالى: { وكفى بربك وكيلا }؛ أي حافظا لأوليائه يعصمهم عن القبول من إبليس؛ لأن الوكيل بالشيء يكون حافظا له.
ثم ذكر سبحانه نعمه على عباده فقال:
قوله تعالى: { ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر }؛ أي ربكم الذي يسوق لكم، ويجري لكم السفن في البحر، { لتبتغوا من فضله }؛ أي لتطلبوا ما كان مصلحة لكم في دنياكم وآخرتكم من التجارة وغيرها، { إنه كان بكم رحيما }؛ حين أنعم عليكم بهذه النعم.
[17.67]
قوله تعالى: { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه }؛ أي يخلصكم من الشدة في البحر عند عصف الرياح وترادف الأمواج، وخفتم الغرق، ضل من تدعون من الأصنام عن تخليصكم؛ أي بطل وزال، ولا يرجون النجاة إلا من الله.
قال ابن عباس: (معناه: إذا مسكم الضر في البحر نسيتم الأنداد والشركاء، وتركتموهم وأخلصتم لله)، { فلما نجاكم إلى البر } ، فلما أجاب دعاءكم ونجاكم من البحر، وأخرجكم إلى البر ونجاكم، { أعرضتم }؛ عن الإيمان والطاعة، ورجعتم إلى ما كنتم عليه، { وكان الإنسان كفورا }؛ لنعم الله تعالى، وأراد بالإنسان الكافر.
[17.68]
قوله تعالى: { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر }؛ معناه: أفأمنتم بعد ذلك أن نخسف بكم الأرض كما فعل بقارون، { أو يرسل عليكم حاصبا }؛ أي حجارة تمطر من السماء عليكم، كما أمطرت على قوم لوط، قال القتيبي: (الحاصب: الريح التي ترمي بالحصباء) وهي الحصى الصغار، يقال: حصبه بالحجارة، إذا رماه بها متتابعا. قوله تعالى: { ثم لا تجدوا لكم وكيلا }؛ أي حافظا يحفظكم من عذاب الله.
[17.69]
قوله تعالى: { أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى }؛ أي أم أمنتم أن يعيدكم الله في البحر مرة أخرى، { فيرسل عليكم قاصفا من الريح }؛ أي ريحا شديدة تقصف الفلك، قال أبو عبيدة: (القاصف هي الريح التي تقصف كل شيء؛ أي تدقه وتحطمه). وقال القتيبي: (هي التي تقصف الشجر). قوله تعالى: { فيغرقكم بما كفرتم }؛ أي بكفركم، { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا }؛ أي لا تجدوا لكم من يتبعنا فيطالبنا بدمائكم، والتبيع: من يتبع غيره لأمر.
[17.70]
قوله تعالى: { ولقد كرمنا بني ءادم }؛ أي فضلناهم بالعقل والنطق والتمييز، وعاملناهم معاملة الإكرام بالنعمة، وجعلناهم يهتدون إلى معايشهم. قوله تعالى: { وحملناهم في البر والبحر }؛ أي في البر على الدواب، وفي البحر على السفن. قوله تعالى: { ورزقناهم من الطيبات }؛ أي لذيذ المطاعم والمشارب، قال مقاتل: (السمن والزبد والتمر والحلواء والعسل).
قوله تعالى: { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا }؛ أي فضلناهم على كثير من حيوانات البر والبحر، ومن تفضيلهم أنهم يأكلون بالأيدي، وغيرهم من الحيوانات يأكلون بالأفواه. ويقال: إن ابن آدم يمشي منتصبا قائما وسائر الحيوانات تمشي منكبة.
ولم يقل في الآية: على كل من خلقنا؛ لأن الله فضل الملائكة كما قال تعالى:
ولا الملائكة المقربون
[النساء: 172] ولكن ابن آدم مفضل على سائر الحيوانات، وقال عطاء في هذه الآية: (ولقد كرمنا بني آدم بتعديل القامة وامتدادها)، وقال محمد بن كعب: (بأن جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منهم). وقيل: بحسن الصورة، وقيل: الرجال باللحا والنساء بالذوائب.
وقيل: بتسليطهم على غيرهم من الخلائق، وبتسخير الخلائق لهم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية قال:
" الكرامة الأكل بالأصابع "
وقوله: { ورزقناهم من الطيبات } يعني الثمار والحبوب، وكل طعام لين، ورزق الدواب التبن والحشيش والشوك.
[17.71]
قوله تعالى: { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم }؛ يعني يوم القيامة وهو منصوب على معنى: واذكر يوم ندعو كل أناس بإمامهم؛ أي نبيهم، فيقال: هاتوا متبعي إبراهيم، هاتوا متبعي موسى، هاتوا متبعي عيسى، هاتوا متبعي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقومون يأخذون كتبهم بأيمانهم.
ثم يقال: هاتوا متبعي الشيطان رؤساء الضلالة، هاتوا متبعي الطاغوت، فيقومون ويعطون كتبهم بشمائلهم. ويقال: يدعى كل أناس بعمله، فيقال: أين صاحب هذا الكتاب؟ أين فلان بن فلان المصلي؟ وأين فلان بن فلان الصوام؟ إلى أن ينادي بالعازف والدفاف والرقاص، فيدعى كل أناس بعمله.
قوله تعالى: { فمن أوتي كتابه بيمينه }؛ أي من أعطي كتابه الذي فيه ثواب عمله بيمينه، { فأولئك يقرؤون كتابهم }؛ يفرحون ويسرون بما يقرأون، وقوله تعالى: { ولا يظلمون فتيلا }؛ ولا ينقصون من ثواب أعمالهم مقدار الفتيل، وهو القشر الذي في شق النواة، ويقال: هو الوسخ الذي تفتله بين إصبعيك.
[17.72]
قوله تعالى: { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا }؛ أي من كان في هذه الدنيا التي هو مشاهد لها أعمى عن الحجة، لا يتفكر بقلبه في ملكوت السماوات والأرض، فهو في الآخرة التي هي غائبة عن عينيه أشد عمى، وأخطأ طريقا. ويقال: معناه: من كان في هذه الدنيا ضالا عن الحق فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الحق.
[17.73]
قوله تعالى: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره }؛ وذلك
" أن ثقيفا أرسلوا وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، فقالوا: يا محمد نحن أخوالك وأصهارك وجيرانك، وجيران أهل نجد لك سلما وصرهم عليك حزنا، إن سالمنا سالم من بعدنا، وإن حاربنا حارب من بعدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ماذا تريدون؟ " قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال: أن لا ننحني - يعنون في الصلوات - وأن لا تكسر أصنامنا بأيدينا، تمتعنا بالأصنام سنة.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لا خير في دين لا صلاة فيه ولا ركوع ولا سجود، وأما قولكم على أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم، ونحن نبعث لها من يكسرها، وأما الأصنام فأنا غير ممتعكم بها " فقالوا: يا رسول الله فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، فإن خفت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا، فقل الله أمرني بذلك! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل لا: رجاء أن يسلموا "
، فأنزل الله هذه الآية { وإن كادوا ليفتنونك } أي يصرفونك عن الذي أمرناك من كسر آلهتهم وعيب دينهم؛ لتفتري علينا غير الذي أمرناك به، فلو فعلت ما أرادوه، { وإذا لاتخذوك خليلا }؛ أي صفيا لمبايعتك إياهم.
[17.74-76]
قوله تعالى: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا }؛ أي لقد كدت تميل إليهم، قال ابن عباس: (يعني حين سكت عن جوابهم). قوله تعالى: { إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات }؛ أي إنك لو ملت إليهم لأذقناك ضعف عذاب الدنيا، وضعف عذاب الآخرة، يريد عذاب الآخرة ضعف ما يعذب به غيره، { ثم لا تجد لك علينا نصيرا }؛ أي مانعا يمنعنا من تعذيبك، قال ابن عباس: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم، ولكن هذا تخويفا لأمته؛ لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ".
وذهب السدي في هذه الآيات: (إلى أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك ترفض آلهتنا كل الرفض، فلو أنك تأتيها وتلمسها وتبعث بعض ولدك فيمسحها، كان أرق لقلوبنا وأحرى أن نتبعك! فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث بعض ولده فيمسحها، فنهاه الله عن ذلك). ويقال: إنهم قالوا: أطرد سقاط الناس ومواليهم، هؤلاء الذين رائحتهم كرائحة الضأن حتى نتبعك، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل رجاء أن يسلموا، فأنزل الله هذه الآيات.
وقوله تعالى: { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، حسدته اليهود قالوا له: يا محمد أنبي أنت؟ فقال: " نعم " قالوا له: والله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، كان بها إبراهيم وعيسى، فإن كنت نبيا فأت الشام، فإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله، وهي الأرض المقدسة وأرض المحشر. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى الشام، فنزل جبريل بهذه الآية. ومعناها: وقد كادوا ليستفزونك من أرض المدينة ليخرجوك منها إلى الشام، { وإذا }؛ لو أخرجوك، { لا يلبثون خلافك إلا قليلا }؛ أي الا مدة يسيرة حتى يهلكهم الله. ومن قرأ (خلافك) فمعناه: مخالفتك.
[17.77]
قوله تعالى: { سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا }؛ نصب على المصدر؛ أي سن لهم سنة من قد أرسلنا، فإن سنة الله قد جرت في من قبلك من الرسل بأن أممهم إذا أخرجوهم من مواضعهم لم يلبثوا إلا قليلا، والسنة: هي العادة الجارية. وقوله تعالى: { ولا تجد لسنتنا تحويلا }؛ أي لا يقدر أحد على تحويل السنة التي أجراها الله.
وقال مجاهد وقتادة: (هم أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حين شاوروا فيما بينهم، ولو فعلوا ما أمهلوا، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره بالخروج). والقليل: ما لبثوا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى أهلكهم الله يوم بدر، غير أن التأويل الأول أصح.
[17.78]
قوله تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل }؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: (معناه: أقم الصلاة لغروب الشمس) والصلاة المأمور بها على هذا هي المغرب، والغسق بدو الليل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في إحدى الروايتين عنه مثل قول ابن مسعود، وفي الرواية الثانية وهو قول الحسن ومجاهد وقتادة: (إن دلوكها زوالها) والصلاة المأمور بها على هذا الظهر والعصر والمغرب والعشاء. فالغسق على هذا القول هو اجتماع ظلمة الليل.
قوله تعالى: { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }؛ صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار يصلونها مع المسلمين. وإنما سميت صلاة الفجر قرآنا؛ لأن القراءة فيها طول، ولأن القراءة فريضة من الركعتين، وفي هذا بيان أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة.
[17.79]
قوله تعالى: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك }؛ قال ابن عباس: (فصل بالقرآن). والتهجد هو التيقظ بعد النوم، ويقال: تهجد إذا نام، وتهجد إذا استيقظ، والمعنى: أقم الصلاة بالليل بعد التيقظ من النوم، ويقال: المتهجد القائم إلى الصلاة من النوم، وقيل له: متهجد لانتفاء التجدد عن نفسه.
قوله تعالى: { نافلة لك } أي تطوعا، وقيل: فضيلة لك لرفع الدرجات لا للكفارات، فإنه عليه السلام قد غفر له من ذنبه ما تقدم وما تأخر، وليست لنا بنافلة، لكثرة ذنوبنا وإنما هي كفارة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال مجاهد. وقد روي ما يدل على أنها نافلة لغير النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الوضوء يكفر ما قبله، وتصير الصلاة نافلة "
قيل له: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث وأربع ولا خمس.
قوله تعالى: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }؛ أي المقام الذي تحمد عاقبته، وهو المقام الذي يعطيه الله النبي صلى الله عليه وسلم فيه لواء الحمد تجتمع تحته الملائكة والأنبياء، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم أول شافع وأول مشفع، قال ابن عباس: (وعسى من الله واجبة). ويعني بقوله { مقاما محمودا } أي يعطيك الله يوم القيامة مقاما يحمدك فيه الأولون والآخرون شرف به على جميع الخلائق، والمقام المحمود مقام الشفاعة، ومعنى { يبعثك } يقيمك.
[17.80]
قوله تعالى: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق }؛ أي أدخلني المدينة وأخرجني من مكة. وقيل: أدخلني في ما أمرتني به، وأخرجني من ما نهيتني عنه. وقيل: أدخلني مدخل صدق في جميع الأمور، وأخرجني مخرج صدق من جميع الأمور.
قوله تعالى: { واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا }؛ أي واجعل لي من عندك قوة أمتنع بها عن من عاداني. وقيل: حجة أتقوى بها على إبطال سائر الأديان الباطلة.
وعن محمد بن المنكدر قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الغار: أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق "
وقال الضحاك: (معناه أخرجني مخرج صدق من مكة آمنا من المشركين، وأدخلني مكة مدخل صدق ظاهرا عليها بالفتح)، وقال عطية عن ابن عباس: (أدخلني القبر مدخل صدق عند الموت، وأخرجني منه مخرج صدق عند البعث). وقيل: المعنى: أدخلني حيث ما أدخلتني بالصدق، وأخرجني منه بالصدق، أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه آخر، فإن ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله.
[17.81]
قوله تعالى: { وقل جآء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا }؛ معنى: الحق هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرائع والإسلام، وما جاء به من القرآن، وقال السدي: (الحق الإسلام، والباطل الشرك). ومعنى (زهق): بطل واضمحل.
قال ابن مسعود وابن عباس:
" لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعنها بمخصرة في يده ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا " فكان الصنم ينكب لوجهه، وكان أهل مكة يتبعونه ويقولون فيما بينهم: ما رأينا رجلا أسحر من محمد "
[17.82]
قوله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين }؛ أي شفاء للمسلمين في الدنيا والآخرة، يتبركون بقراءته على أنفسهم، ويستعينون به على دفع الأسقام والبلايا. وقيل: شفاء للقلوب يزول به الجهل منها كما يشفى المريض.
قوله تعالى: { ورحمة للمؤمنين } أي نعمة من الله تعالى عليهم، وكون القرآن شفاء؛ أي يزيل عمى الجهل وحيرة الشك، فهو شفاء من داء الجهل. وقال ابن عباس: (يريد شفاء من كل داء)، ويؤيد هذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله "
قوله تعالى: { ولا يزيد الظالمين إلا خسارا }؛ أي لا يزاد الكفار عند نزول القرآن إلا خسارا لأنه لا ينتفع به.
[17.83]
قوله تعالى: { وإذآ أنعمنا على الإنسان }؛ أي أنعمنا عليه بكشف الضر وتبديل البؤس بالنعمة، { أعرض ونأى بجانبه }؛ أي أعرض عن شكره وتباعد عن ذلك بنفسه، وقوله تعالى: { ونأى بجانبه } أي تعظم وتكبر وبعد نفسه عن القيام بحقوق النعم. يريد بالإنسان، قال ابن عباس: (يريد بالإنسان الوليد بن المغيرة).
قوله تعالى: { وإذا مسه الشر كان يئوسا }؛ أي إذا أصابته شدة كان قنوطا من رجاء الفرج من الله، لا يثق بفضل الله تعالى على عباده فيطمع في كشف تلك البلية من جهته، وهذه صفة الكافر.
[17.84]
قوله تعالى: { قل كل يعمل على شاكلته }؛ أي على طبعه الذي جبل عليه، وقيل: على عادته التي ألفها، وفي هذا تحذير من الفساد المسكون إليه، وقيل على فئته، وقيل: على طريقته التي تشابه كل أخلاقه. قوله تعالى: { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا }؛ أي إن الله يعلم أي الفريقين على الهدى وأيهما على الضلالة من المؤمنين والكفار.
[17.85]
قوله تعالى: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي }؛ اختلفوا في الذي سألوا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: سألوه عن جبريل قد سماه الله روحا في قوله تعالى
وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا
[الشورى: 52]، وعن علي رضي الله عنه قال: (إن الروح ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان من هذه الألسنة، فسألوه عن ذلك الملك).
وعن عبدالله بن مسعود قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم: اسألوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، ثم أتاه نفر منهم فقالوا له: يا أبا القاسم ما تقول في الروح؟ فسكت، ثم قام فاشتد بيده على جبهته، فعرفت أنه ينزل عليه وحي، فنزل قوله تعالى { ويسألونك عن الروح... } الآية).
وعن ابن عباس: (أن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش: سلوا محمدا في ثلاث، فإن أخبركم باثنين وأمسك عن الثالثة فهو نبي، سلوه عن فتية مضوا في الزمان، وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها، واسألوه عن الروح. فسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى في الفتية
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم
[الكهف: 9]... إلى آخر القصة، وأنزل الله
ويسألونك عن ذي القرنين
[الكهف: 83]... إلى آخر القصة، وأنزل الله في الروح { ويسألونك عن الروح... } الآية، وإنما سألته اليهود عن الروح لأنه ليس في التوراة قصته ولا تفسيره، وليس فيها إلا ذكر اسمه الروح).
وقال سعيد بن جبير: (لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبلع السماوات السبع والأرض السبع ومن فيهما بلقمة فعل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على وجه الآدميين، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترقت السماوات من نوره).
ويقال: أراد بالروح روح الحيوان وهو ظاهر الكلام، وفي روح الحيوان خلاف بين العلماء، وكل حيوان فهو روح وبدن، وروح الحيوان جسم رقيق على بنية حيوانية، في كل جزء منها حياة.
قوله تعالى: { قل الروح من أمر ربي } أي من الأمر الذي لا يعلمه إلا ربي، وإنما لم يجبهم عن ذلك؛ لأن اليهود هم الذين سألوه عن الروح، وكان في كتابهم أنه إن أجابهم عن الروح فليس بنبي! فلم يجبهم تصديقا لما في كتابهم، وكانت المصلحة في هذا أن لا يعرفهم الروح من جهة النص، بل يكلمهم في تعريفه إلى ما في عقولهم، لما في ذلك من الرياضة باستخراج الفائدة.
وقال بعضهم: هو الدم! ألا ترى أنه من نزف دمه مات، والميت لا يفقد من جسمه إلا الدم.
وزعم قوم: أن الروح هو استنشاق الهواء، ألا ترى أن المخنوق ومن منع استنشاق وشم الهواء يموت.
وقال بعض الحكماء: إن الله خلق الروح من ستة أشياء: من جوهر النور والطيب والهواء لبقاء الحياة والعلم والعلو، ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا تبصر العينان، وتسمع الأذنان، ويكون طيبا، فإذا خرج انتن الجسد، ويكون باقيا فإذا زايلته الروح صار فانيا، ويكون حيا وبخروجه ميتا، ويكون عالما فإذا خرج منه الروح صار سفليا باليا.
والاختيار من هذه الأقوال: أنه جسم لطيف يوجد فيه الحياة! بدليل قوله تعالى في صفة الشهداء:
أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين
[آل عمران: 169-170] والأرزاق والفرح من صفة الأجسام، والمراد بهذا أرواحهم؛ لأن أجسادهم قد بليت في التراب، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن أرواح الشهداء تعلق في شجرة من الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش "
وهذا لا يكون إلا في جسم، ولا يتأتى ذلك في الأعراض كما زعمت المعتزلة والنجارية: أن الروح عرض، وهو مردود بما ذكرناه.
وعن ابن عباس: (أن الروح إذا خرج مات الجسد، وصار الروح صورة أخرى لا تطيق الكلام؛ لأن الجسد جرم، والروح يصوت من جوفه ويتكلم، فإذا فارق الجسد صار الجسد صفرا، وصار الروح صورة أخرى ينظر الناس سكونه، ويغسلونه ويدفنونه ولا يستطيع أن يتكلم، كما أن الريح إذا دخل في مكان ضيق سمعت له دويا، فإذا خرج منه لم تسمع له صوتا، وكذلك المزامير، فأرواح المؤمنين ينظرون إلى الجنة ويجدون ريحها، وأرواح الكفار يعذبون في قبورهم).
وهذا الذي ذكرناه كله في تفسير الروح عند التحقيق من التكلف؛ لأن الله سبحانه أبهم علم ذلك، قال عبدالله بن يزيد: (ما بلغ الإنس والجن والملائكة والشياطين علم الروح، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدري ما الروح، ولم يخبر الله أحدا من خلقه به، ولم يعط أحدا علمه من عباده، فقال: { قل الروح من أمر ربي } أي من علم ربي وإنكم لا تعلمونه)
قوله تعالى: { ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا }؛ أي وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه، إلا قليلا من كثير بحسب حاجتكم إليه، قل: فالروح من المتروك الذي لا يصلح النص عليه لأمور من الحكمة تقتضي تركه. والخطاب لليهود، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على اليهود، قالوا: أوتينا التوراة وفيها الحكمة، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأعلمهم الله أن علم التوراة قليل في علم الله تعالى
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله
[لقمان: 27].
[17.86-87]
قوله تعالى: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك }؛ أي لو شئنا لمحونا القرآن من القلوب والكتب، وأنسينا ذكره كيلا يوجد له أثر، { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا }؛ تتوكل عليه في رد شيء منه، وقوله تعالى: { إلا رحمة من ربك }؛ أي لكن لا نشاء ذلك إلا رحمة من ربك، فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين. قوله تعالى: { إن فضله كان عليك كبيرا }؛ أي حيث اختارك للنبوة، واصطفاك للرسالة، وخصك بالوحي والقرآن، وجعلك سيد ولد آدم، وختم بك الأنبياء، وأعطاك المقام المحمود.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه خرج وهو معصوب الرأس من وجع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " يا أيها الناس، ما هذه الكتب التي تكتبون؟ أكتاب غير كتاب الله، كل من كتب كتابا غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله عليه لكتابه، ولا يدع ورقا ولا قلبا إلا أخذ منه " قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: " من أراد الله به خيرا بقي في قلبه لا إله إلا الله " ".
وعن عبدالله بن مسعود: (إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وليصلين أقوام ولا دين لهم، وإن هذا القرآن ليصبحن وما فيكم منه شيء) فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبدالرحمن وقد أتقناه في قلوبنا ، وأثبتناه في مضاجعنا، نعلمه أباءنا وأبناءنا إلى يوم القيامة؟ قال: (يسري به في ليلة فيذهب ما في المصاحف وما في القلوب. وقرأ عبدالله: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } ).
وعن عبدالله قال: (أكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وتبني الناس مكانه، وأكثروا من تلاوة القرآن قبل أن يرفع) فقيل: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: (يسري عليه ليلا فتصبحوا منه فقراء، وتنسون قول لا إله إلا الله، وتقعون في قول الجاهلية وأشعارهم).
وعن عبدالله بن عمرو قال: (لا تقوم الساعة حتى يرتفع القرآن من حيث نزل به، له دوي كدوي النحل، فيقول الرب عز وجل: ما بالك؟ فيقول: يا رب منك خرجت وإليك أعود، أتلى ولا يعمل بي).
[17.88]
قوله تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله }؛ هذا تكذيب للنضر بن الحارث حين قال: لو نشاء لقلنا مثل هذا، والمعنى: قل لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله في حسن النظم، وجودة اللفظ، وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة لا يأتون بمثله. قوله تعالى: { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }؛ أي أعوانا، وأما رفع { لا يأتون } ، فلأن جواب القسم غالب على جواب (أن) لوقوعه في صدر الكلام.
[17.89]
قوله تعالى: { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل }؛ أي من التخويف والترغيب، { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } وامتنع أكثرهم؛ أي أكثر أهل مكة إلا جحودا وإنكارا للحق.
[17.90]
قوله تعالى: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } روى عكرمة عن ابن عباس:
" أن عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبا سفيان، والنضر بن الحارث، وأبا جهل بن هشام، والأسود بن المطلب، وربيعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل، وأبي بن خلف، والعاص بن وائل وغيرهم، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى محمد، وكلموه وخاصموه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.
فجاء إليهم النبي صلى الله عليه وسلم سريعا يظن أنه بدا لهم في أمره شيء، فجلس إليهم فقالوا: يا محمد والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة. فما أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تطلب به الشرف فينا سودناك علينا، وإن كان هذا الذي بك تابع من الجن، بدلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبريك منه!
فقال صلى الله عليه وسلم: " ما بي ما تقولون، ما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم، ولكن الله تعالى بعثني رسولا وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر على ما أمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ".
فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أقل منا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك إلينا أن يسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويجري لنا فيها أنهارا كأرض الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من أبائنا، وليكن ممن يبعث لنا قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عن ما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن صنعت لنا ما سألناك وصدقوك صدقناك، وعرفنا بذلك منزلتك عند الله بأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال صلى الله عليه وسلم: " ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني ".
قالوا: وإن لم تفعل هذا فاسأل ربك يبعث ملكا يصدقك، ويعينك عما نرى بك، فإنك تقوم في الأسواق تتلمس المعاش. فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أنا بالذي يسأل الله هذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ".
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، كما زعمت أن الله ما شاء فعل! فقال صلى الله عليه وسلم: " ذلك إلى الله، إن شاء فعله بكم " فقالوا: قد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله ما نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائل منهم: لن نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم، فقام معه عبدالله بن أمية المخزومي، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل منهم، ثم سألوك أمورا لأنفسهم؛ ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم ما خوفتهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلما إلى السماء، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تلج بابها، أو تأتي معك بنسخة منشورة، ونفر من الملائكة يشهدون أنك نبي كما تقول، وأيم الله لم فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله حزينا لما ناله من سفاهة قومه وتباعدهم من الله، فقال أبو جهل حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وتتبيب آلهتنا، إني أعاهد الله لأجلس له بحجر غدا قدر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأنزل الله هذه الآية { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } "
قرأ أهل الكوفة (تفجر) مخففة بفتح التاء وضم الجيم، واختاره أبو حاتم؛ لأن الينبوع واحد، وقرأ الباقون بالتشديد، ولم يختلفوا في الثاني أنه مشدد لأجل أنها جمع.
وذلك أنهم لما عجزوا عن الإتيان بسورة مثل القرآن وانقطعت حجتهم، جعلوا يقترحون من الآيات ما ليس لهم، مع أن الذي أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وانشقاق القمر، وغير ذلك من دلائل النبوة، كان أبلغ في الدلالة مما اقترحوه من تفجير الينبوع وغير ذلك. والينبوع: عين تفور بالماء، وأراد بقوله { من الأرض } أرض مكة.
[17.91-92]
قوله تعالى: { أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر }؛ فتشقق، { الأنهار خلالها تفجيرا }؛ في وسط ذلك البستان تشقيقا. قوله تعالى: { أو تسقط السمآء كما زعمت علينا كسفا }؛ من قرأ بسكون السين؛ أي قطعا، فجمع الكثير كسدرة وسدر، وقيل: أراد جانبا. ومن قرأ (كسفا) بفتح السين فهو جمع القليل؛ أي جمع كسفة، يقال: أعطني كسفة من هذا الثوب؛ أي قطعة منه، والكسوف هو انقطاع النور.
قوله تعالى: { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا }؛ قال قتادة والضحاك: (عيانا)، والمعنى: تأتي بهم حتى نراهم مقابلة ونشاهدهم، ويشهدون على صدق دعواك.
[17.93]
قوله تعالى: { أو يكون لك بيت من زخرف }؛ أي من ذهب، والزخرف في الأصل هو الزينة كما في قوله تعالى
حتى إذآ أخذت الأرض زخرفها وازينت
[يونس: 24] أي بزينتها. قوله تعالى: { أو ترقى في السمآء }؛ معناه: أو تصعد، { ولن نؤمن لرقيك }؛ أي لن نصدقك مع ذلك، { حتى تنزل علينا كتابا }؛ تأتينا بكتاب من الله، { نقرؤه }؛ أنك رسول من الله إلينا.
قوله تعالى: { قل سبحان ربي }؛ أي قل لهم يا محمد: تنزيها لربي عن المقابلة التي وصفتم، فإن العارف بالله يعلم أنه لا يجوز المقابلة على الله. قوله تعالى: { هل كنت إلا بشرا رسولا }؛ أي ما كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل، فلا أقدر على الإتيان بالآيات المقترحة، كما لم يقدر عليها من قبلي من الأنبياء.
قرأ ابن مسعود (أو يكون لك بيت من ذهب) قال مجاهد: (كنت ما أدري ما الزخرف حتى رأيته في قراءة ابن مسعود). قوله تعالى: { قل سبحان ربي } ، قرأ أهل مكة والشام: (قال سبحان ربي) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم.
[17.94-95]
قوله تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا }؛ أي ما صرف الناس إذ جاءهم الهدى إلا شبهة أدخلوها على أنفسهم، يعني قولهم { أبعث الله بشرا رسولا } وهذه شبهة ضعيفة، ويعجب منهم في غير التعجب، ومرادهم هلا بعث الله بشرا رسولا؟ فأجابهم الله بقوله تعالى: { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين }؛ أي لو كان في الأرض ملائكة يمشون على أقدامهم مقيمين في الأرض كما أنتم مقيمون فيها، { لنزلنا عليهم من السمآء ملكا }؛ من جنسهم، { رسولا }؛ كما أرسلنا إليكم بشرا من جنسكم رسولا، لأن الملك إنما يبعث إلى الملائكة.
[17.96]
قوله تعالى: { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم }؛ فإن الله يشهد لي بالنبوة في القرآن، وأنتم تنكرون نبوتي، { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا }؛ بأحوالهم.
[17.97-98]
قوله تعالى: { ومن يهد الله فهو المهتد }؛ أي من يوفقه الله لدينه بالطاعة فهو المهتدي، { ومن يضلل }؛ أي من يخذلهم عن دينه، { فلن تجد لهم أوليآء من دونه }؛ يهدونهم من دون الله. قوله تعالى: { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا }؛ عما يسرهم، { وبكما }؛ عما ينفعهم، { وصما }؛ عما يمنعهم.
وقيل: يحشرون في أول الحشر عميا وبكما وصما على هذه الصفة، ثم تزول هذه الصفات عنهم فيرون ويتكلمون ويسمعون كما قال الله تعالى:
ورأى المجرمون النار فظنوا
[الكهف: 53] وقال
سمعوا لها تغيظا وزفيرا
[الفرقان: 12] وقال
دعوا هنالك ثبورا
[الفرقان: 13]. ويقال: إنه لم يرد بالحشر في هذه الآية الحشر عن القبر، وإنما أراد به الحشر عن موضع المحاسبة، فإنهم يسحبون عن ذلك الموضع على وجوههم على هذه الصفات. وعن أنس:
" أن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه " ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم " قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: " إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، يتقون بوجوههم كل حدب وشوك " ".
قوله تعالى: { مأواهم جهنم }؛ أي مصيرهم إليها. وقوله تعالى: { كلما خبت زدناهم سعيرا }؛ أي كلما سكن لهبها من جانب زدناها اشتعالا من جانب آخر، يقال للنار اذا سكن لهبها: خمدت، فإذا أطفئت ولم يبق فيها شيء من النار قيل: همدت، وقال ابن عباس: (معنى قوله تعالى { خبت } أي سكنت)، وقال مجاهد: (طفئت)، وقال قتادة: (لانت وضعفت)، وقوله تعالى: { زدناهم سعيرا } أي وقودا.
ثم بين الله تعالى لماذا يزدادون سعيرا، فقال تعالى: { ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بآياتنا }؛ أي ذلك العذاب جزاء كفرهم بدلائلنا، وإنكارهم للبعث، وهو قولهم: { وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أءنا لمبعوثون خلقا جديدا }.
[17.99]
قوله تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلق السموت والأرض قادر على أن يخلق مثلهم }؛ في صغرهم وضعفهم، ونظير هذا قوله
ءأنتم أشد خلقا أم السمآء
[النازعات: 27] وقوله تعالى:
لخلق السموت والأرض أكبر من خلق الناس
[غافر: 57] ولأن من قدر على خلق الأكبر علم أنه قادر على خلق الأصغر، فإذا قدر على خلق أمثالهم قدر على إعادتهم.
قوله تعالى: { وجعل لهم أجلا لا ريب فيه }؛ أي جعل لإعادتهم وقتا لا شك فيه أنه كائن، { فأبى الظالمون إلا كفورا }؛ جحودا مع وضوح الدلالة والحجج.
[17.100]
قوله تعالى: { قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا }؛ جواب لقولهم:
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
[الإسراء: 90] المعنى: لو أنتم تملكون مقدورات رحمة ربي إذا لأمسكتم لأنفسكم مخافة أن يفنى بالإنفاق ولا يبقى لكم، وقوله تعالى: { خشية الإنفاق } ، أي خشية الفقر والحاجة، وقيل: خشية أن ينفقوا فيفتقروا.
[17.101]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات }؛ أي تسع دلالات واضحات، قال ابن عباس: (هي العصا واللسان، فإنه كان في لسانه عقدة فرفعها الله، كما قال:
واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي
[طه: 27 - 28] والبحر واليد، والآيات الخمس: وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم). وقال محمد بن كعب: (هذه الخمس والعصا واللسان وانفجار الماء من الحجر، والطمس كما قال
ربنا اطمس على أموالهم
[يونس: 88]. وقيل: هي الخمس والعصى ويده والسنون ونقص من الثمرات.
قال محمد بن كعب في الطمس: (كان الرجل منهم مع أهله في فراشه، وإذا قد صارا حجرين، وأن المرأة القائمة تخبز وقد صارت حجرا، وأن المرأة في الحمام وأنها لحجر، وكانت تنقلب الفواكه والفلوس والدراهم والدنانير أحجارا).
وروي:
" أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي، فأتياه فسألاه عن هذه الآية { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } قال: " لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يا يهود أن لا تعدوا في السبت " فقبلوا يده وقالوا: نشهد أنك نبي ".
قوله تعالى: { فسئل بني إسرائيل إذ جآءهم }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقع له العلم من عند الله، فكان لا يحتاج في معرفة ذلك إلى الرجوع إلى أهل الكتاب، فكأنه تعالى قال: فاسأل أيها السامع وأيها الشاك بني إسرائيل إذ جاءهم موسى بالبينات، قال ابن عباس: (فاسأل بني إسرائيل، يعني المؤمنين من قريظة والنضير).
قوله تعالى: { فقال له فرعون إني لأظنك يموسى مسحورا }؛ أي إني لأظنك يا موسى قد سحرت فلذلك تدعي النبوة، وقيل: هذا مفعول بمعنى فاعل كأنه قال: إني لأظنك ساحرا، وقيل: المسحور المخدوع.
[17.102]
قوله تعالى: { قال لقد علمت مآ أنزل هؤلاء إلا رب السموت والأرض }؛ أي قال موسى لفرعون: لقد علمت يا فرعون أن هذه الآيات لا تدخل في مقدور العباد، فلم ينزلها إلا رب السماوات والأرض، { بصآئر }؛ أي حججا للناس يبصرون بها في أمر دينهم، { وإني لأظنك يفرعون مثبورا }؛ وإني لأعلم يا فرعون إنك هالك، يقال: ثبر الرجل فهو مثبور؛ أي هالك، والظن قد يذكر بمعنى اليقين على ما تقدم.
وقرأ الكسائي (لقد علمت) بضم التاء، وهي قراءة علي (كرم الله وجهه) وقال: (والله ما علم عدو الله، ولكن موسى هو الذي علم) فبلغ ذلك ابن عباس فقال: (إنه { لقد علمت } تصديقا لقوله تعالى:
وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم ظلما وعلوا
[النمل: 14]). وقراءة النصب أصح وأشهر، وليست قراءة الضم مشهورة عن علي رضي الله عنه ولا ثابتة، وإنما رواها عنه رجل مجهول لا يعرف، ولا تمسك بها أحد من القراء غير الكسائي.
وقوله تعالى: { مثبورا } قال ابن عباس: (مغلوبا)، وقال مجاهد: (هالكا)، وقيل: مخبلا لا عقل لك، وقيل: بعيدا من الخيرات، وقيل: سلاخا في القطيفة، قال مجاهد: (دخل موسى على فرعون وعليه قطيفة، فألقى عصاه فرأى فرعون ثعبانا ففزع وأحدث في القطيفة).
وروى أبو سعيد الجوهري قال: (كنت قائما على رأس المأمون وهو يناظر رجلا وهو يقول: يا مثبور، ثم أقبل إلي فقال: ما معنى (مثبورا)؟ قلت: لا أدري، فقال: حدثني الرشيد قال: حدثني المهدي قال: كنت جالسا عند أمير المؤمنين المنصور، فسمعته يقول لرجل: يا مثبور، فقلت: يا أمير المؤمنين ما معنى يا مثبور؟ قال ميمون: قال ابن عباس في قوله تعالى (يا فرعون مثبورا) ما مثبورا؟ قال: ناقص العقل).
[17.103]
قوله تعالى: { فأراد أن يستفزهم من الأرض }؛ أي فأراد فرعون أن يزعج بني إسرائيل، ويخرجهم من أرض مصر قهرا. والاستفزاز: هو الخوف بالشدة، ويجوز أن يكون المراد به أنه قصد قتلهم، { فأغرقناه ومن معه جميعا }؛ أي أمرنا موسى وقومه بالخروج من مصر، فتبعه فرعون وقومه، فجعلنا في الماء طريقا يابسا، فجاوز موسى وقومه البحر، فتبعهم فرعون وقومه، فأطبقنا الماء عليهم حتى غرقوا كلهم.
[17.104]
قوله تعالى: { وقلنا من بعده }؛ من بعد هلاك فرعون، { لبني إسرائيل اسكنوا الأرض }؛ الشام وأرض مصر، وأورث بني إسرائيل مساكنهم وديارهم، وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يفعل به وبالمشركين ما فعل بموسى وعدوه، فأظهر الله النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين، ورده إلى مكة ظافرا عليها.
قوله تعالى: { فإذا جآء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا }؛ يعني يوم القيامة جئنا بكم جميعا؛ أي أتينا بكم من كل قبيلة، واللفيف: الجماعات من قبائل شتى، وقيل: جئنا بكم مختلطين لا تتعارفون، والمعنى: جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطا، يعني جميع الخلق، المسلم والكافر والبر والفاجر.
[17.105]
قوله تعالى: { وبالحق أنزلناه وبالحق نزل }؛ يعني القرآن، ويجوز أن تكون الهاء كناية عن جبريل، فإن الله أنزله بالقرآن، ونزل هو به. قوله تعالى: { ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا }؛ أي بشيرا لمن أطاع بالجنة، ومخوفا بالنذر للكفار.
[17.106]
قوله تعالى: { وقرآنا فرقناه }؛ معناه: وأنزلنا قرآنا فرقناه شيئا بعد شيء، فإنه كان ينزل منه شيء، ثم يمكثون ما شاء الله، ثم ينزل منه شيء آخر، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة. وقوله تعالى: { لتقرأه على الناس على مكث }؛ أي على تثبت وتوقف ليفهموه بالتأمل، ويعملوا ما فيه بالتفكر، وهو معنى قوله تعالى
ورتل القرآن ترتيلا
[المزمل: 4]. قوله تعالى: { ونزلناه تنزيلا }؛ تأكيدا لأنزلناه مرة بعد مرة لعظم شأنه.
[17.107]
قوله تعالى: { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: آمنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا، وهذا وعيد لهم؛ أي إن آمنتم وإن لم تؤمنوا، فالله غني عنكم وعن إيمانكم، وإيمانكم لا ينفع غيركم، وكفركم لا يضر سواكم.
قوله تعالى: { إن الذين أوتوا العلم من قبله }؛ أي من قبل نزول القرآن، والمراد بهم مؤمنوا أهل الكتاب، { إذا يتلى عليهم }؛ القرآن، { يخرون للأذقان }؛ أي يقعون على وجوههم { سجدا }؛ لله، والمراد بالأذقان الوجوه، كذا قال ابن عباس.
[17.108]
قوله تعالى: { ويقولون سبحان ربنآ إن كان وعد ربنا لمفعولا }؛ أي يقولون في سجودهم: تنزيها لله عما لا يليق به، وقد كان وعد ربنا كائنا لا محالة. وهؤلاء الذين سجدوا كانوا يسمعون أن الله يبعث نبيا من العرب وينزل عليه كتابا، فلما سمعوا القرآن سجدوا لله وحمدوه على إنجاز الوعد ببعث الرسول والكتاب، وقالوا: قد كان وعد ربنا مفعولا.
[17.109]
قوله تعالى: { ويخرون للأذقان يبكون }؛ أي يسقطون على الوجوه يبكون في السجود، { ويزيدهم }؛ البكاء في السجود، { خشوعا }؛ إلى خشوعهم؛ لأن مخافتهم الله داعية إلى طاعته، والإخلاص في عبادته.
وفي الآية دليل على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يقطع الصلاة؛ لأن الله مدحهم عليه.
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كان يصلي، فيسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء " "
وعن عبدالله بن شداد قال: (كنت أصلي خلف عمر رضي الله عنه صلاة الصبح، وكان يقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ
إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله
[يوسف: 86] سمعت نشيجه، وأنا في آخر الصفوف).
[17.110]
قوله تعالى: { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن }؛ فقال ابن عباس: (تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بمكة، فجعل يقول في سجوده: " يا الله يا رحمن ". فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا أن نعبد الهين وهو يدعو إلها آخر مع الله يقال له الرحمن! وهم لا يعرفون الرحمن، فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: قل يا محمد: أدعوا الله يا معشر المؤمنين، أو ادعو الرحمن، إن شئتم فقولوا: يا رحمن، وإن شئتم فقولوا: يا الله يا رحمن؛ { أيا ما تدعوا }؛ أي أسماء الله تدعوه بها، { فله الأسمآء الحسنى }؛ فأسماؤه كلها حسنة فادعوه بصفاته. وقوله تعالى: { أيا ما تدعوا } قال بعضهم: (ما) في هذا صلة، ومعناها التأكيد، تقديره: أيا تدعون، ومثله: عما قليل، وخذ ما هنالك، و
فبما رحمة من الله
[آل عمران: 159].
قوله تعالى: { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها }؛ قال ابن عباس: (نزلت بمكة، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، ولعبوا وصفقوا وصفروا ولغطوا، كل ذلك ليغلطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا به يؤذونه، وإذا خافت بالقراءة لم يسمعه أصحابه، فأنزل الله هذه الآية). أي لا تجهر بقراءتك في الصلاة فيسمعها المشركون فيؤذونك، ولا تخافت بها فلا يسمعها أصحابك. وقال الحسن: (معناه: ولا تجهر بقراءتك في الصلاة كلها ولا تخافت بها في الصلاة كلها، ولكن اجهر بها في بعض الصلوات، وخافت بها في بعض الصلوات).
" وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن قراءته بالليل، فقال: أخافت بها كي لا أؤذي جاري، أناجي ربي وقد علم بحاجتي، فقال صلى الله عليه وسلم " أحسنت " وسأل عمر رضي الله عنه عن قراءته بالليل فقال: أرفع صوتي أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال: " أحسنت " فلما نزلت هذه الآية قال لأبي بكر: " زد في صوتك " وقال لعمر: " انقص من صوتك " "
{ وابتغ بين ذلك سبيلا }. وعن ابن عباس أن معنى الآية: (لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة للناس).
" وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحسن الناس قراءة؟ فقال: " الذي إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله تعالى " ".
[17.111]
قوله تعالى: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا }؛ فيرثه؛ { ولم يكن له شريك في الملك }؛ يعاونه عليه، { ولم يكن له ولي من الذل }؛ أي من أهل الذل وهم اليهود والنصارى، يودون إخراج رؤوسهم ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال مجاهد: (معناه: لم يحالف، ولم يبتغ نصر أحد) والمعنى أنه عز وجل لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير,
وقوله تعالى: { وكبره تكبيرا }؛ أي عظمه عظمة تامة عن أن يكون له شريك أو ولي وصفه بأنه أكبر من كل شيء، وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، العالم الذي لا يخفى عليه شيء، الغني عن كل شيء. معتقدا لذلك بقلبك، عاملا على أمره فيما أمرك. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنه كان إذا أفصح الولد من بني عبد المطلب علمه هذه الآية { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا... } الآية ".
وروي
" أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني كثير الدين كثير الهم، فقال: " إقرأ آخر سورة بني إسرائيل { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن... } إلى آخر السورة، ثم قل: توكلت على الذي لا يموت ثلاث مرات " ".
وعن ابن عباس أنه قال: ((من قرأ سورة بني إسرائيل في سفر أو حضر إيمانا واحتسابا ضرب الله عليه سورا من حديد من الغرق والحرق والبرق)). وعن عبدالحميد أنه قال: ((من قرأ آخر بني إسرائيل، كتب الله له من الأجر مثل السماوات السبع والأرضين السبع، والبحار والجبال)).
[18 - سورة الكهف]
[18.1-3]
{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب }؛ أي الذي أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم القرآن؛ { ولم يجعل له عوجا }؛ أي لم يجعله ملتبسا لا يفهم، ومعوجا لا يستقيم. قوله تعالى: { قيما }؛ أي مستقيما عدلا؛ أي مستويا قيما على الكتب كلها ناسخا لشرائعها.
قوله تعالى: { لينذر بأسا شديدا من لدنه }؛ أي لينذر العبد الذي أنزل عليه الكتاب بأسا شديدا؛ أي لينذر الكفار عذابا شديدا من عند الله. قوله تعالى: { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا } أي ثوابا حسنا في الجنة؛ { ماكثين فيه أبدا }؛ أي مقيمين في ذلك الأجر خالدين فيه.
[18.4]
قوله تعالى: { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا }؛ وهم قريش واليهود والنصارى، فإن قريشا قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله.
[18.5]
قوله تعالى: { ما لهم به من علم ولا لآبائهم }؛ أي هم وآباؤهم كلهم مقلدين ليس لهم على ذلك بيان ولا حجة، بل قالوا جهلا. قوله تعالى: { كبرت كلمة تخرج من أفواههم }؛ أي كبرت مقالتهم تلك كلمة تخرج من أفواههم ما؛ { إن يقولون إلا كذبا }؛ و { كلمة } نصب على التمييز، وإنما كبرت هذه الكلمة؛ لأن صاحبها يستحق بها العذاب، ومن ذلك سميت الكبيرة كبيرة؛ لأن عقابها يزيد على استطاعة صاحبها.
[18.6]
قوله تعالى: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا }؛ فيه نهي للنبي صلى الله عليه وسلم من إهلاك نفسه حزنا عليهم بسبب إعراضهم عن الإيمان لشدة شفقته عليهم، وحقيقة الأسف الحزن على من فات.
ومعنى الآية: فلعلك قاتل نفسك، يقال بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظا من شدة حزنه على الشيء أو وجده بالشيء، وقوله تعالى: { على آثارهم } أي من بعدهم، يعني من بعد تولهم وإعراضهم عنك إن لم يؤمنوا، { بهذا الحديث }؛ يعني القرآن، وقوله تعالى: { أسفا }؛ أي حزنا.
[18.7-8]
قوله تعالى: { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها }؛ أي جعلنا جميع ما على الأرض من الأشجار والثمار والنبات والمياه والذهب والفضة والحيوان لهم منها زينة للأرض، وجعلناها محفوفة بالشهوات.
قوله تعالى: { لنبلوهم أيهم أحسن عملا }؛ أي لنأمرهم فننظر أيهم أعمل بطاعة الله هذا أم هذا. قال الحسن: (أيهم أزهد في الدنيا وأترك لها). وقال مقاتل: (أيهم أصلح فيما أوتي من المال، ويحسن العمل، ويزهد في ما زين له من الدنيا).
ثم بين الله تعالى أنه يعني ذلك كله؛ فقال تعالى: { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا }؛ أي يجعل ما عليها من الحيوان والنبات ترابا يابسا مستويا على الأرض، والجرز الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، ويقال: سنة جرزا إذا كانت حرة. قال عطاء: (يريد يوم القيامة يجعل الله الأرض جرزا لا ماء فيها ولا نبات).
[18.9]
قوله تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا }؛ أي لم يكونوا بأعجب، فقد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. قال الزجاج: (أعلم الله أن قصة أهل الكهف ليست بعجيبة؛ لأن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف).
والكهف: الغار في الجبل، والرقيم: قيل: هو واد دون فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقيل: الرقيم لوح من حجارة، وقيل: من رصاص كتبوا فيه أسماء أهل الكهف وقصتهم ثم وضعوه على باب الكهف وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم؛ أي المكتوب، والرقيم: الخط والعلامة، والرقيم: الكتابة.
قال ابن عباس: (وذلك أن قريشا بعثوا خمسة رهط إلى اليهود يسألونهم عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لهم: إنه يزعم أنه نبي مرسل واسمه محمد، وهو فقير يتيم وبين كتفيه خاتم، وإنا نزعم أنه يتعلم من مسيلمة، فإنه يقول: أنا مرسل من عند الرحمن، ونحن لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة - يعنون مسيلمة -.
فلما أتى هؤلاء الرهط المدينة، أتوا أحبار اليهود وعلمائهم فسألوا عنه ووصفوا لهم صفته وخاتمه، قالوا: نحن نجده في التوراة كما وصفتموه، ولكن سلوه عن ثلاث خصال، فإن كان نبيا أخبركم بخصلتين، ولم يخبركم بالثالثة؟ فإنا سألنا مسيلمة عن هذه الخصال فلم يدر ما هي، وأنتم سلوه عن خبر ذي القرنين، وعن الروح، وعن أصحاب الكهف.
فرجعوا وأخبروا قريشا بذلك، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سأخبركم غدا، ولم يقل إن شاء الله. فأبطأ عليه جبريل خمس عشرة ليلة ، وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل جبريل بهذه الآية
ولا تقولن لشاىء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء الله
[الكهف: 23 - 24].
ثم أخبره عن أصحاب الكهف وحديث ذي القرنين وخبر أمر الروح، وحدثه أن مدينة بالروم كان فيها ملك كافر يدعو إلى عبادة الأوثان والنيران، ويقتل من خالفه، وفي المدينة شاب يدعو إلى الإسلام سرا، فتابعه فتية من أهل المدينة، ففطن بهم الملك فأخذهم، ودفعهم الى آبائهم يحفظونهم، فمروا بغلام راع، فبايعهم ومعه كلبهم حتى إذا أتوا غارا فدخلوه، وألقى الله عليهم النوم سنين عددا، والملك طالب لهم لم يقف على أمرهم، وعمي عليه خبرهم، فسدوا باب الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالك.
ثم عمد رجل إلى لوح رصاص، فكتب فيه أسماءهم وأسماء آبائهم ومدينتهم، وأنهم خرجوا فرارا من دين ملكهم في شهر كذا في سنة كذا وألزقه بالسد، وكان السد في داخل الكهف، وذكر القصة إلى آخرها، فهذا اللوح الرصاص هو الرقيم.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشا بذلك، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قول اليهود أخبرهم بخصلتين ولم يخبرهم بالثالثة، قال كفار قريش:
سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون
[القصص: 48].
وقال محمد ابن اسحاق: (كثرت في أهل الإنجيل الخطايا، وطغت الملوك حتى عبدوا الأصنام والأوثان، وفيهم بقايا على دين المسيح بن مريم متمسكون بعبادة الله وتوحيده. وكان ممن فعل ذلك ملك من ملوكهم يقال له دقيانوس، وكان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت، فسار حتى دخل مدينة أهل الكهف وهي أقسوس.
فلما دخلها عظم على أهل الإيمان، واستخفوا منه وهربوا إلى كل ناحية، فأراد دقيانوس أن يجمع له أهل الإسلام، واتخذ شرطا من الكفار من أهلها وأمرهم باتباع المسلمين، وأحصرهم فجعلوا يتبعون المسلمين حتى أخذوهم ومضوا بهم الى دقيانوس، فخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمنهم من رغب في الحياة، ومنهم من قال: لا أعبد غير الله؛ فقتله.
فلما رأى ذلك أهل الإيمان جعلوا يصبرون للعذاب والقتل، فقتلهم وقطع لحومهم، وربطها على سور المدينة ونواحيها كلها، وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت المحنة على المسلمين. فلما رأى الفتية ذلك قاموا وصلوا واشتغلوا بالتسبيح والدعاء إلى الله، وكانوا من أشراف الروم، وكانوا ثمانية نفر، فبكوا وتضرعوا وجعلوا يقولون: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفعها عنهم.
فبينا هم كذلك إذ دخلوا عليهم الشرط إلى مصلاهم فوجدوهم سجودا يبكون ويتضرعون إلى الله ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته، فقالوا لهم: ما خلفكم من أمر الملك، انطلقوا اليه.
ثم خرجوا من عندهم الى دقيانوس وأخبروه بخبرهم، وقالوا: أنت تجمع الجمع وهؤلاء الفتية يعصون أمرك، فأرسل إليهم الشرط فأتوا بهم تفيض أعينهم من الدمع، معفورة وجوههم بالتراب، فقال دقيانوس: ما منعكم أن تشهدوا الذبح للأصنام، وتعبدوها وتجعلوا أنفسكم كغيركم، إختاروا إما تعبدوا الأصنام مثل الناس، وإما أن نقتلكم.
فقال مكسلمينا: إن لنا إلها تملأ السماوات والأرض عظمته، لن ندعو من دونه إلها أبدا، ولن نفعل هذا الذي تدعونا إليه، ولكنا نعبد الله ونسبحه ونحمده خالصا من أنفسنا، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة، وأما الأصنام فلا نعبدها أبدا، إصنع بنا ما بدا لك).
وقال الضحاك: (قال أصحاب مكسلمينا كلهم لدقيانوس مثل هذه المقالة، فقال دقيانوس: إني سأؤخركم، وأمهلكم حتى تراجعوا عقولكم، واجعل لكم مدة تتشاورون فيها، فإن أبيتم طاعتي وخالفتم أمري وقعت بكم العقوبة، وما منعني أن أعجل قتلكم إلا أني أراكم شبابا جديدا شبابكم، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم مدة تنظرون فيها ما يصلح لكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم وأمر بإخراجهم من عنده.
فعمد كل واحد منهم إلى بيت أبيه واخذ له منه زادا، وخرجوا هاربين فمروا بكلب، فتبعهم فطردوه ثم تبعهم، ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تخشون مني أنا أحب أحباب الله، فمتى نمتم كنت أحرسكم).
وقال ابن عباس: (كانوا سبعة هربوا ليلا، فمروا براع ومعه كلب، فتبعهم على دينهم ، فوصلوا إلى كهف قريب من البلد فلبثوا فيه، ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد، وجعلوا نفقتهم على يد واحد منهم يقال له: يمليخا، فكان يشتري لهم متاعهم من المدينة سرا، وكان من أجملهم وأجلدهم، وكان إذا أراد أن يدخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يسألون الناس، ثم يأخذ ورقة ويشتري طعاما، ويتجسس الأخبار، ويسمع هل يذكر هو وأصحابه، ثم يعود إلى أصحابه، فلبثوا كذلك ما لبثوا.
ثم إن دقيانوس الجبار شدد على من بقي من المسلمين، وأمرهم بالذبح للطواغيت، وكان يمليخا حينئذ هناك متنكرا، فسمع بأن دقيانوس يطلب الفتية ويسأل عنهم، فرجع يمليخا هاربا إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن دقيانوس يسأل عنهم، ففزعوا ووقفوا سجودا يتضرعون إلى الله، يتعوذون به من فتنتهم، وذلك عند غروب الشمس فبينا هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون، ونفقتهم عند رؤوسهم.
فلما كان من الغد إلتمسهم دقيانوس فلم يجدهم فغضب غضبا شديدا، وأرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم، وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني، فقالوا: ما ندري أين ذهبوا، ولقد أخذوا أموالنا وهربوا، وليس لنا في ذلك ذنب لأنا لم نعصك فلا تعاقبنا فيهم. فخلى سبيلهم وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية، فبلغه الخبر أنهم ارتفعوا الجبل فالتمسهم هناك حتى وجدوا الكهف، فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم.
قال دقيانوس: سدوا باب الكهف، ودعوهم فيه يموتون جوعا وعطشا، وليكن كهفهم الذي اختاروه قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم في النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف وقد غشيه ما غشيهم، يقلبون ذات اليمين وذات الشمال، وبقي دقيانوس ما بقي، ثم مات وقرون بعده كثيرة وجاءت ملوك بعد ملوك).
وقيل: إن دقيانوس لما أتى إلى كهفهم يطلبهم كان كلما أراد رجل أن يدخل عليهم الكهف أرعب، فلم يطق الدخول ، فجعلوا يقولون لو قدرنا أن ندخل عليهم لقيناهم فلم يستطع أحد الدخول إليهم، قال: سدوا عليهم باب الكهف فيموتون جوعا وعطشا، ففعلوا ذلك.
فلما مضى على ذلك قرون وأزمان جاء راعي غنم إلى الكهف بغنمه فأدركه المطر عند الكهف، ففتح الكهف ليدخل غنمه فيه من المطر فوجدهم هناك، فرد الله عليهم أرواحهم، فجلسوا فرحين مستبشرين، وظنوا أنهم أصبحوا من ليلتهم، فقاموا إلى الصلاة فصلوا، لا ترى في ألوانهم ولا في أجسامهم شيء يكرهونه، وهم يحسبون أن دقيانوس في طلبهم.
ثم قالوا ليمليخا: ما الذي قال الناس في شأننا بالأمس؟ فقال: سمعت أنهم يلتمسونكم، فقال مكسلمينا: يا إخوتاه؛ إعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروه بعد إيمانكم إذا طلبكم غدا، فقالوا ليمليخا: إذهب إلى المدينة استمع لنا الأخبار، وما الذي يذكره الناس فينا عند دقيانوس.
فدخل المدينة مستخفيا يصد عن الطريق؛ لئلا يراه من الناس أحد يعرفه فيعلم دقيانوس، ولم يعلم يمليخا أن دقيانوس وقومه قد هلكوا منذ ثلاثمائة سنة، فرأى يمليخا على باب المدينة علامة أهل الإيمان فعجب، وجعل ينظر يمينا وشمالا مستخفيا، ثم ذهب إلى الباب الثاني فرأى عليه كذلك، فخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف.
ثم رأى أناسا كثيرا يتحدثون لم يكن يراهم قبل ذلك، فخيل إليه أنه حيران، وجعل يقول لعل هذه غشية، ثم سمع الناس يتحدثون بحديث أهل الإسلام، ويحلفون بالله، ويذكرون عيسى بن مريم، فقال: لعل هذه مدينة أخرى، فقام كالحيران، فرآه إنسان فسأله ما هذه المدينة؟ فقال: هذه أفسوس، فقال: ذاهب العقل.
ثم دخل السوق ليشتري طعاما فأخرج الورق الذي معه فأعطاها رجلا وقال: بعني بهذه طعاما، فعجب الرجل من نقشها وضربها، ثم أعطاها رجلا من أصحابه لينظر إليها، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل، فقالوا: هذا أصاب كنزا من كنوز الأولين، فإما أن تشاركنا فيه، ونخفي أمرك وإلا سلمناك إلى السلطان يقتلك؟
فقال في نفسه: قد وقعت في الذي كنت احذر منه، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم، وفزع حتى أنه ما أطاق يخبرهم بشيء، فلما رأوه لا يتكلم أشاعوا خبره، وجعلوا يقودونه في سكك المدينة وهم يقولون: هذا رجل وجد كنزا، فاجتمع عليه أهل المدينة فجعلوا ينظرون إليه ويتعجبون، ويقولون: ما هذا الرجل من أهل المدينة، وما رأيناه فيها قط ولا نعرفه؟ ولو قال لهم: أنا من هذه المدينة لم يصدقوه، وكان متيقنا أن أباه وإخوته في المدينة، وأنه يسألونه من جملة الناس إذا سمعوا بخبره.
ثم إنهم انطلقوا به إلى رئيس المدينة ومدبري أمرها وهما رجلان صالحان، اسم أحدهما آرنوس والآخر أسطوس، وظن يمليخا حين مضوا به أنهم يمضون به إلى دقيانوس، فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إله السماء والأرض أفرغ اليوم علي صبرا، وأولج معي روحا تؤيدني به عند هذا الجبار.
فلما انتهوا به إلى الرجلين الصالحين سكن خوفه، فأخذ الرجلان الورق، فنظرا إليه وعجبا منه، وقالا: يا فتى أين الكنز الذي وجدته؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا، فقال يمليخا: والله ما وجدت كنزا، ولكن هذا ورق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن لا أدري ما شأني ولا أدري ما أقول لكم.
فقال أحدهما: ممن أنت؟ فقال: أما أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة، فقال له: من أبوك؟ ومن يعرفك بها؟ فأتاهم باسم لأبيه فلم يعرفوه، فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تخبر بالحق، فلم يدر يمليخا ما يقول، فقال رجل: هذا مجنون، وقال آخر: إنه ليس بمجنون يجنن نفسه حتى تطلقوه، ونظر اليه آخر شزرا وقال: أتظن أنا نصدقك ونطلقك؟ فإن هذه الورق لضربه أكثر من ثلاثمائة سنة، وأنت غلام شاب وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار.
فقال يمليخا: أتعرفون شيئا أسألكم عنه؟ قالوا: سل؛ قال: ما فعل دقيانوس، قالوا لا نعرف اليوم على وجه الأرض ملك يسمى دقيانوس، ولم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة، فقال يمليخا: والله لقد كنا فتية وإنه أكرهنا على عبادة الأوثان، فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسس الأخبار، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف أريكم أصحابي.
فلما سمع أرنوس ما يقول يمليخا قال: يا قوم لعل هذا آية من آيات الله جعلها الله لنا على يدي هذا الفتى، فامضوا بنا معه يرينا أصحابه. فمضوا معه ومضى جميع أهل المدينة، فلما سمع الفتية الذين في الكهف الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، وقد كان أبطأ عليهم يمليخا، ظنوا أنه دقيانوس جاء في طلبهم، فسبق يمليخا القوم وجاء إليهم فسألوه عن شأنه فأخبرهم بالخبر كله، فعرفوا أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله، وإنما أوقضوا؛ ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث، وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها، فلما فرغ يمليخا من كلامه قبض الله روحه وأرواحهم، وعمي على أولئك القوم باب الكهف فلم يهتدوا إليه.
[18.10]
قوله تعالى: { إذ أوى الفتية إلى الكهف }؛ أي اذكر لقومك إذ أوى الفتية يعني الشباب؛ { فقالوا ربنآ آتنا من لدنك رحمة }؛ ننجوا بها من قومنا، { وهيىء لنا من أمرنا رشدا } ، أي اجعل لنا طريقا ومخرجا يوفقنا إليك، وارشدنا إلى ما يقربنا إليك.
[18.11-12]
قوله تعالى: { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا }؛ أي أنمناهم في الكهف سنين معدودة وهم أحياء يتعشون ، { ثم بعثناهم }؛ أي أيقظناهم من نومهم؛ { لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا }؛ أي ليعرف غيرهم أنه ليس فيهم من يعرف مقدار السنين التي ناموا فيها؛ والمراد بأحد الحزبين: الفتية، والآخر ناس ذلك الزمان، وقيل: أراد بأحد الحزبين: المؤمنين، والحزب الآخر: الكافرين.
[18.13]
قوله تعالى: { نحن نقص عليك نبأهم بالحق }؛ أي نبين لك خبرهم بالصدق؛ { إنهم فتية }؛ أي شباب؛ { آمنوا بربهم وزدناهم هدى }؛ أي ثبتناهم على الإيمان.
[18.14]
قوله تعالى: { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا }؛ أي ألهمنا قلوبهم الصبر، وشجعناها حين قاموا بحضرة الكفار؛ يعني بين يدي دقيانوس الذي كان يفتن أهل الإيمان حتى قالوا بين يديه؛ { فقالوا ربنا رب السموت والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا }؛ أي كذبا وجورا، والمعنى إن عبدنا غير الله ودعونا معه إلها آخر، قلنا قولا ذا شطط؛ أي متجاوزا للحق في غاية البطلان.
[18.15-16]
قوله تعالى: { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه }؛ أي قالوا: هؤلاء قومنا عبدوا من دون الله؛ { آلهة }؛ أي عبدوا الأصنام؛ يعنون الذين كانوا في زمن دقيانوس، وقوله تعالى: { لولا يأتون عليهم بسلطان بين }؛ أي هلا يأتون على عبادتهم لها ببرهان واضح.
قوله تعالى: { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا }؛ أي فمن أظلم لنفسه ممن اختلق على الله كذبا بأن جعل معه شريكا في العبادة. وقوله تعالى: { وإذ اعتزلتموهم }؛ أي قال بعضهم لبعض، قيل: إن القائل بهذا يمليخا وهو رئيس أصحاب الكهف؛ قال لأصحابه: إذ فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانبا؛ أي عن عبادة الأصنام { وما يعبدون }؛ وهذا آخر الكلام ثم قال: { إلا الله }؛ يعني إلا الله فلا تعتزلوه أي فلا تعتزلوا عبادته.
قوله تعالى: { فأووا إلى الكهف }؛ أي فصيروا إلى الكهف، واجعلوه مأواكم؛ { ينشر لكم ربكم }؛ أي يبسط لكم؛ { من رحمته }؛ نعمته؛ { ويهيئ لكم من أمركم مرفقا }؛ ما ترفقون به هناك في معايشكم يكون مخلصا لكم من ظلم هؤلاء الكفار. قال ابن عباس: (معناه: ويسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه). يقال: فيه (مرفقا) بكسر الميم وفتح القاف، وفتح الميم وكسر الفاء، وكذلك في مرفق اليد.
[18.17]
قوله تعالى: { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، قرأ أهل الكوفة (تزاور) بالتخفيف على حذف إحدى التائين، وقرأ أهل الشام ويعقوب (تزور) بوزن تحمر، وكلها بمعنى واحد أي تميل، وفيه بيان أن الكهف الذي أووا إليه كان بابه نحو القطب الذي يقرب بباب نعش، وكانت الشمس تطلع مزوارة على باب الكهف عند الطلوع وعند الغروب.
قوله تعالى: { ذات اليمين }؛ أي ناحية اليمين، قوله تعالى: { وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال }؛ أي تعدل عنهم. قال الكلبي: (إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال يعني شمال الكهف لا تصيبه، وكان كهفهم في أرض الروم، أعلم الله أنه يميل عنهم الشمس طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم).
قوله تعالى: { وهم في فجوة منه }؛ أي في متسع من الكهف، هيأ الله لهم مكانا واسعا لا يصيبهم فيه حر ولا سموم، ولا يتغير لهم ثوب ولا لون ولا رائحة، ولكن كان ينالهم فيه نسيم الريح وبردها. قوله تعالى: { تقرضهم ذات الشمال } القرض من قولهم: قرضته بالمقراض؛ إذا قطعته، كأنه قال: تقطعهم ذات الشمال. وقيل: تعطيهم اليسير من شعاعها عند الغروب، كأنه شبهه بقرض الدراهم التي تعطى ثم تسترد.
قوله تعالى: { ذلك }؛ أي إبقاؤهم طول السنين التي ذكرها الله نياما لا يستطيعون يستيقظون من دون طعام ولا شراب، { من آيات الله }. وقوله تعالى: { من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } ظاهر المعنى.
[18.18]
قوله تعالى: { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود }؛ تظنهم يا محمد منتبهين وهو نائمون، وإنما كان يحسبهم الرائي منتبهين؛ لأنهم كانوا نياما وهم مفتوحو الأعين، وكانوا يتنفسون.
قوله تعالى: { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال }؛ قرا الحسن (ونقلبهم) بالتخفيف، والمعنى نقلبهم تارة عن اليمين إلى الشمال؛ وتارة عن الشمال إلى اليمين، كما نقلب النائم؛ لئلا تأكل الأرض أجسامهم. ذكر قتادة: (أن لهم في عام تقليبين)، وعن ابن عباس: (في كل عام مرة).
قوله تعالى: { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد }؛ أي على باب الفجوة أنامه الله كذلك، والوصيد من قولهم: أوصدت الباب، وأصدته إذا أغلقته، وقد يقال لذلك الأصيد أيضا، وقيل: الوصيد فناء الكهف. وقال سعيد بن جبير: (الوصيد: التراب). وقال السدي: (الوصيد: الباب). وقال عطاء: (عتبة الباب).
وكان لون الكلب أحمر، كذا قال ابن عباس، وقال مقاتل: (كان أصفر يضرب إلى الحمرة) وقيل: كان كلون الحجر، وقيل: كلون السماء. قال علي رضي الله عنه: (كان اسمه ريان). وقال ابن عباس: (قطمير). وقال سفيان: (اسمه حمران). وقال عبدالله بن سلام: (لسمه نشيط). روي عن بعضهم أنه مما أخذ على الكلب أن لا يضر بأحد يقرأ: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد.
قوله تعالى: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا }؛ أي لو اطلعت عليهم يا محمد لوليت منهم فرارا لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم وينتبهوا من رقدتهم. وقيل: لأنهم كانوا في مكان موحش من الكهف، وقيل: لأن أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام.
وعن ابن عباس قال: (غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس: ليس لك؛ قد منع الله ذلك عن من هو خير منك، فقال: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا؛ { ولملئت منهم رعبا }؛ فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم، فبعث أناسا فقال: اذهبوا وانظروا، ففعلوا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم من الكهف).
[18.19]
قوله تعالى: { وكذلك بعثناهم ليتسآءلوا بينهم }؛ أي وكذلك أيقظناهم، كما أنمناهم ليتحدثوا ويسألوا بعضهم بعضا، { قال قائل منهم }؛ وهو رئيسهم وسمي مكسلميا: { كم لبثتم }؛ في نومكم في الكهف؛ { قالوا لبثنا يوما }؛ فلما نظروا إلى الشمس، وقد بقي منها شيء؛ قالوا: { أو بعض يوم }؛ توقيا من الكذب، فلما نظروا إلى أظفارهم وأشعارهم علموا أنهم لبثوا أكثر من يوم؛ ف؛ { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم }.
قوله تعالى: { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة }؛ أي فابعثوا يمليخا، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وأما المدينة فهي أفسوس، وقيل: طرسوس، كان اسمها في الجاهلية: أقسوس، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. ومعنى الآية: فابعثوا أحدكم بدراهمكم هذه إلى السوق؛ { فلينظر أيهآ أزكى طعاما }؛ أي أحل ذبحة؛ لأن عامتهم كانوا مجوسا، وفيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، وقيل: أطيب خبزا وأبعد عن الشبهة، لأن ملكهم كان يظلم الناس في طعامهم، وكانوا يحسبون أن ملكهم دقيانوس الكافر. وقال عكرمة معناه: (أكثر وأفضل) في معنى أن الزكاة هو الزيادة.
قوله تعالى: { فليأتكم برزق منه }؛ أي بقوت وطعام. وقوله تعالى: { وليتلطف }؛ أي يتوقف في الذهاب والمجيء، وفي دخوله المدينة حتى لا تعرفه الكفار؛ { ولا يشعرن بكم أحدا }؛ أي لا يخبرن أحد من أهل المدينة بمكانكم.
[18.20]
قوله تعالى: { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم }؛ أي إنهم إن علموا مكانكم رجموكم بالحجارة حتى يقتلوكم، وقيل: يشتموكم ويؤذوكم، وكان من عادتهم القتل بالرجم وهو أخبث القتل. وقوله تعالى: { أو يعيدوكم في ملتهم }؛ أي إلى دينهم وهو الكفر؛ { ولن تفلحوا إذا أبدا }؛ إن عدتم إلى دينهم، ولم تظفروا الخير في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: أليس لو أكرهوهم، وأظهروا الكفر لم يكن في ذلك مضرة عليهم؟ قيل: يجوز أنه لم يكن في شريعة الإسلام جواز إظهار كلمة الكفر على وجه التقية.
[18.21]
قوله تعالى: { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق }؛ أي أطلعنا عليهم، وذلك أنهم لما بعثوا بورقهم على يد يمليخا ومضى إلى السوق، فإذا ملكهم مسلم قد أظهر علامات الإسلام فتعجب من تغير الأمر، وقال لخباز: بعني من طعامك بهذا الورق، فلما رأى الخباز دراهمه أنكرها وقال: من أين لك هذه وقد ضربت منذ ثلاثمائة سنة؟ فإما أن تعطيني من هذا الكنز، أو أرفعك إلى الملك؟ فأنت وجدت كنزا.
فحمله إلى الملك فلم يجد بدا من أن يذكر للملك قصتهم، فجاء الناس معه إلى باب الكهف، فدخل هو قبلهم، وأخبر أصحابه بأن الملك أتاهم إذ ظهر القوم عليهم فسألوه عن أمرهم، فقصوا عليهم قصتهم، فنظروا فإذا اللوح الرصاص وفيه أسماؤهم وفرارهم من دقيانوس.
فقال الملك: هؤلاء قوم هلكوا في زمان الكافر، فأحياهم الله في زماني، وحسبوا المدة، فوجدوها ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فبينا هم كذلك يحدثونهم إذ دخلوا المكان، وقد ضرب الله على آذانهم بالنوم، هكذا روي عن ابن عباس.
وذهب عكرمة إلى أن القوم دخلوا المكان وقد ضرب الله على آذانهم، فهذا معنى قوله { وكذلك أعثرنا عليهم } وقوله تعالى: { ليعلموا أن وعد الله حق } أي ليعلم الملك وقومه وغيرهم أن البعث بعد الموت كائن، { وأن الساعة }؛ القيامة، { لا ريب فيها }؛ لا شك فيها.
وقوله تعالى: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم }؛ قيل: كان التنازع في أن قال بعضهم لبعض إنهم قد ماتوا في الكهف، وقال بعضهم: بل ناموا كما ناموا من قبل، وسيوقظهم الله من بعد.
وقيل: كانوا يتنازعون في البناء كما قال تعالى: { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا }؛ أي قال بعضهم: نبني عليهم بنيانا كما تبنى المقابر؛ كي يستروهم عن الناس، وقال بعضهم: بل نبني في هذا الموضع مسجدا يعبد الله فيه، وهو قول الذين غلبوا على أمرهم وهم رؤساؤهم.
قوله تعالى: { ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا }؛ أي أعلم بلبثهم ورقادهم وأحوالهم؛ لأن قوم الملك تنازعوا في قدر مكثهم في الكهف، وفي عددهم وفي ما يفعلون بعد ذلك.
[18.22]
قوله تعالى: { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم }؛ أي وذلك أن أهل الكتاب الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل هذه الصفة يختلفون في عددهم. روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من النصارى وأهل نجران كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أصحاب الكهف، فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، { ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب }؛ أي ظنا من غير يقين كأنهم يرجمون بالغيب بالقول فهم بالغيبة عنهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم }
وقال بعضهم: هذه الواو واو الثمانية، وذلك أن العرب تقول: واحد اثنان ثلاثة أربعة ستة سبعة وثمانية؛ لأن العدد عندهم سبعة، كما هو اليوم عندنا عشرة، ونظيره قوله تعالى:
التائبون العابدون
[التوبة: 112] إلى قوله
والناهون عن المنكر
[التوبة: 112] وقوله في صفة أهل الجنة
وفتحت أبوابها
[الزمر: 73] وقوله في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
وأبكارا
[التحريم: 5].
قوله تعالى: { قل ربي أعلم بعدتهم }؛ أي قل ربي أعلم كم كان عددهم، وقوله تعالى: { ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا }؛ عنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تعالى أخبره بعدتهم، وأمره أن لا يمار في معرفة من أدعى عددهم إلا بأن بين له أنه يقوله بغير حجة، ولا خبر عنده من الله، فإن هذا العلم ليس عند أهل الكتاب، وهذا هو المراد الظاهر.
وقوله تعالى : { ولا تستفت فيهم منهم أحدا }؛ أي لا تستفت في أصحاب الكهف من اليهود وأهل الكتاب أحدا، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمته، فإنه مستغنيا بإخبار الله إياه عن أن يستفتيهم. وعن ابن عباس أنه قال: (أنا من القليل الذي يعلم عددهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم)، وإنما عرفه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[18.23-24]
قوله تعالى: { ولا تقولن لشاىء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء الله }؛ أي لا تقل إني فاعل شيئا حتى تقرن به قولك إن شاء الله، فلعلك لا تبقى إلى الغد، ولا تقدر عليه من الغد.
قال المفسرون: لما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن خبر الفتية وعدهم أن يخبرهم غدا، ولم يقل إن شاء الله، فحبس عنه الوحي حتى شق عليه، وأنزل هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله.
قوله تعالى: { واذكر ربك إذا نسيت }؛ قال ابن عباس ومجاهد: (معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرته فاستثن)، وقال سعيد بن جبير: (إذا قلت لشيء: إني فاعله غدا؛ ونسيت الاستثناء بمشيئة الله، ثم تذكرت، فقل: إن شاء الله، وإن كان بعد يوم أو بعد شهر أو سنة).
وعن ابن عباس: (معناه: إذا حلفت على شيء ونسيت الاستثناء، ثم ذكرت فاستثن مكانك وقل: إن شاء الله ولو كان إلى سنة ما لم تحنث). وقال الحسن: (له أن يستثني في اليمين ما لم يقم من المجلس).
وقال إبراهيم وعطاء والشعبي: (لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام، فيكون المعنى على هذا القول: وإذا ذكرت إذا نسيت شيئا فادع الله حتى يذكرك). وقال عكرمة: (معناه: واذكر ربك إذا غضبت).
قال وهب: (مكتوب في الإنجيل: يا ابن آدم اذكروني حين تغضب أذكرك حين أغضب). وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من نسي صلاة أو نام عنها؛ فليصلها إذا ذكرها "
قوله: { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا }؛ أي قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف.
[18.25]
قوله تعالى: { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا } يعني من يوم دخلوا الكهف إلى أن بعثهم الله وأطلع عليهم الخلق. قال الفراء والزجاج والكسائي: (التقدير: سنين ثلاثمائة؛ لأن التفسير لا يكون بلفظ الجمع). وقال أبو علي الفارسي: (سنين بدل من ثلاثمائة). وقرأ حمزة: (ثلاثمائة سنين) مضافة غير منونة. وقال الضحاك: (نزل قوله تعالى: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة، فقالوا: أياما أو شهورا أو سنين؟ فقيل: سنين) ولذلك لم يقل سنة.
[18.26]
قوله تعالى: { قل الله أعلم بما لبثوا }؛أي لقدر ما لبثوا؛ { له غيب السموت والأرض }؛ أي له العلم بكل مستور عن الخلق في السماوات والأرض وفي قعر البحار. قوله تعالى: { أبصر به وأسمع }؛ أي أذكر بذلك الناس فهو من خفي صفاته: وقيل: معناه: ما أبصر الله بكل موجود! وما أبصره بكل مسموع.
قوله تعالى: { ما لهم من دونه من ولي }؛ أي ما لأهل السماوات والأرض من دون الله من ولي ولا ناصر. قوله تعالى: { ولا يشرك في حكمه أحدا }؛ أي لا يشرك في حكمه أحدا غيره. وقرأ ابن عامر: (ولا تشرك) على المخاطبة: أي لا تشرك أيها الإنسان على النهي.
[18.27]
قوله تعالى: { واتل مآ أوحي إليك من كتاب ربك }؛ أي اقرأ عليهم القرآن وعرفهم أنه الحق؛ { لا مبدل لكلماته }؛ ولا خلف لخبره ولا مغير له: قوله تعالى: { ولن تجد من دونه ملتحدا }؛ أي ملجأ أو معدلا تهرب إليه، من قولهم: لحدت إلى كذا؛ إذا ملت إليه، ومنه اللحد؛ لأنه يمال به إلى ناحية القبر، ومنه الإلحاد في الدين الميلان عليه.
[18.28]
قوله تعالى: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }؛ نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر وخباب وعامر بن فهيرة وغيرهم من الفقراء، كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان مع سلمان شملة قد عرق فيها إذ دخل عيينة بن حصن الفزاري، فقال: يا محمد إن رؤوس مضر وأشرافها، وإنه والله ما يمنعنا من الدخول عليك إلا هذا - يعني سلمان وأصحابه - ولو أنا إذا دخلنا عليك أخرجتهم عنا لاتبعناك، إنه ليؤذينا ريحه أما يؤذيك ريحه؟ فأنزل الله في سلمان وأصحابه هذه الآية. ومعناها: واحبس نفسك أيها النبي مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وتعظيمه.
قوله تعالى: { ولا تعد عيناك عنهم }؛ أي لا تصرف بصرك عنهم لفقرهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة. قوله تعالى: { تريد زينة الحياة الدنيا }؛ أي مجالسة أهل الشرف والغنى (تريد) هاهنا في موضع الحال أي مريدا.
قوله تعالى: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا }؛ يريد عيينة وأبناءه، أي لا تطعهم في تنحية الفقراء عنك ليجلسوا إليك، ومعنى: { أغفلنا قلبه عن ذكرنا } أي جعلناه غافلا عن القرآن والإسلام. قوله تعالى: { وكان أمره فرطا } أي ضياعا وندما، وقيل: هلاكا، وقيل: مخالفا للحق، وقيل: باطلا، وقيل: معناه: ضيع أمره وبطل أيامه.
[18.29]
قوله تعالى: { وقل الحق من ربكم }؛ أي قل القرآن والدلالات على وحدانية الله ونبوة رسوله هو الحق من ربكم، و(الحق) مرفوع على الحكاية، وقيل: خبر مبتدأ مضمر؛ أي هو الحق؛ والمعنى: وقل يا محمد لهؤلاء الذي أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس الذي أنذركم به (الحق من ربكم)، لم أتكلم به من قبل نفسي.
قوله تعالى: { فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر }؛ تهديد بلفظ الخبر، والمعنى: فمن شاء فيؤمن، ومن شاء فيكفر، { إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها }؛ فقد أعد لكم نارا على كفركم أحاط بكم سرادقها؛ قال ابن عباس: (السرادق: حائط من النار يحيط بهم).
وقيل: دخان يحيط بهم قبل أن يصلوا إلى النار. وعن أبي سعيد الخدري قال: (سرادق النار أربعة جدر، غلظ كل جدار مسيرة أربعين سنة، فهذه الجدر محيطة بهم). وقال ابن عباس: (معنى الآية: فمن شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر).
قوله تعالى: { وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كالمهل }؛ معناه: وإن يستغيثوا من شدة الحرارة يغاثوا بماء كعكر الزيت أسود غليظ، وقيل : إن المهل هو الصفر المذاب، ويقال: هو القيح والدم. قوله تعالى: { يشوي الوجوه }؛ أي إذا قرب البشر منه أنضج الوجه بحرارته، وأسقط فروة وجهه ولحمه فيه، { بئس الشراب وسآءت }؛ النار؛ { مرتفقا }؛ أي ساءت متكأ لهم، مأخوذ من المرفق؛ لأنهم يتكؤن على مرافقهم، وقيل: معناه: وساءت منزلا ومقرا، وقيل: مجتمعا مأخوذ من المرافقة.
[18.30-31]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا }؛ أي لا يبطل ثواب من أخلص لله، ويجوز أن يكون معناه: إنا لا نضيع أجر من أحسن منهم، بل يجازيهم.
ثم ذكر جزاءهم فقال: { أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار }؛ أي بساتين إقامة، وقد ذكرنا صفات جنات عدن. قوله تعالى: { يحلون فيها من أساور من ذهب }؛ أي يلبسون في الجنان ذلك.
قال الزجاج: (أساور: جمع أسورة، وأسورة جمع سوار)؛ وهو زينة يلبس في الزند من اليد، من زينة الملوك يسور في اليد ويتوج على الرأس. قال ابن جبير: (على كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحد من فضة وواحد من ذهب وواحد من لؤلؤ وياقوت).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعها لكان ما يحليه الله به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعها ".
قوله تعالى: { ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق }؛ الخضر: جمع أخضر، وهو أحسن ما يكون من الثياب، والسندس: الديباج الرقيق الفاخر، وقيل: هو الحرير؛ وواحد السندس سندسة، والاستبرق الديباج الغليظ الذي له بريق.
قوله تعالى: { متكئين فيها }؛ أي في الجنان؛ { على الأرآئك }؛ أي على السرر في الحجال وهي من ذهب مكلل بالدر والياقوت؛ { نعم الثواب }؛ جزاء أعمالهم؛ { وحسنت مرتفقا }؛ أي متكأ.
[18.32]
قوله تعالى: { واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا }؛ الآية، هذا مثل ضربه الله لعباده؛ ليستدعيهم إلى طاعته، ويزجرهم عن كفران نعمته، والمعنى: واضرب لهم مثلا رجلين.
قال ابن عباس: (كانوا أخوين في بني إسرائيل؛ توفي أبوهما وترك ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما مسلما والآخر كافرا، وأصاب كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فالمسلم أنفقها في سبيل حتى أنفدها فأوجب الله له الجنة، والكافر اشترى بها بساتين، فاحتاج المسلم إليه فأتاه يتعرض إليه. فقال له: أين مالك؟ فقال له: أنفقته في سبيل الله، فقال له الكافر: لا أعطيك حتى تتبع ديني، ثم أخذ بيد أخيه فأدخله بساتينه، وجعل يطوف به فيها ويقول له: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، فذلك قوله تعالى: { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } أي جعل للكافر منهما بساتين من كروم، وجعل حول البساتين نخيلا وجعلنا بين البساتين زرعا؛ أي يزرعه.
[18.33-34]
قوله تعالى: { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا }؛ أي كلا البساتين أخرجت ثمرها ولم تنقص منه شيئا كأن ما أن يذهب صنف من الثمار إلا أثمر صنف آخر، وإنما قال: آتت؛ ولم يقل آتتا؛ لأن المعنى أعطت كل واحدة من الجنتين، ولفظ كلتا واحدة؛ لأن الألف في كلتا ليست ألف تثنية، كأنه قال: كل واحدة منهما آتت أكلها.
قوله تعالى: { وفجرنا خلالهما نهرا }؛ أي فجرنا وسط البساتين نهرا نسقيها، { وكان له ثمر }؛ أي كان لهذا الكافر ذهب وفضة ومن كل المال، وقيل: من قرأ: (ثمر) بضم الثاء، فمعناه صنوف من الأموال: الذهب والفضة وغيرهما، يقال: أثمر الرجل إذا كثر ماله. ومن قرأ بنصب الثاء كان معناه ثمرة البساتين، والأول هو الأقرب لأن قوله { كلتا الجنتين آتت أكلها } يدل على الثمار، فاقتضى أن يكون الثمر غير ذلك.
قوله تعالى: { فقال لصاحبه }؛ أي لأخيه المسلم؛ { وهو يحاوره }؛ أي يراجعه بالكلام ويفاخره: { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا }؛ يعني خدما وحشما وولدا، يتطاول بذلك على أخيه، ورأى تلك النعمة من قبل نفسه لا من قبل الله.
[18.35-36]
قوله تعالى: { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه }؛ أي دخل الكافر بستانه وهو ظالم لنفسه بالكفر وترك الشكر؛ { قال مآ أظن أن تبيد هذه أبدا }؛ أي ما أظن أن تفنى هذه أبدا. قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم فأدخله جنته، وطاف به فيها، وأراه إياها وجعل يعجبه منها، ويقول ما أظن أن تفنى هذه أبدا، { ومآ أظن الساعة قائمة }؛ أنكر البعث والثواب والعقاب، وأخبر أخاه بكفره وإنكاره للقيامة.
قوله تعالى: { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا }؛ يعني لئن كان البعث حقا، ورددت إلى ربي على زعمك لأجدن في الآخرة خيرا منها مرجعا ومنزلا، ولم يعطني الله هذه في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها لكرامتي عليه، فمعناه الجنتين التي تقدم ذكرهما، وفي هذا بيان أن هذا الكافر لم يكن قاطعا لنفي المعاد ولكن كان شاكا فيه، والشاك في المعاد كافر.
[18.37-38]
قوله تعالى: { قال له صاحبه وهو يحاوره }؛ أي أجابه صاحبه المسلم منكرا بما قال وهو يخاطبه: { أكفرت بالذي خلقك من تراب }؛ أي بالذي خلق أصلك من تراب؛ { ثم }؛ خلقك؛ { من نطفة }؛ أبيك؛ { ثم سواك رجلا }؛ أي أكملك وجعلك معتدل الخلق والقامة، وجعلك بشرا سويا.
قوله تعالى: { لكنا هو الله ربي }؛ معناه: أما أنا فلا أكفر بربي، لكن هو الله ربي؛ تقديره: لكن أنا هو الله ربي، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: لكن الله هو ربي؛ أعلم بذلك أخاه الكافر بأنه موحد مسلم.
ومن قرأ: (لكنا) فالمعنى لكن أنا؛ إلا أنه حذفت الهمزة، وأبقيت حركتها على الساكن الذي قبلها، فالتقى نونان فأدغمت إحداهما في الأخرى. قوله تعالى: { ولا أشرك بربي أحدا }؛ ظاهر المراد.
[18.39]
قوله تعالى: { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شآء الله }؛ معناه: أن المسلم قال للكافر: هلا قلت حين دخلت ما شاء الله! أي الأمر بمشيئة الله، وما شاء الله كان يعني إن شاء الله خراب هذه الجنة وإهلاكها كان ذلك بمشيئة الله، { لا قوة إلا بالله }؛ أي لا يقوى أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله، ولا يكون له ما شاء الله، ولا قوة في بدنه وملكه إلا بالله.
قوله تعالى: { إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا }؛ معناه: أن المسلم قال للكافر: إن كنت أنا أقل منك مالا وعشيرة فأنا راض بما قسم لي، قوله تعالى: { أقل } منصوب؛ لأنه مفعول (ترني). وقوله تعالى: { أنا } عماد، ومن قرأ (أقل) بالرفع فعلى معنى (أنا) مبتدأ و(أقل) خبر في موضع المفعول.
[18.40-41]
قوله تعالى: { فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك }؛ أي لعل الله يؤتيني في دار البقاء بستانا خيرا من بستانك في الدنيا، { ويرسل عليها }؛ على بستانك؛ { حسبانا من السمآء }؛ أي نارا من السماء فتحرقها، وسمي العذاب حسبانا على معنى أنه يرسل عليها بحساب ما كسبت يدك.
وقال النضر بن شميل: (الحسبان المرامي) أي يرسل عليها مرامي عذابه إما برد، وإما حجارة وغيرهما بما شاء من أنواع العذاب، { فتصبح صعيدا زلقا }؛ أي أرضا ملساء لا نبات عليها. قوله تعالى: { أو يصبح مآؤها غورا }؛ أي غائرا في الأرض يعني النهر الذي في خلالها، { فلن تستطيع له طلبا }؛ أي لا يبقى له أثر يطلبه بوجه من الوجوه، لا تناله الأيدي ولا الأرشية.
[18.42]
قوله تعالى: { وأحيط بثمره }؛ أي هلك ماله وبستانه، يقال: أحيط القوم إذا هلكوا، { فأصبح }؛ الكافر، { يقلب كفيه }؛ أي يضرب بإحدى يديه على الأخرى، وتقليب الكفين يفعله النادم كثيرا، وصار عبارة عن الندم، { على مآ أنفق فيها }؛ أي في جنته، { وهي خاوية على عروشها }؛ أي ساقطة على سقوفها؛ { ويقول يليتني لم أشرك بربي أحدا }؛ فندم حيث لا ينفعه الندم، ولم يكن تندمه على إشراكه إيمانا منه؛ لأنه لم يقله تحقيقا للتوبة، ولكن كان يتأسف على هلاك ماله.
[18.43]
قوله تعالى: { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله }؛ أي لم تنصره الفئة الذين افتخر بهم في قوله
وأعز نفرا
[الكهف: 34] { وما كان منتصرا }؛ بأن استرد بدل ما ذهب منه.
[18.44]
قوله تعالى: { هنالك الولاية لله الحق }؛ في ذلك الموطن علم الكافر أن الولاية بالنصر لله الحق، فهو الذي يملك النصر، هذا معنى قراءة (الولاية) بخفض الواو، وأما (الولاية) بفتح الواو فهو نقيض العداوة، وقيل: إن معنى قراءة (الولاية) بالكسر: الإمارة والسلطان، يعني في يوم القيامة الولاية لله. ومن قرأ بفتحها فهو من الموالاة كقوله تعالى
الله ولي الذين آمنوا
[البقرة: 257] يعني: إنهم يؤمنون بالله يومئذ، ويتبرءون مما كانوا يعبدون من دون الله. وقوله تعالى: (الحق) من قرأ بالكسر فهو نعت لله، ومن رفعه فهو نعت للولاية.
قوله تعالى: { هو خير ثوابا }؛ أي خير من أثاب وجازى على العمل؛ { وخير عقبا }؛ أي خير من أعقب عاقبة، وقيل: عاقبة طاعته خير من عاقبة غيره. قال ابن عباس: (هذان الرجلان ذكرهما الله في سورة الصافات قال قائل منهم إن
لي قرين
[الصافات:51] إلى قوله تعالى
فاطلع فرآه في سوآء الجحيم
[الصافات: 55].
[18.45]
قوله تعالى: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كمآء أنزلناه }؛ أي اضرب يا محمد لهؤلاء المتكبرين المترفين من قومك الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين صفة الحياة الدنيا في بقائها وفنائها؛ كماء أنزلناه { من السماء فاختلط به نبات الأرض }؛ فنجع في النبات حتى خالطه، وأخذ النبات زخرفه فصار أجناسا مختلفة بعضها مخلط ببعض؛ { فأصبح هشيما تذروه الرياح }؛ متفتتا، والهشيم ما تكسر وانحطم، ثم فرقته الرياح، وطارت به كما يطير بأشياء خفيفة فلا يبقى له أثر، كذلك الدنيا يفنى منها كل شيء كما لا يبقى من الهشيم شيء؛ { وكان الله على كل شيء مقتدرا }؛ أي لم يزل قادرا على خلق الأشياء. قالت الحكماء: شبه الله الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقي على أحد.
[18.46]
قوله تعالى: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا }؛ أي مما ينتفع به في الدنيا لا في الآخرة؛ { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } قيل: إنها الصلوات الخمس، وقيل: جميع الطاعات. وسميت الباقيات لبقاء ثوابها للإنسان، بخلاف الأموال والأولاد التي لا تبقى.
وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: (هي قول العبد: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر). يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فحركه حتى سقط ورقه، فقال: " إن المسلم إذا قال: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر، تحاتت خطاياه كما تحات هذا، خذهن إليك يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، فإنهن من كنوز الجنة وهن الباقيات الصالحات ".
وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" خذوا حسبكم من النار، قولوا: سبحان الله؛ والحمد لله ولا إله إلا الله؛ والله أكبر؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن المقدمات؛ وهن المنجيات؛ وهن المعقبات؛ وهن الباقيات الصالحات "
وقال عثمان بن عفان وابن عمر وسعيد بن المسيب: (هن: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " استكثروا من الباقيات الصالحات " قيل: ما هي يا رسول الله؟ قال: " التكبير؛ والتهليل؛ والتسبيح؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، وعن العدو أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر. فإنها من الباقيات الصالحات ".
وقيل: هي كل عمل صالح يثاب عليه. قوله تعالى: { خير عند ربك ثوابا وخير أملا } أي أفضل ثوابا، وأفضل أملا من المال والبنين.
[18.47]
قوله تعالى: { ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة }؛ أي واذكر يوم نسير الجبال، ويجوز أن يكون المعنى وخير أملا يوم نسير الجبال، وتسير الجبال وتسييرها: قلعها، فإن الله تعالى يقلعها عن وجه الأرض يومئذ، فيسيرها في الهواء، كما يسير السحاب في الدنيا، ثم يجعلها هباء منثورا فتعود في الأرض حتى لا يبقى شيء، ولذلك قال تعالى { وترى الأرض بارزة } أي ظاهرة مستوية لا يستر شيء شيئا، ولو كان يبقى شيء من الجبال والأشجار والنبات لم تكن الأرض بارزة. قوله تعالى: { وحشرناهم }؛ يعني المؤمنين والكافرين، أي بعثناهم من قبورهم، { فلم نغادر منهم أحدا }؛ أي لم نترك منهم أحدا في قبره نسيانا ولا غفلة.
[18.48]
قوله تعالى: { وعرضوا على ربك صفا }؛ أي معناه: أن الناس كلهم يعرضون على الله تعالى مصفوفين، كل زمرة وأمة صف، فيكونون صفا بعد صف كصفوف الصلاة إلا أنهم صف واحد.
قوله تعالى: { لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة }؛ أي أعدناكم كما خلقناكم أول مرة. وقال ابن عباس: معناه (حفاة عراة ليس معهم شيء مما اكتسبوه في الدنيا كما في أول الخلق).
قال صلى الله عليه وسلم:
" " يحشر الناس يوم القيامة من قبورهم حفاة عراة غرلا " فقالت عائشة: واسوأتاه يا رسول الله! أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " "
قوله تعالى: { بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا }؛ أي بل زعمتم في الدنيا أن لن نجعل لكم أجلا للبعث، وهذا خطاب لمنكري البعث خاصة.
[18.49]
قوله تعالى: { ووضع الكتاب }؛ أي كتاب كل إنسان في يده، بعضهم في اليمين وبعضهم الشمال، { فترى المجرمين }؛ أي المذنبين وهم المشركون؛ { مشفقين مما فيه }؛ أي خائفين مما في الكتاب، يدعون على أنفسهم بالويل والثبور؛ { ويقولون يويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها }؛ قال ابن عباس: (الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك). وقال ابن جبير: (الصغيرة المسيس والتقبيل، والكبيرة الزنا). والمعنى لا يترك صغيرة ولا كبيرة من أعمالنا إلا أثبتها.
قوله تعالى: { ووجدوا ما عملوا حاضرا }؛ أي وجدوا جزء ما عملوا مكتوبا مثبتا في الكتاب، { ولا يظلم ربك أحدا }؛ أي لا ينقص من حسنات أحد، ولا يزيد في سيئات أحد، ولا يعاقب بغير جرم. وروي أن الفضيل بن عياض كان إذا قرأ هذه الآية قال: (صحوا والله من الصغار قبل الكبار).
[18.50]
قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس }؛ قد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { كان من الجن }؛ تقدم أيضا، الخلاف في أنه من الملائكة أم من الجن، بني الجان، والصحيح أنه من بني الجان جنس غير جنس الملائكة؛ لأن الملائكة رسل الله، ولا يجوز على رسول من رسل الله أن يكفر، { ففسق عن أمر ربه }؛ أي خرج عن طاعة ربه، وقيل: رد أمر ربه، { أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني }؛ هذا استفهام بمعنى الإنكار، يقول: كيف تطيعونه وقد فسق، { وهم لكم عدو }؛ وهو اليوم عدو لكم، { بئس للظالمين بدلا }؛ ما استبدل الظالمون عن رب العزة إبليس لعنه الله حيث تركوا طاعة من خلقهم، وأنعم عليهم، ويجازيهم جنة الخلد، وأطاعوا من يؤديهم إلى العقاب الدائم.
قوله تعالى: { وذريته }. قال قتادة والحسن: (يعني أولاد إبليس؛ وهم يتوالدون، كما يتوالد بنو آدم)، قال مجاهد: (فمن ذرية إبليس ولهان؛ وهو صاحب الطهارة والصلاة، وزلينور صاحب راية إبليس لكل سوق، ودثير صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه والدعاء بالويل والثبور وغير ذلك، والأعور وهو صاحب أبواب الزيادة، ومنيوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يوجد لها أصل، وداسم هو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله ضره في المتاع ما لم يرفع ولم يوضع في موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. ومن أولاد إبليس الهفاف ومرة، وبه كان يكنى أبا مرة). وقال ابن زيد: (إن إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس، قال الله تعالى لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلا جعلت لك مثلها، فليس من ولد آدم أحد إلا بشيطان قرن به).
[18.51]
قوله تعالى: { مآ أشهدتهم خلق السموت والأرض ولا خلق أنفسهم }؛ يعني إبليس وذريته، والمعنى: ما اطلعتهم على خلق السماوات والأرض، ولا أحضرتهم، ولم يكونوا موجودين يوم خلقت السماوات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، ولا أعطيتهم العلم وكيفية خلق الأشياء، ولو كنت ممن يستعين بأحد لما أستعنت بالمضلين، فكيف والاستعانة علي مستحيلة إذا أردت خلق شيء كان. والمعنى أنكم اتبعتم الشيطان، كاتباع من يكون عنده علم باطن الأشياء، وأنا ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم.
قوله تعالى: { وما كنت متخذ المضلين عضدا }؛ أي ما كنت متخذ الشياطين الذين يضلون الناس أعوانا يعضدونني. ومن قرأ (وما كنت) بالفتح، فالمعنى: وما كنت يا محمد لتتخذ المضلين أنصارا.
[18.52]
قوله تعالى: { ويوم يقول نادوا شركآئي الذين زعمتم }؛ معناه: يوم القيامة يقول الله للمشركين: نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاؤهم للأصنام والشياطين وذريته؛ ليدفعوا عنكم العذاب، { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا }؛ أي جعلنا بين العابد والمعبود من العذاب ما يوبقهم؛ أي ما يهلكهم، وقيل: معناه: وجعلنا بينهم وبين المؤمنين؛ أي بين أهل الهدى وأهل الضلالة موبقا.
قال عبدالله بن عمر: (هو واد في جهنم من الصديد والقيح والدم، يفرق يوم القيامة بين لا إله إلا الله ومن سواهم). وقال عكرمة: (هو نهر من النار يسيل نارا، على حافتيه حيات مثل البغال). وقال الضحاك: (معناه: وجعلنا بينهم مهلكا)، وقال الحسن: (عداوة)، ويقال: أوبقه الله؛ أي أهلكه، ووبق أي هلك. قرأ حمزة (ويوم نقول) بالنون.
[18.53]
قوله تعالى: { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها }؛ أي ورأى المشركون النار مسيرة أربعين سنة، وايقنوا أنهم داخلوها، { ولم يجدوا عنها مصرفا }؛ معدلا يعدلون إليه، لأنها أحاطت بهم من كل جانب، والمواقعة ملامسة الشيء بشدة، ومنه وقائع الحروب.
[18.54]
قوله تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل }؛ أي بينا لهم من كل مثل يحتاجون إليه في أمر دينهم، { وكان الإنسان }؛ أي الكافر، { أكثر شيء جدلا }؛ في تكذيب الرسل، وما جاءوا به من الآيات. قيل: أراد بالإنسان النضر بن الحارث وجداله في القرآن. وقال الكلبي: (يعني أبي بن خلف) ويقال: معناه: ما ليس بشيء من الملائكة والجن والشياطين، وسائر الأصناف أجدل من الإنسان. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أعطوا الجدل ".
[18.55]
قوله تعالى: { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جآءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا }؛ أي ما منع أهل مكة أن يؤمنوا { إذ جآءهم الهدى } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم جاءهم من الله بالرشاد، { ويستغفروا ربهم } أي يتوبوا من الكفر، ما منعهم من ذلك إلا طلب أن يأتيهم سنة الأولين؛ وهو أنهم إذا لم يؤمنوا جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو مقابلة من حيث يرون. وهذه الآية فيمن قتل من المشركين ببدر وأحد؛ وهو قوله تعالى: { أو يأتيهم العذاب قبلا } أي عيانا مقابلة. وقرأ أهل الكوفة (قبلا) بضم القاف والباء، جمع قبيل؛ أي صنوف من العذاب، وضروب منه مختلفة.
[18.56]
قوله تعالى: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين }؛ ظاهر المعنى، { ويجدل الذين كفروا بالبطل }؛ أي يخاصم الذين كفروا بالكتاب والرسل بالحجة الباطلة، { ليدحضوا به الحق }؛ أي ليبطلوا بها الإسلام القرآن. قال ابن عباس: (يعني المستهزئين والمقتسمين وأتباعهم)، يقال: دحضت حجته إذا بطلت. قوله تعالى: { واتخذوا ءايتي ومآ أنذروا هزوا }؛ أي اتخذوا القرآن وما خوفوا به من النار يوم القيامة هزوا.
[18.57]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيت ربه }؛ أي ليس أحد أظلم ممن وعظ بالقرآن، وما فيه من الوعيد، { فأعرض عنها }؛ أي تهاون بها ولم يتفكر فيها. وقوله تعالى: { ونسي ما قدمت يداه }؛ أي ونسي ذكر ما عملت يداه وتغافل عن ذكره، { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه }؛ أي أغطية؛ لئلا يفقهوا الهدى، وجعلنا { وفي ءاذانهم وقرا }؛ لئلا يستمعوا. قوله تعالى: { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا }؛ أي إن تدعهم إلى القرآن وإلى الرحمة وإلى الإيمان فلن يهتدوا، أخبر الله أن هؤلاء طبع الله على قلوبهم.
[18.58]
قوله تعالى: { وربك الغفور ذو الرحمة }؛ أي الغافر الساتر على عباده، والرحمة حين لا يعجلهم بالعقوبة، { لو يؤاخذهم } بعقاب، { بما كسبوا لعجل لهم العذاب }؛ في الحال؛ { بل لهم موعد }؛ أي لعذابهم أجل ضربه الله، { لن يجدوا من دونه موئلا }؛ أي ملجأ ومنجا.
[18.59]
قوله تعالى: { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا }؛ أي القرى الماضية، قرى عاد وثمود لما أشركوا، والمراد أهل القرى، { وجعلنا لمهلكهم موعدا }؛ أي لوقت إهلاكهم أجلا.
[18.60]
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا }؛ أي واذكر إذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون، قال ابن عباس: (وقصة ذلك: أن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فبعث الله عليه فقال: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب كيف لي به، يا رب دلني عليه.
فقال: تأخذ معك حوتا وتمضي إلى شاطئ البحر، فحيث ما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتا من السمك، وجعله في مكتل وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون إلى شاطئ البحر، فأويا إلى صخرة عندها ماء يسمى ماء عين الحياة، فجلس يوشع يتوضأ من تلك العين، فانتضح من ذلك الماء على الحوت فحيي، فوثب في الماء، واتخذ سبيله في البحر سربا؛ أي اتخذ الحوت طريقا في البحر مسلكا يابسا).
وقيل: معنى قوله (سربا) أي ذاهبا، فقام يوشع حين رأى ذلك من الحوت، وذهب إلى موسى ليخبره بذلك، وذهبا يومهما ذلك حتى صليا الظهر من الغد، فتعب موسى، فقال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا؛ أي تعبا.
ومعنى الآية: وإذ قال موسى لفتاه لا أزال أمضي حتى أبلغ مجمع البحرين الموضع الذي يلتقي فيه بحر فارس والروم أو أمضي سنين كثيرة، والحقب جمع أحقاب، والأحقاب جمع الحقب، والحقب ثمانون سنة، وقيل: سبعون سنة بلغة قريش، وسمي يوشع فتاه؛ لأنه كان يخدمه ويلازمه في الحضر والسفر للتعلم منه.
[18.61]
قوله تعالى: { فلما بلغا مجمع بينهما } أي الموضع الذي يجتمع فيه ماء البحرين نسي صاحب موسى أن يخبره بخبر الحوت. قال المفسرون: وكان حوتا في زنبيل، وكانا يأكلان منه عند الغداء والعشاء، فلما أتيا إلى الصخرة على ساحل البحر وضع فتاه الزنبيل فأصاب الحوت من الماء الذي ذكرناه شيء فتحرك في الزنبيل فانسرب في البحر، قد قيل لموسى: تزود معك حوتا مالحا فحيث تفقد الحوت فهناك تجد الرجل العالم.
فلما انتهيا إلى الصخرة، قال موسى لفتاه: امكث هنا، وانطلق لحاجته فجرى الحوت في البحر، فقال فتاه: إذا جاء نبي الله أخبرته بذلك، فأنساه الشيطان، فذلك قوله تعالى: { نسيا حوتهما }؛ وإنما نسي يوشع أن يذكر قصته لموسى، وأضاف النسيان إليهما توسعا لأنهما تزودا، فصار كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم.
قوله تعالى: { فاتخذ سبيله في البحر سربا }؛ أي جعل الحوت يضرب بذنبه في البحر فلا يضرب شيئا وهو ذاهب إلا يبس موضعه كهيأة السرب. قال قتادة: (جعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار الماء جامدا)، وقال الربيع: (انجاب الماء على مسلك الحوت في الماء فصار كوة لم يلتم).
والسرب في اللغة: المحفور في الأرض، وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار كوة لم يلتم، فدخل موسى الكوة على إثر الحوت، فإذا بالخضر "
وقال ابن عباس: (جعل الحوت لا يمس شيئا من الماء إلا يبس حتى صار صخرة).
[18.62-63]
قوله تعالى: { فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غدآءنا }؛ أي لما جاوز بين البحرين، قال موسى ليوشع: آتنا بما نتغدى به، { لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا }؛ أي تعبا ومشقة، فلما قال له موسى ذلك؛ تذكر قصة الحوت؛ ف { قال }؛ له: { أرأيت إذ أوينآ إلى الصخرة }؛ عند رأس البحر؛ { فإني نسيت الحوت }؛ ما رأيت هناك من أمر الحوت أن أذكره لك يا نبي الله { ومآ أنسانيه }؛ أي وما شغلني عن ذكره لك، { إلا } ، وسوسة، { الشيطان أن أذكره } ، الحوت، { واتخذ سبيله في البحر عجبا }؛ أي شيئا عجبا وهو أن الماء إنجاب عنه، وبقي كالكوة لم يلتم.
[18.64]
قوله تعالى: { قال ذلك ما كنا نبغ }؛ أي قال موسى: ذلك الذي كنا نطلب دلالة لنا من الله تعالى على موضع الخضر ومرتدة من العلامة، { فارتدا على آثارهما قصصا }؛ أي رجعا وعادا في الطريق الذي جاء منه يقصان آثارهما قصصا، والقص اتباع الأثر، ومنه قوله
قصيه
[القصص: 11].
[18.65]
قوله تعالى: { فوجدا عبدا من عبادنآ }؛ وهو الخضر. قال ابن عباس: (وذلك أنهما لما انتهيا إلى الصخرة جعل يوشع يري موسى مكان الحوت وأثره في الماء، وكان موسى يتعجب من ذلك إذ وقع موسى على رجل قائم يصلي، فانتظر حتى فرغ، فسلم عليه، فرد عليه السلام).
وإنما سمي الخضر؛ لأنه إذا صلى في مكان أخضر ما حوله. قوله تعالى: { آتيناه رحمة من عندنا }؛ أي أكرمناه بالنبوة، { وعلمناه من لدنا علما } ببواطن الأمور. قال ابن عباس: (أعطاه علما من علم الغيب).
[18.66]
قوله تعالى: { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا }؛ أي مما يهديني إلى الصواب، ويجوز أن يكون معنى رشدا يرشدني به، والرشد والرشد لغتان. قال قتادة: (لو كان أحد مكتفيا عن العلم لاكتفى نبي الله موسى عليه السلام، ولكنه قال: هل أتبعك على أن تعلمني). قال الزجاج: (في فعل موسى عليه السلام - وهو من كبار الأنبياء - من طلب العلم والرحلة دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم، وإن كان قد بلغ نهايته، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه).
[18.67-69]
قوله تعالى: { قال إنك لن تستطيع معي صبرا }؛ أي قال الخضر لموسى: إنك ترى مني شيئا لا تصبر عليه، { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا }؛ ظاهره منكرا، والأنبياء والصالحون لا يصبرون على ما يرونه منكرا، { قال ستجدني إن شآء الله صابرا }؛ على ما أراه منك، { ولا أعصي لك أمرا }؛ تأمرني به.
[18.70]
قوله تعالى: { قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا }؛ أي قال الخضر لموسى فإن اتبعتني فلا تسألن عن شيء أنكرت فعله، ولا تعجل في المسألة عنه حتى أبين لك الوجه فيه وأفسره لك، لأنه قد غاب علمه عنك.
[18.71-73]
قوله تعالى: { فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها }؛ أي فمضيا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها الخضر، وذلك أنهما لما مشيا على الساحل مرت بهما سفينة، فكلموهم أن يحملوهما بغير أجرة. قال ابن عباس: (فلما ركبا في السفينة أخذ الخضر بيده فأسا، أو منقارا وأكب على السفينة يخرقها، فقال له أهل السفينة: ننشدك الله أن لا تخرقها، فقال له: يا عبدالله لا يحل لك هذا، فإنك تغرقهم، فلم يكلمه الخضر حتى خرق السفينة).
قيل: إنه قلع لوحين مما يلي الماء، فحشاهما موسى بثوبه و { قال }؛ منكرا عليه: { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا }؛ أي منكرا، ثم تنحى موسى فجلس، وقال: ما أصنع في اتباع هذا الرجل الذي يظلم الناس؟! كنت في بني اسرائيل أقرأ عليهم التوراة بكرة وعشية ويقبلون مني، فتركت ذلك وصحبت هذا الظالم...
فقال له الخضر بعد ما أخرج أهل السفينة متاعهم إلى الساحل: أتدري ما تحدث به نفسك؟ قال: ما هو؟ فأخبره بما حدث به نفسه، ثم { قال }؛ له الخضر: { ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا }؛ أي لما تركت من عهدك ووصيتك، وقيل: أراد به النسيان الذي هو ضد الذكر.
قوله تعالى: { ولا ترهقني من أمري عسرا } أي لا تكلفني مشقة، وعاملني باليسر لا بالعسر، ولا تضيق علي في صحبتي إياك. وأصل الرهق: الغشيان، يقال: رهق الفارس فلانا إذا غشيه فأدركه.
[18.74-75]
قوله تعالى: { فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله }؛ قال سعيد بن جبير: (وجد الخضر غلمانا، فأخذ غلاما وضيء الوجه). قال ابن عباس: (كان من أحسنهم وأصبحهم، فأخذه من بينهم فأصرعه وأضجعه، ثم ذبحه بالسكين، وكان غلاما لم يبلغ الحنث).
وقيل: إنه اجتذب رأسه فقلعه، وقيل: نزع رأسه من جسده، وقيل: رفصه برجله فقتله، وقيل: ضرب رأسه فقتله، وكان اسم الغلام خشيود، وقيل: جيشور. و { قال } له موسى حين رأى ذلك منه: { أقتلت نفسا زكية بغير نفس }؛ أي أقتلت نفسا بريئة من الذنوب، لم تجب ما يوجب قتلها. ومن قرأ (زاكية) فمعناه: طاهرة من الذنوب لم تبلغ الحلم، { لقد جئت شيئا نكرا }؛ أي قطيعا منكرا لا يعرف في شرع.
وقد اختلفوا في هذا الغلام أنه كان بالغا أم لم يكن بالغا، إلا أن قوله (بغير نفس) فيه دليل على أنه بالغا، لأن غير البالغ لا يقتل، وإن قتل غيره، وكان هذا الغلام يقطع الطريق، ويلجأ إلى أبويه فيحلفان دونه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ".
وقوله تعالى: { لقد جئت شيئا نكرا } أي منكرا عظيما. قال القتيبي: (النكر أبلغ من الإمر في الإنكار؛ لأن قتل النفس أشد من خرق السفينة)، وقال الزجاج : (الإمر أبلغ في الإنكار؛ لأن خرق السفينة يوجب غرق أهلها، وذلك أعظم من قتل نفس واحدة). قوله تعالى: { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا }؛ ظاهر المعنى.
[18.76]
قوله تعالى: { قال إن سألتك عن شيء بعدها }؛ أي بعد هذه الكرة، { فلا تصاحبني }؛ إن طلبت صحبتك، { قد بلغت من لدني عذرا }؛ أي بلغت من عندي إلى وقت العذر. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" رحم الله أخي موسى استحيا، فقال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، ولو ثبت مع صاحبه لأبصر الأعاجيب ".
قوله تعالى: { من لدني } قرأ العامة بتشديد النون وهو الأجود؛ لأن أصل (لدن) الإسكان، فإذا أضفتها إلى نفسك ردت نونا ليسلم سكون النون الأولى، كما يقول عن زيد وعني. ومن قرأ بتخفيفها قال (لدن) اسم غير متمكن، فيجوز حذف النون منه.
[18.77]
قوله تعالى: { فانطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية استطعمآ أهلها }؛ قيل هي قرية أنطاكية، قوله تعالى: { استطعمآ أهلها } أي سألا لهم الطعام، { فأبوا أن يضيفوهما }؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" وكانوا أهل قرية لئاما ".
وقوله تعالى: { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه }؛ أي جدارا مائلا مشرفا على الانهدام يكاد يسقط بسرعة. قال وهب: (كان جدارا طوله في السماء مائة ذراع) وأما قوله { يريد أن ينقض } هذا من مجاز كلام العرب؛ لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا.
وقوله تعالى: { فأقامه }. قال ابن عباس: (هدمه ثم أعاد بناءه). وقال ابن جبير: (مسح الجدار ورفعه بيده فاستقام). وقوله تعالى: { فأبوا أن يضيفوهما } قرأ أبو رجاء (يضيفوهما) مخففة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كانوا أهل قرية لئاما "
، وقال قتادة في هذه الآية: (شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه).
قوله تعالى: { قال لو شئت لتخذت عليه أجرا }؛ أي قال له موسى: لاتخذت على إقامتك للجدار جعلا. وقرئ (لتخذت) ومعناه معنى الأول.
[18.78]
قوله تعالى: { قال هذا فراق بيني وبينك }؛ أي هذا الكلام والإنكار على ترك الأجر هو المفرق بيننا، لأنك قد حكمت على نفسك، وقيل: معناه هذا فراق بيننا؛ أي فراق إيصالنا، والبين من الأضداد. قوله تعالى: { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا }؛ أي سأخبرك بتأويل الأشياء التي رأيتها مني فلم تصبر عليها.
[18.79]
قوله تعالى: { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر }؛ يعني السفينة التي كانت لفقراء يعملون في البحر لم يكن لهم مال غيرها، وكانوا يعملون عليها، ويأخذون إجرتها، { فأردت أن أعيبها }؛ بالخرق، { وكان ورآءهم ملك }؛ يقال له جلند، { يأخذ كل سفينة }؛ صحيحة، { غصبا }؛ وقد يذكر (وراء) بمعنى أمام، وفيه دليل أن للوصي أن يعيب مال اليتيم إذا رأى فيه مصلحة.
[18.80]
قوله تعالى { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين }؛ أي الغلام الذي قتله كان كافرا، وكان أبواه مؤمنين، { فخشينآ أن يرهقهما طغيانا وكفرا }؛ فلذلك قتله، وكان قد أعلمه الله بذلك، قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ".
[18.81]
قوله تعالى: { فأردنآ أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما }؛ أي فأراد الله أن يبدلهما ولدا خيرا منه صلاحا وطهارة، وقوله تعالى: { وأقرب رحما } أي وأوصل للرحم وأبر بوالديه. قال ابن عباس: (أبدلهما الله به جارية تزوجها نبي من الأنبياء فولدت سبعين نبيا).
[18.82]
قوله تعالى: { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة }؛ أي في القرية المذكورة، وكان اسم اليتيمين: أصرما وصريما، { وكان تحته كنز لهما }؛ قيل: إنه كان مالا، وقيل: كان علما.
وعن ابن عباس: (أنه كان لوحا من ذهب وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لا إله إلا الله؛ محمد رسول الله، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، ولمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها). وقيل: كان ذهبا وفضة.
قوله تعالى: { وكان أبوهما صالحا }؛ أي كان ذا أمانة، كان يقال له: كاشح، وقيل: إنه من الأنبياء. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: (حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاحا). قال جعفر بن محمد: (كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء).
وعن محمد بن المنكدر قال: (إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته، وأهل دويرات حوله وأسرته التي هو فيها، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم).
قوله تعالى: { فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما }؛ أي فأراد ربك بالأمر تسوية الجدار إلى أن يكبرا ويعقلا، { ويستخرجا كنزهما رحمة }؛ أي نعمة؛ { من ربك }؛ وهذا نصب على المصدرية؛ أي رحمهما الله بذلك رحمة.
قوله تعالى: { وما فعلته عن أمري }؛ وإنما فعلته بأمر الله تعالى، { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا }؛ وأصله تستطع؛ إلا أن الطاء والتاء من مخرج واحد، فحذف التاء لما اجتمعا لتخفيف اللفظ.
وروي أن الخضر لما أراد أن يفارق موسى أوصاه، قال يا موسى: أفرغ عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير المذنبين بخطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
[18.83]
قوله تعالى: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا }؛ يعني يسألك اليهود يا محمد عن خبر ذي القرنين { قل سأتلوا } سأقرأ عليكم خبره. قال مجاهد: (ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان وذو القرنين، والكافران النمرود وبختنصر).
واختلفوا في تسميته بذي القرنين، فقال بعضهم: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه دعا قومه إلى التوحيد، فضربوه على قرنه الأيسر، وقيل: على قرنيه، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه بلغ قطري الأرض، وكان اسمه اسكندر.
[18.84]
قوله تعالى: { إنا مكنا له في الأرض }؛ أي مكناه في الأرض، { وآتيناه من كل شيء سببا }؛ أي من كل شيء تستعين به الملوك على فتح المدائن ومحاربة الأعداء، { سببا } أي بلادا إلى حيث أراد، وقيل: قربنا له أقطار الأرض، كما سخرنا الريح لسليمان. وقال علي رضي الله عنه: (سخر الله له السحاب فحمله عليها ومد له في الأسباب، وبسط له النور، وكان الليل والنهار عليه سواء) وهذا معنى تمكنه في الأرض، وهو أنه سهل عليه المسير فيها، وذلل له طرقها.
[18.85-86]
قوله تعالى: { فأتبع سببا }؛ أي طريقا تؤديه إلى مغرب الشمس. قوله تعالى: { حتى إذا بلغ مغرب الشمس }؛ أي إلى قوم لم يكن بينهم وبين مغرب الشمس أحد؛ لأنه لا يمكنه أن يبلغ موضع غروب الشمس. قوله تعالى: { وجدها تغرب في عين حمئة }؛ أي رآها تغرب في الماء، وقيل: في عين ذات حمأة وهي الطين الأسود المنتن.
وتقرأ (حامية) أي حارة، وهي قراءة العبادلة الثلاثة - عبدالله بن مسعود، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر - وابن عامر وأهل الكوفة.
قوله تعالى: { ووجد عندها قوما }؛ أي عند العين، { قلنا يذا القرنين }؛ قيل: في هذا دليل أن ذا القرنين كان نبيا؛ لأن الانسان لا يعلم أمر الله إلا بالوحي، ولا يجوز الوحي إلا إلى الأنبياء، وقيل: كان معه نبي، فأوحى الله إلى ذلك النبي، وفي الجملة لا يمكن إثبات النبوة إلا بدليل مقطوع به.
وروي
" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذي القرنين قال: " هو ملك يسيح في الأرض " "
قال ابن الأنباري: (إنه كان نبيا، فإن الله قال له كما قال للأنبياء، إما بتكليم أو بوحي، ومن قال لم يكن نبيا، قال معنى قوله ألهمنا كقوله
وأوحينآ إلى أم موسى
[القصص: 7] أي ألهمناها.
قوله تعالى: { إمآ أن تعذب وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا }؛ أي قلنا له إما أن تقتلهم على الكفر إن أبوا الإسلام، وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.
[18.87]
قوله تعالى: { قال أما من ظلم }؛ أي من أسرف، { فسوف نعذبه }؛ أي نقتله، وكل من أشرك فقد ظلم نفسه، { ثم يرد إلى ربه }؛ في الآخرة بعد قتلي إياه، { فيعذبه عذابا نكرا }؛ يعني في النار أنكى من القتل وأعظم.
[18.88]
قوله تعالى: { وأما من آمن وعمل صالحا فله جزآء الحسنى }؛ أي فله في الآخرة جزاء الحسنى أي الجنة بالطاعة التي عملها في الدنيا. وقرأ أهل الكوفة (جزاء) نصبا وهو مصدر وقع موقع الحال؛ أي فله الحسنى مجزيا بها. قال ابن الأنباري: (جزاء نصبا على المصدر؛ أي فيجزى الحسنى جزاء). قوله: { وسنقول له من أمرنا يسرا }؛ أي سنأمره في الدنيا بما نيسر عليه.
[18.89-90]
قوله تعالى: { ثم أتبع سببا }؛ أي سلك طريقا آخر نحو المشرق. قوله تعالى: { حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا }؛ أي حتى إذا انتهى إلى آخر العمارة من جهة المشرق وجد عند الشمس قوما لم يكن لهم جبل ولا شجر ولا شيء يسترهم عن الشمس. قال لكلبي: (معناه حفاة عراة يفترش أحدهم أذنه ويلبس الأخرى).
[18.91]
قوله تعالى: { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا }؛ أي وجد قوما كذلك. قيل: الذين كانوا عند مغرب الشمس، وقيل: معناه: كما بلغ مغرب الشمس وكذلك بلغ مطلعها، ثم استأنف وقال { وقد أحطنا بما لديه خبرا }؛ أي علما.
[18.92-93]
قوله تعالى: { ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين }؛أي ثم أتبع سببا ثالثا مما يبلغه قطرا من أقطار الأرض، وقيل: أتبع سببا: حتى إذا بلغ طريقا من المشرق نحو الروم، وحتى إذا بلغ بين الجبلين الذين جعلوا الردم بينهما، وهما السدان.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (السدين) بفتح السين، وقرأ الباقون بضمها، وهما لغتان، { وجد من دونهما }؛ الجبلين، { قوما لا يكادون يفقهون قولا }؛ أي لا يكادون يفقهون قول غيرهم، ولا يعرفون لغة غيرهم.
قرأ حمزة والكسائي وخلف (يفقهون) بضم الياء وكسر القاف، ومعناه: لا يكادون يفقهون أحدا قولا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يفقهون كلام أحد، ولا أحد يفهم كلامهم).
[18.94]
قوله تعالى: { قالوا يذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض }؛ أي قالوا بإشارة أو ترجمان؛ لأنه قد تقدم أنهم لا يفقهون قولا، إن يأجوج ومأجوج، وهما قبيلتان من أولاد يافث بن نوح مفسدون في الأرض؛ أي يفسدون أموال الناس؛ لأنهم كانوا أهل بغي وظلم. قال الكلبي: (كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء الذين شكوهم إلى ذي القرنين أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه).
" وعن عبدالله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، قال: " يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح " قلنا: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: " هم ثلاثة أصناف: صنف منهم طول الرجل منهم مائة وعشرون ذراعا، وصنف طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع أيضا، وهم الذين لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش كل واحد منهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا جمل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، لهم مخالب في أيديهم وأضراس كأضراس السباع، وأنياب يسمع لها حركة كحركة الجرس في حلوق الإبل، ولهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، وما يتقى منه الحر والبرد، يعوون عوي الذئاب، ويتسافدون كتسافد البهائم إذا التقوا " ".
قال وهب: (يشربون ماء البحر ويأكلون دوابها، ويأكلون الخشب والشجر، ومن ظفروا به من الناس أكلوه). وقال كعب: (هم زيادة في ولد آدم، وذلك أن آدم احتلم ذات يوم فامتزجت نطفته في التراب، فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج، فهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم).
وقال ابن عباس: (هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء). وقيل: إن الترك منهم إلا أن أولئك أشد فسادا من الترك، فتباعدوا عن الناس، كما ينعزل اللصوص. ويأجوج ومأجوج اسمان أعجميان لا ينصرفان؛ لأنهما معرفة.
قوله تعالى: { فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا }؛ أي قالوا هل نجعل لك بعضا من أموالنا ضربته في كل سنة على أن تجعل بيننا وبينهم حاجزا وسدا. والردم هو السد. وردمت الباب؛ أي سددته، والخرج والخراج واحد.
[18.95]
قوله تعالى: { قال ما مكني فيه ربي خير }؛ أي قال لهم ذو القرنين: ما مكني الله من الإتساع في الدنيا خير من خراجكم الذي تبذلونه لي، يريد ما أعطاني الله وملكني أفضل من عطيتكم. قوله تعالى: { فأعينوني بقوة }؛ أي الرجال والآلات، { أجعل بينكم وبينهم ردما }؛ الردم أشد الحجاب، وهو أكبر من السد.
[18.96]
قوله تعالى: { آتوني زبر الحديد }؛ والزبرة القطعة العظيمة، فأتوه بها فبناه، { حتى إذا ساوى بين الصدفين }؛ أي حتى إذا ملأ ما بين الجبلين، وسماهما صدفين؛ لأنهما يتصادفان، أي يتقابلان، فلما وضع بينهما الحديد وجعل " بين " كل قطعتي حديد حطبا حتى ملأ ما بين الجبلين، فأمر بالنار فأرسلت فيه، و { قال }؛ للحدادين: { انفخوا }؛ بالمنافيخ، { حتى إذا جعله نارا }؛ أي حتى إذا صار الحديد كالنار، { قال آتوني }؛ أي أعطوني قطرا، { أفرغ عليه قطرا }؛ وهو النحاس الذائب أصبه على الحديد والحطب فيتقطر كما يتقطر الماء، ففعل حتى إذا جعل بعضه في بعض، فصار الجميع شيئا واحدا جبلا صلدا من حديد ونحاس. قيل إنه حفر له الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا ثم ملأه وشرفه.
[18.97]
قوله تعالى: { فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا }؛ أي ما قدروا أن يعلوه لارتفاعه وملاسته، وما قدروا أن ينقبوه من أصله؛ لشدته وصلابته.
وعن أبي هريرة:
" أن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم، ثم يقولون: نرجع إلى غد ونجيء أيضا نحفره، فيأتونه غدا وقد أعاده الله كما كان قبل أن يحفروه "
[18.98]
قوله تعالى: { قال هذا رحمة من ربي }؛ أي قال لهم ذو القرنين لما فرغ من بنائه، هذا التمكين الذي أدركت به السد رحمة من ربي من حيث ألهمني وقواني، ونعمة من ربي عليكم، { فإذا جآء وعد ربي جعله دكآء }؛ أي وقت اشتراط الساعة جعل السد كسرا. ومن قرأ (دكا) فمعناه أرضا منبسطة، يقال: ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام، { وكان وعد ربي حقا }؛ أي كان تقديره لخروجهم صدقا كائنا.
[18.99-100]
قوله تعالى: { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض }؛ أي تركنا يأجوج ومأجوج يوم انقضاء أمر السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم، يقال: ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء، فيخرجون على الناس فيشربون الماء، يأكلون الدواب، ومن ظفروا به من الناس أكلوه، فاذا كثر فسادهم في الأرض بعث الله عليهم بعثا فيقتلهم فيموتون كموت الجراد.
وقوله تعالى: { ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا }؛ يعني النفخة الثانية التي تكون للحشر يحشر بها الناس من قبورهم، ويجمعون جمعا في الموقف، قوله تعالى : { وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا }؛ أي وأظهرنا جهنم يوم القيامة للكافرين حتى يروا فيها جزاء أعمالهم معاينة.
[18.101]
قوله تعالى: { الذين كانت أعينهم في غطآء عن ذكري }؛ أي أظهرنا جهنم حتى شاهدها الناس الذين كانت أعين قلوبهم في غطاء عن ذكري لما تراءى لها من الرين والغشاوة، { وكانوا لا يستطيعون سمعا }؛ أي كان يثقل عليهم ذكر الله تعالى.
[18.102]
قوله تعالى: { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أوليآء }؛ أي أيحسب الكفار أن ينفعهم اتخاذهم عبادي مثل المسيح والملائكة الذين عبدوهم من دوني أربابا. قوله تعالى: { إنآ أعتدنا جهنم للكافرين نزلا }؛ أي جعلناها منزلا ومأوى لهم، ومعدة عندنا، كما يهيأ المنزل للضيف.
[18.103-105]
قوله تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا }؛ أي قل لهم يا محمد: هل نخبركم بالآخسرين أعمالا في الآخرة يعني كفار أهل الكتاب واليهود والنصارى؟ وقال علي رضي الله عنه: (هم الرهبان والقسيسون حبسوا أنفسهم في الصوامع) وقيل: هم جميع اليهود والنصارى، { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا }؛ أي بطل عملهم واجتهادهم في الدين، { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا }؛ أي وهم يظنون أنهم يعملون صالحا.
ثم بين من هم فقال: { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه }؛ أي جحدوا دلائل توحيده، وأنكروا البعث بعد الموت، { فحبطت أعمالهم }؛ أي بطلت حسناتهم التي عملوها مثل صلة الرحم، والإحسان إلى الناس، فلا يرون سعيهم مع الكفر شيئا، { فلا نقيم لهم }؛ ولا يكون لهم عند الله، { يوم القيامة وزنا }؛ قدرا ولا منزلة.
[18.106]
قوله تعالى: { ذلك جزآؤهم جهنم بما كفروا }؛ أي ذلك الإحباط جزاؤهم، { واتخذوا آياتي ورسلي هزوا }؛ أي واتخاذهم القرآن ونبوة أنبيائي هزوا؛ يستهزؤن بها.
[18.107]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا }؛ الفردوس في اللغة: جنة ذات كروم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، منها تتفجر الأنهار الأربعة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" جنات الفردوس أربع: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما من فضة، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما من ذهب ".
وقيل: خلق الله الفردوس بيده يفتحها كل يوم خمس مرات، فيقول: ازدادي حسنا وطيبا لأوليائي. وقال قتادة: (الفردوس ربوة الجنة وأفضلها وأرفعها) وقال أبو أسامة: (الفردوس سرة الجنة). وقال كعب: (ليس في الجنة جنة أرفع من الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر).
[18.108]
قوله تعالى: { خالدين فيها لا يبغون عنها حولا } أي مقيمين فيها لا يطلبون عنها تحويلا. قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الفردوس أرفع موضع في الجنة وأحسنه ".
[18.109]
قوله تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي }؛ الآية، وذلك أنه لما نزل قوله تعالى:
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الاسراء: 85] وقالت اليهود والنصارى: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فأنزل الله هذه الآية؛ أي لو كان البحر مدادا لعلم ربي وحكمته، فيكتب من البحر كما يكتب من المداد، { لنفد البحر }؛ وتكسرت الأقلام، { قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله }؛ أي بمثل البحر، { مددا }؛ لهذا البحر. ويقال أراد ب (كلمات ربي) معاني القرآن والأحكام المستنبطة منه، والمدد شيء بعد شيء.
[18.110]
قوله تعالى: { قل إنمآ أنا بشر مثلكم }؛ أي قل يا محمد: إنما أنا بشر آدمي مثلكم. قال ابن عباس: (علم الله نبيه التواضع لئلا يتباهى على خلقه، فأمره الله أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله تعالى: { يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد }؛ لا شريك له، { فمن كان يرجوا لقآء ربه }؛ أي يخشى لقاء ربه ويخاف البعث في المصير إليه، { فليعمل عملا صالحا }؛ أي خالصا لا يرى في عبادة الله أحدا، { ولا يشرك }؛ مع الله غيره في العبادة.
وقال سعيد بن جبير: معناه (ولا يرى) { بعبادة ربه أحدا }؛ وعن عطاء عن ابن عباس قال: (قال: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، ولم يقل: ولا يشرك به؛ لأنه أراد العمل الذي يعمله لله، ويحب أن يحمد عليه). قال الحسن: (هذا في من أشرك بعمله يريد الله به والناس).
وعن عبادة بن الصامت: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" " من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك، ومن صام صوما يرائي به فقد أشرك " وقرأ هذه الآية { فمن كان يرجوا لقآء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } "
وعن أبي هريرة وأبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة الكهف فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة يكون فيها، ومن قرأ الآية التي في آخرها حين يأخذ مضجعه كان له نور يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه. وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ومن حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف ثم أدرك الدجال لم يضره ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستة أيام من كل فتنة تكون، فإن خرج الدجال عصم منه ".
[19 - سورة مريم]
[19.1]
{ كهيعص }؛ قال ابن عباس: (أول هذه السورة ثناء أثنى به الرب على نفسه، والكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق وصمد). وقيل: معناه: كاف لخلقه هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده.
[19.2-4]
قوله تعالى: { ذكر رحمت ربك عبده زكريآ }؛ أي بهذا اذكر رحمة ربك على زكريا، أو ما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، و(عبده) منصوب بالرحمة. قوله تعالى: { إذ نادى ربه ندآء خفيا }؛ أي إذ دعا ربه سرا في جوف الليل مخلصا لم يطلع عليه إلا الله، { قال رب إني وهن العظم مني }؛ أي ضعف مني.
قال قتادة: (شكا ذهاب أضراسه)، والوهن في اللغة: نقصان القوة، { واشتعل الرأس شيبا }؛ يقول: شخت وضعفت، ومن الموت قربت. والاشتعال: انتشار شعاع النار، واشتعاله في الشيب من أحسن الاستعارة؛ لأنه ينتشر في الرأس، كما ينتشر شعاع النار . قوله تعالى: { شيبا } نصب على المصدر، وهذا يدل على أن أفضل الدعاء دعاء السر، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" خير الدعاء الخفي، وأفضل الرزق ما يكفي ".
قوله تعالى: { ولم أكن بدعآئك رب شقيا }؛ أي كنت تجيبني إذا دعوتك، وقد عودتني الإجابة في ما مضى فلم لا تجيبني.
[19.5-6]
قوله تعالى: { وإني خفت الموالي من ورآءى }؛ أي خفت العصبة وبني العم أن يرثوا علمي دون من كان من نسلي، ويقال: خفتهم على الدين من ورائي؛ لأنهم كانوا من أشرار بني إسرائيل. قرأ يحيى بن يعمر: (خفت) بفتح الخاء وتشديد الفاء، و(الموالي) بسكون الياء، يعني ذهبت الموالي.
وقلت: وقوله تعالى: { من ورآءى } أي بعد موتي. قوله تعالى: { وكانت امرأتي عاقرا }؛ أي عقيما من الولد، والرجل العاقر: الذي لا يولد له. وامرأته هي أخت أم مريم بنت عمران بن ماثان.
قوله تعالى: { فهب لي من لدنك وليا }؛ أي أعطني من عندك ولدا، { يرثني }؛ يرث نبوتي ومكاني { ويرث من آل يعقوب }؛ العلم والنبوة، أراد بذلك يعقوب بن ماثان وهم أخوال يحيى، وبنو ماثان كانوا رؤساء بني إسرائيل، وليس يعقوب هذا أبو يوسف. قرأ أبو عمرو والكسائي: (يرثني ويرث) بالجزم فيهما على جواب الدعاء، وقرأ الباقون برفعهما على الحال والصفة. وقوله تعالى: { وليا } أي واليا.
قوله تعالى: { واجعله رب رضيا }؛ أي وفقه للعمل حتى يصير ممن ترضاه. وقال أبو صالح: (معناه: واجعله رب نبيا كما جعلت أباه). وقيل: إجعله صالحا تقيا برا مرضيا.
وذهب بعض المفسرين أن معنى قوله تعالى { يرثني } أي يرث مالي، إلا أن حمل الآية على ميراث العلم أولى؛ لأن الأنبياء كانوا لا يشحون بالمال، ولا يتنافسون على مصير المال بعد موتهم إلى مستحقه؛ ولأنه قال (ويرث من آل يعقوب) ولم يرد بذلك المال، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إنا - معشر الأنبياء - لا نورث ما تركناه صدقة "
وإنما دعاء زكريا بالولد ليلي أمور الدين بعده؛ لخوفه من بني أعمامه أن يبدلوا دينه بعد وفاته، وخاف أن يستولوا على علومه وكتبه فيحرفونها، ويواكلون الناس بها، ويفسدون دينه، ويصدون الناس عنه.
[19.7]
قوله تعالى: { يزكريآ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى }؛ معناه: إن الله استجاب له فأوحى إليه: { يزكريآ إنا نبشرك } أي نفرحك { بغلام اسمه يحيى }؛ لأن الله أحيا به الإيمان والحكمة. قوله تعالى: { لم نجعل له من قبل سميا } قال الكلبي وقتادة: (معناه: لم نسم أحدا قبله يحيى)، قال ابن جبير وعطاء: (لم نجعل له شبيها ولا مثلا؛ لأنه لم يعص ولا يهم بمعصية). وقيل: لم تلد العواقر مثله.
وإنما قال { من قبل } لأنه تعالى أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الله تعالى لم يرد بهذا القول جمع الفضائل كلها ليحيى، وإنما أراد في بعضها؛ لأن الخليل والكليم كانا قبله، وكانا أفضل منه.
[19.8]
قوله تعالى: { قال رب أنى يكون لي غلام }؛ أي قال زكريا لجبريل: يا سيدي من أين يكون لي ولد، { وكانت امرأتي عاقرا }؛ من الولد، { وقد بلغت من الكبر عتيا }؛ أي حال اليأس والجفف.
روي أنه كان له يومئذ بضع وستون سنة، والعتي هو الذي غيره طول الزمان إلى اليأس. قال قتادة: (وإنما قال ذلك لنحول عظمه) يقال: رجل عات إذا كان قاسي القلب غير لين. وقرأ حمزة والكسائي: (عتيا) بكسر العين وهما لغتان، وقد تقدم أن هذا القول من زكريا لم يكن على جهة الإنكار، ولكن أحب من أي وجه يكون أبردهما إلى الشباب، أو يرزقهما الولد وهما على هذه الصفة.
[19.9]
قوله تعالى: { قال كذلك قال ربك هو علي هين }؛ أي قال له جبريل: هكذا قال ربك، كما قلت لك هو علي هين، { وقد خلقتك من قبل }؛ أي من قبل يحيى، { ولم تك شيئا }؛ وكنت معدوما. قرأ حمزة والكسائي: (وقد خلقناك من قبل) بالنون والألف.
[19.10]
قوله تعالى: { قال رب اجعل لي آية }؛ أي قال زكريا: يا رب اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به؛ لأتعجل المسرة، { قال آيتك }؛ علامتك، { ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا }؛ أي لا تقدر أن تكلم الناس، وأنت سوي لا خرس بلسانك ولا آفة، فإنه كان يقرأ الزبور ويدعو الله ويسبحه، ولكنه اعتقل كلامه عن كلام الناس. وقوله { سويا } أي صحيحا سالما من غير بأس ولا خرس، و { سويا } منصوب على الحال.
[19.11]
قوله تعالى: { فخرج على قومه من المحراب }؛ أي خرج عليهم من مصلاه متغير اللون، وهم ينتظرونه فأنكروه وقالوا: ما لك يا زكريا؟ { فأوحى إليهم }؛ أي أشار إليهم وأومأ، ويقال: كتب بيده { أن سبحوا بكرة وعشيا }؛ أي صلوا لله غدوة وعشية، والسبحة الصلاة، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع من الكلام، خرج إليهم يأمرهم بالصلاة إشارة، ثم تكلم بعد ثلاث، وأتى امرأته على طهر، فحملت بيحيى.
[19.12]
قوله تعالى: { ييحيى خذ الكتاب بقوة }؛ أي قال الله ليحيى بعد ما بلغ البلغ الذي يجوز أن يخاطب: { خذ الكتاب بقوة } أي اعمل بما في التوراة بجد ومواظبة وعزيمة. قوله تعالى: { وآتيناه الحكم صبيا }؛ أي أعطيناه الحكمة، وهي الفهم لكتاب الله صبيا، وكان يحيى عليه السلام على هيأة الصبيان، وله عقل البالغين. وقال ابن عباس: (وآتيناه النبوة في صباه وهو ابن ثلات سنين. وروي أنه مر بالصبيان وهو صغير، فقالوا: تعال نلعب، فقال: ما للعب خلقنا.
[19.13]
قوله تعالى: { وحنانا من لدنا وزكاة }؛ أي وآتيناه تحننا على قومه، ورقة قلب عليهم؛ ليدعوهم إلى طاعة ربهم، وقوله { وزكاة } أي عملا صالحا وإخلاصا، وقيل: معناه: جعلناه طاهرا من الذنوب. وقيل: معناه: { وحنانا من لدنا } أي جعلناه رحمة من عندنا لأبويه { وزكاة } أي صدقة عليهما. قوله تعالى: { وكان تقيا }؛ أي مطيعا مخلصا بجميع كل ما يرضاه الله من عباده. قال المفسرون: وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا هم بها.
[19.14-15]
قوله تعالى: { وبرا بوالديه }؛ أي لطيفا بوالديه، محسنا إليهما، { ولم يكن جبارا عصيا }؛ أي لم يكن متكبرا على من في دينه، ولا عاصيا لربه. قوله تعالى: { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت }؛ أي سلامة وسعادة منا عليه حين ولد وحين يموت، { ويوم } ، وحين، { يبعث حيا }؛ من القبر. قال عطاء: (يريد سلامة له منا).
قال سفيان بن عيينة: (أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما ما لم يكن عاينهم، وأحكاما لم يعهدها، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخصه الله بالكرامة والسلامة والسلام في المواطن الثلاثة).
وعن الحسن: (أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي فأنت خير مني، فقال عيسى: بل أنت خير مني، أنا سلمت على نفسي، وأنت سلم الله عليك).
[19.16-18]
قوله تعالى: { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا }؛ أي اذكر يا محمد في القرآن خبر مريم؛ لتعتبر الناس بدينها وصلاحها، والمعنى اذكر خبرها لأهل مكة. قوله تعالى: { إذ انتبذت } أي تنحت من أهلها، وتفردت ممن كانوا معها في الدار إلى مكان في جانب الشرق، جلست فيه؛ لأنها كانت في الشتاء، فجلست في مشرقة الشمس.
وقال عكرمة: (أرادت الغسل من الحيض، فتحولت إلى مشرقة دارهم للغسل) { فاتخذت من دونهم حجابا }؛ أي من دون أهلها سترا لئلا يروها، ف؛ بينما هي في مشرقة الدار تغتسل من الحيض، { فأرسلنآ إليهآ روحنا } ، أي دخل عليها جبريل عليه السلام بعد ما فرغت من الاغتسال في صورة شاب أمرد حسن الوجه جعد الشعر، وذلك قوله تعالى: { فتمثل لها بشرا سويا }؛ وإنما أرسل الله جبريل في صورة البشر؛ لتثبت مريم وتقدر على استماع كلامه.
قال ابن عباس: (فلما رأت مريم جبريل تقصد نحوها نادته من بعيد)، { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا }؛ أي إن كنت تقيا مخلصا مطيعا، فستنتهي لتعوذي بالله منك، وقيل: إن تقيا كان رجلا من أمثل الناس في ذلك الزمان، فقالت: إن كنت في الصلاح مثل التقي، فإني أعوذ بالرحمن منك، قوله تعالى: { فأرسلنآ إليهآ روحنا } أي جبريل عليه السلام، خص بالإضافة إلى الله تعالى تشريفا له، وسمي روحا؛ لأن الناس يحيون بما جاء في أديانهم، كما يحيون بأرواح أبدانهم.
[19.19]
قوله تعالى: { قال إنمآ أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا }؛ أي لأهب لك بأمر الله ولدا صالحا طاهرا من الذنوب. ومن قرأ: (ليهب لك غلاما زكيا) فالمعنى ليهب الله لك.
[19.20]
قوله تعالى: { قالت أنى يكون لي غلام }؛ أي من أين يكون لي ولد، { ولم يمسسني بشر }؛ ولم يقربني زوج، { ولم أك بغيا }؛ أي ولم أكن فاجرة زانية، والباغية هي الطالبة للزنى. قال ابن عباس: (قالت مريم ليس لي زوج، ولست بزانية، ولا يكون الولد إلا من الزوج أو الزنى).
[19.21]
قوله تعالى: { قال كذلك قال ربك }؛ أي قال لها جبريل، كما قلت لك قال ربك: { هو علي هين }؛ أي خلقه علي هين من غير هاتين الجهتين، كخلق آدم، لا أب ولا أم. قوله تعالى: { ولنجعله آية للناس ورحمة منا }؛ أي لنجعله دلالة على قدرتنا ورحمة للخلق، وقيل: ورحمة لمن اتبعه على دينه وصدقه وكان خلقه، { وكان أمرا مقضيا }؛ أي محكوما به مفروغا منه، سابقا في علم الله أن يقع.
[19.22]
قوله تعالى: { فحملته فانتبذت به مكانا قصيا }؛ وذلك أنها لما سمعت كلام جبريل اطمأنت إلى قوله، فدنا منها ونفخ في جيبها، فوصلت تلك النفخة إلى بطنها فحملت بعيسى عليه السلام. وقيل: نفخ جبريل بها من بعيد فوصلت النفخة إليها فحملت. فلما ظهر حملها انتبذت أي خرجت وانفردت، وتنحت بولادتها إلى مكان بعيد من الناس. والانتباذ: مأخوذ من نبذت الشيء إذا رميت به، وجلس نبذة أي ناحية، والقاصي والقصي خلاف الداني.
واختلفوا في مدة حملها، فقال بعضهم: تسعة أشهر كحمل سائر النساء على ما جرت به العادة، وقال: بعضهم ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى عليه السلام، وقال بعضهم: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما هو إلا أن حملت فوضعت، ولم يكن بين الحمل والإنباذ إلا ساعة؛ لأن الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا). وقال مقاتل: (حملته في ساعة وصور في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها وهي بنت عشر سنين، وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى عليه السلام). قوله تعالى: { مكانا قصيا } أي مكانا بعيدا. قال ابن عباس: (أقصى الوادي فرارا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج).
[19.23]
قوله تعالى: { فأجآءها المخاض }؛ أي ألجأها، ويقال: جاء بها وأجاءها بمعنى واحد، كما يقال ذهب به وأذهبه. والمخاض: وجع الولادة، وقيل: تحرك الولد للولادة، وقيل: الحمل. وقرأ عبدالله: (فآواها المخاض). وقوله تعالى: { إلى جذع النخلة }؛ وكانت نخلة يابسة في الصحراء ولم يكن لها سعف أي لا رأس لها، وقيل: كان جذعا ميتا قد أتي به لبناء بيت.
قوله تعالى: { قالت يليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } أي لم أخلق، وقيل: شيئا متروكا لا يذكر، والنسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي إذا ألقي نسي، ولم يلتفت إليه. قال السدي: (إنما تمنت مريم الموت استحياء من الناس، خافت الفضيحة).
وقيل: للحال الذي دفعت إليها من الولادة، والصحيح: أنها إنما تمنت لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها، فتمنت أن تكون ماتت قبل أن تقول الناس بسببها قولا يسخط الله تعالى. قرأ حمزة وحفص (نسيا) بفتح النون وهما لغتان.
[19.24]
قوله تعالى: { فناداها من تحتهآ ألا تحزني }؛ قال ابن عباس والسدي والضحاك وقتادة: (إن المنادي من تحتها هو جبريل عليه السلام، كأنه كان في مكان أسفل من مكانها، فناداها ألا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، فقد أحسن الله لك الاختيار، وجعل تحتك سريا). قال السدي: (هو النهر الصغير، سمي سريا؛ لأنه يسري لجريانه).
وقال الحسن: (هو عيسى، وهو والله السري من الرجال). وهذا التأويل على قراءة من قرأ (من تحتها) بكسر الميم والتاء، وهي قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص، وقرأ الباقون بالفتح وهو عيسى عليه السلام لما خرج من بطن أمه ناداها ألا تحزني، { قد جعل ربك تحتك سريا }؛ أي نهرا صغيرا.
[19.25]
قوله تعالى: { وهزى إليك بجذع النخلة }؛ قال ابن عباس: (ضرب جبريل، وقيل: عيسى عليه السلام برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب، وجرى تحت النخلة، فحيت بعد يبسها فأورقت وأثمرت ورطبت). ومعنى الآية: حركي وخذي إليك جذع النخلة. والباء فيه زائدة، تقول العرب: هزه وهز به، وخذ بالخطام وخذ الخطام.
قوله تعالى: { تساقط عليك رطبا جنيا }؛ قرأ يعقوب (يساقط) بالياء، يعني الجذع، وقرأ حفص بالتاء وضمها وتخفيف السين وكسر القاف. وقرأ حمزة (تساقط) بفتح التاء والقاف مخففا، وقرأ الباقون بفتح التاء وتشديد السين؛ أي يتساقط، فأدغمت الياء في السين. معناه: يسقط عليك النخلة، والرطب الجني: هو الجني من الثمرة الرطبة الطرية. ونصب (رطبا) على التفسير. ومن قرأ (تساقط) بالضم انتصب على المفعول.
[19.26]
قوله تعالى: { فكلي واشربي وقري عينا }؛ أي فكلي من الرطب، واشربي من النهر، وقري عينا بولدك عيسى، وطيبي نفسا؛ أي يقال: قرت عينه؛ أي بردت برد السرور بما ترى، ويقال: سكنت سكون السرور برؤية ما تحب، فالأول من القر؛ والثاني من القرار. وانتصب (عينا) على التفسير المحول، كما يقال: طيبي نفسا؛ أي طابت نفسك.
قوله تعالى: { فإما ترين من البشر أحدا }؛ أي فإما ترين من الآدميين أحدا، فسألك عن الولد أو لامك عليه، { فقولي إني نذرت للرحمن صوما }؛ أي صمتا، وكذلك كان يقرؤها ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صمتا؛ أي أوجبت على نفسها أن لا تتكلم).
وقال قتادة: (صامت عن الطعام والشراب والكلام) ولهذا قالت: { فلن أكلم اليوم إنسيا }؛ أي آدميا، وكان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم سكتت. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أمرت بالصمت؛ لأنها لم يكن لها حجة عند الناس في شأن ولدها، فأمرت بالكف عن الكلام يكفيها ولدها الكلام بما يبرئ ساحتها). وفي الآية دلالة أن الصمت كان قربة في زمانهم، ولولا ذلك لما نذرته مريم، ثم نسخ ذلك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت. ويروى
" أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صمت يوم إلى الليل ".
[19.27]
قوله تعالى: { فأتت به قومها تحمله قالوا يمريم لقد جئت شيئا فريا }؛ روي أنها أتت بعيسى تحمله إلى قومها بعد أن طهرت من نفاسها؛ أي بعد أربعين يوما، فتكلم عيسى في الطريق وهو ابن أربعين يوما، فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على قومها بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالح، و { قالوا يمريم لقد جئت شيئا فريا } أي منكرا عظيما لا يعرف منك، ولا من أهل بيتك.
[19.28]
قوله تعالى: { يأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء }؛ قال ابن عباس: (هارون رجل صالح من بني إسرائيل نسبت إليه) والمعنى: يا شبيهة هارون في العبادة.
" روي أن أهل الكتاب قالوا: كيف يقولون إن مريم أخت هارون وبينهما ستمائة سنة، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنهم كانوا يسمون باسم الأنبياء والصالحين " ".
فعلى هذا يجوز أن أخا مريم كان يسمى هارون. وقال السدي: (هو هارون أخو موسى عليهما السلام، نسبت إليه؛ لأنها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان). وقيل: كان رجلا فاسقا معروفا بالفسق فنسبت إليه: وقوله تعالى: { ما كان أبوك امرأ سوء } قال ابن عباس: (يريد زانيا)، { وما كانت أمك }؛ حنة؛ { بغيا }؛ أي ما كانت بغيا، فمن أين لك هذا الولد.
[19.29-30]
قوله تعالى: { فأشارت إليه }؛ أي أشارت إلى عيسى عليه السلام وهو يرضع بأن كلموه، فعجبوا من ذلك و { قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا }؛ أي في الحجر رضيعا، والمهد هاهنا حجر أمه، وقيل: هو المهد بعينه. قال أبو عبيدة: (كان هاهنا زائدة لا معنى لها). والمعنى كيف نكلم صبيا في المهد، ويجوز أن تكون (من) في موضع الشرط والجزاء، والمعنى من يكن في المهد صبيا فكيف نكلمه، والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء، ويجوز أن يكون { صبيا } نصب على الحال؛ أي كيف نكلم من في المهد صبيا؛ أي في هذه الحالة.
قال السدي: (فلما أشارت إلى عيسى عليه السلام غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشد من زناها. فلما سمع عيسى كلامهم، ترك الرضاع وأقبل بوجهه عليهم و { قال إني عبد الله آتاني الكتاب }؛ يعني علمني التوراة والزبور. وقال مقاتل : (علمه الله الإنجيل في بطن أمه) { وجعلني نبيا }؛ أي حكم لي بالنبوة في ما مضى.
[19.31]
قوله تعالى: { وجعلني مباركا }؛ أي معلما للخير، نفاعا { أين ما كنت }؛ حيثما كنت أدعوا إلى الله تعالى، وإلى توحيده وعبادته، { وأوصاني بالصلاة والزكاة }؛ أي أمرني بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، { ما دمت حيا }.
[19.32]
قوله تعالى: { وبرا بوالدتي }؛ أي وجعلني برا بوالدتي. قال ابن عباس: (لما قال عيسى عليه السلام: بوالدتي، علموا أنه شيء من الله تعالى، { ولم يجعلني جبارا شقيا }؛ أي متعظما، أقتل وأضرب على الغضب، ولا شقيا عاصيا لربه.
[19.33]
قوله تعالى: { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا }؛ معناه: والسلام علي يوم ولدت حتى لم يضرني شيطان، ويوم أموت ويوم أبعث حيا من القبر.
وفي هذا دليل على أن للإنسان أن يصف نفسه بصفاء الخير إذا أراد تعريفها إلى غيره، ولم يرد الافتخار، وهو مثل قول يوسف عليه السلام للملك
اجعلني على خزآئن الأرض إني حفيظ عليم
[يوسف: 55]. قال ابن عباس: (إنما كلمهم عيسى عليه السلام بهذا الكلام لا غيره، ثم سكت ولم يتكلم حتى بلغ مقدار مدة ما يتكلم الصبيان).
[19.34]
قوله تعالى: { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق }؛ أي ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى بن مريم قول الحق، من قرأ بنصب (قول) فالمعنى: قول الحق، ومن رفعه فالمعنى: هو قول الحق، أو كلمة الحق، والحق هو الحق تعالى. ومعنى قراءة النصب أقول قول الحق، { الذي فيه يمترون }؛ أي يشكون فيختلفون، فإنهم اختلفوا - يعنى النصارى - فقائل منهم يقول: هو الله، وقائل يقول: هو ابن الله، واليهود تقول: ولد لغير رشدة.
[19.35]
قوله تعالى: { ما كان لله أن يتخذ من ولد }؛ أي ما ينبغي لله أن يتخذ ولدا وليس ذلك من صفاته، وقوله تعالى: { سبحانه }؛ أي تنزيها له عن الولد والشريك. قوله تعالى: { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون }؛ أي كيف يتخذ ولدا من إذا شاء أمرا كان كما خلق عيسى بلا أب.
[19.36]
قوله تعالى: { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم }؛ هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك. من قرأ بفتح الهمزة فالمعنى: وأوصاني أن الله ربي وربكم، أو قضى أن الله ربي وربكم، ومن كسرها فعلى الاستئناف، ويجوز أن يكون عطفا على (إني عبد الله). والصراط المستقيم هو الدين المستمر في جهة واحدة، وقيل: معناه: هذا الذي أخبركم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة.
[19.37]
قوله تعالى: { فاختلف الأحزاب من بينهم }؛ ويعني بالأحزاب: النصارى، كانوا أحزابا متفرقين في أمر عيسى عليه السلام، فبعضهم يقول: الله، وبعضهم يقول: هو ابن الله، وبعضهم يقول: ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم }؛ أي فويل للذين تحدثوا في عيسى من مشهد يوم عظيم يشهده الخلائق.
[19.38]
قوله تعالى: { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا }؛ أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة؛ أي يشاهدون من الغيب ما يسمع ويبصر بلا شك ولا مرية. قال قتادة: (سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر). وقال الحسن: (لئن كانوا في الدنيا عميا وصما عن الحق، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة). قوله تعالى: { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين }؛ أي لكنهم في الدنيا في كفر بين.
[19.39]
قوله تعالى: { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة }؛ أي خوف يا محمد أهل مكة يوم يتحسر المسيء هلا أحسن العمل، والمحسن هلا ازداد من الأحسن. وقال أكثر المفسرين: يعني الحسرة يوم يذبح الموت بين الفريقين، فلو مات أحد فرحا لما مات أهل الجنة، ولو مات أحد حزنا لما مات أهل النار.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرفون عليه، فيقولون: نعم؛ هذا الموت. فيقال لأهل النار كذلك، فكلهم قد عرفه، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة } "
قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها، لماتوا حسرة حين رأوا ذلك).
قوله تعالى: { إذ قضي الأمر } أي قضي لهم العذاب في الآخرة، وهم في الدنيا في غفلة. وقال السدي: (إذ قضي الأمر؛ أي ذبح الموت وهم في غفلة في الدنيا عما يصنع بالموت ذلك اليوم) { وهم لا يؤمنون }؛ بما يصنع بالموت ذلك اليوم.
ويقال: معنى قوله تعالى { وأنذرهم يوم الحسرة } هو يوم يأتيهم ملك الموت يقبض أرواحهم، فإذا وقعت المعاينة قال عند ذلك: رب أرجعوني، قال الله تعالى:
حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت
[المؤمنون: 99-100] وقوله تعالى: { وهم في غفلة } أي وهم في الدنيا في غفلة، وهم لا يؤمنون بالقرآن.
[19.40]
قوله تعالى: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها }؛ أي نمت سكانها فنرثها، وهذا كقوله تعالى
ونحن الوارثون
[الحجر: 23]؛ لأنهم إذا ماتوا انقطع ملك العباد عن الأرض. قوله تعالى: { وإلينا يرجعون }؛ أي بعد الموت، فنجزيهم بأعمالهم.
[19.41]
قوله تعالى: { واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا }؛ أي واذكر في القرآن لقومك قصة إبراهيم؛ إنه كثير التصديق بالحق موقنا صدوقا رسولا نبيا.
[19.42]
قوله تعالى: { إذ قال لأبيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر }؛ أي لم تعبد من دون الله ما لا يسمع إن دعوته، ولا يبصر إن عبدته، يعني الصنم، { ولا يغني عنك شيئا }؛ من عذاب الله، ولا يدفع عنك ضرا.
[19.43]
قوله تعالى: { يأبت إني قد جآءني من العلم ما لم يأتك }؛ أي من العلم بالله والمعرفة، وإن من عبد غير الله عذبه، { فاتبعني }؛ على ديني { أهدك صراطا سويا }؛ أي أرشدك إلى دين مستقيم.
[19.44-45]
قوله تعالى: { يأبت لا تعبد الشيطان }؛ أي لا تطعه فيما زين لك من الكفر والمعاصي، { إن الشيطان كان للرحمن عصيا }؛ أي كثير العصيان لله تعالى. قوله تعالى: { يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن }؛ أي عذاب من الله بطاعتك للشيطان، { فتكون للشيطان وليا }؛ أي قرينا في النار.
[19.46]
قوله تعالى: { قال أراغب أنت عن آلهتي يإبراهيم }؛ أي قال له أبوه مجيبا له: أمعرض وتارك أنت عبادة آلهتي يا ابراهيم، { لئن لم تنته }؛ عن مقالتك، وتسكت عن شتم آلهتي وعيبها، { لأرجمنك }؛ أي لأرمينك بالشتم والعيب، وقيل: لأقتلنك رجما، { واهجرني مليا }؛ أي تباعد عني دهرا طويلا.
وقال الحسن وقتادة: (معنى مليا؛ أي سالما سويا من قبل أن يلحقك مكروه مني)، وأصل الملاوة الزمان الطويل من الدهر، يقال: أقام في موضع كذا مليا، والملوان: الليل والنهار.
[19.47]
قوله تعالى: { قال سلام عليك }؛ أي قال إبراهيم لأبيه: سلمت مني لا أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمن بقتاله على كفره، هذا سلام توديع، وقوله تعالى: { سأستغفر لك ربي }؛ أي سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته، ويرزقك التوحيد. قوله تعالى: { إنه كان بي حفيا }؛ أي لطيفا رحيما، وقيل: عالما يستجيب لي إذا دعوت.
[19.48]
قوله تعالى: { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله }؛ أي أتنحى عنكم وأفارقكم، وأعتزل ما تدعون من دون الله يعني الأصنام، فاعتزلهم وهاجر إلى الأرض المقدسة. قوله تعالى: { وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعآء ربي شقيا }؛ أي محروما خائبا.
[19.49]
قوله تعالى: { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا }؛ أي فلما خرج إلى ناحية الشام، وتركهم وترك أصنامهم آنسنا وحشته بأولاد كرام على الله تعالى، ووهبنا لهم نعما كثيرة، وأكرمناهم بالثناء الحسن.
[19.50]
قوله تعالى: { ووهبنا لهم من رحمتنا }؛ أي وهبنا لهم المال والولد، وبسطنا لهم في الرزق. وقال بعضهم: يعني الكتاب والنبوة. قوله تعالى: { وجعلنا لهم لسان صدق عليا }؛ أي ثناء حسنا في الناس، مرتفعا سائرا في الناس، فكل أهل الملل والأديان يحسنون الثناء عليهم، ويتولون إبراهيم ودينه.
[19.51]
قوله تعالى: { واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا }؛ أي واذكر في القرآن خبر موسى إنه كان مخلصا لله تعالى بالعبادة والتوحيد، وكان رسولا رفيعا. ومن قرأ (مخلصا) بفتح اللام فمعناه: أخلصناه وأحببناه.
[19.52]
قوله تعالى: { وناديناه من جانب الطور الأيمن }؛ قيل : إن النداء هو قول الله تعالى له يا موسى
إني أنا الله رب العالمين
[القصص: 30]، والطور: هو جبل بالشام، ناده الله تعالى من ناحية اليمنى، يعني يمين موسى، والمعنى أن موسى سمع النداء عن يمينه، ولا يكون للجبل يمين ولا يسار.
قوله تعالى: { وقربناه نجيا }؛ أي جعلنا محله منا، محل من قربه مولاه من مجلس كرامته، والنجي هو المختص بإدراك كلام مكلمه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (قرب الله تعالى موسى إلى أعلى الحجب حتى سمع صرير القلم).
[19.53]
قوله تعالى: { ووهبنا له من رحمتنآ أخاه هارون نبيا }؛ وذلك حين سأل موسى ربه فقال
واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي
[طه: 29-30] فاستجاب الله دعاءه.
[19.54]
قوله تعالى: { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد }؛ هو إسماعيل بن إبراهيم، ومعنى صادق الوعد؛ أي أنه كان إذا وعد أنجز. قال ابن عباس: (إنه وعد رجلا أن ينتظره حتى رجع إليه، فأقام مكانه ينتظره حتى حال الحول ورجع إليه الرجل). { وكان رسولا نبيا }؛ إلى جرهم.
[19.55]
قوله تعالى: { وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة }؛ قيل: أراد بالأهل أمته، وأهل أمته، ونظيره
وأمر أهلك بالصلاة
[طه: 132] أي قومك، { وكان عند ربه مرضيا }؛ أي صالحا زكيا.
[19.56-57]
قوله تعالى: { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا }؛ اسم ادريس أخنوخ، وهو جد أبي نوح، وسمي إدريس لكثرة درسه الكتب، وكان خياطا وهو أول من خط بالقلم، وهو أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النجوم والحساب.
قوله تعالى: { إنه كان صديقا نبيا } أنزلت عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من لبس القطن، وكانوا قبل ذلك يلبسون جلود الضأن. قوله تعالى: { ورفعناه مكانا عليا } روي عن أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري ومجاهد: (أنه رفع إلى السماء الرابعة)، وقال ابن عباس والضحاك: (إلى السماء السادسة). وقيل: معناه: ورفعناه في العلم والنبوة إلى درجة عالية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة ".
وكان سبب رفعه على قول ابن عباس: (أنه سار ذات يوم في حاجته فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إني مشيت يوما واحدا، فكيف بمن حملها خمسمائة عام في يوم واحد، اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه حرها، فلما أصبح الملك الموكل بها وجد خفة في حرها بخلاف ما يعرف، فقال: يا رب ما الذي قضيت؟ فقال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه صبحة فأذن له حتى أتى إلى إدريس، فسأله عن ذلك فأخبره أنه دعا له شفقة عليه، ثم حمله ملك الشمس على جناحه، ورفعه إلى السماء بإذن الله تعالى).
[19.58]
قوله تعالى: { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية ءادم }؛ معناه: إن الذين ذكرتهم هم الذين أكرمهم الله بالنبوة والإسلام من ذرية آدم، وإنما قرن ذكر نسبهم مع أن كلهم كانوا لآدم ليبين مراتبهم في شرف النسب، فإنه كان لإدريس شرف القرب من آدم، وكان إبراهيم من ذرية نوح، وكان إسماعيل واسحاق من ذرية إبراهيم، وكان موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من ذرية إسرائيل، فقوله: { من ذرية ءادم } يعني إدريس ونوح، { وممن حملنا مع نوح }؛ في السفينة يعني إبراهيم؛ لأنه من ولد سام بن نوح، { ومن ذرية إبراهيم }؛ يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله، { وإسرائيل }؛ يعني أن من ذرية إسرائيل: موسى وهارون ومن ذكرناه.
قوله تعالى: { وممن هدينا واجتبينآ }؛ أي هؤلاء كانوا ممن أرشدنا واصطفينا لإداء الرسالة، { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن }؛ التي أنزلت عليهم، { خروا سجدا وبكيا }؛ أي وقعوا يسجدون لله تعالى، ويبكون من مخافة الله، والسجد: جمع ساجد، والبكي جمع باك.
[19.59]
قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوت }؛ أي فخلف من بعد هؤلاء الأنبياء المذكورين والصالحين { خلف } أي قوم سوء وهم اليهود والنصارى ومن لحق بهم. يقال في الرداءة: خلف بإسكان اللام، وفي الصلاح: خلف بفتح اللام.
وقوله تعالى: { أضاعوا الصلوة } أي أخروها عن مواقيتها لغير عذر، وقيل: تركوها أصلا. وقوله تعالى: { واتبعوا الشهوت } يعني المعاصي وشرب الخمر، واشتغلوا بالملذات في ما حرم عليهم، وآثروها على طاعة الله تعالى. قال وهب: (شرابون القهوات؛ لعابون بالكعاب؛ ركابون الشهوات؛ متبعون الملذات؛ تاركون الجماعات؛ مضيعون الصلوات).
قوله تعالى: { فسوف يلقون غيا }؛ قال ابن مسعود وعطاء: (هو واد في جهنم بعيد القعر)، قال ابن عباس: (الغي واد في جهنم تستعيذ أودية جهنم من حره أعد للزاني وشارب الخمر وآكل الربا وأهل العقوق ولشاهد الزور، ولإمراة أدخلت على زوجها ولدا من غيره).
وقيل: الغي واد في جهنم يسيل قيحا ودما أعد للغاوين، فسمي غيا؛ لأنه جزاء الغي، كما قال تعالى
يلق أثاما
[الفرقان: 68] أي جزاء الإثم. وقال كعب: (الغي واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرا، فيه بئر يسمى بهغم، كلما خبت جهنم فتح لها باب إلى تلك البئر فتسعر به جهنم).
[19.60]
قوله تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا }؛ معناه: إلا التائبين منهم، ويجوز أن يكون نصبا استثناء من غير الأول على معنى لكن من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا ينقصون من حسناتهم.
[19.61]
قوله تعالى: { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب }؛ أي بساتين إقامة، وقوله تعالى: { بالغيب } يعني أنهم غابوا عن ما فيها، وانتصب قوله { جنات }؛ لأنه بدل من الجنة. قوله تعالى: { إنه كان وعده مأتيا }؛ أي موعوده آتيا كائنا، وإنما لم يقل آتيا؛ لأنه كل ما أتاك فقد أتيته.
[19.62]
قوله تعالى: { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما }؛ أي لا يسمعون في الجنة كلاما ساقطا، ولا يسمعون إلا سلاما، يسلم بعضهم على بعض، والسلام هو الكلام الذي لا لغو فيه ولا إثم. وقيل: معناه: لا يسمعون في الجنة كلاما باطلا وفحشاء وهدرا وفضولا من الكلام. وقال مقاتل: (يمينا كاذبة ولا يسمعون إلا سلاما، يسلم بعضهم على بعض، ويسلم عليهم الملائكة، ويرسل إليهم الرب بالسلام).
قوله تعالى: { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } ، قال المفسرون: ليس في الجنة بكرة وعشية، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغذاء والعشاء، قال قتادة: (كان العرب إذا حصل لأحدهم الغداء والعشاء أعجب به، فأخبر الله تعالى أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا على قدر ذلك الوقت)؛ أي يجمع لهم الطعام في هذين الوقتين كما يكون في الدنيا، ويأكلون فيما عدا هذين الوقتين ما يشتهون كما في الدنيا.
[19.63]
قوله تعالى: { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا }؛ أي هذه الجنة التي وصفها الله تعالى هي التي نورث من اتقى معصية الله، وعمل بالطاعة والإيمان. قوله تعالى: { نورث } أي نعطي، وإنما قال { نورث }؛ لأن الله تعالى أورثهم من الجنة مساكن أهل النار لو اطلعوا. وقيل: لأنه تمليك في حال مبتدأ بعد انقضاء أجل الدنيا.
[19.64]
قوله تعالى: { وما نتنزل إلا بأمر ربك }؛ وذلك
" أن جبريل عليه السلام أبطأ على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، فلما أتاه قال له: " ما زرتنا حتى استبطأناك ". وقيل: قال له: " ما يمنعك يا جبريل أن تزورنا أكثر مما تزورنا ". فأنزل الله عذر جبريل "
، والمعنى: قل له وما نتنزل من السماء إلا بأمر ربك. وقيل:
" استبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، ثم جاءه فقال له: " يا جبريل أبطأت علي حتى ساء ظني فاشتقت إليك " فقال له: إني كنت إليك أشوق، ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. فأنزل الله هذه الآية { وما نتنزل إلا بأمر ربك } ".
قوله تعالى: { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك }؛ أي له ما بين أيدينا من أمر الدنيا وما خلفنا من الآخرة، وما بين ذلك؛ يعني: ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. قوله تعالى: { وما كان ربك نسيا }؛ أي وما كان ربك ليتركك، وإن تأخر عنك رسوله.
[19.65]
قوله تعالى: { رب السموت والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته }؛ أي إصبر على أمره ونهيه حتى الموت، { هل تعلم له سميا }؛ أي شبيها ومثلا يعبد، وقيل: هل تعلم من يستحق الإلهية سواه، وقيل: هل تعلم أحدا يسمى الله غيره، وقيل: هل تعلم من أحد سمي رب السماوات والأرض.
[19.66]
قوله تعالى: { ويقول الإنسان أءذا ما مت لسوف أخرج حيا }؛ قال ابن عباس: (هو أبي بن خلف الجمحي، قال هذا القول إنكارا للبعث). وقوله تعالى: { لسوف أخرج حيا } أي أخرج من القبر حيا؛ استهزاء وتكذيبا منه للبعث.
[19.67]
قوله تعالى: { أولا يذكر الإنسن أنا خلقناه من قبل }؛ قرأ نافع وابن عامر وعاصم: (أولا يذكر) بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد وهو الاختيار؛ أي أولا يتعظ ويتفكر، وعلى القراءة الأولى (يذكر) بالتخفيف ضد النسيان، والمعنى: أولا يتعظ الإنسان أنا خلقناه من نطفة، { ولم يك شيئا }؛ موجودا، فيستدل بالابتداء على الإعادة.
[19.68]
قوله تعالى: { فوربك لنحشرنهم والشياطين }؛ يعني المنكرين للبعث، أقسم الله تعالى على نفسه لنحشرنهم من قبورهم مع الشياطين الذين أضلوهم، { ثم } لنجمعنهم، { لنحضرنهم حول جهنم جثيا }؛ باركين على الركب؛ لأن المحاسبة إنما تكون بقرب جهنم، يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة.
[19.69]
قوله تعالى: { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا }؛ أي ثم لنخرجن من كل فرقة وجماعة أيهم أشد على الرحمن تمردا وجرأة وفجورا وكفرا بدءا بالأعتى فالأعتى، والأكثر جرما. قال قتادة: (المعنى: لننزعن من كل قرية وأهل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر).
والشيعة: الجماعة المعاونون على أمر من الأمور. قوله تعالى: { أيهم } رفع على الاستثناء، و { لننزعن } يعمل في موضع { من كل شيعة } ، هذا قول يونس. وقال الخليل: على معنى الذين يقال لهم أيهم أشد فلنخرج.
[19.70]
قوله تعالى: { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا }؛ أي نحن أعلم بالأولى بدخول النار وشدة العذاب، وأحقهم بعظيم العقاب. والصلي: هو اللزوم، من قولهم صلي بالنار صليا.
[19.71-72]
قوله تعالى: { وإن منكم إلا واردها }؛ اختلفوا في الخطاب الذي في أول هذه الآية، قال بعضهم: هو راجع إلى الكفار؛ لأنه تقدمه قوله تعالى:
ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا
[مريم: 70]، وقال الأكثرون: هذا خطاب مبتدأ لجميع الخلق، ودليله قوله تعالى: { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر }؛ أي ننجي من الواردين من اتقى.
ثم اختلف هؤلاء أيضا في معنى الورود، قال بعضهم: هو الدخول كما في قوله تعالى
فأوردهم النار
[هود: 98] أي أدخلهم النار، وقالوا: إلا أنها تكون على المؤمنين بردا وسلاما، واستدلوا بما روى جابر رضي الله عنه: أنه أهوى بيديه إلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم، حتى أن للنار ضجيجا بورودهم "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من مسلم يموت له ثلاثة أولاد لم يلج النار إلا تحلة القسم، ثم قرأ: { وإن منكم إلا واردها } ".
ومعنى القسم: أن أول هذه الآية فيها إضمار القسم؛ تقديره: والله ما منكم من أحد إلا واردها، وروي عن ابن مسعود أنه قال:
" الصراط على متن جهنم مثل حد السيف، تمر عليه الطائفة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كالجواد السابق، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: اللهم سلم؛ اللهم سلم "
وعن أبي هريرة: أنه أوى إلى فراشه فقال: (يا ليت أمي لم تلدني، فقالت امرأته ميسرة: إن الله عز وجل قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام. قال: أجل؛ ولكن الله تعالى قد بين لنا أنا لواردون النار، ولم يبين لنا أنا خارجون منها).
وقال بعضهم: الورود هو الإشراف على النار بلا دخول؛ لأن موضع المحاسبة يكون قريبا من النار، وقد قال الله تعالى:
ولما ورد مآء مدين
[القصص: 23] ولم يكن موسى دخل الماء، واستدلوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لن يدخل النار - إن شاء الله تعالى - واحد شهد بدرا أو الحديبية ".
وعن مجاهد أنه قال: (الحمى حظ كل مؤمن من النار). فعلى هذا من حم من المسلمين فقد وردها، لأن الحمى من فيح جهنم.
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عاد مريضا من وعك كان به، فقال له: " أبشر؛ إن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار " ".
قال الزجاج: (والحجة القاطعة على أنهم لا يدخلون النار قوله تعالى:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون
[الأنبياء: 101-102]) وهذه حجة لا معارض لها.
قوله تعالى: { كان على ربك حتما مقضيا }؛ الحتم: القطع بالأمر، والمقضي هو الذي قضى بأنه يكون. قوله تعالى: { ثم ننجي الذين اتقوا }؛ أي الذين اتقوا الشرك وصدقوا، { ونذر الظالمين فيها جثيا }؛ أي ونذر المشركين فيها جثيا على الركب.
[19.73-74]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت قال الذين كفروا }؛ معناه: وإذا تتلى على الكفار آيات القرآن المنزلة قالوا { للذين آمنوا أي الفريقين }؛ أي الدينين، { خير مقاما وأحسن نديا }؛ خير مسكنا وخير مجلسا في الدنيا، فكذلك يكون في الآخرة.
يعني أن مشركي قريش كانوا يقولون لفقراء المؤمنين: أي الفريقين خير مقاما؛ نحن أم أنتم؟ والمقام والمسكن والمنزل والندي والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، وكانوا يلبسون أحسن الثياب، ثم يقولون مثل هذا للمؤمنين.
فأجابهم الله تعالى بقوله: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا }؛ أي وكم أهلكنا قبل قريش من الأمم الخالية هم أحسن أموالا وأحسن منظرا، والأثاث: المال، جمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع، وقال الحسن: (الأثاث: اللباس، والرئي: المنظر).
وقرئ (وريا) بغير همز من الري الذي هو ضد العطش، والمراد: أن منظرهم مرتو من النعمة كأن النعيم بين فيهم؛ لأن الري يتبعه الطراوة، كما أن العطش يتبعه الذبول.
[19.75]
قوله تعالى: { قل من كان في الضللة فليمدد له الرحمن مدا }؛ أي قل لهم يا محمد: من كان في العماية عن التوحيد، ودين الله فليمدد له الرحمن؛ أي ليزد في ماله وعمره وولده، ويقال: ليدعه الله في طغيانه حتى إذا وصل الآخرة لم يكن له فيها نصيب. وهذا اللفظ أمر؛ ومعناه الخبر.
قوله تعالى: { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة }؛ يعني الذين مدهم الله في الضلالة. وأخبر عن الجماعة لأن لفظ (من) يصلح للجماعة.
ثم ذكر ما يوعدون، فقال: { إما العذاب وإما الساعة } يعني القتل والأسر والقيامة والخلود في النار ، { فسيعلمون }؛ حينئذ { من هو شر مكانا }؛ أي أهم أم المؤمنون؛ لأن مكانهم جهنم، ومكان المؤمنين الجنة. قوله تعالى: { وأضعف جندا }؛ هذا رد عليهم في قولهم: أي الفريقين خير مقاما، وأحسن نديا.
[19.76]
قوله تعالى: { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى }؛ أي يزيدهم هذا بالإيمان والشرائع، ويزيدهم هدى بالأدلة والحجج والطاعات التي تدعو إلى الحسنات. قوله تعالى: { والباقيات الصالحات }؛ قد تقدم تفسيرها، سميت باقيات؛ لبقاء ثوابها للإنسان. قوله تعالى: { خير عند ربك ثوابا }؛ أي أنفع من مقامات الكفار التي يفتخرون بها، { وخير مردا }؛ أي وأفضل مرجعا في الآخرة، وأفضل ما يرد على صاحبه.
[19.77]
قوله تعالى: { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا }؛ أنزلت هذه الآية في العاص بن وائل، قال خباب بن الأرت: (كان لي دين على العاص ابن وائل، فحسب دينه منه، فقال: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: لا والله؛ لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين أبعث، قال: فدع مالك، فإذا بعثت أعطيت مالا وولدا وأعطيك هنالك - قال ذلك مستهزءا - قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية).
وقال الحسن: (نزلت في الوليد بن المغيرة)، ومعنى: لأوتين مالا وولدا: لئن كان ما يقول محمد في الآخرة حقا لأعطين مالا وولدا في الآخرة. ومن قرأ (وولدا) بالضم؛ فمعناه واحد، كالحزن والحزن، وقيل: إنه جمع الولد كما يقال أسد وأسد.
[19.78-80]
قوله تعالى: { أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا }؛ أي أعلم ذلك غيبا أم عهد الله إليه عهدا بما تمنى؟! وقال ابن عباس: (ومعناه: ما غاب عنه حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا). وقال الكلبي: (أنظر ما في اللوح المحفوظ).
قوله تعالى: { أم اتخذ عند الرحمن عهدا } ، قال ابن عباس: (معناه أم قال: لا إله إلا الله؛ فأرحمه بها). وقال قتادة: (أقدم عملا صالحا يرجوه)، { كلا }؛ أي ليس الأمر على ما قال: أنه يولي المال والولد. ويجوز أن يكون معناه: كلا إنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا.
قوله تعالى: { سنكتب ما يقول }؛ أي سنأمر الحفظة بإثبات ما يقول لنجازيه به في الآخرة، { ونمد له من العذاب مدا }؛ أي نزيده عذابا فوق العذاب. قوله تعالى: { ونرثه ما يقول }؛ أي نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه، فلا يعود بعد ذلك إليه، كما لا يعود المال إلى من خلفه بعد موته، { ويأتينا }؛ في الآخرة، { فردا }؛ أي وحيدا خاليا من المال والولد.
[19.81]
قوله تعالى: { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا }؛ أي واتخذ أهل مكة من دون الله أصناما آلهة؛ ليكونوا لهم أعوانا وشفعاء في الآخرة. والعز: الامتناع من الضم، فهم اتخذوا هذه الآلهة؛ ليصيروا بها إلى العز في زعمهم فلا يصيبهم سوء، وذلك أنهم رجوا منها الشفاعة والنصرة والمنع من عذاب الله.
[19.82]
قوله تعالى: { كلا }؛ أي لا يمنعهم مني شيء، { سيكفرون بعبادتهم }؛ أي يجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قالوا:
تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون
[القصص: 63]. قوله تعالى: { ويكونون عليهم ضدا }؛ أي يصيرون أعوانا عليهم يكذبونهم يلعنونهم يتبرأون منهم.
[19.83]
قوله تعالى: { ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا }؛ أي ألم تعلم أنا خلينا بين الشياطين والكفار وسلطانهم عليهم، فلم نعصم الكفار من القبول منهم، وتسمى التخلية إرسالا في سعة اللغة. قوله تعالى: { تؤزهم أزا } أي تزعجهم إلى معصية الله تعالى إزعاجا، وتغريهم إغراء. وقال القتيبي: (تحركهم إلى المعاصي). وأصله الحركة والغليان، ومنه الحديث المروي:
" ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ".
[19.84]
قوله تعالى: { فلا تعجل عليهم }؛ أي لا تعجل بمسألة إهلاكهم، { إنما نعد لهم عدا }؛ أي نعد أنفاسهم نفسا بعد نفس، كما نعد أيامهم وآجالهم.
[19.85]
قوله تعالى: { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا }؛ أي اذكر لهم يا محمد اليوم الذي نجمع فيه من اتقى الله في الدنيا؛ أي اجتنب الكبائر والفواحش إلى دار الرحمن؛ وهي موضع الكرامة والثواب. قوله تعالى: { وفدا } أي ركبانا، قال ابن عباس: (يؤتون بنوق لم تر الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب وأزمتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يقربوا أبواب الجنة)، وإنما وحد الوفد لأنه مصدر.
[19.86]
قوله تعالى: { ونسوق المجرمين إلى جهنم }؛ أي يحثهم على السير إلى جهنم، وقوله تعالى: { وردا }؛ أي عطاشى مشاة حفاة عراة قد تقطعت أعناقهم من العطش، والورد: الجماعة التي ترد الماء، ولا يرد أحد الماء إلا بعد العطش.
[19.87]
قوله تعالى: { لا يملكون الشفاعة }؛ أي لا يقدرون على الشفاعة، { إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا }؛ أي لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون، فإنهم يملكون الشفاعة. قال ابن عباس: (شهادة أن لا إله إلا الله). و(من) في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. قال ابن عباس: (لا يشفع إلا من قال: لا إله إلا الله، وتبرأ من الحول والقوة إليه، ولا يرجو إلا الله عز وجل).
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذات يوم:
" " أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا؟! " قالوا: كيف؟ قال: يقول: " اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك في هذه الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي، تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عهدا توفينه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة، نادى مناد: أين الذين لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة " ".
[19.88-89]
قوله تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا }؛ أي قال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله. يقال لهم: { لقد جئتم شيئا إدا } أي منكرا عظيما.
[19.90-92]
قوله تعالى: { تكاد السموت يتفطرن منه }؛ أي يتشققن من عظم هذا القول، { وتنشق الأرض }؛ فتصدع، { وتخر الجبال هدا }؛ أي يسقط بعضها على بعض بشدة صوت، بأن سموا، { أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا }؛ قرأ أهل الحجاز والكسائي: (يتفطرن) بالتاء مشددة، وقرأ نافع (يكاد) بالياء لتقدم الفعل. قال المفسرون: اتخذ الرحمن ولدا، اقشعرت الأرض، وغضبت الملائكة ، وأسعرت جهنم، وفزعت السماوات والأرض والجبال.
[19.93]
قوله تعالى: { إن كل من في السموت والأرض إلا آتي الرحمن عبدا }؛ أي ما من أحد في السماوات والأرض إلا سيأتي الرحمن مقرا بالعبودية، ويأتيه يوم القيامة عبدا ذليلا. يعني أن الخلق كلهم عبيده، وأن عيسى والعزير من جملة العبيد.
[19.94-95]
قوله تعالى: { لقد أحصاهم وعدهم عدا }؛ أي لقد علم عددهم وأفعالهم، ولا يخفى عليه شيء منهم مع كثرتهم. قوله تعالى: { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }؛ لا أنصار لهم ولا أعوان ولا مال ولا ولد، كل امريء مشغول بنفسه لا يهمه غيره.
[19.96]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا }؛ أي يحبهم في الدنيا، ويحببهم إلى عباده المؤمنين من أهل السماوات وأهل الأرضين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا أحب الله العبد، قال الله تعالى: يا جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماوات: إن الله قد أحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم توضع له المحبة في الأرض. وإذا أبغض العبد قال مثل ذلك. وما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه الله مودتهم ومحبتهم ".
[19.97]
قوله تعالى: { فإنما يسرناه بلسانك }؛ أي يسرنا قراءة القرآن على لسانك، { لتبشر به المتقين } أي بالقرآن؛ { وتنذر به قوما لدا } أي قوما ذوي جدل بالباطل، واللد جمع الألد: شديد الخصومة، نظيره الأصم.
[19.98]
قوله تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن }؛ أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من قرون ماضية، { هل تحس منهم من أحد }؛ أي هل ترى منهم من أحد؟ { أو تسمع لهم ركزا }؛ أي صوتا.
والإحساس مأخوذ من الحس، يقال: هل أحسست فلانا؛ أي هل رأيته. والركز: هو الصوت الخفي الذي لا يفهم، ومنه الركاز: وهو المغيب في الأرض.
قال الحسن في معنى الآية: (ذهب القوم فلا يسمع لهم صوت). وقال قتادة: (معناه: هل ترى من عين أو تسمع من صوت).
وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا ويحيى ومريم وعيسى وهارون وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وإدريس، وبعدد من كذبهم، وبعدد من دعا لله ولدا، وبعدد من وحد الله تعالى ".
[20 - سورة طه]
[20.1]
{ طه }؛ قرأ أبو عمرو وورش بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسر الطاء والهاء، وقرأ الباقون بالتفخيم فيهما. واختلفوا في معناه، فقال أكثر المفسرين: إن معناه: يا رجل؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عباس والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك وقتادة ومجاهد، إلا أن عكرمة قال: (هو بلسان الحبشة)، وقال قتادة: (إنما يقول هذه اللغة أهل السريانية).
وروى السدي عن أبي ملك معنى قوله طه: (يا فلان)، قال الكلبي: (بلغة عك: يا رجل)، قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة أيضا في هذا المعنى؛ لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه إلا بلسان قريش. قال الشاعر:
إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أرواح الملاعين
يريد: يا رجل، وقال آخر:
هتفت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون موائلا
وقرئ (طه) بتسكين الهاء، وله معان؛ أحدها: أن تكون الهاء بدلا من همزة الطاء كقولهم في: أرقت هرقت. والآخران: أن يكون على ترك الهمزة طا يا رجل بقدمك الأرض، ثم يدخل الهاء للوقف، فإنه روي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في صلاة الليل بمكة حتى تورمت قدماه، فكان إذا صلى رفع رجلا ووضع أخرى "
فأنزل الله تعالى { طه } أي طأ الأرض بقدمك.
وقال بعضهم: أول السورة قسم؛ أقسم الله بطوله وهدايته. وقال بعضهم: الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، كأنه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا طاهرا من الذنوب، ويا هاديا إلى علام الغيوب.
[20.2-4]
قوله تعالى: { مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى }؛ أي لتجهد نفسك وتتعب، وذلك أنه لما نزل عليه الوحي اجتهد في العبادة، حتى أنه كان يصلي على إحدى رجليه لشدة قيامه وطوله، فأمره الله أن يخفف على نفسه، وذكر له أنه ما أنزل عليه القرآن ليتعب ذلك التعب، ولم ينزله، { إلا تذكرة لمن يخشى }؛ قال مجاهد: (نزلت هذه الآية لسبب ما كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم من التعب والسهر من قيام الليل).
وقال الحسن: (هذا جواب للمشركين، وذلك أن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: وإنك لتشقى، لما رأوا من طول عبادته وشدة اجتهاده، فقال صلى الله عليه وسلم:
" " بعثت رحمة للعالمين " قالوا: بل أنت شقي "
، فأنزل الله هذه الآية { مآ أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ولكن لتسعد وتنال الكرامة به في الدنيا والآخرة).
والشقاء في اللغة: احمرار ما شق على النفس من التعب. قوله تعالى: { تنزيلا ممن خلق الأرض والسموت العلى }؛ نصب على المصدر؛ أي نزلناه تنزيلا. والعلى: جمع العلياء.
[20.5-6]
قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى }؛ وقد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { له ما في السموت وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى }؛ أي له ما له في السماوات وما في الأرض، وما بينهما من الخلق، معناه: أنه مالك كل شيء ومدبره، وقوله تعالى: { وما بينهما } يعني الهواء.
قوله تعالى: { وما تحت الثرى } أي وما تحت التراب. والمفسرون يقولون هو التراب الندي تحت الأرض السفلى، وقيل: تحت الصخرة التي عليها الثور، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله.
[20.7]
قوله تعالى: { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى }؛ معناه: ما حاجتك إلى الجهر، فإن الله لا يحتاج إلى جهرك ليسمع، فإنه تعالى يعلم السر وأخفى منه. قال ابن عباس: (السر ما أسررت به في نفسك، وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك مما يكون في غد، علم الله فيهما سواء) والتقدير: وأخفى منه، إلا أنه حذف للعلم به.
وعن سعيد بن جبير قال: (السر ما تسره في نفسك، وأخفى منه ما لم يكن وهو كائن، فالله تعالى يعلم ما خفي عن ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يفعله).
[20.8]
قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو له الأسمآء الحسنى }؛ أي له الصفات العليا.
[20.9-10]
قوله تعالى: { وهل أتاك حديث موسى }؛ هذا استفهام تقرير بمعنى الخبر، قد أتاك حديث موسى، { إذ رأى نارا }؛ قال ابن عباس: (كان موسى عليه السلام رجلا غيورا لا يصحب الرفقة؛ لئلا يرى أحد امرأته، فأخطأ الطريق في ليلة مظلمة، فرأى نارا من بعيد). { فقال لأهله امكثوا }؛ أي قال لامرأته: أقيموا مكانكم، { إني آنست نارا }؛ أي رأيتها وأبصرتها، { لعلي آتيكم منها بقبس }؛ أي بشعلة، { أو أجد على النار هدى }؛ أي من يدلني على الطريق. قال الفراء: (أراد هاديا، فذكر بلفظ المصدر). قال السدي: (لأن النار لا تخلو من أهل لها وناس عندها).
كانت رؤيته للنار في ليلة الجمعة، وكان قد استأذن شعيبا عليه السلام في الرجوع إلى والدته فأذن له، فخرج بامرأته، فولدت في الطريق في ليلة باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق، فقدح فلم ير نور المقدحة شيئا، فبينما هو في مداولة ذلك إذ أبصر نارا عن يسار الطريق، فقال لامرأته: امكثوا - أي أقيموا مكانكم - إني أبصرت نارا، لعلي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النار من يدلني على الطريق.
[20.11-12]
قوله تعالى: { فلمآ أتاها نودي يموسى }؛ أي فلما أتى النار أي شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما، فخاف وتعجب، وألقيت عليه السكينة، ثم نودي يا موسى، { إني أنا ربك }؛ وإنما كرر الكناية؛ لتوكيد الدلالة، وإزالة الشبهة، وتحقيق المعرفة. قرئ (إني أن ربك) بفتح الهمزة وكسرها، فمن فتح فعلى معنى بأني، ومن كسر فعلى معنى الابتداء.
قال وهب: (نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى، فأجاب سريعا لا يدري من دعاه، فقال: إني أسمع صوتك فلا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لربه عز وجل، فأيقن به). قوله تعالى: { فاخلع نعليك }؛ قال الحسن: (إنما أمر بخلع نعليه لينال قدماه بركة الوادي المقدس، ويباشر تراب الأرض المقدسة بقدمه، فيناله بركتها) وقوله تعالى: { المقدس } أي المطهر. قال عكرمة : (كانت نعلاه من جلد حمار ميت).
قوله تعالى: { إنك بالواد المقدس طوى }؛ المقدس: هو المطهر، وقيل: المبارك، ولا يستدل بما قاله عكرمة على أن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ؛ لأنه إن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام:
" إيما إهاب دبغ طهر "
قوله تعالى: { طوى } هو اسم الوادي.
[20.13]
قوله تعالى: { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى }؛ أي اخترتك للرسالة؛ لكي تقوم بأمري، فاستمع لما يوحى إليك، فاحفظه حتى تؤديه للناس. وقرأ حمزة: (وإنا اخترناك) بالتشديد في (إنا) على التعظيم.
[20.14]
قوله تعالى: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني }؛ ولا تعبد غيري ظاهر المعنى، { وأقم الصلاة لذكري }؛ أي لتذكرني بها بالتسبيح والتعظيم كذا قال مجاهد والحسن، وقيل: لأن أذكرك بالثناء والمدح، وقال مقاتل: (معناه: إذا نسيت الصلاة، فأقمها إذا ذكرتها)، قال صلى الله عليه وسلم:
" " من تأخر عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها " ثم قرأ { وأقم الصلاة لذكري } ".
[20.15]
قوله تعالى: { إن الساعة آتية أكاد أخفيها }؛ قال ابن عباس: (معناه: أن القيامة كائنة أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف أظهرها لغيري)، قال المبرد: (هذا على عادة مخاطبة العرب؛ يقولون إذا بالغوا في كتمان السر: كتمته من نفسي؛ أي لم أطلع عليه أحدا).
والمعنى: أن الله تعالى بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرف العرب. قال قتادة: (هي في بعض القراءة: أكاد أخفيها من نفسي، ولعمري لقد أخفاها الله عن الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين، وفي مصحف أبي وعبدالله: أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها مخلوق؟).
ومعنى الآية: أكاد أخفيها عن عبادي؛ كي لا تأتيهم إلا بغتة، والفائدة في إخفائها عن العباد: التهويل والتخويف، وفي ذلك مصلحة لهم؛ لأنهم إذا لم يعلموا متى قيامها كانوا على حذر منها في كل وقت، خائفين من الموت، مستعدين لذلك بالتوبة والطاعة.
قوله تعالى: { لتجزى كل نفس بما تسعى }؛ أي بسعيها، إما الثواب وإما العقاب. وقرأ الحسن وابن جبير: (أكاد أخفيها) بفتح الهمزة؛ أي أظهرها وأبرزها، يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته .
[20.16]
قوله تعالى: { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها }؛ أي فلا يصرفنك عن الإيمان بالساعة من لا يصدق بها، { واتبع هواه } بالإنكار { فتردى }؛ أي فتهلك، وهو خطاب لموسى عليه السلام، ونهي لسائر المكلفين. والصد: هو الصرف عن الخير، يقال: صده عن الخير، وصده عن الإيمان، ولا يقال: صده عن الشر، ولكن يقال: صرفه عن الشر ومنعه عنه.
[20.17-18]
قوله تعالى: { وما تلك بيمينك يموسى }؛ أي وما التي بيمينك يا موسى؟ { قال هي عصاي أتوكأ عليها } أي أعتمد عليها إذا أعييت، وإذا مشيت، فلفظ أول الآية استفهام؛ ومعناه: التقرير على المخاطب، أن الذي في يده عصا؛ لكيلا تهوله صارت ثعبانا.
وقيل: كان الغرض بهذا السؤال إزالة الوحشة منه؛ لأن موسى كان خائفا مستوحشا. قوله تعالى: { وأهش بها على غنمي }؛ أي أخبط به الشجر؛ ليتناثر ورقه فيأكله غنمي. وقرأ عكرمة: (وأهش) بالشين، يعني أزجر بها الغنم، وذلك أن العرب تقول: هش وقش.
قوله تعالى: { ولي فيها مآرب أخرى }؛ أي حوائج أخرى، تقول: لا إرب لي في هذا؛ أي لا حاجة لي فيه، واحد المآرب مأربة بضم الراء وكسرها وفتحها، وإنما لم يقل: أخر؛ لأجل رؤوس الآي.
قال ابن عباس: (كانت مآربه أنه إذا ورد ماء قصر عنه رشاؤه وصله بالمحجن، ثم أدلى العصا وكان في أسفلها عكازة يقاتل بها السباع، وكان يلقي عليها كسائه يستظل تحتها، ومن مآربه أيضا أنه كان اذا أراد الاستسقاء من بئر أدلاها، فطالت على طول البئر، فصارت شعبتاها كالدلو، وكان يظهر على شعبتيها الشمعتين بالليل - يعني: يضيء له مد البصر ويهتدي بها - واذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض، فتغصنت أغصان تلك الشجرة، وأورقت أورقها وأثمرت).
ثم كان من المعلوم أن موسى لم يرد بهذا الجواب إعلام الله تعالى؛ لأن الله تعالى أعلم بذلك منه، ولكن لما اقتضى السؤال جوابا لم يكن بد له من الإجابة، فذكر منافع العصا إقرارا بالنعمة فيها والتزاما بما يجب عليه من الشكر لله، وهكذا سبيل أولياء الله تعالى في إظهار شكر نعم الله تعالى، وفي هذا جواب عن بعض الملحدة في باب المسألة كانت عن فائدة ما في يده، ولم يكن عن منافعها، فلم كان الجواب عن ما لم يسأل؟
[20.19-21]
وقوله تعالى: { قال ألقها يموسى }؛ أي ألقها من يدك، { فألقاها فإذا هي حية تسعى }؛ تشتد رافعة رأسها، عيناها تتوقدان نارا، تمشي بسرعة على بطنها، لها عرف كعرف الفرس، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب هاربا منها، فنودي يا موسى: إرجع، فرجع وهو شديد الخوف و { قال }؛ الله له: { خذها } بيمينك؛ { ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى }؛ عصا كما كانت.
فلما أمره الله بأخذها أدنى طرف ثوبه على يده، وكان عليه مدرعة من صوف، فلما جعل طرف المدرعة على يده ليتناولها، قال ملك: يا موسى؛ أرأيت لو أن الله قد رعاك ما تحاذره؟ أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا، ولكني ضعيف ومن ضعف.
فأمر أن يدخل يده في فمها فكشف عن يده، ثم وضعها في فم الحية، وإذا يده في الموضع الذي كان يضعها فيه بين الشعبتين اللتين في رأس العصا، وإنما أمر بإدخال يده في فمها؛ لأنه إنما يخشى من الحية من فمها، فأراد الله أن يريه من الآية التي لم يقدر عليها مخلوق. ولئلا يفزع منها اذا ألقاها عند فرعون، فلا يولي مدبرا.
[20.22-23]
قوله تعالى: { واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضآء من غير سوء آية أخرى }؛ قال الفراء: (جناح الإنسان عضده أي من غير أصل إبطه) والمعنى: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ذات شعاع من غير مرض ولا برص آية أخرى نعطيكها مع العصا، { لنريك من آياتنا الكبرى }؛ سوى هاتين الآيتين، فكان عليه السلام إذا جعل يده في جيبه خرجت بيضاء يغلب شعاعها نور الشمس. قال ابن عباس: (كان ليده نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا).
[20.24]
قوله تعالى: { اذهب إلى فرعون إنه طغى }؛ أي جاوز الحد في العصيان، وكفر وتكبر.
[20.25-28]
قوله تعالى: { قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري }؛ أي وسع لي صدري لأتمكن من تحمل أثقال الرسالة، والقيام بأدائها ومخاصمة الناس فيها، وسهل لي أمري برفع المشقة ووضع المحبة. قوله تعالى: { واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي }؛ أي وارفع العقدة من لساني؛ ليفقهوا قولي: كلامي.
وكان سبب العقدة في لسانه أنه كان في حجرة فرعون، فأتى يوم فأخذ بلحيته فنتف منها شيئا، وقال فرعون لامرأته آسية: إن هذا عدوي المطلوب وهم بقتله، فقالت له آسية: لا تفعل، فإنه طفل لا يعقل، ولا يفرق بين الأشياء ولا يميز، وعلامة ذلك: أنه لا يميز بين الدرة والجمرة، ثم جاءت بطشتين، فجعلت في أحدهما الجمر من النار، وفي الآخر الجوهر والحلي، ووضعتهما بين يدي موسى، فأراد موسى أن يأخذ شيئا من الحلي، فأخذ جبريل بيده فوضعها على النار، فأخذ جمرة ووضعها في فمه حتى أحرق لسانه، فكانت في لسانه رتة، فدفع عنه أكثر الضررين بأقلهما.
وقد اختلفوا في هذه العقدة: هل زالت بأجمعها في وقت نبوته، أم لا؟ قال بعضهم - وهو الأصح وإليه ذهب الحسن -: أن الله استجاب له، فحل العقدة من لسانه؛ لأنه تعالى قال
قد أوتيت سؤلك يموسى
[طه: 36] فعلى هذا قول فرعون
ولا يكاد يبين
[الزخرف: 52] أي لا يأتي ببيان يفهم، وكان هذا القول كذبا منه؛ ليصرف الوجوه عنه.
[20.29-31]
قوله تعالى: { واجعل لي وزيرا من أهلي }؛ الوزير الذي يؤازر الأمير فيحمل عنه بعض ما يحمل، فيكون المعنى: واجعل لي عونا وظهرا من أهلي، وقال الزجاج: (اشتقاقه من الوزر وهو الجبل الذي يعتصم به لينجو من الهلكة).
ثم بين الوزير من هو، فقال: { هارون أخي } ، قيل: هارون مفعول (اجعل)، تقديره: اجعل هارون أخي وزيرا لي، { اشدد به أزري }؛ أي أقوي به ظهري، والأزر الظهر، لنتعاون على الأمر الذي أمرتنا به، يقال: آزرت فلانا إذا عاونته.
[20.32]
قوله تعالى: { وأشركه في أمري } ، أي اجعله شريكا لي في تبليغ هذه الرسالة. ومن قرأ (أشدد) بفتح الألف و(أشركه) بضم الألف رد الفعل إلى موسى عليه السلام.
[20.33-35]
قوله تعالى: { كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا }؛ أي كي نصلي لك، وقيل: كي ننزهك كثيرا، ونذكرك بالحمد والثناء كثيرا بما أوليتنا من نعمتك، ومننت علينا من تحمل رسالتك. قوله تعالى: { إنك كنت بنا بصيرا }؛ أي عالما.
[20.36-40]
قوله تعالى: { قال قد أوتيت سؤلك يموسى }؛ أي أوتيت ما سألت يا موسى، وأوتيت مرادك. قوله تعالى: { ولقد مننا عليك مرة أخرى }؛ أي أنعمنا عليك كرة أخرى قبل هذه المرة.
ثم بين تلك النعمة، فقال تعالى: { إذ أوحينآ إلى أمك }؛ أي ألهمناها حين عنت بأمرك، وما كان فيه سبب نجاتك من القتل، { ما يوحى }؛ أي ما يلهم، ثم فسر ذلك الإلهام فقال: { أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم } وكان السبب في ذلك أن فرعون كان يقتل غلمان بني إسرائيل على ما تقدم ذكره، ثم خشي أن يفنى نسل بني إسرائيل، فكان يقتل بعد ذلك في سنة ولا يقتل في سنة، فولد موسى في السنة التي يقتل فيها الغلمان، فنجاه الله من القتل بأن ألهم أمه أن جعلته في التابوت، وأطرح التابوت في اليم وهو البحر، وأراد به النيل ومعنى قوله تعالى: { أن اقذفيه } أي اجعليه.
قوله تعالى: { فليلقه اليم بالساحل }؛ لفظه لفظ الأمر وهو خبر (بتقدير) حتى يلقيه اليم بالساحل. قوله تعالى: { يأخذه عدو لي وعدو له }؛ وأراد به فرعون.
قوله تعالى: { وألقيت عليك محبة مني }؛ وذلك أن أم موسى لما اتخذت لموسى تابوتا جعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى وألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينما هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إذا بالتابوت يجيء بالماء.
فلما رأى ذلك أمر الجواري والغلمان بإخراجه فأخرجوه، فإذا هو صبي من أحسن الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله تعالى: { وألقيت عليك محبة مني } قال عطية العوفي: (وجعل عليه مسحة من جمال فأحبه كل من رآه).
وقال عطاء عن ابن عباس: (معنى قوله تعالى { وألقيت عليك محبة مني } أي لا يلقاك أحد إلا أحبك من مسلم وكافر)، وقال عكرمة: (ألقيت عليك محبة وملاحة وحسنا)، فحين أبصرت آسية وجهه قالت لفرعون: قرة عين لي ولك. وقال أبو عبيدة: (معناه: جعلت لك محبة عندي وعند غيري، أحبك فرعون، فسلمت من شره، وأحبتك امرأته فتبنتك). قوله تعالى: { ولتصنع على عيني }؛ أي ولتربى وتغذى بمرأى أراك على ما أريد بك من الرفاهية في غذائك. وقال قتادة: (معناه: لتغذى على محبتي).
وأراد في قوله تعالى: { إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله }؛ وذلك أن موسى جعل يبكي ويطلب اللبن، فأمر فرعون حتى أتى بالنساء اللواتي حول فرعون ليرضعن موسى، فلم يقبل ثدي واحدة منهن، وكانت أخت موسى متبعة للتابوت ماشية خلفه.
فلما حمل التابوت إلى فرعون، ذهبت هي معه، فقالت: هل أدلكم على من يكفله؟ أي يرضعه ويضمه ويحصنه؟ فقالوا: من هي؟ قالت: امرأة قد قتل ولدها، وهي تحب أن تجد صبيا ترضعه.
فأذن لها فرعون في إحضارها، فانطلقت وأتت بأم موسى، فأعطته الثدي فأخذه موسى، وفرح به فرعون، وجعل لها الأجرة على الإرضاع، وحملته أمه إلى دارها، فذلك قوله تعالى: { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن }؛ أي رددناك إليها؛ كي تطيب نفسها، ولا تحزن على ابنها.
قوله تعالى: { وقتلت نفسا }؛ يعني القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، { فنجيناك من الغم }؛ أي غم القود، وخلصناك من أن تقتل. قوله تعالى: { وفتناك فتونا }؛ أي أوقعناك في محنة بعد محنة، ونحن نخلصك منها، وذلك أنه حمل به في السنة التي يذبح فرعون فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر، ومنع الرضاع إلا ثدي أمه، ثم جر لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقب.
فمعنى: { وفتناك فتونا } أي خلصناك من تلك المحن. وقيل: معناه شددنا عليك في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين. وقال ابن عباس: (معناه: اختبرناك اختبارا)، وقال الضحاك: (ابتليناك ابتلاء)، وقال مجاهد: (خلصناك خلاصا).
قوله تعالى: { فلبثت سنين في أهل مدين }؛ يعني لبثت في أهل مدين حين كنت راعيا لشعيب، مكثت عشر سنين . وتقدير الكلام: وفتناك فتونا؛ فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين. وبلاد أهل مدين على ثلاث مراحل من مصر. وقال وهب: (لبثت في أهل مدين عند شعيب ثماني وعشرين سنة، عشر سنين التي رعى فيها لشعيب، وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له، وقتل القبطي يوم قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة).
قوله تعالى: { ثم جئت على قدر يموسى }؛ معناه: فلبثت سنين في أهل مدين حين كنت راعيا لشعيب، ثم جئت على المقدار الذي قدره الله عليك، وكتبه في اللوح المحفوظ. قال ابن كيسان: (جاء على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء).
[20.41]
قوله تعالى: { واصطنعتك لنفسي }؛ أي اختصصتك لوحيي ورسالتي، والاصطناع هو الإخلاص بالألطاف. وقال الزجاج معناه: (اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي).
[20.42-43]
قوله تعالى: { اذهب أنت وأخوك بآياتي }؛ أي باليد والعصا، { ولا تنيا في ذكري }؛ اي لا تقترا في تبليغ رسالتي إلى فرعون، ولا تضعفا عن ذكري، وقيل: لا تقصرا ولا تبطئا. قوله تعالى: { اذهبآ إلى فرعون إنه طغى }؛ قد تقدم تفسيره.
[20.44]
قوله تعالى: { فقولا له قولا لينا }؛ أي قولا له بالشفقة، ولا تقولا له قولا عنيفا، فيزداد غيضا بغلظ القول. قال السدي وعكرمة: (كنياه قولا له: يا أبا العباس) وقيل: يا أبا الوليد، ويا أيها الملك. وقيل: يعني بالقول اللين:
هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى
[النازعات: 18-19].
وعن السدي قال: (القول اللين: أن موسى أتاه فقال له: تؤمن بما جئت به، وتعبد رب العالمين على أن لك شبابك فلا تهرم، وأن لك ملكك لا تنزع حتى تموت، ولا تنزع عنك لذة الطعام والشراب والجماع حتى تموت، فإذا مت دخلت الجنة. فأعجبه ذلك، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان هامان غائبا، فقال فرعون: إن لي ذا أمر غائب، فاصبر حتى يقدم. فلما قدم قال له فرعون يا هامان إن موسى دعاني إلى أمر فأعجبني - وأخبره بالذي دعاه إليه - وأردت أن أقبل منه. فقال هامان: قد كنت أرى أن لك عقلا ، بينما أنت رب فتريد أن تكون مربوبا، وأنت تعبد فتريد أن تعبد؟. فغلبه على رأيه فأبى.
روي أن رجلا قرأ في مجلس يحيى بن معاذ: { فقولا له قولا لينا } فبكى يحيى ابن معاذ وقال: (إلهي، هذا رفقك بمن يقول أنا إله، فكيف رفقك بمن يقول أنت إلهي، إن قول لا إله إلا الله يهدم كفر خمسين سنة).
قوله تعالى: { لعله يتذكر أو يخشى }؛ أي يتعظ أو يخشى العاقبة، وكلمة (لعل) للترجي والطمع؛ أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وأنا عالم بما يفعل، فإن قيل: كيف قال { لعله يتذكر } وعلمه سابق في فرعون أنه لا يؤمن، ولا يتذكر ولا يخشى؟ قيل: هذا مصروف إلى غير فرعون، تقديره: لكي يتذكر متذكر ويخشى خاش إذا رأى برئ، وألطافي بمن خلقته ورزقته وصححت جسمه وأنعمت عليه، ثم ادعى الربوبية دوني.
قال بعض العارفين في قوله تعالى: { فقولا له قولا لينا }: (إذا كان هذا رفقك بمن ينافيك، فكيف رفقك بمن يصافيك؟ هذا رفقك بمن يعاديك، فكيف رفقك بمن يواليك؟ هذا رفقك بمن يسبك، فكيف رفقك بمن يحبك؟ هذا رفقك بمن يقول ندا فكيف بمن يقول فردا؟ هذا رفقك بمن ضل، فكيف رفقك بمن زل؟ هذا رفقك بمن اقترف، فكيف رفقك بمن اعترف؟ هذا رفقك بمن أصر، فكيف رفقك بمن أقر؟ هذا رفقك بمن استكبر، فكيف رفقك بمن استغفر؟).
وعن وهب بن منبه قال: (أوحى الله إلى موسى: انطلق إلى فرعون برسالتي، فمعك نظري وأنت جند عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف قد عزته الدنيا حتى كفر وأقسم بعزي لولا اتخاذ الحجة عليه والعذر إليه لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض، فإن أذن للسماء صعقته، وللأرض ابتلعته، وللجبال دمرته، وللبحار أغرقته، ولكنه وسعه حلمي، فبلغه رسالتي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لا يغر بك فألبسه من لباس الدنيا، فأحب ربك الذي هو واسع المغفرة، أنه قد أمهلك منذ خمسمائة سنة لم تهرم ولم تسقم ولم تفتقر، واعلم أن أفضل ما تزين به العباد الزهد في الدنيا، ومن أهان وليا فقد بارزني بالمحاربة).
[20.45]
قوله تعالى: { قالا ربنآ إننا نخاف أن يفرط علينآ أو أن يطغى }؛ معناه: قال موسى وهارون: ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا، قال ابن عباس: (يعجل والعقوبة)، وقيل: تغليب أو أن يطغى بتكبر ويستعصي علينا، ويقال: فرط علينا فلان إذا أعجل بمكروه، وفرط منه أمري بدر وسبق.
[20.46-48]
قوله تعالى: { قال لا تخافآ إنني معكمآ }؛ أي معكما بالبصيرة والعون، { أسمع }؛ ما يرد عليكما، { وأرى }؛ ما يصنعه بكما، وقيل: معناه: أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يريد بكما فأمنعه، ولست بغافل عنكما، فلا تهتما، { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك }؛ أرسلنا إليك، { فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم }؛ أي أطلقهم من اعتقالك، ولا تتعبهم بالأعمال الشاقة، { قد جئناك بآية من ربك }؛ أي بعلامة من ربك وهي اليد والعصا، وهما أول آية، وقيل: اليد خاصة.
وكان فرعون قد أتعب بني إسرائيل بالأعمال الشاقة، مثل اللبن والطين والبناء، وما لا يقدرون عليه. فلما قال موسى: قد جئناك بآية من ربك، قال: ما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس، ولم يره العصا إلا بعد ذلك يوم الزينة.
قوله تعالى: { والسلام على من اتبع الهدى }؛ ليس هو بتحية لفرعون ولكن معناه: أن من اتبع الهدى سلم من عذاب الله بدليل أنه عقبه بقوله تعالى: { إنا قد أوحي إلينآ أن العذاب على من كذب وتولى }؛ أي إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه، فأما من اتبعه فإنه يسلم.
[20.49-50]
قوله تعالى: { قال فمن ربكما يموسى }؛ أي من إلهكما الذي أرسلكما، { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه }؛ أي ربنا الذي خلق كل شيء على الهيأة التي ينتفع بها، فأعطاه صحته وسلامته وركب فيه شهوته، ثم هداه لمعيشته. وقيل: معناه: الذي صور كل جنس من الحيوان على صورة أخرى، فلم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا.
وقال الضحاك : (أعطى كل شيء خلقه؛ يعني لليد البطش، وللرجل المشي، وللسان النطق، وللعين النظر، وللأذن السمع). وقال سعيد بن جبير: (أعطى كل شيء شكله للإنسان زوجة، وللبعير ناقة، وللفرس رمكة، وللحمار أتانا، وللثور بقرة، { ثم هدى }؛ أي ألهم وعرف كيف يأتي الذكر الأنثى في النكاح).
[20.51-52]
قوله تعالى: { قال فما بال القرون الأولى }؛ قال: ما حال، وما بيان الأمم الماضية، لم يبعثوا ولم يجازوا على أفعالهم، ومعنى البال: الشأن والحال. والمعنى: ما حالها، فإنها لم تقر بالله، ولكنها عبدت الأوثان، ويعني بالقرون الأولى، مثل قوم نوح وعاد وثمود، { قال } موسى: { علمها عند ربي في كتاب }؛ وإذا علم لا بد أن يجازي. وقيل: معناه: علم أعمالها عند ربي في كتاب الله، أراد به اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: { لا يضل ربي ولا ينسى }؛ أي لا يذهب عليه شيء، ولا يخطئ ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم عليه، وقيل: لا يغفل ربي ولا يترك شيئا، ولا يغيب عنه شيء، وفي هذا دليل أن الله تعالى لم يكتب أفعال العباد لحاجته في معرفتها إلى الكتاب، ولكن لمعرفة الملائكة. ويقال: كان سؤال فرعون عن القرون الأولى: هل بعث فيهم أنبياء كما بعثت إلينا، فأحالها على ما في المعلوم من أمرها.
[20.53]
قوله تعالى: { الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا }؛ وقرأ أهل الكوفة (مهدا) بغير ألف؛ أي فرشا، والفراش: المهاد لغة فيه كالفرش والفراش؛ أي جعلها مبسوطة ليمكن القرار عليها، ولم يجعلها حادة كرؤوس الجبال.
قوله تعالى: { وسلك لكم فيها سبلا } أي طرقا تذهبون وتجيئون فيها وتسلكونها. قال ابن عباس: (سلك أي سهل لكم فيها طرقا). { وأنزل من السمآء مآء }؛ يعني المطر، قوله تعالى: { فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى }؛ أي فأخرجنا بالمطر أصنافا من نبات مختلف الألوان.
[20.54]
قوله تعالى: { كلوا وارعوا أنعامكم }؛ أي كلوا من نبات الأرض، وارعوا أنعامكم من عشبها، { إن في ذلك لآيات لأولي النهى }؛ أي إنما ذكرت لكم لعلامة دالة على البعث لذوي العقول من الناس، وإنما سميت العقول (نهى )؛ لأن أصحابها ينتهون بها عن القبيح والمعاصي.
[20.55]
قوله تعالى: { منها خلقناكم }؛ أي من الأرض خلقنا أباكم آدم وكلكم من ذريته، { وفيها نعيدكم }؛ عند الموت والدفن، { ومنها نخرجكم تارة أخرى }؛ للبعث، وقد جرى ذكر الأرض في قوله تعالى:
ألم نجعل الأرض مهدا
[النبأ: 6].
[20.56-59]
قوله تعالى: { ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى }؛ أي أرينا فرعون آياتنا السبع كلها فكذب وأبى، أي قال: ليست هذه من الله، وأبى أن يسلم ويقبل، ونسب موسى إلى السحر؛ ف { قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا }؛ أي مصر، { بسحرك يموسى * فلنأتينك بسحر مثله }؛ أي مثل ما جئتنا به، { فاجعل بيننا وبينك موعدا }؛ أي ميقاتا وأجلا في موضع معلوم، { لا نخلفه نحن ولا أنت }؛ أي لا نجاوزه ولا يقع منا خلف في حضوره. قوله تعالى: { مكانا سوى }؛ أي مكانا مستويا يبين للناس ما بيننا، ويستوي حالنا من الرضى به. وقيل: تستوي مسافته على الفريقين فتكون مسافة كل فريق إليه كمسافة الفريق الآخر.
فواعده موسى يوما معلوما وهو قوله تعالى: { قال موعدكم يوم الزينة } أي يوم العيد الذي لكم. قال سعيد بن جبير: (كان يوم عاشوراء)، قرأ الحسن: (يوم الزينة) بنصب الميم؛ أي في يوم. وقرأ الباقون بالرفع على الخبر.
قوله تعالى: { وأن يحشر الناس ضحى }؛ أي ضحى ذلك اليوم، وأراد بالناس أهل مصر، ومعنى يحشرون أي يجتمعون إلى العيد، وإنما جعل موسى موعدهم نهارا في يوم اجتماعهم؛ ليكون أبلغ في الحجة، وأبعد من الريبة. قوله تعالى: { وأن يحشر } يحتمل أن يكون في موضع رفع على معنى موعد كما حشر الناس وقت الضحى يوم الزينة، ويحتمل أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة، المعنى يوم الزينة، ويوم حشر الناس في وقت الضحوة.
[20.60-61]
قوله تعالى: { فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى }؛ أي فأعرض فرعون عن الحق والطاعة فجمع كيده ومكره، وذلك جمعه السحرة ثم أتى الموعد، والمعنى: { فجمع كيده } أي سحرته، قيل: كانوا أربعمائة ساحر؛ و { قال لهم موسى }؛ للسحرة: { ويلكم لا تفتروا على الله كذبا }؛ أي لا تشركوا مع الله أحدا، ولا تختلقوا عليه كذبا بتكذيبي، { فيسحتكم بعذاب }؛ أي فيهلككم ويستأصلكم بعذاب من عنده، { وقد خاب من افترى }؛ أي وقد خاب من اختلق على الله كذبا. ومعنى قوله: { ويلكم } أي ألزمكم الويل. قرأ أهل الكوفة: (فيسحتكم) بضم التاء وكسر الحاء، يقال: سحته الله وأسحته؛ أي أهلكه.
[20.62]
قوله تعالى: { فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى }؛ أي فتشاورت السحرة فيما بينهم من فرعون في أمر موسى، وأسروا المناجاة، فقالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه وآمنا به فهذا نجواهم.
[20.63]
قوله تعالى: { قالوا إن هذان لساحران }؛ أي قال الملأ من قوم فرعون: إن موسى وهارون لساحران، { يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما }؛ من أرض مصر، { ويذهبا بطريقتكم المثلى }؛ أي بدينكم الأمثل، وقيل: معناه: ويذهبا بأهل طريقتكم.
واختلف القراء في قوله تعالى { إن هذان } ، قرأ أبو عمرو (هذين) على اللغة المعروفة وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي (هذان) بالألف وهي لغة كنانة وبني الحارث بن كعب وخثعم وزيد وقبائل من اليمن: يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، مررت بالزيدان. قال الفراء: أنشدني رجل من بني أسد، وما رأيت أفصح منه:
فأطرق إطراق الأفعوان ولو يرى
مساغا لناباه الشجاع لصمما
ويقولون: كسرت يداه وركبت علاه، يعني يديه وعليه، قال شاعرهم:
تزود منا بين أذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
أراد بين أذنيه فقال آخر:
أي قلوص راكب تراها
طاروا علاهن فطر علاها
أي عليهن وعليها، وقال آخر:
إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وقال بعضهم (إن) هنا بمعنى: نعم. روي أن أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرمه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: (إن وصاحبها) يعني نعم. وقال الشاعر:
بكر العواذل في الصبا
ح يلمنني وألومهنه
ويقلن شيب قد علا
ك وقد كبرت فقلت إنه
أي نعم. وقد ذكر أهل النحو لتصحيح هذه القراءة وجوها:
أحدها: ضعف عمل (إن) لأنها تعمل بالمشبه بالفعل وليست بأصل في العمل ، ألا ترى أنها لما خففت لم تعمل.
والثاني: أنها تشبه (اللذين) في البناء؛ لأن (اللذين) في الرفع والنصب والخفض سواء، ولأن الألف في (هذان) ليس ألف التشبيه لوجودها في الوحدان، وإنما زيدت النون في التثنية ليكون فرقا بين الواحد والاثنين، كما قالوا (الذي) ثم زادوا نونا تدل على الجمع، قالوا (الذين) في رفعهم ونصبهم.
والثالث: (إن) ها هنا مخففة وليست مضمرة إلا أنه حذفت الهاء.
والرابع: أنه لما حذفت الألف صارت ألف التثنية عوضا منها.
والخامس: أن (إن) بمعنى نعم.
[20.64]
قوله تعالى: { فأجمعوا كيدكم }؛ قرأ أبو عمرو (فاجمعوا) بوصل الألف وفتح الميم من الجمع، وتصديقه قوله تعالى:
فجمع كيده
[طه: 60]، وقرأ الباقون (فأجمعوا) بقطع الألف وكسر الميم، مأخوذ من أجمعت الأمر إذا عزمت عليه وأحكمته.
وقوله تعالى: { كيدكم } أي مكركم وسحركم، وقوله تعالى: { ثم ائتوا صفا }؛ مجتمعين؛ ليكون أنظم لأموركم، وأشد لهيبتكم. وقيل: معناه: ثم ائتوا المصلى. والعرب تسمي المصلى صفا. قال الزجاج: (فعلى هذا معناه: ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم). قوله تعالى: { وقد أفلح اليوم من استعلى }؛ أي قد فاز بالفلاح والبقاء من كانت الغلبة له.
[20.65-67]
قوله تعالى: { قالوا يموسى إمآ أن تلقي وإمآ أن نكون أول من ألقى }؛ أي قالت السحرة: يا موسى إما أن تلقي عصاك إلى الأرض، وإما أن نكون أول من ألقى العصي والحبال، { قال } لهم موسى: { بل ألقوا }؛ فألقوا حبالهم وعصيهم.
روي أنهم كانوا سبعين ألف ساحر، وكان عدد ما عملوا من الحبال والعصي حمل ثلاثمائة بعير، فألقوا ما معهم، { فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى }؛ أي تمشي وتتحرك، وكانوا قد احتالوا فيها بحيلة، فكان كل من رآها من بعيد يخيل إليه أنها تتحرك.
قرأ ابن عامر: (تخيل) بالتاء، رده إلى الحبال والعصي، وقرأ الباقون بالياء، ردوه إلى الكيد والسحر، وذلك أنهم لطخوا حبالهم وعصيهم بالزئبق، فلما أصابه حر الشمس ارتعشت واهتزت، فظن موسى أنها تقصده، { فأوجس في نفسه خيفة موسى }؛ أي أحس ووجد، وقيل: أضمر في نفسه خيفة .
فإن قيل: لم جاز أمرهم بالإلقاء وهو كفر؟ قيل: يجوز أن يكون معناه: ألقوا إن كنتم محقين كما زعمتم، ويجوز أن يكون أمرا بالإلقاء على وجه الاعتبار.
وقوله تعالى: { فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف } ، فإن قيل: ما الذي خافه موسى؟ قيل: خاف أن يلتبس على الناس أمر السحرة فيتوهمون أن حبالهم وعصيهم بمنزلة عصاه. وقيل: كان خوفه خوف الطبع لما رأى من كثرة الحيات العظام.
[20.68-70]
قوله تعالى: { قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى }؛ عليهم بالظفر والغلبة. قوله تعالى: { وألق ما في يمينك }؛ يعني العصا، { تلقف ما صنعوا }؛ أي تلقم وتبلع ما طرحوا من العصي والحبال، { إنما صنعوا كيد ساحر }؛ أي أن الذي صنعوه كيد ساحر. وقرئ (كيد سحر) كما قالوا بمعنى حذر، { ولا يفلح الساحر حيث أتى }؛ أي لا يغلب حقك بباطله. وقيل: لا يسعد الساحر حيث كان.
فألقى موسى عصاه فتلقفت جميع ما صنعوا، ثم أخذها موسى فرجعت عصا كما كانت، { فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى }؛ فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: (لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) يعني الجنة والنار، وما رأوا من درجاتهم.
قال: وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها: موسى، فقالت: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا إلى أعظم صخرة تجدونها فأتوها، فإن هي رجعت عن قولها وإلا فألقوها عليها، فلما أتوها رفعت ببصرها إلى السماء فرأت الجنة فقالت:
رب ابن لي عندك بيتا في الجنة
[التحريم: 11] فانتزعت روحها، والصخرة على جسد لا روح فيه.
[20.71]
قوله تعالى: { قال آمنتم له }؛ بموسى، { قبل أن ءاذن لكم }؛ في الإيمان. والفرق بين (آمنتم له) وآمنتم به: أن في (آمنتم له) معنى الاتباع له، وآمنتم به إيمان بالخبر من اتباع له في ما دعا اليه.
قوله تعالى: { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر }؛ أي رئيسكم ومعلمكم، وإنما قال فرعون هذه المقالة قصدا منه إلى صرف الناس عن اتباع موسى؛ لأن السحرة لم يتعلموا من موسى، وإنما كانوا يعلمون السحر قبل قدوم موسى وقبل ولادته، { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف }؛ قد تقدم تفسيره، { ولأصلبنكم في جذوع النخل }؛ أي على جذوع النخل، أقيم حرف (في) مقام حرف (على)، فكان فرعون أول من قطع اليد والرجل من خلاف وصلب. قوله تعالى: { ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى }؛ أي لتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى عذابا، أنا أم رب موسى وهارون.
[20.72]
قوله تعالى: { قالوا لن نؤثرك على ما جآءنا من البينات }؛ أي قالت السحرة لفرعون: لن نختارك على ما جاءنا من الحق والبراهين يعني اليد والعصا. وقال عكرمة: (هو لما رفعوا رؤوسهم من السجود رأوا الجنة والنار، ورأوا منازلهم في الجنة).
قوله تعالى: { والذي فطرنا }؛ أي لن نؤثرك على الله الذي فطرنا؛ أي خلقنا، ويجوز أن يكون قوله { والذي فطرنا } قسما، { فاقض مآ أنت قاض }؛ أي إصنع ما أنت صانع، { إنما تقضي هذه الحياة الدنيآ }؛ أي إنما تحكم علينا في الدنيا وهي منقضية لا محالة، وأما الآخرة فليس لك فيها حظ.
[20.73]
قوله تعالى: { إنآ آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا }؛ أي إشراكنا في الجاهلية ويغفر لنا { ومآ أكرهتنا عليه من السحر }؛ قال ابن عباس: (كان فرعون يكره الناس على تعلم السحر حتى لا ينقطع عنهم). وقيل: إنه أكره هؤلاء السحرة على معارضة موسى.
قوله تعالى: { والله خير وأبقى }؛ أي هو خير ثوابا إن أطيع، وأبقى عقابا إن عصي. ويقال: ما عند الله من الكرامة والثواب أفضل وأدوم مما تعطينا أنت من المال، وهذا جواب عن قوله
ولتعلمن أينآ أشد عذابا وأبقى
[طه: 71] وها هنا انتهى قول السحرة.
[20.74-75]
قوله تعالى: { إنه من يأت ربه مجرما }؛ أي من يأت إلى موضع الحساب عاصيا، { فإن له جهنم لا يموت فيها }؛ فيستريح، { ولا يحيى }؛ حياة تنفعه، قال ابن عباس: (المجرم الكافر). قوله تعالى: { ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات }؛ أي قد عمل الطاعات، { فأولئك لهم الدرجات العلى }؛ أي الرفيعة في الجنة.
ودرجات الجنة بعضها أعلى من بعض، والعلى جمع العليا، قال صلى الله عليه وسلم:
" إن أهل الدرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كأضواء كوكب دري، وإن أبا بكر وعمر منهم ".
[20.76]
قوله تعالى: { جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزآء من تزكى }؛ أي من تطهر من الذنوب بالطاعة بدلا من تدنس النفوس بالمعصية.
[20.77]
قوله تعالى: { ولقد أوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي }؛ يعني أسر بهم في أول الليل من أرض مصر، يعني بني إسرائيل، { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا }؛ أي يابسا، وذلك أن الله تعالى أيبس لهم ذلك الطريق حتى لم يكن فيه ماء ولا طين. قوله تعالى: { لا تخاف دركا ولا تخشى }؛ أي إنك آمن لا تخاف أن يدركك فرعون، ولا تخش الغرق من البحر.
وقرأ حمزة (لا تخف) على النهي مجزوما، (ولا تخشى) بالألف، كأنه استأنف، وتقديره: وأنت لا تخشى، كقوله:
يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون
[آل عمران: 111].
[20.78]
قوله تعالى: { فأتبعهم فرعون بجنوده }؛ من قرأ (فأتبعهم) بالتخفيف فمعناه: ألحق جنوده بهم، والباء في (جنوده) زائدة، والمعنى: أمرهم أن يتبعوا موسى وقومه، ومن قرأ (فأتبعهم) بالتشديد، فالمعنى اتبعهم بنفسه ومعه الجنود. قوله تعالى: { فغشيهم من اليم ما غشيهم }؛ أي علاهم وسترهم من البحر ما علاهم وهو الغرق.
وذلك أنه لما تراءى الجمعان، أمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق الماء في عرض البحر حتى صار فيه اثنا عشر طريقا، وبقي الماء قائما بين الطريقين كالجبل، فسلك موسى، وأخذ كل سبط من بني إسرائيل طريقا من هذه الطرق.
فلما أشرف فرعون وقومه على البحر فرأوه منفلقا فيه طرق يابسة، أوهم قومه أن البحر إنما انفلق من هيبته! فدخل فرعون خلف بني إسرائيل، فصاحت الملائكة في القوم: أن الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم، وهم أولهم بالخروج أن يخرج، أطبق الله تعالى البحر عليهم فغرقوا.
وقال وهب: (استعار بنو إسرائيل حليا كثيرا من القبط، ثم خرج بهم موسى من أول الليل، وكانوا سبعين ألفا، فأخبر فرعون بذلك فركب في ستمائة ألف من القبط يقص أثر بني إسرائيل .
فلما رأى قوم موسى رهج الخيل - أي غبارها - قالوا: إنا لمدركون، قال موسى: كلا، إن معي ربي سيهدين، فلما قربوا قالوا: يا موسى أين تمضي البحر أمامنا وفرعون خلفنا؟!
فضرب البحر بعصاه فانفلق وصار فيه اثنا عشر طريقا يابسة، لكل سبط طريق، وصار بين كل طريقين كالطود العظيم من الماء، وكانوا يمرون في الطريق ولا يرى بعضهم بعضا، فاستوحشوا وخافوا، فجعل الله الأطواد شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض.
فلما أتى فرعون الساحل ورأى بني اسرائيل قد عدوا البحر، جاء جبريل على رمكة طالبة للذكر، وكان فرعون على حصان، فأدخل الرمكة في الماء فلم يتمالك حصان فرعون أن اقتحم على إثرها، ودخل القبط عن آخرهم، فلما ولجوا كلهم أوحى الله تعالى إلى البحر: أن أغرقهم عن آخرهم، فعلاهم الماء فغرقوا).
قال كعب: (فعرف السامري فرس جبريل، فحمل من أثره ترابا، وألقاه في العجل حين اتخذوه).
[20.79]
قوله تعالى: { وأضل فرعون قومه وما هدى }؛ أي أضلهم حين دعاهم إلى عبادته، { وما هدى } أي وما أرشدهم حين أوردهم مواقع الهلكة، وهذا تكذيب له في قوله
ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد
[غافر: 29].
[20.80-81]
قوله تعالى: { يبني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم }؛ يعني فرعون أغرقه بمرأى منهم، { وواعدناكم جانب الطور الأيمن }؛ قرأ حمزة: (نجيتكم... ووعدتكم... ورزقتكم) بغير ألف.
وذلك أن الله وعد موسى بعد ما أغرق فرعون ليأتي جانب الطور الأيمن فيؤتيه التوراة فيها بيان ما يحتاج إليه. { ونزلنا عليكم المن والسلوى } في التيه، { كلوا من طيبات ما رزقناكم }؛ أي من حلال ما رزقناكم من المن والسلوى، واشكروا إنعامي. قوله تعالى: { ولا تطغوا فيه } ، أي لا تبطروا فيما أنعمت عليكم فتتظالموا، ولا تجاوزوا عن شكري إلى معاصيي، ولا تجحدوا نعمتي فتكونوا طاغين، { فيحل عليكم غضبي } ، أي فتجب عليكم عقوبتي. قرأ الأعمش والكسائي: (فيحل) أي فينزل.
قوله تعالى: { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى }؛ أي فقد ترد في النار. وقيل: معناه: فقد هلك وسقط في النار. وقرأ الكسائي: (ومن يحلل) بضم اللام، قال الفراء: (والكسر أولى من الضم؛ لأن الضم من الحلول وهو الوقوع، ويحلل بالكسر يجب، وجاء التفسير بالوجوب لا بالوقوع).
[20.82]
قوله تعالى: { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى }؛ أي لمن تاب من الشرك، وآمن بالله وعمل صالحا، ثم استقام على معرفة الله وأداء فرائضه واجتناب محارمه حتى مات على ذلك بتوفيق الله.
[20.83-84]
قوله تعالى: { ومآ أعجلك عن قومك يموسى }؛ الآية، روي: أن موسى لما ذهب مع السبعين الذين اختارهم إلى الميقات ليأخذ التوراة من ربه، تعجل إلى الميقات قبل السبعين شوقا إلى ربه، وخلف أولئك السبعين وأمرهم أن يلحقوه ويتبعوه إلى الجبل وهو الطور والميقات، فقال الله تعالى له: { ومآ أعجلك عن قومك يموسى } { قال }؛ أي موسى: يا رب، { هم أولاء على أثري }؛ أي هم أولاء يجيئون بعدي، { وعجلت إليك رب لترضى }؛ أي لتزداد رضى عني، والرضى من الله إيجاب الدرجة والكرامة لهم.
[20.85]
قوله تعالى: { قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري }؛ أي ابتلينا قومك الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف. وقال الزجاج: (معنى: فتنا قومك؛ أي ألقيناهم في فتنة ومحنة)، وقال ابن الأنباري: (صيرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل، فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا). قوله تعالى: { من بعدك } أي من بعد انطلاقك إلى الجبل، قوله { وأضلهم السامري } أي دعاهم إلى عبادة العجل وحملهم عليها.
[20.86]
قوله تعالى: { فرجع موسى إلى قومه غضبن أسفا }؛ أي رجع من الميقات إلى السبعين، إلى قومه. فلما سمع صوت الفتنة رجع { غضبن أسفا } أي حزينا شديد الحزن جزعا مع عصبة و { قال يقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا }؛ أي ألم يعدكم إنزال التوراة لتعملوا بما فيها فتستحقوا الجنة والكرامة الدائمة، { أفطال عليكم العهد }؛ مدة مفارقتي إياكم، { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم }؛ بأن ينزل بكم بعبادتكم العجل، { فأخلفتم موعدي }؛ ما وعد المولى من حسن الخلافة بعدي.
[20.87]
قوله تعالى: { قالوا }؛ أي الذين لم يعبدوا العجل، { مآ أخلفنا موعدك بملكنا }؛ ونحن نملك من أمرنا شيئا؛ أي لم نطق رد عبدة العجل من ما ارتكبوه لكثرتهم وقلتنا؛ لأنهم اثنا عشر ألفا، والذين عبدوا العجل خمسمائة ألف وثمانية وثمانون ألفا؛ لأنهم كانوا جميعا ستمائة ألف.
وأكثر القراء (بملكنا) بالكسر أي بأمرنا. ومن قرأ بفتح الميم فهو المصدر، ومن قرأ بضم الميم فمعناه: بسلطاننا وقدرتنا؛ أي لم نقدر على ردهم.
قوله تعالى: { ولكنا حملنآ أوزارا من زينة القوم }؛ أي أثقالا وحمالا من حلي آل فرعون، والوزر في اللغة: هو الحمل الثقيل، وذلك أن موسى كان أمرهم أن يستعيروا من حليهم حين أرادوا أن يسروا، هكذا روي عن ابن عباس. وقيل: إنهم كانوا استعاروها؛ ليتزينوا بها في عيد كان لهم، ثم يردوها عليهم عند الخروج، وكان ذلك ذنبا منهم، فعلى ذلك يكون معناه: حملنا آثاما من حلي القوم.
وقوله تعالى: { فقذفناها }؛ أي فقذفنا الحلي في النار ليذاب، { فكذلك ألقى السامري }؛ ما معه من الحلي كما ألقينا، وذلك أن الله تعالى قد وقت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر، فلما مضت الثلاثون قال السامري: إنما أصابكم هذا عقوبة لكم بالحلي الذي معكم، فاجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيها، فجمعت له، فصنع منها العجل في ثلاثة أيام، ثم قذف فيه القبضة التي اتخذها من أثر فرس جبريل.
[20.88]
قوله تعالى: { فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار }؛ أي أخرج لهم من النار صورة عجل صاغها من الحلي، قوله تعالى: { له خوار } أي صوت كصوت العجل.
واختلفوا في هذا الخوار؛ قال مجاهد: (خواره حفيف الريح إذا دخلت جوفه، وذلك أنه كان جعل في جوف العجل خروقا إذا دخلتها الريح أوهم أنه يخور). قال الحسن وقتادة والسدي: (كان السامري ألقى عليه شيئا من أثر فرس جبريل كما قال:
فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها
[طه: 96]، فانقلب العجل حيوانا يخور) أي وكان معلوما في ذلك الزمان أن من أخذ من حافر دابة ملك، فألقاها على شيء صار ذلك الشيء حيوانا.
قالوا: وإنما عرف أن راكب تلك الدابة جبريل؛ لأنها كانت لا تضع حافرها على موضع إلا اخضر. ويروى أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل، فقال له: ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضر، ثم قال لهارون: ادع لي، فقال: اللهم أعطه ما يسأل كما يحب، فسأل الله أن يجعل للعجل خوارا، فكان الخوار يخرج من ذلك الجسد المجسد كما يخور الثور، فأوهمهم السامري أنه حي فافتتن به قوم فعبدوه، ولو رجعوا إلى عقولهم لعرفوا أنه لا يصلح أن يكون إلها؛ لأنه مصنوع صنعة آدمي مخلوق من حلي مخلوقة.
قوله تعالى: { فقالوا هذآ إلهكم وإله موسى }؛ أي قال لهم السامري ذلك ووافقه قوم على ذلك. قوله تعالى: { فنسي }؛ أي فنسي السامري الإسلام؛ أي فتركه، وقيل: معناه: قال السامري لمن وافقه على كفره: إن موسى أراد هذا العجل، فترك الطريق الذي كان يصل إليه؛ أي أن موسى ترك إلهه هنا، وذهب يطلبه.
[20.89]
قوله تعالى: { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا }؛ أفلا يرى السامري وأصحابه (أنه) يعني العجل لا يرد إليهم جوابا، { ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا }؛ جر منفعة ولا دفع ضر شيء.
[20.90-96]
قوله تعالى: { ولقد قال لهم هارون من قبل يقوم إنما فتنتم به }؛ وذلك أن السامري لما دعاهم إلى عبادة العجل وقال لهم: إن هذا إلهنا وإله موسى، وأن موسى معني في طلبه، وهو هاهنا.
فقام هارون فيهم خطيبا، وقال: يا قوم إنما فتنتم بعبادة العجل، { وإن ربكم الرحمن }؛ لا العجل، { فاتبعوني }؛ لما أدعوكم اليه، { وأطيعوا أمري }؛ لا أمر السامري، فعصوه؛ { قالوا لن نبرح عليه عاكفين }؛ أي لا نزال مقيمين على عبادته، { حتى يرجع إلينا موسى }؛ ومعنى قوله تعالى { ولقد قال لهم هارون من قبل } أي من قبل أن يأتي موسى.
فلما رجع موسى؛ { قال }؛ لهارون: { يهرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا }؛ بعبادة العجل، { ألا تتبعن }؛ لا زائدة؛ أي ما منعك من اتباعي واللحوق بي بمن أقام على إيمانه، { أفعصيت أمري }؛ بإقامتك بينهم وقد كفروا، ثم أخذ موسى برأس هارون ولحيته غضبا منه عليه ف { قال يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي }؛ ولا بشعر رأسي، { إني خشيت }؛ إن فارقتهم واتبعتك بمن أقام على دينك أن يتفرقوا أحزابا، وخشيت أن يقتل بعضهم بعضا و { أن تقول فرقت بين بني إسرآءيل ولم ترقب }؛ أي ولم تحفظ، { قولي }؛ وصيتي، ولم تنتظر قدومي وأمري، فلذلك لم أتبعك بمن أقام منهم على دينك.
قال ابن عباس: (كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه، وإنما قال: يا ابن أم ليرفقه ويستعطفه عليه)، وفي قوله (يا ابن أم) قراءتان، من قرأ بفتح الميم جعله بمنزلة اسم واحد يصل الثاني بالأول، مثل خمسة عشر، ومن قرأ بالكسر فعلى معنى الإضافة، ودلت كسرة الميم على الياء التي بعدها.
فإن قيل: كيف جاز أن يأخذ موسى بلحية هارون ورأسه مع أن ذلك يقتضي الاستخفاف به؟ قيل: لأن العادة في ذلك الوقت لم تكن كهذه العادة، بل كان ذلك في زمانهم يجري مجرى القبض على يده، وقيل: لأنه أجرى هارون مجرى نفسه؛ لأنه لم يكن يتهم، كما لا يتهم على نفسه، فقد يأخذ الإنسان بلحية نفسه إذا غضب، ويقال: (إن عمر عليه السلام كان إذا غضب يفتل شاربه).
قوله تعالى: { أفعصيت أمري } أي فتركت وصيتي، قوله تعالى: { ولم ترقب قولي } يعني: ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك أخلفني في قومي وأصلح.
فلما اعتذر هارون بهذا العذر أقبل موسى على السامري؛ { قال فما خطبك يسامري }؛ أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى ما صنعت؟ وقيل: معناه: ما هذا الخطب العظيم الذي دعاك إلى ما صنعت، والخطب هو الجليل من الأمر.
قال قتادة: (كان السامري من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها سامرة، ولكنه بعد ما قطع البحر مع بني إسرائيل مر بجماعة وهم يعكفون على أصنام لهم ومعه بنو إسرائيل، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فاغتنمها السامري فاتخذ العجل)، { قال }؛ السامري مجيبا لموسى: { بصرت بما لم يبصروا به }؛ أي رأيت ما لم يروا، بصرت به، وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا، قال له موسى: وما الذي بصرت به دون بني إسرائيل؟
قال: { فقبضت قبضة من أثر الرسول }؛ من حافر فرس جبريل، وكان قد ألقي في نفسي أن أقبضها؛ وما ألقيه على شيء إلا صار له روح ولحم ودم، فحين رأيت قومك طلبوا منك أن تجعل لهم إلها حدثتني نفسي بذلك، { فنبذتها } أي فطرحتها في العجل، { وكذلك سولت لي نفسي }؛ أي زينت لي نفسي من أخذ القبضة وإبقائها في صورة العجل.
وقيل: معناه (وكذلك سولت لي نفسي) أي أطمعتني نفسي في أن العجل ينقلب حيوانا.
وقرأ الحسن: (فقبصت قبصة) بالصاد فيهما، والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع.
[20.97]
قوله تعالى: { قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس }؛ أي قال موسى: فاذهب من بيننا، فإن لك ما دمت حيا أن تقول: (لا مساس) أي لا أمس ولا أمس ولا أخالط، وأمر موسى أن لا يؤاكلوه ولا يخالطوه ولا يبايعوه، فحرم عليهم مخالطة السامري زجرا لفعله، وكان هو يقيم في البرية مع الوحوش والسباع.
ويقال: إنه ابتلي بالوسواس، ويقال: إن موسى هم بقتل السامري فقال الله: لا تقتله فإنه سخي! فكان السامري إذا لقي أحدا يقول: لا مساس؛ أي لا تقربني ولا تمسني، وذلك عقوبة له ولولده، عاقبه الله بذلك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون كذلك. وذكر أنه إذا مس واحد من نسله أحدا من غيرهم حم كلاهما في الوقت. قوله تعالى: { وإن لك موعدا لن تخلفه }؛ معناه: وإن لك يا سامري أجلا يكافؤك الله فيه على ما فعلت وهو يوم القيامة.
قرأ الحسن وابن مسعود: (نخلفه) وابن كثير وابن عامر (تخلفه) بكسر اللام؛ أي لن يغيب عنه بل يوافقه، ولا مذهب لك عنه، وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفه الله.
قوله تعالى: { وانظر إلى إلهك }؛ أي وانظر إلى العجل الذي أقمت على عبادته، وزعمت أنه إلهك ومعبودك، { الذي ظلت عليه عاكفا }؛ أي مقيما تعبده، تقول العرب ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت.
قوله تعالى: { لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا }؛ قال ابن عباس: (حرقه بالنار، ثم ذراه في اليم) وهذه القراءة تدل على أن ذلك العجل صار حيوانا لحما ودما لأن الذهب والفضة لا يمكن إحراقهما بالنار.
وذكر في بعض التفاسير: أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم، لأنه كان قد صار دما ولحما، ثم أحرقه بالنار ثم ذراه في البحر.
وكان الحسن يقرأ (لنحرقنه) بالتخفيف، ومعناه: لنذبحنه ثم لنحرقنه بالنار، لأنه لا يجوز إحراق الحيوان قبل الذبح كما روي في الخبر:
" لا تعذبوا أحدا بعذاب الله ".
وقرأ أبو جعفر وأشهب العقيلي: (لنحرقنه) بنصب النون وضم الراء؛ أي لنبردنه بالمبرد، يقال: حرقت الشيء أحرقه أذا بردته، والمحرق هو المبرد، وهذه القراءة تدل على أن العجل كان ذهبا، ولكن كان له خوار. قوله تعالى: { ثم لننسفنه في اليم نسفا } أي لنذريه في البحر تذرية، يقال: نسف فلان الطعام بالمنسف إذا ذراه ليطير عنه قشوره وترابه.
[20.98]
قوله تعالى: { إنمآ إلهكم الله الذي لا إله إلا هو }؛ أي قال لهم موسى: { إنمآ إلهكم الله الذي لا إله إلا هو } أي لا معبود للخلق سواه، فهو الذي يستحق العبادة لا العجل. قوله تعالى: { وسع كل شيء علما }؛ أي أحاط علمه بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.
[20.99]
قوله تعالى: { كذلك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق }؛ أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى وقومه كذلك نقص عليك من أخبار من قد مضى وتقدم من أخبار الرسل وأممهم، { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } أي وقد أكرمناك بالقرآن العظيم.
[20.100-101]
قوله تعالى: { من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا }؛ أي من أعرض عن القرآن فلم يؤمن به فإنه يحمل يوم القيامة إثما. والوزر ها هنا: الحمل الثقيل من الإثم. قوله تعالى: { خالدين فيه }؛ أي مقيمين في عقوبة ذلك الإثم وعذابه، { وسآء لهم يوم القيامة حملا }؛ أي ساء وزرهم، يومئذ حملا.
[20.102]
قوله تعالى: { يوم ينفخ في الصور }؛ قرأ أبو عمرو بنون مفتوحة، وقرأ الباقون بياء مضمومة غير تسمية الفاعل، والصور: قرن ينفخ فيه يومئذ؛ ليقوم الناس من قبورهم مثل بوق الرحيل وبوق النزول.
قوله تعالى: { ونحشر المجرمين يومئذ زرقا }؛ قيل: معناه: قد ازرقت أعينهم من شدة العطش؛ لأن العطش إذا اشتد يغير سواد العين إلى الزرقة. وقيل: معناه: عميا، ومعنى الزرقة الخضرة في سواد العين كعيني السنور، والمعنى في هذا: تشويه الخلق سواد الوجوه، وزرقة العيون.
[20.103]
قوله تعالى: { يتخافتون بينهم }؛ أي يتشاورون فيما بينهم، يقول بعضهم لبعض: { إن لبثتم إلا عشرا }؛ أي ما لبثتم من النفخة الأولى إلى الثانية إلا عشر ليال، وذلك أنهم يكف عنهم العذاب فيما بين النفختين وهو أربعون سنة، فاستقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا. وقيل: معناه: يقولون ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال، وذلك لشدة ما يرون من هول يوم القيامة ينسون ما لبثوا في الدنيا.
[20.104]
قوله تعالى: { نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة }؛ أي أعلمهم عندهم، { إن لبثتم إلا يوما }؛ نسوا مقدار لبثهم لشدة وهمهم، فقالوا هذا القول وهو كذب منهم.
[20.105]
قوله تعالى: { ويسألونك عن الجبال }؛ أي يسألك الكفار عن حال الجبال يوم القيامة: أين تذهب مع عظمها. وقال ابن عباس: (سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية.
قوله تعالى: { فقل ينسفها ربي نسفا }؛ أي يصيرها رملا تسيل سيلا، ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كتذرية الطعام من القشور والتراب، فيصيرها كالهباء، وكالصوف المنفوش.
[20.106-107]
قوله تعالى: { فيذرها قاعا صفصفا }؛ أي أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها، والصفصف: الأملس الذي لا نبات فيه. قوله تعالى: { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا }؛ قال ابن عباس: (العوج: الأودية، والأمت: الروابي)، وقال مجاهد: (انخفاضا وارتفاعا)، وقال قتادة: (لا ترى فيها صدعا ولا أكمة)، وقال الحسن: (العوج: ما انخفض من الأرض، والأمت: ما يستر من الروابي)، ويقال: مد حبله حتى ما ترك فيه أمتا، وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا؛ أي انثناء.
[20.108]
قوله تعالى: { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له }؛ أي يومئذ يتبعون داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو اسرافيل لا عوج لدعائه، وقيل: لا عوج لهم عن دعائه؛ أي لا يزيغون عنه، بل يتبعونه سرايا لا يعدلون عن الطريق يمينا ولا شمالا ولا يملكون التأخر.
قوله تعالى: { وخشعت الأصوات للرحمن } أي ذلت الأصوات لهيبة الرحمن، وقيل: سكنت الأصوات له، فوصف الأصوات بالخشوع، والمعنى لأهلها، قوله تعالى: { فلا تسمع إلا همسا }؛ أي إلا صوتا خفيا يعني صوت نقل الأقدام إلى المحشر.
والهمس: الصوت الخفي كأخفاف صوت الإبل في المشي. وقال ابن عباس: (معنى الهمس تحريك الشفاه بغير منطق) وهو قول مجاهد، والكلام الخفي، والمعنى على هذا التفسير: سكنت الأصوات فلا يجهر أحد بكلام إلا كالمشير من الإشارة بالشفة، وتحريك الفم من غير صوت.
[20.109]
قوله تعالى: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن }؛ أي لا تنفع لأحد من الناس إلا من أذن الله أن يشفع له فذاك الذي تنفع الشفاعة، وقيل: لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن في أن يشفع. قوله تعالى: { ورضي له قولا }؛ في الدنيا وهم المؤمنون، فإن الله لا يرضى إلا قول المؤمنين.
[20.110]
قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ هذا كناية راجعة إلى الذين يتبعون الداعي؛ أي يعلم ما قدموا واخلفوا. قوله تعالى: { ولا يحيطون به علما }؛ الكناية تعود إلى ما في قوله { ما بين أيديهم وما خلفهم } أي هو يعلم ذلك.
[20.111]
قوله تعالى: { وعنت الوجوه للحي القيوم }؛ أي ذلت الوجوه وخضعت واستسلمت للحي الذي لا يموت، القائم الذي لا ند له، والعاني في اللغة: هو الأسير، ومنه قولهم: أخذت الشيء عنوة؛ أي غلبة بدل المأخوذ منه: قال الشاعر:
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
وقال الحسن: (القيوم: القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجزيها). قوله تعالى: { وقد خاب من حمل ظلما }؛ أي خاب من ثواب الله من حمل شركا، ومعنى خاب أي خسر.
[20.112]
قوله تعالى: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما }؛ في سيئاته، { ولا هضما }؛ بالنقصان من حسناته، والهضم: النقص؛ يقال: هضمني فلان حقي؛ أي نقصني، وهذا شيء يهضم الطعام أي ينقص نقله.
[20.113]
قوله تعالى: { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا }؛ أي وهكذا أنزلناه قرآنا على اللغة العربية، { وصرفنا فيه }؛ أي وكررنا فيه، { من الوعيد لعلهم يتقون }؛ وقيل: معنى (وصرفنا) أي بينا فيه من الوعيد، يعني الوقائع في الأمم المكذبة؛ لكي يتقوا الشرك بالاتعاظ بمن قبلهم، { أو يحدث لهم ذكرا }؛ أي يحدث لهم القرآن اعتبارا فيذكروا به عقاب الله، وقيل: معناه: أو يحدث لهم ذكرا شرفا بإيمانهم، كما قال تعالى
وإنه لذكر لك ولقومك
[الزخرف: 44] أي شرف لك ولقومك.
[20.114]
قوله تعالى: { فتعلى الله الملك الحق }؛ أي ارتفعت صفة الرحمن فوق كل شيء سواه، لأنه أقدر من كل قادر، وأعلم من كل عالم، وكل قادر وعالم سواه محتاج إليه، وهو غني عنه، قوله { الملك الحق } أي يحق له الملك، وإن كان ملك سواه يملك بعض الأشياء ويبيد ملكه.
قوله تعالى: { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه }؛ قال الحسن:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي عجل بقراءته مخافة نسيانه، وكان يقرأ مع الملك مخافة أن يذهب عنه، فنهي عن ذلك "
فقال { ولا تعجل بالقرآن } أي بقراءته من قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته عليك. قوله تعالى: { وقل رب زدني علما }؛ أي زدني حفظا لا أنساه.
[20.115]
قوله تعالى: { ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل }؛ أي أمرناه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي، وتركوا الإيمان بي، وهم الذين ذكرهم الله في قوله
لعلهم يتقون
[طه: 113]، والمعنى أن هؤلاء الذين صرف لهم في القرآن الوعيد إذ ضيعوا عهدي وخالفوا أمري، فإن أباهم آدم عليه السلام عهدنا إليه أيضا، { فنسي }؛ وترك عهدي وما أمر به، { ولم نجد له عزما }؛ أي لم نجد له حفظا لما أمرنا به.
وقال الحسن: (معناه: ولم نجد له صبرا عما نهي عنه، ولم نجد له رأيا معزوما عليه)، حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له. قال الحسن: (كان عقل آدم كعقل جميع ذريته)، قال الله { ولم نجد له عزما }. وجاء في الحديث:
" لو وزن حلم بني آدم مذ كان آدم إلى أن تقوم الساعة لرجح حلم آدم على حلمهم، وقد قال الله تعالى: { ولم نجد له عزما } ".
[20.116-117]
قوله تعالى: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى }؛ قد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { فقلنا يآءادم إن هذا عدو لك ولزوجك }؛ أي لك ولامرأتك، فلا تميلا إليه، ولا تعيلا منه، { فلا يخرجنكما }؛ أي فيكون ذلك سبب خروجكما، { من الجنة }؛ إلى شدائد الدنيا وجوعها وعطشها وفقرها وتعبها في طلب المعاش، وهذا معنى قوله: { فتشقى }؛ أي تتعب بالأكل من كد يدك، وما تكسبه لنفسك، والمعنى: إن عيشك لا يكون إلا من كد يمينك وعرق جبينك. قال سعيد بن جبير: (أهبط الله إلى آدم ثورين، فكان يحرث عليهما، ويمسح العرق عن جبينه) فهو شقاؤه الذي قال الله تعالى، وكان من حقه أن يقول: فيشقيا أو تشقى أنت وزوجك، لكن غلب المذكر؛ لأن تعبه أكثر، وقيل: لأجل رؤوس الآي.
[20.118-119]
قوله تعالى: { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى }؛ أي إنك ما دمت مقيما في الجنة على طاعة الله فلا تجوع فيه ولا تعرى؛ أي لكثرة أثمارها وأثوابها ونعيمها، { وأنك لا تظمأ فيها }؛ أي لا تعطش، { ولا تضحى }؛ أي ولا تبرز إلى الشمس؛ لأنه ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود. وقرئ: (وإنك لا تظمأ) بكسر الهمزة عطفا على (إن لك أن لا تجوع)، وقرئ بالنصب عطفا على (أن لا تجوع).
[20.120]
قوله تعالى: { فوسوس إليه الشيطان }؛ أي وسوس له ليأكل من الشجرة ف { قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد }؛ أي على شجرة من أكل منها خلد ولم يمت، { وملك لا يبلى }؛ ويبقى في ملك لا يبلى ولا يفنى.
[20.121]
قوله تعالى: { فأكلا منها }؛ أي أكل آدم وحواء من الشجرة على وجه الخطأ في التأويل لا تعمدا في المعصية إذ الأنبياء عليهم السلام لا يقيمون المعصية، وهم أشد خوفا من الله أن يفعلوا ذلك. لأن بعض المفسرين قال: إن الله تعالى أشار بالنهي إلى شجرة بعينها، فقال له: لا تأكل من هذه الشجرة، وأرادوا جنس تلك الشجرة، فنسي آدم الاستدلال بذلك على الجنس، فحمل النهي على العين. وهذا كما
" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ الذهب بإحدى يديه، والحرير بالأخرى، وقال: " هذان حرامان على ذكور أمتي، حل لإناثهم " "
وأراد به الجنس دون العين.
قوله تعالى: { فبدت لهما سوءاتهما }؛ أي ظهرت لهما عوراتهما، وإنما جمع السوءات ولم يثنهما؛ لأن كل شيء من شيء فهو جمع في موضع التثنية. قوله تعالى: { وطفقا يخصفان عليهما }؛ أي جعلا يقطعان عليهما، { من ورق الجنة }؛ ويجعلانه على سوءاتهما.
وقوله تعالى: { وعصى ءادم ربه }؛ أي عصاه بأكل الشجرة، { فغوى }؛ أي فعل ما لم يكن له فعله. وقيل: ضل حين طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله. وقيل: الغي الفساد؛ أي فسد عليه عيشه، وقيل: (فغوى) أي أخطأ، وقيل: خاب في طلبه في أكل الشجرة.
[20.122]
قوله تعالى: { ثم اجتباه ربه }؛ أي اجتباه للرسالة، وقيل: قربه، { فتاب عليه وهدى }؛ إلى ذكره، وقيل: اصطفاه فتاب عليه وهداه حين قال
قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا
[الأعراف: 23] الآية.
[20.123]
قوله تعالى: { قال اهبطا منها جميعا }؛ قد تقدم تفسيره، قوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو }؛ يعني آدم وذريته وإبليس وذريته، قوله تعالى: { فإما يأتينكم مني هدى }؛ أراد به الكتاب والرسول، { فمن اتبع هداي }؛ أي من اتبع الكتاب والرسول، { فلا يضل } في الدنيا، { ولا يشقى } في الآخرة. قال ابن عباس رضي الله عنه: (ضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضل ولا يشقى).
[20.124-126]
قوله تعالى: { ومن أعرض عن ذكري }؛ أي عن موعظتي، وقيل: عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتبعه، قوله تعالى: { فإن له معيشة ضنكا } ، الضنك: الضيق والشدة والصعوبة. قال ابن عباس: (يعني أن عيشه يكون منغصا عليه غير موقن بالخلف والجزاء)، وقال عبدالله بن مسعود وأبو سعيد الخدري والسدي: (معنى قوله { معيشة ضنكا } عذاب القبر؛ يضيق عليه حتى تختلف أضلاعه)، وقال الحسن: (هو الضريع والزقوم في النار)، قال عكرمة: (هو أكل الحرام في الدنيا الذي يؤديه إلى النار).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " أتدرون ما المعيشة الضنكة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، لكل تنين سبعة رؤوس، ينهشونه ويلسعونه ويخدشون لحمه إلى يوم القيامة، ولو أن تنينا نفخ في الأرض لم تنبت شيئا " "
وقال ابن زيد: (المعيشة الضنكى: الزقوم والغسلين والضريع)، وقال الضحاك: (الكسب الخبيث)، وقيل: إذا كان العبد سيء الظن بالله ضاق عليه عيشه وضنك. وقال ابن جبير: (معنى قوله: { فإن له معيشة ضنكا } أي سلبه القناعة حتى لا يشبع).
قوله تعالى: { ونحشره يوم القيامة أعمى }؛ قال ابن عباس: (عمى البصر)، وقال مجاهد: (أعمى عن الحجة؛ أي لا حجة له يهتدي إليها)، { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا }؛ بعيني، { قال كذلك }؛ تكون كما { أتتك آياتنا فنسيتها }؛ أي فتركتها وأعرضت عنها، { وكذلك اليوم تنسى }؛ أي تترك في النار.
[20.127]
قوله تعالى: { وكذلك نجزي من أسرف }؛ أي كما جزينا من أعرض عن القرآن، كذلك نجزي من أسرف على نفسه بالمعاصي، { ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى }؛ أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم، لأن عذاب الدنيا ينقطع.
[20.128]
قوله تعالى: { أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون }؛ من قرأ بالياء فمعناه: ألم نبين، يعني كفار مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون، والمعنى: ألم نبين لهم طرق الاعتبار بكثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيب الرسل فيعتبروا ويؤمنوا. وكانت قريش تتجر إلى الشام فترى مساكن قوم لوط وثمود وعلامات الإهلاك. ومن قرأ بالنون فمعناه: ألم نبين لأهل مكة بيانا يهتدون به فيرتدعوا عن المعاصي. قوله تعالى: { يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى }؛ أي لذوي العقول.
[20.129]
قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى }؛ معناه: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفار إلى يوم القيامة، قوله { وأجل مسمى } لكان العذاب لازما لهم، واقعا في الحال. وتقدير الآية: ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لازما؛ أي لكان العذاب لازما لهم في الدنيا، كما لزم القرون الماضية الكافرة.
[20.130]
قوله تعالى: { فاصبر على ما يقولون }؛ أي فاصبر يا محمد على ما يقولون من الشتم والتكذيب فسيعود عليهم وبال ذلك، قوله تعالى: { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس }؛ أي صل صلاة الفجر، { وقبل غروبها }؛ يعني صلاة العصر، { ومن آنآء الليل فسبح }؛ يعني المغرب والعشاء، وآناء الليل ساعاته.
قوله تعالى: { وأطراف النهار }؛ يعني صلاة الظهر، قال قتادة: (كأنه ذهب إلى أنه آخر النصف الأول من النهار طرف، وأول النصف الثاني طرف). وقال الحسن: ((وقبل غروبها): الظهر والعصر، (وأطراف النهار): صلاة التطوع). قوله تعالى: { لعلك ترضى }؛ قرأ الكسائي وأبو بكر بضم التاء؛ أي تعطى الرضى بالدرجات الرفيعة، يرضاك الله ويسمى مرضيا، وتصديقه قوله تعالى:
وكان عند ربه مرضيا
[مريم: 55]. وقرأ الباقون (ترضى) بفتح التاء؛ أي لعلك ترضى بالثواب والشفاعة، ودليل ذلك قوله تعالى:
ولسوف يعطيك ربك فترضى
[الضحى: 5]، والمعنى: أقم هذه الصلوات لكي تعطى من الثواب ما ترضى.
[20.131]
قوله تعالى: { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا }؛ أي لا تنظرن بعين الرغبة إلى ما متعنا به رجالا منهم زينة الحياة الدنيا، { لنفتنهم فيه }؛ أي لنختبرهم في ما أعطيناهم من الزينة. وقيل: لنجعله فتنة لهم وضلالا بأن أزيد لهم في النعمة، فيزدادوا كفرا وطغيانا.
قال أبو رافع:
" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهودي، فقال: " قل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إليك لتسلفه كذا وكذا من الدقيق، أو تبيعه وتصبر عليه إلى هلال رجب " فأتيته، فقال: والله ما أبيعه ولا أسلفه إلا برهن! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: " والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإني لأمين في الأرض، إذهب بدرعي إليه " ثم حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فنزلت هذه الآية كأنه يعزيه عن الدنيا "
وقيل: معنى قوله تعالى { أزواجا } أي أصنافا من نعم الدنيا وزهرتها. قوله: { ورزق ربك خير وأبقى }؛ أي ورزق ربك الذي وعدك في الجنة خير وأبقى مما رزق هو.
[20.132]
قوله تعالى: { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها }؛ أي وأمر قومك الذين على دينك، { لا نسألك رزقا }؛ لخلقنا ولا لنفسك، لم نخلقك لحاجتنا إليك كحاجة السادة إلى عبيدهم، بل { نحن نرزقك }؛ ونرزق جميع خلقنا. قوله تعالى: { والعاقبة للتقوى }؛ أي والعاقبة المحمودة لمن يتقي الله ولا يعصيه، وتقديره: والعاقبة لأهل التقوى.
" وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليه بعض الضيق في الرزق أمر أهله بالصلاة، ثم قرأ هذه الآية { وأمر أهلك بالصلاة } إلى آخرها ".
[20.133]
قوله تعالى: { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه }؛ أي قال المشركون من أهل مكة: هلا يأتينا محمد بآية من ربه كما أتى بها الأنبياء، نحو الناقة والعصا، { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى }؛ أي بيان ما في التوراة والإنجيل من البشارة بما وافقهما من صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه: أولم يأتهم ما في الصحف الأولى من أنبياء الأمم الذين أهلكناهم لما سألوا الآيات ثم كفروا بها، فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤالهم الآية كحال أولئك. وهذا البيان إنما قص عليهم في القرآن.
[20.134]
قوله تعالى: { ولو أنآ أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك }؛ أي لو أنا أهلكناهم بعذاب الاستئصال من قبل إرسال الرسل لقالوا: هلا أرسلت إلينا رسولا يرشدنا إلى دينك فنتبع دلائلك، { من قبل أن نذل }؛ في الدنيا بالقتل ونفضح في الآخرة بالعذاب. والمعنى: ولو أنا أهلكنا كفار مكة بعذاب من قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك فنتبع آياتك من قبل أن ينزل العذاب، { ونخزى }؛ في جهنم.
[20.135]
قوله تعالى: { قل كل متربص فتربصوا }؛ أي قل لهم يا محمد: كل منا ومنكم منتظر، فانتظروا نحن ننتظر بكم ما وعدنا الله فيكم من النصر والفتح، وأنتم تنتظرون بنا أن نموت فتستريحون منا، وذلك أنهم كانوا يقولون: نتربص بمحمد ريب المنون. قوله تعالى: { فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى }؛ فستعلمون بعد هذا إذا قامت القيامة من أصحاب الدين المستقيم، ومن اهتدى إلى الرشد والصلاح نحن أم أنتم!
وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار ".
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1]
{ اقترب للناس حسابهم }؛ أي اقترب لأهل مكة حسابهم، والمعنى: اقتربت القيامة، واقترب للناس حسابهم، والحساب هنا: إظهار ما للعبد وما عليه ليجازى على ذلك.
قوله تعالى: { وهم في غفلة معرضون }؛ أي في غفلة عما يفعل الله بهم ذلك اليوم، معرضون عن التأهب له بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقيل: معناه: وهم في غفلة عن قرب الحساب والموت، معرضون عن الفكرة في ذلك، والتأهب له، وهذا من الله تنبيه وعظة؛ لئلا يغفلوا عن الآخرة.
[21.2]
قوله تعالى: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم }؛ أي ما يأتيهم من وحي، { محدث }؛ تنزيله، والإحداث يعود إلى الانزال. قوله تعالى: { إلا استمعوه وهم يلعبون }؛ قال ابن عباس: (يستمعون القرآن مستهزئين).
[21.3]
قوله تعالى: { لاهية قلوبهم }؛ منصوب بقوله (يلعبون)، ومعناه: غافلة قلوبهم عما يراد بهم، معرضة عن ذكر الله. قوله تعالى: { وأسروا النجوى }؛ أي تناجوا فيما بينهم سرا.
ثم بين من هم فقال: { الذين ظلموا }؛ أي الذين أشركوا بالله، و(الذين) في موضع الرفع بدل من الضمير في (أسروا) كما في قوله تعالى
ثم عموا وصموا كثير منهم
[المائدة: 71]، ويجوز أن يكون (الذين) خفض نعتا للناس؛ أي اقترب للناس الذين هذا حالهم.
ثم بين النجوى الذي أسروه بقوله: { هل هذآ إلا بشر مثلكم } أطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: هل محمد إلا بشر مثلكم، فإذن تتبعون بشر مثلكم، { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون }؛ وأنتم تعلمون أنه سحر. قال السدي: (قالوا متابعة محمد متابعة السحر)، والمعنى: أتقبلوا السحر، وأنتم تعلمون أنه سحر.
[21.4]
قوله تعالى: { قال ربي يعلم القول في السمآء والأرض }؛ أي قل لهم يا محمد: ربي الذي أعبده وأدعوا إلى عبادته هو الله الذي يعلم ما تسره العباد من القول في السماء والأرض، { وهو السميع العليم }؛ لذلك كله، العالم بما يجري عليه، ومن هذه صفته، فهو الذي يجب أن يعبد دون الأصنام. وقرأ أهل الكوفة: (قال ربي) على الخير. قوله تعالى: { وهو السميع العليم } أي السميع لأقوالهم، العليم بأفعالهم.
[21.5-6]
قوله تعالى: { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر }؛ أي قال الكفار: إن ما أتي به محمد تخاليط رؤيا رآها في المنام، و (بل) ها هنا انتقال إلى خبر آخر عنهم.
قوله تعالى: { بل افتراه } أي قالوا اختلقه كذبا من تلقاء نفسه، ثم قالوا: (بل هو شاعر) فجعلوا ينقضون أقوالهم قول متحير لا يمكنه الجزم على أمر واحد. قوله تعالى: { فليأتنا بآية كمآ أرسل الأولون }؛ بالآيات، نحو انقلاب البحر، وإحياء الموتى، والناقة والعصا.
فقال الله تعالى مجيبا لهم: { مآ آمنت قبلهم من قرية أهلكناهآ أفهم يؤمنون }؛ أي ما آمنت قبل مشركي مكة { من قرية } يعني أهلها، والمعنى: ما آمنت من قرية مهلكة بالآيات المرسلة، فكيف يؤمن هؤلاء؟ والمعنى: أن مجيء الآيات لو كان سببا للإيمان من غير إرادة الله لكان سببا لإيمان أولئك، فلما بطل ذلك بطل هذا.
[21.7]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم }؛ يعني ما أرسلنا قبلك من الرسل إلا رجالا مثلك، وهذا جواب لقولهم
هل هذآ إلا بشر مثلكم
[الأنبياء: 3]، فقال الله تعالى: لم أرسل قبل محمد إلا رجالا من بني آدم لا الملائكة، { فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }؛ وأراد بأهل الذكر علماء أهل الكتاب؛ لأن اليهود النصارى لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا، وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد بالذكر القرآن، والمعنى: فاسألوا المؤمنين من أهل القرآن إن كنتم يا أهل مكة لا تعلمون. قال علي (كرم الله وجهه): لما نزلت هذه الآية قال: (نحن أهل الذكر).
[21.8]
قوله تعالى: { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام }؛ أي وما جعلنا الأنبياء ذوي أجساد لا يأكلون الطعام، ولا يشربون الشراب، { وما كانوا خالدين }؛ لا يموتون، وذلك أنهم قالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟ فأعلموا أن الرسل جميعا كانوا يأكلون الطعام، وأنهم يموتون كسائر البشر، وإنما وحد الجسد؛ لأنه مصدر كالخلق.
[21.9]
قوله تعالى: { ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشآء وأهلكنا المسرفين }؛ أي ثم أنجزنا وعد الأنبياء في إنجائنا إياهم، وإهلاك الكفار المكذبين بهم، وأراد بالمسرفين الكفار، لأن المسرف في اللغة هو الذي يتجاوز حد الحق بما تباعد عنه، فالكافر أحق بهذه الصفة. قوله تعالى: { فأنجيناهم } أي من العذاب { ومن نشآء } يعني الذين صدقوهم.
[21.10]
قوله تعالى: { لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم }؛ أي لقد أنزلنا إليكم كتابا يا معشر قريش، كتابا فيه شرفكم وعزكم أن يمسكم به يعني القرآن، والذكر هو الشرف، قوله تعالى:
وإنه لذكر لك ولقومك
[الزخرف: 44] أي شرف، يقال: فلان مذكور في العلا؛ إذا كان رفيعا. وقال الحسن: (معنى قوله تعالى { ذكركم } أي ما تحتاجون إليه من أمر دينكم)، { أفلا تعقلون } ، ما فضلكم به على غيركم، أنزلتكم حرمي، وبعثت فيكم نبيا.
[21.11]
قوله تعالى: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة }؛ أي كم أهلكنا من أهل قرية كانوا مشركين، والقصم: الكسر والدق، { وأنشأنا بعدها قوما آخرين }؛ أي وأحدثنا من بعد إهلاكهم قوما آخرين، فسكنوا ديارهم.
[21.12]
قوله تعالى: { فلمآ أحسوا بأسنآ إذا هم منها يركضون }؛ أي فلما أحس أهل القرية الكافرة عذابنا إذا هم منها يهربون سراعا هرب المنهزم من عدوه. ومعنى قوله { أحسوا } أي رأوا، وقيل: معناه: لما ذاقوا. والإحساس: هو الإدراك بحاسة من الحواس الخمس.
[21.13-14]
قوله تعالى: { لا تركضوا وارجعوا إلى مآ أترفتم فيه ومساكنكم }؛ أي قيل لهم: لا تركضوا وارجعوا إلى ما نعمتم فيه وإلى منازلكم، تقول الملائكة ذلك استهزاء بهم وتقريعا على ما فرط منهم بحيث يسمعون النداء.
قوله تعالى: { لعلكم تسألون }؛ يقال لهم ذلك على طريق الهزؤ بهم وهو توبيخ في الحقيقة، والمعنى: لكي تسألوا شيئا من دنياكم فأنتم أهل بر ونعمة، ف { قالوا } عند ذلك: { يويلنآ إنا كنا ظالمين }؛ لأنفسنا حيث كذبنا الرسل، اعترفوا بالذنب حين رأوا العذاب، فقالوا هذا على سبيل الندم، ولم ينفعهم حينئذ الندم. والويل: الوقوع في الهلكة.
[21.15]
قوله تعالى: { فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }؛ أي فما زالت تلك الكلمة وهو قولهم: { يويلنآ إنا كنا ظالمين } لم يزالوا يرددنها إلى أن ماتوا وخمدوا فصاروا كالزرع الحصيد، والحصيد: هو الزرع المحصود، والمخمود: وهو المهمود كخمود النار إذا أطفيت.
قيل: نزلت هذه الآية في أهل خضور وهي قرية من اليمن كان أهلها من العرب، بعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله فكذبوه وقتلوه، فسلط الله بختنصر حتى قتلهم وسباهم ونكل بهم، فلما أثخن فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت لهم الملائكة على طريق الاستهزاء: لا تركضوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم، فاتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من السماء: يا ثارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حيث لم ينفعهم، فقالوا: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا بالسيوف، كما يحصد الزرع، خامدين أي ميتين.
[21.16]
قوله تعالى: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما لعبين }؛ أي ما خلقناهما عبثا ولا باطلا بل خلقناهما لأمر؛ أي لأجازي أوليائي، وأعذب أعدائي. وقيل: معناه: خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيتنا؛ ليعتبروا بخلقهما ويتفكروا فيهما، فيعلمون أن العبادة لا تكون إلا لخالقهما.
[21.17]
قوله تعالى: { لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ }؛ قال قتادة: (اللهو بلغة اليمن المرأة)، وقال ابن عباس: (يريد النساء)، وقيل: جاء طاووس وعطاء ومجاهد إلى الحسن فسألوه عن هذه الآية، فقال: (اللهو المرأة). وفي رواية الكلبي: (اللهو الولد). وقيل: معناه: لو أردنا أن نتخذ شريكا أو ولدا أو امرأة لم يكن لنتخذها مما نسبتمونا إليه من الذي لا يسمع ولا يعقل ولا من هذه النساء والولدان، بل كما نتخذه من جنس أشرف من هذا الجنس كما قال تعالى في آية أخرى
لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء
[الزمر: 4]. وقيل: معناه: لو أردنا أن نتخذ ولدا نلهو به لاتخذناه عندنا لا عندكم؛ لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده وبحضرته.
نزلت هذه الآية في الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ولو كان ذلك جائزا في صفة الله تعالى لم يتخذ بحيث لم يظهر لكم، ويستره حتى لا تطلعوا عليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. قوله تعالى: { إن كنا فاعلين }؛ أي كنا ممن يفعل ذلك، ولسنا ممن يفعله، وقيل: (إن) هنا بمعنى (ما) أي ما كنا فاعلين.
[21.18-19]
قوله تعالى: { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه }؛ أراد بالحق القرآن، وبالباطل الكفر، وقيل: معناه: دع ذاك الذي قالوا فإنه كذب وباطل، بل نقذف بالحق على الباطل من كذبهم، { فيدمغه } أي فيهلكه ويذهبه، { فإذا هو زاهق }؛ أي زائل ذاهب، والمعنى: إنا نبطل كذبهم مما تبين من الحق حتى يضمحل ويذهب، ثم أوعدهم على قولهم فقال: { ولكم الويل مما تصفون }؛ أي لكم العذاب مما تصفون الله تعالى به من الصاحبة والولد.
ثم بين أن جميع الخلق عبيده، فقال: { وله من في السموت والأرض }؛ عبيدا وملكا، { ومن عنده }؛ يعني الملائكة، { لا يستكبرون عن عبادته }؛ قال الزجاج: (إن الذين ذكرتموهم بأنهم أولاد الله هم عباده ولا يأنفون عن عبادته، ولا يتعظمون عنها)، { ولا يستحسرون }؛ أي ينقطعون عن العبادة من الإعياء والتعب، من قولهم: بعير حسير اذا أعيا وقام.
[21.20]
قوله تعالى: { يسبحون اليل والنهار }؛ أي يصلون لله تعالى الليل والنهار، { لا يفترون }؛ أي لا يضعفون عن عبادته ولا يملون، وقيل: معناه: ينزهون الله، وإنما يقولون سبحان الله لا يملون. قال الزجاج: (مجرى التسبيح منهم كمجرى النفس منا، كما لا يشغلنا عن النفس شيء فكذلك تسبيحهم دائم).
[21.21]
قوله تعالى: { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون }؛ استفهام بمعنى الإنكار؛ أي أعبد أهل مكة أصناما يحيون الموتى؟! وفيه تقريع لهم بأنهم كاذبون أنها آلهة، لأن الإله يحيي الموتى، وهي لا تحيي، فكيف يستحق العبادة؟ قيل: معنى الآية: لم تتخذون آلهة من الأرض، وأصنامهم كانت من الأرض؛ من أي شيء كانت، من خشب أو حجارة أو فضة أو ذهب، هم ينشرون، أيحيون الموتى.
[21.22-23]
قوله تعالى: { لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا }؛ لخربتا وهلك من فيهما، وعين صفة الآلهة؛ أي لو كان فيهما آلهة غير الله؛ أي لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لما قامت السماوات والأرض؛ لأنه لو أراد أحدهما اتخاذ جسم في مكان، وأراد آخر اتخاذ جسم آخر في ذلك المكان لم يخل: إما أن يوجد مرادهما أو لا يوجد مرادهما، أو يوجد مراد أحدهما دون الآخر.
فالأول باطل؛ لأن في وجود جسمين في مكان واحد. والثاني باطل؛ لأن في ذلك كونهما عاجزين، والعاجز لا يستحق الألوهية، وإن وجد مراد أحدهما دون الآخر، فالذي لا يوجد مراده يكون عاجزا لا يصلح أن يكون إلها.
والمعنى: لو كان فيهما آلهة غير الله كما يزعم المشركون، هذا قول جميع النحويين؛ قالوا: (إلا) ليس ها هنا باستثناء، ولكنه مع ما بعده صفة للآلهة في معنى (غير). قال الزجاج: (فلذلك ارتفع ما بعدها على لفظ الذي قبلها، قال الشاعر:
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمرو أبيك إلا الفرقدان
قوله تعالى: { فسبحان الله رب العرش عما يصفون }؛ أي تنزيها عما يقولون عليه من الولد والشريك، { لا يسأل عما يفعل }؛ أي لا يسأل عن أفعاله وقضائه في خلقه من إعزاز وإذلال، وهداية وإضلال، وإسعاد وإشقاء؛ لأنه الرب مالك الخلق. قوله تعالى: { وهم يسألون }؛ أي يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله سبحانه وتعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته.
[21.24]
قوله تعالى: { أم اتخذوا من دونه آلهة }؛ هذا إنكار عليهم وتوبيخ، { قل هاتوا برهانكم }؛ أي حجتكم بأن رسولا من رسل الله أنبأ أمته بأن لهم إلها غير الله.
قوله تعالى: { هذا ذكر من معي وذكر من قبلي }؛ معناه: هذا القرآن فيه ذكر من معي لما يلزمهم من الحلال والحرام والخطأ والصواب. وقيل: خبر من معي على ديني بما لهم من الثواب والعقاب، وذكر من قبلي من الأمم من نجا منهم بالإيمان، وأهلك بالشرك. وقيل: معناه: هذا القرآن الذي هو ذكر من معي، والتوراة والإنجيل هما ذكر من قبلي، هل في جميع ذلك غير توحيد الله تعالى؟
والمعنى: هذا القرآن وهذه الكتب التي أنزلت من قبلي، فانظروا هل في واحد منهم أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟ قوله تعالى: { بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون }؛ عن النظر في دلائل الله مقصرين على جهلهم وتقليدهم.
[21.25]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون }؛ أي ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا يوحى إليه أن يقول لقومه أنه لا إله إلا هو فاعبدوه أي وحدوه.
[21.26]
قوله تعالى: { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه }؛ أراد به قولهم إن المسيح ابن الله، والملائكة بنات الله. قوله تعالى: { بل عباد مكرمون }؛ معناه: بل هم عبيد أكرمهم الله بالطاعة واصطفاهم.
[21.27-28]
قوله تعالى: { لا يسبقونه بالقول }؛ لا يخرجون بقولهم عن حد ما أمرهم، { وهم بأمره يعملون }؛ قوله: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ أي يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم، ويقال: { ما بين أيديهم } من الدنيا { وما خلفهم } من الآخرة، ويقال: يعلم ما عملوا وما هم عاملون.
قوله تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }؛ أي لا يشفعون إلا لمن رضي الله عنه وارتضى عمله، قال ابن عباس: (لمن قال لا إله إلا الله)، قوله تعالى: { وهم من خشيته مشفقون }؛ أي وهم من خشيتهم منه، فأضاف المصدر إلى المفعول. قوله تعالى: { مشفقون } أي خائفون، لا يأمنون مكره، وفي هذا بيان أن من هذه صفته لا يكون إلها مع الله ولا ولدا له.
[21.29]
قوله تعالى: { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم }؛ أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله فذلك يجزيه جهنم، قال المفسرون: يعني إبليس لأنه أمر بطاعة نفسه، ودعا إلى نفسه. قوله تعالى: { كذلك نجزي الظالمين }؛ أي كما جزيناه جهنم، نجزي الظالمين المشركين.
[21.30]
قوله تعالى: { أولم ير الذين كفروا أن السموت والأرض كانتا رتقا ففتقناهما }؛ قال ابن عباس وعطاء والضحاك: (يعني كانتا شيئا واحدا ملتزقتين، ففصل الله بينهما بالهواء)، قال كعب: (خلق الله السماوات والأرض بعضها على بعض، ثم خلق ريحا وسطهما، ففتحمها بها).
وقال مجاهد: (كانت السماوات طبقة واحدة ففتقها، فجعلها سبع سماوات، وكانت الأرضون مرتفعة طبقة واحدة ففتقها الله تعالى، فجعلها سبع أرضين)، وقال عكرمة: (كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر، والأرض بالنبات).
وأصل الرتق السد، ومنه قيل للمرأة التي فرجها ملتحم: رتقاء. وأصل الفتق الفتح، وذلك أن السماوات والأرض كانت مستويتين لا فتق فيهما لخروج الزرع ونزول الغيث، ففتقت السماء بالمطر، والأرض بالنبات.
قوله تعالى: { وجعلنا من المآء كل شيء حي }؛ أي أحيينا بالمطر والنبات كل ما على الأرض من حيوان، يعني أنه سبب كل شيء. وقال بعضهم: يعني أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء لقوله تعالى
والله خلق كل دآبة من مآء
[النور: 45].
قال أبو العالية: (يعني النطفة)، فعلى هذا لا يتعلق هذا بما قبله، وهو احتجاج على المشركين بقدرة الله تعالى، { أفلا يؤمنون }؛ أي أفلا يصدقون بالإله الذي فعل ذلك؛ ليعلموا أنه الإله دون غيره. وإنما قال (رتقا) ولم يقل رتقين؛ لأن الرتق مصدر. المعنى: كانتا ذوي رتق فجعلناهما ذواتي فتق.
[21.31]
قوله تعالى: { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم }؛ أي جعلنا فيها جبالا أوتادا فهي راسية كي لا تميد بهم الأرض، والميد: الاضطراب بالذهاب في الجهات، قال ابن عباس: (إن الأرض بسطت على وجه الماء، فكانت تميد بأهلها كما تميد السفينة، فأرساها الله بالجبال الثقال).
قوله تعالى: { وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون }؛ أي جعلنا في الأرض طرقا واسعة ليهتدوا إلى مواطنهم، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين. قوله تعالى: { سبلا } تفسير الفجاج.
[21.32]
قوله تعالى: { وجعلنا السمآء سقفا محفوظا }؛ أي محفوظا من السقوط، وقيل: محفوظا من الشياطين بالنجوم، قال الله تعالى:
وحفظناها من كل شيطان رجيم
[الحجر: 17]. قوله تعالى: { وهم عن آياتها معرضون }؛ يعني المشركين يعرضون عن آياتها، يعني شمسها وقمرها ونجومها، لا يتفكرون فيها فيعلمون أن خالقها لا شريك له.
[21.33]
قوله تعالى: { وهو الذي خلق الليل والنهار }؛ أي خلقهما بعد رفع السماء عن وجه الأرض وسخر { والشمس والقمر كل في فلك }؛ من الشمس والقمر في مواضعها التي ركبت فيها، { يسبحون }؛ أي يجرون بسرعة كالسابح في الماء، وقد قال في مواضع آخر
والسابحات سبحا
[النازعات: 3] يعني النجوم، قال الضحاك: (الفلك هو المجرى الذي يجري فيه الشمس والقمر)، ويقال: هو موج كغرف يجريان فيه. قال القتيبي: (الفلك القطب الذي تدور به النجوم، وهو كوكب خفي بقرب الفرقدين، وبنات نعش عليه تدور السماء). وقال الحسن: (هو الطاحونة كهيأة فلكة المغزل)، فالفلك في كلام العرب: هو كل شيء دائر، وجمعه أفلاك.
[21.34-35]
قوله تعالى: { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد }؛ روي أن هذا نزل جوابا لقول الكفار: ننتظر بمحمد ريب المنون فنستريح منه، والمعنى: وما جعلنا لبشر من قبلك البقاء الدائم؛ يعني أن سبيله سبيل من مضى من بني آدم في الموت، { أفإن مت فهم الخالدون }؛ يعني مشركي مكة لما قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، { كل نفس ذآئقة الموت } ، فقيل لهم: إن مات فأنتم أيضا تموتون؛ لأن كل نفس ذائقة الموت.
قالت عائشة: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات وأسجي عليه الثوب، فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وا نبياه؛ وا خليلاه؛ وا صفياه، صدق الله ورسوله { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذآئقة الموت }.
قوله تعالى: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة }؛ أي نبلوكم بالشدة والرخاء؛ والمرض والعافية؛ والفقر والغنى، كلاهما ابتلاء من الله، وتشديد في التعبد؛ ليظهر شكرهم فيما يحبون، وصبرهم فيما يكرهون { وإلينا ترجعون }؛ للجزاء.
[21.36]
قوله تعالى: { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا }؛ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان وأبي جهل، فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، كالمستهزئ، فنزلت هذه الآية، ومعناها: وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا ، يستهزؤن بك.
وقوله تعالى: { أهذا الذي يذكر آلهتكم }؛ أي يقول بعضهم لبعض: أهذا الذي يعيب آلهتكم ويلومكم على عبادتها، تقول العرب: فلان يذكر الناس؛ أي يغتابهم ويعيبهم، وفلان يذكر الله؛ أي يصفه بالعظمة ويثني عليه، فيحذفون من الذكر ما يعقل معناه، فيكون معنى قوله: { يذكر آلهتكم } أي يذكر آلهتكم بسوء. قوله تعالى: { وهم بذكر الرحمن هم كافرون }؛ أي يجحدون الألوهية ممن هو منعم عليهم، المحيي المميت، وهذا في نهاية جهلهم.
[21.37]
قوله تعالى: { خلق الإنسان من عجل }؛ أي خلق الله الإنسان من عجل مشتهيا للعجلة فيها هواه، ولذلك تستعجل أهل مكة الوعد والوعيد، يقال: فلان خلق من كذا؛ أي أكثر ذلك الشيء كما يقال: خلق فلان من اللعب واللهو، والإنسان اسم جنس.
وقال عكرمة: (لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح وصار في رأسه، أراد أن ينهض قبل أن تبلغ رجليه فسقط، فقيل: خلق الإنسان من عجل). وقال السدي: (لما دخل الروح عيني آدم نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلا إلى ثمار الجنة فلم يقدر، فذلك قوله تعالى: { خلق الإنسان من عجل } ). وإذا كان خلق آدم من عجل وجد ذلك في أولاده، وأورث أولاده العجلة حتى استعجلوا في كل شيء. قوله تعالى: { سأوريكم آياتي }؛ يعني القتل ببدر، { فلا تستعجلون }؛ إنه نازل بكم.
[21.38-39]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }؛ أي يقول المشركون متى هذا الوعد الذي تعدنا، يريدون وعدهم يوم القيامة إن كنت من الصادقين في هذا الوعد، قال الله تعالى: { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون }؛ أي لو يعلمون ذلك ما استعجلوه ولا قالوا متى هذا الوعد. وقيل: معناه: لو علموا ذلك لعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما توعدهم به.
[21.40]
قوله تعالى: { بل تأتيهم بغتة }؛ معناه: بل تأتيهم الساعة فجأة وهم غافلون، { فتبهتهم }؛ أي تحيرهم، يقال: بهته؛ إذا واجهه بشيء فحيره، { فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون }؛ يمهلون التوبة، أو عذرا، أو صلاح عمل.
[21.41]
قوله تعالى: { ولقد استهزىء برسل من قبلك }؛ أي ولقد استهزأت الأمم من قبلك برسلهم، كما استهزأ بك قومك، { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون }؛ بهم؛ أي فحل بهم وبال استهزائهم، وكان ما أرادوه بالداعي عائدا عليهم، كما قال تعالى:
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله
[فاطر: 43]، وقيل في الفرق بين الهزؤ وبين السخرية: أن في السخرية طلب الذلة؛ لأن التسخير هو التذليل، وأما الهزؤ فهو استصغار القدر بضرب من القول.
[21.42]
قوله تعالى: { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن }؛ أي قل من يحفظكم من بأس الرحمن، وعوارض الآفات في الليل والنهار وعقوبات الدنيا والآخرة، { بل هم عن ذكر ربهم معرضون }؛ لا يلتفتون إلى شيء من الحجج والمواعظ.
[21.43]
قوله تعالى: { أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا }؛ من عذابنا، { لا يستطيعون نصر أنفسهم }؛ معناه: أن آلهتهم لا يقدرون على الدفع عن أنفسهم في درء ما ينزل بهم من كسر أو فساد، فكان ينصرهم ويمنع عنهم ما ينزل بهم، وقوله تعالى: { ولا هم منا يصحبون }؛ يعني الكفار. قال الكلبي: (معناه: ولا هم مجارون من عذابنا) أي لا يجيرهم منا أحد، لأن المجير صاحب الجار، يقال: صحبك الله؛ أي حفظك الله وأجارك. وقال قتادة: (معناه: ولا هم يصحبون من الله بخير) يقال أصحبت الرجل إذا أعطيته أمانا يأمن به.
[21.44]
وقوله: { بل متعنا هؤلاء وآبآءهم }؛ يعني أهل مكة متعهم الله بما أنعم عليهم، { حتى طال عليهم العمر }؛ فاغتروا بذلك، والمعنى ما حملهم على الإعراض إلا الاغترار بطول الإمهال.
وقوله تعالى: { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافهآ }؛ معناه: أفلا يشاهدون أنا نفتح الأرض من جوانبها، وننقص من الشرك بإهلاك أهلها، فيزداد هو كل يوم تمكنا، وتزدادون ضعفا ونقصا؟ والمعنى: ألم ير المشركون الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم ويقاتلونه أنا ننقصهم، ونأخذ ما حولهم من قراهم وأرضهم؟ أفلا يرون أنهم هم المنقوصون والمغلوبون؟
ومعنى قوله تعالى: { أفهم الغالبون } أي هم الغالبون للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو الغالب لهم. وعن ابن عباس في معنى نقصها من أطرافها: (أي بذهاب فقهائها وخيار أهلها، فكيف يأمن الرذال؟).
[21.45]
قوله تعالى: { قل إنمآ أنذركم بالوحي }؛ أي قل لهم يا محمد: إنما أخوفكم من عذاب الله بالقرآن الذي يوحى إلي لا من قبل نفسي، وذلك أن الله أمره بإنذارهم، كقوله
وأنذر به الذين يخافون
[الأنعام: 51].
قوله تعالى: { ولا يسمع الصم الدعآء إذا ما ينذرون }؛ هذا تمثيل للكفار بالصم الذين لا يسمعون النداء، والمعنى أنهم معاندون، فإذا أسمعتهم لم يعملوا بما سمعوه. قوله تعالى: { إذا ما ينذرون } أي اذا ما يخافون.
[21.46]
قوله تعالى: { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يويلنآ إنا كنا ظالمين }؛ أي لو أصابهم أدنى عذاب لأيقنوا بالهلاك، وقال ابن كيسان: (معناه: ولئن مسهم قليل من عذاب الله)، وقال ابن جريج: (نصيب من عذاب الله)، والمعنى: ولئن مسهم طرف من العذاب لأيقنوا بالهلاك، ودعوا على أنفسهم بالويل مع الإقرار أنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. والنفحة: هي الدفعة اليسيرة الواقعة من الشيء دون معظمه، يقال: نفحه نفحة بالسيف؛ أي ضربه ضربة خفيفة.
[21.47]
قوله تعالى: { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا }؛ أي نضع الموازين ذوات القسط لأهل يوم القيامة. قال الحسن: (هي ميزان له كفتان ولسان، لا يوزن فيها غير الحسنات والسيئات، يجاء بالحسنات في أحسن صورة، وبالسيئات في أقبح صورة، فلا ينقص من حسنات أحد، ولا يزاد في سيئات أحد). وقال مجاهد: (هذا مثل، وإنما أراد بالميزان العدل).
ويروى: أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق، فقال: إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتهما بتمرة. ويقال: إنما يوزن خاتمة العمل، فمن كان خاتمة عمله خيرا، جوزي بخير، ومن كان شرا جوزي بشر.
قوله تعالى: { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها }؛ وإن كان العمل الذي عمله وزن حبة من خردل أتينا بها للجزاء، وقيل: معناه: وإن كان الظلامة مثقال حبة من خردل أحضرناها للمجازاة حتى لا يبقى لأحد عند أحد ظلامة.
قرأ أهل المدينة (مثقال) بالرفع على (إن كان) بمعنى وقع لا خبر لها، وقرأ العامة بالنصب على معنى وإن كان ذلك الشيء، ومثله في لقمان. قوله تعالى: { وكفى بنا حاسبين }؛ أي محفظين، وقيل: حافظين؛ لأن من حسب شيئا علمه وحفظه.
[21.48]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان }؛ أي التوراة يفرق بها بين الحق والباطل؛ والحلال والحرام، { وضيآء وذكرا للمتقين }؛ من صفة التوراة مثل قوله تعالى:
هدى ونور
[المائدة: 44]، والمعنى: أنهم استضاؤا بها حتى اهتدوا في دينهم، وقوله تعالى: { وذكرا للمتقين } أي موعظة للمتقين الكبائر والفواحش. وعن ابن عباس: أنه كان يقرأ (ضياء) بحذف الواو، وكان يقول: (آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء).
[21.49]
قوله تعالى: { الذين يخشون ربهم بالغيب }؛ في الدنيا غائبين عن الآخرة، { وهم من الساعة مشفقون }؛ أي خائفون من أن تلحقهم الساعة، مما يجري فيها من المحاسبة قبل إصلاح أعمالهم.
[21.50]
قوله تعالى: { وهذا ذكر مبارك أنزلناه }؛ أي هذا القرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد، ذكر يتبرك به قارئه فيجزيه الأجر العظيم، { أفأنتم له منكرون }؛ يا أهل مكة، وهذا توبيخ لهم.
[21.51-54]
قوله تعالى: { ولقد آتينآ إبراهيم رشده من قبل }؛ أي من قبل بلوغه، وقيل: معناه: من قبل موسى وهارون، والمعنى: آتيناه هداه وهو صغير حين كان في السرب حتى عرف الحق من الباطل، { وكنا به عالمين }؛ أي آتيناه رشده، { إذ } ، حين، { قال لأبيه وقومه } ، في الوقت الذي خرج من السرب فرآهم يعكفون على الأصنام: { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي التصاوير التي لأجلها مقيمون عليها، { قالوا وجدنآ آبآءنا لها عابدين }؛ بينوا بهذا الجواب أنه لا حجة لهم في عبادة الأصنام إلا تقليدهم لآبائهم، فأجابهم إبراهيم، { قال لقد كنتم أنتم وآبآؤكم }؛ في عبادة الأصنام، { في ضلال مبين }؛ عن الحق ظاهر.
[21.55-56]
قوله تعالى: { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين }؛ قالوا له أجاد أنت فيما تقول؟ محق أم لاعب مازح؟ وذلك لأنهم كانوا يستبعدون إنكار عبادتها، { قال بل ربكم رب السموت والأرض الذي فطرهن }؛ أي بل إلهكم مالك السماوات والأرض الذي خلقهن { وأنا على ذلكم }؛ ما قلت لكم؛ { من الشاهدين }.
[21.57-58]
قوله تعالى: { وتالله لأكيدن أصنامكم }؛ أي لأبطلنها ولأكسرنها ولأمكرن بها وقت مغيبكم عنها، وذلك لأنهم كانوا يعزمون على الذهاب إلى عيدهم، فقال لهم عند ذلك هذا القول. والكيد في اللغة: هو الإضرار بالشيء، قال مجاهد وقتادة: (إنما قال إبراهيم هذا القول في نفسه من قومه سرا، ولم يسمع ذلك إلا رجل منهم، وهو الذي أفشاه سره عليه، وهو الذي قال: سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم).
قال الشعبي: (كان لهم في كل سنة مجمع وعيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا! فخرج إبراهيم معهم، فلما كان في بعض الطريق ألقى نفسه، وقال: إني سقيم؛ أي اشتكي رجلي، فربطوا رجله وهو صريع، فلما مضوا نادى في آخرهم: وتالله لأكيدن أصنامكم، { بعد أن تولوا مدبرين }.
ثم رجع إبراهيم إلى بيت أصنامهم، فوجد معهم صنما كبيرا إلى جنبه أصنام أصغر منه، وإذا هم قد جمعوا طعاما فوضعوه بين يدي الأصنام وقالوا: إذا كان وقت رجوعنا رجعنا وقد باركت الآلهة لنا في طعامنا فأكلنا، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام، قال لهم على طريق الاستهزاء بهم: ألا تأكلون؟ فلما لم يجيبوه، قال لهم: ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربا باليمين، وجعل يكسرهم بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم العظيم، فعلق الفأس في عنقه ثم خرج). فذلك قوله تعالى: { فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم }؛ فإنه لم يكسره.
قوله تعالى: { فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم } فيه إضمار؛ أي لما ولوا مدبرين جعلهم جذاذا. قرأ الكسائي بكسر الجيم أي كسرا وقطعا، جمع جذيذ وهو الهشيم مثل خفيف وخفاف وكريم وكرام، وقرأ الباقون بضم الجيم؛ أي جعلهم حطاما ورفاتا.
قوله تعالى: { إلا كبيرا لهم } فإنه لم يكسره، { لعلهم إليه يرجعون } فيحتج عليهم إبراهيم ويبرهن لهم على أن أصنامهم لم لم تقدر على دفع الكسر عن أنفسها؟ فلم يعبدوها؟ وكيف يكون إلها من لا يقدر على دفع ما نزل به؟. وقيل: معناه: لعلهم يرجعون؛ أي إلى دين إبراهيم، وإلى ما يدعوهم إليه بوجوب الحجة عليهم في عبادة ما لا يدفع الضر عن نفسه، وينتهوا عن جهلهم وعظم خطاياهم.
[21.59-61]
قوله تعالى: { قالوا من فعل هذا بآلهتنآ }؛ فلما رجعوا من عيدهم ورأوا أصنامهم مكسرة، قالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ { إنه لمن الظالمين } أي فعل ما لم يكن له أن يفعل، فقال الذي سمع إبراهيم؛ { قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم }؛ وذلك أن بعضهم كانوا قد سمعوه يذكر أصنامهم بالعيب ويقول: إنها ليست بآلهة.
فقالوا: ينبغي أن يكون ذلك الفتى هو الذي كسرها، { قالوا فأتوا به }؛ بذلك الفتى، { على أعين }؛ أي مرأى من، { الناس }؛ لكي يشهد الذين عرفوه أنه يعيب الأصنام. وقيل: إنه لما بلغ النمرود وأشراف قومه ما فعل بأصنامهم وما قالوه، في إبراهيم أنه هو الذي فعل ذلك، قال النمرود ومن معه: فأتوا به على أعين الناس، { لعلهم يشهدون }؛ أنه هو الذي فعل ذلك بهم، وكرهوا أن يأخذوه بغير بينة. وقيل: معناه: لعلهم يشهدون ما يصنع به من العقوبة؛ أي يحضرون.
[21.62-63]
قوله تعالى: { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يإبراهيم }؛ أي فلما أتوا به قالوا: أنت فعلت هذا الكسر بآلهتنا، { قال بل فعله كبيرهم هذا }؛ الذي الفأس في عنقه، { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } حتى يخبروكم، وأراد بهذا تقريرهم بأنهم ظالمون في عبادتهم ما لا يدفع عن نفسه؛ لأن جماعتهم كانوا يعلمون أن الصنم لا يعقل ولا ينطق، فأراد إبراهيم بذلك تبكيت القوم وتوبيخهم على عبادة من لا يعقل ولا يفعل، ولذلك قال: فاسألوهم إن كانوا يقدرون على النطق.
[21.64-67]
قوله تعالى: { فرجعوا إلى أنفسهم }؛ أي فرجعوا إلى أنفسهم بالملامة، { فقالوا إنكم أنتم الظالمون }؛ في سؤاله؛ لأنها لو كانت آلهة لم يصل إلى كسرها أحد؛ { ثم نكسوا على رءوسهم }؛ أي أدركتهم حيرة فنكسوا لأجلها رؤوسهم، وأقروا بما هو حجة عليهم، فقالوا: { لقد علمت }؛ يا إبراهيم، { ما هؤلاء ينطقون }؛ فكسرتهم لذلك.
وقيل: معنى الآية: تذكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم، فقالوا: ما نراه إلا كما قال إنكم أنتم الظالمون بعبادتكم آلهة لا تنطق ولا تبطش، ثم أدركتهم الشقاوة، فعادوا إلى قولهم الأول وضلالهم القديم، وهو قوله { ثم نكسوا على رءوسهم } أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم، فقالوا لإبراهيم: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون فلذلك كسرتهم.
فلما اتجهت الحجة عليهم بإقرارهم، وبخهم إبراهيم و { قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا }؛ ولا يرزقكم { ولا يضركم }؛ إذا لم تعبدوه، { أف لكم }؛ أي تبا لكم، { ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون }؛ أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، إذ هي أحجار لا حركة لها ولا بيان، أفليس لكم ذهن الإنسانية.
[21.68-69]
قوله تعالى: { قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم }؛ أي لما ألزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب غضبوا فقالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم بتحريقه؛ لأنه يعيبها ويطعن فيها، فإذا حرقتموه كان ذلك نصرا منكم إياها. وقيل: معناه: وانتقموا لآلهتكم وعظموها، { إن كنتم فاعلين }؛ في هذا شيئا.
فاشتغلوا بجمع الحطب حتى كان الشيخ الكبير يأتي بالحطب تقربا إلى آلهتهم، وحتى أن المريض كان يوصي بكذا وكذا من ماله فيشتري به حطبا فيلقى في النار، وحتى أن المرأة لتغزل فتشتري به حطبا، وتلقيه في النار. قال ابن عمر: (إن الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل يسمى (هيزن) فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
فلما أجمع النمرود وقومه على إحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بيتا كالحظيرة، فلذلك قوله تعالى:
قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم
[الصافات: 97] ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أنواع الخشب، حتى أن المرأة كانت إذا مرت تقول: إذا عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبن في نار إبراهيم التي يحرق فيها احتسابا لدينها.
قال ابن اسحاق: (كانوا يجمعون الحطب شهرا، فلما أجمعوا الحطب شعلوا في كل ناحية نارا، فاشتعلت النار واشتدت حتى أن الطائر كان إذا مر بها احترق من شدة وهجها، ثم عمدوا إلى إبراهيم وقيدوه، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيدا مغلولا.
فصاحت السماوات والأرض والملائكة صيحة واحدة: يا ربنا إن إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره، أيحرق؟! فأذن لنا في نصرته، فقال الله: إن استعاذ بشيء منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع أحدا غيري فأنا أعلم به، فأنا وليه، فخلوا بيني وبينه.
فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خازن الماء فقال له: إن أذنت أخمدت النار، فإن خزائن المياه والأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل).
وروي: أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك. قال: ثم رموا به في المنجنيق، فاستقبله جبريل عليه السلام وقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
قال جبريل: قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال الله عز وجل: { قلنا ينار كوني بردا وسلما على إبراهيم }؛ قال ابن عباس: (لو لم يتبع بردها سلاما لمات من بردها، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت وخمدت).
قال السدي: (وأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس). قال كعب: (ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه).
قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام، قال إبراهيم: ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار، ثم يصف الله ملك الظل في صورة إبراهيم فأقعده فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسه، وبعث الله بقميص من حرير الجنة، قال: فنظر النمرود من طرح له فأشرف على إبراهيم، وما يشك في موته، فرأى إبراهيم في روضة ورأى الملك قاعدا إلى جنبه والنار حواليه، فناداه النمرود: يا إبراهيم كبيرا إلهك الذي بلغت قدرته إلى أن حال بينك وبين ناري حتى لم تضرك.
قال قتادة والزهري: (ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ولا أحرقت شيئا إلا وثاق إبراهيم، ولم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عن إبراهيم النار إلا الوزع، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بقتله، وسماه فاسقا). قال شعيب الجبائي: (ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح اسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، ولما علمت سارة بما أراد الله باسحاق اضطربت يومين، وماتت اليوم الثالث).
[21.70]
قوله تعالى: { وأرادوا به كيدا }؛ أي وأرادوا الحيلة في الإضرار، { فجعلناهم }؛ الكفار الذين أرادوا إحراقه، { الأخسرين }؛ بأن لم يتم ما عزموا عليه، وتبين عجزهم عن نصرهم لآلهتهم، فخسر سعيهم. وقال ابن عباس: (هو أن الله سلط البعوض على النمرود وجنده حتى أخذت لحومهم وشربت دماءهم، ووقفت واحدة في دماغه حتى أهلكته).
[21.71]
قوله تعالى: { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين }؛ أي نجينا إبراهيم من كيد النمرود، ونجينا لوطا معه؛ أي ورفعنا إبراهيم من الهلكة إلى الأرض المباركة وهي أرض الشام. وسميت أرض الشام مباركة؛ لكثرة الأنبياء الذين بعثهم الله فيها. وعن أبي العالية: (أنه ليس ماء عذب إلا وهو يجري من الصخرة التي ببيت المقدس).
[21.72]
قوله تعالى: { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة }؛ أي ووهبنا لإبراهيم ولده اسحاق وولده يعقوب، سمي يعقوب (نافلة) لأنه ولد ولده، والنافلة في اللغة: زيادة على الأصل، ونوافل: الصلاة ما تطوع به المصلي. ويقال: إنهما جميعا نافلة؛ لأنهما عطية زائدة على ما تقدم من النعم. قال ابن عباس وقتادة: (سأل إبراهيم ربه ولدا واحدا، فقال: رب هب لي من الصالحين، فأعطاه الله اسحاق ولدا وزاده يعقوب)، قال ابن عباس: (نفله يعقوب؛ أي زاده إياه على ما سأل). قوله تعالى: { وكلا جعلنا صالحين }؛ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وجعلناهم أنبياء عاملين بطاعتنا.
[21.73]
قوله تعالى: { وجعلناهم أئمة } أي قادة في الخير، { يهدون بأمرنا }؛ أي يدعون الخلق إلى أمرنا وديننا، { وأوحينآ إليهم فعل الخيرات }؛ أي شرائع النبوة، وقيل: أمرناهم بفعل الخيرات، { وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة وكانوا لنا عابدين }؛ أي خاضعين مطيعين. وإنما قال (وإقام الصلاة) بغير (هاء)؛ لأن الإضافة صارت عوضا عن الهاء.
[21.74-75]
قوله تعالى: { ولوطا آتيناه حكما وعلما }؛ أي وآتينا لوطا النبوة والعلم، { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث }؛ يعني سدوم، كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم، ويتضارطون في مجالسهم. قوله تعالى: { إنهم كانوا قوم سوء فاسقين }؛ قيل: إنهم كانوا يعملون مع ذلك أشياء أخر من المنكرات. قوله تعالى: { وأدخلناه في رحمتنآ }؛ بإنجائنا إياه من القوم السوء وهلاكهم، { إنه من الصالحين }؛ أي من الأنبياء.
[21.76-77]
قوله تعالى: { ونوحا إذ نادى من قبل }؛ أي واذكر نوحا إذ نادى ربه من قبل إبراهيم ولوط يعني دعا على قومه بالهلاك، فقال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
[نوح: 26]، { فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم }؛ ومن معه من غم الغرق وكربه، والكرب أشد الغم. { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا }؛ أي منعناهم من أن يصلوا اليه بسوء، { إنهم كانوا قوم سوء }؛ أي كفارا، { فأغرقناهم أجمعين }؛ بالطوفان.
[21.78]
قوله تعالى: { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم }؛ أي وأكرمنا داود وسليمان بالنبوة والحكمة إذ يحكمان في الحرث، وقال قتادة: (زرعا)، وقال ابن مسعود: (كان كرما قد نبت عنبا)، قيده قوله تعالى: { إذ نفشت فيه غنم القوم } أي وقعت فيه بالليل ورعته وأفسدته، والنفش في اللغة: الرعي بالليل، يقال: نفشت السائمة بالليل، وهملت بالنهار إذا رعت، والهمل الرعي بالنهار، وكلاهما الرعي بلا راع.
قوله تعالى: { وكنا لحكمهم شاهدين }؛ أي لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عن علمنا، وإنما قال (لحكمهم) بلفظ الجمع لإضافة الحكم إلى من حكم وإلى المحكوم لهم، وقد يذكر لفظ الجمع في موضع التثنية
فإن كان له إخوة فلأمه السدس
[النساء: 11] أي أخوان.
[21.79-80]
قوله تعالى: { ففهمناها سليمان }؛ أي فهمنا القصة سليمان دون داود، { وكلا }؛ منهما؛ { آتينا حكما وعلما }؛ العلم والفصل بين الخصوم.
قال ابن مسعود وقتادة والزهري: (وذلك أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث، والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع والكرم: إن هذا نفشت غنمه ليلا فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئا. فقال: لك رقاب الغنم - وكانا في القيمة سواء - فأعطاه الغنم بالحرث وخرجا.
فمرا على سليمان وهو يومئذ ابن أحد عشر سنة، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال سليمان: نعم ما قضى، وغير هذا كان أرفق بالكل، ولو وليت أمركما لقضيت بغير ما قضى. فأخبر داود بذلك فدعا فقال: كيف تقضي بينهما؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلهما ورسلهما ومنافعها وسمنها وصوفها إلى الحول، ويقوم أصحاب الغنم على الكرم حتى يعود كهيأته يوم أفسد، ثم يدفع هؤلاء إلى هؤلاء غنمهم، ويدفع هؤلاء إلى هؤلاء كرمهم.
فقال داود عليه السلام: نعم ما قضيت فيه، فالقضاء قضاؤك. وحكم داود بينهم بذلك، فقوم بعد ذلك الكرم وما أصابوه من الغنم فوجدوه مثل ثمر الكرم)، وهكذا روي عن ابن عباس.
قال الحسن: (كان الحكم ما قضى به سليمان، ولم يعف الله داود في حكمه) وهذا يدل على أن كل مجتهد يصيب، وإلى هذا ذهب بعض الناس فقالوا: إذا نفشت الغنم ليلا في الزرع فأفسدته، كان على صاحب الغنم ضمان ما أفسدته، وإن كان نهارا لم يضمن شيئا، واستدلوا أيضا بما روي:
" أن ناقة كانت للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل ".
وأما أصحابنا فلا يرون في هذه المسألة ضمانا ليلا ولا نهارا، إذا لم يكن صاحبه هو الذي أرسله فيه، ولا حجة لهم في هذه الآية؛ لأنه لا خلاف أن من نفشت إبله أو غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه أن يسلم الغنم ، ولا يسلم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين اللذين حكم بهما داود وسليمان (عليهما السلام) منسوخان بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" العجماء جبار "
وهذا خبر مستعمل متفق على استعماله في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه، وليس في قصة البراء بن عازب إيجاب الضمان، ولأن الأشياء الموجبة للضمان لا تختلف بالليل والنهار.
قوله تعالى: { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير }؛ أي وسخرنا الجبال والطير يسبحن مع داود؛ أي أن الجبال كانت تسير مع داود أين يذهب، ومما يؤيد هذا قوله تعالى:
يجبال أوبي معه والطير
[سبأ: 10]، قوله تعالى: { وكنا فاعلين }؛ هذه الأشياء دلالة على نبوته. قوله تعالى: { وعلمناه صنعة لبوس لكم }؛ أي وعلمنا داود صنعة الدرع، وسمي الدرع لبوسا؛ لأنها تلبس، كما يقال للبعير: ركوب؛ لأنه يركب، والسلاح كله لبوس عند العرب درعا كان أم جوشنا أو سيفا أم رمحا، والجوشن هو الدرع الصغيرة. قال قتادة: (أول من صنع الدرع داود، وإنما كانت من صفائح، فهو أول من سردها وحلفها).
قوله تعالى: { لتحصنكم من بأسكم }؛ أي ليحرزكم من شدة القتال. قرأ شيبة وأبو بكر ويعقوب (لنحصنكم) بالنون، لقوله (وعلمناه). وقرأ ابن عامر وحفص بالتاء، يعني الصنعة. وقرأ الباقون بالياء على معنى ليحصنكم اللبوس. وقيل: على معنى ليحصنكم الله عز وجل (من بأسكم) أي من حربكم، وقيل: من وقع السلاح فيكم. قوله تعالى: { فهل أنتم شاكرون }؛ يا أهل مكة.
[21.81]
قوله تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها }؛ أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة؛ أي شديد الهبوب. قال ابن عباس: (إن أمر الريح أن تعصف عصفت، وإذا أراد أن ترخى أرخت). وذلك قوله تعالى:
رخآء حيث أصاب
[ص: 36].
قوله تعالى: { تجري بأمره إلى الأرض } أي تجري بأمر سليمان من اصطخر إلى الأرض التي بارك الله فيها بالماء والشجر وهي الأرض المقدسة. روي: أن الريح كانت تجري بسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان، ثم يعود إلى منزله بالشام. قوله تعالى: { وكنا بكل شيء عالمين }؛ بصحة التدبير فيه، علمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه.
[21.82]
قوله تعالى: { ومن الشياطين من يغوصون له }؛ أي وسخرنا له من الشياطين في البحر لاستخراج ما شاء من لؤلؤ ومرجان وغير ذلك من الجواهر. قوله تعالى: { ويعملون عملا دون ذلك }؛ أي ويعملون دون الغواصة من أعمال البناء، قوله تعالى: { وكنا لهم حافظين }؛ أي من أن يفسدوا ما عملوا، ومن أن يهيجوا على أحد في زمانه.
[21.83-86]
قوله تعالى: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر }؛ أي دخل الضر في جسدي، { وأنت أرحم الراحمين }؛ بالعباد، فكان هذا تعريضا منه بالدعاء لله لإزالة ما به من الضر، { فاستجبنا له } دعاءه، { فكشفنا ما به من ضر }؛ وقوله تعالى: { وآتيناه أهله ومثلهم معهم }؛ قال ابن مسعود وقتادة والحسن: (أحيا الله له أولاده الذين هلكوا في الدنيا بأعيانهم ورددنا له مثلهم).
ويقال: أبدله الله بكل شيء ذهب عنه ضعف، وعن ابن عباس قال:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { ووهبنا له أهله ومثلهم معهم } فقال: " يا ابن عباس، رد الله امرأته وزاد في شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ذكرا " "
قوله تعالى: { رحمة من عندنا }؛ أي فعلنا ذلك به رحمة من عندنا، { وذكرى للعابدين }؛ أي وموعظة للمطيعين.
قال وهب بن منبه: (كان أيوب عليه السلام رجلا من الروم من ذرية اسحاق بن إبراهيم وكانت أمه من ولد لوط، وكان الله قد اصطفاه وبناه وبسط عليه الدنيا، وآتاه من أصناف المال من البقر والإبل والغنم والخيل والحمر ما لا يؤتيه أحدا، وكان قد أعطاه الله أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان له خمسمائة عبد، لكل عبد امرأة وولد ومال.
وكان أيوب عليه السلام برا تقيا رحيما بالمساكين، يكرم الأرامل والأيتام ويكفلهم، ويكرم الضيف، وكان شاكرا لأنعم الله، مؤديا لحق الله، قد امتنع من عدو الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الفتنة والغفلة والشهوة والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان كثير الذكر لله تعالى مجتهدا في العبادة، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السماوات.
ومن هنا وصل إلى آدم عليه السلام حين أخرجه من الجنة، فلم يزل على ذلك يصعد في السماوات حتى رفع الله عيسى عليه السلام فحجب من أربع، وكان يصعد في الثلاث، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث الباقيات، فهو وجنوده محجوبون من جميع السماوات إلى يوم القيامة إلا من استرق فأتبعه شهاب ثاقب.
فلما كان إبليس في زمان أيوب يصعد إلى السماء، سمع تحاديث الملائكة بصلاة أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه، فأدركه الحسد بأيوب، فصعد سريعا حتى وقف من السماوات موقفا كان يقفه، وقال: إلهي؛ عبدك أيوب قد أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولم تجربه بشدة ولا بلاء، وأنا لك زعيم لئن جربته بالبلاء ليكفرن بك.
فقال الله تعالى: انطلق؛ فقد سلطتك على ماله، فانقض إبليس حتى وقع على الأرض وجمع عفاريت الجن وقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ فإني قد سلطت على مال أيوب، وهي المصيبة الكبرى والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الجن: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار، وأحرقت كل شيء أتى عليه، فقال له ابليس: إذهب إلى الإبل ورعاتها، فذهب إلى الإبل فوجدها في المرعى، فلم يشعر الناس حتى ثار إعصار تنفخ منه السموم، لا يدنو منه أحد إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها.
فلما فرغ منها تمثل إبليس على قعود منها كراعيها، وانطلق إلى أيوب فوجده قائما يصلي، فقال: يا أيوب؛ هل تدري ما صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعاتها؟ فقال أيوب: إنها ماله أعارنيها وهو أولى به مني إذا شاء نزعه، وقد وطئت نفسي ومالي على أنهما للفناء.
فقال إبليس: إن ربك أرسل عليها نارا فاحترقت هي ورعاتها، فصارت الناس مبهوتون يتعجبون منهم، ويقولون: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئا لمنع عن إبل وليه، وقوم منهم يقولون: بل إله أيوب هو الذي فعل ذلك، أشمت به عدوه وتجمع به صديقه.
فقال أيوب: الحمد لله على ما قضى الله وقدر، ولو علم الله منك أيها العبد خيرا لتقبل روحك مع تلك الأرواح، فيأجرني الله فيك وتموت شهيدا، ولكنه علم منك شرا فأخرك وخلصك.
فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة؟ إني لم أخرج قلبه، فقال عفريت: عندي من القوة ما إذا شئت ضجت صوتا ما سمعه ذو روح إلا خرجت روحه، فقال إبليس: إذهب إلى الغنم ورعاتها، فانطلق إليهم، فلما توسط الغنم والرعاة صاح صوتا فماتوا جميعا.
ثم خرج إبليس متمثلا براع من رعاتها إلى أيوب فأخبره بذلك، فحمد الله وقال له مثل ما قال في المرة الأولى، فرجع إبليس إلى أصحابه ذليلا خاسئا وأمرهم إلى أصحاب الحرث والزروع فأهلكوهم. وكان أيوب عليه السلام كلما انتهى إليه هلاك مال من ماله حمد الله وأثنى عليه ورضي بالقضاء، وألزم نفسه الصبر على البلاء حتى لم يبق له مال.
فلما رأى إبليس أم ماله قد فني، وأنه لم يصب منه حاجته صعد إلى السماء وقال: يا رب؛ إن أيوب يرى أنك ما أهلكت من ماله أخلفته عليه، فهل أنت مسلطني على أولاده؟ فإنها الفتنة المضلة والمصيبة التي لا يقوم لها قلوب الرجال، ولا يقوى عليها صبرهم، فسلطه الله على ذلك.
فانقض إبليس حتى جاء إلى أولاد أيوب وهم في قصورهم، فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يرقبهم بالخشب والحجارة حتى مثل بهم كل مثلة، ثم ذهب إبليس إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو مجروح يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك، فقال له: يا أيوب؛ لو رأيت بنيك كيف حالهم، منكسين على رؤوسهم يسيل دماغهم من أنوفهم، ولو رأيت كيف شققت بطونهم، وتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم، ولم يزل يردد هذا القول حتى رق قلبه وبكى، فقبض قبضة من التراب ووضعه على رأسه، فاغتنم إبليس ذلك وصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب، ثم لم يلبث أيوب أن ندم على ذلك واستغفر ربه، فصعدت الملائكة بتوبته فسبقوا إبليس.
فوقف إبليس خازيا ذليلا، وقال: إلهي هل أنت مسلطني على جسده فإني زعيم لك إن سلطتني عليه ليكفرن بك، فقال الله تعالى: قد سلطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه، ولم يسلطه الله عليه إلا ليعظم له الثواب، ويجعله عبرة للصابرين، وذكرى للعابدين؛ ليقتدوا به في الصبر.
فانقض إبليس سريعا فوجد أيوب ساجدا، فأتاه من قبل الأرض في وجهه، فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده، فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه مثل ثآئيل ووقعت عليه حكة لا يملكها، فحك بأظفار حتى سقطت كلها، ثم حكها بالفخار والحجارة، فلم يزل يحكها حتى نزل لحمه وتقطع وتغير وانتن، فأخرجه أهل القرية، وجعلوه على كناسة، واعتزله جميع الناس إلا امرأته (رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب) فإنها كانت تتخلف إليه بما يصلحه ويلزمه.
فلما طال عليه البلاء، وتمادى عليه الضر، ورفضه جميع الناس حتى أهل دينه تركوه ولم يتركوا دينه، فأقبل على الدعاء متضرعا، وقال: إلهي؛ لأي شيء خلقتني؟ ليتك لم تخلقني، بل ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، فلو كنت أمتني كان أجمل بي، إلهي أنا عبد ذليل، إن أحسنت إلي فالمن لك، وإن عاقبتني فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا وللفتنة نصبا، وقد وقع بي بلاء لو سلطته على جبل أضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي؟
إلهي تقطعت أصابعي فإني لا أقدر أحمل اللقمة بيدي، إلهي تساقطت لهواتي ولحم رأسي، وما يراد بي، وسال دماغي من فمي، وتساقط شعر عيني، وكانما أحرق وجهي، فحدقتاي متدليتان على وجهي، وورم لساني حتى ملأ فمي فما أدخل فيه طعامي إلا غصها، وورمت شفتاي حتى غطت العليا أنفي، وغطت السفلى ذقني، وتقطعت أمعائي في بطني. إلهي ذهبت قوة رجلاي حتى لا أطيق حملها، وذهب المال حتى صرت أسأل اللقمة من كنت أعوله فيمنها علي ويعيرني.
إلهي هلك أولادي ولم تبق منهم واحدا لإعانتي ونفعني، إلهي قد ملني أهلي وعفني أرحامي وأنكرني معارفي، وأعرض عني صديقي وهجرني أصحابي، وجحدت حقوقي ونسيت صنائعي. أصرخ فلا أحد يصرخني، وأعتذر فلا أحد يعذرني، وأدعو فلا أحد يجيب. إن فضلك هو الذي أذلني وأعماني، وسلطانك هو الذي أسقمني وأنحلني، فلو أن ربي فرغ الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بما ينبغي للعبد أن يحاج عن نفسه لرجوت أن يصافيني، ولكنه ألقاني وتعالى عني، فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه لا هو نظر إلي فرحمني ولا هو أدناني منه فأتكلم بحاجتي، وأنطق ببراءتي وأخاصم عن نفسي.
فلما قال ذلك أيوب، نودي: يا أيوب؛ إني لم أزل منك قريبا، فقم خاصم عن نفسك، وتكلم ببراءتك، وشد إزارك، وقم مقام جبار لتخاصمني. يا أيوب؛ إنك أردت أن تخاصمني بعيبك، وتحاجني بخطئك، أم أردت أن تكاثرني بضعفك، أين أنت مني يوم خلقت السماوات والأرض؟ هل علمت بأي مقدار قدرتها، أم كنت معي يوم مددت أطرافها، أم هل علمت ما في زواياها؟
أين أنت مني يوم سخرت البحار وانبعثت الأنهار، أقدرتك حبست البحار وأمواجها؟ أم قدرتك محت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت يوم نصبت شوامخ الجبال، ويوم صببت الماء على التراب؟ أبحكمتك أحصيت القطر وقسمت الأرزاق؟ أم قدرتك تسير السحاب؟ أم هل خزنت أرواح الأموات خزانة الثلج وجبال البرد؟ وهل تدري أين خزانة الليل والنهار؟ وأين طريق النور، ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ أين أنت يا أيوب يوم خلقت التنين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب، عيناه توقدان نارا ومنخراه يثوران دخانا، يثور منهما لهبا كأنه إعصار، النار جوفه يحترق ونفسه تلتهب، كأن صريف أسنانه أصوات الصواعق، وكأن وسط عينه لهيب البرق، لا يفزعه شيء، ويهلك كل شيء يمر عليه، هل أنت يا أيوب آخذه بأحبولتك، أو واضع اللجام في شدقه؟ هل تحصي عمره أو تعرف أجله أو تعطيه رزقه؟.
فقال عند ذلك أيوب: قصرت عن هذا الأمر، ليت الأرض تنشق لي فأذهب فيها، اجتمع علي البلاء الحي، قد جعلتني لك كالعدو، وقد كنت تكرمني إلهي، هذه كلمة زلت على لساني فلن أعود بشيء تكرهه مني، قد وضعت يدي على فمي، وعضضت على لساني، وألصقت خدي بالتراب ودسيت فيه وجهي لذلي وسكت كما أسكتتني خطيئتي، ربي اغفر لي ما قلت فلا أعود لمثله أبدا.
فقال الله عز وجل: يا أيوب؛ قد نفد فيك علمي، وسبقت رحمتي غضبي، إن أخطأت فقد غفرت لك، ورددت عليك مالك وأهلك مثلهم معهم؛ لتكون لمن خلفك آية، وتكون عبرة لأهل البلاء وعبرة للصابرين، اركض برجلك، هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك فاركض برجلك، فانفجرت له عين فدخل فيها فاغتسل منها، فأذهب الله عنه كل ما كان به من البلاء.
فأقبلت امرأته تلتمسه في مضجعه فلم تجده، فقامت كالوالهة فوجدته جالسا عند العين فلم تعرفه، فقالت له: يا عبد الله؛ هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان ها هنا؟ فقال: وهل تعرفينه؟ قالت: نعم؛ وما لي لا أعرفه؟ فتبسم فقال أنه هو، فعرفته بمضحكه، فاعتنقته).
قال ابن عباس: (فوا الذي نفسي بيده؛ ما فارقته من عناقه حتى مر بهما كل مال لهما وولد).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أقام أيوب في بلائه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد "
وقال الحسن: (مكث أيوب مطروحا على كناسة في مزبلة سبع سنين، وكان مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله والثناء عليه، والصبر على بلائه.
فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيوب، فلما اجتمعوا إليه قالوا له: ما أصابك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده، فلم أدع له مالا ولا ولدا، فلم يزدد إلا صبرا وثناء على الله، ثم سلطت على جسده فتركته جيفة ملقى على كناسة بني إسرائيل لا يقربه إلا امرأته، فاستغثت بكم لتقووني عليه.
فقالوا له: وأين مكرك وأين خداعك الذي أهلكت بها من مضى من الأمم؟ قال: بطل ذلك كله مع أيوب، فأشيروا علي. قالوا: أنت حين أخرجت آدم من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته، فإنه لا يعصيها وليس يقربه أحد غيرها.
قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحك قروحه والدود يتردد في جسده، فوسوس إليها وذكرها بأيام شباب أيوب وجماله، وما كانا فيه من النعم والحال الطيب، وكيف تقلب عليهم الزمان حتى صار أيوب في هذا الضرر العظيم، ولم يزل يذكرها بأيام قد مضت حتى أبكاها، فلما علم أنها قد جزعت وحزنت، أتاها بسخلة وقال لها: قولي لأيوب يذبح هذه الشاة لي وهو يبرأ.
قال: فجاءت إلى أيوب وقالت له: إلى متى يعذبك الله ألا يرحمك؟ أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين لونك الحسن؟ قد تغير وصار كما ترى، أين جسمك الحسن؟ قد بلي وتردد فيه الديدان، فاذبح هذه السخلة لمن أمرني واسترح.
فقال لها أيوب: أتاك عدو الله فنفخ فيك فاحشه، ويلك أرأيت الذي تبكين عليه من المال والولد والصحة، من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فكم ابتلانا الله؟ قالت: سبع سنين، قال: وتلك ما عدلت ولا أنصفت، ألا صبرت حتى تكون في البلاء ثمانين سنة، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، كيف تأمريني أن أذبح لغير الله؟ طعامك وشرابك علي حرام أن أذوق شيئا مما تأتيني به بعد إذا قلت لي هذا القول، فاعتزلي عني ولا أراك، فطردها فذهبت.
وقال وهب: (لم يأمرها إبليس بذبح السخلة، وإنما قال لها: لو أن بعلك أكل طعاما، ولم يسم عليه لعوفي من البلاء).
وروي: أن إبليس قال لها: اسجدي لي سجدة وأرد عليك المال والأولاد وأعافي زوجك، فأنا الذي صنعت بكم ما صنعت، فرجعت إليه فأخبرته بذلك، فقال لها: أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، وحلف إن عافاه الله ليضربنها مائة جلدة، وحرم طعامها وشرابها وطردها، فلما نظر أيوب إلى أنه قد طرد امرأته وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا لله عز وجل، وقال: إلهي مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، من طمع إبليس في سجود امرأتي له، ودعائه إياها وإياي إلى الكفر).
وإنما قال (مسني الضر) حين قصدت الدودة إلى قلبه ولسانه، فخشي أن يفتر عن ذكر الله، وقيل: إنما قال ذلك حين أتاه صديقان فقاما من بعيد لا يقدرون على الدنو منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو علم الله في أيوب خيرا ما ابتلاه بما ترى، قال: فما سمع أيوب شيئا كان أشد عليه من هذه الكلمة، فعند ذلك قال: مسني الضر من شماتة الأعداء، يدل عليه ما روي أنه قيل له بعد ما عوفي، ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء، وأنشدوا في معناه:
كل المصائب قد تمر على الفتى
فتهون غير شماتة الحساد
كل المصائب تنقضي أيامها
وشماتة الحساد بالمرصاد
قال وهب: (فلما طرد أيوب امرأته، وبقي وحيدا ليس معه من يطعمه ويسقيه، قال عند ذلك: يا رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فقال له الله: إرفع رأسك؛ فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله، فنبعت عين فاغتسل منها، فلم يبق من دائه شيء ظاهر إلا سقط عنه، وأذهب الله عنه كل ألم وسقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن مما كان وأفضل، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى، فشرب منه، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، فقام صحيحا وكسي حلة، ثم التفت عن يمينه فرأى جميع ما كان له من أهل ومال وولد، وقد صار معهم مثلهم، قال الله تعالى: { وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا }.
قال وهب: (كان له سبع بنات وثلاثة بنين)، وقال ابن يسار: (سبعة بنين وسبع بنات، فردهم الله بأعيانهم، وأعطاه مثلهم معهم) وهذا قول ابن مسعود وقتادة وكعب، قالوا: (أحياهم الله عز وجل ، وأبدله بكل شيء ذهب عنه ضعفين)، قال ابن عباس: (رد الله امرأته في شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا).
قوله تعالى: { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل }؛ أي واذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل، واختلفوا في ذكر ذي الكفل، قال أبو موسى الأشعري وقتادة ومجاهد: (كان ذو الكفل رجلا صالحا تكفل لنبي من الأنبياء أنه يصوم النهار ويقوم الليل، وأن لا يغضب ويقضي بالحق، فوفى بذلك كله، فأثنى الله عليه وذكره مع الأنبياء.
وذلك أن نبيا من بني إسرائيل أوحى الله إليه: أني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر، ويصوم النهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع ملكك إليه. ففعل ذلك، فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا، فتكفل ووفى به، فشكره الله وأثنى عليه، ولذلك سمي ذا الكفل). وقال الحسن: (هو نبي اسمه ذو الكفل) ومعنى ذو الكفل؛ أي ضوعف ثوابه على ثواب غيره ممن آمن به في زمانه.
وقال مجاهد أيضا: (لما كبر اليسع عليه السلام قال: لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس وقال: من يتكفل لي بثلاثة استخلفته: يصوم النهار، ويقوم الليل، ويحكم بين الناس ولا يغضب؟ فقام رجل ترد به العيون فقال: أنا، فرده في ذلك اليوم، ثم قال كذلك في اليوم الثاني، فقام ذلك الرجل فرده، فقال مثل ذلك في اليوم الثالث، فقام ذلك الرجل، فاستخلفه فوفى بذلك كله).
قوله تعالى: { كل من الصابرين }؛ أي على طاعة الله وعن معاصيه، { وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين }؛ يعني ما أنعم الله عليهم من النبوة، وما صيرهم اليه في الجنة من الثواب.
[21.87]
قوله تعالى: { وذا النون إذ ذهب مغاضبا }؛ يعني يونس بن متى أحبسه الله في بطن النون، وهو الحوت، ومعنى الآية: واذكر ذا الحوت إذ ذهب مغاضبا لقومه. روي: أنه خرج من بينهم قبل أن يؤذن له في الخروج، وكان خروجه من بينهم خطيئة ، وإنما خرج منهم على تركهم الإيمان به، هكذا روي عن ابن عباس والضحاك.
وقيل: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فعداهم ملك فسبى منهم خلقا كثيرا، فأوحى الله إلى أشعيا النبي عليه السلام: إذهب إلى الملك حزقيا فقل له: توجه نبيا قويا أمينا، فإني ألقي في قلوب أولئك التخلية حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال الملك: من ترى يرسل؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال له: أرسل يونس فإنه قوي أمين، فأتى الملك يونس فأخبره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، فقال: فهل سماني لك؟ قال: لا، قال: فهنا أنبياء غيري أقوياء أمناء، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي والملك ولقومه.
فأتى بحر الروم، فإذا سفينة مشحونة فركب مع أصحابها، فلما صارت في لجة البحر انكفأت حتى كادوا يغرقون، فقال الملاحون: ها هنا عبد آبق عاص، فاقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر، لئن يغرق واحد منا خير من أن تغرق السفينة بما فيها. فاقترعوا ثلاثا فوقعت القرعة كلها على يونس، فقال يونس: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في الماء. فجاء حوت فابتلعه، ثم جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع الحوت أيضا. فأوحى الله إلى الحوت لا تؤذي منه شعرة، فإني قد جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله رزقا لك.
قوله تعالى: { فظن أن لن نقدر عليه } ، بالعقوبة، يقال قدر الله الشيء وقدره؛ أي قضاه. وقيل: معناه: فظن أن لن نضيق عليه السجن، من قوله تعالى:
ومن قدر عليه رزقه
[الطلاق: 7] أي ضيق، وقوله
يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر
[الروم: 37]، وقد ضيق الله على يونس أشد تضييق. وقيل: معناه: { فظن أن لن نقدر عليه } ما قدرنا من كونه في بطن الحوت.
قوله تعالى: { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك }؛ قال ابن عباس: (هي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت)، وقال سالم ابن أبي الجعد: (كان حوتا في بطن حوت).
قوله تعالى: { إني كنت من الظالمين }؛ أي الظالمين لنفسي في خروجي من قومي قبل الإذن. قال الحسن: (وهذا من يونس اعتراف بذنبه، وتوبته من خطيئته، تاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عليه، كلمة أخي يونس: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ".
وقال وهب بن منبه: (إن يونس بن متى عليه السلام كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة، تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل فقذفها بين يديه، وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه الله من أولي العزم قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:
فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل
[الأحقاف: 35] وقال
فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت
[القلم: 48] أي لا تلق قولي كما ألقاه). قوله تعالى: { فظن أن لن نقدر عليه } أي ظن أن لن نقضي عليه بما قضينا من العقوبة، ودليله قراءة الزهري: (أن لن نقدر عليه) مشددا. وقرأ عبيد بن عمير: (يقدر عليه) بالتشديد على المجهول.
واختلفوا في مدة لبثه في بطن الحوت، فقيل: أربعون يوما، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاثة أيام، وأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت: أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما. فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: أن هذا تسبيح دواب البحر، قال: فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا إنا سمعنا صوتا ضعيفا بأرض غريبة؟ قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد له إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم. فشفعوا له، فأمر الله الحوت، فقذفه على الساحل وهو سقيم ".
وعن ابن عباس قال: أتى جبريل إلى يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم، قال: حتى ألتمس دابة، قال: الأمر أعجل من ذلك، فانطلق إلى السفينة فركبها فأخشبت السفينة، فساهموا فخرج السهم عليه، فجاء الحوت ينصص بذنبه فالتقمه، فنودي الحوت: إنا لم نجعله رزقا لك، وإنما جعلناك له سجنا، وانطلق الحوت من ذلك المكان حتى مر به على الأيكة، ثم مر على دجلة).
وكان ابن عباس يقول: (كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ودليل هذا أن الله ذكر قصة يونس في سورة الصافات، ثم عقبها بقوله
وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون
[الصافات: 147]). وقال آخرون: بل كانت قصة الحوت بعد دعائه قومه، وتبليغه الرسالة.
[21.88]
قوله تعالى: { فاستجبنا له ونجيناه من الغم }؛ أي أجبنا دعوته ونجيناه من تلك الظلمات، { وكذلك ننجي المؤمنين }؛ إذا دعوني، كما نجينا ذا النون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " اسم الله إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطي: دعوة يونس بن متى " قيل: يا رسول الله؛ هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: ليونس خاصة، وله وللمؤمنين عامة، أدعوا بها، ألم تسمع إلى قوله تعالى { وكذلك ننجي المؤمنين } ".
واختلفت القراءات في قوله { وكذلك ننجي المؤمنين } ، قرأ ابن عامر وأبو بكر: (نجي المؤمنين) بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء. وجميع النحويين حكموا على هذه القراءة باللفظ، وقالوا: هي لحن، ثم ذكر الفراء لها وجها فقال: أضمر المصدر في (نجي) أي نجي النجاء المؤمنين، كقولك: ضربت الضرب زيدا على إضمار المصدر؛ أي ضرب الضرب زيدا، وقال الشاعر:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب
لسب بذلك الجرو الكلابا
وممن صوب هذه القراءة أبو عبيد، وأما أبو حاتم السجستاني فإنه لحنها ونسب قارئها إلى الجهل وقال: (هذا لحن لا يجوز في اللغة، ولا يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله، إلا أن تقول: وكذك نجي المؤمنون، ولو قرأ ذلك لكان صوابا).
قال أبو علي الفارسي: (هذا إنما يجوز في سورة الشعراء، فإن قيل: لم كتب في المصاحف بنون واحدة؟ قيل: لأن الثانية لما سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفه، كما فعل ذلك في (ألا) فحذفوا النون من (أن لا) لخفائها إذا كانت مدغمة في اللام).
[21.89-90]
وقوله تعالى: { وزكريآ إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين }؛ أي واذكر دعاء زكريا إذ نادى ربه فقال رب لا تتركني وحيدا؛ أي ارزقني ولدا آنس به ويعينني على أمر الدين والدنيا، ويقوم بأمر الدين بعد وفاتي، وأنت وارث جميع الخلق؛ لأن مردهم صائرون إليك. قوله تعالى: { فاستجبنا له }؛ أي فأجبنا له دعاءه هذا، { ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه }؛ عقر امرأته، قال قتادة: (كانت عقيما فجعلناها ولودا)، وقيل: كانت سيئة الخلق فرزقها الله حسن الخلق.
وقوله تعالى: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات }؛ أي يبادرون إلى الطاعات مخافة أن يعرض لهم ما يشغلهم عنها، ويعني بذلك زكريا وامرأته ويحيى، وقال بعض المفسرين: الكناية تعود على الأنبياء الذين ذكرهم الله في هذه السورة. قوله تعالى: { ويدعوننا رغبا ورهبا }؛ أي طمعا في ثوابنا وخوفا من عقابنا، { وكانوا لنا خاشعين }؛ أي خاضعين حذرين.
[21.91]
قوله تعالى: { والتي أحصنت فرجها }؛ وهي مريم بنت عمران، { فنفخنا فيها من روحنا }؛ أي نفخ جبريل في جيب درعها بأمرنا، والمعنى: واذكر التي حفظت فرجها مما لا يحل.
وقوله تعالى: { وجعلناها وابنهآ آية للعالمين }؛ أي دلالة للعالمين من حيث أنها جاءت بالولد من غير بعل، تكلم في المهد بما يوجب براءة شأنها من العيب، وفي ذلك دليل على مقدورات الله، وعلى هذا لم يقل آيتين؛ لأن شأنهما في الدلالة كان واحدا.
[21.92]
قوله تعالى: { إن هذه أمتكم أمة واحدة } قال ابن عباس ومجاهد والحسن: (معناه إن هذا دينكم دين واحد) والأمة الدين، ومنه قوله
إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة
[الزخرف: 22] أي على دين. الأصل أنه يقال للقوم الذين يجتمعون على دين واحد: أمة، فتقوم الأمة مقام الدين. وهو نصب على الحال؛ أي حال اجتماعها على الحق. قوله تعالى: { وأنا ربكم فاعبدون }؛ أي لا دين سوى ديني ولا رب غيري.
[21.93]
قوله تعالى: { وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون }؛ معناه: كان أمرهم في الدين واحدا، ولكن تفرقوا واختلفوا بما لا يجوز؛ وهم اليهود والنصارى والمجوس. قوله تعالى: { كل إلينا راجعون } أي جميع أهل هذه الأديان راجعون إلى حكمنا يوم القيامة، فنجزيهم بأعمالهم.
[21.94]
قوله تعالى: { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه }؛ أي لا جحود لعمله، بل يتقبلها الله ويثني عليها، والمعنى: لا يمنع ثواب عمله، ولا يجحد إحسانه. قوله تعالى: { وإنا له كاتبون }؛ أي نأمر الحفظة أن يكتبوا لذلك العامل عمله لنجازيه عليه.
[21.95]
قوله تعالى: { وحرام على قرية أهلكناهآ أنهم لا يرجعون }؛ أي واجب على كل قرية اذا أهلكت لا ترجع إلى دنياها. قال الكلبي: (يعني بقوله { أهلكناهآ } عذبناها أنهم لا يرجعون إلى الدنيا). والمعنى: أن الله تعالى حكم على من أهلك أن يبقى في الأرض مدفونا إلى يوم القيامة، وأن لا يرجع إلى الدنيا. قرأ حمزة والكسائي: (وحرم) بكسر الحاء وجزم الراء من غير ألف، وهما لغتان مثل حل وحلان.
[21.96]
قوله تعالى: { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج }؛ أي إذا فتحت جهة يأجوج ومأجوج، وفتحها إخراجها من السد. قرأ ابن عامر ويعقوب: (فتحت) بالتشديد على التكثير.
وقوله تعالى: { وهم من كل حدب ينسلون }؛ أي من كل أكمة وربوة مرتفعة من الأرض يخرجون بإسراع، والحدب: الارتفاع ومنه الحدبة خروج الظهر، وتبينه. والنسول: هو الخروج بسرعة كنسلان الذئب يعني مشيه اذا أسرع فيها.
والمعنى: أنهم من كل نشر من الأرض يسرعون ويتفرقون في الأرض، فلا يرى أكمة إلا وفوقها قوم منهم يهبطون منها مسرعين، فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا بشيء إلا أفسدوه.
قال المفسرون: أولاد آدم عشرة أجزاء، تسعة يأجوج ومأجوج، وقد ذكرنا قصتهم في سورة الكهف.
[21.97]
قوله تعالى: { واقترب الوعد الحق }؛ قيل: إن الواو ها هنا مقحمة، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، يكون ذلك عند اقتراب الساعة، وذكر الوعد والمراد به الموعد.
روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة).
قوله تعالى: { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا }؛ أي تشخص أبصارهم يوم القيامة نحو الجهة التي يتوقعون نزول العذاب بهم منها. وقيل: خشعت أبصارهم من شدة الأهوال ذلك اليوم. قال الكلبي: (شخصت أبصارهم فلا تطيق تطرف من شدة الأهوال)، فأما الضمير في قوله { فإذا هي شاخصة } يعود إلى معلوم قد بينه وهو قوله { أبصار الذين كفروا } ، كقول الشاعر:
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي
إلا فر عني مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة ثم أظهرها ويكون تقدير الكلام: فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا. وقيل: يكون قوله (هي) عماد مثل قوله
فإنها لا تعمى الأبصار
[الحج: 46]. قوله تعالى: { يويلنا }؛ أي قالوا يا ويلنا؛ { قد كنا في غفلة من هذا }؛ اليوم في الدنيا، { بل كنا ظالمين }؛ لأنفسنا بالكفر.
[21.98]
قوله تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون }؛ معناه: إنكم يا أهل مكة وما تعبدون من الأصنام وقود جهنم. والحصب في اللغة: هو كل ما يرمى به، يقال: حصبة بالحصا إذا رماه بها، وفي القراءة الشاذة: (حضب جهنم) وهي قراءة ابن عباس، والحضب: ما يهيج به النار، ومنه قيل لدقاق النار حصب. وقرأ علي وعائشة: (حطب جهنم).
قوله تعالى: { أنتم لها واردون } أي فيها خالدون، والحكمة في إدخال الأصنام النار مع أنها لا ذنب لها في عبادة من يعبدها: أن يقصد بإدخالها تعذيب عبادها، فما كان منها حجرا أو حديدا يحمى فيلتزق بعبادها، وما كان منها خشبا جعل جمرة فيعذبون بها، أو يكون في إدخال معبودهم معهم في النار زيادة ذل وصغار عليهم.
[21.99]
قوله تعالى: { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها }؛ استجهالا لهم في عبادة الأصنام؛ أي لو كان الأصنام آلهة كما يزعم الكفار ما وردوها؛ أي دخل عابدوها النار، { وكل فيها خالدون }؛ يعني العابد والمعبود.
[21.100-101]
قوله تعالى: { لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون }؛ الزفير شدة النفس بهول ما يرد على صاحبه، وهم فيها لا يسمعون شيئا ، ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره. قال ابن مسعود: (يجعلون في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى فلا يسمعون شيئا).
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أتى قريشا وهم في المسجد مجتمعون وحولهم ثلاثمائة وستون صنما مصفوفة، لكل قوم صنم لهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " ثم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليهم ذلك، فأتاهم عبدالله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون، فقال: فيم حوصكم؟! فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته.
فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبعرى: أنت قلت أنا وما نعبد في النار؟ قال: خصمتك ورب الكعبة، أليست اليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد المسيح، وبني مليح يعبدون الملائكة! أفترى أن هؤلاء لا يكونون في النار؟ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أراد به الأوثان "
وفي الآية ما يدل على ذلك؛ لأن قوله تعالى
وما تعبدون
[الأنبياء: 98] لا يكون إلا لما لا يعقل، إذ لو أراد الملائكة والناس لقال (ومن تعبدون). ثم أنزل الله تعالى:
قوله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }؛ معناه: أن عيسى وعزيرا والملائكة هم الذين سبقت لهم منا الحسنى؛ أي وجبت لهم العدة من الله تعالى بالبشرى والسعادة.
ويدخل في هذه الآية جملة المؤمنين؛ لما روي أن عثمان سمع عليا كرم الله وجهه يقرأ هذه الآية { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } قال: (أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبدالرحمن وأبو عبيدة). وقال الجنيد: (سبقت لهم من الله العناية في الهداية، فظهرت الولاية في النهاية).
[21.102]
قوله تعالى:
أولئك عنها مبعدون
[الأنبياء: 101] منحون عن النار، { لا يسمعون حسيسها }؛ أي حسها وحركة تلهبها، والمعنى: لا يسمعون صوت النار، { وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون }؛ أي في ما اشتهت أنفسهم من نعيم الجنة مقيمون دائمون.
[21.103]
قوله تعالى: { لا يحزنهم الفزع الأكبر }؛ قال أكثر المفسرين: يعني إطباق جهنم على أهلها، وقال ابن عباس: (النفخة الأخيرة). وقيل: هو ذبح الموت بين الفريقين. وقيل: هو حين يؤمر بأهل النار إلى النار، وذلك حين يقال
وامتازوا اليوم أيها المجرمون
[يس: 59]. قوله تعالى: { وتتلقاهم الملائكة }؛ أي بالتهنئة على باب الجنة، فيقولون لهم: { هذا يومكم الذي كنتم توعدون }.
[21.104]
قوله تعالى: { يوم نطوي السمآء كطي السجل للكتب }؛ قال ابن عباس ومجاهد: (السجل هو الصحيفة تطوى بما فيها من الكتابة) واللام في قوله (للكتب): بمعنى (على)، وقال السدي: (هو ملك موكل بالصحف، إذا مات الإنسان رفع كتابه إليه فطواه). وقيل: إن السجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقال: هو الرجل بلغة الحبشة.
قرأ أبو جعفر: (تطوى السماء) بالتاء، ورفع (السماء) على ما لم يسم فاعله. وقرأ أهل الكوفة: (للكتب) على الجمع.
والمراد بطي السماء أن الله تعالى يطويها، ثم يفتحها ثم يعيدها، ولذلك قال: { كما بدأنآ أول خلق نعيده }؛ أي كما بدأناها أول مرة، نعيدها إلى الحالة الأولى. ويجوز أن يكون معنى قوله { كما بدأنآ أول خلق نعيده } نعيد الخلق للبعث كما بدأناه في النطفة، ودليل هذا القول قوله تعالى:
كما بدأكم تعودون
[الأعراف: 29].
والطي في هذه الآية يحتمل معنيين؛ أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى:
والسموت مطويات بيمينه
[الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو والطمس؛ لأن الله تعالى يمحو رسومها ويكدر نجومها. وقيل: معنى قوله تعالى { كما بدأنآ أول خلق نعيده }: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا، كذلك نعيدهم يوم القيامة.
قوله تعالى: { وعدا علينآ }؛ نصب على المصدر بمعنى: قد وعدناهم هذا وعدا، قوله تعالى: { إنا كنا فاعلين }؛ ما وعدناكم من ذلك، وقيل: فاعلين الإعادة والبعث.
[21.105]
قوله تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون }؛ أي كتبنا في زبور داود من بعد توراة موسى. وقال ابن عباس والضحاك: (الذكر التوراة ، والزبور الكتب المنزلة من بعد التوراة). وقيل: الزبور زبور داود، والذكر الفرقان، و(بعد) بمعنى (قبل) كقوله تعالى
وكان ورآءهم ملك
[الكهف: 79] أي أمامهم، وقوله
والأرض بعد ذلك دحاها
[النازعات: 30] أي قبل ذلك. قوله تعالى: { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } يعني أرض الجنة يرثها عبادي الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: جميع المؤمنين العاملين بطاعة الله.
[21.106]
قوله تعالى: { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين }؛ أي إن في هذا القرآن بلاغا للكفاية، والمعنى: أن من اتبع القرآن وعمل به كان بلاغه في الجنة، وقوله تعالى { لقوم عابدين }؛ قال كعب: (هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس، ويصومون شهر رمضان). وروي:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين } ، ثم قال: " هي الصلوات الخمس في الجماعة في المسجد الحرام " ".
[21.107]
قوله تعالى: { ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين }؛ معناه: وما أرسلناك يا محمد إلا نعمة للعالمين. قال ابن زيد: (يعني للمؤمنين خاصة)، وقال ابن عباس: (هو عام، فمن آمن به كتب له من الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي مما أصاب الأمم من المسخ والخسف والغرق). والمعنى: أنه كان إذا أرسل نبي من الأنبياء؛ فإن آمن به قومه وإلا عذبوا، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم فكان كل من كفر به يؤخر إلى يوم القيامة فهو نعمة على الكافر إذ عوفي مما أصاب الأمم من المسخ.
[21.108]
قوله تعالى: { قل إنمآ يوحى إلي }؛ أي قل لهم يا محمد: إنما يوحى إلي في القرآن؛ { أنمآ إلهكم إله واحد } وهو الله لا شريك له؛ { فهل أنتم مسلمون } يا أهل مكة مسلمون مخلصون له بالعبادة والتوحيد.
[21.109]
قوله تعالى: { فإن تولوا }؛ أي فإن أعرضوا عن قبول قولك، { فقل ءاذنتكم على سوآء }؛ أي أعلمتكم بالوحي من الله على سواء في الإعلام؛ أي لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره. وقيل: على سواء في العلم، إني حرب لكم لا صلح بيننا، وإني مخالف لدينكم فتأهبوا لما يراد بكم؛ إذ ليس العناد من أخلاق الأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله تعالى: { وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون }؛ أي ما أدري متى توعدون به من العذاب.
[21.110-111]
قوله تعالى: { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون }؛ معناه: إن الله يعلم ما تعلنون به من القول، ويعلم ما تكتمون من سركم، لا يغيب من علمه شيء منكم. قوله تعالى: { وإن أدري لعله فتنة لكم }؛ أي وما أدري لعل تأخير العذاب اختبار لكم؛ ليرى كيف صنعكم، { ومتاع إلى حين }؛ آجالكم؛ أي تمتعون إلى انقضاء آجالكم.
[21.112]
قوله تعالى: { قال رب احكم بالحق }؛ أي قل لهم يا محمد: رب احكم بعذاب أهل مكة الذي هو حق نازل بهم، والحق: ها هنا هو العذاب، كأنه استعجل العذاب لقومه، فعذبوا يوم بدر. قال قتادة:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال: " رب احكم بالحق "
، قال الكلبي: (فحكم عليهم بالقتل يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، ويوم الخندق). والمعنى: أفصل بيني وبين المشركين بما يظهر به من الحق للجميع.
وقرأ حفص: (قل رب احكم بالحق) على الخبر؛ أي قال الرسول ذلك. وقرأ الضحاك ويعقوب: (قيل رب احكم بالحق) بإثبات الياء على وجه الخبر؛ أي هو أحكم الحاكمين، وكيف يجوز أن يسأله أن يحكم بالحق، وهو لا يحكم إلا به.
قوله تعالى: { وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون }؛ أي على كذبكم وباطلكم وقولكم: ما هذا إلا بشر مثلكم، وقولكم: اتخذ الرحمن ولدا. والوصف بمعنى المكذب كقوله تعالى
سيجزيهم وصفهم
[الأنعام: 139]، وقوله
ولكم الويل مما تصفون
[الأنبياء: 18].
[22 - سورة الحج]
[22.1]
{ يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم }؛ قال ابن عباس: (يريد يا أهل مكة اتقوا ربكم، واحذروا عقابه إن زلزلة قيام الساعة شيء عظيم) أي هول عظيم، لا يوصف لفظه، والزلزلة: شدة الحركة مع الحال الهائلة.
[22.2]
قوله تعالى: { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت }؛ أي يوم ترون تلك الزلزلة تذهل في ذلك اليوم كل مرضعة عما أرضعت؛ أي تنسى. وقيل: تشتغل ، وقيل: تترك، يقال: ذهلت عن كذا إذا تركته. وقيل: معنى الآية: يوم ترون الزلزلة تشتغل كل مرضعة عن ولدها بغير فطام، { وتضع كل ذات حمل حملها } ، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وهذا إنما يكون على وجه التشبيه، والمعنى: أن لو كانت ثم مرضعة لذهلت عن ولدها، وحامل لوضعت حملها.
قوله تعالى: { وترى الناس سكارى }؛ أي من شدة الفزع والخوف من عذاب الله يتحيرون كأنهم سكارى، { وما هم بسكارى }؛ من الشراب، { ولكن عذاب الله شديد } والمعنى: ترى الناس كأنهم سكارى من ذهول عقولهم لشدة ما يمر بهم فيضطربون اضطراب السكران، وسكارى جمع سكران. وقرأ أهل الكوفة (سكري وسكرى) بغير ألف. قال الفراء: هو وجه جيد في العربية؛ لأنه بمنزلة الهلكى والجرحى والمرضى).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: يا آدم؛ قم فابعث بعث النار. فيقول: لبيك وسعديك؛ وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة. فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع الحامل ما في بطنها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ".
قالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل الذي يبقى؟ قال: " أبشروا؛ إني لأرجو أن يكون من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد " ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا وحمدنا، ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبرنا وحمدنا، ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، وأهل الجنة مائة وعشرون صفا، ثمانون منها أمتي " ثم قال صلى الله عليه وسلم: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، مع كل واحد سبعون ألفا " فقال عكاشة بن محيص: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: " أنت منهم " فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: " سبقك بها عكاشة " ".
[22.3-4]
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم }؛ قال ابن عباس: (نزلت في النضر بن الحارث: كان يكذب بالقرآن ويزعم أنه من أساطير الأولين، وكان كثير الجدل، ويقول: الملائكة بنات الله، ويزعم أن الله غير قادر على إحياء الموتى). والمعنى: ومن الناس من يخاصم في دين الله بغير علم ولا حجة، { ويتبع كل شيطان مريد }؛ أي متمرد على الله. قوله تعالى: { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله }؛ أي كتب عليه الشيطان إضلال من تولاه؛ { ويهديه } وهدايته إياه { إلى عذاب السعير }؛ وقيل: الهاء في قوله { كتب عليه } راجعة إلى من يتبع الشيطان فيتقبل منه.
[22.5]
قوله تعالى: { يأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث }؛ معناه: يا أهل مكة إن كنتم في شك من البعث بعد الموت، فتفكروا في ابتداء خلقكم فإن إعادتكم ليست بأشد من أول خلقكم، ثم بين ابتداء خلقهم فقال: { فإنا خلقناكم من تراب } أي خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه لحما ودما.
قوله تعالى: { ثم من نطفة }؛ أي ثم جعلناكم بعد ذلك من النطفة التي تكون من الذكر والأنثى، { ثم } خلقنا { من } تلك النطفة؛ { علقة }؛ وهي قطعة من الدم { ثم }؛ جعلنا العلقة { من مضغة }؛ وهي القطعة من اللحم، تسمى مضغة؛ لأنها مقدار ما يمضغ من اللحم.
قوله تعالى: { مخلقة وغير مخلقة }؛ أي تامة الخلق وغير تامة الخلق، وقيل: مصورة وغير مصورة، وهي السقط. قال عبدالله بن مسعود:
" إذا وقعت النطفة في الرحم؛ بعث الله ملكا يأخذها بكفه فيقول: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة؛ مجتها الأرحام دما، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ وما رزقها وما أجلها؟ وشقي أم سعيد؟ وبأي أرض تموت؟
فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد ذلك، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق فيستنسخها. فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فتذهب إلى المكان الذي كتب لها "
قوله تعالى: { لنبين لكم }؛ أي لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمنا في تصريفنا في الخلق.
وقوله تعالى: { ونقر في الأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى }؛ أي ونترك في الأرحام ما نشاء من الولد إلى وقت التمام ولا نسقطه. وروي عن عاصم: (ونقر) بالنصب على العطف، وقراءة الباقين بالرفع على معنى: ونحن نقر. قوله تعالى: { ثم نخرجكم طفلا }؛ أي ثم نخرجكم من الأرحام طفلا صغارا، وإنما لم يقل أطفالا لأنه لم يخرجهم من أم واحدة، ولكن يخرجهم من أمهات شتى، كأنه قال: ثم نخرج كل واحد منكم طفلا.
قوله تعالى: { ثم لتبلغوا أشدكم }؛ أي ثم لنعمركم لتبلغوا أشدكم بمعنى الكمال والقوة، { ومنكم من يتوفى }؛ قبل بلوغ الأشد، { ومنكم من }؛ يعمر حتى { يرد إلى أرذل العمر }؛ أي هوانه وأخسه وهو الهرم والخرف. قوله تعالى: { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا }؛ أي لكيلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا.
قوله تعالى: { وترى الأرض هامدة }؛ هذه دلالة أخرى تدلهم على إحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة، والهامدة: هي اليابسة الجافة، كأنه قال: وترى الأرض يابسة جافة ذات تراب كالنار إذا اطفئت ورمدت، { فإذآ أنزلنا عليها المآء }؛ أي على الأرض، { اهتزت وربت }؛ أي تحركت بالنبات، وازدادت وأضعفت النبات، وذلك أن الأرض ترتفع على النبات، فذلك تحريكها، وهو معنى قوله { وربت } أي ارتفعت وزادت وانتفخت للنبات، من ربا يربو إذا ازداد.
قوله تعالى: { وأنبتت من كل زوج بهيج }؛ أي وأخرجت أكما من كل لون حسن البهجة، ومن كل صنف مؤنق العين، والبهيج الحسن. قال الله تعالى:
وأنزل لكم من السمآء مآء فأنبتنا به حدآئق ذات بهجة
[النمل: 60].
[22.6-7]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى }؛ أي ذلك الذي وصفناه من تعريف الخلق على هذه الأحوال في إحياء الأرض الميتة؛ لتعلموا وتقروا بأن الله هو المستحق لصفات التعظيم، وهو الإله الواحد الذي يقدر على كل شيء.
قوله تعالى: { وأنه يحيي الموتى } أي ويدلكم على أنه يحيي الموتى كما أحياكم ابتداء، { وأنه على كل شيء قدير } ، وبأنه على كل شيء من الإيجاد والإعدام قدير، ويدلكم { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }؛ للحسنات والجزاء.
[22.8]
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير }؛ نزلت في النضر بن الحارث أيضا، وقيل: نزلت في أبي جهل، ومعناه: يجادل ليحق الباطل، ويبطل ما دل عليه الدليل بغير معرفة ودليل ولا كتاب منير فيه حجة ما يقول.
[22.9]
قوله تعالى: { ثاني عطفه }؛ أي لاوي عنقه متكبرا معرضا عن ما يدعى إليه كبرا، وهو منصوب على الحال، والمعنى: ومن الناس من يجادل في الله متكبرا شامخا بأنفه، { ليضل عن سبيل الله }؛ أي عن دين الله وطاعته.
وقوله تعالى: { له في الدنيا خزي }؛ أي عقوبة بالمذمة والقتل، { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق }؛ أي عذاب النار، فقتل النضر بن الحارث يوم بدر أسيرا، ومن قال: نزلت في أبي جهل فهو قتل أيضا يوم بدر.
[22.10]
قوله تعالى: { ذلك بما قدمت يداك }؛ مبالغة في إضافة الخزي إليه، { وأن الله ليس بظلم للعبيد }؛ ظاهر المعنى، فإن قيل: لم قال الله تعالى { بظلام } على صفة المبالغة وهو لا يظلم مثقال ذرة؟ فقيل: تعالى إنه لو فعل أقل قليل الظلم، لكان عظيما منه.
[22.11]
قوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآيات في أناس من بني أسد بن خزيمة، أصابتهم سنة شديدة فأجدبوا فيها، فمضوا بعيالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرين، فكانوا إذا أعطوا من الصدقة، وأصابوا خيرا اطمأنوا بذلك وفرحوا به، وإن أصابهم وجع وآفة، وولدت نساؤهم البنات، وتأخرت عنهم الصدقة، قالوا: ما أصابنا مذ كنا على هذا الدين إلا شر، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة).
ومعنى الآية { ومن الناس من يعبد الله على حرف } أي على ضعف في العبادة، لضعف القيام على الأحرف لا يدخل في الدين على ثبات وتمكن. وقيل: معناه: على شك كأنه قائم على حرف جدار وطرف جبل، لا يدخل في الدين على ثبات ويقين وطمأنينة، فهو كالمضطرب على شفا جرف، { فإن أصابه خير }؛ رخاء وعافية وسعة، { اطمأن به } على عبادة الله بذلك الخير، { وإن أصابته فتنة }؛ أي محنة تضييق العيش ونحو ذلك، { انقلب على وجهه }؛ أي رجع إلى دينه الأول وهو الشرك بالله. قوله تعالى: { خسر الدنيا والأخرة }؛ أي خسر في الدنيا العز والغنيمة، وفي الآخرة الجنة، { ذلك هو الخسران المبين }؛ أي الظاهر. قرأ الأعرج ويعقوب: (انقلب على وجهه خاسرا الدنيا والآخرة) بالألف (والآخرة) بالخفض، ونصب (خاسر) على الحال.
[22.12-13]
قوله تعالى: { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه }؛ أي يعبد من دون الله ما لا يضره إن ترك عبادته، ولا ينفعه إن عبده، { ذلك هو الضلال البعيد }؛ عن الحق والرشد، { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه }؛ أي يدعو ما لا نفع له أصلا، ومن عادة العرب أنهم يقولون لشيء لا منفعة فيه: لضرره أكثر من نفعه، كما يقولون لشيء لا يكون أصلا: هذا بعيد. قوله تعالى: { لبئس المولى }؛ أي بئس الناصر، وقوله تعالى: { ولبئس العشير }؛ أي بئس الصاحب والمعاشر، يعني الصنم.
واختلفوا في اللام في قوله { لمن ضره }: قيل معناه التأخير كأنه قال: يدعو من والله لضره أقرب من نفعه، وإنما قدمت اللام للتأكيد، ونظير هذا قولهم: عندي لما غيره خير منه، معناه: عندي ما لغيره خير منه. وقيل { لمن ضره } كلام مبتدأ وخبره { لبئس المولى ولبئس العشير } ، ويكون المعنى الذي هو الضلال البعيد يدعوه، فهذا حد الكلام وما بعده كلام مستأنف. وقيل: هذه اللام صلة؛ أي يدعو من ضره أقرب من نفعه.
[22.14]
قوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ ظاهر المعنى، { إن الله يفعل ما يريد }؛ بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة، وبأهل معصيته من الهوان.
[22.15]
قوله تعالى: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السمآء }؛ الآية، معناه: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم فليطلب سببا يصل به إلى السماء، { ثم ليقطع }؛ نصرة الله لنبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، { فلينظر هل يذهبن كيده }؛ أي يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة، فكما لا يمكنه أن يحتال في الوصول إلى السماء، كذا لا يمكنه الحيلة في قطع نصر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معناه: من كان يظن أن لن ينصر الله النبي صلى الله عليه وسلم حتى يظهر على الدين، فليمت غيظا. وقيل: إن الهاء راجعة إلى { من كان يظن } كأنه قال: من كان يظن أن لن يرزقه الله فليمدد بحبل إلى سقف بيته وأضفى ذلك على حلقه مخنقا نفسه ليذهب غيظ نفسه.
وهذا مثل ضرب لهذا الجاهل؛ أي مثل هذا الذي يظن أن لن يرزقه الله على سبيل السخط مثل من فعل هذا الفعل بنفسه، هل كان ذلك إلا زائدا في ثلاثة؟ وهل تذهب حقيقة نفسه غيظه في رزقه؟ وإنما ذكر النصرة بمعنى الرزق؛ لأن العرب تقول: من ينصرني نصره الله؛ أي من يعطيني أعطاه الله. قوله تعالى: { ما يغيظ }؛ (ما) بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبن كيده وحيلته غيظه.
[22.16]
قوله تعالى: { وكذلك أنزلناه آيات بينات }؛ أي وكذلك أنزلنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم دلالات واضحات، { وأن الله يهدي }؛ إلى النبوة، { من يريد }؛ وقيل: يهدي إلى الدين وإلى الثواب.
[22.17]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا }؛ أي إن الذين آمنوا بمحمد والقرآن وجميع أصناف الكفار من اليهود، { والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم }؛ بين هؤلاء الفرق الخمس وبين المؤمنين، { يوم القيامة }؛ بأن يدخل المؤمنين الجنة، وتلك الفرق النار، { إن الله على كل شيء شهيد }؛ أي عليم بكل شيء من أعمال هؤلاء.
[22.18]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله يسجد له من في السموت }؛ ألم تعلم يا محمد أن الله يسجد له أهل السماوات من الملائكة، { ومن في الأرض }؛ من الجن والإنس من المؤمنين.
قوله تعالى: { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب }؛ يسجدون لله؛ أي يخضعون؛ لأن سجود هذه الأشياء خضوعها وانقيادها لخالقها فيما يريد منها. وقال أبو العالية: (ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا وهو يسجد لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له).
قوله تعالى: { وكثير من الناس }؛ أي وكثير من الكفار الذين سيؤمنون من بعد، وانقطع ذكر الساجدين ثم استثناه فقال: { وكثير حق عليه العذاب }؛ أي ممن لا يوحده وأبى السجود، وقوله تعالى: { ومن يهن الله فما له من مكرم }؛ أي من يهن الله بالشقاء، فما أحد يكرمه بالسعادة، { إن الله يفعل ما يشآء }؛ من الإهانة والكرامة والشقاوة والسعادة، وهو المالك للعقوبة والمثوبة.
[22.19-20]
قوله تعالى: { هذان خصمان اختصموا في ربهم }؛ أراد بالخصمين المؤمنين والكفار، وقيل: أهل الكتاب وأهل القرآن، والمعنى: اختصموا في دين ربهم، فقالت اليهود والنصارى: نحن أولى بالله منكم؛ لأن نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم، آمنا بكتابنا وكتابكم ونبينا ونبيكم، وأنتم كفرتم بنبينا حسدا.
وقيل: أراد بالخصمين الفريقين الذين تبارزوا يوم بدر. والخصم يقع على الواحد والجميع، ألا ترى أنه جعل الكفار خصما، والمؤمنين خصما، ولهذا قال (اختصموا)؛ لأنهما جمعان وليس برجلين. وكان أبو ذر رضي الله عنه يقسم أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر بثلاثة من المؤمنين وهم: (حمزة؛ وعلي؛ وعبيدة بن الحارث) وثلاثة من المشركين وهم: (عتبة؛ وشيبة؛ والوليد بن عتبة)، قال: وقال علي رضي الله عنه: (إني لأول من يبعث للخصومة يوم القيامة بين يدي الله عزوجل).
قوله تعالى: { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار }؛ أي نحاس قد أذيب في النار فيجعل على أبدانهم بمنزلة الثياب، وليس شيء إذا حمي أشد حرا من النحاس، { يصب من فوق رءوسهم الحميم }؛ وهو الماء الحار الذي قد انتهى حره، قوله تعالى: { يصهر به ما في بطونهم والجلود }؛ أي يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم ما في بطونهم من الشحوم حتى يخرج من أدبارهم، وتذاب به الجلود أيضا، فإن جلودهم تتساقط من حر الحميم. والصهر الإذابة، يقال: صهرت الإلية بالنار أصهرها؛ أي أذبتها.
[22.21]
قوله تعالى: { ولهم مقامع من حديد }؛ المقامع جمع مقمعة؛ وهي مدقة الرأس. روي أن الملائكة يضربون وجوههم بأعمدة من حديد، فيهوون في النار سبعين خريفا. قال مقاتل: (تضرب الملائكة رأس الكافر بالمقمعة فينقب رأسه، ثم يصب فيه الحميم الذي انتهى حره، فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوف الكافر، فيسلت ما في جوفه من الأمعاء حتى يحرق قدميه).
[22.22-23]
قوله تعالى: { كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها }؛ أي كلما رفعتهم النار بلهبها فحاولوا الخروج منها في غم العذاب أعيدوا في النار بضرب المقامع، وقيل لهم: { وذوقوا عذاب الحريق }؛ أي المحرق مثل الأليم بمعنى المؤلم.
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى { ولهم مقامع من حديد } قال: " لو وضع مقمع من حديد على الأرض، ثم اجتمع عليه الثقلان ما رفعوه من الأرض " ".
ثم ذكر الله الخصم الآخر فقال: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا }؛ قد تقدم تفسيره في سورة الكهف.
قرأ أهل المدينة وعاصم: (ولؤلؤا) بالنصب على معنى (يحلون فيها لؤلؤا)، ومن قرأ بالخفض كان المعنى (يحلون فيها من أساور من لؤلؤ).
وقوله تعالى: { ولباسهم فيها حرير }؛ ظاهر المراد. قال أبو سعيد الخدري:
" من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو "
[22.24]
قوله تعالى: { وهدوا إلى الطيب من القول }؛ أي هدوا في الدنيا إلى القول الطيب، وهو قول لا إله إلا الله، وقيل: إلى القرآن. قوله تعالى: { وهدوا إلى صراط الحميد }؛ فالله الحميد، والصراط: طريق الجنة. والمعنى: أرشدوا إلى الإسلام. ويجوز أن يكون (الحميد) نعتا للصراط كما في قوله تعالى
حق اليقين
[الواقعة: 95]. وقيل: معنى الآية: وأرشدوا إلى القول الطيب في الآخرة مثل قول الله تعالى:
الحمد لله الذي صدقنا وعده
[الزمر: 74].
[22.25]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله }؛ معناه: إن الذين كفروا بمحمد والقرآن { ويصدون عن سبيل الله } عطف المضارع على المضاف؛ لأن المراد بالمضارع الماضي أيضا. ويجوز أن يكون المعنى الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون عن سبيل الله مع كفرهم، والمعنى: يمنعون الناس عن طاعة الله وعن الطواف في { والمسجد الحرام }؛ وهم أبو سفيان وأصحابه الذين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية.
قوله تعالى: { الذي جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد }؛ معناه: الذي جعلناه للناس كلهم، لم يخص به بعضهم دون بعض سوى المقيم فيه، والذي يأتي من غير أهله، وليس الذين صدوا عنه بأحق به من غيرهم.
قيل: المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الحرم كله، كما في قوله تعالى:
إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام
[التوبة: 7] وكان العهد بالحديبية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن مكة لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها "
وقيل: إن المراد بالمسجد الحرام نفس المسجد سوى المعتكف فيه: المجاور والبادي الذي يكون ملازما له في حرمته وحق الله عليهما فيه سواء.
قرأ حفص: (سواء) بالنصب بإيقاع الجعل عليه، لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين. وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء، وما بعده خبره. وقيل: (سواء) خبر مبتدأ متقدم تقديره: العاكف فيه والبادي سواء.
قوله تعالى: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم }؛ معناه: ومن يرد فيه إلحادا بظلم، وفي هذا دليل أن المراد بالمسجد الحرام كل الحرم، فإن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره، فعلى هذا يكون قوله { سوآء العاكف فيه والباد } أي سواء في النزول، فليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه. وحرموا بهذه الآية كراء دور مكة وإجارتها في أيام الموسم.
قال عبدالله بن أسباط: (كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة أحق بمنزله منهم)، روي: (أنها كانت تدعى السوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن).
والإلحاد هو الشرك بالله تعالى، وقيل: كل ظالم فيه ملحد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" احتكار الطعام بمكة إلحاد "
وأما دخول الباء في قوله: (بإلحاد) فعلى معنى: ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم. وقيل: الإلحاد دخول مكة بغير إحرام، وأخذ حمام مكة وأشياء كثيرة لا يجوز للمحرم أن يفعلها. قوله تعالى: { نذقه من عذاب أليم } خبر لكل ما تقدم من الجملتين من قوله تعالى { إن الذين كفروا ويصدون } ، ومن قوله تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }.
[22.26]
قوله تعالى: { وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا }؛ معناه: واذكروا إذ جعلنا البيت مثوى لإبراهيم ومنزلا. قال الحسن: (بوأناه نزلناه)، وقال مقاتل: (دللناه عليه)، وقيل: هيأنا، نظيره
تبوىء المؤمنين
[آل عمران: 121]،
وبوأكم في الأرض
[الأعراف: 74]،
لنبوئنهم من الجنة غرفا
[العنكبوت: 58]، وقيل: معنى (بوأنا) أي بينا له مكان البيت.
قال السدي: (لما أمر الله تعالى ببناء البيت لم يدر إبراهيم أين يبني، فبعث الله إليه ريحا، فكشفت له ما حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل أن يرفع أيام الطوفان)، وقال الكلبي: (فبعث الله إليه سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم فقامت بحيال البيت، وقالت: يا إبراهيم إبن على قدري)، قوله تعالى: { أن لا تشرك بي شيئا } أي قلنا له وأوحينا إليه أن لا تعبد معي غيري.
قوله تعالى: { وطهر بيتي للطآئفين والقآئمين والركع السجود } أي طهر من ذبائح المشركين، ومما كانوا يطرحون حوله من الدم والفرث، وقيل: طهره من عبادة الأوثان، ومن دخول المشركين فيه. قوله تعالى: { للطآئفين } الذين يطوفون حوله، وأما القائمون الركع السجود فهم المصلون.
[22.27]
قوله تعالى: { وأذن في الناس بالحج }؛ أي وعهدنا إلى إبراهيم أيضا أن أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا، فقال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعلي البلاغ، فصعد أبا قبيس، ونادى في الناس: ألا إن ربكم قد بنى بيتا، وأمركم أن تحجوه فحجوه، فاسمع الله نداءه جميع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وما بين المشرق والمغرب، والبر والبحر، فلباه كل حجر ومدر، وكل مؤمن ومؤمنة في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، قالوا: لبيك اللهم لبيك، فجعل الله التلبية شعارا للحج، فكل من حج فهو ممن أجاب إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: { يأتوك رجالا وعلى كل ضامر }؛ معناه: يأتوك مشاة على أرجلهم وعلى كل جمل مهزول أضمره السفر، ورجال جمع راجل، نحو صاحب وأصحاب. وعن ابن عباس أنه قال: (ما ندمت على شيء فاتني إلا أني لم أحج راجلا)، وقد حج الحسن بن علي رضي الله عنهما خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة إلى مكة، وأن النجائب لتقاد معه.
وعن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال للحجاج:
" " للراكب كل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم " قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: " الحسنة بمائة ألف " ".
قوله تعالى: { يأتين من كل فج عميق }؛ أي من بلدان شتى، من كل طريق بعيد، يقال عميقة إذا كانت بعيدة القرار. وإنما قال (يأتين)؛ لأنه في معنى الجمع، وقيل: معناه: وعلى ناقة ضامرة.
وعن بشر بن محمد قال: رأيت في الطواف كهلا قد أجهدته العبادة، واصفر لونه، وبيده عصا وهو يطوف معتمدا عليها، فتقدمت إليه لأسأله، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من خراسان، قال: من أي ناحية هي؟ قلت: من نواحي المشرق، فقال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: شهرين أو ثلاثة، قال: أفلا تحجون في كل عام وأنتم جيران البيت؟ قلت: وأنتم كم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال: مسيرة خمس سنين، فقلت: والله إن هذا الجهد لبين، والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول:
زر من هويت وإن شاطت بك الدار
وحال من زرته حجب وأستار
لا يمنعنك بعدا من زيارته
إن المحب لمن يهواه زوار
[22.28]
وقوله تعالى: { ليشهدوا منافع لهم }؛ أي ليشهدوا ما ندبهم الله إليه مما لهم فيه نفع آخرتهم، ويدخل في ذلك منافع الدنيا من التجارة بيعا ورخصة. قال ابن جبير: (يعني بالمنافع التجارة)، وقال مجاهد: (هي التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة).
وعن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول إذا وقف بعرفة: (اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك، وذكرت المنفعة على شهود مناسكك، وقد جئتك فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن تقيني عذاب النار).
قوله تعالى: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }؛ قال الحسن: (الأيام المعلومات العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق)، وإنما قال لها معدودات؛ لأنها قليلة، وقيل لتلك المعلومات الحرص على علمنا بحسابها من أجل وقف الحج في آخرها، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: (الأيام المعلومات أيام النحر وهي ثلاثة أيام، والأيام المعدودات أيام التشريق وهي ثلاثة بعد اليوم الأول من أيام النحر، فيكون اليوم الأول من أيام النحر من المعلومات دون المعدودات، واليوم الآخر من أيام التشريق من المعدودات دون المعلومات، ويومين من وسطها من المعلومات والمعدودات جميعا)، وكان يستدل على هذا القول في الأيام بهذه الآية، فإنه تعالى قال: { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ، فاقتضى ظاهره أن المراد التسمية على ما ذبح من بهيمة بالمتعة والقران.
وأما على قول أبي حنيفة، فالمراد بالذكر إكثار الذكر في أيام العشر، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما من أيام العمل الصالح أفضل فيهن من أيام التشريق، فأكثروا فيها من التحميد والتكبير والتهليل "
وعلى هذا يكون معنى { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } لما رزقتهم من بهيمة الأنعام، كما قال
ولتكبروا الله على ما هداكم
[البقرة: 185] أي لما هداكم، وقال محمد بن كعب: المعلومات والمعدودات واحد). قوله تعالى: { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم.
قوله تعالى: { فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير }؛ قال الحسن: (وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا ذبحوا لطخوا وجه الكعبة، وشرحوا اللحم فوضعوه على الحجارة حتى تأكله السباع والطير، وقالوا: لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله.
فلما جاء الإسلام قال الناس: يا رسول الله كنا نضعه في الجاهلية ألا نضعه الآن؟ فنزلت هذه الآية). { فكلوا منها } يعني الأنعام التي تنحرون، { وأطعموا البآئس } وهو الذي قد أصابه ضرر الجوع، و { الفقير } الذي لا شيء له. وقيل: البائس الذي بين عليه أثر البؤس بأن يمد يده إليك. وقيل: البائس الزمن . وإنما خصص البائس الفقير؛ لأنه أحوج من غيره.
[22.29]
قوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم }؛ قال ابن عباس: (التفث هو المناسك كلها)، والمراد ها هنا رمي الجمار والحلق، ويقال: قضاء التفث إزالة الشعث، وفي هذا دليل على أن المراد بقوله { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } دم المتعة والقران؛ لأن الله تعالى رتب عليه قضاء التفث والطواف بالبيت الحرام، لا دم ترتب على هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران، فذكر هذه الآية في جواز الأكل مما يذبح. وقيل: التفث هو الوسخ والقذر من طول الشعر والأظفار، وقضاؤه وإذهابه وإزالته.
قوله تعالى: { وليوفوا نذورهم }؛ يعني نحر ما نذروا من البدن، وقيل: يعني ما نذروا من أعمال البر في أيام الحج، وربما نذر الرجل أن يتصدق إن رزقه الله لقاء الكعبة. قوله تعالى: { وليطوفوا بالبيت العتيق }؛ يعني طواف الزيارة بعد التروية، أما يوم النحر وما بعده فيسمى طواف الإفاضة. والعتيق القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس. وقيل:
" أعتق من أيدي الجبابرة، فلا يظهر عليه جبار قط إلا أذله الله "
وعن ابن عباس قال:
" حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتى وادي عسفان قال: " لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات حمر خطمهن الليف، يحجون البيت العتيق " ".
[22.30]
قوله تعالى: { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه }؛ أي ذلك الذي أمرتم به، ومن يعظم حرمات الله باجتناب ما حرم الله تعظيما لله فهو خير له في الآخرة من ترك استعظامه. وقال بعضهم: الحرمات ها هنا البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمسجد الحرام. قوله تعالى: { فهو خير له } أي قال: المعظم خير له عند ربه من التهاون، يعني في الآخرة.
قوله تعالى: { وأحلت لكم الأنعام }؛ أي رخصت لكم بهيمة الأنعام أن تأكلوها، { إلا ما يتلى عليكم }؛ في كتاب الله من الميتة والدم وغير ذلك مما بينه الله في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومما لم يذكر اسم الله عليه. وقيل: معناه: وأحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم إلا ما يتلى عليكم من الصيد، فإنه حرام في حال الإحرام.
قوله تعالى: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان }؛ أي فاجتنبوا عبادتها وتعظيمها وأن تذبحوا لها، كما يفعل المشركون، سماها رجسا استقذارا لها واستخفافا لها، وذلك أن المشركين كانوا ينحرون هداياهم، ويصبون عليها الدماء، وكانوا مع هذه النجاسات يعظمونها.
ويجوز أن يكون سماها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأنجاس. وأما حرف (من) في قوله (من الأوثان) لتخصيص جنس من الأجناس، والمعنى: فاجتنبوا الرجس الذي هو من وثن.
قوله تعالى: { واجتنبوا قول الزور }؛ يعني قول الكذب، ومن أعظم وجوه الكذب الكفر بالله، والكذب على الله، ويدخل في ذلك شهادة الزور، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" شاهد الزور لا تزول قدماه من مكانها حتى تجب له النار ".
[22.31]
قوله تعالى: { حنفآء لله غير مشركين به }؛ أي مخلصين لله مستقيمين على أمره غير مشركين في تلبية ولا حج، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكا تملكه يعنون الصنم. وانتصب قوله: { حنفآء } على الحال.
قوله تعالى: { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السمآء }؛ أي سقط من السماء، { فتخطفه الطير }؛ في الهواء فتمزقه، أو تذهب به الريح في موضع بعيد؛ أي منحدر فيقع على رأسه فيهلك، أي كما أن الذي سقط من السماء لا يملك نفعا ولا دفع ضر، وكذلك الذي تهوي به الريح في مكان سحيق، وكذلك المشرك لا ينتفع بشيء من أحماله ولا يقدر على شيء منها.
قرأ أهل المدينة (فتخطفه الطير) بالتشديد أي فتتخطفه، فأدغم أحد التائين في الأخرى، والخطف: الأخذ بسرعة. قال ابن عباس: (يريد يخطف لحمه)، { أو تهوي به الريح }؛ أي تسقطه، { في مكان سحيق }؛ أي بعيد. شبه حال المشرك بحال هذا الهاوي من السماء في أنه لا يملك حيلة حتى يسقط فهو هالك لا محالة، إما بإسلاب الطير، وإما بالسقوط في المكان السحيق.
[22.32]
قوله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله }؛ أي ذلك التباعد والهلاك لمن أشرك بالله، من يعظم شعائر الله؛ أي مناسك الله. وقيل: أراد بالشعيرة البدن، فمن عظمها باستمنانها واستحسانها، { فإنها من تقوى القلوب }؛ يعني من صفاوة القلوب. وإنما أضاف التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب.
[22.33]
قوله تعالى: { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى }؛ أي لكم في بهيمة الأنعام المنافع تركبوها، وتشربون ألبانها قبل أن تشعروها وتسموها هديا إلى أن تقادوها، وسموها هديا، وأما إذا قلدوها وسموها هديا انقطعت هذه المنافع فلا يجوز له حينئذ شرب ألبانها ولا خز أصوافها ولا بيع أولادها.
وأما ركوبها عند الشافعي يجوز إذا لم يضر بها، وعندنا لا يجوز إلا اذا اضطر إليه. وعن أبي هريرة
" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يسوق بدنة، فقال له: " ويحك! اركبها " فقال له: إنها بدنة، فقال: " ويحك! اركبها " "
، وهذا عندنا محمول على أنه عليه السلام إنما أباحه لضرورة علمه من الرجل فأذن له في ذلك إن لم يجد ظهرا غيرها، يدل على ذلك أنه لا يجوز له أن يوجهها للركوب.
قوله تعالى: { ثم محلهآ إلى البيت العتيق }؛ يعني أن نحرها إلى الحرم، وعبر عن الحرم بالبيت؛ لأن حرمة الحرم متعلقة بالبيت، كما قال تعالى
هديا بالغ الكعبة
[المائدة: 95]، ومن المعلوم أنه لا يذبح عند البيت.
[22.34]
قوله تعالى: { ولكل أمة جعلنا منسكا }؛ أي لكل أمة مسلمة سبقت قبلكم جعلنا لها عيدا، قوله تعالى: { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام }؛ عند الذبح. وقيل: معناه: ولكل أمة جعلنا عبادة في الذبح. وقيل: معناه: جعلنا متعبدا يعبدون الله فيه.
قرأ أهل الكوفة (منسكا) بكسر السين؛ أي مذبحا وهو موضع القربان، وقرأ الباقون بفتح السين على المصدر مثل المدخل والمخرج؛ أي هراقة الدم أو ذبح القربات، فمن فتح السين أخذه من نسك ينسك مثل دخل يدخل، ويستوي فيه المكان والمصدر، ومن كسرها أخذه من نسك ينسك مثل جلس يجلس.
قوله تعالى: { فإلهكم إله واحد فله أسلموا }؛ أي أخلصوا دينكم وأعمالكم لله تعالى، { وبشر المخبتين }؛ أي المتواضعين بالجنة، واشتقاق المخبتين من الخبت وهو المكان المطمئن، وقال مجاهد: (يعني المخبتين: المطمئنين إلى الله)، وقال الأخفش: (الخاشعين)، وقيل: الخائفين، وقيل: هم الذين إذا ظلموا لا ينصرون.
[22.35]
قوله تعالى: { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }؛ أي إذا خوفوا بالله خافوا. قوله تعالى: { والصابرين على مآ أصابهم }؛ أي وبشر الصابرين على ما أصابهم من البلايا والنوائب الشدائد، وبشر { والمقيمي الصلاة }؛ في أوقاتها، وحذفت النون لطول الاسم، قوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون }؛ أي يتصدقون من الواجب وغيره.
[22.36]
قوله تعالى: { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله }؛ جمع بدنة وهي الناقة والبقرة، والبدانة الضخامة، والمعنى: والإبل جعلناها لكم من أعلام دين الله؛ أي جعلناها لكم فيها عبادة لله من سوقها إلى البيت وتقليدها وإشعارها ونحرها والإطعام منها، قوله تعالى: { لكم فيها خير }؛ يعني النفع في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: { فاذكروا اسم الله عليها صوآف }؛ أي عند نحرها، وصواف جمع الصافة وهي القائمة على ثلاث قوائم قد عقلت، وكذا السنة في الإبل، ومعنى الآية: فاذكروا اسم الله على نحرها قياما معقولة إحدى يديها وهي اليسرى. وعن يحيى بن سالم قال: (رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها) يعني اليسرى.
وروي عن ابن مسعود كان يقول: (صوافن) بالنون وهي المعقولة، من قولهم: صفن الفرس إذا قام على ثلاث قوائم، قال الله تعالى:
الصافنات الجياد
[ص: 31]. وقرأ الحسن ومجاهد: (صوافي) بالياء أي صافية خالصة لله تعالى.
قوله تعالى: { فإذا وجبت جنوبها }؛ أي سقطت بعد النحر، فوضعت جنوبها على الأرض وخرجت روحها، { فكلوا منها }؛ ولا يجوز الأكل من البدن إلا بعد خروج الروح، لأن ما بين عن الحي فهو ميت. وأصل الوجوب الوقوع، ومنه وجبت الشمس إذا وقعت في المغيب، ووجب الحائط إذا وقع، ووجب القلب إذا وقع فيه الفزع، ووجب الفعل إذا وجب ما يلزم به فعله. قوله تعالى: { فكلوا منها } أمرنا بإباحة ورخصة مثل قوله:
وإذا حللتم فاصطادوا
[المائدة: 2]، وقوله تعالى
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
[الجمعة: 10].
قوله تعالى: { وأطعموا القانع والمعتر }؛ اختلفوا في معناها، فروي عن ابن عباس ومجاهد: (أن القانع هو الذي يقنع ويرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يعترض لك أن تطعمه من اللحم)، يقال: قنع قناعة إذا رضي قانع، وعراه واعتراه إذا سأله، وكذلك قال عكرمة وقتادة: (إن القانع هو المتعفف الجالس في بيته، والمعتر السائل الذي يعتريك ويسألك).
قال سعيد بن جبير والكلبي: (القانع هو الذي يسأل، والمعتر هو الذي يتعرض لك ويريك نفسه ولا يسألك)، فعلى هذا يكون القانع من القنوع وهو السؤال، يقال منه: قنع الرجل يقنع إذا ذهب يسأل، مثل ذهب فهو قانع. قال الشماخ:
كمال المرء يصلحه فيغنى
مفاقره أعف من القنوع
أي من السؤال. وقال زيد بن أسلم: (القانع هو المسكين الذي يطوف فيسأل، والمعتر الصديق الزائر، والمعتر الذي يعتري القوم للحمهم وليس بمسكين إلا أنه ليست له ذبيحة، يأتي القوم لأجل لحمهم).
وقرأ الحسن: (والمعتري) بالياء من قولهم: اعتراه إذا غشيه لحاجته. وروى عطاء عن ابن عباس: (أن القانع الذي يسأل، والمعتر الذي يأتيك بالسلام، ويريك وجهه، ولا يسأل)، وعن مجاهد: (أن القانع جارك الغني، والمعتر الذي يعتريك من الناس).
فعلى هذا تقتضي الآية: أن المستحب أن يتصدق بالثلث؛ لأن في الآية أمر بالأكل وإعطاء الغني وإعطاء الفقير السائل.
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحرم: " الأضاحي كلوا وادخروا " "
، وقال تعالى:
فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير
[الحج: 28]، فإذا جمعت بين الآية والخبر جعل الثلث للصدقة.
قوله تعالى: { كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون }؛ أي مثل ما وصفنا من نحرها وقيامها سخرناها لكم؛ أي ذللناها لكم؛ لتتمكنوا من نحرها على الوجه المسنون؛ لكي تشكروا نعم الله تعالى.
[22.37]
قوله تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولكن يناله التقوى منكم } قال الكلبي: (كان أهل الجاهلية ينحرون البدن للأصنام ويلطخون البيت بدمائها قربة إلى الله فنهى عن ذلك). والمعنى: لن يرفع الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يرفع إلى الله منكم الأعمال الصالحة والتقوى، وهو ما أريد به وجهه الكريم.
ويقال: إنما لا يتقبل الله اللحوم والدماء لأنها فعل الله، ولكن يتقبل التقوى الذي هو فعل العبد، فيوجب الثواب على ذاك، والمعنى: لن يتقبل الله اللحوم والدماء اذا كانت من غير تقوى، وإنما يتقبل منكم التقوى والطاعة في ما أمركم به، بالنية والإخلاص به.
قوله تعالى: { كذلك سخرها لكم }؛ أي ذللها لكم، { لتكبروا الله }؛ أي لتعظموه، { على ما هداكم }؛ لدينه، { وبشر المحسنين }؛ بالجنة يعني الموحدين المخلصين. ويقال: معنى قوله { على ما هداكم } يعني ما بين لكم وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه.
[22.38]
قوله تعالى: { إن الله يدافع عن الذين آمنوا }؛ أي إذا ما أمرتم فعلتم به وخالفتم فعل الجاهلية في نحرهم وإشراكهم بالله، فإن الله يدفع عنكم غائلة المشركين وأذاهم وينصركم عليهم، { إن الله لا يحب كل خوان كفور } أي لا يحب كل مظهر للنصيحة مضمر للغش والنفاق كافر بالله وبنعمته.
قال ابن عباس: (يريد الذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا وكفروا نعمه)، قال الزجاج: (من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوان كفور)، قرأ أبو عمرو وابن كثير: (يدفع)، وقرأ الباقون: (يدافع)، وهو بمعنى واحد.
[22.39]
قوله تعالى: { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا }؛ قال ابن عباس: (هذه أول آية نزلت في الإذن بالقتال، أذن الله تعالى للمؤمنين المهاجرين أن يقاتلوا كفار مكة بسبب ما ظلموا بأن أخرجوا من مكة) { وإن الله على نصرهم لقدير }؛ هذا وعد لهم بالنصر.
وقيل: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون محزونين من " بين " مشجوج ومضروب، ويشكون ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: " اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال " حتى هاجروا، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة.
قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم: (أذن) بضم الألف وكسر الذال، وقرأ الباقون (أذن) بالفتح؛ أي أذن الله لهم، وقوله (يقاتلون)، قرأ نافع وابن عامر وحفص: بفتح التاء؛ أي أذن للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون، وقرأ الباقون بكسرها، يعني أذن لهم في الجهاد يقاتلون المشركين.
[22.40]
قوله تعالى: { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله }؛ أول آية بدل من { الذين يقاتلون } أي أخرجهم أهل مكة من منازلهم بغير جرم منهم.
قوله تعالى: { إلا أن يقولوا ربنا الله } معناه: لم يخرجوهم إلا بأن كانوا يوحدون الله تعالى فأخرجوهم لتوحيدهم، المعنى: لم يخرجوهم من ديارهم إلا لقولهم ربنا الله، فيكون (أن) في موضع الخفض ردا على الباء في قوله { بغير حق } ، ويجوز أن تكون (أن) في موضع نصب على الاستثناء.
قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد }؛ أي لولا أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في زمن كل شيء ما بني للصلاة والعبادة نحو الصوامع، { يذكر فيها اسم الله كثيرا }.
قال مجاهد والضحاك: (يعني صوامع الرهبان)، وقال قتادة: (الصوامع للصابئين؛ وهي متعبداتهم، والبيع جمع بيعة؛ وهي متعبد النصارى، والصلوات هي كنائس اليهود، وكان اليهود يسمونها بالعبرانية صلواتا، والمساجد التي يصلي فيها المسلمون).
والمعنى: لولا كف الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد، وكف الظلم لحرب في كل شريعة، كل بنى المكان الذي يصلى فيه، فكان لولا الدفع لهدم في زمن موسى عليه السلام الكنائس، وفي زمن عيسى عليه السلام الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. وعن مجاهد أنه قال: (البيع لليهود يسمونها صلوات)، وقال أبو العالية: (هي مساجد للصابئين). فعلى هذا يكون المعنى: لهدمت صوامع الصلوات. ويقال: أراد بالصلوات الصلوات المعهودة التي للمسلمين، وهدمها إبطالها وإهلاك من يفعلها.
والأولى أن يستدل بهذه الآية على أن هذه المواضع المذكورة التي يجري فيها اسم الله تعالى لا يجوز أن تهدم في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على كل من كان له ذمة، أو جهاد من الكفار، فأما في ديار الحرب فيجوز للمسلمين هدمها إذا فتحت دارهم عنوة، ولم يقروا عليها بالجزية، كما يجوز هدم سائر دورهم.
قوله تعالى: (لهدمت) الهدم هو نقض البناء. قرأ أهل الحجاز (لهدمت) بالتخفيف. فإن قيل: لم قدم مصليات الكافرين على مساجد المؤمنين؟ قيل: لأنها أقدم، وقيل: لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذكر، كما خرج السابق في قوله تعالى
فمنهم ظالم لنفسه
[فاطر: 32] إلى قوله تعالى:
بالخيرات
[فاطر: 32].
قوله تعالى: { ولينصرن الله من ينصره }؛ أي لينصرن الله تعالى من ينصر دينه، { إن الله لقوي عزيز }؛ أي لقوي على أخذ الأعداء، عزيز أي ممتنع بالنعمة منهم.
[22.41]
قوله تعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة }؛ نعت للذين ينصرون بدين الله؛ أي هم الذين إن مكنهم الله في الأرض ينصرهم الله في عدوهم حتى يمكنوا في البلاد، لم يعملوا ما عمله الذين من قبلهم، ولكن أقاموا الصلاة المكتوبة، { وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر }؛ وأعطوا الزكاة المفروضة، وأمروا بالحق ونهوا عن الباطل. قال مقاتل: (هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، وقال الحسن: (هم هذه الأمة أهل الصلوات الخمس). وقوله تعالى: { ولله عاقبة الأمور }؛ بطل كل ملك سوى ملكه، فتصير الأمور كلها إليه بلا منازع ولا مدع.
[22.42-44]
قوله تعالى: { وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين }؛ في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن يكذبوك - قومك - فقد كذبت الأمم أنبياءهم من قبلك، وقوله: { وكذب موسى }؛ أي كذبه فرعون، { فأمليت للكافرين }؛ أي أمهلتهم، وأخرت عقوبتهم، { ثم أخذتهم }؛ بالعقوبة، { فكيف كان نكير } أي فكيف كان إنكاري عليهم حتى بيدوا أو خربت قراهم، فأبدلتهم بالنعمة نقمة؛ وبالكثرة قلة؛ وبالحياة هلاكا. قال الزجاج: (معناه: فأنكرت أبلغ الإنكار).
[22.45]
قوله تعالى: { فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة }؛ أي كم من قرية أهلكناها بالعذاب بكفرهم. وقرى أهلكناها، والاختيار أهلكتها بالتاء لقوله
فأمليت
[الحج: 44]، قوله: { فهي خاوية على عروشها }؛ أي ساقطة على سقوفها، وذلك أن السقف يقع قبل الحيطان، ثم تقع الحيطان عليه، قوله تعالى: { وبئر معطلة }؛ أي كم بئر عطلها أربابها وكم من { وقصر مشيد }؛ عطله أهله. والمشيد هو المجصص، والشيد الجص والنورة، ويجوز أن يكون معنى المشيد الرفيع، يقال: شاد البناء وأشاده إذا أطلاه بالشيد.
[22.46]
قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها }؛ أي أفلم يسر قومك يا محمد في أرض اليمن والشام؛ لينظروا آثار المهلكين، فيعقلوا بقلوبهم ما نزل بمن كذب من قبلهم، ويسمعوا بآذانهم خبر الأمم المكذبة. قوله تعالى: { فتكون لهم } نصب على جواب الجحد.
قوله تعالى: { فإنها لا تعمى الأبصار }؛ الهاء في قوله { فإنها } عماد، وهو إضمار على شريطة التفسير، والمعنى: فإن الأبصار لا تعمى؛ أي يرون بأبصارهم، { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }؛ قلوبهم بذهابها عن إدراك الحق بما يؤدي إليه الدليل.
وفي الآية دليل أن العقل في القلب بخلاف ما قاله الفلاسفة والأطباء: أن محل العقل الرأس الدماغ؛ لأن العقل لو لم يكن في القلب لم يوصف القلب بأن يعمى، كما لا توصف بذلك اليد والرجل، وأما وصف القلوب بأنها في الصدور فعلى وجه التأكيد، كما في قوله تعالى
يقولون بأفواههم
[آل عمران: 167]، وقوله تعالى
ولا طائر يطير بجناحيه
[الأنعام: 38].
[22.47]
قوله تعالى: { ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده }؛ أي ويستعجلونك يا محمد بالعذاب، كما قالوا:
فأسقط علينا كسفا من السمآء
[الشعراء: 187]، وقالوا
فأمطر علينا حجارة من السمآء
[الأنفال: 32]، ولن يخلف الله وعده في إنزال العذاب بهم في الدنيا. قال ابن عباس: (يعني يوم بدر).
قوله تعالى: { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون }؛ معناه: إنهم يستعجلون بالعذاب، وإن يوما من أيام عذابهم في الآخرة ألف سنة، فكيف يستعجلونه؟! قال الفراء في هذه الآية: (وعيد لهم بالعذاب في الدنيا والآخرة).
وقيل: معناه: وإن يوما عند الله وألف سنة في قدرته لواحد، فليس تأخر العذاب عنهم إلا تفضلا من الله عليهم. قال الزجاج: (أعلم الله أنه لا يفوته شيء، وإن يوما عنده وألف سنة سواء، ولا فرق بين إيقاع ما يستعجلونه من العذاب في تأخيره في القدرة، إلا أن الله تفضل بالإمهال، فسواء عنده في الإمهال يوم وألف سنة؛ لأنه قادر عليهم متى شاء أخذهم)، قال الكوفيون وابن كثير : (مما يعدون) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء.
[22.48]
قوله تعالى: { وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير }؛ ظاهر المعنى.
[22.49-50]
قوله تعالى: { قل يأيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين }؛ أي قل لهم يا محمد: يا أهل مكة إنما أنا لكم رسول مخوف بالنار لمن عصى الله بلغة يعرفونها، { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة }؛ لدينهم، { ورزق كريم }؛ حسن في الجنة.
[22.51]
قوله تعالى: { والذين سعوا في آياتنا معاجزين }؛ أي والذين أسرعوا في تكذيب آياتنا، وإبطال الدين مبالغين لله ظانين أن يعودنا ويفوتنا بقولهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور، { أولئك أصحاب الجحيم }؛ قال قتادة: (ظنوا بجهلهم أنهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم، وهيهات). وهذا كقوله
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا
[العنكبوت: 4]، ومن قرأ (معجزين) فمعناه: أنهم كانوا يعجزون مع من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم أي ينسبونهم إلى العجز.
[22.52]
وقوله تعالى: { ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته }؛ قال ابن عباس وابن جبير والضحاك: (وذلك أن الشيطان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل وهو قائم يصلي عند الكعبة يقرأ سورة
والنجم
[النجم: 1] حتى اذا انتهى إلى قوله تعالى
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى
[النجم: 19-20] ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى)، فلما سمع المشركون أعجبهم ذلك، فلما انتهى إلى آخر السورة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة، فإنه لم يقدر على السجود لكبره، فقال: ائتوني بالتراب، فأتوه بالتراب فوضعه على كفه، ثم سجد على كفه، فلما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ذلك، فقال جبريل: ما جئتك بهذه ولا أنزله الله تعالى، فقال: أتاني شيء في مثل صورتك فألقاه علي).
وهذا حديث أنكر أهل العلم إجراءه على ظاهره، وقالوا: كيف يجوز أن يجعل الله للشيطان على رسوله هذا السلطان، أو يختار لرسالته من لا يميز بين وحي الله ووساوس الشيطان؟! ومن المعلوم أن من نسب النبي صلى الله عليه وسلم به إلى ما يرجع إلى تعظيم الأصنام فقد كفر، إلا أنه يحتمل أن يكون الشيطان ألقى في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وخيل إلى من سمع تلاوته من الذين كانوا بالبعد منه أنه جرى على لسانه، وإنما هو من لسان الشيطان، وكان ذلك فتنة للتابعين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم معصوما من أن يجري على لسانه ما لم ينزله الله. وقد يذكر التمني ويراد به القراءة كما قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله
وآخره لاقي حمام المقادر
وقال جماعة من المفسرين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان قومه، وتمنى في نفسه من الله أن يأتيه ما يقارب بينه وبين قومه، فجلس ذات مرة بهم في مجلس كثير أهله، وأحب يومئذ أن يأتيه من الله شيء فقرأ عليهم سورة النجم، فلما بلغ
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى
[النجم: 19-20] ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترتجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته، فلما ختم السورة سجد في آخرها وسجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها؛ لأنهما كانا شيخين كبيرين لم يستطيعا أن يسجدا.
وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا: قد عرفنا أن آلهتنا تشفع لنا، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد لقد تلوت قومك ما لم آتك به عن الله عز وجل، فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وحزن حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا، فأنزل الله هذه الآية تطيب نفس محمد صلى الله عليه وسلم وتخبره بأن الأنبياء قبله كانوا مثله، ولم يبعث نبيا إلا تمنى أن يؤمن قومه، ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكره من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وجاء بغيره.
وقال عطاء عن ابن عباس: (إن شيطانا يقال له الأبيض أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألقى في قرآنه: إنها الغرانيق العلى وأن شفاعتها لتترجى، ولم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم، بل سمعه القوم من الشيطان، وكل ذلك فتنة من الله تعالى لعباده المسلمين والمشركين، فالمشركون ازدادوا كفرا بذلك، والمسلمون اشتد عليهم الأمر).
ومعنى الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وشفاها، ولا نبي وهو الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما، فكل رسول نبي، وليس كل نبي مرسل. قوله تعالى: { إلا إذا تمنى } أي أحب شيئا واشتهاه وحدث نفسه من غير أن يؤمر به { ألقى الشيطان في أمنيته } أي في قراءته وتلاوته، ونظيره قوله تعالى:
لا يعلمون الكتاب إلا أماني
[البقرة: 78] أي قراءة تقرأ عليهم. قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الحسن: (أراد بالغرانيق الملائكة) يعني أن شفاعتهم ترتجى منهم لا من الأصنام. قوله تعالى: { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي يبطله ويزيله ثم يحكم الله آياته فيثبتها، { والله عليم }؛ بمصالح عباده، { حكيم }؛ في تدبيره.
[22.53]
قوله تعالى: { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض }؛ أي ليجعل ما يلقي الشيطان في قراءته فتنة للذين في قلوبهم شك ونفاق؛ لأنهم افتتنوا بما سمعوا فازدادوا عتوا، وظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول الشيء من عند نفسه فيبطله.
قوله تعالى: { والقاسية قلوبهم }؛ يعني المشركين كذلك ازدادوا فتنة وضلالة وتكذيبا، سماهم قاسية قلوبهم؛ لأنها لا تلين لتوحيد الله، وقوله تعالى: { وإن الظالمين }؛ يعني أهل مكة، { لفي شقاق بعيد }؛ أي مشاقة بعيدة عن الحق.
[22.54]
قوله تعالى: { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك }؛ معناه: وليعلم المؤمنون رجوعك إلى الصواب، إن ذلك حق من ربك فتخضع وتذل له قلوبهم. وقيل: معناه: وليعلم الذين أوتوا العلم التوحيد والقرآن.
قال السدي: (التصديق أنه الحق) أي إن نسخ ذلك وإبطاله حق من الله، { فيؤمنوا به }؛ وتصديق النسخ، { فتخبت له قلوبهم }؛ أي ترق قلوبهم للقرآن فينقادوا لأحكامه، بخلاف المشركين الذين قيل: لهم
والقاسية قلوبهم
[الحج: 53].
قوله تعالى: { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم }؛ فيه بيان أن هذا الايمان والإخبات إنما هو بلطف الله وهدايته إياهم، والمعنى: وإن الله لهاديهم إلى دين يرضاه.
[22.55]
قوله تعالى: { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه }؛ أي في شك من القرآن، { حتى تأتيهم الساعة بغتة }؛ يعني ساعة موتهم، { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم }؛ يعني يوم بدر في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد، سماه الله العقيم الذي لا يأتي بخير. وقيل: يوم القيامة سماه الله عقيما لأنه لا مثال له في عظم أمره.
[22.56-57]
قوله تعالى: { الملك يومئذ لله يحكم بينهم }؛ أي الملك يوم القيامة لله تعالى من غير منازع ولا مدع، لا يظهر الأمر فيه إلا لله تعالى، { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم * والذين كفروا وكذبوا بآيتنا فأولئك لهم عذاب مهين }؛ فيقضي فيه بين المؤمنين والكافرين بإدخال المؤمنين الجنة، وإدخال الكافرين النار.
[22.58]
قوله تعالى: { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا }؛ معناه: والذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوطانهم في طاعة الله من مكة إلى المدينة، ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وهو نعيم الجنة، { وإن الله لهو خير الرازقين }.
[22.59]
قوله تعالى: { ليدخلنهم مدخلا يرضونه }؛ يعني به المنازل التي أعدها الله لهم في الجنة، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، خالدين فيها لا يبغون عنها حولا، قوله تعالى: { وإن الله لعليم }؛ أي عليم بمصالح عباده ونياتهم، { حليم }؛ لا يعجل بعقوبة أعدائه.
[22.60]
قوله تعالى: { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به }؛ الآية؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك، ثم قال { ومن عاقب بمثل ما عوقب به } ، { ثم بغي عليه لينصرنه الله }؛ نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا جماعة من المسلمين فقاتلوهم في الشهر الحرام، فنهاهم المسلمون عن ذلك فأبوا، فلما أبوا قاتلهم المسلمون فنصروا؛ أي ومن عاقب بالقتال بمثل ما عوقب به؛ أي بالقتال في الشهر الحرام ثم بغي على الدافع لينصرنه الله على من بغى عليه، { إن الله لعفو }؛ أي متجاوز عن من فات { غفور }؛ لمن مات على التوبة.
[22.61]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله يولج الليل في النهار }؛ أي ذلك النصر بأنه القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه يولج الليل في النهار، { ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير }؛ أي سميع لمن دعاه بصير بعباده.
[22.62]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق }؛ أي ذلك الذي نقلته من نصرة المؤمنين بأن الله ذو الحق في فعله وقدرته، { وأن ما يدعون }؛ المشركون؛ { من دونه هو الباطل }؛ ليس فيه نفع ولا ضرر، { وأن الله هو العلي }؛ على كل شيء بقدرته، { الكبير }؛ الذي يصغر كل شيء سواه.
[22.63]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فتصبح الأرض مخضرة }؛ أي ألم تعلم وتشاهد أن الله أنزل من السماء ماء؛ يعني المطر، فتصبح الأرض ذات خضرة بالنبات، { إن الله لطيف }؛ بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض، { خبير }؛ بما في قلوب العباد وبما يصلح لهم.
[22.64]
قوله تعالى: { له ما في السموت وما في الأرض }؛ عبدا وملكا، { وإن الله لهو الغني }؛ عن عباده، { الحميد }؛ إلى أوليائه وأهل طاعته، وقيل: الغني عن إيمان الخلق وطاعتهم، المحمود في أفعاله.
[22.65]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض }؛ أي ألم تعلم أن الله ذلل لكم ما في الأرض؛ يعني البهائم التي تركب، وسخر لكم { والفلك }؛ أي السفن؛ { تجري في البحر بأمره }.
قوله تعالى: { ويمسك السمآء أن تقع على الأرض إلا بإذنه }؛ أي حبس عنكم السماء حتى لا تقع عليكم فتهلكوا. قوله تعالى: { إلا بإذنه } أي إلا بإرادته، { إن الله بالناس لرءوف رحيم }؛ أي متفضل على عباده، منعم عليهم.
[22.66]
قوله تعالى: { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم }؛ أي أحياكم في أرحام أمهاتكم، ولم تكونوا شيئا. وقيل: معناه: أحياكم بعد أن كنتم نطفة ميتة، ثم يميتكم بعد إنقضاء آجالكم، ثم يحييكم بعد الموت عند البعث للحساب، { إن الإنسان لكفور }؛ يعني المشرك الجحود لنعم الله حتى ترك توحيده بعد ظهور الآيات الداعية إلى الحق.
[22.67-69]
قوله تعالى: { لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه }؛ أي لكل أهل دين جعلنا شريعة هم عاملون بها، وقيل: موضعا تعتادونه لعبادة الله، ومكانا تعيشونه وتعملون الخير فيه. وقيل: معناه: لكل أمة جعلنا عبرا. وقال قتادة: (موضع قربان يذبحون فيه)، وقيل: المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها، كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى:
" إن أول نسك في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح "
وقيل: أراد بالمنسك في هذه الآية المذبح الذي يتقربون فيه بذبائحهم إلى الله تعالى، كما جعل مكانا منحرا للإنسان؛ لأن النسك إذا أطلق أريد به الذبح من جهة القربة، كما قال
ففدية من صيام أو صدقة أو نسك
[البقرة: 196].
قوله تعالى: { فلا ينازعنك في الأمر }؛ معناه: النهي عن المنازعة بعد ظهور ما يوجب نسخ الشرائع المتقدمة، كما يقال: لا يخاصمك فلان في هذا الأمر. وقيل: معناه: لا ينازعنك في أمر الذبح، وذلك أن كفار قريش خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أمر الذبيحة؛ وقالوا: ما لكم تأكلون ما قتلتم بأيديكم، ولا تأكلون ما قتله الله؟
قوله تعالى: { وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم }؛ أي أدع إلى دين ربك وطاعته إنك على هدى مستقيم، وقيل: على دلالة ودين مستقيم. { وإن جادلوك }؛ على سبيل المراء والتعنت كما يفعله السفهاء، { فقل الله أعلم بما تعملون }؛ أي إدفعهم بهذا القول، ولا تجادل إلا لتبيين الحق، والمعنى: وإن خاصموك في أمر الذبيحة فقل الله أعلم بما تعملون من التكذيب فهو يجازيكم به، وهذا قبل الأمر بالقتال. وقوله تعالى: { الله يحكم بينكم يوم القيامة }؛ أي يقضي بينكم يوم القيامة، { فيما كنتم فيه تختلفون } من الدين والذبيحة.
[22.70]
قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السمآء والأرض }؛ أي قد علمت وأيقنت ذلك، وهذا استفهام يراد به التقرير، وقيل: معناه: ألم تعلم يا محمد أن الله يعلم أعمال أهل السماء والأرض وأسرارهم؟ { إن ذلك في كتاب }؛ يعني ما يجري في السماء والأرض، كل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، { إن ذلك على الله يسير }؛ أي أن علم الله بجميع ذلك عليه يسير سهل.
[22.71]
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم }؛ معناه: ويعبدون من دونه الأصنام ما لم ينزل به كتابا ولا حجة، وما ليس لهم به علم أنها آلهة، { وما للظالمين من نصير }؛ أي وما للمشركين من مانع يمنع عذابا عنهم، نزلت هذه الآية في أهل مكة.
[22.72]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر }؛ أي وإذا يقرأ عليهم القرآن تعرف في وجوههم الإنكار للقرآن من الكراهة والعبوس، { يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آيتنا }؛ أي يكادون يسطون بالمؤمنين ليردوهم. وقيل: معناه: يكادون يقعون بمحمد صلى الله عليه وسلم من شدة الغيظ. وقيل: يكادون يسطون إلى المؤمنين أيديهم بالسوء. يقال: سطا فلان على فلان إذا تناوله بالسطو والعنف، وأخذه بالشدة والإخافة.
قوله تعالى: { قل أفأنبئكم بشر من ذلكم }؛ أي قل يا محمد أفأخبركم بشر عليكم من غيظكم على التالي لآيات الله وهو { النار وعدها الله الذين كفروا }؛ يصيرون إليها، { وبئس المصير }؛ وقيل: إن الكفار قالوا: والله ما رأينا قوما أقل حظا منكم يا أصحاب محمد، قال الله تعالى: قل يا محمد: أفأخبركم بشر من ذلكم؛ أي بشر مما قلتم: النار من دخلها فحاله شر من حالنا.
[22.73]
قوله تعالى: { يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له }؛ معناه: يا أهل مكة بين مثل آلهتكم فاستمعوا له: { إن الذين تدعون من دون الله }؛ من الأصنام، { لن يخلقوا }؛ أي لن يقدروا أن يخلقوا، { ذبابا }؛ مع صغره وقلته، { ولو اجتمعوا له }؛ العابد والمعبود على ذلك، وكان لهم ثلاثمائة وستون صنما حول الكعبة.
قوله تعالى: { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه }؛ قال ابن عباس: (كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران والعسل، فيأتي الذباب فيحمله فلا يقدرون أن يستردوه من الذباب). وقال السدي: (كانوا يجعلون للأصنام طعاما، فيقع عليه الذباب فيأكل منه فلا يستطيعون إنقاذه منه) ف { ضعف الطالب }؛ من الأصنام، { والمطلوب }؛ هو الذباب. وقال الضحاك: (معناه ضعف العابد والمعبود). وقيل: معناه: ضعف الذباب الطالب لما يأخذه من الصنم، وضعف المطلوب يعني الصنم. وقيل: ضعف الطالب من هذا الصنم المتقرب إليه، والصنم المطلوب منه ذلك.
وقيل: إن المشركين كانوا خرجوا في عيد لهم بأصنامهم، وقد زينوها باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، وطيبوها بأنواع الطيب وغشوها بالحلي والحلل، فجاء ذباب فأخذ شطبة من تلك الزينة - أي قطعة - فطار بها في الهواء، فأراهم الله تعالى العبرة في ضعفهم وضعف معبودهم، فلا أحد مما لا يمكنه الاستنقاذ من الضعيف.
[22.74]
قوله تعالى: { ما قدروا الله حق قدره }؛ أي ما عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه حيث عدلوا به من لا يقدر أن يخلق ذبابا، أو يستنفذ من ذباب ما ذهب به منه، { إن الله لقوي عزيز }؛ أي قوي على خلقه، عزيز في ملكه، لا يقدر أحد على مغالبته.
[22.75]
قوله تعالى: { الله يصطفي من الملائكة رسلا }؛ معناه: الله يختار من الملائكة رسلا يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، { ومن الناس } يعني من النبيين. أخبر الله عز وجل أن الاختيار إليه، ويختار من يشاء ممن خلقه، فيجعلهم رسله وأنبياءه يبعثهم إلى خلقه، فأطيعوهم واحذروا معصيتهم، { إن الله سميع }؛ بمقالتكم، { بصير }؛ بأعمالكم وضمائركم.
[22.76]
قوله تعالى: { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم }؛ أي يعلم ما بين أيدي الملائكة ورسله قبل أن يخلقهم، { وما خلفهم } أي ما يكون بعد فنائهم { وإلى الله ترجع الأمور }؛ عواقب الأمور.
[22.77]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا }؛ أي صلوا، قوله تعالى: { واعبدوا ربكم }؛ أي بجميع العبادات، { وافعلوا الخير }؛ من أنواع البر مثل صلة الرحم، وبر الوالدين، ومكارم الأخلاق، { لعلكم تفلحون }؛ روي أنهم كانوا في أول الإسلام يسجدون بغير ركوع، حتى نزلت هذه الآية.
[22.78]
قوله تعالى: { وجاهدوا في الله حق جهاده }؛ أي جاهدوا المشركين بحسب الطاقة واستفراغها، ولا تخافوا في الله لومة لائم، وقال بعض المفسرين: معناه: اعبدوا الله حق عبادته وأطيعوه حق طاعته. قال السدي: (هو أن يطاع فلا يعصى) وقال مقاتل: (نسختها آية التغابن
فاتقوا الله ما استطعتم
[التغابن: 16])، وقيل: هو مجاهدة النفس والهوى، وذلك حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر.
وقال بعضهم: هو حق الجهاد؛ لما
" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " "
وقال بعضهم: في حق الجهاد أنه
" كلمة عدل عند سلطان جائر "
وقال الحسن: (هو أن تؤدي جميع ما أمرك الله به، وتجتنب جميع ما نهاك الله عنه، وتترك رغبة الدنيا). وقال الضحاك: (معناه: جاهدوا بالسيف من كفر بالله، وإن كانوا الآباء والأبناء).
قوله تعالى: { هو اجتباكم }؛ أي اختاركم لدينه وجهاد أعدائه، والاجتباء: هو اختيار الشيء بما فيه من الصلاح، يقال: الحق يجتبى، والباطل يتقى. قوله تعالى: { وما جعل عليكم في الدين من حرج }؛ أي ما جعل عليكم في شرائع دينكم من ضيق، وذلك أنه ما يتخلص منه بالتوبة، وما يتخلص منه برد المظلمة، ويتخلص منه بالقصاص، وليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به، بل من أذنب ذنبا جعل الله له مخرجا منه بالتوبة والكفارات، ولم يبق في ضيق ذلك الذنب. وقال مجاهد: (يعني الرخص عند الضرورات كالقصر؛ والتيمم؛ وأكل الميتة؛ والإفطار عند المرض والسفر).
قوله تعالى: { ملة أبيكم إبراهيم }؛ أي إلزموا واتبعوا ملته، وقيل: معناه: وسع عليكم في الدين كملة أبيكم إبراهيم، إلا أنه لما حذف حرف الجر نصب الملة، وإنما أمر باتباع ملة إبراهيم؛ لأنها داخلة في ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنما قال: (أبيكم إبراهيم) وإن لم يكن جميعهم من نسبه؛ لأن حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على الولد، وحقه كحق الوالد، كما قال تعالى:
وأزواجه أمهاتهم
[الأحزاب: 6].
قوله تعالى: { هو سماكم المسلمين من قبل }؛ نزول القرآن، { وفي هذا }؛ القرآن، كما روي أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم: يبعث بعدك نبي فيكون قومه مسلمين. وقيل: معناه: إن إبراهيم سماكم المسلمين، كما قال في دعائه
ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك
[البقرة: 128].
قوله تعالى: { ليكون الرسول شهيدا عليكم }؛ أي ليكون محمد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بطاعة من أطاع في تبليغه، وعصيان من عصى، { وتكونوا شهدآء على الناس }؛ أن الرسل بلغتهم.
قوله تعالى: { فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة }؛ أي أدوهما كما وجبتا. قوله تعالى: { واعتصموا بالله }؛ أي واعتصموا بدين الله وتمسكوا به. وقيل: معناه: اتقوا بالله وتوكلوا عليه، { هو مولاكم }؛ أي هو ربكم وحافظكم، { فنعم المولى ونعم النصير }؛ أي فنعم الحافظ لكم، ونعم الناصر.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة الحج؛ أعطي من أجر حجة وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما يبقى ".
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1]
{ قد أفلح المؤمنون }؛ أي فاز ونجا وسعد المصدقون بالله ورسوله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لما خلق الله جنة عدن، فيها ما لا عين رأت؛ ولا أذن سمعت؛ ولا خطر على قلب بشر، قال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون - ثلاثا - ثم قالت: أنا حرام على كل بخيل ومراء "
قرأ طلحة بن مصرف: (قد أفلح المؤمنون) على المجهول؛ أي أبقوا في الثواب، وحرف (قد) في اللغة لتزيين الكلام وتحسينه، وقيل: لتقريب الحالة الماضية الى الحالة الآتية، فدل على أن فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال، وهو أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفعل، والفلاح هو البقاء والنجاح.
[23.2]
قوله تعالى: { الذين هم في صلاتهم خاشعون }؛ أي متواضعون خائفون، ويقال: ساكنون بالقلب والجوارح فلا يلتفتون يمينا ولا شمالا، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: " ولو خشع قلبه لخشعت جوارحه " "
، وعنه صلى الله عليه وسلم:
" أنه كان إذا وقف في الصلاة رفع بصره نحو السماء، فلما نزلت هذه الآية جعل نظره إلى موضع سجوده "
وحقيقة الخشوع: هو جمع الهمة لتدبر الأفعال والأذكار.
وعن الحسن أنه قال: (إن الخاشعين هم الذين لا يرفعون أيديهم في الصلاة إلا في التكبيرة الأولى) وقال ابن عباس: (معنى قوله تعالى: { خاشعون } أي أذلاء)، وقال مجاهد: (الخشوع هو غض البصر وخفض الجناح). وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة يخاف الرحمن أن يسند بصره إلى شيء، وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا. وقال عمرو بن دينار: (ليس الخشوع الركوع والسجود، ولكنه السكون وحسن الهيئة في الصلاة).
وقال عطاء: (هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة)، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يحركن الحصى "
وقيل: نظر الحسن إلى رجل يعبث ويقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقال له الحسن: (بئس الخاطب أنت، تخطب وأنت تعبث). وقال قتادة: (الخشوع هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة). وقال بعضهم: (هو جمع الهمة لها والإعراض عما سواها).
[23.3]
قوله تعالى: { والذين هم عن اللغو معرضون }؛ قال الحسن: (معناه: عن المعاصي معرضون)، وقال الزجاج: (اللغو هو كل باطل ولهو ولعب وهزل). وقيل: اللغو الذي يعرضون عنه: هو كل ما لا فائدة فيه، ومنه قوله تعالى:
وإذا مروا باللغو مروا كراما
[الفرقان: 72] أي شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن كل باطل ولهو ولعب، وعن كل ما لا فائدة فيه من قول وفعل. وقال مقاتل: اللغو (هو الشتم والأذى).
[23.4]
قوله تعالى: { والذين هم للزكاة فاعلون }؛ أي مؤدون، فعبر عن التأدية بالفعل لأنه فعل. قال ابن عباس: (يعني به الصدقة الواجبة)، وقيل: معناه: والذين هم للعمل الصالح فاعلون، ويدخل في هذا كل فعل يذكر به الإنسان ويحمد عليه، كما يقال: ما أعطى الله أحدا نعمة إلا أوجب عليه فيها زكاة، فزكاة العلم نشره وتعليمه، وزكاة الجاه إعانة الملهوف.
[23.5-6]
قوله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون }؛ أي يحفظونها عن الحرام، ويغضون البصر عما لا يحل لهم. قوله تعالى: { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }؛ أي يلامون في إطلاق ما حرم عليهم إلا على أزواجهم وإمائهم فإنهم لا يلامون فيه. قال مجاهد: (يفرض على الرجل حفظ فرجه إلا من امرأته وأمته، فإنه لا يلام على ذلك).
[23.7]
قوله تعالى: { فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون }؛ أي من طلب للوطئ طريقا سوى ما أحل الله من النساء الأربع أو ما ملكت أيمانهم فأولئك هم المجاوزون من الحلال إلى الحرام، فمن زنى فهو عاد.
[23.8]
قوله تعالى: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }؛ أي الذين هم لما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الله وبين الناس حافظون حتى يؤدوه على وجهه. والرعي: هو القيام على إصلاح ما يتولاه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته "
، وقال الله تعالى
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
[النساء: 58]. وقرأ ابن كثير: (لأمانتهم) بالتوحيد لأنه مصدر واسم جنس فيقع على الكثير، والأمانة قد تكون بين العبيد، كالودائع وأشباهها، وتكون بين الله وعبيده كالصيام والاغتسال من الجنابة والصلاة، فيجب على المؤمنين الوفاء بجميع حقوق الأمانات. قوله تعالى: { وعهدهم راعون } يشتمل على طاعة الله تعالى التي يجب الوفاء بها، وعلى جميع العقود والأيمان والنذور.
[23.9]
قوله تعالى: { والذين هم على صلواتهم يحافظون }؛ أي يواظبون على الصلوات، ويجتهدون في أوقاتها المداومون فيها بفرائضها وسننها وآدابها.
[23.10]
قوله تعالى: { أولئك هم الوارثون }؛ أي أهل هذه الصفات التي ذكرها الله من أول هذه السورة إلى هاهنا هم الوارثون الذين يرثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة التي كانت لهم لو أطاعوا الله ورسوله. قال صلى الله عليه وسلم:
" ما منكم من أحد إلا وله منزلان، منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ".
[23.11]
قوله تعالى: { الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون }؛ الفردوس في اللغة: هو البستان الجامع لمحاسن أجناس الكروم وغيرها. وقال عكرمة: (الفردوس هو الجنة بلغة الحبشة).
وفي الحديث:
" أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر، فقالت أمه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء عليه، فقال: " يا أم حارثة! إن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة " ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة " ثم قرأ { قد أفلح المؤمنون } إلى آخر الآيات العشر "
وقال مجاهد: (من حفظ العشر من سورة المؤمنين ورث الفردوس). قال ابن عباس: (الفردوس خير الجنان)، وقال صلى الله عليه وسلم:
" " إن الله غرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي وجلالي؛ لا يدخلها مدمن خمر وديوث " قالوا: ما الديوث يا رسول الله؟ قال: " الذي يرضى الفواحش لأهله " ".
[23.12]
قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }؛ أي خلقنا آدم من سلالة سلت من طين، والسلالة: ما سل من الشيء؛ أي نزع واستخرج منه، يقال للنطفة: سلالة، والولد سليل وسلالة. قال مجاهد: (السلالة مني بني آدم)، وقال عكرمة: (هو الماء سل من الظهر سلا)، والمراد بالانسان ولد آدم، وهو اسم جنس يقع على الجميع. والمعنى: خلقنا ابن آدم من سلالة من طين؛ أي من صفوة ماء آدم الذي هو من طين.
[23.13]
قوله تعالى: { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين }؛ ثم خلقنا ولد آدم من نطفة في موضع حرير يعني الرحم، مكن فيه الماء بأن هيأ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمره الذي جعل له. وإنما سمي المني سلالة؛ لأنه سل من أصلاب الرجل وترائب النساء، ثم يكون قراره في أرحام الأمهات.
[23.14]
قوله تعالى: { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة }؛ أي صيرنا النطفة دما منعقدا، ثم صيرنا الدم لحما بلا عظم، والمضغة: هي القطعة الصغيرة من اللحم. وقوله تعالى: { فخلقنا المضغة عظاما }؛ أي حولنا المضغة عظاما، { فكسونا العظام لحما }؛ أي ثم ألبسنا العظام لحما؛ ليكون أبهى في النظر وليكون اللحم وقاية للعظم. وقرأ ابن عامر: (فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما).
قوله تعالى: { ثم أنشأناه خلقا آخر }؛ بأن جعلنا فيه الروح بعد أن لم يكن، ثم جعلناه ذكرا أو أنثى إلى أن أعطيناه الفهم والتمييز ليأخذ ثدي أمه عند الحاجة فيرتضع ويشتكي إذا تضرر بشيء. وقال مجاهد: (معنى قوله: { ثم أنشأناه خلقا آخر } يعني سوينا شبابه). وقال قتادة: (يعني أنبتنا شعره وأسنانه). وقيل: معناه: أعطيناه العقل والقوة والفهم، وربيناه حالا بعد حال إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد.
وقيل: إذا اجتمع الماء المتخلق منه الولد، فأول الحالات أن يزيد، ثم يستحيل ذلك الماء علقة، وهو دم غبيط، ثم يصير مضغة، وفي تلك الحالة تظهر الأعضاء النفيسة كالقلب والدماغ والكبد، فالقلب أول عضو مكون ثم الدماغ ثم الكبد، ثم ينحى بعضها عن بعض، وتخطط الأطراف، ثم يصير لحما على عظام، وعظام البدن مائتان وأربعون عظما، فإذا نفخ فيه الروح لأربعة أشهر انقسم دم الحيض ثلاثة أقسام: قسم يتغذى به الولد، وقسم يحتبس إلى النفاس، وقسم يصعد إلى الثدي.
وإنما ينفخ الروح في الجنين لأربعة أشهر؛ لأنه يكون نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يصير مضغة أربعين يوما، ثم ينفخ فيه الروح. ويكون الولد في بطن أمه معتمدا على رجليه وراحة يديه على ركبتيه وظهره إلى وجه الأم، ووجهه إلى ظهرها حتى لا تتأذى الأم بنفسه.
وإنما خلق الله عينيه في رأسه لتكون مشرفة على جميع الأعضاء في الجهات كلها، كالطليعة للعسكر، وأصلح المواضع للطلائع المكان المشرف، وجعلهما في كهفين حراسة لهما وتوفيرا لضوئهما، وجعل لهما الهدب ليدفع ما نظر إليهما.
وخلق الله الأنف لينحصر فيه الهواء المستنشق لترويح الرئة والدماغ. وخلق الفم وعاء لجميع الكلام، وخلق اللسان آلة للنطق، ولتقليب الطعام الممضوغ، والمضغ يكون في جانبي الفم حراسة لأداة النطق. وخلق الشفتين غطاء للفم والأسنان، ويحجب اللعاب، ومعينا على الكلام، وجمالا في الصورة، والأسنان تقطع؛ والأنياب تكسر؛ والأضراس تطحن. وخص الفك الأسفل بالتحريك؛ لأن تحريك الأخف أحسن، لأن الأعلى يشتمل على الأعضاء الشريفة فلم يخاطرها في الحركة؛ لأن الحركة تضعفها. وجعل ماء الأذن مرا لئلا يقيم فيه الهوام، فإذا دخل الأذن دابة لم يكن لها هم إلا الخروج. وجعل ماء العين مالحا لئلا يذوب، وجعل ماء الفم عذبا ليطيب طعم الطعام.
وخلق الله الأصابع آلة لعمل الأشياء كالكتابة والصناعة والخياطة، وجعلها على الكف لتحفظ ما يجعل فيها، ولم يخلق الأصابع خالية من العظام لتكون أفعالها قوية، ولم يجعل عظامها مجوفة لتكون أقوى على القبض والحركات. وجعل القلب في وسط الصدر لأنه أعدل الأماكن وقد ميل قليلا إلى اليسار ليبعد عن الكبد، والرئة، وغطاء للقلب ووقاية له، وهو بيت النفس ومنزل الفرح. وخلق الله الأمعاء كثيرة التلافيف ليطول ستر الغذاء، فلا يحتاج الإنسان إلى الغذاء في كل وقت، وخلق الله القدم أخمص ليمسك الماشي في الدرج.
قوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين }؛ أي المصورين المحولين من حال إلى حال، ومعنى قوله { فتبارك الله } أي استحق التعظيم والثناء، وقيل: دام لم يزل ولا يزال. وقوله تعالى: { أحسن الخالقين } لا يقتضي أن يكون معه خالق آخر كما قال
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا
[الفرقان: 24]، ويقال: { أحسن الخالقين } أي أحسن المقدرين، فإن الخلق هو التقدير كما قال تعالى مخبرا عن عيسى عليه السلام
أني أخلق لكم من الطين
[آل عمران: 49] أي أقدر لكم من الطير.
قال ابن عباس: (كان عبدالله بن شريح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأملى عليه هذه الآية، فلما بلغ إلى قوله { آخر } خطر بباله { فتبارك الله أحسن الخالقين } ، فلما أملاها عليه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، قال عبدالله: إن محمدا نبي يوحى إليه، وأنا نبي يوحى إلي. فلحق بمكة فمات كافرا).
[23.15-16]
قوله تعالى: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون }؛ أي بعد الحياة والخلق الحسن والصورة الحسنة ميتون عند انقضاء آجالكم. قرأ أشهب العقيلي: (لمائتون) بالألف، والميت والمائت الذي لم تفارقه الروح وهو سيموت، والميت بالتخفيف الذي فارقه الروح، فلذلك لم يخفف كقول
إنك ميت وإنهم ميتون
[الزمر: 30]. قوله تعالى: { ثم إنكم يوم القيامة تبعثون }؛ يعني من قبوركم للجزاء والحساب.
[23.17]
قوله تعالى: { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق }؛ أي سبع سماوات، سميت طرائق؛ لأن كل شيء فوق شيء فهو طريقة، يقال: طارقت نعلي إذا جعلت جلدا فوق جلد. ويقال: سميت طرائق لأنها طرق الملائكة. قوله تعالى: { وما كنا عن الخلق غافلين }؛ أي وما كنا عن حفظ السماوات، وعن إنزال المطر على العباد وقت الحاجة غافلين، ولو جازت الغفلة لسقطت السماوات بعضها على بعض.
[23.18]
قوله تعالى: { وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكنه في الأرض }؛ أي أنزلنا المطر من السماء بقدر الحاجة إليه؛ أي بقدر ما يكفيهم للمعيشة، وقيل: بقدر يعلمه الله. قوله تعالى: { فأسكنه في الأرض } أي جعلنا سكناه ومستقره في الأرض مثل العيون والغدران والركايا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أنزل الله من الجنة خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات وهما نهرا العراق، والنيل وهو نهر مصر، أنزلها الله من عين واحدة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل. وذلك قوله { فأسكنه في الأرض }. فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل فرفع من الأرض القرآن والعلم والحجر الأسود وهذه الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: { وإنا على ذهاب به لقدرون }؛ فإذا رفعت هذه الأشياء فقد أهلها خير الدين والدنيا ".
[23.19]
قوله تعالى: { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب }؛ أي أخرجنا لكم بذلك المطر بساتين من نخيل وكروم، وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الثمار، وقوله تعالى: { لكم فيها فواكه كثيرة }؛ سوى النخيل والأعناب، { ومنها تأكلون }؛ بإباحة الله لكم تأكلونها صيفا وشتاء.
[23.20]
قوله تعالى: { وشجرة تخرج من طور سينآء }؛ أي وأنبتنا بذلك المطر شجرة وهي الزيتونة تخرج من جبل سيناء للبركة، كأنه قال: من جبل البركة. وقرئ (طور سيناء) بفتح السين. واختلفوا في المراد بالطور، قال بعضهم: هذا الجبل الذي نادى موسى ربه عنده. يقال: إن أصل شجرة الزيتون من ذلك الجبل؛ أي أول ما غرست فيه. وقال بعضهم: هو جبل بالشام كثير الأشجار والأثمار. وقيل عن الزيتونة: أول شجرة نبتت في الأرض بعد الطوفان. قوله تعالى: { تنبت بالدهن وصبغ للآكلين }؛ قرأ أكثر القراء (تنبت) بفتح التاء وضم الباء؛ أي تنبت بثمار الدهن يعني الزيت. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء، ومعناه معنى الأول. والباء في قوله تعالى (بالدهن) للتعدي، يقال: أنبته ونبت به، ونبت الشيء وأنبت بمعنى واحد، قال الشاعر:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
ويجوز أن تكون الباء زائدة على قراءة من ضم التاء، كقوله
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
[البقرة: 195]. قوله تعالى: { وصبغ للآكلين } يعني الإدام، لأن الزيت إدام يصبغ به الخبز، يقال: صبغ وصباغ كما يقال: لبس ولباس.
[23.21]
قوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة }؛ أي لعظة ودلالة على وحدانيتنا لو اعتبرتم واستدللتم، { نسقيكم مما في بطونها } يعني اللبن، { ولكم فيها منافع كثيرة }؛ من الأولاد والأوتار والأصواف والأشعار والركوب على الإبل، { ومنها تأكلون }؛ يعني لحومها.
[23.22]
قوله تعالى: { وعليها وعلى الفلك تحملون }؛ أي تحملون على الإبل في البر وعلى السفن في البحر، وهذا كقوله تعالى
وحملناهم في البر والبحر
[الاسراء: 70] يقال: إن الله تعالى جعل للناس مركبين، مركبا لينا لسير البر، ومركبا يابسا لسير البحر.
[23.23-26]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه }؛ أي أرسلناه إليهم ليدعوهم إلى عبادتنا، { فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } عبادة غيره. { فقال الملأ الذين كفروا من قومه }؛ أي الأشراف منهم والرؤساء قالوا لسفائهم: { ما هذا }؛ الذي يدعوكم إلى التوحيد، { إلا بشر مثلكم }؛ أي آدمي مثلكم، { يريد أن يتفضل عليكم }؛ أي يتقدم عليكم بدعوى النبوة ليكون له الفضل عليكم فتكونوا له تبعا، { ولو شآء الله }؛ أن يرسل إلينا رسولا من عنده، { لأنزل }؛ أي لأرسل { ملائكة }؛ من عنده، { ما سمعنا بهذا }؛ بمثل هذه الدعوة، { في آبآئنا الأولين }؛ ولا أرسل إليهم بشرا، { إن هو إلا رجل به جنة }؛ أي قالوا: ما نوح إلا رجل به جنون، { فتربصوا به حتى حين }؛ أي فانتظروا حتى يموت فنستريح منه.
فلما يئس من إيمانهم؛ { قال رب انصرني بما كذبون }؛ أي أعني عليهم بتكذيبهم إياي وجحودهم نبوتي، والمعنى: انصرني عليهم بإهلاكهم جزاء لهم بتكذيبهم.
[23.27]
قوله تعالى: { فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا }؛ أي وأرسلنا إليه جبريل أن يعلمه صنعة الفلك ليصنعها بمرأى منا، { فإذا جآء أمرنا }؛ بنجاتك وإهلاكهم، { وفار التنور }؛ ونبع الماء من تنور الخسارة. وعن علي رضي الله عنه: (أن معنى قوله { وفار التنور } أي طلع الفجر).
قوله تعالى: { فاسلك فيها من كل زوجين اثنين }؛ أي احمل في السفينة من كل ذكر وأنثى، كما روي أن الله تعالى حشر إليه جميع الحيوانات حتى أخذ من كل جنس زوجا، ويقرأ (من كل زوجين) بالتنوين، فعلى هذه القراءة يكون الفعل واقعا على زوجين، وأما على القراءة الثانية فالفعل واقع على اثنين.
قوله تعالى: { وأهلك }؛ معناه: واحمل فيها أهلك، { إلا من سبق عليه القول }؛ أي إلا من حق عليه العذاب { منهم } ، لكفره وهو ابنه كنعان وامرأته وأهله. قوله تعالى: { ولا تخاطبني في الذين ظلموا }؛ أي لا تسألني نجاة الذين ظلموا من أهلك، { إنهم مغرقون }؛ مع الأجانب.
[23.28-29]
قوله تعالى: { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك }؛ أي إذا اعتدلت في السفينة راكبا واستقر بك ولمن معك الفلك في الماء، { فقل الحمد لله }؛ أي أحمد الله، { الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا مباركا }؛ أي أنزلني من السفينة موضعا مباركا. وقال بعضهم: أراد به الإنزال في السفينة وهو الأقرب؛ لأنه إنما أمر بهذا الدعاء في حال استوائه على السفينة، فاقتضى أن السفينة هي المنزل دون منزل آخر.
وقرأ العامة (منزلا) بضم الميم على المصدر؛ أي إنزالا مباركا، وقرأ أبو بكر بفتح الميم وكسر الزاي؛ أي موضعا مباركا، قال مقاتل: (يعني بالبركة أنهم توالدوا وكثروا).
وقوله تعالى: { وأنت خير المنزلين }؛ أي أنت خير المنزلين في الدنيا والآخرة، وهذا اللفظ سنة لكل من أراد أن ينزل منزلا.
[23.30]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات }؛ معناه: أن في أمر نوح والسفينة وهلاك أعداء الله لدلالات على قدرة الله ووحدانيته، { وإن كنا لمبتلين } أي ما كنا إلا مبتلين بإرسال الرسل إليهم؛ أي مختبرين إياهم كيف نرى طاعة المطيعين ومعصية العاصين.
[23.31-32]
قوله تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين }؛ أي ثم خلقنا من بعد هلاك قوم نوح قوما آخرين يعني: عادا، { فأرسلنا فيهم رسولا منهم }؛ يعني هودا عليه السلام فإن أول نبي بعد نوح هود عليه السلام فقال لهم: { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون }؛ إلى آخر الآية.
[23.33]
قوله تعالى: { وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الآخرة }؛ أي جحدوا البعث والنشور، { وأترفناهم في الحياة الدنيا }؛ أي متعناهم في الحياة الدنيا وأعطيناهم من نعيم العيش ووسعنا عليهم ونعمناهم؛ أي قال أشراف قوم هود ورؤساؤهم الذين جحدوا بالبعث والنشور ومتعناهم في الحياة الدنيا: { ما هذا }؛ أي ما هو { إلا بشر مثلكم }؛ أي آدمي مثلكم، { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون }؛ أي يأكل من الطعام الذي تأكلون منه؛ ويشرب من الذي تشربون، فليس هو بأولى بالرسالة منكم.
[23.34-36]
قوله تعالى: { ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون }؛ معناه: لئن أطعتم آدميا بشرا مثلكم إنكم إذا لمبعوثون، وهذا القول منهم دليل على غاية جهلهم حيث عبدوا أصناما لا تضر ولا تنفع، ولم يعدوا ذلك خسرانا، والأصنام أجسام مثلهم بل دونهم.
ثم عدوا عبادة الله وطاعته هو خسرانا، قالوا: { أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم }؛ أي وصرتم، { ترابا وعظاما }؛ بالية؛ { أنكم مخرجون }؛ أي أن تخرجوا من قبوركم، { هيهات هيهات لما توعدون }؛ أي بعدا بعدا لما تحاولون من البعث بعد الموت، وهذه كلمة استنكار واستبعاد، ويقرأ (هيهات) سبع قراءات بالنصب والكسر والرفع والتنوين وغير التنوين والسكون، فمن نصب جعلها مثل (أين وكيف)، وقيل: لأنها أداة مثل خمسة عشر وبعلبك، ومن رفع جعله مثل (منذ وقط وحيث)، ومن كسر جعله مثل أمس. قال الشاعر:
تذكرت أياما مضين من الصبا
وهيهات هيهاتا إليك رجوعها
وقال آخر:
لقد باعدت أم الحمارس دارها
وهيهات من أم الحمارس هيهاتا هيهات
ومعنى (هيهات) بعد الأمر جدا حتى امتنع، وهو اسم سمي به الفعل، وهو بعد كما قالوا: صه بمعنى اسكت، ومه بمعنى لا تفعل، وليس له اشتقاق وفيه ضمير مرتفع عائد إلى قوله (مخرجون)، والتقدير (هيهات) أي هو الإخراج، والمعنى: بعد إخراجكم للوعد؛ أي الذي توعدون. قال أبو عمرو: (إذا وقفت فقل هيهاه بالهاء) وقال الفراء: (كان الكسائي يختار الوقف عليها بالهاء، وأنا أختار التاء لأنها ليست هاء التأنيث). وروي أن سيبويه قال: (هي بمنزلة بيضات) يعني في التأنيث، فإذا كان كذلك كان الوقف بالهاء.
[23.37-38]
قوله تعالى: { إن هي إلا حياتنا الدنيا }؛ أي قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها، { نموت ونحيا }؛ أي يموت قوم ويحيا قوم آخرون، { وما نحن بمبعوثين }؛ بعد الموت. قوله تعالى: { إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا }؛ أي قالوا: ما هود إلا رجل اختلق على الله كذبا بأنه رسول إلينا، وأنا نبعث، { وما نحن له بمؤمنين }؛ أي بمصدقين فيما يقول.
[23.39-41]
قوله تعالى: { قال رب انصرني بما كذبون }؛ أي قال هود: رب أعني عليهم بتكذيبهم إياي، { قال }؛ الله: { عما قليل }؛ على تكذيبهم أي عما قليل من الزمان والوقت، يعني عند الموت وعند نزول العذاب بهم، { ليصبحن نادمين }؛ على الكفر والتكذيب، { فأخذتهم الصيحة بالحق }؛ أي صاح بهم جبريل صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم. قوله تعالى: { بالحق } أي باستحقاقهم العذاب بكفرهم.
قوله تعالى: { فجعلناهم غثآء }؛ أي صيرناهم بعد الهلاك كغثاء السيل، وهو ما يكون على وجه السيل من القصب والحطب والحشيش والأشجار اليابسة المتبقية البالية، إذا جرى السيل رأيت ذلك مخالطا زبد السيل، والمعنى: صيرناهم هلكا فيبسوا كما يبس الغثاء من نبت الأرض. وقوله تعالى: { فبعدا للقوم الظالمين }؛ أي بعدا من رحمة الله للقوم الكافرين.
[23.42-43]
قوله تعالى: { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين }؛ أي ثم خلقنا بعد هلاك قوم هود أهل أعصار آخرين فسكنوا ديارهم إلى أن هلكوا، { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون }؛ أي لا تموت أمة قبل أجلها ولا يتأخر موعدهم عنه، وقوله تعالى: { من أمة } من ها هنا صلة.
[23.44]
قوله تعالى: { ثم أرسلنا رسلنا تترا }؛ أي بعضها في إثر بعض مترادفين، { كل ما جآء أمة }؛ أي قوما، { رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا }؛ في الهلاك والتعذيب، { وجعلناهم أحاديث }؛ لمن بعدهم من الناس يتحدثون بأمرهم وشأنهم ويتمثل بهم في السر. { فبعدا لقوم لا يؤمنون }.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (تترا) بالتنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين مثل سكرى وشكوى، فمن نون كان الألف فيه كالألف في أنت زيدا أو عمرا، فإذا وقفت كان ألفا، يعني توقف عليه بالألف، ومن لم ينون كتبها بالياء.
[23.45-46]
قوله تعالى: { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين }؛ ظاهر المعنى. قوله تعالى: { إلى فرعون وملئه فاستكبروا }؛ أي تكبروا عن الإيمان بالله وعبادته، { وكانوا قوما عالين } ، أي وكانوا قوما قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم كما قال الله تعالى:
إن فرعون علا في الأرض
[القصص: 4]، وقال مقاتل: (معنى قوله { عالين } أي متكبرين عن توحيد الله).
[23.47-49]
قوله تعالى: { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا }؛ أي ليس لهم فضل علينا، { وقومهما لنا عابدون }؛ يعني بني إسرائيل لنا مطيعون، { فكذبوهما فكانوا من المهلكين }؛ بتكذيبهما. قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب }؛ يعني التوراة، { لعلهم يهتدون }؛ لكي يهتدوا به من الضلالة.
[23.50]
قوله تعالى: { وجعلنا ابن مريم وأمه آية }؛ أي جعلنا ولادة عيسى من غير أب دلالة على التوحيد والبعث، ولم يقل: آيتين؛ لأن معنى الآية فيهما واحدة. وقيل: معنى كل واحد منهما آية، كما قال
كلتا الجنتين آتت أكلها
[الكهف: 33] أي آتت كل واحدة أكلها، وقال تعالى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس
[المائدة: 90] ولم يقل أرجاس. وقيل: معناه: جعلنا شأنهما واحدا؛ لأن عيسى ولد من غير أب، وأمه ولدت من غير مسيس ذكر.
قوله تعالى: { وآويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين }؛ أي جعلناهما يأويان إلى بقعة مرتفعة ذات استواء واستقرار، ومكان ظاهر. والربوة: المكان المرتفع من الأرض.
واختلفوا في هذه البقعة، قال قتادة: (يعني بيت المقدس، وهو أرفع موضع في الأرض وأقرب موضع إلى السماء ثمانية عشر ميلا)، وقال أبو هريرة: (هي رملة بأرض فلسطين)، وروى الحسن وابن المسيب: (أنها دمشق). وقوله تعالى { ذات قرار } أي مستوية ليستقر عليها ساكنوها، وهي مع ذلك ساحة واسعة، والمعين الماء الجاري الطاهر الذي تراه العيون، يقال عانت الركبة إذا سالت بالماء.
[23.51]
قوله: { يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا }؛ قال الحسن ومجاهد والسدي والكلبي وقتادة ومقاتل: (الخطاب في هذه الآية لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده، إلا أنه ذكره بلفظ الجماعة، لما في الخطاب من تضمين أن الرسل جميعا أمروا بهذا الخطاب، وقيل لهم: كلوا من الطيبات؛ أي من الحلال، أمرهم الله أن لا يأكلوا إلا حلالا).
قال الحسن: (أما والله ما عنى به أصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكنه قال: انتهوا إلى الحلال منه). قوله تعالى: { واعملوا صالحا } أي اعملوا ما أمركم به الله وأطيعوه في أمره ونهيه. قوله تعالى: { إني بما تعملون عليم }؛ ظاهر المعنى.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى { يأيها الرسل كلوا من الطيبات } وقال { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، - ثم ذكر - الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب! مطعمه حرام؛ ومشربه حرام؛ وملبسه حرام؛ وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! "
ويروى عن عيسى: كان يأكل من غزل أمه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقول:
" جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالفني "
فبين أن رزقه من الغنيمة وأطيب الطيبات الغنيمة.
[23.52]
قوله تعالى: { وإن هذه أمتكم أمة واحدة }؛ أي دينكم ودين من قبلكم دين واحد. وقيل: جماعتكم جماعة واحدة كلكم عباد الله، { وأنا ربكم فاتقون }؛ أي فاتقوا عذابي، وافعلوا ما أمرتكم به واتركوا ما نهيتكم عنه.
قرأ الكوفيون: (وإن هذه أمتكم) بكسر الهمزة على الابتداء. وقرأ الباقون بفتحها مع التشديد، وخفف النون ابن عامر مع فتح الهمزة، فمن فتح الهمزة وشدد النون فمعناه: وبأن هذه، وقيل: واعلموا إن هذه أمتكم أمة واحدة، أي ملتكم ملة واحدة وهي دين الإسلام، ومن خفف مع الفتح جعل (أن) صلة، وتقديره: وهذه أمتكم، وقيل: تكون مخففة من الثقيلة كقوله تعالى
وآخر دعواهم أن الحمد لله
[يونس: 10].
[23.53-54]
قوله تعالى: { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا }؛ معناه: أنتم أهل ملة واحدة فلا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا؛ أي فرقا، وقيل: معناه: كتبا مختلفة ديوانها، فكفروا بما سواها كاليهود آمنوا بالتوراة وكفروا بالإنجيل والقرآن، والنصارى آمنوا بالإنجيل وكفروا بالقرآن. وقرئ (زبرا) بفتح الباء ومعناه قطعا وجماعات، ومنه زبر الحديد قطعه.
قوله تعالى: { كل حزب بما لديهم فرحون }؛ أي كل طائفة بما عندهم من الاعتقاد معجبون، فاتركهم في ضلالتهم وجهالتهم إلى أن يأتيهم ما وعدوا به من العذاب. وقيل: إلى أن يموتوا فيظهر لهم الحق من الباطل عند المعاينة في القيامة. وقيل: كل حزب من المشركين واليهود والنصارى بما عندهم من الدين راضون، يرون أنهم على الحق، { فذرهم في غمرتهم حتى حين }؛ أي في ضلالتهم وجهالتهم وغفلتهم حتى يرون العذاب بالسيف أو بالموت، يعني: كفار مكة.
[23.55-56]
قوله تعالى: { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات }؛ أي يظنون أن إمدادنا إياهم بالمال والبنين مسارعة منا لهم في الخيرات لكرامتهم علينا ومنزلتهم عندنا، { بل لا يشعرون } أن ذلك استدراج لهم وإملاء إلى حين.
[23.57-60]
قوله تعالى: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون }؛ أي حذرون من عذابه، والإشفاق هو الخوف، يقال: أنا مشفق من هذا الأمر؛ أي خائف، { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون }؛ أي يصدقون بالقرآن أنه من عند الله، { والذين هم بربهم لا يشركون }؛ معه غيره، { والذين يؤتون مآ آتوا وقلوبهم وجلة }؛ أي والذين يتصدقون بالأموال، ويعملون ما عملوا من الصالحات، وقلوبهم فزعة خائفة أن لا يقبل منهم ذلك. قال مجاهد: (المؤمن ينفق ماله وقلبه وجل).
" وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله { والذين يؤتون مآ آتوا وقلوبهم وجلة } ، فقال: " لا يا ابنة الصديق ، الذين يصومون ويتصدقون ويخافون أن لا تقبل منهم، ويصلون ويعرفون ألا تقبل منهم، ويتصدقون ويعرفون ألا تقبل منهم " "
وقال الحسن: (والذين يؤتون ما آتوا؛ أي يعملون ما عملوا من البر وهم يرون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله)، قال الزجاج: وقلوبهم وجلة { أنهم إلى ربهم راجعون }؛ أي لأنهم يوقنون برجوعهم إلى الله.
[23.61]
قوله تعالى: { أولئك يسارعون في الخيرات }؛ أي أهل هذه الصفة هم الذين يسارعون في الأعمال الصالحة، { وهم لها سابقون }؛ أي إليها سابقون، يكون (لها) بمعنى إليها، كقوله:
بأن ربك أوحى لها
[الزلزلة: 5] أي إليها. وقيل: معناه: وهم لها سابقون في الجنة؛ أي من أجل مسارعتهم في الخيرات سابقون في الجنة.
[23.62]
وقوله تعالى: { ولا نكلف نفسا إلا وسعها }؛ أي إلا طاقتها من العمل، فمن لم يستطع أن يصلي قائما فيصلي قاعدا. وقوله تعالى: { ولدينا كتاب }؛ أي عند ملائكتنا المقربين كتاب يشهد لكم وعليكم، يريد به صحائف الأعمال، وقيل: يعني اللوح المحفوظ، فيه كل شيء مكتوب، سبق في علم الله، { ينطق بالحق }؛ أي يبين الصدق، { وهم لا يظلمون }؛ لا ينقصون من ثواب أعمالهم، ولا يزاد على سيئاتهم.
[23.63]
قوله تعالى: { بل قلوبهم في غمرة }؛ أي قلوب أهل مكة في غفلة وجهالة، { من هذا } الذي تقدم ذكره من أعمال البر. وقيل: في غفلة من القرآن، { ولهم أعمال }؛ خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا، { من دون ذلك }؛ أي من دون أعمال المؤمنين، { هم لها عاملون }؛ ويجوز أن يكون قوله { من هذا } إشارة إلى الكتاب الذي ينطق بالحق؛ أي قلوبهم في غفلة من ذلك الكتاب، وأعمالهم التي عملوها محصاة فيه، ولهم أعمال من دون ما هم عليه لا بد أن يعملوها، وهو ما سبق في علم الله أنهم يعملونه. والغمرة: الغفلة التي تغطي القلب وتغلب عليه.
[23.64]
قوله تعالى: { حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون }؛ أي حتى إذا أخذنا أعيانهم ورؤساءهم بالقتل يوم بدر وبما يرون من العذاب وقت المعاينة، وقال الضحاك: (بالجوع حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم :
" اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسنين يوسف "
فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا العظام والجيف والكلاب والأولاد والقذر). قوله تعالى: { إذا هم يجأرون } أي يصيحون ويصرخون بالتوبة، وقيل: يجرعون ويستغيثون. وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع.
[23.65-67]
قوله تعالى: { لا تجأروا اليوم }؛ وعيدا بهم كالاستهزاء مثل قوله
لا تركضوا وارجعوا
[الأنبياء: 13]، قوله تعالى: { إنكم منا لا تنصرون }؛ أي لا تمنعون من عذابنا. قوله تعالى: { قد كانت آياتي تتلى عليكم }؛ أي تقرأ عليكم في الدنيا، يعني القرآن، { فكنتم على أعقابكم تنكصون }؛ أي تولون مدبرين وتعرضون عن الإيمان به، قوله تعالى: { مستكبرين به }؛ أي متعظمين ببيت الله الكعبة. وقيل: بحرم الله أنه لا يظهر عليكم أحد، فالكناية تعود إلى الحرم وهو كناية من غير مذكور، والمعنى: والمستكبرين في البيت الحرام لأمنهم فيه مع خوف سائر الناس في مواضعهم.
قوله تعالى: { سامرا تهجرون }؛ أي سمارا تهجرون القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، والهجر: هجر الحق بالإعراض عنه، وقد يقال: هجر المريض إذا هدأ في كلامه. والسمر: الحديث بالليل، كانوا يتحدثون حول الكعبة في أوائل الليل بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام والمسلمين، وإنما وحد (سامرا) لأنه في موضع المصدر.
قال الحسن ومقاتل: (المعنى: يهجرون القرآن ويرفضونه فلا يلتفتون إليه، كما قال تعالى { قد كانت آياتي تتلى عليكم } الآية). ويجوز أن يكون معناه من الهجر؛ وهو الكلام القبيح، يقال: هجر هجرا؛ إذا قال غير الحق، وهو قول السدي والكلبي وقتادة ومجاهد، وكانوا إذا دخلوا البيت سبوا النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. ويقال أيضا في هذا المعنى: أهجر هجرا؛ إذا أفحش في منطقه، ومنه قراءة نافع: (تهجرون) أي يفحشون في الكلام، ويقولون الخنا، وذلك أنهم كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم، والهجر هو الفحش من الكلام، يقال في المثل: (من كثر هجره وجب هجره).
[23.68]
قوله تعالى: { أفلم يدبروا القول }؛ أي أفلم يدبروا القرآن في حسن لفظه ونظمه، وكثرة فوائده ومعانيه، مع سلامته من التناقض والاختلاف، فتعلموا أنه من عند الله، ويقال : معناه: أفلم يدبروا القرآن فيعرفوا ما فيه من العبر والدلالات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { أم جآءهم ما لم يأت آبآءهم الأولين }؛ معناه: أم جاءهم أمر بديع لم يأت آباءهم؛ أي ألم يعلموا أن الرسل قد أرسلوا إلى من قبلهم؟ والمعنى: أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فأنكروه وأعرضوا عنه. ويحتمل أن يكون معناه: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فأنكروه وتركوا التدبر له. لأن (أم) بمعنى: (بل).
[23.69]
قوله تعالى: { أم لم يعرفوا رسولهم }؛ بالصدق والأمانة قبل إظهار الدعوة؟ { فهم له منكرون }. قال ابن عباس: (كانوا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم صغيرا وكبيرا صادق اللسان وفي العهد) وفي هذا توبيخ لهم بالإعراض عنه بعد ما عرفوا صدقه وأمانته.
[23.70]
قوله تعالى: { أم يقولون به جنة }؛ أي قالوا: إن محمدا مجنون ليصدوا الوجوه ويصرفوها عنه، وقد كذبوا في ذلك، فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يفعل، { بل جآءهم }؛ النبي صلى الله عليه وسلم { بالحق }؛ أي بالقرآن الذي لا تخفى صحته وحسنه على أحد، { وأكثرهم للحق كارهون }.
[23.71]
قوله تعالى: { ولو اتبع الحق أهوآءهم }؛ قال مقاتل والسدي: (الحق هو الله) والمعنى: لو جعل مع نفسه شريكا كما تحبون، { لفسدت السموت والأرض ومن فيهن }؛ كقوله
لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء: 22]. وقيل: معناه: لو وضع الحق على أهوائهم لهلك أهل السماوات والأرض؛ لأن الحق يدعو إلى المحاسن، والهوى يدعو إلى القبائح، ولو جعل الهوى متبوعا لبقيت الأمور على الظلم والجهالات، فتخلط الأمور أقبح الاختلاط، ولم يوثق بالوعد والوعيد، فأدى ذلك إلى الفساد؛ لأن الهوى هو ميل النفس إلى المشتهى من غير داعي الهوى.
قوله تعالى: { بل أتيناهم بذكرهم }؛ أي أعطيناهم القرآن الذي فيه عزهم وشرفهم، وأمروا بالعمل بما فيه، { فهم عن ذكرهم }؛ القرآن، { معرضون }؛ وهو نظير قوله
وإنه لذكر لك ولقومك
[الزخرف: 44] وقوله
كتابا فيه ذكركم
[الأنبياء: 10] والمعنى: تولوا عما جاءهم به من شرف الدنيا والآخرة.
[23.72-73]
قوله تعالى: { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير }؛ معناه: أم تسألهم على تبليغ الرسالة الجعل فيتثاقلون لذلك، قوله تعالى: { فخراج ربك } أي ما وعد الله لك من الأجر والثواب في الآخرة، { وهو خير الرازقين }؛ أي أفضل المعطين. وأصل الخرج والخراج: الضريبة والعلة، كخراج الأرض.
وقال النضر بن شميل: (سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج، فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرعت به من غير وجوب)، قوله تعالى: { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم }؛ أي إلى طريق قائم يرضاه الله وهو الإسلام.
[23.74]
قوله تعالى: { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون }؛ معناه: وإن الذين لا يصدقون بالقيامة عن دين الحق لناكبون؛ أي مائلون عادلون، ومنه النكباء. وقيل: معناه: إنهم في الآخرة عن صراط جهنم يسقطون يمنة ويسرة.
[23.75]
قوله تعالى: { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون }؛ أي ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من الشدة التي أصابت أهل مكة من الجوع والقحط الذي أخذهم سبع سنين للجوا في طغيانهم؛ أي لتمادوا في ضلالتهم يتحيرون ويترددون. وقيل: ولو رحمناهم في الآخرة فرددناهم إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر كما كانوا. قال الله تعالى:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
[الأنعام: 28].
[23.76]
قوله تعالى: { ولقد أخذناهم بالعذاب }؛ يعني الجوع الذي أصابهم بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم:
" اللهم سنين كسني يوسف "
فجاعوا حتى أكلوا الوبر والدم، { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }؛ أي فما خضعوا لربهم وما تضرعوا ولا انقادوا في الأمر لله وما رغبوا إليه في الدعاء، ولو كشف عنهم العذاب لم يشكروا، والاستكانة: طلب السكون، والتضرع: طلب كشف البلاء من القادر عليه.
[23.77]
قوله تعالى: { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد }؛ قيل: إنه القتل يوم بدر، وقيل: إنه عذاب الآخرة، { إذا هم فيه مبلسون }؛ أي آيسون يتحيرون، والإبلاس: اليأس مع التحير. وقيل: لما أصابهم من الجوع ما أصابهم،
" جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنشدك الله والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: " بلى " قال: فإنك قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع "
، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
[23.78-79]
قوله تعالى: { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون }؛ أي خلق لكم السمع تسمعون به، والأبصار تبصرون بها، والقلوب تعقلون بها، فشكركم فيما أعطي إليكم قليل، والأفئدة هي القلوب. قوله تعالى: { وهو الذي ذرأكم في الأرض }؛ أي خلقكم في الأرض، { وإليه تحشرون }؛ أي تجمعون إلى موضع الحساب والجزاء.
[23.80]
قوله تعالى: { وهو الذي يحيي ويميت }؛ أي يحييكم في أرحام أمهاتكم، ويميتكم عند انقضاء آجالكم، { وله اختلاف الليل والنهار }؛ أي له ملك اختلافهما ومرورهما يوما بعد ليلة، وليلة بعد يوم، { أفلا تعقلون }؛ أدلة الله تعالى تستدلون به على وحدانية الله تعالى.
[23.81-82]
قوله: { بل قالوا مثل ما قال الأولون }؛ أي لم يعقلوا أدلتنا ولم يستدلوا بها علينا، بل كذبوا بالبعث كما كذب آباؤهم قبلهم، والمعنى: كذبت قريش بالبعث مثل ما كذب الأولون، { قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون }؛ بعد الموت.
[23.83]
قوله تعالى: { لقد وعدنا نحن وآبآؤنا هذا من قبل }؛ أي خوفنا بهذا الذي تخوفنا به من قبل أن تخوفنا به، { إن هذآ إلا أساطير الأولين } أي ما هذا الذي تخوفنا به يا محمد إلا أحاديث الأولين.
[23.84-85]
قوله تعالى: { قل }؛ لهم يا محمد: { لمن الأرض ومن فيهآ }؛ من الخلق والعجائب، أجيبوا { إن كنتم تعلمون }؛ خالقها. ثم أجاب الله عنهم لما علم أنهم لا يجيبون فقال: { سيقولون لله قل } لهم يا محمد: { أفلا تذكرون }؛ فتستدلون على أن من له ملك السماوات والأرض وما فيهما قادر على البعث والنشور، فإن من ملك الأرض ومن فيها ملك إنشاءها بعد هلاكها.
[23.86-87]
قوله تعالى: { قل من رب السموت السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون }؛ عقابه على إنكار البعث. ومن قرأ { سيقولون لله } ومعناه: كأنه قال: لمن السماوات؟ فقال: لله.
[23.88-89]
قوله تعالى: { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه }؛ أي من ذا الذي له خزائن كل شيء وهو يغيث ويمنع من السوء، ولا يمنع منه من أراد به سوء، أجيبوا { إن كنتم تعلمون * سيقولون لله }؛ ملكوت كل شيء، { قل } لهم يا محمد { فأنى تسحرون }؛ أي تصرفون عن الحق إلى ما ليس له أصل ولا حقيقة، وقد ألقي إليكم حقائق الأدلة. والمعنى بقوله: { فأنى تسحرون } أي كيف يخيل لكم الحق باطلا، والصحيح فاسدا.
[23.90]
قوله تعالى: { بل أتيناهم بالحق }؛ أي جئناهم بالحق وبينا لهم، يعني أتيناهم بالتوحيد والقرآن، { وإنهم لكاذبون }؛ فيما يضيفون إلى الله من الولد والشريك.
[23.91-92]
قوله تعالى: { ما اتخذ الله من ولد }؛ هذا رد على اليهود في قولهم: عزير ابن الله، وعلى النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وعلى من قال من المشركين: الملائكة بنات الله، { وما كان معه من إله } ، هذا رد على عبدة الأوثان. وقوله تعالى: { إذا لذهب كل إله بما خلق }؛ معناه: لو كان معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه، لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره، { ولعلا بعضهم على بعض }؛ أي لطلب بعضهم قهر بعض، فلم ينتظم أمرهما كما لا ينتظم أمر بلد فيه ملكان قاهران.
قوله تعالى: { سبحان الله }؛ أي تنزيها لله { عما يصفون }؛ من اتخاذ الولد والشريك، { عالم الغيب والشهادة }؛ من خفضه جعله نعت الله، ومن رفعه كان خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو عالم، فقراءة الخفض هي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقراءة الباقين بالرفع. ومعنى الآية: عالم ما غاب عن العباد وما علمه العباد، { فتعالى عما يشركون }.
[23.93-95]
قوله تعالى: { قل رب إما تريني ما يوعدون }؛ معناه: قل يا محمد رب أرني ما يوعدون من العذاب والنقمة؛ يعني القتل ببدر. وقيل: معناه: قل يا محمد: يا { رب }؛ إن أريتني ما يوعدون من العذاب، { فلا تجعلني في القوم الظالمين }؛ أي منهم. قوله تعالى: { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون }؛ أي نحن قادرون على تعذيبهم، لكن الإمهال لحكمة تقتضي ذلك.
[23.96]
قوله تعالى: { ادفع بالتي هي أحسن السيئة }؛ يعني بالإحسان الإعراض والصفح، والسيئة: أذى المشركين إياه، وهذا قبل الأمر بالقتال، والمعنى: اذكر لهم المقاتلة والحجة على طريق التلطف والاستدعاء إلى الحق كما قال تعالى
فقولا له قولا لينا
[طه: 44]. قوله تعالى: { نحن أعلم بما يصفون }؛ أي بما يكذبون وبما يقولونه من الشرك فيجازيهم عليه.
[23.97-98]
قوله تعالى: { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين }؛ أي اعتصم بك وأمتنع بك من همزات الشياطين، وهمزات الشياطين: دفعهم الناس إلى المعاصي بالإغواء، ويقال: الهمزة هي الوسوسة الشاغلة عن أمر الله تعالى، { وأعوذ بك رب أن يحضرون }؛ عند القراءة وعند الموت وعند الغضب. وعن الحسن:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى الصلاة فهلل وكبر ثلاثا؛ وقال: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ولمزه ونفثه ونفخه " فسئل عن همزه؛ فقال: " هو أخذ الشيطان للإنسان حتى يصرع ويجن " وسئل عن نفثه؛ فقال: " هو الشعر " وسئل عن نفخه؛ فقال: " إنه الكبر " ".
[23.99]
قوله تعالى: { حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون }؛ أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار الذين ينكرون البعث يسألون الرجعة إلى الدنيا عند معاينة الموت. والمعنى: حتى إذا عاين أحدهم الموت وأعوانه قال: رب ارجعون إلى الدنيا.
وإنما قال: { رب ارجعون } بلفظ الجماعة لأن الله تعالى يخبر عن نفسه بما يخبر به عن الجماعة في قوله تعالى
إنا نحن نحيي ونميت
[ق: 43] وأمثاله، وكذلك العرب تخاطب الرجل الواحد بلفظ الجماعة كما يقول الرجل لآخر: أنتم تفعلون كذا ونحن نفعل كذا، ومنه قوله تعالى:
قرت عين لي ولك لا تقتلوه
[القصص: 9].
[23.100]
قوله تعالى: { لعلي أعمل صالحا }؛ قال ابن عباس: (معناه: أشهد أن لا إله إلا الله وأعمل طاعة الله) { فيما تركت }؛ أي في ما مضى من عمري، قال الله تعالى: { كلا } لا يرجع إلى الدنيا، ولا يجوز أن يكون (لعل) في هذه الآية للشك؛ لأنه لا معنى لذلك مع حرصه على الرجعة والنجاة من الموت والعذاب، وإنما المعنى: لكي أعمل صالحا، و(كلا) كلمة ردع وزجر وتنبيه أي لا يكون له ذلك.
قوله تعالى: { إنها }؛ أي من مسألة الرجوع إلى الدنيا، { كلمة هو قآئلها } ، عند موته ولا فائدة في ذلك، { ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون }؛ أي من أمامهم حاجز وحجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، وهم فيه إلى يوم يبعثون، فالقبر حاجز، وكل فصل بين شيئين برزخ.
[23.101]
قوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون }؛ قال ابن عباس: (يعني النفخة الأولى). وقيل: هي النفخة الثانية. وقوله تعالى: { فلا أنساب بينهم يومئذ } ، قال الحسن: (والله إن أنسابهم لقائمة بينهم كما قال الله تعالى
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه
[عبس: 34-35] ولكنهم لا ينتفعون بأنسابهم ولا يتعاطفون عليها، فكأنهم لا أنساب لهم).
وقيل: معناه: لا تفاخر بينهم كما يتفاخرون في الدنيا، ولا يتساءلون كما تسأل العرب في الدنيا: من أي قبيل أنت؟ وقيل: لا يسأل بعضهم بعضا عن خبره وحاله كما كانوا في الدنيا؛ لشغل كل واحد منهما بنفسه، ولا يسأل بعضهم بعضا أن يحمل شيئا من ذنوبه.
[23.102]
قوله تعالى: { فمن ثقلت موازينه }؛ يعني بالطاعات؛ { فأولئك هم المفلحون }؛ وقيل: فمن ثقلت موازينه بكلمة التوحيد، فأولئك هم المفلحون، قال صلى الله عليه وسلم:
" ولو وضعت السماوات السبع وما فيهن والأرض في كفة، رجحت بجميع ذلك ".
[23.103-104]
قوله تعالى: { ومن خفت موازينه }؛ يعني بكلمة الشرك { فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون }؛ ظاهر المعنى. قوله تعالى: { تلفح وجوههم النار }؛ قيل: الفلح هو الإحراق، يقال: لفحته النار إذا أحرقته، وتأثير الفلح أعظم من تأثير النفح، والنفح مذكور في قوله
نفحة من عذاب ربك
[الأنبياء: 46]. قوله تعالى: { وهم فيها كالحون }؛ الكلوح: تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان.
قال الحسن: (تغلظ شفاههم، وترتفع شفته العليا، وتنزل شفته السفلى، فتظهر الأسنان، فهو أقبح ما يكون). قال صلى الله عليه وسلم:
" وتشويه النار حتى تقلص شفته العليا فتبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته "
، قال ابن مسعود: (ألم تر إلى الرأس المسموط بالنار كيف بدت أسنانه وقلصت شفتاه).
[23.105-106]
قوله تعالى: { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون }؛ أي تجحدون، { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا }؛ بكثرة معاصينا، { وكنا قوما ضآلين }؛ في الدنيا فلم نهتد. قرأ الكوفيون غير عاصم: (شقاوتنا) بالألف وفتح الشين، وهما بمعنى واحد. الشقوة: هي المضرة اللاحقة في العاقبة، والسعادة: هي المنفعة التي تكون في العاقبة. والشقوة بفتح الشين بمنزلة الفعلة الواحدة، وكسر الشين في هذا دال على الكثرة واللزوم.
[23.107]
قوله تعالى: { ربنآ أخرجنا منها }؛ أي من النار إلى الدنيا، { فإن عدنا }؛ إلى التكذيب والمعاصي، { فإنا ظالمون }.
[23.108]
قوله تعالى: { قال اخسئوا فيها ولا تكلمون }؛ { اخسئوا } كلمة إهانة ومذلة؛ وهي في الأصل لطرد الكلاب، تقول: خسأت الكلب إذا طردته؛ فخسأ أي تباعد. قال الزجاج: (معناه تباعدوا تباعد سخط، وابعدوا بعد الكلب، ولا تكلمون في رفع العذاب عنكم، ولا تسألون الخروج من النار، فإني لا أدفع عنكم العذاب، ولا أهونه عليكم).
قال عبدالله بن عمرو: (أن أهل جهنم يدعون مالكا أربعين عاما فلا يجيبهم، ثم يقول: إنكم ماكثون، ثم ينادون ربهم: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون. فلا يجيبهم مقدار عمر الدنيا، ثم يرد عليهم: إخسئوا فيها ولا تكلمون بعد ذلك، ويكون لهم زفير كزفير الحمير، وشهيق كشهيق البغال، وعوي كعوي الكلاب).
[23.109]
قوله تعالى: { إنه كان فريق من عبادي يقولون }؛ أي يقال لهم: إنه كان طائف من عبادي يقولون: { ربنآ آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين }؛ وهم الأنبياء والمؤمنون، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب بما عاملوا الأنبياء والمؤمنين باتخاذهم سخريا.
[23.110]
قوله تعالى: { فاتخذتموهم سخريا }؛ أي تسخرون منهم وتستهزئون بهم. قرأ نافع وحمزة والكسائي: بضم السين ها هنا وفي ص، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان، ولم يختلفوا في الزخرف أنه بالضم؛ لأنه بمعنى التسخير.
قوله تعالى: { حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون }؛ لاشتغالكم بالسخرية منهم وبالضحك، فنسب الأنبياء إلى عبادة المؤمنين، وإن لم يفعلوا؛ لما أنهم كانوا السبب فيه.
[23.111]
قوله تعالى: { إني جزيتهم اليوم بما صبروا }؛ على أذيتكم واستهزائكم، { أنهم هم الفآئزون }؛ في الجنة. قرأ حمزة والكسائي (إنهم) بالكسر على الاستئناف، وقرأ الباقون بالفتح على معنى جزيتهم بالفوز.
[23.112-114]
قوله تعالى: { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين }؛ أي كم لبثتم في القبور؟ وقيل المكث في الدنيا، يقول الله تعالى للكفار يوم البعث: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم }؛ فيرون أنهم لم يلبثوا إلا يوما أو بعض يوم لعظم ما هم فيه من العذاب، نسوا ذلك. ويقال: يلحقهم دهشة وحيرة فينسون ذلك. وقوله تعالى: { فسئل العآدين }؛ يعني الملائكة الذين يحفظون عليهم آجالهم. وقرأ ابن كثير: (قل كم لبثتم) على فعل الأمر، وقوله: { قال إن لبثتم إلا قليلا }؛ في جنب لبثكم في العذاب؛ { لو أنكم كنتم تعلمون }.
[23.115-116]
قوله تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا }؛ أي أظننتم أنا خلقناكم للعبث تأكلون وتشربون وتفعلون ما تريدون وتموتون، { وأنكم إلينا لا ترجعون }؛ أي فلا تحشرون للحساب، ولا ترجعون إلى موضع لا تملكون فيه لأنفسكم ضرا ولا نفعا؟
قال ابن عباس: (معناه: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا كما خلقنا البهائم، لا ثواب لها ولا عقاب عليها لما قال
أيحسب الإنسان أن يترك سدى
[القيامة: 36] أي يهمل كما تهمل البهائم؟ قوله تعالى: { فتعالى الله الملك الحق }؛ أي هو الملك الحق الذي له الملك؛ لأنه ملك غيره، وكل من ملك غيره فملكه مستعار له، فإنه لا يملك إلا بتمليكه الله إياه، فكأنه لا يعتد بملكه في ملك الله.
قوله تعالى: { لا إله إلا هو رب العرش الكريم }؛ سمي العرش كريما لكثرة خيره بمن حوله، يقال: فلان كريم؛ أي كثير الخير.
[23.117]
قوله تعالى: { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه }؛ أي من يدع مع الله إلها آخر لم ينزل بعبادته كتاب ولا بعث لها رسول ولا حجة له عليه، فإنما حسابه عند ربه، فهو يجازيه بما يستحق كما قال تعالى:
ثم إن علينا حسابهم
[الغاشية: 26]، وقوله تعالى: { إنه لا يفلح الكافرون }؛ أي لا يسعد من جحد وكذب، ولا يأمن ولا ينجو من عذاب الله الكافرون.
[23.118]
قوله تعالى: { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين }؛ يحتمل أن يكون أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار منه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " إني لأستغفر الله كل يوم سبعين مرة " ، ويروى " مائة مرة " ".
وعن ابن مسعود:
" أنه مر بشاب مبتلى، فقرأت في أذنه { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } حتى ختم السورة فبرئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وماذا قرأت في أذنه؟ " فأخبره، فقال: " والذي بعثني بالحق نبيا؛ لو أن رجلا مؤمنا قرأها على جبل لزال " ".
[24 - سورة النور]
[24.1]
{ سورة أنزلناها وفرضناها }؛ أي هذه سورة أنزلنا جبريل عليه السلام بها، وقرأ طلحة بن مصرف (سورة) بالنصب على معنى: أنزلنا سورة كما يقال: زيدا ضربته، ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء. قوله تعالى: (فرضناها) أي أوحينا فيها أحكاما وفرائض مختلفة عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، وجحد من قرأ بالتخفيف، قوله
إن الذي فرض عليك القرآن
[القصص: 85] أي أحكام القرآن، والتشديد في (فرضناها) لكثرة ما فيها من الفرائض. قال مجاهد: (يعني الأمر بالحلال والنهي عن الحرام). قوله تعالى: { وأنزلنا فيهآ آيات بينات لعلكم تذكرون }؛ أي دلالات واضحات على وحدانيتنا وأحكامنا لكي تتعظوا فتعملوا بما فيها.
[24.2]
قوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة }؛ قال سيبويه: (معناه في الفرائض عليكم الزانية والزاني؛ لأنه لولا ذلك لنصب بالأمر الذي في قوله: { فاجلدوا } ). والجلد في اللغة: ضرب الجلد، يقال: جلده؛ إذا ضرب جلده ورأسه، إذا ضرب رأسه وبطنه، إذا ضرب بطنه.
ومعنى الآية: الزانية والزاني إذا كانا حرين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين، فاضربوا كل واحد منهما مائة جلدة. فأما إذا كانا مملوكين، فيحد كل واحد منهما خمسون جلدة في الزنا لقوله تعالى في الإماء:
فإذآ أحصن فإن أتين بفحشة فعليهن نصف ما على المحصنت من العذاب
[النساء: 25] يعني إذا عقلن فعليهن نصف حد الحرائر.
وإذا كان الزاني محصنا فحده الرجم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعز بن مالك الأسلمي بزناه، وكان قد أحصن. وكان عمر عليه السلام يقول: (إني لأخشى إن طال الزمان أن يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك الفريضة أنزلها الله، وقد قرأنا: [الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة] ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن الناس يقولون: زاد عمر في كتاب الله لكتبت ذلك على حاشية الكتاب). واجتمعت الأمة على رجم المحصنين إذا زنيا إلا الخوارج.
وأما الإحصان في هذا فهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما قد تزوج قبل ذلك نكاحا صحيحا، ودخل بزوجته في وقت كانا جميعا فيه على صفة الإحصان، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، فإنهما يشرطان هذه الشرائط السبعة في إحصان الزاني.
وأما أبو يوسف فلا يجعل الإسلام من شرائط الإحصان، ولا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت الدخول في النكاح الصحيح، فجعل الرجل البالغ العاقل المسلم محصنا بالدخول بزوجته الأمة والصبية والكتابية، ويجعل الزوجين الرقيقين محصنين بالدخول في النكاح الذي بينهم إذا أعتقا بعد ذلك، فإن لم يوجد الدخول في ذلك النكاح بعد العتق إلى أن زنى واحد منهما، فهما غير محصنين عنده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه:
" أن رجلا من الأعراب جاء إلى رسول الله: أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر: نعم يا رسول الله؛ اقض بيننا بكتاب الله، فقال: صلى الله عليه وسلم: " قل " قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " قال: فغدا عليها، فاعترفت؛ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت ".
قوله تعالى: { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله }؛ أي لا تأخذكم بهما رأفة ورحمة يمنع عن إقامة الحد، ويحل بمقدار عدده وصفته، فإنه ليس من صفات المؤمنين تضييع حدود الله، وقوله تعالى { في دين الله } ، قال ابن عباس: (في حكم الله) كقوله
في دين الملك
[يوسف : 76] أي في حكمه، { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }؛ ولا تعطلوا الحدود. قرأ ابن كثير (رأفة) بفتح الهمزة. وإنما ذكر الضرب بلفظ الجلد لئلا يبرح ولا يبلغ به اللحم.
واختلف العلماء في قوله { ولا تأخذكم بهما رأفة } فقال قوم: معناه: ولا تأخذكم الرأفة بهما فتعطلوا الحدود ولا تقيموها شفقة عليهما، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي. وقال الزهري وسعيد بن المسيب والحسن: (معناه: اجتهدوا في الجلد ولا تخففوا كما يخفف في حد الشرب، بل يوجع الزاني ضربا، ولا يخفف رأفة له، كأنه قال: لا تأخذكم بهما فتخففوا الضرب، بل أوجعوهما ضربا).
قوله تعالى: { وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين }؛ أي ليكن إقامة الحد عليهما بحضرة جماعة من المؤمنين ليستفيض الخبر بهما، ويبلغ الشاهد الغائب، فيرتدع الناس عن مثله، ويرتدع المضروب ويستحيي فلا يعود إلى مثل ذلك. واختلفوا في مبلغ عدد الطائفة، فقال الزهري: (أقله ثلاثة)، وقال ابن زيد: (أربعة بعد شهود الزنا)، وقال قتادة: (نفر من المسلمين).
وفي الخبر:
" إقامة حد في أرض خير لأهلها من مطر أربعين يوما "
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" يا معشر الناس؛ اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال؛ ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فاللاتي في الدنيا: تذهب البهاء، وتورث الفقر، وتنقص العمر. وأما اللاتي في الآخرة: فتوجب السخط؛ وسوء الحساب؛ والخلود في النار ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أعمال أمتي تعرض علي في كل يوم مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة "
وعن وهب بن منبه قال: (مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى).
فإن قيل: لم بدأ الله بذكر الزانية قبل ذكر الزاني فقال تعالى { الزانية والزاني } ، وبذكر السارق قبل ذكر السارقة في آية السرقة فقال:
والسارق والسارقة
[المائدة: 38]؟ قيل: لأن الرجل هو الذي يسرق غالبا، والمرأة هي السبب في الزنا غالبا، فأخرج الخطاب في المؤمنين على الأغلب.
[24.3]
قوله تعالى: { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في قوم من المهاجرين، دخلوا المدينة ولم يكن لهم مساكن ولا مال يأكلون منه ولا أهل يأوون إليهم، وفي المدينة باغيات سافحات يكرين أنفسهم ويضربن الرايات على أبوابهن يكتسبن بذلك، وكان أولئك المهاجرين الفقراء يطلبون معايشهم بالنهار ويأوون إلى المساجد بالليل، فقالوا: لو تزوجنا منهن فعشنا معهم إلى يوم يغنينا الله عنهن، وقصدوا أن يتزوجوهن وينزلوا منازلهن، ويأكلوا من كسبهن، فشاوروا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فنهوا أن يتزوجوهن على أن يحلوهن والزنا).
والمعنى: لا يرغب في نكاح الزانية إلا زان مثلها، ونظيره قوله تعالى:
الخبيثات للخبيثين
[النور: 26] ميل الخبيث إلى الخبيث وميل الطيب إلى الطيب، وقد يقع الطيب مع الخبيث، لكن الأعم والأغلب ما ذكرنا.
قوله تعالى: { وحرم ذلك على المؤمنين }؛ أي حرم على المؤمنين تزويج تلك الباغيات المعلنات بالزنا، وفيه بيان أن من يتزوج بامرأة منهن فهو زان، فالتحريم كان خاصة على أولئك دون الناس.
ومذهب سعيد بن المسيب: أن التحريم كان عاما عليهم وعلى غيرهم، ثم نسخ التحريم بقوله تعالى
وأنكحوا الأيامى منكم
[النور: 32]، فإن تزوج الرجل امرأة وعاين منها الفجور لم يكن ذلك تحريما بينهما ولا طلاقا، ولكنه يؤمر بطلاقها تنزها عنها، ويخاف عليه الإثم في إمساكها؛ لأن الله تعالى شرط على المؤمنين نكاح المحصنات من المؤمنات.
وروي
" أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إن امرأتي لا ترد يد لامس! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " طلقها " فقال: إني أحبها، وأخاف إن طلقتها أن أصيبها حراما، فقال له: " أمسكها إذا " "
إلا أن هذا الحديث فيه خلاف الكتاب؛ لأن الله تعالى أذن في نكاح المحصنات، ثم أنزل الله في القاذف لامرأته آية اللعان، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم التفريق بينهما، ولا يجتمعان أبدا، فكيف يأمره بالوقف على عاهرة لا تمتنع عمن أرادها، والحديث الذي ذكر لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن صح فتأويله أنها امرأة ضعيفة الرأي في تضييع مال زوجها، فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق، وهذا التأويل أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأحرى لحديثه. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: { وحرم ذلك على المؤمنين } إشارة إلى الزنا.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن هذه الآية نزلت في مرثد الغنوي، كان قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحمل ضعفة المسلمين من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة، وكانت له صديقة في الجاهلية يقال لها: عناق، فلقيته بمكة فدعته إلى نفسها فأبى وقال: إن الإسلام قد حال دون ذلك، فقالت له: فانكحني، فقال: حتى أشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسعت به إلى المشركين، فهرب إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وشاوره في تزوجها، فأنزل الله هذه الآية).
وبين أن نكاح المشركة زنا؛ لأنها لا تحل له، وقرن بين الزنا والشرك على طريق المبالغة في الزجر عن الزنا حين كان القوم يألفون الزنا ألفا شديدا.
وكان بحسب ظاهر الآية أن يكون للزاني أن يتزوج المشركة، وللزانية أن تتزوج المشرك، ولا خلاف أن ذلك غير جائر، وأن نكاح المشركات وتزوج المشركين منسوخ بقوله تعالى
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن
[البقرة: 221] وبقوله
ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا
[البقرة: 221].
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية: الزاني لا يطأ إلا زانية؛ أي لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله، وكذلك الزانية لا يزني بها إلا زان مثلها، حتى إذا طاوع أحدهما الآخر، فهما سواء في استحقاق الحد وعقاب الآخرة، فكأن المراد بالنكاح الوطء.
[24.4]
قوله تعالى: { والذين يرمون المحصنات }؛ أي يرمونهم بالزنا، { ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء }؛ على صحة قذفهم إياهن بالزنا، { فاجلدوهم ثمانين جلدة }. والمحصنات: الحرائر المسلمات البالغات العاقلات العفيفات عن فعل الزنا. وفي ذكر عدد الأربعة من الشهود دليل على أن المراد القذف بصريح الزنا؛ لأن هذا العدد لا يشترط إلا في الزنا، ولا يقبل في ذلك شهادة النساء. وفي الآية دليل على أن من قذف جماعة من المحصنات لم يضرب إلا حدا واحدا، وإذا كان القاذف عبدا فحده النصف كما بينا في حد الزنا.
قوله تعالى: { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا }؛ يعني المحدودين في القذف لا تقبل شهادتهم أبدا، { وأولئك هم الفاسقون }؛ أي الخارجون عن طاعة الله برميهم إياهن زورا وكذبا.
[24.5]
قوله تعالى: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك }؛ أي ندموا على قذفهم وعزموا على ترك المعاودة { وأصلحوا }؛ أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم، { فإن الله غفور }؛ لمن تاب منهم، { رحيم }؛ لمن مات على التوبة.
قال ابن عباس: (هذا الاستثناء لا يرجع إلى الشهادة، وإنما يرجع إلى الفسق). وقيل: إن توبته فيما بينه وبين الله مقبولة، وأما شهادته فلا تقبل أبدا، وهو قول شريح والحسن وإبراهيم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه.
وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء راجع إلى الفسق وإلى رد الشهادة، ويكون معنى قوله تعالى (أبدا) ما دام على القذف ولم يتب عنه. وأجمعوا جميعا أن هذا الاستثناء لا يرجع إلى الجلد، وذلك يقتضي أن يكون مقصورا على ما يليه وهو الفسق.
وأجمعوا أن المقذوفة إذا ماتت ولم تطالب بحد القذف ولم يحد القاذف ثم تاب، فإنه يجوز قبول شهادته؛ لأن على أصلنا أن الحاكم إذا أقام الحد على القاذف فكذبه وأبطل حينئذ شهادته، ولو جعل بطلان الشهادة حكما معلقا بتسمية الفسق ولم يجعل حكما على حاله مرتبا على الجلد لبطلت فائدة قوله
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا
[النور: 4] من كتاب الله؛ لأن كل فاسق لا تقبل شهادته إلا بعد توبته عن الفسق.
[24.6-7]
قوله تعالى: { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين }؛ الآية،
" وذلك أن الله سبحانه لما أنزل الآية التي قبل هذه الآية في قذف المحصنات وشرط فيها الإتيان بأربعة شهداء وإلا جلد ثمانين جلدة، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر.
فقال عاصم بن عدي: يا رسول الله ! جعلني الله فداك، أرأيت إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا على بطنها، فأراد أن يخرج من بيته فيجيء بأربعة شهداء قضى الرجل حاجته وخرج، وإن هو عجل فقتله قتلتموه، وإن تكلم بذلك جلدتموه، وإن سكت؛ سكت على غيظ شديد؟
فقال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالسيف " أراد أن يقول شاهدا، فأرسل عليه جبريل بالسكوت، فأمسك لئلا يتسارع أحد من الرجال إلى قتل أزواجهم. "
وقال ابن عباس:
" لما نزلت: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة - فقال عاصم بن عدي مقالته التي ذكرناها - وقال: يا رسول الله! كيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسناهم قضى الرجل حاجته وخرج. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر، وكانت له امرأة يقال لها خولة بنت قيسي، فأتى عويمر عاصما فقال: لقد وجدت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى، فقال: يا رسول الله؛ ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " وما ذاك؟ " قال: يا رسول الله؛ أخبرني عويمر أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة.
وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا، وقال لعويمر: " اتق الله؛ اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تعذبها بالبهتان " فقال: يا رسول الله؛ أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها. فقال صلى الله عليه وسلم: " اتق الله وأخبريني بما صنعت " فقالت: يا رسول الله؛ إن عويمرا رجل غيور، وإنه رآني وشريكا نتحدث، فحملته الغيرة على ما قال "
وروى عكرمة عن ابن عباس:
" لما نزل قوله: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة } قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أن أقتله ولا أهيجه ولا أخرجه حتى آتي بأربعة شهداء، ولم يأت بهم حتى فرغ من حاجته ويذهب! فإن قلت بما رأيت ضربتم ظهري ثمانين جلدة!
فقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم!؟ " قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة فاجترأ أحد منا أن يتزوجها. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله! بأبي وأمي أنت، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها لحق، ولكنني عجبت من ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: " والله يأبى إلا ذلك؟ " فقال: صدق الله ورسوله.
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله! إني جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي يزني بها، رأيت بعيني وسمعت بأذني. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى به، وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه، وقال هلال: يا رسول الله! إني لأرى الكراهة في وجهك لما أتيتك به، والله يعلم أني لصادق وما قلته إلا حقا، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجا، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضربه الحد.
واجتمعت الأنصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلا أن يجلد هلالا. فبينما هم كذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه، إذ نزل عليه الوحي، فأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل. فلما فرغ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم... } إلى آخر الآيات، فقال صلى الله عليه وسلم: " أبشر يا هلال؛ فإن الله قد جعل لك فرجا " فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: " أرسلوا إليها " فجاءت، فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كذب علي يا رسول الله، فقال هلال: يا رسول الله! ما قلت إلا حقا وإني لصادق، فقال صلى الله عليه وسلم: " الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ " فقال هلال: والله يا رسول الله ما كذبت. فقال صلى الله عليه وسلم: " لاعنوا بينهما ".
فقيل لهلال: اشهد بالله أربع مرات إنك لمن الصادقين، فقال هلال: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به، قال ذلك أربع مرات. فقال له عليه السلام عند الخامسة: " اتق الله يا هلال، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليكما العذاب ". فقال هلال: والله ما يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا.
ثم قيل للمرأة: اشهدي أنت، فقالت أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم عند الخامسة: " اتق الله فإن الخامسة هي الموجبة، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس " فسكتت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه ". فجاءت به غلاما أحمر كأنه جمل أورق على الشبه المكروه، وكان بعد ذلك أميرا على مصر لا يدري من أبوه ".
وعلى القول الأول أن القصة بين شريك بن سحماء وعويمر؛ قالوا:
" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة، فقام فقال: أشهد بالله أن خولة بنت قيس زانية، وإني لمن الصادقين فيما رميتها به. فقال في الثانية: أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين. وقال في الثالثة: أشهد بالله إنها حبلى من غيري، وإني لمن الصادقين - وكان عويمر قد اعتزلها أربعة أشهر لم يقربها، فظهر بها الحمل، فعلم أنه من وطئ غيره - ثم قال في الخامسة: أن لعنة الله على عويمر - يعني نفسه - إن كان من الكاذبين فيما قال.
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقعود وقال لزوجته: " قومي " فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وأن عويمرا لمن الكاذبين. ثم قالت في الثانية: أشهد بالله أنه ما رأى شريكا على بطني، وإنه لمن الكاذبين. ثم قالت في الثالثة: أشهد بالله أني حبلى منه، وإنه لمن الكاذبين. ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله ما رأى علي فاحشة قط، وإنه لمن الكاذبين. ثم قالت في الخامسة: أن غضب الله على خولة - تعني نفسها - إن كان من الصادقين.
ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال: " لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرها رأي، وكان لي ولها شأن ". ثم قال: " إن جاءت بالولد صهيبا أثيبج يضرب إلى السواد فهو لعويمر، وإن جاءت به أورق جعد جماليا خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء الذي رميت به ". قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله بشريك ابن سحماء "
وعن الضحاك عن ابن عباس قال:
" لما نزل قوله تعالى: { والذين يرمون المحصنات } الآية، قال عاصم بن عدي: يا رسول الله! لو وجدت على بطن امرأتي رجلا؛ فقلت لها: يا زانية؛ أتجلدني ثمانين جلدة إلا أن آتي بأربعة شهداء؟! وإن مضيت لأربعة شهداء قضى الرجل حاجته ومضى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " هكذا أنزل يا عاصم " ، قال: فخرج سامعا مطيعا، فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية يسترجعه، فقال: ما وراءك؟ قال: شر، وجدت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها، فرجع معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فبعث إليها فجاءت.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تقولين؟ " فقالت: يا رسول الله؛ إن شريك بن سحماء كان يأتينا، فنزل بنا فربما تركه زوجي عندي وخرج ولم ينكر عليه من ليل ولا نهار، فلا أدري إنه الآن أدركته الغيرة؛ أم بخل علي بالطعام؟! فأنزل الله تعالى آية اللعان { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين }.
فأقامه النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر، وقال: " يا هلال! أنت الشاهد أنك رأيتها تزني " فقال: أشهد بالله رأيته على بطنها يزني بها وإني لمن الصادقين، ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإن حملها هذا الذي في بطنها من شريك بن سحماء، وإني لمن الصادقين. أشهد بالله ما برئت منه ولا برئ منها، وإني لمن الصادقين... إلى أن قال في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من ذلك. فقال القوم: آمين.
فقال صلى الله عليه وسلم: " يا خولة ويحك! إن كنت ألممت بذنب فأقري به، فإن الرجم بالحجارة في الدنيا أيسر عليك من غضب الله في الآخرة، وإن غضبه عذابه " فقالت: يا رسول الله كذب. فأقامها مقامه، فقالت: أشهد بالله ما أنا زانية، وأنه لمن الكاذبين، ما رآه على بطني. أشهد بالله لقد برئت من الزنا وبرئ شريك بن سحماء مني، وإنه لمن الكاذبين. أشهد بالله لقد قربني منذ أربعة أشهر وإن ما في بطني لهلال، وإنه لمن الكاذبين. وقالت في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " ".
[24.8-9]
قوله: { ويدرؤا عنها العذاب }؛ أي يدفع عنها الحد: { أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين }؛ وقرأ حفص: (والخامسة) بالنصب، كأنه قال: وشهد الخامسة. وقرئ (فشهادة أحدهم أربع شهادات) بالرفع في قوله (أربع) على أنها خبر المبتدأ، ويقرأ بالنصب على معنى: فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات.
[24.10]
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته }؛ محذوف الجواب؛ تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته لفضحكم بما تركبون من الفواحش، ولعجلكم بالعقوبة من غير إمهال، ولبين الصادق من الكاذب ، فيقام الحد على الكاذب { وأن الله تواب حكيم }؛ أي تواب على من رجع عن معاصي الله، حكيم فيما فرض من الحدود.
[24.11]
قوله تعالى: { إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم }؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها وهي غزوة بني المصطلق، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الحجاب كنت أحمل في هودجي، وأحمل فيه حتى إذا فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ورجع ودرنا إلى المدينة.
فلما كان ذات ليلة قمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي قد انقطع، وكان من جزع ظفار، فرجعت ألتمس عقدي وحبسني ابتغاؤه.
فأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فحملوا هودجي على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكن نساء إذ ذاك خفافا لم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، ولم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم يفقدونني فيرجعون إلي.
فبينما أنا جالسة في مجلسي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي قد عرس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتى إلي فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل أن يضرب الحجاب، فما استيقظت إلا باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، فوالله ما كلمني بكلمة غير استرجاعه، فأناخ راحلته فوطأت على يدها وركبتها، وانطلق يقود في الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا وقت الظهيرة. فهلك من هلك في شأني، وخاض عبدالله بن أبي وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش الأسدية في ذلك، وكان الذي تولى كبره منهم عبدالله بن أبي بن سلول.
فقدمت المدينة، فأصابني مرض حين قدمتها شهرا، والناس يخوضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يزورني في وجهي لا أرى منه اللطف الذي كنت أرى منه إذا مرضت من قبل ذلك، إنما كان يدخل فيقول: " كيف تيكم؟ " فذلك يحزنني ولا أشعر بالسر حتى خرجت بعدما نقهت.
فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهي متبرزنا، ولا نخرج إلا من ليل إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز. فانطلقت أنا وأم مسطح - وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب - فأقبلنا حتى فرغنا من شأننا، فبينما نحن في الطريق عثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه، أي أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: " كيف تيكم؟ " قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ وإنما قلت ذلك حينئذ لأتيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أماه! ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا وأكثرن عليها. قلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: نعم. قالت: فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم من براءتي وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود؛ فقال: يا رسول الله هم أهلك وما نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة جارية عائشة فقال: " أي بريرة؛ هل رأيت من شيء يريبك في أمر عائشة؟ ". فقالت: لا؛ والذي بعثك بالحق نبيا ما رأيت عليها أمرا قط أغمضته عليها أكثر من أنها حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.
قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبدالله بن أبي بن سلول وهو على المنبر، فقال: " يا معشر المسلمين؛ من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيرا؟ " فقال سعد بن معاذ الأنصاري: يا رسول الله؛ أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فقام سعد بن عبادة الخزرجي وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حصين؛ وهو ابن عم سعد بن معاذ؛ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله؛ لتقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يحفظهم حتى سكنوا.
قالت عائشة: فمكثت يومي لا يرقأ لي دمع، وأبوي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت علي امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبثت شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: " أما بعد يا عائشة؛ فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثم تاب، تاب الله عليه ".
قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. فقال: والله لا أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، والله لقد عرفتم إنكم قد سمعتم هذا حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني في ذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني بريئة لتصدقوني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أبو يوسف
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون
[يوسف: 18].
قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراش، وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله منزل ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرؤني الله بها. قالت: فوالله ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى تغشاه الوحي وأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي، حتى أنه ليتحدر منه من الجمان من العرق في اليوم الشاتئ. فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: " أبشري يا عائشة؛ إن الله قد برأك " فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله سبحانه الذي أنزل براءتي، فأنزل الله عز وجل: { إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم } وهي عشر آيات.
فلما أنزل الله براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره -: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله تعالى
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة
[النور: 22] إلى قوله تعالى
ألا تحبون أن يغفر الله لكم
[النور: 22] قال أبو بكر: بلى؛ والله إني أحب أن يغفر الله لي. وأعاد إلى مسطح النفقة وقال: لا أنزعها منه أبدا.
ثم إن الخبر بلغ إلى صفوان؛ فقال: سبحان الله! والله ما كشفت كنف أنثى. فقتل شهيدا في سبيل الله، وزاد في آخره: قالت: وقعد صفوان بن المعطل لحسان ابن ثابت فضربه بالسيف، وقال حين ضربه:
تلق ذباب السيف عني فإنني
غلام هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأنتقم
من الباهت الرامي البراء الطواهر
فصاح حسان واستغاث بالناس على صفوان، وجاء حسان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به على صفوان في ضربه إياه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له ضربة صفوان إياه، فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم فعوضه عليها حائطا من نخل عظيم وجارية رومية. ثم باع حسان ذلك الحائط من معاوية في ولايته بمال عظيم، وقال حسان بن ثابت في براءة عائشة:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
خلية خير الناس دينا ومنصبا
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما قد جاء عني قلته
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي
لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها
تقاصر عنها سطوة المتطاول
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذين رموا عائشة فجلدوا جميعا ثمانين.
قوله تعالى: { إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم } وهم أربعة: حسان؛ ومسطح؛ وعبدالله بن أبي بن سلول؛ وحمنة بنت جحش. وقيل: العصبة من الواحد إلى الأربعين. والإفك في اللغة: الكذب.
قوله تعالى: { لا تحسبوه شرا لكم } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ولعائشة فيما لحقهم من الحزن والغم الشديد. والمعنى: لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم؛ لأنكم تؤجرون على ما قيل لكم من الأذى، وبما يكتب لكم من الثواب في الآخرة على الصبر، ولما بين الله من طهارة عائشة وبرائتها بآيات تتلى في المحراب إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم }؛ أي لكل أمرئ من الخائضين في هذا الأمر جزاء ما كسب من الإثم.
قوله تعالى: { والذي تولى كبره منهم }؛ أي والذي تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه وهو عبدالله بن أبي هو الذي بالغ في إشاعة هذا الحديث، وكان أهل الحديث يجتمعون عنده ويسيقون ذلك بأمره، { له عذاب عظيم }؛ يصغر في مقابلته كل عذاب يكون في الدنيا.
قرأ حميد الأعرج ويعقوب (كبره) بضم الكاف، قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ لأن الكبر هو بضم الكاف في الولاء والسن، ومنه الحديث
" الولاء الكبر "
وروى ابن أبي مليكة عن عائشة قالت في حديث الإفك: (ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام، فمررنا بملإ من المنافقين، فقام عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة، قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثم جاء يقودها. وشرع في ذلك حسان ومسطح وحمنة، ثم فشا ذلك في الناس). وقوله تعالى { له عذاب عظيم } يريد في الدنيا الجلد ثمانين جلدة، وفي الآخرة يصيره الله إلى النار.
[24.12]
قوله تعالى: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا }؛ أي هلا إذ سمعتموه أنها العصبة الكاذبة؛ أي هلا إ سمعتم قذف عائشة بصفوان، ظن المؤمنون والمؤمنات من العصبة الكاذبة يعني حمنة بنت جحش وحسان ومسطح بأنفسهم خيرا. قال الحسن: (بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة). ألا ترى ظن المؤمنون الذي هم كنفس واحدة فيما جرى عليها من الأمور بأنفسهم خيرا، { وقالوا هذآ إفك مبين }؛ أي كذب ظاهر بين.
وروي: أن المراد بهذه الآية أبو أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب، قالت: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بل وذلك الكذب البين، أرأيت يا أم أيوب كنت تفعلين ذلك؟ قالت: لا؛ والله ما كنت أفعله، قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله! هذا بهتان، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: هلا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا كما فعل أبو أيوب وامرأته قالا فيها خيرا.
[24.13]
قوله تعالى: { لولا جآءوا عليه بأربعة شهدآء }؛ أي هلا جاء العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بأربعة شهداء يشهدون بأنهم عاينوا منها ذلك، { فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولئك عند الله هم الكاذبون }؛ أخبر الله تعالى أنهم كاذبون في قذفها، يعني: إنهم كاذبون في الظاهر والباطن، وكفى بهذا براءة لعائشة رضي الله عنها، فمن جوز صدق أولئك في أمر عائشة صار كافرا بالله لا محالة؛ لأنه رد شهادة الله لها بالبراءة.
[24.14]
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في مآ أفضتم فيه عذاب عظيم }؛ معناه: لولا منة الله وإنعامه عليكم في الدنيا والاخرة بتأخير العذاب عنكم، وقبول التوبة لمن تاب لمسكم فيما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم هائل في الدنيا والآخرة لا انقطاع له.
[24.15]
قوله تعالى: { إذ تلقونه بألسنتكم }؛ قال الكلبي: (وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا وكذا، ويتلقونه تلقيا)، قال الزجاج: (يلقيه بعضكم إلى بعض)، { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم }؛ ولا بيان ولا حجة، { وتحسبونه هينا }؛ أي تظنون أن ذلك القذف سهل لا إثم فيه { وهو عند الله عظيم }؛ في الوزر والعقوبة. قرأ أبي: (إذ تتلقونه) بتاءين، وقرأت عائشة (إذ تلقونه) بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق، والولق الكذب، يقال: ولق فلان إذا استمر على الكذب، وولق فلان السر إذا استمر به.
[24.16]
قوله تعالى: { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهذا }؛ معناه: هلا قلتم حين سمعتم ذلك: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا. قوله تعالى: { سبحانك }؛ أي تنزيها لله تعالى أن تكون امرأة نبيه زانية، قوله تعالى: { هذا بهتان عظيم }؛ أي كذب، يقال: بهته يبهته بهتا وبهتانا؛ إذا أخبره بالكذب عليه.
[24.17-18]
وقوله تعالى: { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا }؛ أي ينهاكم الله ويخوفكم ويحرم عليكم أن تعودوا لمثل هذا القذف، { إن كنتم مؤمنين }؛ لأن قذف المحصنات لا يكون من صفات المؤمنين، وقوله تعالى { لمثله } أي إلى مثله. قوله تعالى: { ويبين الله لكم الآيات }؛ أي الأمر والنهي، { والله عليم }؛ بمقالة الكاذبين في أمر عائشة، { حكيم }؛ في ما شرع من الأحكام.
[24.19]
قوله تعالى: { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا }؛ فيه بيان على أن العزم على الفسق فسق، وأن على الإنسان أن يحب للناس ما يحب لنفسه، وأن يكون في قلبه سلامة للمؤمنين، كما يكون مأمورا بكف اللسان والجوارح. ومعنى الآية: إن الذين يحبون أن يفشو ويظهر الزنا في الذين آمنوا بأن ينسبوه إليهم ويقذفوهم به، { لهم عذاب أليم في الدنيا }؛ يعني الجلد، { والآخرة }؛ يعني عذاب النار، يريد بذلك المنافقين، { والله يعلم }؛ ما خضتم فيه من الإفك، وما فيه من سخط الله، { وأنتم لا تعلمون }؛ ذلك، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع قاذفي عائشة.
[24.20]
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم }؛ محذوف الجواب تقديره: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } لعجل لكم العذاب وعاقبكم في ما قلتم في أمر عائشة ومحبتكم إشاعة الفاحشة فيها، { وأن الله رءوف رحيم } فلم يعاقبكم في ذلك. قال ابن عباس: (يريد مسطح وحسان وحمنة).
[24.21]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان }؛ أي لا تسلكوا طرق الشيطان، ولا تعملوا بتزيينه ووسوسته في قذف عائشة، { فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر }؛ أي يأمر بعصيان الله وكل ما يكره الله مما لا يعرف في شريعة ولا سنة. وقيل: الفحشاء: القبيح من القول والعمل، والمنكر: الفساد الذي ينكر العقل صحته ويزجر عنه.
قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا } أي ما صلح منكم من أحد أبدا. وقيل: معناه: ما طهر منك أحد يذنب ولا صلح أمره بعد الذي قال في عائشة ما قال، ولا قبل توبة أحد منكم، { ولكن الله يزكي من يشآء }؛ أي يطهر من يشاء من الإثم بالرحمة والمغفرة، فيوفقه للتوبة، { والله سميع }؛ أي سميع لمقالتكم، { عليم }؛ بما في نفوسكم من الندامة والتوبة. وقيل: معناه: سميع لمقالة الخائضين في أمر عائشة وصفوان، عليم ببراءتهما.
[24.22]
قوله تعالى: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله }؛ أي لا يحلف ذوو الغنى والسعة منكم أن يعطوا ذوي القربى والمساكين والمهاجرين من مكة إلى المدينة. نزل ذلك في أبي بكر رضي الله عنه حين بلغه مقالة مسطح وأصحابه في خوضهم في أمر عائشة، حلف بالله لا ينفق عليه.
قيل: إنه دعاه وقال له: (أغدوك يا مسطح بمالي وتؤذيني في ولدي؟ والله لا أنفق عليك). وكان مسطح ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان مسطح من المهاجرين البدريين. فلما نزلت هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه فقال: (بلى؛ أحب أن يغفر الله لي، أطيع ربي وأرغم أنفي وأرد النفقة عليه).
وقوله تعالى { أن يؤتوا أولي القربى } معناه: أن لا يؤتوا فحذف (لا). قال ابن عباس: (قال الله لأبي بكر رضي الله عنه: قد جعلت فيك يا أبا بكر الفضل والمعرفة بالله وصلة الرحم، وجعلت عندك السعة فأنفق على مسطح، فله قرابة وله هجرة وله مسكنة). وقوله تعالى: { وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم }؛ قال مقاتل:
" قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: " أما تحب أن يغفر الله لك؟ " قال: بلى، قال: " فاعف واصفح " قال: قد عفوت وصفحت، لا أمنعه معروفي بعد اليوم أبدا، وقد جعلت له مثل ما كان قبل اليوم "
[24.23]
قوله تعالى: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات }؛ معناه: إن الذين يقذفون العفائف الغافلات عما قذفن به كغفلة عائشة عن ما قيل فيها ، { المؤمنات } ، بالله ورسوله، { لعنوا في الدنيا والآخرة }؛ أي عذبوا في الدنيا بالحد، وفي الآخرة بعذاب النار. وسميت عائشة غافلة؛ لأنها قذفت بأمر لم يخطر ببالها، فأصاب كل واحد من قاذفيها ذاهبة في الدنيا. أما ابن أبي فقد مات كافرا ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، وأما حسان فقد دخل على عائشة رضي الله عنها بعد ما ذهب بصره في آخر عمره، وأنشدها في بيتها:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: إنك لست كذلك، فلما خرج من عندها، قيل لعائشة: إن الله وعدهم بعذاب في الدنيا والآخرة؟ فقالت: أوليس: هذا عذاب؟ يعني ذهاب بصره.
واختلف المفسرون في هذه الآية { لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم }؛ فقال مقاتل: (هذه الآية خاصة في عبدالله بن أبي المنافق ورميه عائشة)، وقال ابن جبير: (هذا الحكم خاصة فيمن قذف عائشة، فمن قذفها فهو من أهل هذه الآية)، وقال الضحاك والكلبي: (هذا في عائشة وفي جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر المؤمنين)، قال ابن عباس: (هذه الآية في شأن أمهات المؤمنين خاصة ليس فيها توبة، وأما من قذف امرأة مؤمنة من غيرهن، فقد جعل الله له توبة). ثم قرأ
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء
[النور: 4] إلى قوله:
إلا الذين تابوا
[النور: 5]، قال: (فجعل الله لهولاء توبة، ولم يجعل لأولئك).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أشاع على رجل كلمة فاحشة وهو منها بريء يريد أن يسبه بها في الدنيا، كان حقا على الله أن يدسه بها في النار. وأيما رجل جاء في شفاعة حد من حدود الله تعالى فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة ".
[24.24]
قوله تعالى: { يوم تشهد عليهم ألسنتهم }؛ قال الكلبي: (تشهد عليهم يوم القيامة ألسنتهم بما تكلموا به من الفرية في قذف عائشة) { وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } ، قال ابن عباس: (تنطق بما عملت في الدنيا)، وهذه عامة في القاذفين وغيرهم. قرأ حمزة والكسائي : (يوم يشهد) بالياء لتقدم الفعل.
[24.25]
قوله تعالى: { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق }؛ أي يوفيهن جزاءهم الواجب على قدر أعمالهم، { ويعلمون أن الله هو الحق المبين }؛ أي ويعلمون يومئذ أن الله تعالى هو الحق المبين، يقضي بحق ويأخذ بحق ويعطي بحق.
قال ابن عباس: (وذلك أن عبدالله بن أبي بن سلول كان يشك في الدين، ويعلم يوم القيامة أن الله هو الحق المبين). قرأ مجاهد: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) برفع القاف على أنه نعتا لله، وتصديقه قراءة أبي (يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم). وقوله تعالى { المبين } أي يبين لهم حقيقة ما كان بعدهم في الدنيا.
[24.26]
قوله تعالى: { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات }؛ معناه: الكلمات الخبيثات للخبيثين من الرجال؛ أي لا يتكلم بالكلمات الخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء. وقيل: معناه: إن الخبيث من القول لا يليق إلا بالخبيث من الناس، وكل كلام إنما يحسن في أهله، فيضاف سيء القول إلى من يليق به ذلك، وكذلك الطيب من القول، وعائشة لا يليق بها الخبيثات؛ لأنها طيبة فيضاف إليها طيبات الكلام من الثناء الحسن وما يليق بها.
وقال بعضهم: معنى الآية: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء للمشاكلة التي بينهما، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. وفي هذا تبرئة عائشة رضي الله عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أطيب الطيبين، فلا يكون له إلا امرأة طيبة.
قوله تعالى: { أولئك مبرءون مما يقولون }؛ يعني أن الطيبين والطيبات مبرؤن مما يقول الخبيثون، والمبرأ هو المنفي عن صفة الخبث، والمراد به عائشة وصفوان، فذكرهما بلفظ الجماعة كما في قول تعالى
فإن كان له إخوة
[النساء: 11] والمراد أخوان. وقوله تعالى { مبرءون } أي منزهون. وقوله تعالى: { لهم مغفرة ورزق كريم }؛ أي لهم مغفرة لذنوبهم وثواب حسن بإلحاقهم في الجنة من الأذية.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد أعطيت تسعا لم يعطهن امرأة: نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد قبض ورأسه في حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، ولقد كان الوحي إذا نزل عليه تفرقن عنه، وكان ينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة لعبد طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما).
[24.27-29]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها }؛ في الآية أمر بالتحفظ عن الهجوم عن ما لا يؤمن من العورات، وإلى هذا
" أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي قال له: أستأذن على أخواتي؟ قال: " إن لم تستأذن رأيت منها ما تكره " "
أي ربما تدخل عليها وهي منكشفة فترى ما تكره. ومعنى قوله تعالى { حتى تستأنسوا } أي حتى تستأذنوا، والاستئناس هو الاستعلام ليعلم من في الدار، وذلك يكون بقرع الباب والتنحنح وخفق النعل.
وكان أبي بن كعب وابن عباس والأعمش يقرأونها (حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها). وقيل: إن في الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهو أن يقول: السلام عليكم؛ أدخل؟.
وروي أن
" أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لخادمة يقال لها روضة: " قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن، قولي له: تقول: السلام عليكم؛ أدخل؟ " ".
وعن زينب امرأة ابن مسعود قالت: (كان عبدالله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهة أن يهجم علينا ويرى أمرا يكرهه). وعن أبي أيوب قال: (يتكلم الرجل بالتكبيرة والتسبيحة والتحميدة، ويتنحنح يؤذن أهل البيت).
ويروى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أتى إلى منزل عمر رضي الله عنه فقال: السلام عليكم؛ هذا عبدالله بن قيس؛ هل أدخل؟ فلم يؤذن له، ثم قال: السلام عليكم؛ هذا أبو موسى. فلم يؤذن له، فذهب فوجه عمر بعده من يرده، فسأله عما منعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع ". فقال: عمر رضي الله عنه: لتأتيني بالبينة وإلا عاقبتك! فانطلق أبو موسى وأتى بأبي بن كعب وأبي سعيد الخدري فشهدا بذلك، وقال له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؛ فلا تكونن عذابا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: وما فعلت؟! إنما أنا سمعت بشيء فأحببت أن أتثبت.
وروي
" أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: " نعم " قال: ليس لها خادم غيري، فأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: " أتحب أن تراها وهي عريانة؟ " قال: لا، قال: " فاستأذن " ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم؛ حل لهم أن يفقأوا عينه "
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنه رأى رجلا اطلع في حجرته وبيد النبي صلى الله عليه وسلم مدرا يحك به رأسه، فقال: " لو علمت أنك تريد أن تنظر إلى عورة لفقأت بهذا عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر " ".
قوله تعالى: { ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون }؛ أي ذلك الاستئذان خير لكم من الدخول بغير إذن لكي تذكرون منه، قوله تعالى: { فإن لم تجدوا فيهآ أحدا فلا تدخلوها }؛ معناه: فإن لم تجدوا في البيوت أحدا من سكانها فلا تدخلوها، { حتى يؤذن لكم }؛ وكذلك لو وجدوا البيوت خالية لم يجز دخولها أيضا إلا بإذن صاحبها.
قوله تعالى: { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم }؛ أي إذا امرتم بالانصراف فانصرفوا وتقوسوا على باب البيت فلعل صاحب البيت لا يرضى أن يقع بصر المستأذن على أحد من حرمه، وكذلك لو لم يقل لكم صاحب الدار ارجعوا، ولكن وجد منه ما يدل على ذلك وجب الرجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع "
وروي
" الاستئذان ثلاث: مرة يستمعون، ومرة يستصلحون، ومرة يأذنون "
وقوله تعالى { هو أزكى لكم } أي الرجوع أطهر وأنفع لدينكم من الجلوس على أبواب الناس، { والله بما تعملون عليم }؛ أي بما تعملون من الدخول بإذن وغير إذن عالم.
فلما نزلت آية الاستئذان؛ قالوا: فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة }؛ بغير استئذان. وقيل: أراد بذلك المواضع التي لا يختص سكانها أحدا دون آخر مثل الخانات والرباطات التي تتخذ للمسافرين يتظللون فيها من الحر والبرد، ويدخل في هذا أخذ ما جرت العادة بأخذه مثل النوات والخرق الملقاة في الطريق، ويجوز أن يكون المراد بالبيوت في هذه الآية بيت التجار التي في الأسواق.
قوله تعالى: { فيها متاع لكم }؛ أي منافع من اتقاء الحر والبرد والاستمتاع بها. قال مجاهد: (كانوا يصنعون في طرق المدينة أقتابا وأمتعة في البيوت ليس فيها أحد، وكانت الطرق إذ ذاك آمنة، فأحل لهم أن يدخلوها بغير إذن). وقال عطاء: (معناه بالمتاع هو قضاء الحاجة من الخلاء والبول). قوله تعالى: { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون }؛ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.
[24.30]
قوله تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم }؛ أي قل لهم يغضوا من أبصارهم عن النظر إلى ما لا يحل لهم. واختلفوا في قوله تعالى { من أبصارهم } فقال بعضهم: هي صلة يغضوا أبصارهم. وقال بعضهم: هي ثابتة في الحكم؛ لأن المؤمنين غير مأمورين بغض البصر أصلا وإنما أمروا بالغض عما لا يحل. قوله تعالى: { ويحفظوا فروجهم }؛ يعني عن الحرام، قال صلى الله عليه وسلم:
" اضمنوا لي شيئا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" النظر إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن رد بصره ابتغاء ثواب الله أبدله الله بذلك ما يسره "
وقوله تعالى: { ذلك أزكى لهم }؛ أي أطهر وأصلح عند الله، { إن الله خبير بما يصنعون }؛ في الفروج والأبصار.
[24.31]
قوله تعالى: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن }؛ أي قل لهن يكففن أبصارهن عن ما لا يجوز، { ويحفظن فروجهن }؛ عن الحرام. وقيل: { ويحفظن فروجهن } أي يستترن حتى لا يرى فروجهن أحد.
قوله تعالى: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها }؛ أي لا يبدين مواضع زينتهن إلا ما ظهر من موضع الزينة. والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: المخانق والمعاضد والقلادة والخلخال والسوار والقرط والمعاصم. وأما الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم والخضاب، فليس على المرأة بحكم إلا هذا به ستر وجهها وكفيها في الصلاة.
وفي غير الصلاة يجوز للأجانب من الرجال النظر إلى وجهها لغير الشهوة. فأما النظر مع الشهوة فلا يجوز إلا في أربعة مواضع: إذا أراد أن يتزوج امرأة، أو يشتري جارية، أو يتحمل الشهادة لها أو عليها، أو القاضي يقضي لها أو عليها.
وعن ابن مسعود: (أن الزينة الظاهرة: هي الجلباب والملاءة) يعني الثياب لقوله
خذوا زينتكم
[الأعراف: 31] أي ثيابكم. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها وإلى ها هنا وقبض على نصف الذراع ".
قوله تعالى: { وليضربن بخمرهن على جيوبهن }؛ الخمر: جمع خمار؛ وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والمعنى: وليلقين مقانعهن على جيوبهن وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن ومروطهن وأعناقهن ونحورهن، كما قال ابن عباس: (تغطي المرأة شعرها وصدرها وترابها وسوالفها) لأن المرأة اذا أسدلت خمارها انكشف ما قدامها وما خلفها فوقع الاطلاع عليها. والجيوب: جمع جيب وهو جيب القميص.
قوله تعالى: { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن }؛ أراد به موضع الزينة الباطنة التي لا يجوز كشفها في الصلاة، والمعنى: لا يظهرن موضع الزينة التي تكون تحت خمرهن إلا لأزواجهن، { أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن } أي أزواجهن، { أو إخوانهن }؛ في النسب أو الرضاع { أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن }؛ وكل ذي رحم محرم منهن، { أو نسآئهن }؛ يعني نساء أهل دينهن وهن المسلمات، ولا يحل لمسلمة أن تنكشف بين يدي يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو مشركة. وقيل : المراد بذلك العفائف من النساء اللائي يكن اشكالا لهن.
ولا ينبغي للمرأة الصالحة أن تنظر إلى المرأة الفاجرة؛ لأنها تصفها عند الرجل، ولا تضع جلبابها ولا خمارها عندها، ولا يحل لامراة مؤمنة أن تنكشف أيضا عند مشركة أو كتابية إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: { أو ما ملكت أيمانهن }؛ وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة: (أما بعد: فقد بلغني أن نساءكم يدخلن الحمامات معهن نساء أهل الكتاب، فامنع من ذلك).
فلما أتى الكتاب إلى أبي عبيدة قام ذلك المكان مبتهلا وقال: (اللهم أيما امرأة تدخل الحمام من غير علة ولا سقم تريد البياض لوجهها، فسود وجهها يوم تبيض الوجوه).
قوله تعالى: { أو ما ملكت أيمانهن }؛ ذهب بعضهم إلى أن المراد به العبد، فإنه لا بأس أن تظهر المرأة عند عبدها ما تظهر عند محارمها. وكان سعيد بن المسيب يقول: (لايغرنكم قوله: { أو ما ملكت أيمانهن } فإنها نزلت في الإماء دون العبيد)، وعن مجاهد مثل ذلك، كأنهما ذهبا إلى أن المراد بقوله: { أو نسآئهن } الحرائر، والمراد بقوله { أو ما ملكت أيمانهن } الإماء والولائد والصغار من الذكور المماليك.
قوله تعالى: { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال }؛ يعني الذين يتبعون النساء من الأجر العمال الذين لا حاجة لهم في النكاح، وإنما يخدمون القوم لينالوا من طعامهم، والإربة فعلة من الإرب وهو الحاجة، كالمشية من المشي. قال البعض: (هم قوم طبعوا على غير شهوة، لا يشتهون ولا يعرفون ما يشتهى من النساء ولا يشتهيهم النساء) يعني: لا يشتهون ولا يشتهون. وقال سعيد بن جبير: (المعتوهون)، وقال عكرمة: (هو المجنون)، وقال الحكم بن إبان: (هم المخانيث الذين لا إرب لهم في النساء، ولا تقوم لهم شهوة).
وعن عائشة رضي الله عنها:
" أن مخنثا كان يدخل عليهن، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في صفة امرأة: أنها إذا أقبلت؛ أقبلت بأربع، وإذا أدبرت؛ أدبرت بثمان، فقال صلى الله عليه وسلم: " أوهذا المخنث يعرف هذا الكلام؟! لا أراه يدخل عليكن " "
وقال مجاهد وعكرمة والشعبي: (هم الذين لا إرب لهم في النساء)، وقال قتادة: (هو الذي يتبعك لأجل أن يصيب من طعامك، ولا همة له في النساء). وقال مقاتل: (هو الشيخ الهرم الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن).
وأما الخصيان فهم على وجهين: إن كان خصيا قد جف ماؤه، فهو من غير أولي الإربة، وإن كان لم يجف، فهو من أولي الإربة، كما روي عن عائشة أنها قالت: (إن الخصياء مثله؛ وإنها لم تحل ما حرم الله). قوله تعالى: { غير أولي الإربة } ، قرأ ابن كثير والفراء بخفض (غير) على الصفة، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب (غير) على الاستثناء، ويكون (غير) بمعنى إلا، وقيل: على الحال.
قوله تعالى: { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء }؛ يعني الصغير الذي لا رغبة له في النساء، ولم يبلغ مبلغا يطيق إتيانهن، وقد يذكر الطفل بمعنى الجماعة، والمراد به ها هنا: والجماعة من الأطفال. وأما الصبي الذي ظهرت له رغبة في النساء، فحكمه حكم البالغ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الصبيان:
" مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع ".
قوله تعالى: { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن }؛ قال الحسن: (كانت المرأة تمر على المجلس وعليها الخلخال، فتضرب إحدى رجليها بالأخرى ليعلم القوم أن عليها الخلخال، فنهين عن ذلك لأن ذلك مما يحرك الشهوة؛ لأن سماع صوت الزينة بمنزلة إبدائه). وفي هذا دليل أن صوت المرأة عورة؛ لأن صوت خلخالها أقل من صوتها. وأما سوى مواضع الزينة فلا يحل النظر إليه إلا للزوج خاصة.
قوله تعالى: { وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون }؛ أي وتوبوا إلى الله جميعا عما كنتم في الجاهلية تعملون من الخصال المذمومة، واعملوا بطاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، { لعلكم تفلحون }؛ وقوله تعالى: { أيه المؤمنون } قرأ ابن عامر بضم (الهاء) ومنه (يا أيه الساحر) و(أيه الثقلان)، وينبغي أن لا يؤخذ بقراءته.
[24.32]
قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم }؛ أي تزوجوهم، والأيم اسم المرأة التي لا زوج لها، والرجل الذي لا امرأة له، يقال: رجل أيم وامرأة أيم، كما يقال: رجل بكر وامرأة بكر، وقال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي أكن
مدى الدهر ما لم تنكحي أتأيم
ويقال: الأيم في النساء كالعزب في الرجال، وجمع الأيم الأيامى.
قوله تعالى: { والصالحين من عبادكم وإمائكم }؛ أي وزوجوا عبيدكم وإمائكم، وهذا أمر ترغيب واستحباب. وفائدة ذكر الصالحين: أن المقصود من النكاح العفاف، والصالح هو الذي يتعفف. وقيل: الصلاح ها هنا الإيمان، ثم رجع إلى الأحرار فقال: { إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله }؛ فيه حث على النكاح؛ لئلا يمتنعوا منه بسبب الفقر، فإن الله هو الغني والمغني، إن يكونوا فقراء لا سعة لهم في التزويج { يغنهم الله من فضله } أي يوسع عليهم عند التزوج.
واختلفوا في الآية قوله تعالى: { وأنكحوا الأيامى منكم } الآية؛ فقال بعضهم: هذا الأمر على الحتم والإيجاب، أوجب الله النكاح على من استطاعه، وتأوله الباقون على أنه أمر استحباب وندب، وهو المشهور الذي عليه الجمهور.
وقيل: يجب على المرأة والرجل أن يتزوجا إذا تاقت أنفسهما إليه؛ لأن الله تعالى أمر به ورضيه وندب إليه، وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" تناكحوا؛ فإني أباهي بكم الأمم حتى السقط "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أحب فطرتي فليستن بسنتي "
وهو النكاح؛ لأنه ينتفع بدعاء ولده بعده، ومن لم تتق نفسه إليه فأحب إلينا أن يتخلى لعبادة الله.
وعن أبي نجيح السلمي؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من كان له ما يتزوج به ولم يتزوج فليس منا "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أدرك ولدا وعنده ما يزوجه فلم يزوجه فأحدث إثما فالإثم بينهما "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا تزوج أحدكم عج الشيطان "
تأويله: غنم ابن آدم مني ثلثي دينه. وقال صلى الله عليه وسلم:
" مسكين مسكين رجل ليست له زوجة، مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج " قالوا: يا رسول الله! وإن كانت غنية من المال؟ قال: " وإن كانت غنية من المال " وقال: " شراركم عزابكم " ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أربعة يلعنهم الله من فوق عرشه: رجل يخصي نفسه عن النساء فلا يتزوج وهو قادر على ذلك، ولا يتسرى خشية أن يولد له، ورجل تشبه بالنساء، وامرأة تشبهت بالرجال، ورجل يتهزأ بالمساكين يقول لهم: تعالوا حتى أعطيكم، فإذا جاءوا قال لهم: ليس معي شيء، ويقول للأعمى: احذر الحجر قبلك، واحذر الدابة، وليس قبله شيء ".
وروي
" أن رجلا يقال له عكاف بن وادعة الهلالي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: " يا عكاف؛ ألك زوجة؟ " قال: لا، قال: " ولا جارية؟ " قال: لا، قال: " وأنت صحيح موسر؟ " قال: نعم، قال: " تزوج فإنك من إخوان الشياطين، اصنع ما يصنع المؤمنون؛ فإن من سنتنا النكاح، شراركم أعزابكم، وما للشيطان سلاح أبلغ من النساء، ويحك يا عكاف! إنهن صواحبات يوسف وصواحبات داود وصواحبات كرسف ". قالوا: يا رسول الله؛ ومن كرسف؟ قال: " رجل كان يعبد الله على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل لا يفتر، فقدر عليه أن كفر والعياذ بالله من سبب امرأة عشقها، وترك ما كان عليه من عبادة ربه، وتداركه الله بعد ذلك ما سلف منه. ويحك يا عكاف! تزوج فإنك من المذبذبين " قال: زوجني من شئت يا رسول الله، فزوجه على امرأة يقال لها كريمة بنت كلثوم الحميري ".
وعن عياض بن غنم الأشعري؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يا عياض؛ لا تزوجن عجوزا ولا عاقرا؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة "
، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تزوجوا الأبكار؛ فإنهن أعذب أفواها؛ وأنتق أرحاما؛ وأثبت مودة؛ وأرضى باليسير، وإذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها، فإن الشعر أحد الجمالين ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" تزوجوا الزرق فإن فيهن يمنا "
أي سعادة. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أعظم نساء أمتي بركة أصبحهن وجها وأقلهن مهرا "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" أعلنوا بالنكاح واضربوا عليه بالدفوف، وليولم أحدكم ولو بشاة ".
وعن معاذ بن جبل قال:
" حضرت ملاك رجل من الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وأملك الأنصاري، ثم قال له: " على الألفة والخير والطير الميمون " فجاء بسلال فيها فاكهة وسكر فلم ينتهبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تنتهبون؟ " قالوا: يا رسول الله! إنك نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، فقال: " إنما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم " ثم قال: " ألا فانتهبوا " ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" مسوا بالإملاك؛ فإنه أفضل في اليمين وأعظم في البركة "
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: (كان عندي جارية من الأنصار في حجري فزوجتها، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمع غناء، فقال: " يا عائشة؛ ألا تغنون لها، فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء ". قوله تعالى: { إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله } ، قال صلى الله عليه وسلم:
" التمسوا الرزق بالنكاح "
و
" شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، فقال: " عليك بالباءة " "
وقال عمر رضي الله عنه: (ابتغوا الغنى في النكاح، فالله تعالى يقول: { إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم }؛ أي واسع بخلقه عليم بهم.
[24.33]
قوله تعالى: { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله }؛ أي ليطلب الذين لا يجدون نكاحا العفة عن الزنا والحرام، والمعنى: من لم يجد سعة للنكاح من مهر ونفقة، ولا يجد شيئا يشتري به أمة فليستعفف عن الزنا حتى يجد ما يكفيه، كذلك وفي هذا بيان أنه لا عذر لأحد في السفاح.
قوله تعالى: { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم }؛ معناه الذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم، { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا }؛ رشدا وصلاحا وصدقا ووفاء وأمانة وقدرة على المكسب، وهذا أمر استحباب في العبد الذي يقدر على الاكتساب وترغيب في الكتابة. فأما الذي لا يقدر على الكسب ولا يرغب في الكتابة، فلا يكون في كتابته إلا قطع حق المولى عنه من غير نفع يرجع إليه. ومعنى الكتابة: أن يكاتب مملوكه على مال سلمه إليه نجوما فيعتق بأدائه، وإن كانت الكتابة حالة جازت عند أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي لا يجوز إلا منجما، وأقله نجمان فصاعدا.
قوله تعالى: { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم }؛ اختلفوا في معنى ذلك، فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (يحط عن المكاتب ربع مال الكتابة). وعن ابن عباس: (يحط عنه شيء)، وعن عبدالله بن يزيد الأنصاري أنه قال: (هذا خطاب للأئمة أن يسلموا إلى المكاتبين ما فرض الله لهم في قوله تعالى:
وفي الرقاب
[البقرة: 177] وهذا أقرب إلى ظاهر الآية، لأن الإتيان في اللغة هو الإعطاء دون الحط.
قوله تعالى: { ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء إن أردن تحصنا }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي سلول، كانت له جوار حسان: مسكة وأميمة ومقارة، كان يكرههن على الزنا ليكتسبن له بالفجور، وكذلك كان أهل الجاهلية يفعلون، فأتت الجواري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ذلك، فأنزل الله هذه الآية).
قال مقاتل: (نزلت في ست جوار لعبدالله بن أبي سلول: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وقتيلة وأروى، فجاءته إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى ببردة، فقال لهما: ارجعا فازنيا، وكان يؤجرهن على الزنا، فلما جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه قد آن لنا أن ندعه، فقال لهما عبد الله بن أبي سلول: إمضيا فازنيا. فقالتا: والله ما نفعل ذلك قد جاء الله بالإسلام وحرم الزنا. ثم مضيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا عليه، فأنزل الله هذه الآية). ومعناها: ولا تكرهوا إماءكم على البغاء؛ أي على الزنا، { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا }؛ من كسبهن وبيع أولادهن.
قوله تعالى: { إن أردن تحصنا } يعني إذا أردن تحصنا، خرج الكلام على وجه الحال لا على وجه الشرط، ونظيره قوله تعالى:
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق
[الاسراء : 31]، ويجوز أن يكون معناه: أن الكلام قد تم عند قوله { على البغآء } ثم ابتدأ بالشرط فقال: { إن أردن تحصنا } وجوابه محذوف؛ تقديره: إن أردن تحصينا فقد أصبن، ومثله
" قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: " أدفئيني " قالت: إني حائض، فقال صلى الله عليه وسلم: " وإن لم يرد عليه " "
وأراد بذلك إن كنت حائضا فلا بأس بذلك.
وقوله: { ومن يكرههن }؛ أي من يجبرهن على الزنا، ولم تقدر المكرهة على الدفع عن نفسها بوجه من الوجوه لم تأثم، وإن صبرت عن الامتناع حتى قتلت كان أعظم لأجرها، وإن قتلت دفعا عن نفسها كان لها ذلك. وقوله تعالى: { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم }؛ أي غفور لمن تاب منهن ومات على التوبة، غفور لمن تاب عن إكراههن على الزنا، رحيم بهم.
[24.34]
قوله تعالى: { ولقد أنزلنآ إليكم آيات مبينات }؛ أي أنزلنا إليكم القرآن آيات ظاهرات واضحات لتعملوا بها. وقيل: يعني بذلك ما ذكر في هذه السورة من الحلال والحرام. وقوله تعالى: { ومثلا من الذين خلوا من قبلكم }؛ أي وأنزل فيها مثلا؛ أي خبرا من خبر الذين مضوا من قبلكم لتعتبروا، { وموعظة للمتقين }؛ عن الشرك والفواحش.
[24.35]
قوله تعالى: { الله نور السموت والأرض }؛ أي الله هادي أهل السماوات وأهل الأرض بالآيات المبينات، لا هادي فيهما غيره، فبنوره الخلق يهتدون، وبهداه من الضلالة ينجون، فلا يهتدي ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا بهداه.
وقال الضحاك: (معناه الله منور السماوات والأرض)، وقال مجاهد: (معناه: الله مدبر الأمور في السماوات والأرض)، وقال الحسن وأبو العالية: (الله مزين السماوات والأرض)، يعني مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين.
قوله تعالى: { مثل نوره }؛ قال ابن عباس: (مثل نوره الذي أعطاه المؤمنين)، وقال السدي: (مثل نوره الذي في قلب المؤمن)، وكان أبي يقرأ (مثل نور المؤمنين). وقيل: كان يقرأ (مثل نور من آمن به).
قوله تعالى: { كمشكاة فيها مصباح }؛ المشكاة في لغة الحبشة: كوة غير نافذة، والمصباح: هو السراج في القنديل من الزجاج الصافية. وقيل: المشكاة: عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: (هي القنديل)، قال الزجاج: (النور في الزجاج، وضوء النار أبين منه في كل شيء، وضوؤه يزيد في الزجاج ويتضاعف حتى يظهر منه ما يقابله مثله).
قوله تعالى: { فيها مصباح } أي سراج، وأصله من الضوء، ومن ذلك الصبح، ورجل صبيح الوجه إذا كان وضيئا، وفرق قوم بين المصباح والسراج؛ فقالوا: المصباح دون السراج، والسراج أعظم من المصباح؛ لأن الله تعالى سمى الشمس سراجا، وقال في غيرها من الكواكب
ولقد زينا السمآء الدنيا بمصبيح
[الملك: 5].
ثم وصف الله الزجاجة التي فيها المصباح؛ فقال: { المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري }؛ شبه القنديل الذي يكون فيه السراج بالكوكب الدري؛ وهو النجم المضيء، ودراري النجوم كبارها، وقوله { دري } نسبة إلى أنه كالدر في صفائه وحسنه، كأن الكوكب درة بيضاء.
قرأ أبو عمرو والكسائي: (درئ) بكسر الدال مهموز ممدود؛ وهو فعيل من الدرء بمعنى الدفع، يقال: درء يدرأ إذا دفع، فكأنه تلألؤ يدفع أبصار الناظرين إليه. ويقال: كأنه رجم به الشياطين فدرأهم؛ أي دفعهم بسرعة في الانقضاض، وذلك أضوء ما يكون.
وقرأ حمزة وأبو بكر: مضمومة الدال مهموز ممدود، قال أكثر النحاة: هو لحن؛ لأنه ليس في كلام العرب، فقيل بضم الفاء وكسر العين، وأنكره الفراء والزجاج وأبو العباس، وقال: (هذا غلط؛ لأنه ليس في كلام العرب شيء على هذا الوزن). وقرأ الباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، فنسبوه إلى الدر في صفائه وبهائه.
قوله تعالى: { يوقد من شجرة مباركة زيتونة }؛ فيه أربع قراءات، قرأ نافع وابن عامر: بياء مضمومة يعنون المصباح، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بتاء مضمومة يعنون الزجاجة، وقرأ أبو عمرو: (توقد) بالتاء وفتحها وفتح الواو مشددة بمعنى الماضي، وقرأ ابن محيصن: بتاء مفتوحة وتشديد القاف مثل قراءة أبي عمرو إلا أنه رفع الدال بمعنى الفعل المستقبل بمعنى: تتوقد الزجاجة.
قوله تعالى: { من شجرة مباركة } أي من زيت شجرة مباركة، فحذف المضاف؛ وأراد بالشجرة المباركة شجرة الزيتون، بورك لأهلها فيها، وليس في الشجر شيء يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان.
قوله تعالى: { لا شرقية ولا غربية }؛ أي ليست تشرق عليها الشمس فقط من دون أن تغرب عليها، ولا غربية تغرب عليها فقط من دون أن تشرق عليها، بل هي شرقية غربية تأخذ حظها من الأمرين جميعا، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف، نحو أن تكون على تل من الأرض تقع عليها الشمس في جميع النهار، وإذا كانت على هذه الصفة كان أنضر لها وأجود لزيتها وأتم لنبلتها وأنضج لثمرها. وقال الحسن: (أراد بهذا شجرة في الجنة؛ لأن أشجار الأرض لا تخلو إما أن تكون شرقية أو غربية).
وسميت شجرة الزيتون مباركة؛ لأنها كثيرة البركة والمنافع؛ لأن الزيت يسرج به وهو إدام ودهان، ويوقد بحطبها ويدبغ بها ويغسل برمادها الإبريسم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة ".
قوله تعالى: { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار }؛ أي يكاد زيت هذه الشجرة ودهنها يتلألأ أو يشرق من وراء العصر من صفائه وإن لم تصبه نار؛ أي وإن لم يوقد بها، فكيف إذا استصبح بها.
قال المفسرون: هذا مثل للمؤمنين، فالمشكاة والمصباح هو الإيمان والقرآن، والزجاجة صدر المؤمن. ومعنى قوله تعالى { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } أي يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى وقبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد هدى على هدى. وقيل: المشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح القرآن والإيمان في قلبه توقد من شجرة مباركة وهو الإخلاص.
قوله تعالى: { نور على نور }؛ يريد به نور السراج ونور الزجاج ونور الدهن ونور الكوكب، فكما أن الزيت والزجاج والكوكب والسراج نور على نور في مشكاة لا يتفرق بشعاع السراج فيها، فكذلك الإيمان في قلب المؤمن من نور على نور، فإن المعرفة نور وعلمه نور، إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا قال صدق، وإذا حكم عدل، فهو يتقلب في الأنوار، ومصيره يوم القيامة إلى النور، كما قال تعالى
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم
[الحديد : 12].
وقيل: هذا مثل ضربه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: المشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه النبوة، توقد من شجرة مباركة وهي شجرة النبوة، يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم يضيء؛ أي يبين للناس ولو لم يتكلم به، كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار.
وقال ابن عمر في هذه الآية: (المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة: قلبه، والمصباح: النور الذي جعله الله فيه، (توقد من شجرة مباركة) يعني بالشجرة إبراهيم الخليل عليه السلام، { لا شرقية ولا غربية } أي لا يهودي ولا نصراني، { نور على نور } يعني النور الذي جعل في إبراهيم، والنور الذي جعل في محمد عليه السلام).
وقال محمد بن كعب: (المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلى الله عليه وسلم: سماه مصباحا كما سماه سراجا، فقال عز وجل
وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
[الأحزاب: 46].
وقوله تعالى: { يوقد من شجرة مباركة }؛ يعني إبراهيم، سماه مباركا؛ لأن أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، { لا شرقية ولا غربية } يعني أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما.
وإنما قال كذلك لأن النصارى يصلون قبل المشرق، واليهود قبل المغرب، قوله { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار } يعني تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، قوله تعالى: { نور على نور } أي نور نبي من نسل نبي).
وقال الضحاك: (يعني بالمشكاة عبدالمطلب شبهه بها، ويعني بالزجاجة عبدالله، وبالمصباح النبي صلى الله عليه وسلم، كان في صلبهما فورث النبوة من الشجرة المباركة وهي إبراهيم، توقد من شجرة مباركة، لا شرقية ولا غربية، بل هي مكة في وسط الدنيا).
ووصف بعض الفصحاء هذه الشجرة فقال: (هي شجرة الرضوان وشجرة الهدى والإيمان، أصلها نبوة؛ وفرعها مروءة؛ وأغصانها تنزيل؛ وورقها تأويل، وخدمها ميكال وجبريل).
وقيل: إنما شبه الله قلب المؤمن بالزجاجة؛ لأنها في الزجاجة يرى من خارجها، فكذلك ما في القلوب تبين على الظاهر في الأقوال والأعمال، فكما أن الزجاجة تنكسر بأدنى شيء، فكذلك القلب يفسد بأدنى آفة تحله.
وقوله تعالى: { يهدي الله لنوره من يشآء }؛ أي يوفق الله للإسلام، ويدل بأدلته من يشاء ليعرفوا بذلك أمر دينهم. قوله تعالى: { ويضرب الله الأمثال للناس }؛ أي يضرب الله الأشباه في القرآن تقريبا للشيء الذي أراده إلى الأفهام، وتسهيلا لسبيل الإدراك على الأنام، كما شبه المعرفة في قلب المؤمن بالمصباح في الزجاجة. قوله تعالى: { والله بكل شيء عليم }؛ أي عليم بكل شيء من مصالح العباد.
[24.36-38]
قوله تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع }؛ يعني ذلك المصباح في بيوت، قيل: معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، أذن الله في رفعها؛ أي رفع بنائها كما قال تعالى
وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت
[البقرة: 127]، ويستدل من هذه الآية أن لا يؤذن في رفع شيء من الأبنية فوق الحاجة غير المساجد التي يصلي فيها المؤمنون، ويستضيء بنور قناديلها العابدون. وقال الحسن: (معنى قوله { أذن الله أن ترفع } أي تعظم وتصان عن الأنجاس واللغو من الأقوال والأفعال وعن التكلم بالخنا).
قوله تعالى: { ويذكر فيها اسمه }؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم؛ وبيعكم وشراءكم؛ وسل سيوفكم وإقامة حدودكم؛ وجمروها في الجمع، واجعلوا على أبوابها المطاهر "
قال ابن عباس: (المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض). قوله تعالى: { ويذكر فيها اسمه } أي ويذكر في المساجد اسم الله تعالى وتوحيده.
وقوله تعالى: { يسبح له فيها }؛ أي يصلي لله تعالى في تلك البيوت الصلاة المفروضة، { بالغدو }؛ أي صلاة الغداة، وقوله تعالى { والآصال } ، يعني العشيات، والأصيل ما بين العصر إلى الليل، وسميت الصلاة تسبيحا لاختصاصها بالتسبيح. وقرأ ابن عامر: (يسبح) بفتح الباء على ما لم يسم فاعله.
ثم فسر من يصلي فقال: { رجال }؛ كأنه قال: من يسبح؟ فقيل: رجال { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتآء الزكاة }؛ أي لا تشغلهم تجارة، ولا بيع عن طاعة الله، وعن إقامة الصلاة في البيوت ، وعن إعطاء الزكاة.
قال الفراء: (التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على يديه) وخص قوم التجارة هنا بالشراء لذكر المبيع بعدها. والمعنى: لا يمنعهم ذلك عن حضور المساجد لإقامة الصلاة وإتمامها، وإذا حضر وقت الزكاة لم يحبسوها عن وقتها.
قوله تعالى: { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار }؛ أي يفعلون ذلك خوفا من يوم ترجف فيه القلوب، وتدور حدق العيون حالا بعد حال من الفزع والخوف رجاء أن { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا }؛ في دار الدنيا، { ويزيدهم من فضله }؛ بغير استحقاق، { والله يرزق من يشآء بغير حساب }؛ أي بغير حصر ولا نهاية.
[24.39]
قوله: { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مآء حتى إذا جآءه لم يجده شيئا }؛ معناه: أن أعمال الكفار قد أحبطوا بكفرهم، كسراب بأرض مستوية ملساء، يظنه العطشان ماء يرجو به النجاة، حتى إذا جاء السراب ليشرب لم يجده ماء، بل رأى أرضا بيضاء لا ماء فيها فيئس وتحير، كذلك الكافر في عمله ييأس في الآخرة عن عمله الذي كان يعتقده يبرئ، يتقطع عنه طمعه عند شدة حاجته إليه، ثم يجد عند ذلك من العقاب كما قال تعالى: { ووجد الله عنده }؛ أي عند عمله، يعني: قدم على الله، { فوفاه حسابه }؛ أي جازاه بعمله. والسراب: هو الشعاع الذي يتراءى للعين وقت الهاجرة في الفلوات، يرى من بعيد كأنه ماء وليس بماء. والبقيعة: جمع بقاع، والقيعة جمع قاع، نحو جار وجيرة، وهو ما انبسط من الأرض وفيه يكون السراب.
وقيل: معناه: أن الكافر يحسب أن عمله يغني عنه وينفعه، فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجده شيئا؛ أي لا منفعة فيه ووجد الله عنده بالمرصاد عند ذلك فوفاه جزاء عمله، { والله سريع الحساب }؛ أي سريع حسابه كلمح البصر أو أقل؛ لأنه تعالى لا يتكلم بآلة حتى يشغله سمع عن سمع. وسئل علي رضي الله عنه: كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: (كما رزقكم في حالة واحدة).
[24.40]
قوله تعالى: { أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب }؛ هذا تخير في المثل، والمعنى: أن مثل أعمال الكفار أيضا في الدنيا، ومثل قلوبهم في حياتهم الدنيا كمثل ظلمات في بحر لجي؛ أي عميق كثير الماء يعلوه موج ومن فوق ذلك الموج الأعلى سحاب.
وهذا حد الكلام، ثم ابتدأ فقال: { ظلمات بعضها فوق بعض } ، أراد به ظلمة البحر وظلمة الموج الأدنى وظلمة الموج الأعلى وظلمة السحاب وظلمة الليل. قال المفسرون: أراد بالظلمات أعمال الكفار، وبالبحر اللجي قلب الكافر، وبالموج ما يغشى عليه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الدين والختم والطبع على قلبه.
قال أبي بن كعب في هذه الآية: (الكافر يتقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة؛ وعمله ظلمة؛ ومدخله ومخرجه ظلمة؛ وقلبه ظلمة؛ ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة، كما قال تعالى:
ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا
[الحديد: 13].
وقوله تعالى: { إذآ أخرج يده لم يكد يراها }؛ أي إذا أخرج يده من هذه الظلمات لم يرها ولم يقارب أن يراها من شدة الظلمات، فكذلك الكافر لا يبصر الحق والهدى. وقوله تعالى: { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور }؛ أي من لم يهده الله فما له من إيمان، ومن لم يجعل الله له نورا في الدنيا، فما له من نور.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمتي من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمتي من نور عائشة. فمن لم يحبني ويحب أبا بكر وعمر وعائشة؛ فما له من نور فينزل عليه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ".
[24.41-42]
قوله تعالى: { ألم تر }؛ معناه: ألم تعلم؛ { أن الله يسبح له }؛ أي ينزهه؛ { من في السموت والأرض } من العقلاء وغيرهم، وكنى عن الجميع بكلمة (من) تغليبا للعقلاء على غيرهم. وقيل: أراد بالآية العقلاء، وهذا عموم أراد به الخصوص في أهل الأرض وهم المؤمنون.
قوله تعالى: { والطير صآفات }؛ أي ويسبح له الطير باسطات أجنحتها في الهواء، والبسط في اللغة: الصف، والصف في اللغة هو البسط، ويسمى القديد صفيفا لأنه يبسط. وخص الطير بالذكر من جملة الحيوان؛ لأنها تكون بين السماء والأرض، وهي خارجة عن جملة من في السماوات والأرض.
قوله تعالى: { كل }؛ أي كل من هؤلاء، { قد علم }؛ الله؛ { صلاته وتسبيحه }. قال المفسرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عام لما سواهم من الخلق. وفيه وجوه من التأويل:
أحدها: كل مصل ومسبح قد علم الله تعالى صلاته وتسبيحه، والثاني: أن معناه: كل مصل ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه، والثالث: قد علم كل منهم تسبيح الله وصلاته، { والله عليم بما يفعلون }؛ من الطاعة وغيرها. وقوله تعالى: { ولله ملك السموت والأرض }؛ أي له تقديرهما وتدبيرهما وتصريف أحوالهما، { وإلى الله المصير }.
[24.43]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله يزجي سحابا }؛ أي ينشؤه ويسوقه سوقا دفيقا قطعا قطعا، { ثم يؤلف بينه }؛ أي يجمع بين قطع السحاب المتفرقة، والسحاب جمع واحده سحابة، والتأليف ضم بعض إلى بعض حتى يجعله قطعة واحدة.
قوله تعالى: { ثم يجعله ركاما }؛ أي متراكما بعضه فوق بعض، { فترى الودق يخرج من خلاله }؛ أي ترى المطر يخرج من وسطه وأثنائه، والخلال جمع الخلل مثل الجبال والجبل. قال الليث: (الودق المطر كله، شديده وهينه، وخلال السحاب مخارج القطر منه). قرأ ابن عباس والضحاك: (من خلله).
قوله تعالى: { وينزل من السمآء من جبال فيها من برد }؛ أي من جبل في السماء، وتلك الجبال من برد. قال ابن عباس: (أخبر الله أن في السماء جبالا من برد) ومفعول الإنزال محذوف، تقديره: وينزل الله من جبال برد فيها، واستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه، ومن الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية للتبعيض؛ لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء، والثالثة لتبيين الجنس؛ لأن جنس تلك الجبال البرد، كما تقول: خاتم من حديد.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: (جبال السماء أكثر من جبال الأرض)، { فيصيب به من يشآء }؛ أي فيصيب بالبرد من يشاء فيهلكه ويهلك زرعه، { ويصرفه عن من يشآء }؛ فلا يضره في زرعه وثمره.
قوله تعالى: { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار }؛ أي يكاد ضوء برق السحاب يذهب بالأبصار من شدة ضوئه وبريقه ولمعانه؛ لأن من نظر إلى البرق خيف عليه ذهاب البصر. قرأ أبو جعفر: (يذهب بالأبصار) بضم الياء وكسر الهاء.
[24.44]
قوله تعالى: { يقلب الله الليل والنهار }؛ أي يقلبها في الذهاب والمجيء والزيادة والنقصان، { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار }؛ أي إن في ذلك التقلب، وفيما ذكر عبرة لذوي العقول من الناس، يقال: فلان صاحب بصر؛ أي صاحب عقل.
[24.45]
قوله تعالى: { والله خلق كل دآبة من مآء }؛ من النطفة، من ماء الذكر والأنثى، والخلق من الماء أعجب؛ لأنه ليس شيء إلا وهو أشد طوعا من الماء؛ لأن الماء لا يمكن إمساكه بيده ولا أن يبني عليه ولا أن يتخذ منه شيء. والمعنى: والله خلق كل حيوان شاهد في الدنيا، ولا تدخل الجن والملائكة في هذا لأنا لا نشاهدهم.
وقوله تعالى: { فمنهم من يمشي على بطنه }؛ كالحيات والهوام والحيتان، وإنما قال فمنهم (من) تغليبا للعقلاء، ولو كان لما لا يعقل لقال: فمنهم من يمشي على بطنه، { ومنهم من يمشي على رجلين }؛ كالإنسان والطير، { ومنهم من يمشي على أربع }؛ كالبهائم والسباع. والدابة اسم لكل حيوان من مميز أو غيره.
قوله تعالى: { يخلق الله ما يشآء إن الله على كل شيء قدير }؛ ظاهر المعنى، قرأ الكوفيون غير عاصم (والله خالق) على الاسم.
[24.46]
قوله تعالى: { لقد أنزلنآ آيات مبينات }؛ يعني القرآن هو مبين الهدى والأحكام، { والله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم }؛ أي يرشد من يشاء إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريق رضاه وجنته.
[24.47]
قوله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا }؛ يعني المنافقين يقولون صدقنا بتوحيد الله وبالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأطعناهما فيما حكما، { ثم يتولى فريق منهم }؛ أي ثم تعرض طائفة منهم، { من بعد ذلك }؛ أي من بعد قولهم آمنا، { ومآ أولئك }؛ الذين أعرضوا عن حكم الله ورسوله، { بالمؤمنين }.
[24.48]
قوله تعالى: { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم }؛ معناه: إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم الرسول فيما اختلفوا فيه، { إذا فريق منهم معرضون }؛ عما يدعون إليه، نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجذبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجذبه إلى كعب بن الأشرف، يقول: إن محمدا يحيف عليه، فذلك قوله تعالى: { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } عن الكتاب والسنة.
[24.49]
قوله تعالى: { وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين }؛ معناه: وإن يكن لهم القضاء على غيرهم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسرعين مطيعين منقادين لحكمه. والإذعان: الإقرار بالحق مع الانقياد له. قال الزجاج: (الإذعان: الإسراع مع الطاعة).
[24.50]
قوله تعالى: { أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون }؛ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التوبيخ، وذلك أشد ما يكون في الذم كما جاء في المبالغة في المدح:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
يعني أنتم كذلك.
[24.51-52]
قوله: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا }؛ انتصب (قول) على خبر كان، واسمها { أن يقولوا سمعنا وأطعنا }.
وذلك أن عليا رضي الله عنه باع من عثمان رضي الله عنه أرضا بالمدينة لا ينالها الماء، فجاء قوم عثمان فندموا عثمان على ما صنع وقالوا له: لا تذهب في خصومتك مع علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يحكم له! فلم يقبل منهم عثمان، وتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لعلي رضي الله عنه، فأبى قوم عثمان أن يرضوا بقضائه، فقال عثمان رضي الله عنه: { سمعنا وأطعنا } أي سمعنا قولك يا رسول الله وأطعنا أمرك ورضينا بحكمك وقضائك، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضر بهم. وقوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون }؛ يعني الراضين بقضاء الله ورسوله.
فلما نزلت هذه الآية أقبل عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله؛ والله لئن شئت لأخرجن من أرضي كلها التي أملكها وأدفعها إليه) فأنزل الله تعالى: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه }؛ معناه: ومن يطع الله ورسوله فيما ساءه وسره ويخش الله فيما مضى من ذنوبه ويتق الله فيما بعد فلم يعص الله، { فأولئك هم الفآئزون } ، برضى الله وحسناته.
[24.53]
وقوله: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم }؛ أي حلفوا بالله وبالغوا في القسم، { لئن أمرتهم ليخرجن } ، من مالهم كله لفعلوا، { قل } لهم: { لا تقسموا }؛ أي لا تحلفوا، وتم الكلام ها هنا. ثم قال: { طاعة معروفة }؛ أي هذا القول منكم يعني القسم طاعة حسنة.
وقال بعضهم: هذه الآية نزلت في المنافقين؛ كانوا يحلفون لئن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، ولم يكن في نيتهم الخروج، فقيل لهم: لا تقسموا طاعة معروفة مثل من قسمكم بما لا تصدقون، وقوله تعالى: { إن الله خبير بما تعملون }؛ يعني عليم بما تعملون من طاعتكم بالقول " و " مخالفتكم بالفعل.
[24.54]
وقوله تعالى: { قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول }؛ ظاهر المعنى، وقوله تعالى: { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم }؛ أي فإن أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فإنما على الرسول ما حمل من التبليغ وأداء الرسالة، وعليكم ما حملتم من الطاعة، { وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين }؛ أي ليس عليه إلا أن يبلغ ويبين لكم.
[24.55-56]
قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم }؛ نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أقاموا بمكة مدة قبل الهجرة لا يمكنهم إظهار الإسلام، ولا أذن لهم في القتال، وكذلك بعدما هاجروا إلى المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا مع السلاح ولا يصبحون إلا فيه.
فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ أهكذا جالدتنا أبدا؟ فأنزل الله هذه الآية { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } أي ليبوأنهم أرض المشركين من العرب والعجم كما استخلف بني اسرائيل بأرض مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة بأن أورثهم أرضهم وديارهم وجعلهم سكانا وملوكا.
وقوله تعالى: { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم }؛ أي وليوسع لهم البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على جميع الأديان، { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا }؛ وقوله تعالى: { يعبدونني لا يشركون بي شيئا }؛ يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال؛ أي لأفعلن ذلك في حال عبادتهم.
قوله تعالى: { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }. وقوله تعالى: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون }؛ ظاهر المراد.
[24.57]
قوله تعالى: { لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض }؛ أي ولا تحسبن كفار مكة يا محمد فائتين من عذاب الله أو يفوتنا هربا، فقدرة الله تعالى محيطة بهم، { ومأوهم النار ولبئس المصير }.
[24.58]
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمنكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات }؛ أي ليستأذنكم في الدخول عليكم عبيدكم وإمائكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم أي من أحراركم من الرجال والنساء، والمعنى: ليستأذنكم عبيدكم وإمائكم والذين لم يبلغوا الحلم من صغير أولادكم من الأحرار في الدخول عليكم في ثلاث أوقات من الليل والنهار يكون الغالب فيها كشف العورات.
ثم بين الأوقات الثلاث فقال: { من قبل صلوة الفجر }؛ أي وقت القيام من المضاجع والتهيؤ للصلاة بالطهارة، { وحين تضعون ثيبكم من الظهيرة }؛ وهو وقت القيلولة، { ومن بعد صلوة العشآء }؛ أراد به العشاء الأخيرة، وهذه الأوقات الثلاثة: { ثلاث عورات لكم }؛ لأن الإنسان يضع ثيابه فيها في العادة.
من قرأ (ثلاث) بالرفع، فمعناه: هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم. ومن قرأ (ثلاث) بالنصب جعله بدلا من قوله (ثلاث مرات). قال السدي: (كان أناس من الصحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات الثلاث ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة؛ فأمرهم الله أن يأمروا الغلمان والمماليك أن يستأذنوا في هذه الثلاث ساعات إذا دخلوا).
قوله تعالى: { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن }؛ أي لا جناح عليكم ولا عليهم في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات.
قوله تعالى: { طوفون عليكم بعضكم على بعض }؛ أي طوافون عليكم يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويترددون في أحوالهم واشتغالهم بغير إذن، يريد أنهم خدمكم، شئ فلا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات بغير إذن. قال مقاتل: (معناه: يطوف بعضهم وهم المماليك على بعض وهم الموالي).
قوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم الأيت }؛ أي هكذا يبين الله لكم الدلالات والأحكام في أمر الاستئذان، { والله عليم }؛ بمصالح العباد، { حكيم }؛ فيما حكم من استئذان الخدم في هذه الأوقات الثلاثة.
[24.59]
قوله تعالى: { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا }؛ معناه: إذا بلغ الأطفال من أحراركم وعبيدكم فليستأذنوا في جميع الأوقات وفي عموم الأحوال، { كما استأذن الذين من قبلهم }؛ المذكورين من قبلهم على ما بين الله في كتابه، يعني بقوله؛ الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان على كل حال في قوله
حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها
[النور: 27] فليس للعبد البالغ أن يدخل منزل مولاه ولا للولد البالغ أن يدخل على أمه وعلى ذات محارمه في كل وقت إلا بإذن { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم }.
[24.60]
قوله تعالى: { والقواعد من النسآء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح }؛ معناه: والقواعد من النساء اللاتي قعدن عن الحيض من الكبر وهن العجائز اللاتي لا يردن النكاح لكبرهن، فليس عليهن حرج في، { أن يضعن ثيابهن }؛ يعني الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار لأجل الثياب.
قوله تعالى: { غير متبرجات بزينة }؛ التبرج: أن تظهر المرأة محاسنها من وجهها وجسدها، والمعنى من غير أن يردن بوضع الجلباب أن يرى زينتهن. قال مقاتل: (ليس لها أن تضع الجلباب، تريد بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزينة).
وقوله تعالى: { وأن يستعففن خير لهن }؛ معناه: وأن يستعففن فلا يضعن الجلباب في الملائة والقناع فهو خير لهن من أن يضعن، { والله سميع }؛ مقالة العباد، { عليم }؛ بأعمالهم. يقال: امرأة عداد أقعدت عن الحيض، فإذا قال: قاعدة بالهاء أراد به جالسة، والجمع فيهما جميعا قواعد.
[24.61]
قوله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج }؛ وذلك أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا أزمانهم وكانوا يدفعون إليهم المفاتيح ويقولون لهم قد أبحنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم في غيب امتثالا لقوله تعالى
لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجرة عن تراض منكم
[النساء: 29] فنزلت هذه الآية رخصة لهم.
ومعناها: نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو وخلفه بحفظ ماله؛ لأنهم كانوا يتحرجون أن يأكلوا مما يحفظونه، فأعلمهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم في ذلك.
وذهب الحسن إلى أن معنى الآية: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في ترك الخروج إلى الجهاد).
قوله تعالى: { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم }؛ أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، أراد بهذا بيوت أبنائكم ونسلهم، وإنما أضاف بيوت الأبناء إليهم لأنهم من أنفسهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" أنت ومالك لأبيك "
، ولهذا قابله ببيوت الآباء، فقال: { أو بيوت ءابآئكم }؛ ولم يقل بيوت أبنائكم، فعلم أن المراد بقوله: { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } أي بيوت أبنائكم وأزواجكم، وبيت المرأة كبيت الزوج.
قوله تعالى: { أو بيوت أمهتكم أو بيوت إخونكم أو بيوت أخوتكم أو بيوت أعممكم أو بيوت عمتكم أو بيوت أخولكم أو بيوت خلتكم }؛ أخرج الكلام على وفق العادة؛ لأن الغالب من أحوال هؤلاء أن تطيب أنفسهم بذلك، فجاز الأكل من بيوتهم بغير إذن لدلالة الحال.
فأما إذا علم أن صاحب البيت لا تطيب نفسه بذلك، لا يحل له أن يتناول شيئا من ذلك، { أو ما ملكتم مفاتحه }؛ يعني بيوت عبيدكم وإمائكم، وذلك أن السيد يملك بيت عبده، أو المفاتح معناها الخزائن، كقوله تعالى
وعنده مفاتح الغيب
[الأنعام: 59] أي خزائن الغيب.
ومعناه: المفاتيح التي يفتح بها الخزائن، يعني بذلك الوكلاء والأمناء والعبيد الذين يملكون أمر الخزائن وتكون مفاتحها بأيديهم، فليس عليهم في الأكل جناح إذا كان أكلا يسيرا مثل أن يأكل من ثمر حائط يكون قيما عليه أو يشرب من لبن ماشية يكون قيما عليها. وقال السدي: (الرجل يولي طعامه غيره يقوم عليه، فلا بأس أن يأكل منه).
قوله تعالى: { أو صديقكم }؛ يعني صديقا يسره أن يأكل من طعامه، وإنما أطلقه على عادة الصحابة رضي الله عنهم كما روي في سبب نزول هذا: أن مالك بن يزيد والحارث بن عمرو كانا صديقين، فخرج الحارث غازيا وخلف مالكا في أهله وخزائنه، فلما رجع من الغزو رأى مالكا مجهودا، قال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء، ولم يحل لي أن آكل من مالك، فنزل قوله تعالى: { أو صديقكم }.
قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } سبب نزول هذه الآية: أن بني كنانة - وهم حي من العرب - كان الواحد منهم يجوع أياما ولا يأكل حتى يجد ضيفا فيأكل معه، وإذا لم يجد أحدا فلا يأكل شيئا، وربما كانت معه الإبل مجفلة فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله تعالى أن الرجل منهم إذا أكل وحده فلا إثم عليه. ومعنى { أشتاتا } متفرقين.
ويستدل من هذه الآية أن للجماعة في السفر أن يخلطوا طعامهم فيأكلوا جميعا أو يأكل واحد منهم من زاده ولا حرج عليه في ذلك. والغرض من هذه الآيات: نفي الحرمة عن كل ما تطيب به الأنفس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه في سبب نزول هذه الآيات: (أن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى:
لا تأكلوا أمولكم بينكم بالبطل إلا أن تكون تجرة عن تراض
[النساء: 29] تحرج المسلمون من مؤاكلة المرضى والزمنى والعميان والعرج، وقالوا: قد نهانا الله عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطيب من الطعام، والأعرج لا يستطيع المزاحمة، والمريض لا يستوفي حقه من الطعام، فأنزل الله هذه الآيات).
والمعنى: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال الضحاك: (كان العميان والعرجان يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء؛ لأن الناس يتقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذرا، فأنزل الله هذه الآيات).
قوله تعالى: { فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم }؛ أي يسلم بعضكم على بعض، وإنما قال { على أنفسكم } لأن المؤمنين كنفس واحدة. وقيل: هذا في دخول الرجل بيت نفسه، والسلام على أهله ومن في بيته. قال قتادة: (إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ومن السنة إذا دخل الرجل بيت نفسه أن يسلم على أهله، فإنه يزداد بذلك بركة في بيته وأهله).
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهليكم، وإذا طعمتم طعاما فاذكروا اسم الله عليه، فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته، وإذا ذكر اسم الله على طعامه قال لجنده من الشياطين: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإن لم يسلم حين يدخل بيته ولم يذكر اسم الله على طعامه، قال الشيطان لجنده: أدركتم العشاء والمبيت ".
قوله تعالى: { تحية من عند الله مبركة طيبة }؛ أي افعلوا ذلك تحية أمركم الله بها، لكم فيها البركة والمغفرة والثواب، { كذلك يبين الله لكم الآيت }؛ أي هكذا بين الله لكم الدلالات والأحكام، { لعلكم تعقلون }؛ أي لكي تعقلون.
[24.62]
قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع }؛ في الآية ثناء على المؤمنين، وإذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أمر جامع؛ أي في أمر طاعة يجتمعون عليه لحق الجمعة وصلاة العيدين والجهاد وأشباه ذلك، { لم يذهبوا حتى يستأذنوه }.
قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج لطاعة أو عذر؛ لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن يشاء منهم. قال مجاهد: (وإذا أذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده).
قوله تعالى: { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله }؛ نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع من غزوة تبوك إلى المدينة لعلة كانت به. قوله تعالى: { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم }؛ قيل: إن هذا منسوخ بقوله تعالى
عفا الله عنك لم أذنت لهم
[التوبة: 43]، قوله تعالى: { واستغفر لهم الله }؛ أي استغفر لهؤلاء المستأذنين إذا استأذنوك لعذرهم، { إن الله غفور }؛ للناس، { رحيم }؛ بهم.
[24.63]
قوله تعالى: { لا تجعلوا دعآء الرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا }؛ أي ادعوه بالخضوع والتعظيم، وقولوا: يا رسول الله؛ ويا نبي الله، في لين وتواضع وخفض صوت، ولا تقولوا: يا محمد! ولا يا أبا القاسم! كما يدعو بعضهم بعضا باسمه.
قوله تعالى: { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا }؛ أراد به المنافقين، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب الناس يوم الجمعة عابهم في خطبته، فإذا سمعوا ذلك نظروا يمينا وشمالا، فإن أبصرهم أحد لم يقوموا، وإن لم يبصرهم أحد قاموا فخرجوا من المسجد يتسللون. والتسلل الخروج في خفية.
واللواذ: أن يستر بعضه بعضا ثم يمضي، يقال: لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا. قال ابن عباس: (هو أن يلوذ بغيره فيهرب من المسجد من غير استئذان).
قوله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره }؛ أي ليحذر الذين يعرضون عن أمر الله ويخالفون في أمره، { أن تصيبهم فتنة }؛ أي بلية، { أو يصيبهم عذاب أليم } في الآخرة.
[24.64]
قوله تعالى: { ألا إن لله ما في السموت والأرض }؛ أي له كل ذلك ملكا وقدرة وإحاطة، { قد يعلم مآ أنتم عليه }؛ أي يعلم ما يبديه كل منكم وما يخفيه، وقوله تعالى: { ويوم يرجعون إليه }؛ معناه: يعني يعلم يوم يبعثون متى هو، { فينبئهم }؛ فيه؛ { بما عملوا }؛ أي يجزيهم بما عملوا في دار الدنيا، { والله بكل شيء عليم }؛ من أعمال العباد وغير ذلك.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي ".
[25 - سورة الفرقان]
[25.1]
{ تبارك }؛ أي عظمت وكثرت بركات الله. والبركة: هي الخير الكثير. وقيل: معناه: تبارك: أي تعالى، قوله: { الذي نزل الفرقان }؛ أي الذي نزل جبريل بالفرقان، { على عبده } ، محمد صلى الله عليه وسلم؛ { ليكون للعالمين نذيرا }؛ أي معلما بموضع المخافة. والفرقان: البيان الذي يفرق به بين الحق والباطل، ويزجر عن القبائح، ويدعو إلى المحاسن، ويعني بالعالمين: الجن والإنس.
[25.2]
قوله تعالى: { الذي له ملك السموت والأرض }؛ أي لله خزائن السماوات والأرض والقدرة على أهلها، { ولم يتخذ ولدا }؛ كما قال اليهود والنصارى والمشركون، { ولم يكن له شريك في الملك }؛ فيعاونه على ملكه، { وخلق كل شيء فقدره تقديرا }؛ أي قدر طوله وعرضه ولونه ورزقه وأجله.
[25.3]
قوله تعالى: { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون }؛ فمعناه: واتخذ كفار مكة من دون الله آلهة يعبدونها؛ هي الأصنام لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون، ما من شيء يكون منها من ذهب أو فضة أو صفر أو خشب إلا والله خالقها، { ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا }؛ أي لا يملكون الأصنام لأنفسها دفع ضر ولا جر نفع؛ لأنها جماد لا قدرة لها، { ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا }؛ أي لا يملك أن يموت أحد ولا يحيي أحد، ولا تملك بعثا للأموات، فكيف يعبد هؤلاء من لا يقدر على أن يفعل شيئا من هذا؟ ويتركون عبادة ربهم الذي يملك ذلك كله. يقال: أنشر الله الأموات فنشروا؛ أي أحياهم فحيوا.
[25.4]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون }؛ أي قال الذين كفروا: ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه وأعانه عليه قوم آخرون من أهل الكتاب، يعنون (جبرا) مولى لقريش، ويسار أبا فكيهة مولى لبني الحضرمي، وعداسا مولى لحويطب بن عبد العزى، كان هؤلاء يقرأون التوراة قبل أن يسلموا، فلما أسلموا رأوا التوراة تشبه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهم ويتعاهدهم، فمن ذلك قال الكفار: وأعانه عليه قوم آخرون.
قوله تعالى: { فقد جآءوا ظلما وزورا }؛ أي قال الكفار هذه المقالة شركا وكذبا، زعموا أن القرآن ليس من الله، والمعنى: فقد جاءوا بظلم وزورا فيما قالوا، فلما سقطت الباء أفضى إليه الفعل فنصبه. والزور: وضع الباطل في موضع الحق.
[25.5]
قوله تعالى: { وقالوا أساطير الأولين }؛ أي قال النضر بن الحارث وأصحابه: هذا القرآن أحاديث الأولين في دهرهم كما كنت أحدثكم عن الأعاجم، { اكتتبها }؛ محمد أي أنسخها من عداس وجبر ويسار، { فهي تملى عليه }؛ فهي تقرأ عليه، { بكرة وأصيلا }؛ أي أمر أن يكتب له فهي تقرأ عليه غدوة وعشية ليحفظها.
[25.6]
قوله تعالى: { قل أنزله }؛ أي قل لهم يا محمد: أنزل القرآن { الذي يعلم السر في السماوات والأرض } ، لا يخفى عليه شيء فيهما، { إنه كان غفورا }؛ لمن تاب وآمن، { رحيما }؛ لمن مات على التوبة.
[25.7-8]
قوله تعالى: { وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق }؛ أي قال المشركون على وجه الذم والتعيير للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لهذا الرسول يأكل مما يأكل الناس، ويمشي في الطرق كما نمشي لطلب المعيشة. والمعنى: أنه ليس بملك لأن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، والملوك لا يسبقون، { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا }؛ يكون معه شريكا في النبوة، { أو يلقى إليه كنز }؛ ينتفع به، { أو تكون له جنة يأكل منها }؛ من ثمرها، يعني بستانا يأكل من ثمره، ومعنى قوله تعالى { أو يلقى إليه كنز } أي ينزل عليه مال ينفعه ولا يحتاج إلى طلب المعاش. وقوله تعالى { يأكل منها } قرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون؛ أي نأكل من جنته.
قوله تعالى: { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا }؛ أي قال المشركون للمؤمنين: ما تتبعون إلا رجلا مخدوعا مغلوبا على عقله قد سحر وأزيل عنه الاستواء.
[25.9]
قوله تعالى: { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا }؛ معناه: انظر يا محمد كيف ضربوا لك الأمثال، يعني: مثلوه بالمسحور وبالمحتاج. وقيل: معناه: انظر كيف وصفوا لك الأشياء: إنك ساحر وكاهن وكذاب وشاعر ومجنون، فضلوا عن الصواب والهدى وأخطاؤا النسبة، { فلا يستطيعون سبيلا }؛ أي فلا يجدون طريقا إلى إلزام الحجة ولا مخرجا لأنفسهم بإثبات العذر في ترك الإيمان به، وذلك أنهم جعلوا معذرتهم في ذلك أشياء ليست بعذر.
أما أكل الطعام فإنه كان في الرسل قبله، فلم يكن ذلك عذرا في ترك الإيمان به، ولو أنزل ملكا لكان يحتاج إلى أن ينزل من السماء ويتردد في الأرض لتبليغ الرسالة، كما قال تعالى
ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا
[الأنعام: 9] ولو جعل الملك شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم معاونا له في الإنذار، أدى ذلك إلى استصغار كل واحد منهما في أنه لا يكون كل واحد منهما قائما بنفسه في أداء الرسالة.
وأما الكنز فإنه قد وجد كثير من الفراعنة ولم يوجب ذلك اتباعهم، وعدم مع كثير من الأنبياء الذين أقر الخلق برسالتهم، وكذلك الحياة؛ ولأن الأنبياء صلوات الله عليهم إنما يبعثون لتزهيد الناس في الكنوز والحياة، وترغيبهم في الآخرة، فكيف يجوز أن يمنعوا الناس عنه ويشتغلوا به هم؟
[25.10]
قوله تعالى: { تبارك الذي إن شآء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا }؛ قال ابن عباس:
" وذلك أن ملكا أنزل من السماء، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يخيرك بين أن يعطيك خزائن كل شيء، ومفاتيح كل شيء لم يعطها أحد قبلك، ولم يعطها أحد بعدك من غير أن ينقصك شيئا مما ادخر لك في الآخرة، وبين أن يجمعها لك في الآخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: " بل يجمعها لي في الآخرة " ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" خيرني جبريل بين أن أكون نبيا ملكا وبين أن أكون نبيا عبدا، فاخترت أن أكون نبيا عبدا؛ أشبع يوما وأجوع يوما، أحمد الله إذا شبعت، وأتضرع إليه إذا جعت ".
" وكان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، وكان قد مات ذكر الدنيا عن نفسه، ويقول: (وا عجبا كل العجب للمعترف بدار الخلود وهو يعمل لدار الغرور) ".
ومعنى الآية: تبارك وتعالى إن شاء يجعل لك خيرا مما قالوه في الدنيا من جنات وقصور، وإن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا؛ أي لو شاء جعل لك أفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا، ويجعل لك جنات تجري من تحتها الأنهار يعني في الدنيا؛ لأنه قد شاء أن يعطيه في الآخرة.
وقوله تعالى { ويجعل لك قصورا } من قرأ بالجزم، كان المعنى إن شاء جعل لك الجنات ويجعل لك قصورا في الدنيا، لأنه قد شاء، وإنما لم يجعل الحكمة التي أوجبت لك. قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: (ويجعل) بالرفع على الاستئناف بمعنى: وسيجعل لك قصورا في الجنة في الآخرة. والقصور: هي البيوت المشيدة، سمي القصر قصرا؛ لأنه قصر ومنع من الوصول إليه.
وعن ابن عباس أنه قال:
" لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة فقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويمشي في المعاش، تعب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فنزل جبريل عليه السلام معزيا له، فقال له: يا رسول الله؛ ربك يقرؤك السلام ويقول: { ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } لطلب المعاش في الدنيا.
فبينما جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم يتحدثان إذ أقبل رضوان خازن الجنان فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سفط من نور يتلألأ، فقال: يا رسول الله؛ ربك يقرؤك السلام، ويقول لك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع أنه لا ينقص حظك في الآخرة جناح بعوضة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل مشيرا، ثم قال: " يا رضوان؛ لا حاجة لي فيها، العفو أحب إلي وأن أكون عبدا صابرا شكورا حامدا من السماء " فرفع جبريل رأسه، فإذا السماوات قد فتحت أبوابها إلى العرش، فأوحى الله تعالى إلى جنات عدن أن تدلي أغصانها، فإذا غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف باب من ياقوتة حمراء، فقال جبريل: يا محمد ارفع بصرك، فرفع فرأى منازل الأنبياء قد فصل بها من دونهم، وإذا بمناد: أرضيت يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " قد رضيت " ".
[25.11-12]
قوله تعالى: { بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا }؛ معناه: لا يستطيعون سبيلا إلى إلزام الحجة وإثبات المعذرة، ولكن كذبوا بالساعة، وأعتدنا لمن كذب بقيام الساعة نارا مسعرة، { إذا رأتهم من مكان بعيد }؛ من مسيرة خمسمائة عام، { سمعوا لها }؛ للنار غليانا، { تغيظا وزفيرا }؛ كتغيظ بني آدم، وصوتا كالزفير عند شدة التهابها واضطرابها، وإنما قال { إذا رأتهم } وهم يرونها على معنى: كأنها تراهم رؤية الغضبان الذي يزفر غيظا. قيل: إنها لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه.
[25.13-14]
قوله تعالى: { وإذآ ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا }؛ قال ابن عباس: (يطبق عليهم كما يطبق الزج في الرمح، قال صلى الله عليه وسلم:
" والذي نفسي بيده؛ إنهم يستكرهون كما يستكره الوتد في الحائط "
والمعنى: إذا طرحوا في مكان ضيق من النار مقرنين؛ أي مغلولين قد قرنت أيديهم من الجن والإنس يقولون: وا ثبوراه، واهلاكاه.
وفي الخبر: أنهم إذا ألقوا على باب جهنم، وتضايق عليهم كتضايق الزج في الرمح، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة، يرفعهم اللهب وتخضعهم مقامع ملائكة العذاب، فعند ذلك يدعون بالويل والثبور، ويقال لهم: { لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا }؛ فإن سبب الثبور دائم لا ينقطع.
[25.15-16]
قوله تعالى: { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون }؛ أي قل أذلك العذاب والسعير خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون، وهذا على طريق التعجب والتبعيد لا على طريق الاستفهام؛ لأنه ليس في السعير خير.
قوله تعالى: { كانت لهم جزآء ومصيرا }؛ أي كانت الجنة للمتقين جزاء ومرجعا في الآخرة، { لهم فيها ما يشآءون خالدين }؛ أي لهم في جنة الخلد ما يشاؤون، { كان }؛ ذلك الخلد، { على ربك وعدا مسئولا }؛ وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك
[آل عمران: 194] فقال الله تعالى: كان إعطاء الله للمؤمنين جنة الخلد وعدا واجبا، وذلك أم المسؤول واجب، وإن لم يسأل كالدين، ونظيره قول العرب : أعطيتك ألفا وعدا مسؤولا، يعني أنه واجب لك فسأله. وقيل: معنى الوعد المسؤول: أن الملائكة تسأل لهم ذلك، يقولون
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم
[غافر: 8].
[25.17]
قوله تعالى: { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله }؛ يعني كفار مكة وسائر المشركين ممن كان يعبد غير الله، يعني: الذين يعبدون الملائكة وعزيرا وعيسى والأصنام، فيقول الله تعالى للكفار: لماذا عبدتم غيري؟ فيقولون: لأنهم أمرونا بعبادتهم، { فيقول } الله تعالى للملائكة ولعيسى ولعزير على وجه التنكيت والتقريع للكفار: { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء }؛ حتى عبدوكم وأنتم أمرتموهم بعبادتكم، { أم هم ضلوا السبيل }؛ وأخطأوا الطريق بهوى أنفسهم؟ ونظيره قوله تعالى:
وإذ قال الله يعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
[المائدة: 116].
[25.18]
قوله تعالى: { قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء }؛ أي قالوا تنزيها لك من أن نعبد غيرك، وما ينبغي لنا ولعابدنا أن نتخذ من دونك من أولياء، فكيف جاز لنا أن نأمرهم يعبدوننا دونك، { ولكن متعتهم وآبآءهم حتى نسوا الذكر }؛ ولكن طولت أعمارهم ووسعت لهم في الرزق وأمهلتهم في الكفر حتى غيروا بذلك وتركوا التوحيد والطاعة، ونسوا القرآن، { وكانوا قوما بورا }؛ أي هلكى فاسدي القلوب. والبوار هو الهلاك، والبائر الفاسد، والأرض البائر هي التي عطلت عن الزراعة. وقيل: معناه { وكانوا قوما بورا }: أي هالكين فاسدين قد غلب عليهم الشقاء والخذلان، ومنه بوار السلعة، والإثم إذا كسد فسد.
قرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب: (ويوم يحشرهم) بالياء، وقوله تعالى (وما كان ينبغي لنا أن نتخذ)، قرأ الحسن وأبو جعفر (نتخذ) بضم النون وفتح الخاء.
[25.19]
قوله تعالى: { فقد كذبوكم بما تقولون }؛ أي كذبكم المعبود بقولكم: إنها آلهة شركاء الله، ومن قرأ (بما يقولون) بالياء؛ فالمعنى: كذبوهم بقولهم
سبحانك ما كان ينبغي لنآ أن نتخذ من دونك من أوليآء
[الفرقان: 18]. قال عكرمة والضحاك والكلبي: (يأذن الله للأصنام في الكلام ويخاطبها فيقول: أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم أمرتموهم بعبادتهم إياكم؟ أم هم ضلوا السبيل؟ قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء، ولكن متعتهم وآباءهم؛ أي أطلت أعمارهم ووسعت عليهم الرزق حتى نسوا الذكر؛ أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه). وقيل: نسوا الإيمان والتوحيد، وكانوا قوما بورا، فيقول الله للمشركين: { فقد كذبوكم بما تقولون }.
قوله تعالى: { فما تستطيعون صرفا ولا نصرا }؛ أي لا يقدرون على صرف العذاب عن أنفسهم ولا على نصر أنفسهم، ودفع العذاب والبلاء الذي هم فيه، ولا أن ينتصروا من معبودهم. قوله تعالى: { ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا }؛ أراد بالظلم الشرك، ومن يشرك بالله نذقه في الآخرة عذابا شديدا.
[25.20]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق }؛ أي يأكلون كما تأكل أنت، ويمشون في الأسواق، وهذا احتجاج عليهم في قولهم
مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
[الفرقان: 7].
قوله تعالى: { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة }؛ أي بليه ابتلاء الشريف بالوضيع، والعربي بالمولى، فإذا أراد الشريف أن يسلم ورأى الوضيع قد أسلم قبله أبى وقال: أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل! فيقيم على كفره. ويمتنع من الإسلام، فذلك افتتان بعضهم ببعض، وهذا قول الكلبي.
وقيل: الفتنة ها هنا هي العداوة التي كانت بينهم في الدين، وما كان المؤمنون يلقون من أذى الكفار، { أتصبرون }؛ أيها المؤمنون على أذاهم حتى تصلوا إلى ثواب الصابرين، فإن بعضهم لبعض فتنة، يقول الفقير: لو شاء الله أغناني مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله أصحني مثل فلان، ويقول الأعمى: لو شاء الله أبصرني مثل فلان، { وكان ربك بصيرا }؛ بالأغنياء والفقراء وغيرهم، أغنى من أوجبت الحكمة غناه، وأفقر من أوجبت الحكمة فقره.
[25.21]
قوله تعالى: { وقال الذين لا يرجون لقآءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا }؛ أي قال الذين لا يخافون البعث بعد الموت: هلا أنزل علينا الملائكة رسلا أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك، قال الله تعالى: { لقد استكبروا في أنفسهم }؛ أي لقد تعظموا في أنفسهم حيث سألوا من الآيات ما لم يسأله أحد قط، { وعتوا عتوا كبيرا }؛ حين قالوا { أو نرى ربنا }. والعتو: مجاوزة الحد في الظلم، وقيل: العتو: أشد الكفر. والمعنى: وجاوزوا الحد مجاوزة شديدة.
[25.22]
قوله تعالى: { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين }؛ أعلم الله تعالى أن الوقت الذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، وأن الله حرمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال { يوم يرون الملائكة } يعني يوم القيامة، لا بشرى يومئذ للمشركين؛ أي لا بشارة لهم بالجنة والثواب، { ويقولون حجرا محجورا }؛ أي يقول الملائكة: حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال: لا إله إلا الله.
وقيل: يقول الملائكة للمجرمين: { حجرا محجورا } أي حراما محرما عليكم البشرى. وقيل: حرام عليكم الجنة. وقيل: تقول الملائكة: حرم عليكم سماع البشرى حراما محرما، وكانت العرب إذا أراد الرجل منهم أن يحرم شيئا يطلب منه؛ قال: حجرا محجورا؛ ليعلم السائل بذلك أنه لا يريد أن يفعل. والحجر في اللغة: هو المنع، ومنه الحجر على الصبي، ويجوز أن يكون محجورا من قول الكفار للملائكة؛ أي قالوا للملائكة بعدا بيننا وبينكم. قال مجاهد: (يعني عوذا معاذا يستعيذون من الملائكة).
[25.23]
قوله تعالى: { وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثورا }؛ أي عمدنا إلى أعمالهم التي عملوها في الدنيا التي كانوا يعتقدونها طاعة، فجعلناها في الآخرة بمنزلة الهباء المنثور وهو ما يقع في الكوة من شعاع الشمس، فيقبض القابض عليه فلا يحصل على شيء. وقيل: هو التراب الذي يصعد من حوافر الدواب، يرى ولكن لا يقدر عليه. وقال ابن شميل: (الهباء المنثور الذي تطيره الرياح كأنه دخان)، فالمعنى: فجعلناه باطلا لا ثواب له؛ لأنهم لم يعملوه لله، وإنما عملوه للشيطان.
[25.24]
قوله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا }؛ أي أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأعمالهم، وأحسن موضعا عند القيلولة من منازل الكفار. قال ابن مسعود: (لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقبل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار).
[25.25]
قوله تعالى: { ويوم تشقق السمآء بالغمام }؛ قرأ أبو عمرو والكوفيون بالتشديد فيهما على معنى تتشقق السماء عن الغمام و (الباء) و(عن) يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس وعن القوس، ومعنى الآية: ويوم تصدع السماء لنزول الملائكة في الغمام بأمر الله كما تقدم ذكره في قوله تعالى
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة
[البقرة: 210] وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة.
وقوله تعالى: { ونزل الملائكة تنزيلا }؛ أي نزل أهل كل سماء على حدة منها إلى الأرض لإكرام المؤمنين وإهانة الكفار، وأهوال ذلك اليوم. ويقال: إن الغمام سحاب أبيض فوق السماوات السبع، كما روي أن دعوة المظلوم ترفع فوق الغمام، فعلى هذا يكون المعنى: ويوم تشقق السماوات السبع ويظهر الغمام. قرأ ابن كثير: (وننزل الملائكة) بنونين ونصب الملائكة.
[25.26]
قوله تعالى: { الملك يومئذ الحق للرحمن }؛ أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة، { وكان يوما على الكافرين عسيرا }؛ أي عسر ذلك اليوم لشدته ومشقته، ويهون على المؤمنين.
[25.27-29]
قوله تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه }؛ نزلت في عقبة بن أبي معيط كان إذا أراد أن يؤمن فقال له أبي بن خلف وكان صديقا له: صبأت يا عقبة! لئن آمنت لم أكلمك أبدا، فامتنع عن الإيمان حتى قتل يوم بدر كافرا، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف يوم أحد.
وقيل:
" إن عقبة بن أبي معيط كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدم ذات يوم من سفر، فصنع طعاما فدعا عليه الناس، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرب الطعام قال صلى الله عليه وسلم: " ما نأكل من طعامك يا عقبة حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبي بن خلف غائبا، فلما أخبر بإسلام عقبة وكان صديقه، قال له: أصبوت يا عقبة؟! فقال: لا؛ والله ما صبوت وإن أخاك كما تعلم، ولكني صنعت طعاما فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له وليس في نفسي ذلك، فقال أبي بن خلف: يا عقبة! ما أنا بالذي أرضى منك أبدا حتى تأتيه فتبزق في وجهه! ففعل عقبة ذلك ".
قال الضحاك: (لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه ولسعه لسعة فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت). وعن عطاء عن ابن عباس قال: (كان أبي بن خلف يجالس النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع كلامه من غير أن يؤمن به، فلما أراد عقبة بن أبي معيط أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم زجره أبي بن خلف، وكان خليلا له، فقال له: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا صلى الله عليه وسلم. فلم يؤمن واتبع رضى أبي بن خلف، فأنزل الله هذه الآية).
قوله تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه } يعني عقبة بن أبي معيط، يعض على يديه تندما وتحسرا وأسفا على ما فرط في جنب الله. قال عطاء: (يأكل يديه حتى يذهبا إلى المرفقين، ثم ينبتان، فلا يزال هكذا دأبه، كلما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل، وذلك يوم القيامة. ثم { يقول } ، على وجه التحسر: { يليتني اتخذت مع الرسول سبيلا }؛ أي ليتني اتبعت الرسول وسلكت طريقته فإنها طريق الهدى، { يويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا }؛ يعني أبي بن خلف، { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جآءني }؛ أي لقد صرفني عن القرآن بعد إذ دعاني محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { وكان الشيطان للإنسان خذولا }؛ ابتداء كلام؛ أي كان الشيطان للإنسان كثير الخذلان يتبرأ منه في الآخرة. قوله تعالى: (يقول يا ليتني اتخذت) قراءة أبي عمرو بفتح الياء من (يا ليتني اتخذت)، وقتل عقبة يوم بدر صبرا كافرا.
وحكم هذه الآية في كل صاحبين اجتمعا على معصية الله. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" جليس السوء كمثل الكير، إن لم يحرق ثيابك علق بك ريحه ودخانه "
، وانشد بعضهم في ذلك:
تجنب قرين السوء واصرم حباله
وإن لم تجد عنه محيصا فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه
تنل منه صفو الود ما لم تماره
[25.30]
قوله تعالى: { وقال الرسول }؛ أي ويقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: { يرب إن قومي }؛ يعني قريشا، { اتخذوا هذا القرآن مهجورا }؛ هجروا تلاوته والعمل به، قالوا فيه غير الحق، وزعموا أنه سحر وشعر، وقالوا هو أساطير الأولين، وتركوا الإيمان به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من تعلم القرآن وعلمه، وعلق مصحفا ولم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به، يقول: يا رب العالمين؛ عبدك هذا اتخذني مهجورا، اقض بيني وبينه ".
[25.31]
وقوله تعالى: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين }؛ أي كما جعلنا لك يا محمد أعداء من مشركي قومك كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين؛ أي من كفار قومه، فلا يكبرن عليك ذلك ولا يشق عليك، فإن الأنبياء قبلك قد كذبوا، { وكفى بربك هاديا ونصيرا }؛ لك وللخلق وناصرا لك على أعدائك. وانتصب قوله (هاديا) على الحال أو على التمييز.
[25.32]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحداهم بالقرآن وأمرهم أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عن ذلك ولزمتهم الحجة فجعلوا يطلبون الحجة بالشبهة، فقالوا: لو كان نبيا لأنزل عليه القرآن جملة واحدة، كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور.
والمعنى: أن الكفار قالوا: هلا أنزل عليه القرآن جملة واحدة في وقت واحد، كما أنزلت التوراة على موسى؛ والإنجيل على عيسى؛ والزبور على داود، فبين الله أن ذلك ليس بشبهة، فقال: { كذلك لنثبت به فؤادك }؛ أي كذلك أنزلناه إليك متفرقا لنقوي به قلبك، فتزداد به بصيرة ويسهل عليك ضبطه وحفظه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ولا يكتب، بخلاف موسى وعيسى. ويقال: كأن الله تعالى يعلم أن القوم يسألونه عن أشياء ويؤذونه، فأنزل الجواب عقب السؤال ليكون أحسن موقعا وأدعى إلى الانقياد وأبلغ في إلزام الحجة.
وقوله تعالى: { ورتلناه ترتيلا }؛ أي فرقناه تفريقا، فقال لو رتل إذا كان متفرقا غير منظوم، وأسنان مرتلة: اذا كانت مفلجة، ومنه قوله
ورتل القرآن ترتيلا
[المزمل: 4] أي فرق الحروف بعضها ببعض. قال ابن عباس: (معناه: وبيناه تبيينا)، وقال السدي: (فصلناه تفصيلا).
[25.33]
قوله تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا }؛ أي لا يأتوك بشبهة للاحتجاج بها في إبطال أمرك إلا جئناك بالذي هو الحق، والذي هو أحسن تفسيرا من مثلهم.
والمعنى: (لا يأتونك) يعني المشركين (بمثل) ضربوه لك في إبطال أمرك ومخاصمتك (إلا جئناك) (ب) الذي هو (الحق) لترد به خصومتهم وتبطل به كيدهم، (وأحسن تفسيرا) بما أتوا به من المثل. والتفسير: كشف المعنى المغطى.
[25.34]
قوله تعالى: { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم }؛ فقاتل كفار مكة، وذلك أنهم كانوا قالوا: إن محمدا وأصحابه شر خلق الله، فقال الله تعالى: { أولئك شر مكانا وأضل سبيلا }؛ أي منزلا ومصيرا وأضل طريقا من المؤمنين، وقوله تعالى { يحشرون على وجوههم إلى جهنم } أي يسحبون على وجوههم في النار.
وعن أنس:
" أن رجلا قال: يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: " إن الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم ".
[25.35-36]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا }؛ أي آتينا موسى التوراة وجعلنا معه أخاه هارون معينا يعينه على تبليغ الوحي، والوزير في اللغة: هو الذي يرجع إلى رأيه، والوزر: ما يلتجأ إليه. قوله تعالى: { فقلنا اذهبآ إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا }؛ يعني فرعون وقومه فادعوهم إلى الإيمان، ففعلا ذلك فلم يجيبوا أمرهم، { فدمرناهم تدميرا }؛ أي أهلكناهم إهلاكا بما كان فيه عبرة لمن اعتبر.
[25.37]
قوله تعالى: { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية }؛ أي واذكر قوم نوح حين كذبوا نوحا ومن قبله من الرسل فأغرقناهم بالطوفان، وجعلنا إهلاكهم للناس عظة وعبرة ودلالة على قدرتنا، { وأعتدنا للظالمين }؛ أي الكافرين، { عذابا أليما }؛ في الآخرة سوى عذابهم في الدنيا.
[25.38-39]
قوله تعالى: { وعادا وثمودا وأصحاب الرس }؛ أي أهلكنا عادا وثمودا وأصحاب الرس. قال قتادة: (الرس بئر باليمامة)، قال السدي: (بأنطاكية ونبيهم حنظلة)، وإنما سموا أصحاب الرس؛ لأنهم قتلوا نبيهم ورسوه في تلك البئر، والرس واحد. وقال مقاتل والسدي: (هم أصحاب الرس، والرس بئر، فقتلوا فيها حبيب النجار فنسبهم إليها، وهم الذين ذكرهم في سورة يس). وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروه. وقال عكرمة: (هم قوم رسوا لنبيهم) أي دسوه في البئر.
روي أن رجلا سأل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرس، أين كانت منازلهم، وبماذا أهلكوا، ومن نبيهم، فإني أجد في كتاب الله ذكرهم، ولا أجد خبرهم؟ فقال علي رضي الله عنه: (لقد سألتني عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك، ولا يحدثك به أحد بعدي، وكان من قصتهم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر، كان غرسها يافث بن نوح على شفير عين جارية، وإنما سموا أصحاب الرس؛ لأنهم رسوا نبيهم في الأرض، وذلك أنه قيل لسليمان بن داود، وكانوا إثنا عشر قرية على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، وكان ملكهم يسمى تركول بن عامور بن ياويس بن شارب بن نمرود بن كنعان، وكان أعظم مدائنهم سندباد بها العين، والصنوبرة وهي شجرة عظيمة.
وكانوا قد حرموا ماء العين وهي غزيرة الماء، فلا يشربون منها، ولا يسقون أنعامهم، ومن فعل ذلك منهم قتلوه، ويقولون: هي حياة آلهتنا! فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها. وقد جعلوا في كل شهر عيدا يجتمع إليه أهل كل قرية، ويضربون على الشجرة ثيابا من حرير فيها من أنواع الصور، ثم يأتوا بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة، ثم يوقدون النار ويشوون اللحم، فإذا انقطع الدخان والنار خروا سجدا للشجرة يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم.
وكان الشيطان يجيء فيحرك أغصانها ويصيح في ساقها: إني قد رضيت عنكم عبادي، فطيبوا نفسا وقروا عينا، فعند ذلك يرفعون رؤوسهم من السجود ويضربون الدفوف ويشربون الخمور.
فلما طال كفرهم بعث إليهم رسولا، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فلما رأى تماديهم في الغي والضلال قال: يا رب إن عبادك أبوا وكذبوا وعبدوا شجرة لا تنفع ولا تضر، فأيبس شجرتهم يا رب، فأصبحوا وقد يبست شجرتهم فهالهم ذلك، وقالوا: إن هذا أيبس شجرتكم.
وقالت طائفة: بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويدعوهم إلى عبادة غيرها، فحيت وغضبت لكي تغضبوا لغضبها وتنصرونها. فاجتمع رأيهم على قتله، فطرحوه في بئر ضيقة المدخل عميقة القعر، وجعلوا على رأسها صخرة عظيمة، وقالوا: إنما غرضنا أن ترضى بنا آلهتنا إذا رأت أن قد قتلنا من كان يعيبها ودفناه بحكم كسرها، فتعود لها نضارتها ونورها وخضرتها كما كانت.
فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم عليه السلام وهو يقول: يا رب؛ قد ترى ضيق مكاني وشدة كربي، فارحم ضعفي وقلة حيلتي وعجل قبض روحي، ولا تؤخر إجابة دعوتي. فمات من ساعته.
فقال الله تعالى: يا جبريل؛ إن عبادي هؤلاء غرهم حلمي، وأمنوا مكري وعبدوا غيري، وقتلوا رسولي، وأنا المنتقم ممن عصاني، وإني حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا. فأرسل الله تعالى عليهم ريحا حمراء عاصفا تتوقد، ففزعوا منها وانضم بعضهم إلى بعض حتى صاروا تحت شجرة، فاشتد عليهم حرها، وبعث الله سبحانه سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة " الحمراء " تلهب، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار، نعوذ بالله من غضبه).
قوله تعالى: { وقرونا بين ذلك كثيرا }؛ أي وأهلكنا قرونا كثيرة بين عاد إلى أصحاب الرس من لم نسمه لك. وقوله تعالى: { وكلا ضربنا له الأمثال }؛ أي وكل من هؤلاء بينا لهم مما يحتاجون إليه في أمر دينهم فلم يجيبوا، { وكلا تبرنا تتبيرا }؛ أي وأهلكناهم بالعذاب إهلاكا، والتبار: هو الهلاك، وكل شيء كسرته فقد تبرته، يقال للمكسر من الذهب والفضة والزجاج: تبر.
[25.40]
قوله تعالى: { ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها }؛ حين فروا في آثارهم فيخافوا ويعتبروا، { بل كانوا لا يرجون نشورا }؛ أي كانوا لا يخافون البعث والنشور. أخبر الله تعالى أن الذي جرأهم على التكذيب أنهم لا يصدقون بالبعث.
[25.41-42]
قوله تعالى: { وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا }؛ أي واذا رأوك كفار مكة أبو جهل وأصحابه ما يتخذونك إلا هزوا؛ أي مهزوء يستهزؤن بك ويقولون على وجه الاستهزاء: { أهذا الذي بعث الله رسولا }؛ إلينا، { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا }؛ أي لقد كاد يصرفنا عن عبادة آلهتنا، { لولا أن صبرنا عليها }؛ على عبادتها. قال الله تعالى: { وسوف يعلمون }؛ يوم القيامة، { حين يرون العذاب من أضل سبيلا }؛ أي من أخطأ طريقا عن الهدى والدين والحجة هم أم المؤمنون.
[25.43]
قوله تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه }؛ أي أرأيت من عبد الأصنام بهوى نفسه، عجب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من نهاية جهلهم حين عبدوا ما دعاهم إليه الهوى، فقال: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه }. قال ابن عباس: (معناه: أرأيت من ترك عبادة إلهه وخالفه، ثم هوى حجرا يعبده ما حاله عندي)، قال مقاتل: (وذلك أن الحريث بن قيس السهمي هوى شيئا فعبده)، وقال سعيد بن جبير: (كان أهل الجاهلية يعبدون الحجر، فإذا رأوا أحسن منه أخذوه وتركوا الحجر الأول).
قوله تعالى: { أفأنت تكون عليه وكيلا }؛ أي كفيلا حافظا تحفظه من اتباع هواه وعبادة ما يهوى، أي لست كذلك، إنما بعثت داعيا لا حافظا.
[25.44]
قوله تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون }؛ أي أتظن يا محمد أن أكثرهم يسمعون سماع تدبير وتفكر، ويعقلون ما يعاينون من الحجج، { إن هم إلا كالأنعام }؛ يسمعون الصوت ولا يعقلون حقيقته، وهذا مثل قوله
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعآء وندآء
[البقرة: 171] وقوله تعالى: { بل هم أضل سبيلا }؛ أي بل هم أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام إذا زجرت انزجرت وهم لا ينزجرون، ولأن الأنعام تفهم بعض ما تسمع؛ لأنها تنادى على صفة فتقف وتنادى على صفة فتسير.
[25.45]
قوله تعالى: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شآء لجعله ساكنا }؛ معناه: ألم تر إلى صنع ربك كيف بسط الظل من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها من المشرق إلى المغرب. وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولو شاء لجعل الظل ساكنا؛ أي دائما لا يزول على أن لا تطلع الشمس، { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا }؛ على الظل بمعنى أنه لولا الشمس لما عرف الظل؛ لأن الظل يتبع الشمس في طوله وقصره، فإذا ارتفعت الشمس في أعلى ارتفاعها قصر الظل، وذلك وقت صلاة الضحى إلى أن تبلغ الشمس في الارتفاع مبلغا يزول عنده الظل، ولا ينقص الظل بعد ذلك، بل يأخذ في الزيادة فيكون الوقت وقت صلاة العصر، فما دامت الشمس تنحط يصير الظل طويلا تحت ذلك الانحطاط. والظل تابع للشمس التي هي دليله، ويقال: معنى الآية: جعلنا الشمس مع الظل دليلا على توحيد الله وكمال قدرته.
[25.46]
قوله تعالى: { ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا }؛ إذا طلعت الشمس قبض الله الظل قبضا يسيرا خفيا؛ أي سلطنا الشمس عليه حتى تنسخه شيئا فشيئا وتنقصه نقصا خفيا لا يستدرك بالمشاهدة.
[25.47]
قوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم اليل لباسا }؛ أي يستر كل شيء تطلبه كاللباس الذي يستر البدن، { والنوم سباتا }؛ أي راحة لأبدانكم، يقال: سبت إذا تمدد فاستراح، ومن ذلك يوم السبت؛ لأن اليهود كانوا يستريحون فيه بقطع أعمال الدنيا، والسبات قطع العمل، { وجعل النهار نشورا }؛ أي تنشرون فيه لمعاشكم وحوائجكم، والنشور ها هنا بمعنى التفرق والانبساط في التصرف.
[25.48-49]
قوله تعالى: { وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته }؛ أي أرسل الرياح ينشر بها الغيم، ويبسط في السماء قدام المطر. وإنما قيل في الرحمة: رياح؛ لأنها الجمع: الجنوب والشمال والصبا، وقيل في العذاب: ريح؛ لأنها واحد وهي الدبور وهو عقيم لا يلقح.
قوله تعالى: { وأنزلنا من السمآء مآء طهورا }؛ وهو المطر، وهو طاهر ومطهر من الأنجاس والأحداث، { لنحيي به بلدة ميتا }؛ أي لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها أشجار ولا أثمار ولا مرعى، { ونسقيه مما خلقنآ أنعاما وأناسي كثيرا }؛ أي نسقي بذلك الماء كثيرا من خلقنا من الأنعام. والأناسي: جمع إنسي مثل كرسي وكراسي، ويقال: جمع إنسان، وأصله أناسين، كما يقال: بستان وبساتين وسرحان وسراحين.
[25.50]
قوله تعالى: { ولقد صرفناه بينهم ليذكروا }؛ أي صرفنا المطر فقسمناه بينهم على ما توجه الحكمة لتذكروا أنعم الله فتشكروها، { فأبى أكثر الناس إلا كفورا }؛ أي جحودا به كلما أنزل المطر، يقولون: مطرنا بنوء كذا.
وعن ابن عباس أنه قال: (ما عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه على من يشاء من عباده)، قال صلى الله عليه وسلم:
" ما سنة بأمطر من أخرى، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار ".
[25.51-52]
قوله تعالى: { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا }؛ أي لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ينذرهم، ولكن بعثناك يا محمد إلى القرى رسولا لعظم كرامتك علينا، وليكون كل الثواب والكرامة لك خاصة، { فلا تطع الكافرين }؛ فيما يطلبون منك أن تعبد آلهتهم، ومداهنتهم، { وجاهدهم به }؛ أي بالقرآن، { جهادا كبيرا }؛ شديدا.
[25.53]
قوله تعالى: { وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج }؛ أي وهو الذي أرسل البحرين في مجاريهما، يقال: مرجت الدابة؛ أي أرسلتها في المرج ترعى.
وأراد بقوله { هذا عذب فرات } النيل والأنهار العظام، والفرات ما يكون في غاية العذوبة، وأراد بالملح الأجاج الذي يكون ماؤها في غاية المرارة، ويقال: في غاية الحرارة، من قولهم: أججت النار إذا وقدتها، وتأججت النار إذا توقدت، ويقال: ماء ملح ولا يقال: مالح إلا لما يلقى فيه الملح.
قوله تعالى: { وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا }؛ أي حاجزا يمنع كل واحد منهما من تغيير الآخر، وهو ما بين العذب والملح من الأرض. ويقال: أصل المرج الخلط، ومن ذلك المرج؛ لأنه يكون فيه أخلاط من النبات، ومنه قوله تعالى:
في أمر مريج
[ق: 5] أي مختلط بالملح والعذب في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان، لا يغير أحدهما طعم الآخر. { بينهما برزخا } أي حاجزا من قدرة الله تعالى، و { حجرا } أي مانعا يمنع من اختلاطهما، وفساد أحدهما بالآخر، ومعنى قوله تعالى { وحجرا محجورا } أي حراما محرما أن يفسد الملح العذب.
[25.54]
قوله تعالى: { وهو الذي خلق من المآء بشرا فجعله نسبا وصهرا }؛ أي خلق من النطفة إنسانا وخلقا كثيرا، فجعل من هؤلاء البشر أنسابا وأصهارا، { وكان ربك قديرا }؛ على ما أراد.
[25.55]
قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم }؛ إن عبدوه، { ولا يضرهم }؛ إن تركوا عبادته، وتركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم، { وكان الكافر على ربه ظهيرا }؛ أي وكان الكافر عونا للشيطان على ربه بالمعاصي؛ لأنه تابع الشيطان ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم للأصنام معلومة للشيطان. والظهير هو المعين. قال المفسرون: أراد بالكافر أبا جهل.
[25.56-57]
قوله تعالى: { ومآ أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا }؛ أي مبشرا بالجنة ونذيرا من النار، { قل مآ أسألكم عليه من أجر }؛ أي على القرآن وتبليغ الوحي، قوله تعالى: { إلا من شآء }؛ أي لكن من شاء، { أن يتخذ إلى ربه سبيلا }؛ إنفاق ماله فعل ذلك، والمعنى: لا أسألكم لنفسي أجرا، ولكن لا أمنع من إنفاق المال في طلب مرضاة الله وجنته.
[25.58]
قوله تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت }؛ أي فوض أمورك إليه، { وسبح بحمده }؛ أي احمده منزها عن ما لا يجوز في صفاته، وذلك نحو أن يقول: الحمد لله رب العالمين، والحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ويجوز أن يكون: صل بأمره هو المحمود في توفيقه إياك، كما يقال: افعل هذا بحمد الله، { وكفى به بذنوب عباده خبيرا }؛ فهو أولى من يراقب غيره.
[25.59]
قوله تعالى: { الذي خلق السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا }؛ أي فاسأل لسؤالك إياه خبيرا، والخبير ها هنا هو الله عز وجل، ويقال: معناه: فاسأل الخبير بذلك، يعني: ما ذكر من خلق السماوات والأرض والاستواء على العرش. وقيل في معناه: فاسأل عالما بم تسأله عنه، ولا تسأل غيره، وإذا سألت حاجتك ؛ فاسأل عالما بما يصلحك، وإنك إذا سألته أخبرك بالحق في صفاته، وفي كل ما سألت عنه.
[25.60]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم }؛ أي إذا قيل لكفار مكة: { اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن }؛ قالوا: ما نعرف إلا رحمان اليمامة؛ يعنون مسيلمة. وقوله تعالى: { أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا }؛ استفهام إنكار؛ أي لا نسجد للرحمن تباعدا من الإيمان، كما قال تعالى في قصة نوح:
فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا
[نوح: 6].
[25.61]
قوله تعالى: { تبارك الذي جعل في السمآء بروجا }؛ البروج: منازل الكواكب السبعة: الشمس؛ والقمر؛ والمشتري؛ فالمريخ؛ وزحل؛ وعطارد؛ والزهرة، وهي اثنى عشر برجا؛ فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والجدي والدلو بيتا زحل.
وقوله تعالى: { وجعل فيها سراجا }؛ يعني الشمس، { وقمرا منيرا }. وقرأ حمزة (سرجا) أراد الشمس والكواكب معها. والمعنى: وجعل في السماء شمسا تضيء بالنهار. ويقطع كل شهر برجا من البروج الاثني عشر، وجعل فيها قمرا يضيء بالليل، ويقطع كل برج في يوم وثلث.
[25.62]
قوله تعالى: { وهو الذي جعل اليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا }؛ أي يخلف كل واحد منهما صاحبه، يذهب أحدهما ويجيء الآخر، فهو عظة لمن اتعظ، وأراد أن يشكر أنعام الله.
قال أبو عبيدة: (الخلفة كل شيء بعد شيء: الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل؛ لأن أحدهما يخلف الآخر ويأتي بعده). وقال مجاهد: (جعل النهار خلفة من الليل لمن نام بالليل، وجعل الليل خلفة لمن اشتغل بالنهار) فمن فاته العمل بالليل قضاه بالنهار، ومن فاته بالنهار قضاه بالليل.
[25.63]
قوله تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما }؛ أي عباده الذين رضيهم وأثنى عليهم هم الذين يمشون على السكينة والوقار الهوينا، متواضعين من مخافة الله، حلماء عقلاء لا يجهلون وإن جهل عليهم، وإن كلمهم الكفار والفساق بالسفه والفحش؛ قالوا سداد من القول. وقيل: يقولون في جواب السفيه: سلام عليكم. وقال قتادة: (معنى قوله تعالى: { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما }؛ أي كانوا لا يجهلون على أهل الجهل). وقال مقاتل: (قالوا سلاما؛ أي قولا يسلمون فيه من الإثم).
قال الحسن: (هذه صفة نهارهم إذا انتشروا في الناس، وليلهم خير ليل كما قال تعالى: { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما }؛ أي يصلون بالليل طلبا للثواب). وعن ابن عباس قال: (من صلى بعد العشاء ركعتين أو أكثر فقد بات لله ساجدا أو قائما).
[25.65-66]
قوله تعالى: { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما }؛ لازما دائما. والغرم: اللزوم، يقال لصاحب الدين: غريم؛ لأنه يلازم المديون، ويقال للمديون: الغريم؛ لأن اللزوم يثبت عليه، والمغرم بالنساء الملازم لهن. قال الزجاج: (إن عذابها كان غراما، الغرام أشد العذاب). { إنها سآءت مستقرا ومقاما }؛ أي إن جهنم بئس موضع قرارا وإقامة هي. قال الحسن: (كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم).
[25.67]
قوله تعالى: { والذين إذآ أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما }؛ الإسراف: هو الإنفاق في معاصي الله تعالى، والمقتر: مانع حق الله تعالى، والقوام: هو الوسط بين الإسراف والتقتير. قرأ أهل المدينة والشام بضم الياء وكسر التاء، وقرأ الكوفيون (يقتروا) بفتح التاء وضم الياء، وقرأ الباقون (يقتروا) بفتح الياء وكسر التاء، وكلها لغات صحيحة. فالإسراف: نفقة في معصية الله تعالى وإن قلت، والإقتار: منع حق الله.
وعن الحسن أن معناه: (لم ينفقوا في معاصي الله، ولم يمسكوا عن فرائض الله). وقيل: معناه: لم يضيقوا في الإنفاق، وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار، لا إسرافا يدخل به في حد التبذير، ولا تضييقا يضر به في حد المانع لما يجب، وهذا هو المحمود من النفقة.
وعن عمر رضي الله عنه: (من الإسراف أن لا يشتهي الرجل شيئا إلا أكله) وقال: (كفى بالمرء سرفا أن يأكل كل ما يشتهي). وقال قتادة: (الإسراف: النفقة في المعصية، والإقتار: الإمساك عن حق الله، والقوام من العيش: ما أقامك وأغناك).
[25.68]
قوله تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر }؛ قيل:
" إن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله؛ أي الذنب أكبر؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " قال: ثم أي؟ قال: " أن تزني بحليلة جارك " "
فأنزل الله عز وجل هذه الآية تصديقا لذلك: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون }؛ في الحديث
" لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحد ثلاث معان: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق "
{ ومن يفعل ذلك يلق أثاما }؛ أي من يفعل شيئا مما تقدم ذكره { يلق أثاما } أي يلق عقوبة فعله، ويقال: الآثام واد في جهنم من دم وقيح.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " لو أن صخرة عسراء قذف بها في جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا، ثم ينتهي إلى غي وأثام " قيل: وما غي وأثام يا رسول الله؟ قال: " بئران يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللتان قال الله تعالى: { فسوف يلقون غيا } "
وروي أن أثاما واد في جهنم فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار ستين قلة من السم، كل عقرب منهن مثل البغلة الموكفة.
[25.69]
قوله تعالى: { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا }؛ تفسير الغي الأثام بقوله { يضاعف له العذاب } الآية، ومن رفع (يضاعف، ويخلد) وهو ابن عامر فهو على الاستئناف والقطع عما قبله.
[25.70]
قوله تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما }؛ قال ابن عباس: (نزلت هذه الآية بمكة، وكان المشركون قالوا: ما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش، فنزلت هذه الآية).
ومعناها: إلا من تاب عن الكفر والمعصية وآمن بالله وعمل عملا صالحا بعد الإيمان والتوبة، فأولئك يمحو الله سيئاتهم بالتوبة ويثبت لهم مكانها حسنات، وهذا هو معنى التبديل، لا تصير السيئة بعينها حسنة.
وعن ابن عباس أنه قال: (قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب } الآية ثم نزل قوله تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } الآية، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح بشيء مثل فرحه بها وبقوله
إنا فتحنا لك فتحا مبينا
[الفتح: 1]).
قال قتادة: (ومعناها: إلا من تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل عملا صالحا فيما بينه وبين ربه). وقال أيضا في معنى قوله { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }: (التبديل في الدنيا طاعته بعد عصيانه، وذكر الله بعد نسيانه). وقال الحسن: (أبدلهم الله بالعمل إلى العمل الصالح بالشرك إخلاصا وإسلاما، وبالفجور إحصانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين).
[25.71]
قوله تعالى: { ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا }؛ أي من تاب من الشرك وعمل صالحا، ولم يكن من القبيل الذين قتلوا وزنوا، فإنه يتوب الله؛ أي يعود عليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره بمن قتل وزنى، فالتوبة الأولى رجوع عن الشرك، والثانية رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة.
[25.72]
قوله تعالى: { والذين لا يشهدون الزور }؛ قال أكثر المفسرين: الزور ها هنا بمعنى الشرك. قال الزجاج: (الزور في اللغة الكذب، ولا كذب فوق الشرك بالله). وقال قتادة: (ولا يشهدون الزور، لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم). وقال محمد بن الحنفية: (لا يشهدون الزور: اللهو والغناء واللعب وأعياد اليهود والنصارى والمجوس). وقال علي بن أبي طلحة: (شهادة الزور). وكان عمر رضي الله عنه (يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطوف به في الأسواق). وعن عمر بن المنكدر أنه قال: بلغني (أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم عن سماع اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك. ثم يقول للملائكة: اسمعوا عبيدي تحميدي وثنائي وتمجيدي، وأعلموهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
قوله تعالى: { وإذا مروا باللغو مروا كراما }؛ أي إذا مروا بالقول والفعل الذي لا فائدة منه مروا مكرمين صائنين أنفسهم عن الخوض في ذلك، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر بما قدروا عليه من قول إذا عجزوا عن الفعل، ومن إظهار كرامة وتعبيس وجه إذا عجزوا عن القول.
[25.73]
قوله تعالى: { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا }؛ معناه: والذين إذا وعظوا بآيات ربهم؛ أي بالقرآن؛ لم يعاملوا فيها معاملة الأصم الذي لا يسمع، والأعمى الذي لا يبصر، ولكنهم سمعوا وبصروا وانتفعوا بها وخروا ساجدين سامعين باكين مبصرين فيما أمروا به ونهوا عنه. والخر هو السقوط.
[25.74]
قوله تعالى: { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين }؛ الذرية تكون واحدا وجمعا، فكونها الواحد: قوله تعالى:
رب هب لي من لدنك ذرية طيبة
[آل عمران: 38]، وكونها للجمع قوله تعالى:
ذرية ضعافا
[النساء: 9]. وقوله تعالى { قرة أعين }: يقولون: { ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا } أراد أتقياء. وقال مقاتل: (معناه: اجعلهم صالحين فنقر أعينا بذلك). وقال الحسن: (ما من شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولده وولد ولده مطيعين لله).
وقوله تعالى: { واجعلنا للمتقين إماما }؛ أي يقتدى بنا في الخير، والمعنى: اجعلنا صالحين نأتم بمن قبلنا من المسلمين حتى يأتم بنا من بعدنا. قال الفراء: (إنما قال (إماما) ولم يقل: أئمة كما قال:
إنا رسول رب العالمين
[الشعراء: 16] للاثنين، يعني: إنه من الواحد الذي يريد به الجميع). وفي الحديث:
" من رزق إيمانا وحسن خلق فذاك إمام المتقين "
[25.75-76]
قوله تعالى: { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا }؛ أي أهل هذه الخصال هم الذين يجزون الغرفة في الجنة بصبرهم على الطاعة وعن المعصية وعلى مكاره الزمان ومحن الدنيا. والغرفة هي البناء العالي المرتفع، قال مقاتل: (يعني غرف الجنة). وقال مقاتل: (هي غرفة من الزبرجد والدر والياقوت).
قوله تعالى: { ويلقون فيها تحية وسلاما }؛ أي وتتلقاهم الملائكة في تلك الغرف بالتحية والسلام من الله تعالى. قرأ أهل الكوفة (يلقون) بفتح الياء والتخفيف. وقوله تعالى: { خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما }؛ أي حسنت تلك الغرف في المستقر والمقام.
[25.77]
قوله تعالى: { قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعآؤكم }؛ أي قل لهم: ما يصنع بكم ربي وهو لا يحتاج إليكم لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام وإلى الطاعة لتنتفعوا أنتم بذلك. وقيل: معناه: أي وزن وقدر لكم عند ربي لولا دعاؤكم وعبادتكم إياه. وقيل: معناه: ما يفعل بكم يا أهل مكة لولا عبادتكم غير الله، { فقد كذبتم }؛ يا أهل مكة، { فسوف يكون }؛ جزاء تكذيبهم، { لزاما }؛ أي أسروا وأخذوا بالأيدي. وقيل: أراد به يوم بدر.
واللزام بنصب اللام مصدرا أيضا. والخطاب بقوله { فقد كذبتم } يا أهل مكة؛ أي إن الله دعاكم بالرسول إلى توحيده وعبادته، فقد كذبتم الرسول، ولم تجيبوا دعوته، فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم فلا تعطون التوبة، فقتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-2]
{ طسم * تلك آيات الكتاب المبين }؛ أول السورة قسم؛ وهو من أسماء الله تعالى. قال القرظي: (أقسم الله بطوله وسنائه وملكه)، قوله تعالى: { تلك آيات الكتاب المبين } أي هذه آيات الكتاب المبين أنزلها على رسوله.
[26.3]
قوله تعالى: { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين }؛ أي لعلك مهلك نفسك؛ أي قائل بأن لا يكونوا مؤمنين، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمانهم ونجاتهم من عذاب الله، وذلك أنه لما كذبت قريش النبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ذلك، وكان يحرص على إيمانهم، فأنزل الله هذه الآية: لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان.
[26.4]
قوله تعالى: { إن نشأ ننزل عليهم من السمآء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين }؛ إعلام من الله تعالى أنه لو أراد أن ينزل آية تضطرهم إلى الطاعة لقدر على ذلك، ولكنه لم يفعل؛ لأنه أراد منهم إيمانا فيستحقون عليه المدح والثواب، فإذا جاء الإلجاء ذهب المدح والثواب.
قوله تعالى: { فظلت أعناقهم لها خاضعين } أي أذلاء منقادين لا يلوون أعناقهم إلى معصية. قال قتادة: (المعنى: لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها، فظلت جماعتهم لها خاضعين). والأعناق: الجماعات، يقال: جاءني عنق من الناس؛ أي جماعة، ولو كان المراد الأعناق التي هي الخارجة لقال: خاضعات.
[26.5-6]
قوله تعالى: { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين }؛ أي ما يأتي جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بشيء بعد شيء من القرآن إلا كانوا معرضين عن ذلك. قوله تعالى: { فقد كذبوا }؛ أي بالقرآن، { فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون }؛ أي فسيأتيهم خبر ذلك في القيامة.
[26.7]
قوله تعالى: { أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم } معناه: أولم ير أهل مكة إلى الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنف حسن في المنظر من النبات بعد أن كانت ميتة لا نبات فيها. والزوج: هو صنف وأضرب الحسن، (والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين)، من أسود وأحمر وأصفر وأخضر، وحلو وحامض مما يأكل الناس والأنعام. (والكريم في اللغة: هو المحمود فيما يحتاج إليه)، يقال: نخلة كريمة إذا طاب حملها أو كثر، وناقة كريمة إذا كانت غزيرة اللبن.
[26.8-9]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية }؛ إن في اختلاف ألوان النبات للدلالة على وحدانية الله وكمال قدرته، { وما كان أكثرهم مؤمنين }؛ في علم الله؛ أي قد سبق في علم الله أن أكثرهم لا يؤمنون، { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }؛ أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
[26.10-14]
قوله تعالى: { وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين }؛ أي أتل على قومك أو اذكر لقومك: { وإذ نادى ربك موسى } حين رأى الشجرة والنار، وقال له: يا موسى ائت القوم الظالمين، يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا بني إسرائيل بأن ساموهم سوء العذاب، { قوم فرعون }.
ثم أخبر عنهم فقال: { ألا يتقون } ، عقابي في مقامهم على الكفر وترك الإيمان. { قال } موسى: { رب إني أخاف أن يكذبون }؛ بالرسالة ويقولون: ليست من عند الله، { ويضيق صدري }؛ بتكذيبهم إياي، { ولا ينطلق لساني }؛ للعقدة التي فيه، { فأرسل } جبريل { إلى هارون } ليكون معي معينا يؤازرني على إظهار الدعوة وتبليغ الرسالة. { ولهم علي ذنب }؛ أي دعوى ذنب؛ يعني الوكزة التي وكزها القبطي فمات منها، { فأخاف أن يقتلون }؛ بوشايته.
[26.15]
قوله تعالى: { قال كلا }؛ أي كلا لا يقتلونك لأني لا أسلطهم عليك، { فاذهبا }؛ أنت وأخوك، { بآياتنآ }؛ يعني بما أعطاهما من المعجرة، { إنا معكم مستمعون }؛ وإنما قال (معكم) لأنه أجراها مجرى الجماعة، والمعنى: أسمع ما يقولونه وما يجيبونك به.
وقيل: إن معنى قوله (كلا) أي قال الله لموسى: إرتدع عن هذا الظن وهذا الخوف، { فاذهبا بآياتنآ } أي بدلائلنا { إنا معكم مستمعون } أي شاهدون بحفظكم ونصركم.
[26.16]
قوله تعالى: { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين }؛ أي { رسول رب العالمين } إليك لتؤمنن بالله وتطلق بني إسرائيل عن الاستعباد، وترسلهم معنا إلى الأرض المقدسة، والرسول يذكر ويراد به الجمع، كما تقول العرب: ضيف وعدو، ومنه قوله
وهم لكم عدو
[الكهف: 50]، وقيل: إنما قال { رسول رب العالمين } ولم يقل رسولا؛ لأنه أراد المصدر؛ أي رسالة، وتقديره: ذوو رسالة رب العالمين، كقول الشاعر:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة، وقيل: معناه: وكل واحد منا رسول رب العالمين.
[26.17-19]
قوله تعالى: { أن أرسل معنا بني إسرائيل }؛ أي بأن أرسل معنا بني إسرائيل إلى فلسطين ولا تستعبدهم. وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا، فانطلق موسى وهارون بالرسالة إلى مصر، فلما بلغوا دار فرعون لم يؤذن لهم بالدخول عليه إلا بعد مدة، فدخل البواب؛ وقال لفرعون: هذا إنسان يدعي أنه رسول رب العالمين، فقال فرعون: إئذن له لعلنا نضحك منه. فدخلا عليه وأديا رسالة الله تعالى.
فعرف موسى؛ لأنه نشأ في بيته، ف { قال ألم نربك فينا وليدا }؛ أي صبيا صغيرا، { ولبثت فينا من عمرك سنين }؛ وهي ثلاثون سنة، { وفعلت فعلتك التي فعلت }؛ يعني قتل قبطي، { وأنت من الكافرين }؛ أي من الجاحدين لنعمتي، وحق تربيتي، فربيناك فينا وليدا، فهذا الذي كافأتنا به أن قتلت منا نفسا، وكفرت بنعمتنا.
ويروى أن موسى لما انطلق إلى مصر لتبليغ الرسالة، وكان هارون يومئذ بمصر، التقى كل واحد منهما بصاحبه، فانطلقا كلاهما إلى فرعون، أديا جميعا الرسالة، وعرف فرعون موسى، قال له فرعون: { ألم نربك فينا وليدا } أي صغيرا، ومكثت عندنا سنينا من عمرك، { وفعلت فعلتك } أي قتلت القبطي { وأنت من الكافرين } أي الجاحدين لنعمتي وتربيتي.
[26.20]
{ قال } موسى: { فعلتهآ إذا وأنا من الضالين }؛ أي فعلت تلك الفعلة وأنا من الجاهلين، لم يأتني من الله شيء، ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الإضلال عن الهدى؛ لأن ذلك لا يجوز أن يكون على الأنبياء. وقيل: معناه: وأنا من المخطئين، نظيره
إنك لفي ضلالك القديم
[يوسف: 95]. وقيل: من الناسين، نظيره قوله تعالى:
أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى
[البقرة: 282].
[26.21]
قوله تعالى: { ففررت منكم لما خفتكم }؛ أي هربا منكم إلى مدين لما خفتكم على نفسي أن تقتلوني بالذي قتلته، { فوهب لي ربي حكما }؛ أي نبوة، وقيل: فهما وعلما، { وجعلني من المرسلين }؛ وإني لأبلغكم التوحيد والشرائع.
[26.22]
قوله تعالى: { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل }؛ قال المفسرون: هذا إنكار من موسى أن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ خبر وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: إنك لو كنت لم تقتل بني إسرائيل كانت أمي مستغنية عن قذفي في أليم، فكأنك تمن علي بما كان بلاؤك سببا له. وقيل: معناه: إن فرعون لما قال لموسى: ألم نربك فينا وليدا؟ قال له موسى: تلك نعمة تعدها علي لأنك عبدت بني إسرائيل؛ أي استعبدتهم، ولو لم تعبدهم لكفلني أهلي فلم يلقوني في اليم. يقال: استعبدت فلانا وأعبدته وتعبدته وعبدته؛ أي اتخذته عبدا.
وقيل: معنى الآية: أتمن علي بذلك وأنت استعبدت بني إسرائيل، فأبطلت نعمتك علي بإساءتك إليهم باستعبادك إياهم؟ وبأن أخذت أموالهم وأنفقت على موسى منها؟ وكانت أمي هي التي تربيني، فأي نعمة لك علي.
قوله تعالى: { أن عبدت } في موضعها وجهان؛ أحدهما: النصب بنزع الخافض، والثاني: الرفع على البدل من (نعمتي).
[26.23-35]
قوله تعالى: { قال فرعون وما رب العالمين }؛ أي قال له فرعون: وما رب العالمين؟ أي قال له فرعون: أي شيء رب العالمين الذي تدعوني إليه، { قال رب السموت والأرض وما بينهمآ إن كنتم موقنين }؛ بأن المستحق للربوبية من يكون هذه صفته، وأن هذه الأشياء التي ذكرت ليست من فعلكم.
فلما قال موسى ذلك تحير فرعون ولم يرد جوابا ينقض به هذا القول. { قال لمن حوله ألا تستمعون }؛ مقالة موسى؟! و { قال } موسى: { ربكم ورب آبآئكم الأولين }؛ بين أن المستحق للربوبية من هو رب أهل كل عصر وزمان؛ أي الذي خلق آباءكم الأولين، وخلقكم من آبائكم.
فلم يقدر فرعون على جوابه، ف { قال } فرعون لجلسائه: { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون }؛ أي ما هذا بكلام صحيح إذ يزعم أن له إلها غيري.
فلم يشتغل موسى بالجواب عن ما نسبه إليه من الجنون، ولكن اشتغل بتأكيد الحجة والزيادة، { قال رب المشرق والمغرب وما بينهمآ إن كنتم تعقلون }؛ توحيد الله، فإن كنتم ذوي عقول لم يخف عليكم ما أقول.
فلم يجبه فرعون بشيء ينقض حجته، بل هدده و { قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين }؛ أي لأحبسنك مع من حبسته في السجن. ظن بجهله أن يخافه ويترك عبادة الله ويتخذ فرعون إلها. وكان سجن فرعون أشد من القتل؛ لأنه كان إذا حبس الرجل طرحه في مكان وحده لا يسمع فيه شيئا، ولا يبصر فيه شيئا، وكان يهوي به في الأرض. و { قال } موسى لفرعون حين توعده بالسجن: { أولو جئتك بشيء مبين }؛ يعني لو جئتك بأمر ظاهر تعرف فيه صدقي وكذبك. و { قال }؛ فرعون على وجه التهزئة { قال فأت به إن كنت من الصادقين }. { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } أي حية صفراء، ذكر عظيم أعظم ما يكون من الحيات، قال فرعون: فهل غير هذه! { ونزع يده }؛ من جيبه، { فإذا هي بيضآء }؛ بياضا نوريا لها شعاع الشمس، { للناظرين }.
فإن قيل: كيف سمى العصا ثعبانا في هذه الآية، وسماها جانا في آية أخرى حيث قال
كأنها جآن
[القصص: 31] والجان الخفيفة؟ قلنا: إنما سماها ثعبانا لعظم حسها، وسماها جانا لسرعة مشيته وحركته، وفي ذلك ما يدل على عظم الآية.
فلم يكن لفرعون دفع لما شاهد إلا أن قال: هذا " سحر " سحرتموه، فأوهم أصحابه أنه لا صحة له، وذلك قوله تعالى: { قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم }؛ قال ابن عباس: (وكان الملأ حوله خمسمائة من أشراف قومه، عليهم الأسورة) فقال لهم: إن هذا لساحر حاذق بالسحر، { يريد أن يخرجكم من أرضكم }؛ يلقي الفرقة والعداوة بينكم فيخرجكم من بلادكم، { بسحره فماذا تأمرون }؛ أي ماذا تشيرون علي في أمره، ولو تفكر هؤلاء الجهال في قوله ذلك لعلموا أنه ليس بإله لافتقاره إلى رأيهم، ولكنهم لفرط جهلهم موه عليهم.
[26.36-37]
قوله تعالى: { قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدآئن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم }؛ أي قال له الملأ: أخر أمره وأمر أخيه لا يناظرهما إلى أن يبعث إلى المدائن الشرط يحشرون السحرة، ليصنع السحرة مثل ما صنع موسى، ولا يثبت له عليك حجة.
[26.38-40]
قوله تعالى: { فجمع السحرة لميقات يوم معلوم }؛ أي لميعاد يوم زينتهم وهو يوم عيدهم، { وقيل للناس هل أنتم مجتمعون }؛ اجتمعوا لتنظروا إلى السحرة، { لعلنا نتبع السحرة }؛ أي نتبع دينهم، { إن كانوا هم الغالبين }؛ لموسى، ويقال: أرادوا بالسحرة موسى وهارون { إن كانوا هم الغالبين } على سحرهم.
[26.41-42]
قوله تعالى: { فلما جآء السحرة قالوا لفرعون أإن لنا لأجرا }؛ أي جعلا، { إن كنا نحن الغالبين }؛ لموسى. { قال نعم وإنكم }؛ مع ما أعطيتكم من الأموال، { إذا لمن المقربين }؛ في المرتبة والمنزلة وللدخول علي.
[26.43-45]
قوله تعالى: { قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون }؛ أي اطرحوا من أيديكم ما تريدون طرحه من الحبال والعصي، وهذا أمر تهديد لا أمر تحقيق، { فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون }؛ أي بمنعته، { إنا لنحن الغالبون }؛ لموسى، فامتلأ الوادي حيات، فهابه ذلك، فقيل لموسى: ألق عصاك، { فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون }؛ فألقاها فصارت حية عظيمة تلقف ما صنعوا من السحر، ثم أخذها موسى فعادت عصا كما كانت، ولو لم يوجد لما تلقفه أثر.
[26.46-49]
قوله تعالى: { فألقي السحرة ساجدين }؛ فسجدت السحرة عند ذلك لله تعالى لما علموا أن ذلك ليس بسحر، وإنما هو من عند الله، و { قالوا آمنا برب العالمين }؛ قال لهم فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: { رب موسى وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم }؛ أي صدقتم به قبل أن آمركم بذلك، { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين } ، وكان فرعون أول من قطع وصلب. قال ابن عباس: (إنهم من سرعة سجودهم لله كأنهم ألقوا).
[26.50-51]
قوله تعالى: { قالوا لا ضير إنآ إلى ربنا منقلبون }؛ أي قالت السحرة: لا يضرنا ما تصنع بنا في الدنيا في جنب ثواب الله في الآخرة، إنا إذا رجعنا إلى ربنا مؤمنين لنأخذ حقنا من الظالم، { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانآ }؛ شركنا أي يتجاوز تأخرنا، { أن كنآ أول المؤمنين }؛ أي بأن كنا أول المؤمنين لموسى من أهل الجمع اليوم، فكانوا سحرة في أول النهار شهداء في آخره.
[26.52-54]
قوله تعالى: { وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي }؛ أي ببني إسرائيل ليلا، { إنكم متبعون }؛ وأخبرهم أن فرعون وقومه يتبعونهم وينجيهم الله من ضررهم، فأسرى بهم موسى ليلا إلى البحر، { فأرسل فرعون في المدآئن حاشرين }؛ يحشرون الناس ويجمعون له الناس الجيش، ثم قال فرعون لقومه: { إن هؤلاء لشرذمة قليلون }؛ يعني موسى وأصحابه، والشرذمة: الفئة القليلة، والشرذمة في كلام العرب: القليل من كل شيء من الناس والأموال.
روي أن هؤلاء الذين اشغلهم فرعون يومئذ ستمائة ألف وسبعون ألفا، وكان هامان على مقدمة فرعون ومعه ألفا ألف، وفرعون في أكثر من خمسة عشر ألف ألف.
[26.55-56]
قوله تعالى: { وإنهم لنا لغآئظون }؛ أي لفاعلون ما يغيظنا لإظهارهم خلاف ديننا، وأخذهم حبلنا وقتلهم أبكارنا. وذلك أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اجمع أولاد بني إسرائيل كل أهل أربعة أبيات في بيت، ثم اذبحوا الأولاد واضربوا بدمائها على أبوابكم، فإني سآمر الملائكة لا يدخلون بيتا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون، ثم أسر بعبادي، ففعل ذلك، فلما أصبحوا، قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه، قتلوا أبكارنا وأخذوا أموالنا، فأخذ في طلبهم. قوله تعالى: { وإنا لجميع حاذرون }؛ قرأ الكوفيون وابن عامر (حاذرون) بالألف؛ أي شاكون في السلاح، ذوو أداة وقوة وكراع، وبنوا اسرائيل لا سلاح لهم. وقرأ الباقون (حذرون) أي مسقطون خائفون شرهم.
[26.57-59]
قوله تعالى: { فأخرجناهم من جنات وعيون }؛ يعني فرعون وقومه من بساتين وعيون جارية، { وكنوز }؛ أي وخزائن مدخرة من الذهب والفضة، { ومقام كريم }؛ أي مجالس رفيعة من مجالس الملوك والرؤساء، { كذلك }؛ فعلنا بهم، { وأورثناها }؛ وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، { بني إسرائيل }؛ وذلك أن الله رد بني إسرائيل إلى مصر بعدما أغرق فرعون وقومه، وأعطاهم جميع ما كان لفرعون من الأموال والعقار والمساكن.
[26.60-62]
قوله تعالى: { فأتبعوهم مشرقين }؛ يعني قوم فرعون أدركوا موسى وقومه حين أشرقت الشمس. قوله تعالى: { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون }؛ أي فلما توافى الفريقان، وتقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه، وعاين بعضهم بعضا، قال أصحاب موسى: سيدركنا قوم فرعون، ولا طاقة لنا بهم! { قال } لهم موسى: { كلا }؛ أي لن يدركنا، ارتدعوا وانزجروا عن هذه المقالة، { إن معي ربي }؛ ناصري وحافظي، { سيهدين }؛ إلى طريق النجاة منهم.
[26.63]
قوله تعالى: { فأوحينآ إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق }؛ فصار اثنا عشر طريقا، لكل سبط طريق، ووقف الماء لا يجري، وكان بين كل طريقين قطعة من الماء، { فكان كل فرق كالطود العظيم }؛ كالجبل العظيم، وهذا البحر بحر القلزم، تسلك الناس فيه من اليمن ومكة إلى مصر.
[26.64-66]
قوله تعالى: { وأزلفنا ثم الآخرين }؛ يعني قوم فرعون؛ أي قربناهم إلى الهلاك، وقذفناهم في البحر، وأدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم فيه بما يسرنا لبني إسرائيل من سلوك البحر، فكان ذلك سبب قربهم من البحر حين اقتحموه. وسمي (المزدلفة) مزدلفة لاجتماع الناس فيها، فلما تكامل جنود فرعون في البحر انطبق عليهم فغرقوا جميعا، { وأنجينا موسى ومن معه أجمعين }؛ من الغرق، { ثم أغرقنا الآخرين }؛ أي فرعون وقومه.
[26.67-68]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية }؛ أي إن في ذلك الانفلاق الذي صار نجاة بني اسرائيل، وفي الانطباق الذي كان سبب غرق آل فرعون لآية على توحيد الله وصدق نبوة موسى، { وما كان أكثرهم مؤمنين }؛ أي لم يكن قوم فرعون مع وضوح الأدلة على وحدانية الله مصدقين، { وإن ربك لهو العزيز }؛ أي القاهر المنتقم من الكفار، { الرحيم } ، بعباده، ولم يكن آمن من أهل مصر غير آسية بنت مزاحم، وحزقيل المؤمن، ومريم بنت ناموثية التي دلت على عظام يوسف، فلذلك قال { وما كان أكثرهم مؤمنين }. وقيل: معنى قوله { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } أي العزيز في انتقامه من أعدائه حين أغرقهم، الرحيم بالمؤمنين حين أنجاهم.
[26.69-73]
قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ إبراهيم }؛ أي إقرأ يا محمد على قومك، { إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين }؛ أي فنقيم عليها عابدين، مقيمين على عبادتها، قال بعض العلماء: إنما { فنظل لها } لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون }؛ أي هل يسمعون دعاءكم إن دعوتموهم أو ينفعونكم إن دعوتموهم، أو يضرونكم إن لم تدعوهم. وقال ابن عباس: (معناه: أو يرزقونكم أو يكشفون عنكم الضر).
[26.74-78]
قوله تعالى: { قالوا بل وجدنآ آبآءنا كذلك يفعلون }؛ فنحن نقتدي بهم، { قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآبآؤكم الأقدمون }؛ أي قال لهم إبراهيم: أفرأيتم هذا الذي تعبدونه أنتم وآباؤكم المتقدمون، { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }؛ أي فإنني أعاديهم، أتبرأ منهم. وقوله تعالى: { إلا رب العالمين }. روي أنهم كانوا يعبدون الله مع الأصنام، فتبرأ إبراهيم من جميع ما يعبدونه إلا من عبادة الله. وإنما قال { عدو لي } على التوحيد في موضع الجمع على معنى: أن كل واحد منهم عدو لي.
ويقال: إن قوله تعالى { عدو } في موضع المصدر، كأنه قال ذوو عداوة، فوقعت الصفة موقع المصدر، كما يقع المصدر موقع الصفة في رجل عدل، ويجوز أن يكون قوله تعالى: { إلا رب العالمين } استثناء منقطع، معناه: ولكن رب العالمين الذي خلقني ليس بعدو لي هو يهدين؛ أي يرشدني إلى الحق، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن أصنامهم هي التي تهديهم، فقال إبراهيم ردا عليهم: { الذي خلقني فهو يهدين }؛ إلى الدين والرشد لا ما تعبدون.
[26.79-80]
قوله تعالى: { والذي هو يطعمني ويسقين }؛ أي هو رازقي، فمن عنده طعامي فهو الذي يشبعني إذا جعت، ويرويني إذا عطشت، { وإذا مرضت فهو يشفين }؛ أي يعافيني من المرض، وذلك أنهم كانوا يقولون : المرض من الزمان، والأغذية والشفاء من الأطباء والأدوية، فأخبر إبراهيم أن الذي أمرض هو الذي يشفي وهو الله عز وجل، ولم يقل إبراهيم فأمرضتني؛ لأنه يقال مرضت، وإن كان المرض بخلق الله وقضائه، ولا يقال أمرضني الله.
[26.81-82]
قوله تعالى: { والذي يميتني ثم يحيين }؛ أي هو الذي يميتني في الدنيا ثم يحييني في الآخرة للبعث، { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي }؛ معناه: والذي أعلم وأرجو أن يغفر لي يوم الحساب. وذكره بلفظ الطمع؛ لأن ذلك أقرب إلى حسن الأدب. وقال بعض المفسرين: يعني الكذبات الثلاث، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: هي أختي. وزاد الحسن والكلبي قوله أيضا للكواكب: هذا ربي.
قال الزجاج: (إن الأنبياء بشر يجوز أن تقع منهم الخطيئة، إلا أنهم لا تكون منهم الكبيرة؛ لأنهم معصومون). قوله تعالى: { يوم الدين }؛ أي يوم الجزاء والحساب.
[26.83-84]
قوله تعالى: { رب هب لي حكما }؛ يريد به النبوة بعد نبوة، وإنما أراد: زدني علما إلى علم وفقها إلى فقه، { وألحقني بالصالحين }؛ أي بالنبيين من قبلي في الدرجة والمنزلة والثواب. والصلاح هو الاستقامة على ما أمر الله به. وقوله تعالى: { واجعل لي لسان صدق في الآخرين }؛ أراد به الثناء الحسن؛ أي اجعل لي ثناء حسنا في الدين يكون بعدي إلى يوم القيامة. وقد استجاب الله دعاءه حين أحبه أهل الأديان كلهم. وقيل: واجعل لي في ذريتي من يقوم بالحق ويدعو إليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، فإنهم هم الذين أظهروا شرائعه وفضائله.
[26.85-86]
قوله تعالى: { واجعلني من ورثة جنة النعيم }؛ أي أدخلني الجنة واجعلني من الذين يرثون الفردوس، { واغفر لأبي إنه كان من الضآلين }؛ أي من المشركين، وإنما دعا إبراهيم لأبيه لموعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وكان هذا الدعاء قبل أن يتبرأ منه. والضال هو الذاهب عن طريق الحق.
[26.87-89]
قوله تعالى: { ولا تخزني يوم يبعثون }؛ أي لا تفضحني ولا تهتك ستري يوم القيامة، يوم تبعث الخلق. وقيل: معناه: ولا تعذبني يوم تبعث الخلائق، وإنما قال ذلك مع علمه أنه لا يخزيه، إما على طريق التعبد وإنا حثا لغيره على أن يقتدي به في مثل هذا الدعاء.
ثم فسر ذلك اليوم؛ فقال: { يوم لا ينفع مال ولا بنون }؛ أي لا ينفع ذا المال ماله الذي كان في الدنيا، ولا ينفعه بنوه ولا يواسونه بشيء من طاعتهم، ولا يحملون شيئا من معاصيه، وقوله تعالى: { إلا من أتى الله بقلب سليم }؛ يعني من الشرك والنفاق، فإنه ينفعه سلامة قلبه. وقيل: القلب السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن، وقلب الكافر المنافق مريض.
وقال أهل المعاني في تفسير هذه الآيات أقوالا غير هذه، فقال بعضهم: معنى
الذي خلقني فهو يهدين
[الشعراء: 78] أي الذي خلقني في الدنيا على فطرته فهو يهدين في الآخرة إلى جنته، وقوله تعالى
والذي هو يطعمني ويسقين
[الشعراء: 79] أي يطعمني أي طعام شاء، ويسقيني أي شراب شاء.
قال محمد بن كثير: (صحبت سفيان الثوري بمكة، فكان يأكل من السبت إلى السبت كفا من الرمل). وعن الحجاج بن عبدالكريم قال: (خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فوجدته بحمص، فسلمت عليه، فلبثت معه يومي ذلك، فقال: لعل نفسك تنازعك إلى شيء من الطعام؟ فقلت: نعم، فأخذ رمادا وترابا وخلطهما وأعطانيه فأكلته، ثم أقبل علي وأنشأ يقول:
اخلط التراب بالرماد وكله
وازجر النفس عن مقام السؤال
وقال أبو بكر الوراق: (معنى يطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب) يشبعني ربي ويرويني من غير علاقة، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني "
وقال علي بن قادم: (كان عبدالله بن أبي نعيم لا يأكل في شهر إلا مرة! فبلغ ذلك الحجاج، فدعاه فأدخله بيتا وأغلق عليه بابه خمسة عشر يوما، ثم فتحه، ولم يشك أنه قد مات، فوجده قائما يصلي، فقال: يا فاسق أتصلي بغير وضوء؟! فقال: يا حجاج؛ إنما يأكل الطعام من يخرج ويشرب، فأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت)، وقال ذو النون: (معنى قوله تعالى:
يطعمني ويسقين
[الشعراء: 79] أي يطعمني طعام المعرفة، ويسقيني شراب المحبة. ثم أنشأ يقول:
شراب المحبة خير شراب
وكل شراب سواه سراب
وقال أبو يزيد البسطامي: (إن لله شرابا يقال له شراب المحبة، إدخره لأفاضل عباده، فإذا وصلوا اتصلوا، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر). وقال الجنيد: (يحشر الناس يوم القيامة عراة إلا من لبس لباس التقوى، وجياعا إلا من أكل طعام المعرفة، وعطاشى إلا من شرب شراب المحبة), وقوله تعالى
وإذا مرضت فهو يشفين
[الشعراء: 80] قال جعفر الصادق: (إني إذا مرضت بالذنوب فهو يشفيني بالتوبة). وقال بسطام بن عبدالله: (إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأنس به).
قوله تعالى:
والذي يميتني ثم يحيين
[الشعراء: 81]، قال أهل المعرفة: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة، يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق، يميتني بالجهل ويحييني بالعقل، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق.
[26.90-94]
قوله تعالى: { وأزلفت الجنة للمتقين }؛ أي قربت وأدنيت لهم حتى نظروا إليها، { وبرزت الجحيم للغاوين }؛ أي أظهرت وكشفت للضالين عن الهدى، { وقيل لهم }؛ للضالين في ذلك اليوم على وجه التوبيخ: { أين ما كنتم تعبدون * من دون الله }؛ أي أين آلهتكم التي تعبدونها من دون الله؟ هل يدفعون العذاب عنكم، { هل ينصرونكم أو }؛ هل { ينتصرون }؛ لأنفسهم؛ أي يدفعون عن أنفسهم.
ثم يؤمر بهم فيلقون في النار، فلذلك قوله تعالى: { فكبكبوا فيها هم والغاوون }؛ وقال الزجاج: (طرح بعضهم على بعض)، وقال ابن قتيبة: (ألقوا على رؤوسهم)، وقال مقاتل: (قذفوا فيها هم والغاوون)، قال السدي: (يعني الآلهة والمشركين)، وقال عطاء: (هم وما يعبدون من دون الله وجنود إبليس أجمعون، يعني ذرية إبليس كلهم).
وقيل: معنى (كبكبوا): أجمعوا وهم كفار مكة، وكفار الجن والإنس وآلهتهم وذرية إبليس حتى صاروا كبة واحدة وطرحوا في النار.
[26.97-102]
قوله تعالى: { وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون }؛ أي في النار مع آلهتهم ورؤسائهم: { تالله إن كنا لفي ضلال مبين }؛ وقوله تعالى { إذ نسويكم برب العالمين }؛ أي تالله ما كنا إلا في ضلال مبين حيث سويناكم برب العالمين، فأعظمناكم وعبدناكم وعدلناكم به، يقرون على أنفسهم بالخطأ ، { ومآ أضلنآ }؛ عن الهدى، { إلا المجرمون }؛ يعني الشياطين. وقيل: أضلونا الذين اقتدينا بهم، { فما لنا من شافعين }؛ يشفع لنا من الملائكة والنبيين والمؤمنين حين يشفعون لأهل التوحيد، { ولا صديق حميم }؛ أي ولا ذي قرابة يهمه أمرنا. والحميم: القريب الذي توده ويودك.
قال ابن عباس: (إن المؤمن يشفع يوم القيامة للمؤمن المذنب والصديق الصاحب الذي يصدق في المودة). وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الرجل يقول في الجنة: ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في النار، فيقول الله عز وجل: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم ".
ثم قالوا: { فلو أن لنا كرة }؛ أي رجعة إلى الدنيا، { فنكون من المؤمنين }؛ المصدقين بالتوحيد ليحل لنا الشفاعة كما حلت لأهل التوحيد.
[26.103-104]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية }؛ أي فيما أخبر من قصة إبراهيم واختصام أهل النار، وتبرؤ بعضهم من بعض لعبرة للعقلاء من بعدهم، { وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم }؛ أي الغالب على تعجيل الانتقام بالإمهال إلى أن يؤمنوا، والمنعم عليهم بعد التوبة.
[26.105-111]
قوله تعالى: { كذبت قوم نوح المرسلين }؛ قال الزجاج: (دخلت التاء ها هنا، و(قوم) مذكر؛ لأن المراد الجماعة) أي كذبت جماعة قوم نوح ومن قبله من الرسل، { إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون }؛ عذاب الله بتوحيده وطاعته، وكان أخوهم من النسب لا من جهة الدين، { إني لكم رسول أمين }؛ على الرسالة فيما بيني وبين ربكم.
وقيل: معناه: كنت أمينا فيكم قبل اليوم، فكيف تتهموني اليوم، { فاتقوا الله }؛ فيما أمركم به، { وأطيعون }؛ فيما أدعوكم إليه وأطيعوني فيما أمركم به من الإيمان والتوحيد. { ومآ أسألكم عليه }؛ أي على الدعاء إلى التوحيد، { من أجر }؛ ما، { إن أجري إلا على رب العالمين }؛ وقيل: ما أسألكم على تبليغ الوحي والرسالة مالا فيصدكم عن القبول مني، وتعتقدون في الطمع. وقوله تعالى: { فاتقوا الله وأطيعون }؛ أي اتقوا عقاب الله، وأطيعوا أمري، وتكرير { فاتقوا الله }: لأن الأول (اتقوا الله وأطيعون) لأني رسول رب العالمين أمين، والثاني (اتقوا الله وأطيعون) لأني ما أسألكم عليه من أجر.
ف { قالوا } له: { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون }؛ أي أنقر بك ونصدقك وقد اتبعك سفلتنا وهم الأرذلون الأقلون، وكان قد آمن بنوح ضعفاء قومه وبنوه، وكان أكثر من اتبعه يخصون بصناعات خسيسة مثل الحوك والأساكفة، فلذلك قال له أشراف قومه: { واتبعك الأرذلون } ، ويقرأ: (وأتباعك الأرذلون) وهي قراءة يعقوب؛ أي أشياعك وأهل دينك. قال الزجاج: (والصناعات لا تضر في باب الديانات)، وقال عطاء: (يعنون بالأرذلون: المساكين الذين ليس لهم مال).
[26.112]
قوله تعالى: { قال وما علمي بما كانوا يعملون }؛ أي قال نوح: ما أعلم أعمالهم وصنائعهم، ولم أكلف ذلك، وإنما كلفت أن أدعوهم، ولا أسأل عما كانوا يعملون، ولا أطلب علم صنائعهم، وإنما العيب في المعاصي لا في خساسة الصناعة.
[26.113]
قوله تعالى: { إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون }؛ أي ما حسابهم فيما يعملون { إلا على ربي لو تشعرون } لو تعلمون ما عاقبتموهم بصنائعهم. وقيل: إنهم نسبوا قومه الذين آمنوا به إلى النفاق وإضمار الكفر، فقال: { إن حسابهم إلا على ربي } أي ما جزاؤهم إلا على ربي { لو تشعرون }.
[26.114-115]
قوله تعالى: { ومآ أنا بطارد المؤمنين }؛ أي لا أطردهم من عندي مع إظهارهم الإيمان بسبب فقرهم، وطعنكم عليهم. قوله تعالى: { إن أنا إلا نذير مبين }؛ أي ما أنا إلا معكم بموضع المخافة لتحذروها، فمن قبل قربته، ومن رد باعدته؛ ولم أكلف علم ما في الضمائر.
[26.116-118]
قوله تعالى: { قالوا لئن لم تنته ينوح }؛ أي لئن لم تنته عما تقول، { لتكونن من المرجومين }؛ المقتولين بالحجارة، { قال رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين }؛ أي فاقض بيننا قضاء يكون بنجاتنا وهلاك عدونا.
[26.119-122]
قوله تعالى: { فأنجيناه ومن معه }؛ في السفينة المملوءة من الناس والبهائم والسباع والطير، فذلك قوله تعالى: { في الفلك المشحون }؛ أي الذي قد ملئ مما ذكرنا من جميع الحيوان، وقوله تعالى: { ثم أغرقنا بعد الباقين }؛ أي بعد نجاة نوح ومن معه أغرقنا الآخرين. قوله تعالى: { إن في ذلك لآية }؛ أي في إغراق الكافرين ونجاة المؤمنين في السفينة لعلامة تدل على وحدانية الله وكمال قدرته، { وما كان أكثرهم }؛ أكثر قوم نوح، { مؤمنين }؛ مع قيام الحجة، { وإن ربك لهو العزيز }؛ أي القادر على أخذ الأعداء، المنتقم منهم، { الرحيم } ، بالأولياء، المنعم عليهم.
[26.123-127]
قوله تعالى: { كذبت عاد المرسلين }؛ التأنيث بمعنى القبيلة، أريد بعاد القبيلة، والمعنى: كذبت عاد هودا وجماعة المرسلين، { إذ قال لهم أخوهم هود }؛ في النسب: { ألا تتقون }؛ عبادة غير الله، { إني لكم رسول أمين }؛ أرسلني الله إليكم وائتمنني على الرسالة، { فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه }؛ على تبليغ الرسالة، { من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }.
[26.128]
قوله تعالى: { أتبنون بكل ريع آية تعبثون }؛ الريع: هو المكان المرتفع. قال ابن عباس: (معناه: أتبنون بكل شرف)، وقال مقاتل والكلبي والضحاك: (أتبنون بكل طريق آية؛ أي بنيانا وعلما متميزا عن سائر الأبنية، تعبثون بمن يمر في الطريق).
والمعنى: بكل طريق، بالموضع المرتفع بنيانا لتشرفوا على المارة فتسخروا منهم، وتعبثوا بهم. وقيل: معنى قوله (تعبثون) أي تبنون ما تستغنون عنه ولا تسكنونه عبثا منكم، يسمى بناؤهم عبثا؛ لأنهم كانوا يسرفون في البناء، فيبنون فوق الحاجة، ويقصدون بذلك التفاخر والتكاثر، ومن ذلك سمي كل لعب لا لذة فيه عبثا، والذي يكون فيه لذة لعبا. وقال الوالبي عن ابن عباس: (بكل ريع؛ أي بكل شرف)، وقال قتادة والضحاك: (بكل طريق)، وعن مجاهد: (الريع: الثنية الصغيرة)، وقيل: المنظرة، وقال عكرمة: (بكل واد).
[26.129]
قوله تعالى: { وتتخذون مصانع }؛ قال ابن عباس: (هي الأبنية)، وقال مجاهد: (المصانع قصور مشيدة)، وقيل: هي الحصون. وقال عبدالرزاق: (المصانع عندنا بلغة اليمن: القصور؛ واحدتها مصنعة). وقال الكلبي: (هي القصور والحصون). وقيل: هي المباني التي يصنعها الناس من البساتين وغيرها. وقيل: هي مجامع الماء وهي الحياض، وواحد المصانع مصنعة.
وقوله تعالى: { لعلكم تخلدون }؛ أي كأنكم تخلدون؛ أي ستبقون في بناء المصانع، كأنهم يخلدون فيها فلا يموتون. و(لعل) تأتي في الكلام بمعنى (كأن) من قوله
لعلك باخع نفسك
[الشعراء: 3] أي كأنك قاتل نفسك إن لم يؤمنوا وقيل: معناه: تتخذون ذلك رجاء أن تخلدوا وأنتم لا تخلدون.
[26.130]
قوله تعالى: { وإذا بطشتم بطشتم جبارين }؛ أي إذا بطشتم بمن دونكم بطشتم متكبرين ومتجبرين، ضربا بالسوط وبالسيف، تقتلون على الغضب. والمعنى: إذا عاقبتم قتلتم. والبطش: هو الأخذ بالشدة، والجبار: هو العالي بالقدرة، يقال: نخلة جبارة إذا كانت مرتفعة لا تنالها الأيدي، وهي صفة مدح الله تعالى؛ لأن هذا المعنى حقيقة فيه، وهو صفة ذم لغيره لأنه كذب فيه.
[26.131-135]
قوله تعالى: { فاتقوا الله وأطيعون }؛ أي اتقوا عذاب الله بإصراركم على ما أنتم عليه، { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون }؛ من النعمة والخير، { أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون }؛ فيه بيان بعض النعم، قوله تعالى: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }؛ أي إني أعلم أنه سينزل بكم عذاب عظيم إن لم تؤمنوا، يريد به العذاب الذي أهلكوا به.
[26.136-138]
قوله تعالى: { قالوا سوآء علينآ أوعظت أم لم تكن من الواعظين }؛ أي سواء علينا أوعظتنا أم لم تعظنا فلا نترك هذه العبادة، قوله تعالى: { إن هذا إلا خلق الأولين }؛ أي ما هذا الذي تقول يا هود إلا كذب الأولين، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد. والخلق والاختلاق هو الكذب. ومنه قوله تعالى:
وتخلقون إفكا
[العنكبوت: 17].
قرئ (خلق الأولين) بضم الخاء واللام؛ أي عادة الأولين، والمعنى: ما هذا الذي نحن فيه إلا عادة الأولين من قبلنا يعبثون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب، { وما نحن بمعذبين }؛ على ما نفعل.
[26.139-140]
قوله تعالى: { فكذبوه }؛ بالعذاب في الدنيا، { فأهلكناهم }؛ بالريح. وقوله تعالى { فكذبوه فأهلكناهم } أي كذبوا هودا بعد وضوح الحجة فأهلكناهم بريح صرصر عاتية.
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية }؛ أي إن في إهلاكنا إياهم مع شدة قوتهم لآية بأضعف الأشياء وهي الريح للدلالة على وحدانيتنا وصدق نبوة هود، { وما كان أكثرهم مؤمنين }؛ بالله، فإنه لم يؤمن منهم إلا قليل، { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }.
[26.141-145]
قوله تعالى: { كذبت ثمود المرسلين * إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }؛ ظاهر المعنى.
[26.146-150]
قوله تعالى: { أتتركون في ما هاهنآ آمنين }؛ أي قال لهم صالح: أتتركون في الدنيا آمنين من الموت والعذاب تأكلون وتشربون وتمتعون ولا تكلفون. وقوله تعالى: { في جنات وعيون }؛ أي أتظنون أنكم تتركون في بساتين ومياه ظاهرة، { وزروع } ، وحروث، { ونخل طلعها هضيم }؛ أي ثمرها نضيج مدرك ناعم، والنضيج: هو الرخو اللين اللطيف البالغ، { وتنحتون من الجبال }؛ أي تنقبون في الجبال { بيوتا فارهين }؛ أي أشرين بطرين.
وقرأ ابن عامر والكوفيون: (فارهين) بالألف أي حاذقين بنحتها، مأخوذ من قولهم: فره الرجل فراهة فهو فاره، ويقال: الفره والفاره بمعنى واحد. وقيل: إن الهاء من قوله (فرهين) بدل من إلحاق الفرح في كلام العرب: الأشر والبطر، ومنه قوله تعالى:
إن الله لا يحب الفرحين
[القصص: 76]، { فاتقوا الله وأطيعون }.
[26.151-152]
قوله تعالى: { ولا تطيعوا أمر المسرفين }؛ أي أمر رؤسائكم وكبرائكم الذين يفرطون في الشرك والمعاصي، { الذين يفسدون في الأرض }؛ قال مقاتل: (هم التسعة الذين عقروا الناقة، وهم الذين يفسدون في الأرض بالمعاصي) { ولا يصلحون }؛ أي ولا يطيعون الله فيما أمرهم.
[26.153-155]
قوله تعالى: { قالوا إنمآ أنت من المسحرين * مآ أنت إلا بشر مثلنا }؛ أي قال له قومه: إنما أنت ممن سحر مرة بعد مرة، فلا نؤمن بك. ويقال: المسحر هو المعلل بالطعام والشراب، والسحر مجرى الطعام، يقال: انتفخ سحره؛ أي رئته والمعنى: لست بملك، إنما أنت بشر مثلنا لا تفضلنا في شيء، لست بملك ولا رسول، { فأت بآية إن كنت من الصادقين }؛ إنك رسول الله إلينا.
قال ابن عباس: (سألوه أن يخرج لهم ناقة حمراء عشراء من صخرة ملساء، فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب. فخرج بهم إلى تلك الصخرة التي ذكروها، ثم دعا الله تعالى فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض المرأة الحامل عند الولادة، فخرجت منها ناقة على الصفة التي سألوها لا نظير لها في النوق، وكان يسد جنباها ما بين الجبلين من عظمها).
ف { قال } لهم صالح: { هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم }؛ أي اجعلوا الشرب بينها وبينكم مناوبة، لها نوبة يوم لا تحضرون معها، ولكم نوبة يوم لا تحضر معكم. قال قتادة: (فكان يوم شربها تشرب ماءهم كله أول النهار ولا يبقى لهم منه شيء، وتسقيهم اللبن حتى تملأ جميع آنيتهم، فإذا كان يوم شربهم كان الماء لهم ولمواشيهم لا تزاحمهم الناقة فيه). والشرب في اللغة: هو النصيب من الماء، والشرب بضم الشين المصدر، والشرب بفتح الشين جماعة الشراب.
[26.156]
قوله تعالى: { ولا تمسوها بسوء }؛ أي تعقروها ولا تؤذوها، وذروها تأكل في أرض الله، فإنكم إن تمسوها بسوء، { فيأخذكم عذاب يوم عظيم }.
[26.157-159]
قوله تعالى: { فعقروها فأصبحوا نادمين }؛ فعقروها واقتسموا لحمها، فبلغ ألفا وثمانمائة منزل، ثم أصبحوا نادمين على قتلها، { فأخذهم العذاب }؛ في اليوم الثالث وهو يوم السبت، صاح بهم جبريل فماتوا أجمعين، { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين }؛ أي في إخراج الناقة من الصخرة، وفي إهلاكهم بعقرها علامة وعبرة لمن بعدهم ولم يكن أكثرهم مؤمنين، { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }.
[26.160-165]
قوله تعالى: { كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }؛ إلى قوله تعالى { أتأتون الذكران من العالمين } ، ظاهر المعنى.
[26.166]
قوله تعالى: { وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم }؛ معناه: أتنكحون الذكور حراما في أدبارهم، وتتركون ما أحل الله لكم من فروج نسائكم، { بل أنتم قوم عادون }؛ أي متجاوزون الحد في الظلم والحرام.
[26.167]
قوله تعالى: { قالوا لئن لم تنته يلوط لتكونن من المخرجين }؛ أي لئن لم تسكت يا لوط عن الإنكار علينا وتقبيح أفعالنا لنخرجنك من أرضنا.
[26.168-170]
{ قال }؛ لوط: { إني لعملكم من القالين }؛ أي لمن المبغضين، والقالي: هو الباغض للشيء التارك له غاية الكراهة. قوله تعالى: { رب نجني وأهلي مما يعملون }؛ أي خلصني وأهلي من عقوبة أعمالهم الخبيثة حتى لا نراهم ولا نرى أعمالهم الخبيثة، { فنجيناه وأهله أجمعين }؛ أي خلصناهم من العذاب الذي وقع بهم، وقوله تعالى { فنجيناه وأهله } أي نجيناه وبناته.
[26.171-172]
قوله تعالى: { إلا عجوزا في الغابرين }؛ يعني امرأته فإنها كانت من الغابرين؛ أي من الباقين في موضع العذاب فهلكت معهم، وكانت تدل المشركين على أضيافه، قوله تعالى: { ثم دمرنا الآخرين }؛ أي أهلكناهم بالخسف والحصب، وهو أن الله تعالى خسف بقراهم، كما روي
" أن جبريل رفعهم ببلادهم حتى بلغ بهم إلى السماء، فقلبهم وجعل عاليها سافلها ".
[26.173-175]
قوله تعالى: { وأمطرنا عليهم مطرا }؛ أي أمطرنا على ساكنهم ومسافريهم حجارة، { فسآء مطر المنذرين }؛ أي فبئس مطر الذين أنذروا فلم يؤمنوا. قوله تعالى: { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين }؛ أي في إهلاكنا إياهم لدلالة وعبرة لمن بعدهم، { وإن ربك لهو العزيز الرحيم }.
[26.176-180]
قوله تعالى: { كذب أصحاب لئيكة المرسلين }؛ اختلفوا في الأيكة، قال بعضهم: هو اسم مدين، وقال بعضهم: الأيكة اسم لمدينة أخرى غير مدين، وكان شعيب مبعوثا إلى كل واحدة من المدينتين، غير أنه كان أخا مدين، ولم يكن أخا الأيكة، فلذلك لم يقل في هذه الآية: إذ قال لهم أخوهم، وإنما قال: { إذ قال لهم شعيب ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * ومآ أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }؛ وقيل: الأيكة الغيطة ذات الشجر الكثيف، وجمعه إيك. وقيل: الأيك: شجر الدوم وهو المقل، وكان أكثر شجرهم الدوم. وتقرأ: ليكة، بغير ألف وتفتح.
[26.181-183]
قوله تعالى: { أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم }؛ أي أتموا الكيل إذا كلتم، ولا تكونوا من الذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن، { ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين }؛ قد تقدم تفسيره.
[26.184]
قوله تعالى: { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين }؛ أي اتقوا الله الذي خلقكم وخلق (الجبلة الأولين) أي وخلق الخلق الذين من قبلكم، والجبلة بكسر الجيم والباء وبضمهما: الخلق الكثير.
[26.185-186]
قوله تعالى: { قالوا إنمآ أنت من المسحرين }؛ أي من المخوفين مثلنا ممن له سحر، { ومآ أنت إلا بشر مثلنا }؛ وما أنت إلا آدمي مثلنا، { وإن نظنك لمن الكاذبين }؛ فيما تقول.
[26.187]
قوله تعالى: { فأسقط علينا كسفا من السمآء }؛ أي جانبا من السماء، { إن كنت من الصادقين }؛ أنك مبعوث إلينا، وأن هذا العذاب نازل بنا، وهذا اذا قرأت (كسفا) بإسكان السين، وأما إذا فتحتها فهو جمع الكسفة وهي القطعة.
[26.188-191]
قوله تعالى: { قال ربي أعلم بما تعملون }؛ أي هو أعلم بعملكم، وبما تستحقون من العذاب، وبوقت الاستحقاق، فينزل بكم العذاب على ما توجب الحكمة، { فكذبوه }؛ أي كذبوا شعيبا بعد ظهور الحجة، { فأخذهم عذاب يوم الظلة }؛ انشأ الله سحابة عليهم حتى أظلتهم في يوم حر شديد، فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها بما نالهم من الحر، فأطبقت عليهم وأمطرت عليهم نارا فأهلكتهم.
قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى كان قد حبس عليهم الريح سبعة أيام، وسلط عليهم الحر حتى أخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء، وكانوا يدخلون الاسراب ليبردوا فيها، فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر، فدخلوا أجواف السرب، فدخل عليهم الحر وأخذ بأنفاسهم، فخرجوا هاربين الى البرية، فبعث الله عليهم سحابة أظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ونسيما، فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا كلهم تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا، فكان من أعظم يوم في الدنيا، فذلك قوله تعالى: { إنه كان عذاب يوم عظيم * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم }.
والظلة: هي السحابة التي أظلتهم. قال قتادة: (بعث الله شعيبا إلى أمتين: أصحاب الأيكة وأهل مدين، فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة، وأما أهل مدين فأهلكوا بالصيحة، صاح بهم جبريل فهلكوا جميعا).
[26.192-195]
قوله تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين }؛ أي وإن القرآن لإنزال رب العالمين، { نزل به الروح الأمين }؛ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص (نزل) بالتخفيف ورفع الحاء، يعنون نزل جبريل بالقرآن، وقرأ الباقون بالتشديد والنصب؛ أي نزل الله جبريل بالقرآن وهو أمين، قوله تعالى: { على قلبك }؛ أي نزل به فأودعه قلبك كي لا تنساه، قوله تعالى: { لتكون من المنذرين }؛ أي من المعلمين بموضع المخافة، { بلسان عربي مبين }؛ أي لتنذر العرب بلغتهم فيكون ذلك أقرب إلى فهمهم، وأقطع لعذرهم.
[26.196]
قوله تعالى: { وإنه لفي زبر الأولين }؛ يعني أن ذكر القرآن مذكور في كتب الأولين، ولم يرد به غير القرآن؛ لأنه تعالى خص محمدا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه، فلو كان مذكورا بعينه في الكتب لبطل التخصيص، ولكنه تعالى ذكر في الكتب المتقدمة أنه سيبعث نبيا في آخر الزمان صفته كذا، وسينزل عليه كتابا صفته كذا كما قال الله تعالى
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
[الأعراف: 157]، وهذا معنى قوله
إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى
[الأعلى: 18-19] أي مذكور في الصحف الأولى أن الناس في الغالب يؤثرون الدنيا على الآخرة، وأن الآخرة خير وأبقى.
[26.197]
قوله تعالى: { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل }؛ روي أن سبب نزولها أن أهل مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يستخبرونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن ما يدعي من الرسالة وصدقوهم في بعثه وصفته، فأخبرهم أهل الكتاب أن ذكره عندنا وأنه مبعوث فاتبعوه. والمعنى: أولم يكن لأهل مكة علامة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلمه علماء بني إسرائيل مثل عبدالله بن سلام وأصحابه.
قال الزجاج في قراءة قرأ (آية) بالنصب، فقوله { أن يعلمه } اسم كان، و(آية) خبره. ومعناه: أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أن محمدا نبي حق، ودلالة نبوته. قال عطية: (كان علماء بني إسرائيل الذين آمنوا خمسة: عبدالله بن سلام؛ وابن يامين؛ وثعلبة؛ وأسد؛ وأسيد)، وقرأ ابن عامر: (أولم تكن) بالتاء (آية) رفعا، قال الفراء: (جعل { آية } بعد الاسم و { أن يعلمه } خبر كان).
[26.198-207]
قوله تعالى: { ولو نزلناه على بعض الأعجمين }؛ أي لو نزلنا القرآن على رجل أعجمي لا يفصح، { فقرأه عليهم }؛ بغير لغة العرب ما آمنوا به، وقالوا: ما نفقه هذا! فذلك قوله تعالى: { ما كانوا به مؤمنين } وفي هذا بيان معاندتهم. والأعجم والأعجمي بمعنى واحد؛ وهو الذي في لسانه عجمة، ومنه العجماء؛ وهي الدابة. فأما العجمي فهو منسوب إلى العجم أفصح أو لم يفصح.
وعن ابن مسعود: أنه سئل عن هذه الآية وهو راكب ناقته، فأشار إلى ناقته، فقال: (هذه من الأعجمين) كأنه ذهب إلى أن معنى الآية: أنه لو أنزلنا القرآن على البهائم فأنطقناها به، فقرأت عليهم ما آمنوا به.
ثم ذكر الله سبب تركهم الإيمان فقال: { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين } ، قال ابن عباس: (معناه: سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين إذا قرأه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم). قال مقاتل: (يعني مشركي مكة)، أخبر الله تعالى أنه أدخل الشرك في قلوبهم، فلم يؤمنوا إلا عند نزول العذاب حتى لم ينفعهم، وهو قوله تعالى: { لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم }؛ يعني عند الموت، { فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون }؛ به في الدنيا فيتمنوا الرجعة والنظرة. قوله تعالى: { فيقولوا هل نحن منظرون }؛ فنؤمن ونصدق.
فلما أوعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا: فمتى العذاب؟! تكذيبا له، فقال الله تعالى: { أفبعذابنا يستعجلون }؛ قوله تعالى: { أفرأيت إن متعناهم سنين }؛ معناه أفرأيت يا محمد إن أمهلنا كفار مكة سنين، يريد منذ خلق الله الدنيا إلى أن تنقضي، وقيل: مدة أعمارهم، { ثم جآءهم ما كانوا يوعدون }؛ من العذاب، { مآ أغنى عنهم ما كانوا يمتعون }؛ به في تلك السنين.
والمعنى: وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا، فإذا أتاهم العذاب لم يغن طول التمتع عنهم شيئا، يكون كأنهم لم يكونوا في نعيم قط، وهذه موعظة ما أبلغها! يحكى أن عمر بن عبدالعزيز كان إذا قعد للقضاء كل يوم ابتدأ بهذه الآية، فوعظ بها نفسه، ثم ذكر هذه الأبيات:
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى
كما اغتر باللذات في النوم حالم
حياتك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
[26.208]
قوله تعالى: { ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون }؛ أي ما أهلكنا من قرية بالعذاب في الدنيا إلا لها رسلا ينذرونهم بالعذاب أنه نازل بهم. والمعنى: إلا لها منذرون قبل الهلاك، ونظيره
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
[الاسراء: 15].
[26.209]
قوله تعالى: { ذكرى }؛ أي موعظة وتذكيرا، { وما كنا ظالمين }؛ فنعذب من غير ذنب ونعاقب من غير تذكير وإنذار. ويجوز أن يكون (ذكرى) في موضع نصب على معنى: إلا لها مذكرون ذكرى، ويجوز أن يكون في موضع نصب رفع على معنى: ذلك ذكرى؛ أي ذلك موعظة لهم.
[26.210-212]
قوله تعالى: { وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون }؛ قال مقاتل: (قالت قريش: إنما يجيء بالقرآن الشياطين، فتلقيه على لسان محمد، فأنزل الله تعالى { وما تنزلت به الشياطين } أي بالقرآن { وما ينبغي لهم } أن ينزلوا به { وما يستطيعون } أي لا يقدرون على ذلك، { إنهم عن السمع لمعزولون }؛ أي أنهم عن استماع القرآن لمحجوبون؛ لأنهم يرجمون بالنجوم.
[26.213-214]
قوله تعالى: { فلا تدع مع الله إلها آخر }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، والمعنى: كل من دعا مع الله إلها آخر كان مع المعذبين. قوله تعالى: { فتكون من المعذبين }؛ أي رهطك الأدنين وهم بنو هاشم وبنو المطلب خاصة.
فلما نزلت هذه الآية
" نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا آل غالب؛ يا آل لؤي بن كعب؛ يا آل مرة؛ يا آل كلاب؛ يا آل قصي؛ يا آل عبد مناف " فأتوه وقالوا: ما تريد؟! قال: " أرأيتم لو حدثتكم أن جيشا ظلكم؛ أكنتم تصدقونني؟ " قالوا: نعم، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله ".
ثم قال: " يا معشر قريش؛ اشتروا أنفسكم من الله؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب؛ لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة محمد؛ لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد؛ لا أغني عنك من الله شيئا " ".
وعن ابن عباس قال: (لما نزل قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين }؛
" صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فقال: " يا صباحاه! " فاجتمعت إليه قريش؛ فقالوا: ما لك؟! قال: " أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم؛ أما كنتم تصدقونني؟ " قالوا: بلى، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ".
قال أبو لهب: تبا لك! ألهذا دعوتنا جميعا؟ "
فأنزل الله تعالى
تبت يدآ أبي لهب
[المسد: 1] إلى آخرها). ومعنى الآية: عرف قرابتك يا محمد أنك لا تغني عنهم من الله شيئا إن عصوه. والفائدة في تخصيص الأقربين بالإنذار: أنهم كانوا أقرب إليه، كما قال تعالى
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
[التوبة: 123] وكما أن الأولى بالإنسان في البر والصلة أن يبدأ بالأقرب فالأقرب.
[26.215-217]
قوله تعالى: { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }؛ أي أكرم من اتبعك من المؤمنين وألن لهم القول، وأظهر لهم المحبة والكرامة. قوله تعالى: { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون }؛ أي إن عصاك الأقربون من عشيرتك؛ فقل: إني بريء مما تعملون من الكفر وعبادة غير الله، { وتوكل على العزيز الرحيم }؛ أي فوض أمرك إليه، وثق به فإنه العزيز في نعمته، الرحيم بهم حين لم يعجل لهم العقوبة.
[26.218-220]
قوله تعالى: { الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين }؛ أي توكل على العزيز؛ أي الغالب القادر على أن يكفيك كيد أعدائك، الرحيم بالمؤمنين خاصة، فكيف لا تفوض أمرك إليه وهو الذي يراك حين تقوم إلى الصلاة، ويرى قيامك وركوعك وسجودك وتضرعك في المصلين مع الجماعة. والمعنى: أنه يراك إذا صليت وحدك، ويراك إذا صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما، { إنه هو السميع العليم }؛ أي السميع لقولك، العليم بما في قلبك.
[26.221-222]
قوله تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: هل أخبركم على من تنزل الشياطين؟ وهو راجع إلى قوله تعالى
وما تنزلت به الشياطين
[الشعراء: 210]. ثم أخبر فقال: { تنزل على كل أفاك أثيم }؛ أي على كل كذاب فاجر. قال قتادة: (هم الكهنة) مثل مسيلمة وغيرهم.
[26.223]
قوله تعالى: { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون }؛ معناه: أن الشياطين يسترقون السمع من كلام الملائكة، ثم يضيفون الكذب إلى ذلك، فيلقونه إلى الكهنة، وقوله تعالى { وأكثرهم كاذبون } يعني لأنهم يخلطون كذبا كثيرا، وهذا كان قبل الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
[26.224]
قوله تعالى: { والشعرآء يتبعهم الغاوون }؛ قال ابن عباس: (يريد شعر المشركين). وذكر مقاتل أسماءهم فقال: (منهم عبدالله بن الزبعرى السهمي، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وهبيرة بن وهب المخزومي، وشافع بن عبد مناف الجمحي، وأبو عزة عمرو بن عبدالله، كلهم من قريش، وأمية ابن الصلت الثقفي، تكلموا بالكذب والباطل، وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد! واجتمع إليهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم، ويروون عنهم حتى يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه). فذلك قوله تعالى: { يتبعهم الغاوون } يعني الذين يروون هجاء المسلمين وسبب الصحابة.
وقال قتادة ومجاهد: (الغاوون هم الشياطين) كما قال تعالى حاكيا عنهم
فأغويناكم إنا كنا غاوين
[الصافات: 32]. وقيل: الغاوون كفار الجن والإنس. وفي الحديث:
" لئن ملئ جوف أحدكم صديدا حتى يصير جاريا أحب إلي أن يمتلئ شعرا "
وأراد به الشعر المذموم.
[26.225-226]
قوله تعالى: { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون }؛ أي في كل فن من الكذب يتكلمون، وفي كل لغو يخوضون، يمدحون بباطل ويستمعون لباطل، فالوادي مثل لفنون الكلام، وهيمانهم فيه: قولهم على الجميل بما يقولون من لغو وباطل وغلو في مدح أو ذم. وقوله تعالى: { وأنهم يقولون ما لا يفعلون }؛ أي يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة، ويصفون أنفسهم بما ليس فيها.
[26.227]
قوله تعالى: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ استثناء الشعراء المسلمين حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك الذين مدحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول لحسان: [أهجهم ومعك روح القدس]. قوله تعالى: { وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا }؛ يعني أنهم كانوا يذكرون الله كثيرا في أشعارهم، ويناضلون عن النبي صلى الله عليه وسلم بألسنتهم وأيديهم من بعد هجائهم الكفار. والانتصار بالشعر جائز في الشريعة بما يجوز ذكره فيها، لما قال تعالى في آية أخرى
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم
[النساء: 148].
ويروى:
" أن كعب بن مالك قال: يا رسول الله؛ ما تقول في الشعر، فقال: " إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده؛ لكأنما ينضحونهم بالنبل " "
وقال صلى الله عليه وسلم
" إن من الشعر لحكمة ".
وقالت عائشة: (الشعر كلام، فمنه حسن ومنه قبيح، فخذوا الحسن ودعوا القبيح). وعن الشعبي قال: (كان أبو بكر رضي الله عنه يقول الشعر، وكان عمر يقول الشعر، وكان علي أشعر الثلاثة).
قوله تعالى: { وذكروا الله كثيرا } لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ولم يجعلوا الشعر همهم، وانتصروا من بعد ما ظلموا أي انتصروا من المشركين لأنهم بدأوا بالهجاء.
ثم أوعد شعراء المشركين فقال: { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون }؛ أي سيعلم الذين أشركوا وهجوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي منقلب ينقلبون، قال ابن عباس: (إلى جهنم يخلدون فيها). والمعنى: سيعلمون إلى أين مصيرهم وهو نار جهنم، فعلى هذا يكون قوله { أي منقلب } منصوبا بدلا من المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله (سيعلم) لأن { أي } لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنه من حروف الاستفهام، وموضع حروف الاستفهام صدر الكلام، فكان انتصاب قوله { أي منقلب } على معنى المصدر، أو بقوله { ينقلبون }.
وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة الشعراء، كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدق بنوح وكذب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ولوط واسحاق ويعقوب وموسى وعيسى، وبعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم ".
[27 - سورة النمل]
[27.1-5]
{ طس تلك آيات القرآن }؛ قال ابن عباس: (طس اسم من أسماء الله، أقسم به أن هذا القرآن الآيات التي وعدتم بها) فقال قتادة: (هو اسم من أسماء القرآن). وقيل: هو اسم من أسماء السورة. وقوله تعالى: { وكتاب مبين } معناه: وآيات الكتاب المبين بالحلال والحرام.
وقوله تعالى: { هدى وبشرى للمؤمنين }؛ يجوز أن يكون (هدى) في موضع رفع؛ أي هو هدى، والمعنى: (هدى) أي بيان من الضلالة لمن عمل به، (وبشرى) بما فيه من الثواب للمصدقين به أنه من عند الله.
ثم عرفهم فقال: { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون }؛ ظاهر المعنى.
قوله تعالى : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون }؛ أي زينا لهم صلاتهم حتى رأوها حسنة، { فهم يعمهون } أي يترددون فيها متحيرين، { أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون }؛ لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.
[27.6]
قوله تعالى: { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم }؛ أي إنك لتعي القرآن وحيا من عند الله تعالى، أنزله بعلمه وحكمته.
[27.7]
قوله تعالى: { إذ قال موسى لأهله }؛ أي واذكر إذ قال موسى لامرأته: { إني آنست نارا }؛ أبصرتها، وكانت امرأته يومئذ ابنة شعيب عليه السلام، فقال لها حين ضل الطريق: أني أبصرت نارا، فامكثوا ها هنا، { سآتيكم منها بخبر } ، أي حتى آتيكم من عند النار بخبر الماء والطريق، فإن لم أجد أحدا يخبرني عن الطريق آتيكم بشعلة نار، وهو قوله تعالى: { أو آتيكم بشهاب قبس }؛ والشهاب: خشبة فيها نور ساطع، { لعلكم تصطلون }؛ أي لكي تصطلوا من البرد، وكان ذلك في شدة الشتاء، يقال: صلى بالنار وأصلى بها إذا استدفأ، والمعنى: أو آتيكم بالشعلة المقبسة من النار لكي تذودوا من البرد.
والشهاب: هو النار المستطار، ومنه قوله
فأتبعه شهاب ثاقب
[الصافات: 10] والقبس والجذوة: كل عود أشعل في طرفه نار. قرأ أهل الكوفة (بشهاب قبس) منون على البدل أو النعت للشهاب.
[27.8]
قوله تعالى: { فلما جآءها نودي أن بورك من في النار }؛ معناه: فلما جاء موسى إلى النار التي رآها نودي نداء الوحي: أن بورك من في طلب النار وهو موسى، { ومن حولها } من الملائكة. وهذه تحية من الله لموسى بالبركة كما حيا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.
وقيل: المراد بالنار هو النور، وذلك أن موسى رأى نورا عظيما، ولذلك ذكره بلفظ النار، ومن في النار هم الملائكة؛ لأن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ومن حولها هو موسى؛ لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها. وأهل اللغة يقولون: بورك فلان؛ وبورك فيه؛ وبورك له وعليه، بمعنى واحد. والمراد بالبركة ها هنا ما نال موسى من كرامة الله له بالنبوة.
قوله تعالى: { وسبحان الله رب العالمين }؛ كلمة تنزيه عما تظن المشبهة أن الله تعالى كان في تلك النار، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
[27.9-11]
قوله تعالى: { يموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم }؛ أي أنا الداعي الذي يدعوك، أنا الله العزيز في ملكي، الحكيم في أمري وقضائي.
فإن قيل: بماذا عرف موسى؟ قلنا: إنما عرف نبوة نفسه أن ذلك النداء من الله تعالى حتى جعل يدعو الناس إلى نبوة نفسه بالمعجزة، وذلك أنه رأى شجرة أخضر ما يكون من الشجر في أنضر ما يكون، لها شعاع يرتفع إلى السماء في الهواء، والنار تلتهب في أوراقها والأغصان، فلا النار تحرق الأوراق ولا رطوبة الشجر والأغصان تطفىء النار، فلما رأى ذلك بخلاف العادة، علم أنه لا يكون ذلك إلا من صنع الله تعالى.
قوله: { وألق عصاك }؛ أي وقيل له: ألق عصاك من يدك، فألقاها فاهتزت { فلما رآها تهتز كأنها جآن }؛ أي تضطرب كأنها جان، والجان: الحية البيضاء الخفيفة السريعة، السريع شدة الاضطراب يقال لها المسلة. وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها وسرعة انتشارها عن الأعين، وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها.
قوله تعالى: { ولى مدبرا }؛ أي أعرض موسى هاربا من الخوف من الحية، { ولم يعقب } أي لم يرجع ولم يلتفت إلى شيء وراءه، يقال: عقب فلان إذا رجع.
فقال الله: { يموسى لا تخف }؛ من ضررها، { إني لا يخاف لدي المرسلون }؛ أي لا يخاف عندي وفي حكمي من أرسلته، { إلا من ظلم }؛ من المرسلين بارتكاب الصغيرة { ثم بدل حسنا بعد سوء } ، ثم تاب من بعد ذلك، { فإني غفور رحيم }؛ به، فكان السبب في هذا الاستثناء أن موسى كان مستشعرا حقه لما كان منه من قبل القبطي، فأمنه الله بهذا الكلام.
والصغائر والكبائر من الذنوب تسمى ظلما؛ ولذلك قال موسى
إني ظلمت نفسي
[القصص: 16]. ويقال: إن قوله { إلا من ظلم } استثناء منقطع، ومعناه: لكن من ظلم، فإنه يخافني إلا أن يتوب ويعمل صالحا، فإني أغفر له وأرحمه. والمعنى: إلا من ظلم نفسه بالمعصية { ثم بدل حسنا } أي توبة وندما { بعد سوء } عمله { فإني غفور رحيم } كأنه قال: لا يخاف لدي المرسلون الأنبياء والتائبون، وقال بعضهم: (إلا) ها هنا بمعنى (ولا) كأنه قال: { لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء }.
[27.12]
قوله تعالى: { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضآء من غير سوء }؛ فيه بيان أن الله تعالى أعطاه آية أخرى في ذلك المكان، ومعنى { تخرج بيضآء من غير سوء } أي بيضاء لها شعاع من غير برص، والجيب جيب القميص.
وقوله تعالى: { في تسع آيات }؛ أظهرها بين الآيتين، والآيات التسع: قلب العصاة حية، وجعل يده بيضاء، وما أصاب فرعون من الجدب في بواديهم، ونقص الثمرات في مزارعهم، وإرسال الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، فهذه الآيات التسع، قوله تعالى: { إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين }؛ أي خارجين عن طاعة الله.
[27.13-14]
قوله تعالى: { فلما جآءتهم آياتنا }؛ أي فلما جاءت فرعون وقومه الآيات التسع، { مبصرة }؛ أي بينة واضحة، { قالوا هذا سحر مبين }؛ كذبوا بالآيات التسع كلها ونسبوا موسى إلى السحر، { وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم }؛ أي جحدوا بألسنتهم وأنكروا تلك الآيات، وعلموا بقلوبهم أن تلك الآيات ليست من جنس أفعال السحر، وأنها من الله تعالى، أي علموا يقينا أنها من عند الله لكن جحدوا بها تجبرا وتكبرا وذلك قوله تعالى: { ظلما وعلوا }؛ أي شركا وتكبرا عن أن يؤمنوا، { فانظر }؛ يا محمد، { كيف كان عاقبة المفسدين }؛ في الأرض بالمعاصي، كيف أهلكهم الله بالغرق في اليم.
[27.15]
قوله تعالى: { ولقد آتينا داوود وسليمان علما }؛ أي أعطيناهما معرفة الدين وأحكام الشريعة، وقيل: علما بقضاء الطير والدواب وتسبيح الجبال، فقابلا تلك النعمة بالشكر، { وقالا الحمد لله الذي فضلنا }؛ بالنبوة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير الشياطين والجن والإنس، { على كثير من عباده المؤمنين }.
[27.16]
قوله تعالى: { وورث سليمان داوود }؛ أي ورث نبوته وعلمه وملكه، وذلك أنه كان لداود تسعة عشر إبنا ذكرا، فورث سليمان ملكه ومجلسه ومقامه ونبوته من بينهم.
وعن أبي هريرة قال: (نزل كتاب من السماء إلى داود عليه السلام مختوما، فيه عشر مسائل؛ أن اسأل ابنك سليمان عنهن، فإن أخرجهن فهو الخليفة من بعدك. قال: فدعا داود سبعين قسيسا وسبعين حبرا، وأجلس سليمان بينهم، وقال له: يا نبي الله؛ إنه نزل كتاب من السماء فيه عشر مسائل، أردت أن أسألك عنهن، فإن أنت أخرجتهن فأنت الخليفة من بعدي. فقال سليمان: لتسأل نبي الله عليه السلام عما الله يراه، وما توفيقي إلا بالله.
قال: أخبرني يا نبي: ما أبعد الأشياء؟ وما أقرب الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره؟ وما الأمر الذي إذا ركبه الرجل ذم آخره؟
فقال سليمان: أما أقرب الأشياء فالآخرة، وأما أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا، وأما آنس الأشياء فجسد فيه روح، وأما أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه، وأما القائمان فالسماء والأرض، وأما المختلفان فالليل والنهار، وأما المتباغضان فالموت والحياة، وأما الأمر الذي إذا ركبه الرجل حمد آخره فالحلم على الغضب، وأما الأمر الذي إذا ركبه ذم آخره فالحدة على الغضب.
قال: ففك الختم فإذا هي هذه المسائل سواء على ما نزل من السماء. فقال القسيسون والأحبار: لن نرضى حتى نسأله عن مسألة، فإن هو أخرجها فهو الخليفة من بعدك. فقال سليمان: سلوني وما توفيقي إلا بالله، قالوا: ما الشيء الذي إذا صلح صلح كل شيء منه؟ وإذا فسد فسد كل شيء منه؟ قال: هو القلب؛ إذا صلح صلح كل شيء منه، وإذا فسد فسد كل شيء منه. قالوا: صدقت! أنت الخليفة من بعده. ودفع إليه داود قضيب الملك، ومات من الغد).
وعن محمد بن جعفر عن أبيه قال: (أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والشياطين والدواب والطير والسباع، وأعطي علم كل شيء، ومنطق كل شيء).
وقوله تعالى: { وقال يأيها الناس علمنا منطق الطير }؛ صوت منه. قال الفراء: (منطق الطير : معنى كلام الطير، جعله كمنطق الرجل إذا فهم). قال مقاتل: (كان سليمان جالسا إذ مر به طائر، فقال لجلسائه: هل تدرون ما قال هذا الطائر؟ قالوا: لا، قال: إنه قال لي: السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل. ومر سليمان ذات يوم على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ويصيح، فقال لأصحابه: هل تدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله أعلم! قال: إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء).
وعن الكلبي قال: (صاح ورشان عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا! قال: إنه يقول: لدو للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة عند سليمان؛ فقال: إنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح هدهد فقال: إنه يقول: كما تدين تدان، وصاح طاووس عنده؛ فقال: إنه يقول: من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده؛ فقال: إنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين. وصاح خطان عنده، فقال: إنه يقول: قدموا خيرا تجدوه. وهدرت حمامة؛ فقال: إنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملئ سماواته وأرضه. وصاح قمري؛ فقال: إنه يقول: سبحان ربي القدوس. وصاح باز فقال: إنه يقول: سبحان ربي وبحمده. والضفدع يقول: كل شيء هالك إلا وجهه. والقطاة تقول: من سكت سلم. والحدأة تقول: سبحان المذكور بكل لسان).
وعن مكحول قال: (صاح دراج عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا! قال: إنه يقول: على العرش استوى). وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الديك يقول في صياحه: اذكروا الله يا غافلين "
وعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (إذا صاح النسر قال: يا ابن آدم عش ما عشت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال: إلهي العن مبغضي آل محمد).
وروي أن قوما من أهل العراق من أهل الكتاب وفدوا على ابن عباس رضي الله عنهما؛ فقال له: أنت ابن عم الذي يزعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (نعم). قالوا: يا قوم قد عرفنا الكتب، وعرفنا ما فيها ونحن نسألك عن سبعة أشياء، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا وصدقنا، قال: (اسألوني تفقها ولا تسألوني تعنتا). قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والزرزور والدراج؟ وما يقول الديك في صياحه؟ والضفدع في نقيقه؟ والحمار في نهيقه، والفرس في صهيله؟
فقال: (أما القنبر فإنه يقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد. وأما الزرزور فإنه يقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق. وأما الدراج فيقول: الرحمن على العرش استوى. وأما الديك فإنه يقول: اذكروا الله يا غافلين. وأما الضفدع فإنه يقول: سبحان المعبود في لجج البحار. وأما الحمار فإنه يقول: اللهم العن العشار. وأما الفرس فإنه يقول " إذا التقى الصفان ": سبوح قدوس رب الملائكة والروح). فقالوا: يا ابن عباس نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وحسن إسلامهم.
قوله تعالى: { وأوتينا من كل شيء }؛ يعني من أمر الدنيا والآخرة، وقال مقاتل: (يعني الملك والنبوة وتسخير الرياح والجن والشياطين). وقوله تعالى: { إن هذا لهو الفضل المبين }؛ أي الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا.
[27.17]
قوله تعالى: { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير }؛ أي جمع له من كل جهة جماعة من الجن والإنس والطير. والحشر: جمع الخلق من موضع إلى موضع، ومنه المحشر لعرصات يوم القيامة. قال ابن عباس: (كان معسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون فرسخا للإنس، وخمسة وعشرون فرسخا للجن، وخمسة وعشرون فرسخا للسباع، وخمسة وعشرون فرسخا للطير).
ووجه تسخير الطير له أن الله زاد في عقولها حتى كانت تفهم ما يقال ويراد منها، وتقبل الأدب وتخاف وتحذر، وكان لسليمان عليه السلام ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سرية، فيأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرحا فتسير به، فأوحى الله وهو يسير بين السماء والأرض: أني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق إلا جاءت به الريح فأخبرتك به.
قوله تعالى: { فهم يوزعون }؛ قال قتادة: (كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاهم على آخرهم ليجتمعوا ويتلاحقوا) وهو من الوزع الذي هو الكف، يقال: وزعته أزعه وزعا، والشيب وازع؛ أي مانع. قال الليث: (والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم).
ومعنى الآية: { فهم يوزعون } أي كان يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وكانوا يجتمعون ويتفرقون ويقومون في مسيرهم على مراتبهم. والإيزاع هو المنع من الذهاب، والوازع هو القيم بأمر الجيش، ومن ذلك قول الحسن: (لا بد للناس من وزعة) أي من سلطان يكفهم، ويقال: لا بد للسلطان من وزعة؛ أي من يمنع الناس عنه. وأصل الوزع الكف والمنع، ومنه الحديث:
" إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن ".
[27.18-19]
قوله تعالى: { حتى إذآ أتوا على واد النمل }؛ أي ساروا جميعا حتى إذا وصلوا إلى واد كثير النمل، قال كعب: (هو واد بالطائف)، وقال قتادة ومقاتل: (هو بالشام)، { قالت نملة }؛ لأصحابها على وجه التحذير: { يأيها النمل ادخلوا مساكنكم }؛ أي منازلكم، { لا يحطمنكم سليمان وجنوده }؛ أي لا يكسرنكم سليمان وجنوده، { وهم لا يشعرون }؛ بذلك؛ أي وهم لا يعلمون بحطمكم ووطئكم، فطارت الريح بكلام النملة، فأدخلته في أذن سليمان عليه السلام ليسمعها، { فتبسم ضاحكا من قولها }؛ وكان أكثر ضحك الأنبياء عليهم السلام التبسم.
ونصب قوله تعالى: { ضاحكا } على الحال، وسبب ضحكه من قولها التعجب، وذلك أن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به عجب وضحك. قال مقاتل: (ثم حمد ربه حين علمه منطق الطير، وسمع كلام النملة) { وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك }؛ يقال: فلان موزع بكذا؛ أي مولع به، وقيل: معناه: وفقني أن أشكر نعمتك، { التي أنعمت علي وعلى والدي } و، وفقني، { وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين }؛ في الآخرة.
فإن قيل: بماذا عرفت النملة سليمان، وعلى أي سبيل كانت معرفتها به؟ قلنا: إنها كانت مأمورة بطاعته، فلا بد أن تعرف من أمرت بطاعته، ولا يمنع أن تعرف الدواب والبهائم هذا الضرب، كما تعرف كثيرا من منافعها ومضارها، والنملة فيها من الفهم فوق هذا، فإنا نشاهد صنعها في إدخال رزقها وحفظه وتعهده، حتى إنها تكسر ما تجمعه من الحبوب نصفين نصفين لئلا تنبت، إلا اللويزة فإنها تكسرها أربع قطع؛ لأنها إذا كسرتها نصفين تنبت، فالذي هداها إلى هذه الأمور هو الذي ألهمها معرفة سليمان عليه السلام.
[27.20]
قوله تعالى: { وتفقد الطير }؛ أي طلبها وبحث عنها، والطير اسم جامع للجنس، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره، تظله بأجنحتها. قوله تعالى: { فقال مالي لا أرى الهدهد }؛ أي قال: ما الهدهد لا أراه أعينا؛ أي لحظته فلم تره بين الطير، { أم كان من الغآئبين }.
واختلفوا في سبب تفقده عن حال الهدهد. قال ابن عباس: (كان الهدهد يرى الماء من تحت الأرض كما تراه من الزجاج. وكان سليمان إذا احتاج إلى الماء في مسيره، أمر الهدهد حتى ينظر إلى أقرب موضع من الماء، فاحتاج في ذلك اليوم إلى الماء، فلذلك تعرف عن حال الهدهد).
قال عكرمة: قلت: يا ابن عباس؛ كيف يرى الهدهد الماء وإن صيادتنا يأخذونه بالفخ فلا يرى الخيط والشبكة؟! قال ابن عباس: (ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلا الشيطان، أما تعلم أنه إذا جاء القدر ذهب البصر). وعن سعيد بن جبير: (أن ابن عباس سئل عن تفقد سليمان الهدهد، فقال: لأنه كان يعرف مسافة الماء. وأن الصبي يضع له الفخ فيغطي عليه بشيء من التراب فيجيء فيقع فيه، فقال: ويحك! أما علمت أن القدر يحول دون البصر). وروي أنه قال: (إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللب وعمي البصر).
وقال وهب: (كان سبب تفقده له لإخلاله بالنوبة، كما يتعرف الوالي عن رعيته)، ويقال: كانت الطير تظله من الشمس، كانت تقف في الهواء مصطفة موصولة الأجنحة ومتقاربة، فلما أخلى الهدهد بمكانه بان ذلك لوقوع الشمس عليه، فلذلك تعرف عن حاله.
[27.21-22]
قوله تعالى: { لأعذبنه عذابا شديدا }؛ قال المفسرون: تعذيبه إياه أن ينتف ريشه ثم يلقيه في الشمس فلا يمنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض. ويقال: هو قص جناحه، ويجوز أن يعاقب بأن لا يجري عليه القلم على وجه التأديب، كما يؤدب الأب ولده الصغير. وقيل: تعذيبه أن ينتف ريشه ويدعه ممعطا في بيت النمل فيلدغوه. وقيل: معناه: لأشدن رجليه وألقيه في الشمس، وقيل: لأطلينه بالقطر وأجعله في الشمس. وقيل: لأفرقن بينه وبين إلفه. وقيل: لأمنعنه من خدمتي.
قوله تعالى: { أو لأاذبحنه }؛ أي لأقطعن حلقه، { أو ليأتيني بسلطان مبين }؛ أي بحجة ظاهرة توجب عذره في غيبته، وقصته: أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز للسير واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، وأمر الريح فحملتهم، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم مدة إقامته خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرون ألف شاة، وأقام بمكة حتى قضى نسكه.
ثم سار إلى أرض اليمن فوافى صنعاء اليمن وقت الزوال، فأحب النزول ليصلي ويتغدى، فطلبوا الماء فلم يجدوه، وكان الهدهد دليله على الماء، فلما نزل سليمان قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع الهدهد إلى جهة السماء، فنظر يمينا وشمالا فرأى خضرة بساتين مأرب في أرض بلقيس، فمال إلى جهة الخضرة، فالتقى بهدهد من هدهد سبأ، فقال له: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع نبي الله سليمان عليه السلام، قال له: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين والوحوش والطيور. ثم قال له هدهد سليمان: وأنت من أين أقبلت؟ قال: من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس؛ ملكت اليمن كلها وتحتها اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي ننظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصلاة إذا احتاج إلى الماء، فقال له هدهد بلقيس: إن صاحبكم يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وما رجع إلا وقت العصر.
قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة، طلب الهدهد لأنه نزل غير ماء ، فسأل الإنس عن الماء فقالوا: ما نعلم هنا ماء، فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا، ففقد الهدهد فلم يجده، فدعا بعفريت الطير النسر، فسأله عن الهدهد، فقال: ما أدري أين ذهب، فغضب سليمان عند ذلك، وقال { لأعذبنه عذابا شديدا أو لأاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين } أي بحجة.
ثم دعا بالعقاب وقال له: علي بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه حتى التزق بالهواء وارتفع حتى نظر إلى الدنيا كالقصعة في يدي أحدكم، ثم التفت يمينا وشمالا، فإذا هو بالهدهد مقبل من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء، فناشده الله تعالى، فقال له: بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني ولا تتعرض لي بسوء، فولى العقاب عنه وهو يقول له: ثكلتك أمك! إن نبي الله قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان.
فلما وصل إليه قال له العقاب: قد جئتك يا نبي الله، فلما قرب إليه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا منه، قال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا، فقال له الهدهد: يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه، فلما سمع ذلك سليمان ارتعدت فرائصه فعفا عنه.
ثم قال له: ما أبطأك عني؟ فقال: أحطت بما لم تحط به، وذلك قوله تعالى: { فمكث غير بعيد }؛ أي لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء الهدهد، { فقال أحطت بما لم تحط به }؛ أي علمت شيئا من جميع جهاته، وقيل: معناه: اطلعت على ما لم تطلع عليه، وجئتك بأمر لم يخبرك به الجن والإنس، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جميع جنودك، { وجئتك من سبإ بنبإ يقين }؛ أي بخبر صدق ولا شك فيه.
وقرئ { من سبإ } بالتنوين قال الزجاج: (من لم يصرفه فلأنه اسم مدينة تعرف من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، ومن صرفه؛ فلأنه اسم البلد، ويكون مذكرا سمي به مذكر). وفي الحديث:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سبإ، فقال : " كان رجلا له عشرة من البنين، تيامن منهم ستة، وتشام أربعة... "
وسنذكر أسماءهم وقصتهم في سورة سبأ إن شاء الله تعالى.
قرأ عاصم ويعقوب (فمكث) بفتح الكاف، وقراءة العامة بضم الكاف، وهما لغتان.
[27.23]
قوله تعالى: { إني وجدت امرأة تملكهم }؛ واسمها بلقيس بنت الشرح، وقيل: شراحيل بن ذي جدن، وكان ملكا عظيم الشأن، وكان قد ملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الآفاق: ليس أحد منكم كفؤ لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كان أحدهم يؤتى بلقيس جنيا "
فلما مات أبوها ولم يخلف أحدا غيرها طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها، فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون، واختاروا عليها رجلا فملكوه عليهم، فافترقوا فرقتين، كل فرقة منهم استولت بملكها على طرف من أرض اليمن.
ثم إن هذا الملك الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن، فأراد أصحابه أن يخرجوه فلم يقدروا، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة، فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها إلى ذلك، وقال: ما منعني أن أبدأك بالخطبة إلا اليأس منك، فقالت: إني راغبة إليك لأنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي فاخطبني إليهم، فجمعهم فخطبها إليهم فقالوا: لا نراها تفعل هذا، قال: إنها هي التي ابتدأتني، فذكروا لها ذلك، فقالت: نعم؛ لأجل الولد، ولم أزل كنت كارهة لذلك، فالآن قد رضيت، فزوجوها منه.
فلما زفت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر، ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوبا على رأس دارها، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا لها: أنت أحق بهذا الملك من غيرك، فقالت: لولا العار والشنار ما قتلته، ولكن عم فساده وأخذتني الحمية حتى فعلت ما فعلت، فملكوها فأسست أمرها.
قوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء }؛ قال عطاء: (من زينة الدنيا من المال والجنود)، { ولها عرش عظيم } ، أي سرير من ذهب طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا مضروب بالذهب مكلل بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر. قال مجاهد: (وكان تحتها اثنا عشر ألف قيل - والقيل بلغة اليمن - تحت يدي كل قيل ألف مقاتل). وقيل: كان سريرها له أربع قوائم: قائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من زمرد، وقائمة من در، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبيات لكل بيت باب مغلق.
[27.24]
قوله تعالى: { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله }؛ قال الحسن: (كان القوم مجوسا وكانوا يتعطفون على وجوههم مواجهين للشمس)، وقوله تعالى: { وزين لهم الشيطان أعمالهم }؛ أي حسن لهم قبيح أعمالهم، { فصدهم عن السبيل }؛ أي عن الطريق، { فهم لا يهتدون }؛ إلى طريق الحق.
[27.25]
قوله تعالى: { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموت والأرض } يجوز أن يكون ابتداء خطاب من الله، ويجوز أن يكون من قول الهدهد أو من قول سليمان.
قرأ الكسائي والأعرج ويعقوب وحميد وأبو جعفر: (ألا يسجدوا) بالتخفيف: ألا يا هؤلاء اسجدوا، جعلوه من أمر الله مستأنفا، وحذفوا (هؤلاء) اكتفاء بدلالة (يا) عليها، فعلى هذه القراءة (اسجدوا) في موضع جزم على الأمر والوقف عليه (ألا يا)، ثم يبتدئ (اسجدوا)، وفي قراءة عبدالله (هلا يسجدوا لله). وقرأ الباقون (ألا يسجدوا) بالتشديد على معنى وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا.
وقوله تعالى: (يخرج الخبء في السماوات والأرض)، الخبأ: كل ما غاب عن الإدراك، مصدر وقد وقع موقع المفعول كالخلق بمعنى المخلوق والعلم بمعنى المعلوم، وخبأ السماوات: الأمطار، وخبأ الأرض: النبات، فعلى هذا تكون (في) بمعنى (من). قوله تعالى: { ويعلم ما تخفون وما تعلنون }؛ أي يعلم ما يخفون في قلوبهم، وما يعلنون بألسنتهم، وفي قراءة الكسائي بالتاء، لأن أول الآية خطاب على قراءته بتخفيف (ألا) يا اسجدوا.
[27.26-31]
قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم }؛ أراد بالعرش في هذه الآية سرير الملك الذي عظمه الله ورفعه فوق سماوات سبع وجعله أعظم من السماوات والأرض، ومن أعظم كل خلق، وجعل الملائكة تحف به وترفع أعمال العباد إليه؛ أي هو الذي يستحق العبادة لا غيره، وهو رب العرش لا ملكة سبأ؛ لأن عرشها وإن كان عظيما لا يبلغ عرش الله في العظم.
فلما فرغ الهدهد من كلامه، { قال }؛ سليمان للهدهد: { سننظر أصدقت }؛ فيما أخبرتنا به من هذه القصة، { أم كنت من الكاذبين } فنعذبك.
ثم كتب سليمان كتابا ختمه بخاتم ودفعه إلى الهدهد، وذلك قوله تعالى: { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم }؛ أي إلى أهل سبأ. وقوله تعالى: { ثم تول عنهم }؛ أي انصرف عنهم، وهذا على التقديم والتأخير، تقديره: { فانظر ماذا يرجعون }؛ ثم تول عنهم؛ لأن التولي عنهم بعد الجواب، ومعنى { فانظر ماذا يرجعون } أي ماذا يردون من الجواب. وقيل: معناه: { ثم تول عنهم } أي انصرف عنهم قليلا إلى حيث لا يرونك { فانظر ماذا يرجعون } أي يقولون ويردون ويحسبون.
وكان كتاب سليمان عليه السلام: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين. وقال ابن جريج: (لم يزد سليمان على نص الله في كتابه). فلما كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد: اذهب به، فأخذ الكتاب بمنقاره وذهب به.
فلما أغلقت المرأة الأبواب دونها ونامت على سريرها، ووضعت المفاتيح تحت وسادتها، فأتى بها الهدهد من الكوة وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على وجهها ونبهها بمنقاره وصوته، فأخذت الكتاب، وكانت كاتبة قارئة عربية من تبع بن سراحيل الحميري، فقرأت الكتاب وناخر الهدهد غير بعيد، فدعت بذوي الرأي من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف مقاتل.
وقال قتادة: (كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا) فجاؤا إليها، و { قالت } لهم: { يأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم }؛ أي حسن، وقيل: شريف، وقيل: مختوم، قال صلى الله عليه وسلم:
" كرامة الكتاب ختمه "
وقوله تعالى: { إنه من سليمان }؛ أي الكتاب من سليمان، { وإنه }؛ المكتوب، { بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا } أي لا تستكبروا، { علي } ولا ترفعوا علي، { وأتوني مسلمين }؛ منقادين طائعين.
قوله تعالى: { ألا تعلوا علي } بدل من (كتاب) وموضعه على هذا القول رفع، ويجوز أن يكون نصبا على معنى بأن لا تعلوا علي. وقيل: معنى قوله { وأتوني مسلمين } أي مؤمنين بالله ورسوله من الإسلام الذي هو دين الله. وقيل: مستسلمين لأمري فيما أدعوكم إليه، فإني لا أدعوكم إلا إلى حق، فأطيعوني قبل أن أكرهكم على ذلك.
[27.32-33]
قوله تعالى: { قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري }؛ أي قالت لأهل مشورتها: بينوا لي. ما أعمل في أمري بما هو الصواب، وأشيروا علي، فإني { ما كنت قاطعة أمرا }؛ من الأمور في ما مضى، { حتى تشهدون }؛ تحضرون فتشاوروني، فأشيروا علي في هذا الكتاب، ما أصنع فيه؟
{ قالوا }؛ مجيبين لها: { نحن أولو قوة }؛ وعدة في القتال لم يبلغنا عدو قط، ونحن { وأولو بأس شديد }؛ في الحرب، ذكروا لها قوتهم وشجاعتهم، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك.
ثم قالوا: { والأمر إليك }؛ أي في القتال وتركه إن أمرتنا بالقتال قاتلناه، وإن أمرتنا بغير ذلك فعلناه، وذلك معنى قوله: { فانظري ماذا تأمرين } أي ماذا تشيرين علينا.
[27.34-35]
قوله تعالى: { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها }؛ أي قالت مجيبة لهم عن التعريض بالقتال: إن الملوك إذا دخلوا قرية عنوة عن غفلة وقتال أفسدوها؛ أي خربوها وأهلكوها، { وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } أي وأهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر. وقيل: معنى قوله { وجعلوا أعزة أهلهآ أذلة } أي بالقتل والأسر والاستعباد وأخذ المال، وانتهى الكلام ها هنا.
قال الله تصديقا لها: { وكذلك يفعلون }؛ أي كما قالت هم يفعلون. ومعنى الآية: أنها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخول بلادهم. قوله تعالى: { وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون }؛ وذلك أنها لما تدبرت في أمرها قوت الملاطفة بالهدايا، وكانت من أولاد الملوك، تعرف عادتهم وحسن مواقع الهدايا عندهم، فإن ذلك هو الأولى، وكانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة، فقالت بهذا القول اختبارا لسليمان : أملك هو أم نبي؟ فإن كان ملكا قبل الهدايا وترك الوصول إلى بلدها، وإن كان نبيا لم يرض بالهدية، ولا يرضيه إلا أن تتبعه، فهيأت الهدايا من المسك والعنبر والعود وغير ذلك، وأهدت له خمسمائة عبد وخمسمائة جارية، وأهدت له أيضا صحاف الذهب وخمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت.
[27.36-38]
قوله تعالى: { فلما جآء سليمان } أي فلما جاء رسولها إلى سليمان يهديه، { قال }؛ له سليمان: { أتمدونن بمال فمآ آتاني الله خير ممآ آتاكم } وأنا أكثر أهل الدنيا مالا ولست ممن يرغب في المال، { بل أنتم بهديتكم تفرحون }؛ أي إذا أهدى بعضكم إلى بعض فرحوا بذلك، وأما أنا فلا أفرح لأنكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدنيا.
وفي الخبر: أن سليمان عليه السلام لما علم بالهدايا قبل أن تصل إليه أمر أن يضرب لبنات من الذهب أحسن وأجود مما كان مع رسولها، وأمر أن تلقى تلك اللبنات بين قوائم الدواب حتى تروث وتبول عليها، فلما رأى ذلك الرسول استخف الهدية التي كانت معه، وكانت بلقيس قد قالت لرسولها: إذا دخلت عليه، فإذا نظر إليك نظر غضب، فاعلم أنه ملك يهولنك منظره، فأنا أعز منه، وإن نظر إليك بوجه طلق فإنه نبي مرسل، فتفهم قوله ورد الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا ومعه الهدهد مسرعين إلى سليمان.
فلما وصل الرسول إلى سليمان وجده قاعدا في مجلسه على سريره، وعلى يمينه أربعة آلاف كرسي من ذهب، وعن يساره مثل ذلك، وقد اصطفت الإنس صفوفا وفراسخ، واصطفت الجن والشياطين والوحوش والسباع والهوام والطير كذلك صفوفا وفراسخ، عن يمينه ويساره.
فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر فضيع ففزعوا منهم، فقالت لهم الشياطين: جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كل كرؤوس من الجن والإنس والطير والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟
فأخبرهم رئيسهم بما جاءوا به من الهدية، وأعطاه كتابا من الملكة، فنظر فيه، ثم قال لرسولها: { ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها }؛ أي بعساكر لا طاقة لهم بها، { ولنخرجنهم منهآ }؛ من بلادهم، { أذلة }؛ مغلولة أيديهم إلى أعناقهم، { وهم صاغرون }؛ أي مهانون.
فلما أخبرها الرسول بذلك، قالت: قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا من طاقة ولا ينبغي لنا مخالفته، فتجهزت للمسير إليه، ثم عمدت إلى سريرها فوضعته في سبعة بيوت مقفلة الأبواب، بيت فوق بيت وجعلته في الطبقة السابعة، وجعلت الجيوش حوله وخرجت متوجهة إلى سليمان.
فجاء جبريل عليه السلام إلى سليمان وأخبره بمجيئها إليه، { قال } سليمان: { يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها }؛ أي سرير ملكها، { قبل أن يأتوني مسلمين }؛ أي مؤمنين، وقيل: صاغرين مستسلمين منقادين.
وإنما خص العرش بالطلب؛ لأنه أعجبه صفته، فأحب أن يعاتبها به، ويختبر عقلها به إذا رأته، تعرفه أم تنكره، وأحب أن يريها قدرة الله في معجزة يأتي بها في عرشها، وأحب أن يأخذ عرشها قبل أن تسلم، فلا يحل أخذ مالها بعد الإسلام، فذلك قوله تعالى: { قبل أن يأتوني مسلمين }.
[27.39]
قوله تعالى: { قال عفريت من الجن }؛ يعرف بعمرو، والجني والعفريت في كل شيء: المبالغ الحاذق، يقال: رجل عفر وعفريت وعفرية، بمعنى واحد، والجمع عفاريت وعفارى، وقيل: العفريت من الجن المارد القوي الغليظ الشديد. وقيل: اسم العفريت الداهية.
قيل: إنها سارت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل، تحت كل قيل ألوف كثيرة، فخرج سليمان ذات يوم وإذا هو يرى هرجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، قال: قد نزلت منا بهذا المكان. قال ابن عباس: (وهو مكان بين الحيرة والكوفة بعيد فرسخ) فأقبل حينئذ سليمان على جنوده، وقال: { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين }؟.
واختلف أهل العلم في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، قيل: أن يحرم عليه أخذه بإسلامها. وقال قتادة: (إنه أعجبه صفته لما وصفه له الهدهد، فأحب أن يراه)، وقال ابن زيد: (أراد أن يختبر عقلها بتنكير عرشها ولينظر هل تعرفه إذا رأته أو تنكره)، وقيل: ليريها قدرة الله وعلم سلطانه.
قوله تعالى: { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك }؛ أي من مجلس قضائك، وكان سليمان يجلس للقضاء من الغداة إلى انتصاف النهار، وقال مقاتل: (قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري، فليس شيء أسرع مني) { وإني عليه لقوي أمين }؛ أي قوي على حمله، أمين على ما فيه من الذهب والجواهر. فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك.
[27.40]
قوله تعالى: { قال الذي عنده علم من الكتاب }؛ وهو آصف بن برخيا كان يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال بعضهم: هو جبريل، وقيل: هو ملك من الملائكة.
وقوله تعالى: { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك }؛ قال ابن جبير: (قال لسليمان: انظر إلى السماء، فما طرف حتى جاء به فوضعه بين يديه). والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مده إلى السماء. وقيل: معناه: بقدر ما تفتح عينيك، وهذا الكلام عبارة عن المبالغة في السرعة.
قال محمد بن اسحاق: (انخرق مكان عرشها حيث هو، ثم نبع بين يدي سليمان) ومثل هذا روي عن ابن عباس. وقال الكلبي: (خر آصف ساجدا ودعا بالاسم الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسي سليمان).
قال أهل المعاني: لا ينكر من قدرة الله " نقله " من حيث كان، ثم يوجده حيث كان سليمان بالأفضل، لدعاء الذي عنده علم من الكتاب، ويكون ذلك كرامة للولي ومعجزة للنبي.
واختلفوا في ذلك الدعاء الذي دعا به آصف، فقال مقاتل ومجاهد: (يا ذا الجلال والإكرام)، وقال الكلبي: (يا حي يا قيوم)، وقيل: قال له سليمان: قد رأيتك ترجع شفتيك فما قلت؟ قال: قلت إلهي وإله كل شيء واحد لا إله إلا أنت إئت به. وقال بعضهم: هو يا إلهنا وإله كل شيء، يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت. وقال الحسن: (اسم الله الأعظم: يا رحمن، وذلك أنه لا يسمى أحد بهذين الاسمين على الإطلاق غير الله عز وجل).
قوله تعالى: { فلما رآه مستقرا }؛ أي فلما رأى سليمان العرش مستقرا، { عنده } ، نابتا بين يديه، { قال هذا من فضل ربي }؛ أي هذا التمكين من حصول المراد من حصول فضل الله وعطائه، { ليبلوني }؛ أي ليختبرني ويمتحنني على هذه النعمة، { أأشكر }؛ أأشكره فيما أعطاني من نعمة، { أم أكفر }؛ أي أترك شكرها، { ومن شكر فإنما يشكر لنفسه }؛ أي من شكر نعمة ربه فإنما منفعة شكره راجع إلى نفسه، يعني ثواب شكره يعود إليه، { ومن كفر }؛ أي ترك شكر نعمته، { فإن ربي غني }؛ عنه وعن شكره، { كريم }؛ يقبل الشكر؛ أي ويزيد عليه في النعمة في الدنيا ويثيب عليه في العقبى.
[27.41]
قوله تعالى: { قال نكروا لها عرشها }؛ قال سليمان: غيروا سريرها وزيدوا فيه وأنقصوا منه حتى، { ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون }.
[27.42]
قوله تعالى: { فلما جآءت قيل أهكذا عرشك }؛ أي فلما جاءت بلقيس إلى سليمان، قيل: أهكذا سريرك؟ فجعلت تعرف وتنكر، وعجبت من حضوره عند سليمان، و { قالت كأنه هو }؛ وقال مقاتل: (عرفته ولكنها شبهت عليه كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم. فقيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب، وكانت قد خلفته وراء سبعة أبواب لما خرجت والمفاتيح معها، فلم تقر ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها).
وقال عكرمة: (كانت حكيمة، قالت: إن قلت هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت لا خشيت أن أكذب) فلم تقل نعم، ولا قالت لا؛ لأنه كان يشبه سريرها، وشكت في وصوله إلى سليمان بعد أن وضعته في أحصن المواضع، وشكت أيضا لما أحدثوا فيه من التغير.
قوله تعالى: { وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين }؛ هذا من قول سليمان عليه السلام وقومه، أي قالوا: وأعطينا العلم بها وبملكها وسريرها من قبل مجيئها، وهو ما أخبر به الهدهد من شأنها وقصتها، وقالوا: وكنا مسلمين بحمد الله عز وجل من قبل مشاهدة المعجزات، وهذا قول مجاهد.
وقال بعضهم: هذا قول من بلقيس لما رأت عرشها قالت: وأوتينا العلم بصحة نبوة سليمان عليه السلام من قبل الآية في العرض وكنا مسلمين طائعين منقادين لأمر سليمان عليه السلام قبل أن نجيء إليه.
[27.43]
قوله تعالى: { وصدها ما كانت تعبد من دون الله }؛ أي منعها الإيمان بالله العبادة التي كانت عليها من عبادة الشمس. والمعنى: وصدها عن الإيمان والتوحيد الذي كانت تعبد من دون الله؛ وهو الشمس؛ لأنها نشأت في قوم لم يكونوا يعرفون إلا عبادة الشمس؛ لأنها كانت من المجوس.
قوله تعالى: { إنها كانت من قوم كافرين }؛ أي إنها كانت من قوم يعبدون الشمس، فنشأت في ما بينهم. وقال بعضهم معنى قوله: { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } أي صدها سليمان؛ أي منعها ذلك، وحال بينه وبينها، فعلى هذا يكون موضع (ما) نصبا.
[27.44]
قوله تعالى: { قيل لها ادخلي الصرح }؛ وذلك أن بلقيس لما لم تسلم بما رأت من الآيات، أراد سليمان عليه السلام أن يريها آية أخرى لتسلم، فأمر الجن والشياطين أن يبنوا لها صرحا؛ أي قصرا من زجاج مملس، وأن يجروا تحته الماء، ويجعلوا فيه المسك والزمرد الأملس، وشجرة مرداء؛ أي ملساء لا ورق لها. ففعلوا ذلك ثم وضعوا له سريرا في صدر الصرح فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس.
وقيل: إن سليمان عليه السلام إنما أمر ببناء الصرح؛ لأن الجن كانوا قد أخبروه أن رجلها رجل حمار، وإنها شعراء الرجلين؛ لأن أمها كانت من الجن، فخافوا أن يتزوجها فتفشي إليه أسرار الجن، فأرادوا أن يزهدوه فيها بهذا الكلام، وقالوا له أيضا: إن في عقلها شيء، فأراد أن يختبر حقيقة قولهم أن رجلها كحافر الحمار، ولينظر إلى ساقها هل به شعر كما قالوا { قيل لها ادخلي الصرح } أي القصر، وقيل: صحن القصر.
قال الزجاج: (والصرح: القصر والصحن، يقال: هذه ساحة الدار وصرحة الدار). والصرح في اللغة: هو البسط المنكشف من غير سقف، ومنه صرح بالأمر إذا أفصح به ولم يكن عنه، والتصريح بخلاف التضمير.
قوله تعالى: { فلما رأته }؛ أي فلما رأت بلقيس الصرح على تلك الصفة، { حسبته لجة }؛ واللجة معظم الماء الكثير، { وكشفت عن ساقيها }؛ أي رفعت ثيابها عن ساقيها حتى لا تبتل ثيابها على ما هو العادة من قصد الماء. قال ابن عباس: (لما كشفت ساقها رأى سليمان قدما لطيفا وساقا حسنا خدلجا، إلا أنها كثيرة شعر الساقين). فلما رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها، وناداها: { قال إنه } ، ليس هذا بماء، وإنما هو، { صرح ممرد من قوارير }؛ أي مملس من زجاج، فلا تخافي واعبري عليه، فلما رأت السرير والصرح علمت أن ملك سليمان من الله عز وجل، و { قالت رب إني ظلمت نفسي }؛ بعبادة الشمس، { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين }؛ أي أخلصت التوحيد.
والمعنى: أن بلقيس استدلت بما شاهدت على وحدانية الله وصحة نبوة سليمان بما رأت من شدة قوته وما كان من ترسل الطير له، وإحضار عرشها في أسرع مدة على بعد المسافة. وبناء الصرح من القوارير على وجه الماء، فلذلك قالت: { ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فتزوجها سليمان عليه السلام.
وقيل: لما أراد سليمان أن يتزوجها كره ذلك لما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، فقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين فقال لهم: كيف لي أن أقلع هذا الشعر من غير مضرة للجسد؟ فدلوه على عمل النورة، وكانت النورة والحمامات من يومئذ، فاتخذوا لها النورة والحمام، وتزوجها سليمان عليه السلام، فلما تزوجها أحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها، وأمر الجن بأن يبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها حسنا وارتفاعا؛ وهي: سيلحين وسون وغمدان، ثم كان سليمان يزورها في كل شهر مرة بعد أن ردها إلى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيام، وولدت له أولادا في ما ذكر.
وروي أن رجلا جاء إلى عبدالله بن عتبة وسأله: هل تزوج سليمان بلقيس؟ فقال: (عهدي بها أن قالت: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) يعني أنه لا يعلم ذلك.
[27.45]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله }؛ يعني بأن اعبدوا الله وحده، فآمن به فريق وكفر به فريق، فجعل الفريقان يختصمون كما قال تعالى في سورة الأعراف
قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون
[الأعراف: 75]. وقوله تعالى: { فإذا هم فريقان يختصمون }؛ أي فإذا هم مؤمن وكافر، مصدق ومكذب، يختصمون في الدين، كل فريق منهم يقول: الحق معي.
[27.46]
قوله تعالى: { قال يقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة }؛ فيه ضمير تقديره: إن المؤمنين أوعدوا الكافرين على كفرهم وتكذيبهم، فاستعجل الكافرون العذاب، فقال صالح عليه السلام للكافرين المكذبين: (لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) أي بالعذاب قبل الرحمة، ولا تستعجلون الثواب الموعود على الإيمان. قوله تعالى: { لولا تستغفرون الله }؛ أي هلا تستغفرون الله عن كفركم وتكذيبكم، { لعلكم ترحمون }؛ أي فلا تعذبون في الدنيا.
[27.47]
قوله تعالى: { قالوا اطيرنا بك وبمن معك }؛ أي تشاءمنا بك وبمن معك بما لحقنا من نقصان الزرع والثمار والمياه. والتطير: هو التشاؤم، وأصله: تطيرنا بك وبمن معك، وذلك أنه قحط المطر عنهم وجاعوا فقالوا: أصابنا هذا البلاء والضر من شؤمك وشؤم أصحابك.
وإنما ذكر التطير بلفظ التشائم على عادة العرب في نسبتهم الشؤم إلى ما يأتي من الطير ناحية اليد الشؤمى وهي اليسرى، ويسمون الطير الذي يأتي من ناحية اليد اليسرى البارح، وأما الطير الذي يأتي من ناحية اليد اليمنى فهو السانح.
قوله تعالى: { قال طائركم عند الله }؛ أي قال لهم صالح عليه السلام ردا عليهم: { طائركم عند الله } أي الشؤم أتاكم من عند الله بكفركم، وهذا الذي أصابكم من الجدب والخصب عند الله مكتوب عليكم، لازم لكم في أعناقكم وليس ذلك إلي ولا علمه عندي، وهذا كقوله
يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله
[الأعراف: 131].
قوله تعالى: { بل أنتم قوم تفتنون }؛ أي تخسرون في الدنيا باختلاف الأحوال من الخير والشر. وقيل: معناه: بل أنتم قوم تعذبون بذنوبكم. وقيل: تمتحنون بإرسالي إليكم لتثابوا على متابعتي، وتعاقبوا على مخالفتي. وقيل: بمعنى { تفتنون } أي تعاقبون كما في قوله تعالى:
ذوقوا فتنتكم
[الذاريات: 14] أي عقوبتكم.
[27.48]
قوله تعالى: { وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون }؛ معناه: كان في مدينة صالح عليه السلام وهي الحجر تسعة رهط من الفساق من أبناء رؤسائهم وهم غواة قوم صالح يفسدون في الأرض بالمعاصي ولا يصلحون ولا يطيعون الله، ولا يأتمرون بالصلاح، وأسماؤهم قدار بن سالف؛ ومصدع؛ وأسلم؛ ودهم؛ وذهيم؛ وذعما؛ ودغيم؛ وقتال؛ وضراب.
[27.49-50]
قوله تعالى: { قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله }؛ أي قالوا فيما بينهم: احلفوا بالله؛ أي تحالفوا بالله لتدخلن على صالح وعلى أهله الذين آمنوا معه ليلا فنقتلهم بياتا. قرأ يحيى وحمزة والأعمش والكسائي وخلف (لتبيتنه) بالتاء و(ليقولن) بالياء وضم التاء واللام على الخطاب.
قوله تعالى: { ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون }؛ فيما نقول، وقرأ عاصم برواية أبي بكر (مهلك) بفتح الميم واللام، والمهلك: يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإهلاك، ويجوز أن يكون الموضع. وروى حفص عن عاصم (مهلك) بفتح الميم وكسر اللام وهو اسم المكان على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم.
قال الزجاج: (تحالف هؤلاء التسعة على أن يبيتوا صالحا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه، وكان هذا منكرا عزموا عليه)، كما قال تعالى: { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون }؛ أي دبروا في أمر صالح عليه السلام وأهله من حيث لم يشعر بهم صالح ولا أهله، { ومكرنا مكرا } أي دبرنا نحن في هلاكهم مجازاة لهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم { وهم لا يشعرون } بما أردنا فيهم.
[27.51]
قوله تعالى: { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم }؛ أي فانظر يا محمد { كيف كان عاقبة مكرهم } أي كيف كان آخر مكرهم، { أنا دمرناهم وقومهم أجمعين }.
قرأ الحسن وأهل مكة والأعمش (أنا دمرناهم) بفتح الهمزة ولذلك وجهان في أحدهما: أن تكون بدلا في محل الرفع تبعا للعاقبة، كأنه قال: العاقبة أنا دمرناهم. والثاني: أن موضعها نصب على خبر كان، تقديره: كان عاقبة مكرهم التدمير. وقرأ الباقون بالكسر على الابتداء وهو تفسير ما كان قبله مثل قوله
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا المآء صبا
[عبس: 24-25].
والتدمير: هو الإهلاك على وجه عظيم قطيع. واختلفوا في كيفية هلاكهم، قال ابن عباس: (أرسل الله الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونها، وجاءت التسعة إلى دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث كانوا يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم). وقال مجاهد: (نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فختم عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه السلام).
[27.52-53]
قوله تعالى: { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا }؛ أي خاوية عن الأهل والخير والنعمة بسبب ظلمهم لم يبق فيها منهم ديار، قرأ العامة (خاوية) بالنصب على الحال، والمعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية بما ظلموا؛ أي بظلمهم وشركهم أهلكناهم حتى جعلنا بيوتهم خاوية؛ أي منازلهم ساقطة على عروشها.
وقيل: (خاوية) نصب على القطع، تقديره: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصب، كقوله
وله الدين واصبا
[النحل: 52]. وقرأ عيسى بن عمر (خاوية) بالرفع على الخبر.
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لقوم يعلمون }؛ أي إن في إهلاكنا إياهم لدلالة ظاهرة وعبرة لمن علم توحيد الله وقدرته. قوله تعالى: { وأنجينا الذين آمنوا }؛ أي أنجينا الذين آمنوا بصالح من العذاب { وكانوا يتقون }؛ الشرك والعقاب.
[27.54]
قوله تعالى: { ولوطا إذ قال لقومه }؛ أي واذكر لوطا إذ قال لقومه: { أتأتون الفاحشة }؛ يعني اللواطة، سماها فاحشة لعظم قبحها، { وأنتم تبصرون }؛ أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة. وقيل: وأنتم تبصرون بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون.
[27.55]
قوله تعالى: { أإنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء بل أنتم قوم تجهلون }؛ أي تجهلون العذاب الموعود على هذه الفاحشة، وقيل: تجهلون القيامة وعاقبة المعاصي.
[27.56]
قوله تعالى: { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون }؛ أي عن أدبار الرجال يقولون استهزاء بهم.
[27.57-58]
قوله تعالى: { فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين }؛ أي قدرنا عليها أن تكون من الغابرين؛ أي من المتخلفين فتهلك فيمن هلك، لا جرمها مثل جرمهم لأنها كانت راضية بأفعالهم القبيحة فجرت مجراهم في العذاب. قوله تعالى: { وأمطرنا عليهم مطرا }؛ أي على مسافريهم، أي حجارة؛ { فسآء مطر المنذرين }؛ فبئس المطر مطر قوم أنذرهم لوط عليه السلام فلم يؤمنوا.
[27.59]
قوله تعالى: { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى }؛ أي قيل للوط عليه السلام: قل الحمد لله على هلاك كفار قومي. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي قل يا محمد: الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية. وقيل: على جميع نعم الله سبحانه.
وقوله تعالى: { وسلام على عباده الذين اصطفى } قال يعني الانبياء الذي اختارهم الله لرسالته، وقال ابن عباس: (هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم)، وقال الكلبي: (هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والذين اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته)، ومعنى السلام عليهم: أنهم سلموا مما عذب به الكفار.
قوله تعالى: { ءآلله خير أما يشركون }؛ أي قل لأهل مكة: أعبادة الله أفضل أم عبادة من تشركون به من دونه من الأصنام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ هذه الآية، قال:
" الله أبقى وأجل وأكرم مما تشركون "
قرأ عاصم وأهل البصرة (أما يشركون) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء.
[27.60]
قوله تعالى: { أمن خلق السموت والأرض }؛ فيه إضمار كأنه قال: آلهتكم أم من الذي خلق السماوات والأرض بما فيها من العجائب والبدائع، { وأنزل لكم من السمآء مآء }؛ يعني المطر، { فأنبتنا به حدآئق }؛ أي بساتين، { ذات بهجة }؛ أي منظر حسن وأنوار، والحديقة: هي البستان التي يحاط عليه بما فيه من النخل والشجر، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة.
قوله تعالى: { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها }؛ هذا نفي، يعني ما قدرتم عليه، والمعنى: ما ينبغي لكم ذلك؛ لأنكم لا تقدرون عليها، ثم قال استفهاما منكرا عليهم: { أإله مع الله }؛ أي هل معه معبود سواه أعانه على صنعه في خلق هذه الأشجار. قوله تعالى: { بل هم قوم يعدلون }؛ يعني كفار مكة قوم يعدلون الأصنام بخالقهم بجهلهم. وقيل: { يعدلون } أي يشركون بالله غيره. وقيل: يميلون عن الطريق وعن النظر في الدلائل المؤدية إلى العلم بوحدانية الله.
[27.61-62]
قوله تعالى: { أمن جعل الأرض قرارا }؛ أي مستقرة لا تميل بأهلها، بل جعلها مسكنا يسيرون فيها ويصرفون عليها، فلا هي تضطرب بهم ، ولا هي حزنة غليظة مثل رؤوس الجبال.
وقوله تعالى: { وجعل خلالهآ أنهارا }؛ أي جعل وسط الأرض أودية وعيونا من عذب ومالح، { وجعل لها رواسي }؛ أي جعل على الأرض جبالا ثوابت وأودية أوتادا لها، { وجعل بين البحرين حاجزا }؛ أي بين الملح والعذب مانعا بلطفه وقدرته فلا يختلط أحدهما بالآخر، ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقوله تعالى: { أإله مع الله }؛ أي مع الله إله فعل شيئا من هذه الأشياء، { بل أكثرهم لا يعلمون }؛ توحيد ربهم وسلطانه وقدرته.
وقوله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه }؛ المضطر: المكروب المجهود المدفوع إلى ضيق من الأمور من غرق أو مرض أو بلاء أو حبس أو كرب إذا دعاه، { ويكشف السوء }؛ فيكشف ضره ويفرج عنه فيبعده من الغرق وينجيه ويشفيه من المرض. ويعافيه من البلاء. وقال السدي: (المضطر الذي لا حول له ولا قوة)، وقال ذو النون: (هو الذي قطع العلائق عما دون الله).
قوله تعالى: { ويجعلكم خلفآء الأرض }؛ أي يأتي بقوم بعد قوم، ويخلق قرنا بعد قرن، وكلما أهلك قرنا أنشأ آخرين، فيكون كل خلفاء لمن قبلهم. وقوله تعالى: { أإله مع الله }؛ أي إله سوى الله فعل ذلك، { قليلا ما تذكرون }؛ أي قليلا ما تتعظون.
[27.63]
قوله تعالى: { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر }؛ معناه: أمن يرشدكم إلى الطريق في ظلماء الليل في البر والبحر إذا سافر، ثم بما خلق لكم من القمر والنجوم والمسالك، وهذا كقوله
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمت البر والبحر
[الأنعام: 97]، ويجوز أن يكون المراد بالظلمات الشدائد، { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته }؛ أي قدام المطر، والنشر: جمع نشور؛ وهي الرياح التي تأتي بالسحاب، قوله تعالى: { أإله مع الله تعالى الله عما يشركون }؛ أي جل وعز أن يكون له شريك.
[27.64]
قوله تعالى: { أمن يبدأ الخلق ثم يعيده }؛ معناه: أمن يبدأ الخلق في الأرحام من النطفة ثم يميته ثم يعيده للبعث والنشور، وقوله تعالى: { ومن يرزقكم من السمآء والأرض }؛ أي يرزقكم من السماء المطر، ومن الأرض النبات والزرع، وقوله تعالى: { أإله مع الله قل هاتوا برهانكم }؛ أي حجتكم فيما تدعونه من إله سواه، { إن كنتم صادقين }؛ أي مع الله آلهة أخرى تصنع شيئا من هذه الأشياء.
[27.65]
قوله تعالى: { قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله }؛ أي قل لهم يا محمد: { لا يعلم من في السموت والأرض } يعني الملائكة، (والأرض) يعني الناس، لا يعلم أحد منهم شيئا من الغيب من وقت نزول العذاب وقيام الساعة وغير ذلك مما غاب عن العباد، ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل وحده، { وما يشعرون أيان يبعثون }؛ أي ولا يدرون متى يبعثون من القبور، والأصل في (أيان) (أي) و(إن) ضمنا وجعلا أداة واحدة، قالت عائشة: (من زعم أنه يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله تعالى، قال الله تعالى: { لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله }.
[27.66]
قوله تعالى: { بل ادارك علمهم في الآخرة }؛ فيه قراءتان، قرأ الحسن والأعمش وشيبة ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف (بل ادارك) بكسر اللام وتشديد الدال؛ أي تدارك وتتابع عليهم في الآخرة، ومنه قوله تعالى:
حتى إذا اداركوا فيها جميعا
[الأعراف: 38]، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ومجاهد (بل أدرك) من الإدراك؛ أي تبع ولحق، كما يقال: أدركه علمي؛ أي بلغه ولحقه. قال ابن عباس: (يريد ما جهلوه في الدنيا، وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة).
وقال السدي: (اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا). وقال مقاتل: (بل علموا في الآخرة حينما عاينوها ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا). { بل هم في شك منها }؛ أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الساعة، { بل هم منها عمون }؛ جمع عم، وهو عمي القلب، وقيل: معنى { بل هم منها عمون } متحيرون بترك التأمل، يقال: رجل عمه وعامه وعم، إذا كان متحيرا، وقوم عمون؛ أي متحيرون، ويجوز أن يكون معنى (ادارك علمهم) أي لحق علمهم ذلك بما نصب لهم من الأدلة، بل هم في شك منها بترك التأمل.
[27.67]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآبآؤنآ أإنا لمخرجون } معناه: وقال كفار مكة: إذا صرنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون من القبور أحياء؟
[27.68]
قوله تعالى: { لقد وعدنا هذا }؛ الذي تخوفنا به من البعث والنشور، ووعد آباؤنا من قبل، فما وجدنا لذلك حقيقة، وما هذا الذي يعدنا محمد إلا أكاذيب الأولين. وقيل: معناه: لقد وعدنا هذا البعث، { نحن وآبآؤنا من قبل } قبل محمد وليس ذلك بشيء، { إن هذآ إلا أساطير الأولين }؛ أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كذبوها.
[27.69]
قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض }؛ أي قل يا محمد: { سيروا }؛ أي سافروا وترددوا في الأرض، { فانظروا كيف كان عقبة المجرمين }؛ آخر أمر المكذبين بالرسل أهلكهم الله بأنواع العقوبات.
[27.70]
قوله تعالى: { ولا تحزن عليهم }؛ أي لا تحزن على تكذيبهم إياك ولا إهلاكهم إن لم يؤمنوا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمانهم ونجاتهم، { ولا تكن في ضيق مما يمكرون }؛ أي لا يضيق صدرك يا محمد بما يمكرونه، وسيظهرك الله عليهم، نزلت هذه الآية في المستهزئين الذين اقتسموا أعقاب مكة، وقد مضت قصتهم.
[27.71]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }؛ أي يقولون على وجه التكذيب: { متى هذا الوعد } الذي يعدنا به في الدنيا والآخرة { إن كنتم صادقين } في أنه يكون.
[27.72]
قوله تعالى: { قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون } أي قل يا محمد: { عسى أن يكون ردف لكم } أي دنا لكم وركبكم بعض ما تستعجلون به من العذاب، لا يجوز أن تكون (عسى) في هذا الموضع بمعنى الشك، إنما هو بمعنى الإيجاب على وجه التخويف، قال ابن عباس: (ردف لكم؛ أي قرب لكم) وقيل: حضر لكم.
والمعنى: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للذين يستعجلون بالعذاب: قد دنا لكم بعض ما تستعجلون، فكان بعض الذي دنا لهم القتل ببدر، والقحط الذي سلط عليهم عقيب هذه الآية حتى أكلوا الجيف، والمعنى في { ردف لكم } أي ردفكم، فأدخل اللام فيه كما أدخلها في قوله تعالى:
لربهم يرهبون
[الأعراف : 154] و
للرءيا تعبرون
[يوسف: 43]، قال الفراء: (اللام صلة زائدة، كما يقولون نقدته ونقدت له).
[27.73-74]
قوله تعالى: { وإن ربك لذو فضل على الناس }؛ قال مقاتل: (معناه: لذو فضل على أهل مكة حتى لا يعجلهم بالعذاب) { ولكن أكثرهم لا يشكرون }؛ وقيل: لذو فضل عليهم بإمهالهم والإنعام عليهم، ولكنهم لا يشكرون فضله عليهم، { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم }؛ أي ما تخفي صدورهم من البغض والعداوة، { وما يعلنون }؛ بألسنتهم من الكفر والتكذيب وعدائه صلى الله عليه وسلم فيجازيهم على ذلك.
[27.75]
قوله تعالى: { وما من غآئبة في السمآء والأرض إلا في كتاب مبين }؛ أي وما من جملة غائبة خافية على أهل السماء والأرض، إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ بين فيه.
[27.76-77]
قوله تعالى: { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل }؛ أي بين لبني إسرائيل، { أكثر الذي هم فيه يختلفون }؛ كاختلاف اليهود والنصارى في المسيح وفي غيره من الأنبياء، وكاختلافهم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم والمبشر به في التوراة، وقوله تعالى: { وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين }؛ أي وإن القرآن لهدى من الضلالة ورحمة من العذاب لمن آمن به.
[27.78]
قوله تعالى: { إن ربك يقضي بينهم بحكمه }؛ أي يقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة بحكمة، { وهو العزيز العليم }؛ أي العزيز بالانتقام من الكفار، العليم بهم وبعقوبتهم، ولا يمكن رد قضائه.
[27.79-80]
قوله تعالى: { فتوكل على الله }؛ أي ثق بالله يا محمد، وفوض أمرك إليه، { إنك على الحق المبين }؛ أي على طريق الإسلام، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { إنك لا تسمع الموتى }؛ هذا مثل للكفار، شبه الله كفار مكة بالأموات، تقول كما لا يسمع الميت النداء، كذلك لا يسمع الكافر النداء، { ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين }؛ قال قتادة: (إن الأصم لو ولى مدبرا وناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان) " والمعنى: أنهم لفرط " إعراضهم عن ما يدعون إليه من التوحيد كالميت الذي لا سبيل إلى إسماعه، وكالأصم الذي لا يسمع.
[27.81]
قوله تعالى: { ومآ أنت بهادي العمي عن ضلالتهم }؛ أي وما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى عن قلبه الإيمان، وقيل: معناه: كما لا يمكن إرشاد الأعمى إلى قصد الطريق بالأمارات الدالة على الطريق، كذلك لا يمكن هداية القوم الذين عميت بصائرهم عن آيات الله، وليس على الرسل عليهم السلام إلا الدعاء إلى الله تعالى.
وقرأ حمزة والأعمش: (وما أنت تهدي العمي) بالتاء ونصب الياء على الفعل ها هنا وفي الروم.
قوله تعالى: { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا }؛ ما سمع سماع إفهام إلا من يؤمن بآياتنا ويطلب الحق بالنظر في القرآن. وقال مقاتل: (إلا من يصدق بالقرآن أنه من الله) { فهم مسلمون }؛ أي مخلصون بتوحيد الله، والمعنى ما سمع دعوتك سماع القبول إلا من يطلب الحق بالنظر في آيات الله، فلا بد أن يسلم في ظهور الدلائل.
[27.82]
قوله تعالى: { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دآبة من الأرض تكلمهم }؛ معناه: وإذا وجب القول عليهم بالسخط والعذاب عند قرب الساعة { أخرجنا لهم دآبة من الأرض } ، فقال قتادة: (إذا غضب الله عليهم وأوجب أن ينزل بهم ما قال الله وحكم به من عذابه وسخطه عليهم) أي على الكفار الذين تخرج عليهم الدابة، وهو قوله تعالى: { أخرجنا لهم دآبة من الأرض تكلمهم } وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. قال مخلد بن الحسين: (لا تخرج الدابة حتى لا يبقى أحد يريد أن يؤمن). قالوا: وتخرج الدابة من صدع في الصفا.
وروي أنه تخرج بين الصفا والمروة، ولا تخرج إلا رأسها وعنقها، فيبلغ رأسها السحاب فيراها أهل المشرق والمغرب فيسمعون كلامها باللسان، فتقول لهم: أيها الكفار مصيركم إلى النار، ثم تقبل على المؤمنين فتقول: أيها المؤمنون مصيركم إلى الجنة، فتميز عند ذلك أهل الجنة من أهل النار.
ويجوز أن يكون قوله { تكلمهم } من الكلم وهو الجراحة، كما روي في قراءة ابن عباس (تكلمهم) بنصب التاء وكسر اللام؛ أي تسمهم، تكتب على وجه الكافر: إنه كافر، وعلى جبين المؤمن: إنه مؤمن.
قال أبو هريرة: (إنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان)، وعن ابن عمرو بن العاص أنه قال: (تكتب على وجه الكافر نكتة سوداء، فتعثوا في وجهه حتى يسود وجهه، وتكتب على وجه المؤمن نكتة بيضاء، فتعثوا في وجهه حتى يبيض وجهه، فتعرف المؤمن من الكافر عند ذلك). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (إذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك الوقت وقت أشراط الساعة وخروج الدابة).
قوله تعالى: { أن الناس }؛ قرأ أهل الكوفة ويعقوب (أن الناس) بفتح الألف على وجه الحكاية من قول الدابة وعلى معنى: أخرجنا الدابة بأن الناس { كانوا بآياتنا لا يوقنون }؛ وقرأ الباقون بالكسر على الابتداء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " بئس الشعب جياد - مرتين أو ثلاثا - " قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: " تخرج منه الدابة، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين " ".
وقال بعضهم: كنت مع ابن عباس بمكة، فبينما هو على الصفا إذ قرع الصفا بعصاة وهو محرم وهو يقول: إن الدابة تسمع قرع عصاي هذه، قال ابن عباس: (هي دابة ذات زغب وريش، ولها أربعة قوائم).
وعن أبي هريرة قال: [تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فيجلوا وجه المؤمن بالعصا، وتحطم وجه الكافر بالخاتم] والمحاطم هي الأنوف، واحدها محطم بكسر الطاء، وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" دابة الأرض طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ".
وعن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: (رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين من مفاصلها اثنا عشر ذراعا، معها عصا موسى وخاتم سليمان).
وقال صلى الله عليه وسلم:
" تخرج الدابة من الصفا، فيبلغ صدرها الركن اليماني، ولم يخرج ذنبها بعد، وهي دابة ذات قوائم وبر "
وعن ابن عمر أنه قال: (تخرج الدابة من صدع في الصفا، تجري كجري الفرس ثلاثة أيام، وما خرج ثلثها ).
وقال صلى الله عليه وسلم:
" بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم حتى يتحرك القنديل في المسجد، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة، فأول ما يبدأ منها رأسها، ذات وبر ورأس لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، تسمي الناس مؤمنا وكافرا، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه: مؤمن، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء، وتكتب بين عينيه: كافر ".
وعن الحسن: (أن موسى سأل ربه أن يريه الدابة، فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء ولم تخرج رجلاها، فنظر منها منظرا فظيعا؛ فقال: رب ردها، فردها).
قوله تعالى: { تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } قال مقاتل: (تكلمهم بالعربية، فتقول: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، تخبر أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث والثواب والعقاب).
[27.83]
قوله تعالى: { ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا }؛ الفوج: الجماعة من الناس كالزمرة والجماعة، وإنما يحشر الرؤساء والمتبوعين، والمعنى: يوم يجمع من كل أمة جماعة من المكذبين بالرسول، وقوله تعالى: { فهم يوزعون }؛ أي يحبسون، يتلاحقون فيساقون إلى الموقف لإقامة الحجة عليهم: وقيل: يحشر أولهم على آخرهم ليجتمعوا ثم يساقوا إلى النار، وقال ابن عباس: (يوزعون أي يدفعون).
[27.84]
قوله تعالى: { حتى إذا جآءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما }؛ أي حتى إذا جاءوا إلى موقف الحساب، قال الله لهم: { أكذبتم بآياتي } استفهام بمعنى الإنكار عليهم، والوعيد لهم، قال ابن عباس: (معناه: أكذبتم أنبيائي وجحدتم فرائضي وحدودي) ولم تحيطوا بها علما؛ أي ولم تخبروا حتى تفقهوا وتسمعوا. وقيل: معناه: { ولم تحيطوا بها علما } أنها باطل. والمعنى: أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها، بل كذبتم بها جهلا بغير علم. وقوله تعالى: { أما ذا كنتم تعملون }؛ حين لم تبحثوا عنها، ولم تتفكروا فيها، وهذا توبيخ لهم وإن كان بلفظ السؤال.
[27.85-86]
قوله تعالى: { ووقع القول عليهم بما ظلموا }؛ أي وجب العذاب عليهم بما أشركوا، { فهم لا ينطقون }؛ بحجة عن أنفسهم، بل يختم على أفواههم. ونظيره قوله تعالى:
هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون
[المرسلات: 35-36].
قوله تعالى: { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا }؛ أي مضيئا لطلب المعاش، قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون }؛ أي أن فيما ذكرنا من اختلاف الليل والنهار لدلالات للمؤمنين والكافرين، ولكنه خص المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالذكر.
[27.87]
قوله تعالى: { ويوم ينفخ في الصور }؛ قال ابن عباس: (يعني النفخة الأولى؛ وهي نفخة الصعق) { ففزع من في السموت ومن في الأرض }؛ أي ماتوا من شدة الخوف كقوله تعالى
فصعق من في السموت ومن في الأرض
[الزمر: 68]، والمعنى: بلغ منهم الفزع إلى أن يموتوا.
وقوله: { إلا من شآء الله }؛ قال ابن عباس: (يريد الشهداء وهم أحياء عند ربهم يرزقون)، وقال الكلبي ومقاتل: (يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت). وقوله تعالى: { وكل أتوه داخرين }؛ أي كل الخلائق يأتون إلى موضع الجزاء أذلاء صاغرين.
وأما النفخة الثانية فتسمى نفخة البعث، وبينهما أربعون سنة. ويقال: ينفخ في الصور ثلاث نفخات؛ الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق وهو الموت، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين.
وعن عبدالله بن عمر قال:
" جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الصور، فقال: " هو قرن ينفخ فيه "
وقال مجاهد: (هو كهيئة البوق).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " لما فرغ الله من السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص يبصر نحو العرش، ينظر متى يؤمر " قال: قلت يا رسول الله! وما الصور؟ قال: " هو قرن " قلت: كيف هو؟ قال: " عظيم، والذي بعثني بالحق إن عظم دائرة فيه كعظم السماوات والأرض. فينفخ ثلاث نفخات؛ النفخة الأولى نفخة الفزع، والنفخة الثانية نفخة الصعق، والنفخة الثالثة نفخة القيام لرب العالمين.
فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول له: انفخ نفخة الفزع، فيفزع منها أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره أن يمدها ويطيلها وهو الذي يقول الله { وما ينظر هؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } ، ويسير الله الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا، وترج الأرض بأهلها رجا، فتكون كالسفينة الموثقة في البحر، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح، وكالقنديل المعلق ترجه الرياح، وهو قوله تعالى { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة } فتميد الأرض بالناس على ظهرها، فتذهل المراضع؛ وتضع الحوامل؛ ويشيب الأطفال، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، وتولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهو قوله تعالى { يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم }. فبينما هم كذلك؛ إذ تصدعت الأرض، وتصير السماء كالمهل، وتنشق الأرض وتنشر نجومها وتكسف شمسها وقمرها. ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " ".
وقوله تعالى: { وكل أتوه داخرين } ، قرأ الأعمش وحمزة وخلف (أتوه) مقصورا على الفعل بمعنى جاءوه. وقرأ الباقون بالمد وضم التاء، قوله تعالى: { داخرين } أي صاغرين.
[27.88]
قوله تعالى: { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب }؛ أي تحسبها يا محمد واقفة مستقرة فكأنها وتظنها ساكنة لا تتحرك في رأي العين، وهي تسير في الهواء سيرا سريعا، وترى السفينة تحسبها واقفة وهي سائرة، وقوله تعالى: { وهي تمر مر السحاب } تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها.
قوله تعالى: { صنع الله الذي أتقن كل شيء }؛ نصب على المصدر؛ كأنه قال: صنع الله ذلك صنعا على الإتقان والإحكام. وقيل: على الإغراء؛ أي أبصروا صنع الله الذي أتقن كل شيء؛ أي أحكم وأبرم ما خلق. ومعنى الإتقان في اللغة: الإحكام للأشياء.
وقوله تعالى: { إنه خبير بما تفعلون }؛ قرأ نافع وابن عامر والكوفيون بالتاء، والباقون بالياء، والمعنى: إنه خبير بما يفعله أعداؤه من المعصية والكفر، وبما يفعله أولياؤه من الطاعة.
[27.89]
قوله تعالى: { من جآء بالحسنة فله خير منها }؛ معناه: من وافى عرصات القيامة بالحسنات، فله ثواب آجر وأنفع منها. وقيل: معناه: من جاء بالإيمان. قال أبو معشر: (كان إبراهيم يحلف ما ينثني: أن الحسنة لا إله إلا الله). وقتادة: (الحسنة هي الإخلاص). والمعنى: من جاء بكلمة الإخلاص بشهادة أن لا إله إلا الله يوم القيامة؛ أي من وافى يوم القيامة بالإيمان فله خير منها. قال ابن عباس: (فمنها يصل الخير إليه) أي له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب. و(خير) ها هنا اسم من غير تفضيل؛ لأنه ليس خير من لا إله إلا الله، ولكنه منها خير.
وقال بعضهم: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال لي: (ألا أنبؤك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة، والسيئة التي من جاء بها أدخله الله النار، ولم يقبل منه عملا؟) قلت: بلى، قال: (الحسنة حبنا، والسيئة بغضنا). ومعنى { خير منها }: رضوان الله. وقيل: الأضعاف بعطية الله بالواحدة عشرا فصاعدا.
قوله تعالى: { وهم من فزع يومئذ آمنون }؛ قرأ أهل الكوفة (فزع) منونا بنصب الميم، وقرأ الباقون بالإضافة، واختاره أبو عبيد لأنه أعم ويكون شاملا لجميع فزع ذلك اليوم، وإذا كان منونا كان الفزع دون فزع.
وقال أبو علي الفارسي: (إذا نون يجوز أن يكون الفزع واحدا، ويجوز أن يعني به الكثرة لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإن كانت مفردة الألفاظ كقوله سبحانه:
وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير
[لقمان: 19]). قال الكلبي: (إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها أبدا، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع).
[27.90]
قوله تعالى: { ومن جآء بالسيئة فكبت وجوههم في النار }؛ أي من وافى بالشرك والكبائر { فكبت وجوههم في النار } أي ألقوا على وجوههم في النار، ويقول لهم خزنة جهنم: { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون }؛ في الدنيا من الشرك.
[27.91-92]
قوله تعالى: { إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها }؛ أي قل يا محمد للمشركين: { إنمآ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة } يعني مكة { الذي حرمها } أي الذي حرم فيها ما أحل في غيرها من الاصطياد؛ والاختلاء؛ والقتل؛ والسبي؛ والظلم، وأن لا يهاج فيها أحد حتى يخرج منها، فلا يصاد صيدها ولا يختلى خلالها.
وقيل: معنى { حرمها } أي عظم حرمتها، فجعل لها من الأمن ما لم يجعل لغيرها. وقوله تعالى: { وله كل شيء }؛ لأنه خالقه ومالكه. وقرأ ابن عباس (التي حرمها) أشار إلى البلدة.
وقوله تعالى: { وأمرت أن أكون من المسلمين }؛ أي وأمرت أن أكون من المسلمين المخلصين لله بالتوحيد، { وأن أتلو القرآن }؛ عليكم يا أهل مكة، يريد تلاوة الدعوة إلى الإيمان. وفي الآية تعظيم لأمر الإسلام وتلاوة القرآن.
قوله تعالى: { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه }؛ أي من اهتدى فإنما منفعة اهتدائه راجعة إلى نفسه، { ومن ضل }؛ أي ضل عن الإيمان والقرآن وأخطأ طريق الهدى، { فقل إنمآ أنا من المنذرين }؛ أي من المخوفين، فليس علي إلا البلاغ، فإني لم أومر بالإجبار على الهدى، وليس علي إلا الإنذار، وكان هذا قبل الأمر بالقتال.
[27.93]
قوله تعالى: { وقل الحمد لله }؛ أي قل الحمد لله على نعمه، { سيريكم آياته }؛ يعني العذاب في الدنيا، والقتل ببدر، { فتعرفونها }؛ حين تشاهدونها، ثم أراهم ذلك، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وعجلهم الله إلى النار، { وما ربك بغافل عما تعملون }؛ من المنكر والكفر والفساد، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.
وعن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة النمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من كذب وصدق بموسى وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم واسحاق ويعقوب وسليمان عليهم السلام، وخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا الله ".
[28 - سورة القصص]
[28.1-3]
{ طسم * تلك آيات الكتاب المبين }؛ قد تقدم تفسيره، وقوله تعالى: { نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق }؛ أي نقرأ عليك خبر موسى وفرعون بالصدق بينهما، { لقوم يؤمنون }.
[28.4]
قوله تعالى: { إن فرعون علا في الأرض }؛ أي تجبر وتكبر في أرض مصر { وجعل أهلها شيعا }؛ أي فرقا وأصنافا في الخدمة والتسخير؛ يكرم قوما ويذل آخرين. وقوله تعالى: { يستضعف طآئفة منهم }؛ يعني بني إسرائيل، ثم فسر ذلك فقال: { يذبح أبنآءهم ويستحيي نساءهم }؛ يقتل الأبناء ويترك البنات فلا يقتلهن. وقيل: معناه: يذبح أبناءهم صغارا ويبقي نساءهم للخدمة.
وسبب ذلك: أن بعض الكهنة قالوا له: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سببا لذهاب ملكك. قال الزجاج: (والعجب من حمق فرعون إن كان ذلك الكاهن عنده صادقا فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟). وقوله تعالى: { إنه كان من المفسدين }؛ يعني بالقتل والعمل بالمعاصي.
[28.5-6]
قوله تعالى: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض }؛ أي نريد أن ننعم على الذين استضعفوا في الأرض وهم بنو إسرائيل، { ونجعلهم أئمة }؛ يقتدى بهم في الخير. قال قتادة: (ولاة وملوكا) ودليله قوله تعالى:
وجعلكم ملوكا
[المائدة: 20] { ونجعلهم الوارثين }؛ لملك فرعون، ولمساكن قومه، يرثون ديارهم وأموالهم. قوله تعالى: { ونمكن لهم في الأرض }؛ أي يمكنهم ما كان يملك فرعون.
قوله تعالى: { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون }؛ أي ما كانوا يخافونه من هذا المولود الذي به يذهب ملكهم على يديه، وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل، فكانوا على وجل منهم فأراهم الله تعالى { ما كانوا يحذرون } أي ما كانوا يخافون من جهتهم من ذهاب ملكهم على أيديهم.
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (ويري فرعون) بالياء وما بعده رفعا على أن الفعل لهم، وقرأ الباقون بالنون مضمومة وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهم.
[28.7]
قوله تعالى: { وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه }؛ لم يرد بالوحي وحي الرسالة، وإنما أراد الإلهام كما في قوله تعالى
وأوحى ربك إلى النحل
[النحل: 68]. ويقال: أراها الله في المنام فعرفته بتفسير الرؤيا. وقال بعضهم: أتاها ملائكة خاطبوها بهذا الكلام. واسم أم موسى نوخابد بنت لاوي بن يعقوب.
قال وهب بن منبه: (لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها عن جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله تعالى، فلما كانت السنة التي ولد فيها موسى بعث فرعون القوابل يفتشن النساء، وحملت أم موسى ولم ينتأ بطنها، ولم يتغير لونها، ولم يظهر لبنها، وكانت القوابل لا تتعرض لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابلة، لم يطلع عليه أحد إلا أخته).
ثم أوحى الله إليها: أن أرضعيه، { فإذا خفت عليه فألقيه في اليم }؛ قال: فكتمته ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك، فلما خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا ومهدت له فيه، ثم ألقته في البحر ليلا كما أمرها الله، فلما أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النيل، فبصر بالتابوت، فقال لمن حوله: ائتوني بهذا التابوت، فأتوا به، فلما وضع بين يديه فتحوه، فوجدوا فيه موسى، فلما نظر إليه فرعون إغتاظ وقال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟!
وكان لفرعون امرأة يقال لها آسية من خيار النساء من بنات الأنبياء، وكانت أما للمسلمين ترحمهم وتتصدق عليهم، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الولد أكبر من ولد سنة وأنت إنما أمرت أن تذبح الولدان بهذه السنة، فدعه يكون قرة عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، فقال فرعون لها: عسى أن ينفعك، فأما أنا فلا أريد نفعه.
قال وهب: (لو قال فرعون كما قالت امرأته: عسى أن ينفعنا؛ لنفعه الله به، ولكنه أبى أن يقول للشقاء الذي كتبه الله عليه، فتركه فرعون ولم يقتله)
قوله تعالى: { أن أرضعيه } أي أرضعيه ما لم تخافي عليه الطلب، فإذا خفت عليه الطلب { فألقيه في اليم } أي في البحر، فقالت: يا رب، إني أخاف عليه حيتان البحر، فأمرت أن تجعله في تابوت مقير، فذهبت إلى النجار، فأمرته أن يصنع لها تابوتا على قدره، فعرف ذلك فذهب إلى الموكلين بذبح بني إسرائيل ليخبرهم بذلك، فلما انتهى إليهم أعقل لسانه فلم يطق الكلام، فجعل يشير بيده فلم يفهموا، فقال كبيرهم: اضربوه؛ فضربوه وأخرجوه، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه، فرجع إليهم ليخبرهم فاعتقل لسانه، فجعل يشير إليهم بيده، فلم يفهموه فضربوه، ففعل ذلك ثلاث مرات، فعرف أنه من عند الله تعالى، فخر لله ساجدا وأسلم، ثم صنع التابوت وسلمه إلى أم موسى فوضعته فيه وألقته في النيل.
قوله تعالى: { ولا تخافي ولا تحزني }؛ أي لا تخافي من الغرق والهلاك، ولا تحزني لفراقه، { إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين }؛ إلى فرعون وقومه.
[28.8]
قوله تعالى: { فالتقطه آل فرعون }؛ قال ابن عباس: (لما ألقته أمه في البحر أقبل تهوي به الأمواج حتى اختار منزل فرعون، فخرجت جواري فرعون تسقين الماء، فأبصرت التابوت بين الشجر والماء فأخرجته وذهبت به إلى امرأة فرعون، فذلك قوله تعالى { فالتقطه آل فرعون }.
وقوله تعالى: { ليكون لهم عدوا وحزنا }؛ هذه (لام) العاقبة لأن أحدا لا يلتقط الولد ليكون له عدوا، ونظير هذا قولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب. وقوله تعالى { وحزنا } ، قرأ أهل الكوفة إلا عاصما بضم الحاء وجزم الزاي وهما لغتان، مثل السقم والسقم.
قوله تعالى: { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين }؛ أي متعمدين في الإقامة على الكفر والمعصية، يقال: خطأ فلان يخطئ خطأ إذا تعمد الذنب وأخطأ إذا وقع منه على غير الصواب، وقيل: معناه: إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا آثمين عاصين.
[28.9]
قوله تعالى: { وقالت امرأة فرعون قرت عين لي ولك }؛ وذلك أن فرعون هم بقتله، فقالت له امرأته: ليس من أولاد بني إسرائيل، وقد أتانا الله به من أرض أخرى، { لا تقتلوه عسى أن ينفعنا } ، فلا تقتله أيها الملك، فهو قرة عين لي ولك، وعسى أن ينفعنا في أمورنا، { أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون }؛ أن هلاكهم على يديه، وقيل: وهم لا يشعرون أني أفعل ما أريد ولا أفعل ما يهوون.
قوله تعالى: { قرت عين } مشتق من القرور؛ وهو الماء البارد، ومعنى قولهم: أقر الله عينك؛ أي أبرده معك؛ لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة.
[28.10]
قوله تعالى: { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا }؛ أي أصبح قلب أم موسى وهي نوخابد بنت لاوي بن يعقوب فارغا من كل شيء إلا عن هم موسى وذكره. قوله تعالى: { إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها }؛ أي لولا أن شددنا على قلبها بالصبر عن إظهار ذلك، { لتكون من المؤمنين }؛ أي من المصدقين بما سبق من الوعد، وهو قوله تعالى :
إنا رآدوه إليك
[القصص: 7] ولو أظهرت لكان ذلك سببا لقتله.
والربط على القلب: هو إلهام الصبر وتقويته. وقيل: معناه: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من الصبر على فراق موسى لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت به. وقيل: فارغا من الحزن لعلمها بأنه لم يعرفه. قرأ فضالة بن عبيد (وأصبح فؤاد أم موسى فزعا) بالزاي والعين من غير ألف من الفزع.
[28.11]
قوله تعالى: { وقالت لأخته قصيه }؛ أي قالت أم موسى لأخته - واسمها مريم -: ابتغي أثره وانظري أين وقع؛ لتعلمي خبره وإلى من صار، فذهبت في إثر التابوت، { فبصرت به }؛ بموسى، { عن جنب }؛ أي عن بعد قد أخذوه، { وهم لا يشعرون }؛ أنها قد جاءت لتعرف عن خبره.
وقال ابن عباس: (الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به) وكانت مجانبة لتحديق النظر إليه كيلا يعلم بما قصدت به. وقال قتادة: (كانت تنظر إليه كأنها لا تريده)، وكان يقرأ (عن جنب) بفتح الجيم وسكون النون. وقرأ النعمان بن سالم: (عن جانب) أي عن ناحية { وهم لا يشعرون } أنها أخته.
[28.12-13]
قوله تعالى: { وحرمنا عليه المراضع من قبل }؛ المراضع جمع مرضعة، وقوله تعالى: { من قبل } أي من قبل مجيء أمه، ومعنى: { وحرمنا عليه } أي منعناه، وقد يذكر التحريم بمعنى المنع، قال الشاعر:
جاءت لسرعتي فقلت لها اصبري
إني امرؤ صرعي عليك حرام
أي ممتنع.
وذلك أن الله تعالى أراد أن يرده إلى أمه، فمنعه من قبول ثدي المراضع، فلما تعذر عليهم رضاعه؛ { فقالت }؛ أخته: { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم }؛ أي يضمنون لكم القيام به ورضاعه، { وهم له ناصحون }؛ أي يشفقون عليه وينصحونه، قالوا لها: من؟ قالت: أمي، قالوا: ولأمك لبن؟ قالت: نعم؛ لبن أخي هارون، وكان هارون ولد في سنة لا يقتل فيها صبي، فقالوا: صدقت. فدلتهم على أم موسى، فدفع إليها لتربيه لهم.
فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثدييها وأتمها الله ما وعدها وهو قوله تعالى: { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن }؛ على فراقه، { ولتعلم أن وعد الله }؛ برد ولدها إليها، { حق ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الله وعدها برد ولدها إليها.
[28.14]
قوله تعالى: { ولما بلغ أشده واستوى }؛ قال مجاهد: (بلغ أشده؛ أي ثلاثا وثلاثين سنة)، { واستوى } أي بلغ أربعين سنة، وهو قول ابن عباس وقتادة.
قوله تعالى: { آتيناه حكما وعلما } يعني الفقه والعقل والعلم في دينه ودين آبائه، قد تعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبيا. وقال ابن عباس: (لما بلغ موسى أربعين سنة آتاه الله النبوة). وقيل: الأشد: منتهى الشباب والقوة، والاستواء: إتمام الخلق واعتدال الجسم في الطول والعظم، وإنما يبلغ المرء هذا الحد في اثنين وعشرين سنة إلى أربعين سنة.
قوله تعالى: { وكذلك نجزي المحسنين }؛ فيه بيان أن إنشاء العلم والحكمة يجوز أن يكون على الإحسان؛ لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين.
[28.15-17]
قوله تعالى: { ودخل المدينة }؛ أي دخل موسى مدينة فرعون وهي مدينة يقال لها منف، وكانت من مصر على فرسخين. وقوله تعالى: { على حين غفلة من أهلها } ، قال ابن عباس: (في وقت الظهيرة عند المقيل وقد خلت الطرق).
وقيل: دخلها بين المغرب والعشاء، وقيل: دخلها يوم عيدهم وكانوا مشغولين عن موضع مدينتهم باللهو واللعب، { فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته }؛ أي من بني إسرائيل، { وهذا من عدوه }؛ أي من القبط، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل له حطبا إلى مطبخ فرعون، والإسرائيلي يأبى ذلك، { فاستغاثه الذي من شيعته }؛ أي استنصره الإسرائيلي، { على الذي من عدوه } ، على القبطي، { فوكزه موسى }؛ أي ضربه بجمع كفه في صدره، { فقضى عليه }؛ أي قتله فوقع القبطي ميتا. وكل شيء فرغت منه وأتممته فقد قضيت عليه وقضيته، والوكز: الضرب بجمع الكف.
وكان موسى عليه السلام قد أوتي بسطة في الخلق وشدة القوة والبطش، وكان من نية موسى أنه لا يريد قتله ولم يتعمد هلاكه، بل قال له أولا: خل سبيله، فقال: إنما أريده ليحمل الحطب إلى مطبخ فرعون، { فوكزه موسى فقضى عليه } أي قتله وفرغ من أمره، والوكز واللكز والهز بمعنى واحد وهو الدفع، ويقال: وكزه بعصاه.
فلما قتله موسى عليه السلام ندم على قتله وقال: لم أدر بهذا، ثم دفعه في الرمل، { قال هذا من عمل الشيطان }؛ لأني كنت لا أريد قتله، ولكن هيج الشيطان حربي حتى ضربته. قوله تعالى: { إنه عدو مضل مبين }؛ أي عدو لبني آدم مضل له مبين عداوته لهم.
ثم استغفر موسى ربه ف { قال رب إني ظلمت نفسي }؛ بقتل القبطي قبل ورود الأمر والإذن لي فيه، { فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } قوله تعالى: { قال رب بمآ أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين }؛ أي بما أنعمت علي بالمغفرة والحلم والعلم فلن أكون عونا للكافرين، وهذا يدل على أن الإسرائيلي الذي أعانه موسى كان كافرا.
[28.18-19]
قوله تعالى: { فأصبح في المدينة خآئفا يترقب }؛ أي أصبح من عند ذلك اليوم في تلك المدينة التي فعل فيها ما فعل خائفا على نفسه من فرعون وقومه { يترقب } أي ينظر عاقبة أمره، والترقب: انتظار المكروه؛ أي ينتظر سوءا يناله منهم، { فإذا }؛ ذلك الإسرائيلي، { الذي استنصره بالأمس يستصرخه }؛ أي يستغيثه على رجل آخر من القبط، { قال له موسى إنك لغوي مبين }؛ أي ضال عن طريق الحق بين الجدال، يقاتل من يقاومه، وقد قتلت أمس في سببك رجلا، وتدعوني اليوم إلى آخر.
ثم أقبل موسى وهم أن يبطش الثانية بالقبطي، ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به لقوله { إنك لغوي مبين } فقال الإسرائيلي: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ولم يكن أحد من قوم فرعون علم أن موسى هو الذي قتل القبطي حتى أفشى عليه هذا الإسرائيلي، وسمع القبطي ذلك فأتى فرعون فأخبره، وذلك معنى قوله تعالى: { فلمآ أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس }؛ وكان أيضا هذا القبطي الثاني سخر الإسرائيلي يحمل عليه حطبا.
قوله تعالى: { إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض }؛ أي ما تريد إلا أن تكون قتالا في أرض مصر بالظلم. قال الزجاج: (الجبار في اللغة: الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار).
وقوله تعالى: { وما تريد أن تكون من المصلحين }؛ أي من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. فلما سمع القبطي مقالة الإسرائيلي علم أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، ولم يكن أحد علم ذلك قبل هذا فانطلق القبطي فأخبر فرعون، فأرسل فرعون إلى أولياء المقتول أن اقتلوا موسى.
[28.20-21]
قوله تعالى: { وجآء رجل }؛ من شيعة موسى، { من أقصى المدينة }؛ أي من آخرها إلى موسى فأخبره بذلك، وقوله تعالى: { يسعى }؛ أي يمشي على رجليه مسرعا وهو حزقيل بن صوريا مؤمن من آل فرعون، { قال }؛ له: { يموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك }؛ أي أن الخواص من قوم فرعون يتشاورون في قتلك، { فاخرج }؛ من المدينة، { إني لك من الناصحين }؛ وقال الزجاج: (يأتمرون أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك). فاخرج إني لك من الناصحين في أمري لك بالخروج، { فخرج منها خآئفا }؛ أي خرج موسى من المدينة، { يترقب }؛ أي ينظر متى يلحق فيؤخذ، { قال }؛ عند ذلك: { رب نجني من القوم الظالمين }؛ أي من فرعون وقومه أين يذهب.
[28.22]
قوله تعالى: { ولما توجه تلقآء مدين }؛ أي لما سار نحو مدين، وكان قد خرج بغير زاد ولا حذاء ولا ركوبة، بل خرج هائما على وجهه هاربا من فرعون وقومه لا يدري أين يذهب، فخاف أن يخطئ الطريق. ومدين اسم ماء لقوم شعيب، وبينه وبين مصر ثمانية أيام، سمي ذلك الماء باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام.
فلما لم يكن لموسى علم بالطريق خشي أن يذهب يمينا وشمالا ف { قال عسى ربي أن يهديني سوآء السبيل }؛ أي يرشدني قصد الطريق إلى مدين، فلما دعا موسى بهذا جاءه ملك على فرس فانطلق به إلى مدين. قال المفسرون: خرج موسى من مصر بلا زاد ولا درهم ولا ركوبة إلى مدين، وبينهما مسيرة ثمان ليال، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر.
[28.23]
قوله تعالى: { ولما ورد مآء مدين }؛ أي بلغ بئرهم التي كانوا يسقون منها، قال ابن عباس: (ورد ماءهم وأنه ليرى خضرة الشجرة في بطنه من الهزال). وقوله: { وجد عليه أمة من الناس يسقون }؛ أي وجد على ذلك الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم مواشيهم، { ووجد من دونهم امرأتين تذودان }؛ أي تحبسان غنمهما عن الماء حتى تفرغ الناس ويخلو لهما الماء، وهما بنتا شعيب.
والذود في اللغة: الطرد والدفع والكف، ومعنى { تذودان } تدفعان وتكفان الغنم من أن يخلط بأغنام الناس، وحتى يقرب الماء إلى أن يفرغ القوم.
قوله تعالى: { قال ما خطبكما }؛ أي قال موسى لابنتي شعيب: { ما خطبكما } أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعآء }؛ قرأ الحسن وابن عامر وأبو عمرو بفتح الياء وضم الدال، جعلوا الفعل للرعاء؛ أي حتى يرجع الرعاء عن الماء، وقرأ الباقون (يصدر) بضم الياء وضم الدال؛ أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم، فيخلوا لنا الموضع فنسقي أغنامنا فضل ما في الحوض. والرعاء جمع راع.
قال ابن اسحاق: (قالتا: نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال { وأبونا شيخ كبير }؛ لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر والضعف، وليس له أحد غيرنا، فلذلك احتجنا ونحن نساء أن نسقي الغنم.
[28.24]
قوله تعالى: { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل }؛ فلما سمع موسى قولهما رحمهما، فقام ليسقي لهما غنمهما، فوجد بقربهما بئرا أخرى على رأسها صخرة عظيمة لا يطيق رفعها إلا جماعة من الناس، فاقتلعها وحده ثم أخذ الدلو من القوم، فأدلاها في البئر، ونزعها وأفرغها في الحوض، ثم دعا بالبركة فشرب الغنم حتى روي.
وقيل: إنه زاحم القوم على بئرهم وسقى لهما غنمهما، فذلك قوله تعالى: { فسقى لهما } أي سقى لهما أغنامهما قبل الوقت الذي كانا يسقيان فيه، ثم رجع من الشمس إلى ظل شجرة فجلس تحتها من شدة الحر، وهو جائع، { فقال رب إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير }؛ أي إني لمحتاج فقير إلى ما قدرت لي من الطعام، وكان خرج من مصر بغير زاد وكان لا يأكل في الأيام الثمانية إلا الحشيش والشجر إلى أن بلغ ماء مدين، فلما أدركه الجوع الشديد؛ وكان لا يقدر على شيء؛ سأل الله أكله من الطعام.
قال ابن عباس: (سأل الله فلق خبز أن يقيم به صلبه)، قال سعيد بن جبير: (لقد قال موسى: إني لما أنزلت إلي من خبز فقير، وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة)، وقال محمد: (ما سأل الله إلا الخبز). واللام في قوله تعالى { إني لمآ أنزلت } بمعنى: إلي، يقال: فقراء وفقير إليه.
[28.25]
قوله تعالى: { فجآءته إحداهما تمشي على استحيآء }؛ وذلك أن موسى عليه السلام لما سقى لهما، رجعا إلى أبيهما سريعا، فقال لهما أبوهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا، فسقى لنا أغنامنا، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، فجاءته تمشي مستحية مشي من لا يعتاد الدخول والخروج، واضعة كفها على وجهها، معرضة من الحياء، وكانت التي أرسلها أبوها إلى موسى هي الصغرى منهما، واسمها صورا، قال عمر بن الخطاب في قوله تعالى: { فجآءته إحداهما تمشي على استحيآء }: (واضعة ثوبها على وجهها؛ أي مستترة بكم ذراعها). قال أهل اللغة: السلفع: الجريئة التي هي غير مستحية.
وقوله تعالى: { قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } أي ليعطيك ذلك، فلما قالت ذلك لموسى شق عليه قولها، وهم أن لا يتبعها وكان بينه وبين أبيها مقدار ثلاثة أميال، ثم إنه لم يجد بدا من اتباعها؛ لأجل الجهد والجوع الذي حل به ولأجل الخوف الذي خرج لأجله، فانطلق معها، وكانت الريح تضرب ثوبها فنكرته بردفها فتصف له عجيزتها، وكانت ذات عجز، فجعل موسى يغض بصره ويعرض عنها، ثم قال لها: (يا أمة الله كوني خلفي، وانعتي لي الطريق بقولك، ودليني عليها إن أنا أخطأت، فإنا بنوا يعقوب لا نستطيع النظر إلى أعجاز النساء).
قوله تعالى: { فلما جآءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين }؛ أي فلما جاء موسى إلى شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ، فقال له شعيب: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل من أهل مصر، وحدثه بما كان منه من قتل القبطي وفراره من فرعون، فقال له شعيب: إجلس { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } أي نجوت من فرعون وقومه، فإنهم لا سلطان لهم بأرضنا، ولسنا مملكته.
فجلس معه موسى عليه السلام فقال له شعيب: هاك فتعش، فقال: أعوذ بالله، فقال له شعيب: ولم ذلك وأنت جائع؟ قال: أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لكم، وإنا أهل بيت لا يبغ شيئا من عمل الآخرة بملئ الأرض ذهبا، فقال شعيب: لا والله! ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى عليه السلام يتعشى حينئذ.
[28.26-28]
قوله تعالى: { قالت إحداهما يأبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين }؛ أي قالت إحداهما وهي التي تزوجها موسى: يا أبت اتخذه أجيرا يرعى لنا غنمنا، فإن خير من استأجرت الذي يقوى على العمل، ويؤدي الأمانة.
فقال لها أبوها: وما علمك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته فإنه لما رأى أغنامنا محبوسة عن الماء، قال لنا: هل بقربكما بئر؟ قلنا: نعم؛ لكن عليها صخرة عظيمة لا يرفعها إلا أربعون رجلا، قال: انطلقا بي إليها، فانطلقا به إليها، فأخذ الصخرة بيده ونحاها سهلا من غير كلفة. وأما أمانته فإنه قال لي في بعض الطريق: إمش خلفي، فإن أخطأت الطريق فارم قبلي بحصاة حتى أنهج نهجا، فإنا قوم لا ننظر إلى وراء النساء. ولهذا المعنى قال عمر رضي الله عنه: (لا يصلح لأمور المسلمين إلا القوي من غير عنف، والرقيق من غير ضعف).
قال فلما ذكرت المرأة من حال موسى ازداد أبوها رغبة فيه و { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج }؛ أي على أن ترعى غنمي، ويكون فيها أجرا إلى ثمان سنين، { فإن أتممت عشرا فمن عندك }؛ فهو بفضل منك ليس بواجب عليك، { ومآ أريد أن أشق عليك }؛ في العشر، ولا أكلفك إلا العمل المشروط، والمراد بالحجج السنين. قوله تعالى: { ستجدني إن شاء الله من الصالحين }؛ ممن وافق فعله. وقيل: ستجدني إن شاء الله من الوافين بالعهد، المحسنين الصحبة.
ف { قال } موسى لشعيب : { ذلك }؛ الشرط { بيني وبينك }؛ يعني الذي وصفت وشرطت على ذلك، وما شرطت لي من تزويج إحداهما علي فلي، والأمر بيننا. وثم السلام. ثم قال: { أيما الأجلين }؛ أي الأجلين من الثمان أو العشر، { قضيت }؛ أي أتممت وفرغت، { فلا عدوان علي }؛ أي لا ظلم ولا حرج ولا كلفة. قال الفراء: (ما) صلة في قوله: { أيما الأجلين }.
وقوله تعالى: { والله على ما نقول وكيل }؛ أي شهيد على ما عقد بعضنا على بعض. قال ابن عباس: (والله شهيد بيني وبينك).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: " أوفاهما وأبطئهما "
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" وإذا سئلت عن أي الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما أو أبرهما، وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما والتي جاءت فقالت: يا أبت استأجره ".
[28.29]
قوله تعالى: { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله }؛ أي فلما وفى موسى أتم الأجلين وهو عشر سنين، وسار بأهله نحو مصر، قال مقاتل: (استأذن موسى صهره شعيب في العود إلى مصر لزيارة والديه وأخته. فأذن له، فسار بأهله نحو مصر؛ { آنس من جانب الطور } فأبصر بالليل الظليم عن يسار الطريق، أي الجبل، { نارا قال لأهله امكثوا }؛ أي انزلوا ها هنا، { إني آنست }؛ أي أبصرت، { نارا لعلي آتيكم منها بخبر }؛ أي من عند النار بخبر، وأعلم لم أوقدت تلك النار. ويقال: كانت أخطأ الطريق فأراد أن يسأل عن الطريق من يجده عند النار. وقوله تعالى: { أو جذوة من النار }؛ معناه: أو آتيكم بقطعة من الحطب في رأسها شعلة من النار لكي تدفئوا من البرد، وكانوا في شدة الشتاء).
وفي قوله { جذوة } ثلاث قراءات: فتح الجيم وهي قراءة عاصم، وضمها وهي قراءة حمزة، وكسرها وهي قراءة الباقين، وقوله تعالى: { لعلكم تصطلون }؛ أي تدفئون بها عن البرد.
[28.30]
قوله تعالى: { فلمآ أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة }؛ أي فلما أتى موسى النار نودي من جانب الوادي الأيمن أراد يمين موسى، وقوله تعالى { في البقعة المباركة } أي المقدسة، وقوله تعالى: { من الشجرة } أي من الشجرة وهي شجرة العناب في قول ابن عباس، وقال مقاتل: (هي عوسجة)، وسميت البقعة مباركة؛ لأن الله كلم موسى فيها وبعثه نبيا. وقوله تعالى: { أن يموسى إني أنا الله رب العالمين }؛ قد تقدم تفسيره.
[28.31]
قوله تعالى: { وأن ألق عصاك }؛ أي نودي بأن ألق عصاك من يدك، وموضع (أن ألق) نصب، { فلما رآها تهتز كأنها جآن }؛ أي فلما رآها بعد ما ألقاها تتحرك في غاية الاضطراب كأنها جان في الخفة مع عظمها، { ولى مدبرا }؛ أي هاربا، { ولم يعقب }؛ أي ولم يلتفت إلى ما رآه، فقال الله له: { يموسى أقبل } ، إليها، { ولا تخف } منها؛ { إنك من الآمنين } من أن ينالك منها مكروه، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت، ويقال سميت جان في هذه الآية؛ لأنها صارت جانا في البقعة المباركة، وثعبانا عند فرعون.
[28.32]
قوله تعالى: { اسلك يدك في جيبك }؛ أي أدخلها في جيبك، { تخرج بيضآء }؛ لها شعاع كشعاع الشمس، { من غير سوء }؛ أي من غير برص، { واضمم إليك جناحك من الرهب }؛ أي ضع يدك على صدرك ليسكن ما بك من الفزع، فتصير آمنا مما كنت تخافه، وهذا لأن من شأن الخائف أن يرتعد ويقلق فيكون ضم يده إلى نفسه في معنى السكون.
قال مجاهد: (كل من فزع فضم جناحيه إليه ذهب عنه الفزع، وقرأ هذه الآية). وجناح الإنسان: عضده، ويقال: اليد كلها جناح. وقال بعضهم: معنى قوله { واضمم إليك جناحك } أي سكن روعك، وضم الجناح هو السكون، ومنه قوله تعالى:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
[الإسراء: 24] يريد الرفق، وكذلك قوله تعالى:
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
[الشعراء: 215] أي ارفق بهم، وألن جناحك بهم. وقال الفراء (أراد بالجناح العصا). وقوله تعالى { من الرهب } وقرئ (من الرهب) أيضا وهما لغتان مثل الرشد والرشد، ويقال: إن قوله (من الرهب) متصل بقوله (من الآمنين).
قوله تعالى: { فذانك برهانان من ربك }؛ يعني اليد والعصا حجتان من الله لموسى على صدقه، والمعنى: هما حجتان من ربك أرسلناك بهما { إلى فرعون وملئه }؛ أي أشراف قومه، { إنهم كانوا قوما فاسقين }؛ أي خارجين عن طاعة الله تعالى، " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون " وقرأ الباقون بالتخفيف. قال الزجاج: (التشديد تثنية ذلك، والتخفيف تثنية ذاك).
[28.33-34]
قوله تعالى: { قال رب إني قتلت منهم نفسا }؛ يعني القبطي الذي قتله، { فأخاف أن يقتلون } ، { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا }؛ أي أبين مني كلاما وأحسن بيانا، وكان في لسان موسى عقدة من قبل الجمرة التي تناولها، ولذلك قال فرعون: ولا يكاد يبين. قوله تعالى: { فأرسله معي ردءا }؛ أي عونا ومصدقا لي، يقال: فلان ردء فلان؛ إذا كان ينصره ويشد ظهره. وقرأ نافع (ردا) من غير همز طلبا للخفة.
قوله تعالى: { يصدقني }؛ قرأ عاصم وحمزة: (يصدقني) بضم القاف، وقرأ الباقون بالجزم على الجواب بالأمر، ومن رفع كان صفة لنكرة، جوابا للمسالة تقديره ردءا مصدقا لي، والتصديق هارون في قول الجمع. وقال مقاتل: (لكي يصدقني فرعون) { إني أخاف أن يكذبون }.
[28.35]
قوله تعالى: { قال سنشد عضدك بأخيك }؛ أي قال الله تعالى لموسى: سنعينك ونقويك وننصرك بأخيك، وشد العضد كناية عن التقوية، وقوله تعالى: { ونجعل لكما سلطانا } حجة وبينة تدل على النبوة، { فلا يصلون إليكما } بقتل ولا سوء ولا أذى، { بآياتنآ أنتما ومن اتبعكما الغالبون }؛ لمن خالفكما، وقوله تعالى: { بآياتنآ } موضعه التقديم؛ والمعنى ونجعل لكما سلطانا بآياتنا؛ أي بما نعطيكما من المعجزات.
[28.36]
قوله تعالى: { فلما جآءهم موسى بآياتنا بينات }؛ يعني المعجزات فلم يقدروا على دفع تلك الآيات، { قالوا ما هذآ إلا سحر مفترى } ، إلا أن قالوا هذا سحر مفترى؛ أي مخترع من قبل نفسك ولم تبعث به، { وما سمعنا بهذا؛ }؛ الذي تدعونا إليه، { في آبآئنا الأولين }.
[28.37]
قوله تعالى: { وقال موسى ربي أعلم بمن جآء بالهدى من عنده }؛ أي هو أعلم بالحق منا وبمن يدعو إلى الضلالة؛ أي أنا الذي جئت بالهدى من عند الله. وقرأ ابن كثير: (قال موسى) بغير واو. قوله تعالى: { ومن تكون له عاقبة الدار }؛ أي هو أعلم بمن تكون له الجنة، { إنه لا يفلح الظالمون }؛ أي لا يسعد من أشرك بالله.
[28.38]
قوله تعالى: { وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري }؛ أي قال فرعون لخواص قومه: { ما علمت لكم من إله غيري } وهذه إحدى كلمتيه اللتين أخذه الله بهما، والأخرى قوله
أنا ربكم الأعلى
[النازعات: 24].
وقوله تعالى: { فأوقد لي يهامان على الطين }؛ أي اتخذ لي آجرا، { فاجعل لي صرحا }؛ أي قصرا طويلا متسعا مرتفعا، { لعلي أطلع إلى إله موسى }؛ أي أصعد إليه، ظن بجهله أنه يتهيأ له أن يبلغ بصرحه إلى السماء، وظن أن إله موسى جسما مشاهدا كما تقول المشبهة، تعالى الله عن ذلك.
قال المفسرون: لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح، جمع خمسين ألف بناء سوى الاتباع والأجراء ممن يطبخ الآجر والجص، وينحت الخشب والأبواب، ويضرب المسامير. قوله تعالى: { وإني لأظنه من الكاذبين }؛ أي في ادعاء (إلها غيري) وأنه رسوله، وهذا اعتراف من فرعون بالشك لأنه شاك لا يدري من في السماء، ولو كان إلها لم يجهل ولم يشك، والمبطل تظهر عليه المناقضة.
[28.39]
قوله تعالى: { واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق }؛ تعظموا عن الإيمان ولم ينقادوا للحق، وقوله تعالى { في الأرض } أي في أرض مصر { بغير الحق } أي بالباطل والظلم، { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون }؛ أي يردون إلينا بالبعث للحساب والجزاء.
[28.40]
قوله تعالى: { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم }؛ أي طرحناهم في البحر. قال عطاء: (يريد البحر المالح بحر القلزم) { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين }؛ حين صاروا إلى الهلاك.
[28.41-42]
قوله تعالى: { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار }؛ أي جعلناهم في الدنيا أئمة ضلالة وقادة في الكفر والشرك، يقودون الناس إلى الشرك، وهو قوله تعالى: { يدعون إلى النار } لأن من أطاعهم ضل ودخل النار، { ويوم القيامة لا ينصرون } أي لا يدفع عنهم عذاب الله، { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة }؛ يعني لعنة الملائكة والمؤمنين، { ويوم القيامة هم من المقبوحين }؛ أي من المشوهين في النار، سواد وجوههم وزرقة الأعين، فعلى هذا يكون المعنى: هم المقبوحين. وقيل : معناه: هم من المبعدين الملعونين من القبح، وهو الإبعاد. قال أبو يزيد: (يقال: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا؛ أي أبعده من كل خير).
[28.43]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى بصآئر للناس }؛ يعني القرون الأولى قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، كانوا قبل موسى. وقوله تعالى { بصآئر للناس } أي أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم الماضية عظة وعبرة للناس ليبصروا بها أمر دينهم؛ أي ليبصروا بالتوراة ويهتدوا بها، وهو قوله تعالى: { وهدى }؛ من الضلالة لمن عمل به؛ أي بالكتاب { ورحمة }؛ لمن آمن به، { لعلهم يتذكرون }؛ أي يتذكروا بما فيه من المواعظ والبصائر.
وعن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة، ألم تر أن الله قال { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى } ".
[28.44]
قوله تعالى: { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينآ إلى موسى الأمر }؛ معناه: ما كنت يا محمد بجانب الوادي الغربي { إذ قضينآ إلى موسى الأمر } أي إذ أوحينا الأمر بما ألزمناه وقومه، { وما كنت من الشاهدين }؛ تلك الحالة، وإنما أخبرناك بذلك لتكون معجزة لك.
[28.45]
قوله تعالى: { ولكنآ أنشأنا قرونا }؛ أي خلقنا قرنا بعد قرن، { فتطاول عليهم العمر }؛ أي طالت عليهم المهل فنسوا عهد الله، وتركوا أمره، وكذبوا الرسل فأهلكناهم قرنا بعد قرن، وهذا كلام يدل على أنه قد عهد إلى موسى وقومه عهودا في محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به، فلما تطاول عليهم العمر، وخلقت القرون بعد القرون، وتركوا الوفاء بها.
قوله تعالى: { وما كنت ثاويا }؛ أي مقيما { في أهل مدين }؛ كقيام موسى وشعيب فيهم، { تتلوا عليهم آياتنا }؛ أي تذكرهم بالوعد والوعيد. قال مقاتل: (والمعنى: لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم كخبر من شاهدهم) { ولكنا كنا مرسلين }؛ أي أرسلناك إلى أهل مكة، وأنزل عليك هذه الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها.
[28.46]
قوله تعالى: { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا }؛ أي وما كنت يا محمد بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى إذ نادينا موسى: إني أنا الله، ويا موسى أقبل ولا تخف، { ولكن }؛ أوحيناها إليك وقصصناها عليك، { رحمة من ربك لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير من قبلك }؛ لم يأتهم رسول يخوف قبلك، { لعلهم يتذكرون }؛ أي يتعظون.
ومعنى { رحمة } أي رحمناك رحمة بإرسالك والوحي إليك. وقوله تعالى: { لتنذر قوما مآ أتاهم من نذير } يعني أهل مكة لعلهم يتعظون، واسم الجبل الذي نودي عليه موسى جبل رسمه. قرأ عيسى بن عمر: (ولكن رحمة) بالرفع على معنى: ولكن هي رحمة من ربك إذ أطلعك الله عليه.
[28.47]
قوله تعالى: { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم }؛ قال مقاتل: (معناه: ولولا أن يصيبهم العذاب في الدنيا بما قدمت أيديهم من الكفر والمعاصي) يعني كفار مكة، { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا }؛ أي هلا أرسلت إلينا رسولا، { فنتبع آياتك } ، يعني القرآن، { ونكون من المؤمنين }.
والمعنى: لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم لعجلناهم بالعقوبة بكفرهم. وحقيقة كشف معنى الآية: لولا أنه إذا أصابتهم مصيبة؛ أي عقوبة بما قدمت أيديهم من الكفر فيقولوا عند نزول العذاب بهم: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبع كتابك ورسولك، ونكون من المؤمنين؛ لعجلناهم العقوبة. قيل: معناه: لولا إذا أصابتهم عقوبة الآخرة فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا في الدنيا لما أرسلناك. وفي الآية بيان أن الله تعالى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم مبالغة في الحجة وقطع المعذرة.
[28.48]
قوله تعالى: { فلما جآءهم الحق من عندنا }؛ أي فلما جاء أهل مكة الحق من عندنا وهو محمد والقرآن، { قالوا لولا أوتي مثل مآ أوتي موسى }؛ أي هلا أعطي مثل ما أعطي موسى، يعنون هلا أنزل عليه القرآن جملة كما أنزل التوراة على موسى جملة واحدة، وهلا أعطى محمدا اليد والعصا والمن والسلوى وغير ذلك من الآيات.
فاحتج الله عليهم بقوله: { أولم يكفروا بمآ أوتي موسى من قبل }؛ أي فقد كفروا بما أوتي موسى، كما كفروا بآيات محمد و { قالوا سحران تظاهرا }؛ أي تعاونا على السحر والضلال، يعنون موسى ومحمدا عليهم السلام. وقرأ أهل الكوفة (سحران) بغير ألف التوراة والقرآن، { وقالوا إنا بكل } ، من التوراة والقرآن، { كافرون }.
[28.49-50]
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قل }؛ لكفار مكة: { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهمآ }؛ أي من التوراة والقرآن حتى { أتبعه إن كنتم صادقين }؛ أنهما كانا سحران، قوله تعالى: { فإن لم يستجيبوا لك }؛ أي فإن لم يأتوا بمثل التوراة والقرآن، { فاعلم أنما يتبعون أهوآءهم }؛ وإن ما ركبوه من الكفر لا حجة لهم فيه، وإنما آثروا فيه الهوى.
ثم ذمهم الله فقال: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }؛ أي لا أحد أضل ممن اتبع هواه بغير رشاد ولا بيان جاء من الله، { إن الله لا يهدي القوم الظالمين }؛ ومعنى قوله { فإن لم يستجيبوا لك } أي فإن لم يجيبوك إلى ما سألتهم ولا يجيبون.
[28.51]
قوله تعالى: { ولقد وصلنا }؛ رسلنا، { لهم القول لعلهم يتذكرون } أي وصلنا لأهل مكة ذكر الأنبياء والأمم وأقاصيص بعضهم لبعض، وأخبرناهم أنا أهلكنا قوم نوح بكذا وقوم صالح بكذا لكي يتعظوا بالقرآن، ويخافوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم.
[28.52-54]
قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب من قبله }؛ أي من قبل القرآن، { هم به يؤمنون }؛ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال السدي: (يعني مسلمي اليهود عبدالله بن سلام وأصحابه). وقال مقاتل: (يعني مسلمي أهل الإنجيل، وهم الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة).
ثم نعتهم الله تعالى فقال: { وإذا يتلى عليهم }؛ يعني القرآن، { قالوا آمنا به }؛ أي صدقنا بالقرآن، { إنه الحق من ربنآ }؛ لا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فلم يعاندوا، وقالوا للقرآن: إنه الحق من ربنا، { إنا كنا من قبله }؛ قبل القرآن، { مسلمين }؛ مخلصين لله بالتوحيد، مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي.
ثم أثنى الله عليهم خيرا، فقال: { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا }؛ مرة بتمسكهم بدينهم حتى أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، ومرة بإيمانهم به. وقال قتادة: (كما صبروا على الكتاب الأول والكتاب الثاني)، وقيل: مرة لإيمانهم بموسى ومرة لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ويدرؤن بالحسنة السيئة }؛ أي يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك، كذا قال ابن عباس، وقال مقاتل: (يدفعون ما يلحقهم من أذية الكافرين وشتمهم لهم بالعفو والصفح والاحتمال). { ومما رزقناهم ينفقون }؛ من الأموال في طاعة الله.
[28.55]
قوله تعالى: { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه }؛ أي وإذا خوطبوا بالسفاهة وشتمهم المشركون ردوا عليهم جميلا، وأعرضوا عن الكلام الذي لا فائدة فيه، { وقالوا لنآ أعمالنا } أي ديننا، { ولكم أعمالكم } أي دينكم.
وذلك أنهم عيروهم بترك دينهم. قال السدي: لما أسلم عبدالله بن سلام جعل اليهود يشتمونه، وهو يقول: { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين }؛ قال الزجاج: (لم يريدوا التحية، والمعنى أنهم قالوا: بيننا وبينكم المتاركة والتسلم، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال)، فكأنهم قالوا: سلمتم منا لا نعترضنكم بالشتم. ومعنى قوله تعالى { لا نبتغي الجاهلين } أي لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه. وقال الكلبي: (معناه: لا نحب دينكم الذي أنتم عليه).
[28.56]
قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت }؛ ذهب أكثر المفسرين أن هذه الآية
" نزلت في أبي طالب، وذلك أنه لما مرض مرضه الذي مات فيه، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " يا عم؛ قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " قال: لولا أن يعيرني نساء قريش ويقلن: إنه حمله على ذلك الجزع عند الموت، لأقررت بها عينك "
، فأنزل الله تعالى { إنك لا تهدي من أحببت } هدايته. وقيل: إنك لا تهدي من أحببته.
و
" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على عمه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه، وعنده أبو جهل وعبدالله بن أمية بن المغيرة، فقال له: " يا عم؛ قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله " فقال له أبو جهل وعبدالله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه وهما يعاودانه على تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم به: أنا على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله "
، فأنزل الله في أبي طالب، وقال لرسوله: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشآء }؛ قال الزجاج: (ابتداء نزولها بسبب أبي طالب، وهي عامة؛ لأنه لا يهدي إلا الله عز وجل). { وهو أعلم بالمهتدين }.
[28.57-58]
قوله تعالى: { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنآ }؛ أي قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن اتبعناك على دينك يتخطفنا العرب على أنفسنا أن يخرجوا من أرضنا مكة إن تركنا ما يعبدون. قال الله تعالى: { أولم نمكن لهم حرما آمنا } أي ذا أمن يأمن فيه الناس.
وذلك أن العرب كانت يغير بعضهم على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من القتل والسيف والغارة؛ أي فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمنون. ومعنى { أولم نمكن لهم حرما آمنا } أي أولم نجعله مكانا لهم.
وقوله تعالى: { يجبى إليه ثمرات كل شيء }؛ ومعنى { يجبى } أي يحمل الحرم { ثمرات كل شيء رزقا }. قرأ نافع ويعقوب: (تجبى) بالتاء لأجل الثمرات، وقرأ الباقون بالياء لقوله { كل شيء رزقا } ومعنى (تجبى) أي تحمل إلى الحرم { ثمرات كل شيء } من مصر والشام واليمن والعراق.
وقوله تعالى: { رزقا من لدنا }؛ أي رزقا من عندنا، { ولكن أكثرهم لا يعلمون }؛ أنا فعلنا ذلك يعني أهل مكة، والمعنى: أولم يجعل أهل مكة في أمان قبل الإيمان يجبى إلى الحرم ثمرات كل شيء نعمة من عندنا، فكيف يخافون زوال الأمان، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } لأنهم لا يتدبرون ولا يتفكرون.
ثم خوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية، فقال: { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها }؛ أي كم أهلكنا من أهل قرية بطرتها معيشتها، والبطر: الطغيان عند النعمة، وقيل: معناه: بطرت في معيشتها. قال عطاء: (عاشوا في البطرة، فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام).
وقوله تعالى: { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا }؛ أي منازلهم التي كانوا يسكنونها لم يسكنها أحد إلا المسافرون وماروا الطريق ينزلون ببعضها يوما أو ساعة ثم يرحلون. والمعنى لم تسكن من بعدهم إلا سكونا قليلا، { وكنا نحن الوارثين }؛ أي لم نجعل لهم أحدا بعد هلاكهم في منازلهم، فبقيت خرابا غير مسكونة كقوله
إنا نحن نرث الأرض ومن عليها
[مريم: 40].
[28.59]
قوله تعالى: { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا }؛ معناه: وما كان ربك يا محمد معذب القرى الكافرة أهلها حتى يبعث في أعظمها قرية رسولا ينذرهم ويقرأ عليهم آياتنا، وخص الأعظم من القرى ببعثة الرسول فيها؛ لأن الرسول إنما يبعث إلى الأشراف، وأشراف القوم وملوكهم يسكنون المدائن والمواضع التي هي أم ما حولها.
وقوله تعالى: { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون }؛ أي ما نهلكهم إلا بظلمهم وشركهم، وقيل: المراد بالقرى القرى التي حول مكة، والمراد بأمها مكة سميت أم القرى؛ لأن الأرض دحيت من تحتها.
[28.60]
قوله تعالى: { ومآ أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها }؛ تتمتعون بها أيام حياتكم ثم تنقطع وتفنى وتنقضي، { وما عند الله خير }؛ من الثواب والجنة، { وأبقى }؛ وأدوم لأهله وأفضل مما أعطيتم في الدنيا، { أفلا تعقلون } أن الباقي أفضل من الفاني الذاهب. وقيل: { أفلا تعقلون } خير الأمرين فتطلبوه وشر الأمرين فتتركوه. قرأ أبو عمرو (أفلا يعقلون) بالياء.
[28.61]
قوله تعالى: { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا }؛ استفهام يعني التقرب، أي كيف يستوي حال من وعدناه الثواب والجنة في الآخرة فهو لاقيه، وحال من متعناه بعرض الدنيا، { ثم هو يوم القيامة من المحضرين }؛ العذاب.
والمعنى: { أفمن وعدناه } على إيمانه وطاعته الجنة والثواب الجزيل { فهو لاقيه } أي مدركه { كمن متعناه } أي كمن هو ممتع بشيء يفنى ويزول عن قريب { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } النار. قال قتادة: (يعني المؤمن والكافر، فالمؤمن سمع كتاب الله وصدقه وآمن بموعود الله فيه، وليس كالكافر الذي تمتع بالدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين في عذاب الله)، قال مجاهد: (نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي جهل)، وقال السدي: (نزلت في عمار والوليد بن المغيرة).
[28.62]
قوله تعالى: { ويوم يناديهم }؛ أي ينادي الله المشركين يوم القيامة، { فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون }؛ في الدنيا أنهم كانوا شركائي، والمعنى: واذكر يوم ينادى الكفار وهو يوم القيامة فيقول أين شركائي في قولكم، وليس لله شريك، ولكن خرج هذا الكلام على ما كانوا يلفظون به، فيقولون: هؤلاء شركاء الله.
[28.63]
قوله تعالى: { قال الذين حق عليهم القول }؛ أي الذين حقت عليهم كلمة العذاب أو وجب عليهم العذاب وهم الرؤوس: { ربنا هؤلاء الذين أغوينآ }؛ يعنون سلفهم وأتباعهم، { أغويناهم كما غوينا }؛ أي أضللناهم كما ضللنا، { تبرأنآ إليك }؛ منهم، وقيل: تبرأنا بحملنا إليك من الضلال، { ما كانوا إيانا يعبدون } ما كانوا يعبدوننا بإكراه من جهتنا، وقيل: ما كانوا يعبدوننا بحجة ولا استحقاق.
[28.64]
قوله تعالى: { وقيل ادعوا شركآءكم }؛ أي يقال لهم: لستم تسألون عن الإغواء والغواية، ولكن ادعوا آلهتكم حتى يذودوا عنكم العذاب، { فدعوهم فلم يستجيبوا لهم }؛ أي لم يجيبوهم إلى نصرتهم { ورأوا العذاب }؛ أي رأوا كلهم القادة والأتباع العذاب. وقوله تعالى: { لو أنهم كانوا يهتدون }؛ جواب (لو) محذوف تقديره: لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب.
[28.65-66]
قوله تعالى: { ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين * فعميت عليهم الأنبآء يومئذ }؛ أي فألبست عليهم الأجوبة يومئذ، ولم يدروا ماذا يقولون من الفزع والتحير، { فهم لا يتسآءلون }؛ لا يسأل بعضهم بعضا في تلك الساعة لرد الجواب. وقيل: لا يسأل أحد عن حال أحد لانشغال كل واحد منهم بنفسه. وقيل: لا يسأل أحد أحدا أن يترك طاعة أو يتحمل عنه معصية، ومعنى قوله تعالى { فعميت } أي خفيت واشتبهت عليهم الأنباء.
[28.67]
قوله تعالى: { فأما من تاب وآمن وعمل صالحا }؛ أي من تاب من الشرك وآمن وصدق بتوحيد الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم { وعمل صالحا } أي أدى الفرائض، { فعسى أن يكون من المفلحين }؛ أي من الناجين الفائزين.
[28.68]
قوله تعالى: { وربك يخلق ما يشآء ويختار }؛ وذلك أن الوليد بن المغيرة كان يقول: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، يعني نفسه وأبا مسعود الثقفي، فأنزل الله هذه الآية { وربك يخلق ما يشآء ويختار } من ينبؤ للرسالة والنبوة؛ أي فكما أن الخلق إليه يخلق ما يشاء، فكذلك الاختيار إليه في جميع الأمور، فيختار ممن خلق ما يشاء.
قوله تعالى: { ما كان لهم الخيرة }؛ ابتداء الكلام نفي الاختيار عن المشركين، وذلك أنهم اختاروا الوليد بن المغيرة من مكة وأبو عروة بن مسعود من الطائف، فقال الله { ما كان لهم الخيرة } أي ليس لهم الاختيار على الله، ثم نزه الله نفسه فقال: { سبحان الله وتعالى عما يشركون }؛ ومن قرأ (ونختار ما كان لهم الخيرة) من غير أن يقف على (ونختار)، جعل (ما) بمعنى الذي، كأنه قال:
ونختار الذي لهم الخيرة فيصنع بهم ما صلح لهم، وأنشد محمود الوراق:
توكل على الرحمن في كل حاجة
أردت فإن الله يقضي ويقدر
متى ما يريد ذو العرش أمرا بعبده
يصبه وما للعبد ما يتخير
فقد يهلك الإنسان من حيث أمنه
وينجو بحمد الله من حيث يحذر
[28.69]
قوله تعالى: { وربك يعلم ما تكن صدورهم }؛ أي ما تستر من الكفر والعداوة لله ولرسوله؛ أي يعلم ما تضمر قلوبهم من ذلك، { وما يعلنون } بألسنتهم من الكفر والمعاصي.
[28.70]
قوله تعالى: { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة }؛ يستحق الحمد في الدارين، { وله الحكم }؛ أي الفصل بين الخلائق؛ حكم لأهل طاعته بالمغفرة، ولأهل معصيته بالشقاء والويل، { وإليه ترجعون }؛ أي موضع جزائه.
[28.71]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة } أي قل يا محمد لأهل مكة: أخبروني إن جعل الله عليكم الليل دائما أبدا إلى يوم القيامة، لا نهار معه، { من إله غير الله يأتيكم بضيآء }؛ أي بنهار مضيء تتصرفون فيه وتطلبون فيه المعيشة، { أفلا تسمعون }؛ سماع قبول وتفهم فتستدلون بذلك على توحيد الله.
[28.72]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة }؛ أي قل: أخبروني إن جعل الله عليكم النهار دائما، { من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه } ، تستريحون فيه من الحركة ومن النصب؟ { أفلا تبصرون }؛ أدلة الله تعالى.
[28.73]
قوله تعالى: { ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه }؛ أي ومن نعمته عليكم أن خلق لكم الليل والنهار لتستريحوا ليلا، ولتنصرفوا نهارا، والمعنى: { لتسكنوا فيه } أي في الليل، { ولتبتغوا من فضله }؛ أي ولتلتمسوا في النهار من فضل الله، { ولعلكم تشكرون }؛ الذي أنعم عليكم بهما.
[28.74]
قوله تعالى: { ويوم يناديهم فيقول أين شركآئي الذين كنتم تزعمون }؛ فقد تقدم تفسيره.
[28.75]
قوله تعالى: { ونزعنا من كل أمة شهيدا }؛ أي وأخرجنا من كل أمة رسولها الذي يشهد عليهم بالتبليغ وما كان منهم، { فقلنا هاتوا برهانكم }؛ أي فقلنا للمشهود عليهم: { هاتوا برهانكم } أي حجتكم بأن معي شريكا، { فعلموا أن الحق لله }؛ أي أن التوحيد لله، { وضل عنهم }؛ أي زال عنهم وبطل في الآخرة، { ما كانوا يفترون }؛ في الدنيا من قولهم: إن مع الله شريكا.
[28.76]
قوله تعالى: { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم }؛ قال أكثر المفسرين: كان قارون ابن عم موسى من بني إسرائيل، وكان من العلماء بالتوراة. وقال بعضهم كان ابن خالته. وقوله تعالى { فبغى عليهم } أي بكثرة ماله، والمعنى: أنه تطاول على موسى وقومه وجاوز الحد في التكبر عليهم. والبغي في اللغة: طلب العلو بغير حق.
قوله تعالى: { وآتيناه من الكنوز مآ إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } أي أعطيناه من الأموال المجموعة ما إن مفاتحه، قال ابن عباس: (أراد بالمفاتح الخزائن، كانت خزائنه لتثقل بالجماعة ذوي القوة إذا حملوها).
قال بعضهم: هو جمع مفتاح؛ وهو ما يفتح به الباب، وهذا قول قتادة ومجاهد. وقيل: مفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهي المفتاح، فجمعه مفاتيح. قال خيثمة: (كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، مفتاح كل خزانة على حدة، فإذا ركب حمل المفاتيح على ستين بغلا). وقال ابن عباس: (كان يحمل مفاتيحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال).
ومعنى قوله تعالى { لتنوء بالعصبة } وإنما العصبة تنوء بالمفاتيح؛ أي يثقل في حملها، قيل: هذا شائع في الكلام كما يقال: عرضت الناقة على الحوض، وإنما يعرض الحوض عليها، ولا تعرض الناقة على الماء. والكنز في اللغة: اسم للمال الذي يجمع بعضه على بعض، وإذا أطلق أريد به ما يخبأ تحت الأرض.
وقال خيثمة: (وجدت في الإنجيل: أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غرا محجلة). وقيل: إنها كانت من جلود الإبل، وكانت من حديد، فلما ثقلت عليه جعلت من خشب، فلما ثقلت عليه جعلت من جلود.
قوله تعالى: { إذ قال له قومه لا تفرح }؛ قال له قومه من المؤمنين من بني إسرائيل: لا تفرح بالكنوز والمال ولا تأشر ولا تبطر، { إن الله لا يحب الفرحين }؛ أي الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. والفرح إذا أطلق أريد المزح الذي يخرج إلى البطر، ولذلك قال: { لا يحب الفرحين } ، وقال
إنه لفرح فخور
[هود: 10]، وأما قوله
فرحين بمآ آتاهم الله من فضله
[آل عمران: 170] فهو بهداية النفس وهو حسن جميل، قال الشاعر:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني
ولا جازع من صرفه المتقلب
[28.77]
قوله تعالى: { وابتغ فيمآ آتاك الله الدار الآخرة }؛ أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال والنعمة الجنة، وهو أن يقوم بشكر الله فيما أنعم الله وينفقه في رضا الله، وقوله تعالى: { ولا تنس نصيبك من الدنيا }؛ أي ولا تنس لتعمل لآخرتك، وقال الحسن: (أن يقدم الفضل وأن يمسك ما يغنيه).
وقوله: { وأحسن كمآ أحسن الله إليك }؛ أي أحسن إلى الفقراء والمساكين، كما أحسن الله إليك. وقيل: معناه: أطع الله واعبده كما أنعم عليك، { ولا تبغ الفساد في الأرض }؛ أي ولا تعمل في الأرض بالمعاصي ومخالفة موسى عليه السلام، { إن الله لا يحب المفسدين }.
[28.78]
قوله تعالى: { قال إنمآ أوتيته على علم عندي } ، قال عطاء: (فكفر قارون لما رأى أن المال حصل له بعلمه ولم ير ذلك من عطاء الله). والمعنى: قال قارون: إنما أعطيت هذا المال على علم عندي بوجوه الاكتساب والتجارات لا يعلمها أحد غيري.
وقيل: معناه: على علم عندي يعني لفضل علمي، فكنت أهلا لما أعطيته، وكان أقرأهم للتوراة، والمعنى: فضلني الله عليكم بهذا المال، لفضلي عليكم بالعلم، يعني علم الكيمياء.
قوله تعالى: { أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة }؛ معناه: { أولم يعلم } هذا المسكين الذي قد أعجبته نفسه وما ملك من الدنيا يعني قارون { أن الله قد أهلك } بالعذاب { من قبله من القرون } حين كذبوا رسوله { من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا }؛ للمال والخدم والحشم.
قوله تعالى: { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون }؛ معناه: لا يسئل المجرمون عن ذنوبهم في الآخرة، فإنهم يعرفون بسيماهم. قال قتادة: (إنهم يدخلون النار بغير حساب).
وأما قوله تعالى
فوربك لنسألنهم أجمعين
[الحجر: 92] فإنهم يسئلون سؤال تقريع وتوبيخ، كما قال الحسن في معنى هذه الآية (أنهم لا يسئلون سؤال الاختيار ليعلم ذلك من قبلهم، وإنما يسئلون سؤال التوبيخ والمناقشة).
[28.79]
قوله تعالى: { فخرج على قومه في زينته }؛ قال السدي: (خرج في جوار بيض؛ على سروج من ذهب؛ على قطف أرجوان؛ " وهن " على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلي من ذهب). وقال مقاتل: (خرج على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان، ومعه أربعة آلاف فارس على الخيل، عليهم وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ألف جارية على بغال شهب سروجهن الذهب؛ ولباسهن أرجوان أحمر، عليهن الحلي والحلل).
وقال ابن زيد: (خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات). وهذا معنى الحسن في ثياب صفر. قال الزجاج: (الأرجوان في اللغة صبغ أحمر، فروي أنه كان عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر)، قال: (وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات).
قوله تعالى: { قال الذين يريدون الحياة الدنيا }؛ أي قال مؤمنوا أهل ذلك الزمان لما رأوا تلك الزينة والجمال، { يليت لنا مثل مآ أوتي قارون }؛ من المال، { إنه لذو حظ عظيم }؛ أي ذو نصيب وافر من الدنيا، وكان الذين تمنوا هذه الأمنية القوم الذين يرغبون في الدنيا ويتمنونها.
[28.80]
قوله تعالى: { وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا }؛ أي قال العلماء العاملون الراغبون في الآخرة للذين تمنوا ما أوتي قارون: (ويلكم! ثواب الله خير) أي ارتدعوا عن مقالتكم؛ فإن ثواب الله في الآخرة خير لمن آمن وعمل صالحا، وقام بالفرائض خير مما أعطي قارون في الدنيا، وخير من الدنيا وما فيها.
قوله تعالى: { ولا يلقاهآ إلا الصابرون }؛ أي لا يؤتى الأعمال الصالحة، يدل عليه قوله تعالى:
وعمل صالحا
[الفرقان: 71]، وقال الكلبي: (ولا يعطاها في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله) أي الجنة، يدل عليه قوله تعالى: { ثواب الله }.
[28.81]
قوله تعالى: { فخسفنا به وبداره الأرض }؛ أي فخسفنا بقارون وقصره الذي بناه عقوبة له على كفره، وذلك أنه لما أضاف النعم التي أعطاه الله إياها إلى فعل نفسه وعمله، ولم ينسبها بتسهيل الله ذلك عليه؛ صار كافرا بنعم الله.
وقيل في سبب خسفه: أنه لما حسد موسى وهارون دعا امرأة ذات جمال معروفة بالفجور، وجعل لها ألف درهم - وقيل: ألف مثقال - وقال لها: إني أخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل، وتذكري أنه راودك عن نفسك! فأجابت قارون إلى ذلك، فلما كان من الغد، جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال له: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينظرون خروجهم لتأمرهم وتنهاهم.
فخرج موسى فقام فيهم يعظهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، قال: يا بني إسرائيل؛ من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت. قال قارون: وإن كنت أنت؟! قال: وإن كنت أنا. قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة! فقال موسى: ادعوها، فدعوها وقد ألهمها الله التوبة والتوفيق، فقالت في نفسها: لإن أحدث اليوم توبة خير من أن يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاءوا بها وقد عقدوا مجلسا استحضر فيه قارون الخاص والعام، فقال قارون للمرأة: ما تقولين؟ قالت: يا ويلاه! قد عملت كل فاحشة، وما بقي إلا أن أفتري على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبرأ إلى الله من ذلك.
ثم أخرجت خريطتين مملوءتين دراهم وعليهما خاتم قارون، فقالت: يا أيها الملأ؛ إن قارون أعطاني هاتين الخريطتين على أن آتي جماعتكم فأزعم أن موسى راودني عن نفسي، ومعاذ الله أن افتري على نبي الله، وأنا أبرأ إلى الله من ذلك وهذه دراهمه وعليها خاتمه.
فعرف بنو إسرائيل خاتم قارون، فافتضح قارون بين أولئك القوم، وغضب موسى عليه السلام فخر ساجدا يبكي وهو يقول: اللهم إن كنت رسولك فاغضب لي.
فأوحى الله إليه أني قد أمرت الأرض تطيعك فمرها بما شئت، فقال موسى عليه السلام: يا أرض خذيه، فأخذته إلى كعبه، ثم قال: يا أرض خذيه، فأخذته إلى ركبتيه، فناشده الرحم، فقال: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيبت حقوته، فتضرع إلى موسى وناشده الرحم، فلم يسمع تضرعه، فقال: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيبته.
فروي أنه استغاث بموسى وناشده سبعين مرة، فلم يلتفت موسى إلى ذلك، فأوحى الله إلى موسى: ما أفظك وأغلظ قلبك! استغاث بك قارون سبعين مرة فلم ترحمه ولم تغثه، وعزتي وجلالي لو استغاث بي لأغثته، ولو دعاني لوجدني قريبا مجيبا.
واختلفوا في أي وقت خسف بداره، قال بعضهم: إنه خسف به معه، وقال بعضهم: لما خسف بقارون قالت بنو إسرائيل: إن موسى أراد أن يأخذ دار قارون وأمواله وكنوزه، فدعا الله موسى فخسف بداره وأمواله بعد ما خسف بقارون بثلاثة أيام. قال قتادة: (وذكر لنا أن قارون يتجلجل في الأرض هو وداره وماله كل يوم قامة لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة).
قوله تعالى: { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله }؛ أي ما كان له من جند وجماعة يمنعونه من عذاب الله، { وما كان من المنتصرين }؛ أي وما كان من الممتنعين مما نزل به من الخسف.
[28.82]
قوله تعالى: { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر }؛ أي أصبح الذين تمنوا منزلته وماله بالأمس حين رأوه في زينته يندمون على ذلك التمني، يقول بعضهم لبعض بعد ما خسف به (وي) هذه كلمة تنبيه ومعناها: أما ترون؟.
قال مجاهد: (وسبيلها سبيل: أما تعلم) ويحكى أن امرأة من العرب قال لها زوجها: أين أبوك، قالت: له ويكأنه وراء هذا البيت، يعني أما ترى أنه رواء هذا البيت.
وذهب بعض النحويين إلى أن قول الرجل: ويكأنه، بمنزلة: ويلك إعلم. وقال الخليل ويونس: (وي مفصولة من كأن، و(وي) كلمة تندم وتنبيه، و(كأن) في هذا الموضع بمعنى الظن والعلم) كأنهم لما رأوا الخسف تكلموا على قدر علمهم، وقالوا: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامته عليه، ويضيق على من يشاء لا لهوانه عليه.
وقوله تعالى: { لولا أن من الله علينا لخسف بنا }؛ أي لولا أن من الله علينا بالعافية والرحمة والإيمان لخسف بنا. وقرأ يعقوب وحفص: (لخسف) بفتح الخاء والسين؛ أي لخسف الله بنا. قوله تعالى: { ويكأنه لا يفلح الكافرون }؛ أي أما ترى أنه لا يسعد من كفر بالله.
[28.83]
قوله تعالى: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا }؛ المراد بالدار الجنة، { نجعلها للذين لا يريدون علوا } على خلقي { في الأرض } ولم يتكبروا كما تكبر قارون.
قوله تعالى: { ولا فسادا } أي ولا دعاء إلى عبادة غير الله. وقيل: ولا فسادا ولا عملا بالمعاصي. وقيل: هو أخذ المال بغير الحق. قوله تعالى: { والعاقبة للمتقين }؛ أي العاقبة الحميدة لمن اتقى عقاب الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وقيل: الذين يتقون الكفر والعلو والفساد.
وعن كعب رضي الله عنه أنه قال:
" " يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، يسلكون في النار ويسقون من طينة الخبال " قيل: وما طينة الخبال؟ قال: " عصارة أهل النار "
والمراد بالتكبر: أن يكون التكبر لأمر يرجع إلى الدنيا، فإما يكون من ذلك لإزالة المنكر وإقامة حق من حقوق الله، فلا يكون ذلك من التكبر في شيء، وإنما هو تمسك بالدين.
[28.84]
قوله تعالى: { من جآء بالحسنة فله خير منها }؛ قد تقدم تفسيره، { ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون }؛ أي ومن جاء بالسيئة فلا يزاد في عقوبته أكثر مما يستحقه. والمعنى: أن الذين أشركوا يجزون بما كانوا يعملون من الشرك وجزاؤهم النار.
[28.85]
قوله تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد }؛ معناه: إن الذي فرض عليك العمل بالقرآن لرادك إلى بلدك يعني مكة، فإن معاد الرجل بلده. وقيل: معناه: (إن الذي فرض عليك القرآن) أي أنزل عليك القرآن. وقال الزجاج: (فرض عليك العمل بما يوجبه القرآن). تقدير الكلام: فرض عليك أحكام القرآن أو فرائض القرآن { لرآدك إلى معاد } يعني مكة.
قال مقاتل:
" خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغار ليلا، ثم هاجر من وجهه ذلك إلى المدينة، فسافر في غير طريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، فنزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها، وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل فقال له: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال: " نعم " قال جبريل: فإن الله تعالى يقول { إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلى معاد } يعني إلى مكة ظاهرا عليها "
، فنزلت هذه الآية بالجحفة، فليست بمكية ولا مدنية.
قوله تعالى: { قل ربي أعلم من جآء بالهدى ومن هو في ضلال مبين } هذا جواب كفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك في ضلال مبين! فقال الله تعالى: { ربي أعلم من جآء بالهدى } يعني النبي صلى الله عليه وسلم { ومن هو في ضلال مبين } يعني المشركين. والمعنى: إن الله قد علم أني جئت بالهدى وإنكم لفي ضلال مبين.
[28.86]
قوله تعالى: { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } معناه: ما كنت يا محمد ترجو أن يوحى إليك القرآن وأنك تكون نبيا تتلو على أهل مكة قصص الأولين، إلا أن ربك رحمك وأراد بك الخير، فأوحى إليك الكتاب وأكرمك بالنبوة نعمة منه عليك، { فلا تكونن ظهيرا }؛ أي عونا { للكافرين }؛ على دينهم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه فذكره الله النعمة. ونهاه عن مظاهرتهم على ما كانوا عليه وأمره بالتحذر منهم.
[28.87]
قوله تعالى: { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك }؛ أي لا يصرفنك عن العمل بآيات الله بعد إذ أنزلت إليك، { وادع إلى ربك }؛ أي إلى طاعته، { ولا تكونن من المشركين }؛ قال ابن عباس: (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أهل دينه) أي لا تظاهروا الكفار ولا توافقوهم.
[28.88]
قوله تعالى: { ولا تدع مع الله إلها آخر }؛ أي لا تعبد أحدا سوى الله ولا تدع الخلق إلى أحد دون الله، وقوله تعالى: { لا إله إلا هو }؛ لا معبود سواه، قوله تعالى: { كل شيء هالك إلا وجهه }؛ أي إلا هو. وانتصب قوله (وجهه) على الاستثناء كأنه قال: إلا إياه، وقال عطاء: (معناه: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه، وكل عمل لغيره فهو هالك إلا ما كان له).
وقوله تعالى: { له الحكم }؛ أي الفصل بين الخلائق دون غيره، { وإليه ترجعون }؛ في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-2]
قد تقدم تفسير { الم }. فمن جعل هذه الحروف التي في أوائل السورة قسما، احتمل أن يكون جواب القسم في قوله:
ولقد فتنا الذين من قبلهم
[العنكبوت: 3]؛ واحتمل أن يكون
فليعلمن
[العنكبوت: 3].
وقوله تعالى: { أحسب الناس } لفظة استخبار، ومعناه التوبيخ والتقرير، كأنه قال: أظنوا أن نقنع منهم بأن يقولوا آمنا فقط ولا يمتحنون بالأوامر والنواهي والتكليف، ولا يختبرون بما يعلم أنه صدق إيمانهم.
قال الحسن رضي الله عنه: (سبب نزول هذه الآية أنه لما أصيب المسلمون يوم أحد وكانت الكرة عليهم، عيرهم اليهود والنصارى بذلك، فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله هذه الآية). قال السدي وقتادة ومجاهد: (معناه: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب).
وقال مقاتل:
" نزلت هذه الآية في مهجع بن عبدالله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " فجزع عليه أبواه وامرأته "
، فأنزل الله فيهم هذه الآية وأخبر أنه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله.
[29.3]
قوله تعالى: { ولقد فتنا الذين من قبلهم }؛ فيه تسلية للمؤمنين، معناه: ولقد امتحنا الذين من قبلهم، { فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، فليعلمن الله الصادق بوقوع صدقه منه بالصبر على ما يؤمر به، والكاذب بوقوع كذب منه والجزع والمخالفة في القتال الذي يؤمر به، فالله تعالى قد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهم، ولكن القصد من الآية قصد وقوع العلم بما يجازى عليه؛ لأن علم الشهادة هو الذي يجب به الجزاء، فأما علم الغيب قبل وقوعه فلا يحل به الجزاء.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: (ولقد فتنا الذين من قبلهم منهم إبراهيم الخليل عليه السلام ابتلي بالنمرود، ومنهم قوم بعده نشروا بالمناشير على دين الله فلم يرجعوا عنه). وقال بعضهم: يعني بني إسرائيل ابتلوا بفرعون فكان يسومهم سوء العذاب.
[29.4]
قوله تعالى: { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا سآء ما يحكمون } معناه: أظنوا { الذين يعملون السيئات } يعني الشرك، قال ابن عباس: (يعني الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وغيرهم). { أن يسبقونا } أي أن يفوتونا ويعجزونا { سآء ما يحكمون } أي بئس ما حكموا لأنفسهم حين ظنوا ذلك.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة، وفي الوليد بن عتبة وغير الذين بارزوا عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث يوم بدر، فقتلوا على أيديهم يومئذ.
[29.5]
قوله تعالى: { من كان يرجو لقآء الله }؛ أي من كان يطمع في الثواب ويخشى العقاب ويخاف الحساب، فليبادر إلى طاعة الله قبل الموت، { فإن أجل الله لآت }؛ أي فإن أجل الموت لآت لمن يرجو، ولمن لا يرجو، وإن ثواب العمل الصالح لقريب { وهو السميع }؛ لمقالة الكفار والمؤمنين، { العليم }؛ بما يستحقه كل واحد منهم وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال:
" يا علي؛ يا فاطمة: إن الله قد أنزل: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت، وإن حقيقة رجاء لقاء الله أن يستعد الإنسان لأجل الله إذا كان آتيا باتباع طاعته واجتناب معاصيه ".
[29.6-7]
قوله تعالى: { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه }؛ أي من يعمل الخير فإنما يعمل لنفسه، { إن الله لغني عن العالمين }؛ أي عن أعمالهم وعبادتهم، { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم }؛ بالإيمان والتوبة، ومعنى { لنكفرن عنهم سيئاتهم } أي لنبطلنها حتى كأنها لم تعمل، { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون }؛ أي نجزيهم بأحسن أعمالهم وهي الطاعة، ولا نجزيهم بمساوئ أعمالهم.
[29.8]
قوله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهمآ }؛ نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، وكان بارا بأمه، فلما أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية: يا سعد؛ بلغني أنك قد صبأت! فوالله لا يظلني سقف بيت، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.
فأبى سعد عليها، وبقيت هي لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بشيء، فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت ثم مكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل وقالت: يا سعد لتدعن دينك هذه أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمه! فقال سعد: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت أن تأكلي، وإن شئت فلا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: ووصينا الإنسان بالبر والإحسان إلى والديه وقلنا له: وإن طلبا منك أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، فإن طاعتهما في الإشراك والمعصية " ليس " من باب الحسن، بل هي قبيحة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
وقوله تعالى: { إلي مرجعكم }؛ منقلبكم في الآخرة، { فأنبئكم }؛ فأخبركم، { بما كنتم تعملون }؛ في الدنيا من الخير والشر والبر والعقوق.
واختلف النحاة في نصب قوله { حسنا } ، فقال البصريون: بنزع الخافض؛ تقديره: ووصينا الإنسان بالحسن، كما يقال: وصيه خيرا؛ أي بخير، وقال الكوفيون: ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا، فحذفه لدلالة الكلام عليه. وقيل: هو مثل قوله
فطفق مسحا
[ص: 33] أي يمسح مسحا. وقيل: معناه: ألزمناه حسنا. وقرأ أبو رجاء: (حسنا) بفتح الحاء والسين، وفي مصحف أبي: (إحسانا).
[29.9]
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين } أي في زمرة الأنبياء والأولياء، وقيل: خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
[29.10-11]
قوله تعالى: { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذآ أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله }؛ روي أن هذه الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة، كان أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يخاف على نفسه من أمه وأخويه لأمه وهما أبو جهل والحارث.
فخرج عياش بعد ما أعلن إسلامه هاربا إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عيله وسلم، وبلغ أمه الخبر فجزعت جزعا شديدا، وامتنعت عن الطعام والشراب، فخرج أخواه وقومه في طلبه، فأخذوه وقيدوه، وحلفت أمه أسماء بنت مخرم بن أبي جندل بالله: لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد، ثم أقبلت تجلده بالسياط وتعذبه حتى كفر جزعا من الضرب، فأنزل الله هذه الآية.
قال مقاتل والكلبي: (لما هاجر عياش إلى المدينة خوفا من أمه وأخويه، حلفت أمه أسماء بنت مخرم بن أبي جندل ألا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى يرجع إليها ابنها، فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام - وهما أخوا عياش لأمه - جزعها، فركبا في طلبه حتى أتيا المدينة فلقياه.
فقال له أبو جهل: قد علمت أنك أحب إلى أمك من جميع أولادها، وكنت بارا بها، وقد حلفت لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل كنا حتى ترجع إليها، وأنت تزعم أن في دينك بر الوالدين، فارجع إليها فإن ربك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها. فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق أن لا يحركانه ولا يصرفانه عن دينه، فأعطياه المواثيق فتبعهما، فلما خرجوا به من المدينة أخذاه وأوثقاه وضربه كل واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمد صلى الله عليه وسلم جزعا من الضرب.
وكان الحارث أشدهما عليه وأسوأهما قولا فيه، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه ليضربن عنقه، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه.
ثم إن الله تعالى وفق الحارث بن هشام فهاجر إلى المدينة وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ولم يحضر عياش، فلقيه عياش يوما بظهر قباء ولم يعلم بإسلامه، فضرب عنقه يظن أنه كافر، فقيل له: إنه قد أسلم، فندم واسترجع وبكى، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأنزل الله تعالى:
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا
[النساء: 92].
ومعنى الآية: ومن الناس من يقول آمنا بالله، فإذا عذب في طاعة الله جعل تعذيب الناس كتعذيب الله، فأطاع الناس خوفا منهم، كما يطيع الله من خاف عذابه.
قوله: { ولئن جآء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم }؛ أي إذا جاء فتح من ربك { ليقولن إنا كنا معكم } وهذه صفة المنافقين، يقول الله تعالى: { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين }؛ أي بما في قلوب الخلق من الطمأنينة بالإيمان والانشراح بالكفر، { وليعلمن الله الذين آمنوا }؛ أي ليجزي الله المؤمنين، { وليعلمن المنافقين }؛ وليميزن المنافقين.
[29.12]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا }؛ معناه: قال كفار مكة أبو جهل وغيره، لمن آمن من قريش، واتبع محمدا صلى الله عليه وسلم: إتبعوا ديننا وملة آبائنا، { ولنحمل خطاياكم } ، ونحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله في ذلك، ونحمل عنكم خطاياكم، إن كان عليكم فيه إثم ووزر، فنحن نحمله عنكم. قال الفراء: (قوله تعالى: { ولنحمل } لفظه لفظ الأمر، ومعناه: الجزاء؛ أي إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم). قوله: { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون }؛ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم، ولا يحفظون العذاب عنهم.
[29.13]
قوله تعالى: { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم }؛ معناه: أوزارا مع أوزارهم، وذلك أنهم يعاقبون على كفرهم وعلى دعاء غيرهم إلى الكفر، وهذا موافق لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيء ".
ومعنى الآية: وليحملن أوزارهم التي حملوها، وأوزارا مع أوزارهم لقولهم للمؤمنين: (اتبعوا سبيلنا " ولنحمل خطاياكم) وهم كاذبون فيما قالوا لهم ووعدوهم " ، وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة.
وقوله: { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون }؛ أراد به سؤال توبيخ لا سؤال استعلام، يقال لهم: هل كان عندكم من الغيب شيء؟ ومن أين قلتم إنكم تحملوا أوزار غيركم؟.
[29.14]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما }؛ أي مكث بين أظهرهم يدعوهم إلى الإيمان ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يجبه إلى الإيمان منهم إلا قليل، { فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } ، فأهلك الله المكذبين بالطوفان وهو الغرق (وهم الظالمون) أي مشركون.
وفي الحديث:
" أن نوحا عليه السلام أرسل إليهم بعد ما أتى عليه مائتان وخمسون سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة "
وسمي الغرق طوفانا لأن الماء في ذلك اليوم طاف في جميع الأرض.
[29.15]
قوله تعالى: { فأنجيناه وأصحاب السفينة }؛ أي أنجينا نوحا من الغرق ومن كان معه من المؤمنين في السفينة، { وجعلناهآ آية للعالمين }؛ أي جعلنا السفينة عبرة لمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم فعلنا بهم مثل ذلك.
[29.16]
قوله تعالى: { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه }؛ انتصب (إبراهيم) عطفا على نوح، معناه: وأرسلنا إبراهيم أيضا، { إذ قال لقومه اعبدوا الله } أي وحدوا الله وأطيعوه واخشوه، { ذلكم خير لكم }؛ أي عبادة الله خير لكم من عبادة الأوثان، { إن كنتم تعلمون }؛ ذلك.
[29.17]
قوله تعالى: { إنما تعبدون من دون الله أوثانا }؛ أي أصناما تتخذونها من الحجارة والخشب، { وتخلقون إفكا }؛ أي وتخترعون على الله كذبا في قولكم: إنها آلهة. ويجوز أن يكون معنى { وتخلقون } أي تنحتون أصناما.
قوله تعالى: { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } أي إن الذين تعبدون من الأصنام لا يقدرون أن يرزقوكم. قوله تعالى: { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }؛ أي اطلبوا الرزق مني، فأنا القادر على ذلك، { واعبدوه } أي اعبدوا من يملك أرزاقكم، (واشكروا من إليه ترجعون) في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
[29.18]
قوله تعالى: { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم }؛ يعني كذبوا أنبياءهم كما كذبتم نبيكم فأهلكهم الله تعالى، { وما على الرسول إلا البلاغ المبين }؛ أي ما عليه إلا تبليغ الرسالة عن الله بلغة الذين أرسلهم إليهم.
[29.19]
قوله تعالى: { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده }؛ أي أولم يعلم ويعتبر أهل مكة كيف يبدئ الله الخلق في أرحام الأمهات من النطفة ثم من العلقة ثم من المضغة إلى تمام الخلق، ثم يميته ثم يعيده بعد الموت للبعث خلقا جديدا. وقوله تعالى: { إن ذلك على الله يسير }؛ أي إن بدأ الخلق وإعادته هين على الله، فإنه القادر على الاختراع من غير ابتداء على مثال، قادر على الإعادة، وكانوا يقرون بأن الله هو الذي خلقهم.
[29.20]
قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق }؛ أي سافروا في الأرض وابحثوا وانظروا هل تجدون خالقا غير الله، واعتبروا كيف خلق الله من قبلكم ثم أهلكهم بعد ذلك.
وقوله تعالى: { ثم الله ينشىء النشأة الآخرة }؛ أي ثم إن الله يبعث الخلق ثانية يوم القيامة، { إن الله على كل شيء قدير }؛ من الإحياء والإماتة قادر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن: (النشاءة) بالمد، وقرأ الباقون: (النشأة) بإسكان الشين والقصر وهما لغتان.
[29.21-22]
قوله تعالى: { يعذب من يشآء ويرحم من يشآء }؛ أي يعذب من يشاء من كان أهلا للتعذيب، ويرحم من يشاء من كان أهلا للرحمة، وقوله تعالى: { وإليه تقلبون }؛ أي تردون في الآخرة.
قوله تعالى: { ومآ أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السمآء }؛ أي ما أنتم يا أهل مكة بفائتين من عذاب الله هربا، ولا في السماء، فلا تغتروا لطول الإمهال.
ولا يجوز أن يكون معناه: ولا من في السماء بمعجزين؛ أي ما أنتم يا كفار مكة بفائتي الله في الأرض كنتم أو في السماء كنتم، أينما تكونوا يأت بكم الله فيجزيكم بأعمالكم السيئة، { وما لكم من دون الله من ولي }؛ يتولى أمركم وحفظكم، { ولا نصير }؛ يمنع العذاب عنكم.
[29.23]
قوله تعالى: { والذين كفروا بآيات الله ولقآئه }؛ أي الذين يجحدوا بآيات الله والقرآن والبعث بعد الموت، { أولئك يئسوا من رحمتي }؛ أي من جنتي في الآخرة باعتقادهم أنها لا يقع بهم، { وأولئك لهم عذاب أليم }.
[29.24]
قوله تعالى: { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه }؛ أي ما كان جواب قوم إبراهيم حيث دعاهم إلى الله، إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه بالنار، ثم " اتفقوا على تحريقه " فقذفوه في النار، { فأنجاه الله من النار }؛ سالما، وجعلها عليه بردا وسلاما ولم تحرق منه إلا وثاقه، { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } بالله ورسله.
[29.25]
قوله تعالى: { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا }؛ أي قال إبراهيم: إن ما عبدتم من دون الله أوثانا هي مودة بينكم، أو تلك مودة بينكم، والمعنى: أي ألفتكم واجتماعكم على الأصنام { مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين }؛ ثم تنقطع عن قريب، وتنقلب تلك المودة عداوة بعد الموت، يتبرأ بعضكم من بعض، ويلعن العابد المعبود، لذلك يلعن العابدون بعضهم بعضا، ويكون مصيرهم في الآخرة النار، وما لكم من مانع يمنعكم من عذاب الله.
ويجوز أن تكون (ما) في قوله تعالى { إنما اتخذتم } بمعنى (الذي) كأنه قال: إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم ما دمتم في الحياة الدنيا، فيكون (مودة) رفعا لأنها خبر (إن)، وقرأ حمزة وحفص (مودة) بالنصب (بينكم) بالخفض على الإضافة؛ بوقوع الاتحاد عليه، وجعل (إنما) حرفا واحدا، وقرأ الباقون نصبا منونا (بينكم) بالنصب على أنه مفعول أيضا، ومعناه: اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم تتوادون وتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.
[29.26]
قوله تعالى: { فآمن له لوط }؛ أي صدق لوط بإبراهيم، وهو أول من صدق به، { وقال }؛ إبراهيم: { إني مهاجر إلى ربي }؛ أي إلى الموضع الذي أمرني ربي بالهجرة إليه، وكان مأمورا بالهجرة من كوثى وهو سواد العراق إلى الشام.
وقيل: إن كوثى من سواد الكوفة، فهاجر إبراهيم ومعه لوط وهو ابن أخيه ومعه سارة. قال مقاتل: (هاجر إبراهيم وهو ابن خمس وسبعين سنة). وقوله تعالى: { إنه هو العزيز الحكيم }؛ أي المنتقم ممن عصاه، الحكيم فيما حكم علينا من الهجرة.
[29.27]
قوله تعالى: { ووهبنا له }؛ أي لإبراهيم، { إسحاق }؛ من امرأته سارة، { ويعقوب }؛ ابن ابنه، وقوله تعالى: { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب }؛ وذلك أن الله لم يبعث نبيا من بعد إبراهيم إلا من صلبه، وقوله تعالى { والكتاب } أي وجعلنا التوراة والإنجيل والقرآن في ولده.
وقوله تعالى: { وآتيناه أجره في الدنيا }؛ أراد به الثناء الحسن، وموالاة جميع الأمم إياه؛ لأن جميع أهل الأديان يحبونه. وقال السدي: (إنه أري مكانه في الجنة) ثم أعلمه الله أن له مع ما أعطاه في الدنيا الدرجات العلى لقوله: { وإنه في الآخرة لمن الصالحين }؛ أي إنه في الآخرة مع آبائه المرسلين في الجنة مثل آدم ونوح.
[29.28]
قوله تعالى: { ولوطا }؛ أي وأرسلنا لوطا بالنبوة، { إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أئنكم لتأتون الرجال }؛ يعني عملهم الخبيث الذي لم يكن يعمله أحد قبلهم.
وقوله تعالى: { وتقطعون السبيل }؛ وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك شاع الخبر، فترك الناس المرور بهم وانقطع السبيل.
وقوله تعالى: { وتأتون في ناديكم المنكر }؛ النادي المجلس والمتحدث؛ أي تأتون في مجالسكم الفسق، قيل: إنهم كانوا يفعل بعضهم ببعض الفاحشة في المجالس. وقيل: إنهم كانوا يصفقون بأيديهم ويصفرون بأفواههم، وقال القاسم بن محمد: (هو أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم) ويضربون بالعود والمزامير (ويلعبون بالحمام). وقيل: في معنى قوله تعالى { وتأتون في ناديكم المنكر } قال مجاهد: (كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس).
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنكر الذي كانوا يأتونه قوم لوط، فقال:
" كانوا يجلسون وعند كل واحد منهم قصعة حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل خذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به "
، قال صلى الله عليه وسلم:
" إياكم والخذف، فإنه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد، ولكن يفقأ العين ويكسر السن ".
[29.29-32]
قوله تعالى: { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا }؛ أي فلما أنكر لوط على قومه ما كانوا يفعلون من القبائح قالوا استهزاء: { ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين }؛ أن العذاب نازل، فعند ذلك؛ { قال }؛ لوط عليه السلام: { رب انصرني على القوم المفسدين }؛ أي انصرني بتحقيق قولي في العذاب على القوم المفسدين العاصين.
فاستجاب الله دعاءه، وبعث جبريل ومعه الملائكة لتعذيب قومه وهو قوله تعالى: { ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى }؛ أي بالبشرى بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب، { قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية }؛ يعني سدوم قرية لوط، { إن أهلها كانوا ظالمين }؛ بالشرك والعمل الخبيث، { قال }؛ إبراهيم: { إن فيها لوطا }؛ فكيف تهلكونهم؟! { قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله }؛ وأهل دينه وابنتيه زعورا وزنبا، { إلا امرأته } واعلة، { كانت من الغابرين }؛ أي من الباقين في المهلكين.
[29.33]
قوله تعالى: { ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا سيء بهم }؛ أي ساء مجيئهم خوفا عليهم من قومه؛ لأنهم جاؤه على هيئة الغلمان، { وضاق بهم ذرعا }؛ أي ضاق عليهم بسببهم، { وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } ومنجوا؛ قال المبرد: (الكاف في (منجوك) مخفوضة ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض، فما جعل الثاني على المعنى، فصار التقدير: وننجي أهلك، أو منجون أهلك).
[29.34]
قوله تعالى: { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السمآء }؛ أي عذابا بالحجارة، وقيل: الخسف والحصب، { بما كانوا يفسقون }؛ أي بسبب فسقهم، يروى أن تلك القرية كانت مشتملة على سبعمائة ألف رجل.
[29.35]
قوله تعالى: { ولقد تركنا منهآ آية بينة }؛ أي آثار منازلهم الخربة، وهي ترك ديارهم منكوسة عظة وعبرة، وأظهر الله فيها ماء أسودا نتنا يتأذى الناس برائحته، وقوله تعالى: { لقوم يعقلون }؛ أي يتفكرون فيما فعل الله بهم فلا يفعلون مثل فعلهم.
[29.36-37]
قوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا }؛ أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا، { فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر }؛ أي واخشوا البعث الذي فيه جزاء الأعمال، { ولا تعثوا في الأرض مفسدين }؛ أي لا تعثوا في الأرض بالفساد، { فكذبوه }؛ بالرسالة، { فأخذتهم الرجفة }؛ أي الزلزلة، { فأصبحوا في دارهم جاثمين }؛ أي ميتين باركين على ركبهم.
[29.38]
قوله تعالى: { وعادا وثمودا }؛ أي وأهلكنا عادا وثمودا، { وقد تبين لكم من مساكنهم }؛ أي ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم والحجر واليمن في هلاكهم حيث تمرون بها، { وزين لهم الشيطان أعمالهم }؛ القبيحة، { فصدهم عن السبيل }؛ أي فصرفهم عن طريق الحق، { وكانوا مستبصرين }؛ أي عقلاء يمكنهم تمييز الحق من الباطل، ويقال كانوا معجبين بضلالهم يرون أنهم على الحق، ولم يكونوا كذلك، والمعنى: أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين فيما عملوا من الضلالة، يحسبون أنهم على هدى.
[29.39]
قوله تعالى: { وقارون وفرعون وهامان ولقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض }؛ أي وأهلكنا قارون وفرعون وهامان بعد ما جاءهم موسى بالمعجزات فتعظموا عن الإيمان به، { وما كانوا سابقين }؛ أي لم يكونوا فائتين من عذاب الله.
[29.40]
قوله تعالى: { فكلا أخذنا بذنبه }؛ أي كل هؤلاء القوم الذين ذكرناهم عاقبناهم بذنوبهم، { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا }؛ يعني الحجارة وهم قوم لوط، وقيل: الحاصب الريح التي تأتي بالحصباء، وهي الحصى الصغار، { ومنهم من أخذته الصيحة }؛ وهم قوم صالح وشعيب، { ومنهم من خسفنا به الأرض }؛ يعني قارون وأصحابه، { ومنهم من أغرقنا }؛ يعني قوم نوح وفرعون، { وما كان الله ليظلمهم }؛ بإهلاكه إياهم، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ بالكفر والمعاصي.
[29.41]
قوله تعالى: { مثل الذين اتخذوا من دون الله أوليآء }؛ يعني الأصنام يتخذونها أولياء يرجون نصرها ونفعها، { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } ، وبيتها لا يغنيها عن الحر والبرد والمطر، كذلك آلهتهم لا ترزقهم شيئا، ولا تملك لهم ضرا ولا نفعا.
[29.42]
قوله تعالى: { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } أي لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوام، { لو كانوا يعلمون }؛ إن اتخاذهم الأولياء سوى الله كاتخاذ العنكبوت بيتا في قلة النفع ما اتخذوهم أولياء.
وقوله تعالى: { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء }؛ قرأ أبو عمرو (يدعون) بالياء لذكر الأمم قبلها، وقرأ الباقون بالتاء، ومعنى الآية، أنه عالم بما عبدتموه من دونه فهو يجازيكم على كفركم، { وهو العزيز الحكيم }.
[29.43]
قوله تعالى: { وتلك الأمثال }؛ يعني أمثال القرآن، { نضربها } ، نبينها، { للناس }. قال مقاتل: (يعني لكفار مكة) { وما يعقلهآ }؛ الأمثال، { إلا العالمون }؛ أي العلماء.
[29.44]
قوله تعالى: { خلق الله السموت والأرض بالحق }؛ أي للحق واظهر الحق خلقها، { إن في ذلك لآية للمؤمنين }؛ أي لدلالة على قدرة الله وتوحيده.
[29.45]
قوله تعالى: { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة }؛ أي إقرأ عليهم يا محمد ما أنزل عليك من القرآن، وأقم الصلوات الخمس في مواقيتها بشرائطها وسننها.
قوله تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر }؛ وذلك أن في الصلاة تكبيرا وتسبيحا وقراءة ووقوفا للعبادة على وجه الذل والخشوع، وكل ذلك يدعو إلى شكله ويصرف عن ضده وهي الآمر والناهي بالقول. والفحشاء: ما قبح من العمل، والمنكر: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله) (فمن لم تنهه صلاته عن المعاصي لم يزدد من الله إلا بعدا)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا ".
وقوله تعالى: { ولذكر الله أكبر }؛ أي ولذكر الله إياكم بالتوفيق والمغفرة والثواب أكبر من ذكركم إياه بالطاعة، وقيل: ذكر الله في المنع من الفحشاء والمنكر أكبر من الصلاة، ويجوز أن يكون أكبر في معنى الكبر في الجزاء والثواب، كما قال عز وجل:
وإنها لكبيرة إلا على الخشعين
[البقرة: 45].
قالت الحكماء: ذكر الله للعبد أكبر من ذكر العبد لله؛ لأن ذكر الله للعبد على حد الاستغناء، وذكر العبد إياه على حد الافتقار، ولأن ذكر العبد بجر نفع أو دفع ضر، وذكر الله للعبد للفضل والكرم، ولأن ذكر العبد مخلوق، وذكر الله غير مخلوق.
وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { ولذكر الله أكبر }:
" أي ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل، والذكر أن تذكره عند ما حرم، فتدع ما حرم، وعندما أحل فتأخذ ما أحل "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر من ذكر الله عز وجل ".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم، وخير لكم من أن تغزوا عدوكم فتضربوا رقابهم، وخير لكم من إعطاء الدنانير والدراهم؟) قالوا: وما هو؟! قال: (ذكر الله عز وجل؛ قال الله تعالى: { ولذكر الله أكبر }.
وقال معاذ بن جبل:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: " أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما من قوم جلسوا في مجلس يذكرون الله فيه؛ إلا حفت بهم الملائكة؛ وغشيتهم الرحمة؛ وذكرهم الله فيمن عنده ".
وروي أن رجلا أعتق أربع رقاب، وآخر قال: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر، ثم إن الذي لم يعتق سأل حبيب سرا وفي أصحابه فقال: ما تقولون فيمن أعتق أربع رقاب وأنا قلت: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر، فأيهما أفضل؟ فنظروا هنيهة وقالوا: ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله.
قوله تعالى: { والله يعلم ما تصنعون }؛ أي ما تعملون من الخير والشر، لا يخفى عليه شيء.
[29.46]
قوله تعالى: { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن }؛ أي لا تخاصموا أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن، وهي أن تعظوهم بالقرآن على وجه النصح لهم والاستمالة إلى دين الإسلام وتعظيم الله تعالى وطلب ثوابه، { إلا الذين ظلموا منهم }؛ أي إلا من ظلم من أهل الكتاب فمنع الجزية أو نقض العهد، وعاد حربا لكم، فجادلوهم باللسان والسنان، وأغلظوا عليهم حتى يسلموا، { وقولوا }؛ لمن قبل الجزية منهم إذا أخبروكم بشيء من كتبهم: { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم }؛ أي آمنا بالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور، { وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }؛ أي مخلصون بالعبادة والتوحيد، وهذه صفة المجادلة الحسنة.
[29.47]
قوله تعالى: { وكذلك أنزلنآ إليك الكتاب }؛ أنزلنا إليك يا محمد القرآن كما أنزلنا إليهم الكتب، { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } أي الذين أكرمناهم بعلم التوراة وهم عبدالله بن سلام وأصحابه يؤمنون بالقرآن بدلالة التوراة. وقوله: { ومن هؤلاء من يؤمن به }؛ أراد به من كفار مكة من يؤمن به، يعني يسلم منهم.
وقوله تعالى: { وما يجحد بآياتنآ إلا الكافرون }؛ أي ما يجحد بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن بعد المعرفة إلا الكافرون من اليهود، وذلك أنهم عرفوا أن محمدا نبي والقرآن حق فجحدوا وأنكروا.
[29.48]
قوله تعالى: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب }؛ أي ما كنت يا محمد تقرأ من قبل القرآن { من كتاب } أي ما كنت قارئا قبل الوحي ولا كاتبا، وقوله: { ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون }؛ ولا تكتبه بيمينك، ولو كنت تقرأه وتكتب لوجد المبطلون طريقا إلى التشكيك في أمرك والارتياب في نبوتك، ويقولون إنه يقرأه من الكتب الماضية، فلما كان معلوما عندهم أنه عليه السلام كان لا يقرأ ولا يكتب، ثم أتى بالقرآن الذي عجزوا عن الإتيان بسورة مثله، دلهم ذلك على أنه من عند الله، ولأنه كانت صفته في التوراة والإنجيل: أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولو كنت قارئا كاتبا لشك اليهود فيك، وقالوا: إن الذي نجده في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب.
[29.49]
قوله تعالى: { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم }؛ قال الحسن: (يعني القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحملوه بعد).
وقال مقاتل: { بل هو } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { آيات بينات } أي ذو آيات بينات في صدور أهل العلم من أهل الكتاب؛ لأنهم يجدونه بنعته وصفته). { وما يجحد بآياتنآ إلا الظالمون } ، يعني كفار اليهود.
[29.50]
قوله تعالى: { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه }؛ أي قال كفار مكة: هلا أنزل على محمد آية من ربه كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم، أرادوا بها الآيات التي كانوا يقترحونها عليه من قولهم:
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
[الإسراء: 90] الآية.
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف: (آية) على التوحيد، وقرأ الباقون بالجمع.
وقوله تعالى: { قل إنما الآيات عند الله } أي في حكم الله إن شاء أنزلها، { وإنمآ أنا نذير مبين }؛ أي رسول مخوف لكم بلغة تعرفونها، وليس إنزال الآيات بيده.
[29.51]
قوله تعالى: { أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم }؛ معناه: أولم يكن لهم كفاية في معرفة نبوءتك أنا أنزلنا عليك القرآن الذي تقرأه عليهم بلغتهم مما فيه أخبار الأمم الماضية مع عجزهم عن الإتيان بحديث مثله، { إن في ذلك لرحمة }؛ أي في إنزال القرآن لرحمة لمن آمن به وعمل بما فيه، { وذكرى لقوم يؤمنون } ، أي وذكرى وموعظة لهم.
[29.52]
قوله تعالى: { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا }؛ أي قل لهم يا محمد: كفى الله شهيدا بأني رسول إليكم، { يعلم ما في السموت والأرض }. وقوله تعالى: { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله }؛ أي صدقوا بالأصنام وجحدوا وحدانية الله، { أولئك هم الخاسرون }؛ بالعقوبة وفوت المثوبة.
[29.53]
قوله تعالى: { ويستعجلونك بالعذاب }؛ أي يستعجلك كفار مكة بالعذاب قبل وقته استهزاء وتكذيبا منهم بذلك، { ولولا أجل مسمى لجآءهم العذاب }؛ أي لولا أن الله جعل لعذابه أجلا مسمى قد سماه وهو يوم القيامة. وقيل يعني مدة أعمارهم؛ لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب لعجل لهم العذاب في الحال، { وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون }؛ بإتيانه.
[29.54-55]
قوله تعالى: { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }؛ فيه تعجيب باستعجالهم مع أن جهنم محيطة بهم في الآخرة، جامعة لهم، { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم }؛ فلا يبقى جزء منهم إلا وهو معذب في النار جزاء، ويقال لهم: { ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون }.
قرأ الكوفيون ونافع: (ويقول) بالياء، يعني الموكل بعذابهم يقول لهم ذلك، وقرأ الباقون بالنون؛ لأنه لما كان بأمره سبحانه جاز أن ينسب إليه.
[29.56-60]
قوله تعالى: { يعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون }؛ قال مقاتل: (نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، تقول: إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان) فاخرجوا منها وأمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه من عبادة الله، وكذلك يجب على كل بلد، من كان في بلد فعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته.
ثم خوفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة؛ فقال: { كل نفس ذآئقة الموت }؛ أي كل أحد ميت أينما كان، فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت، { ثم إلينا ترجعون } ، بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم. وقال سعيد بن جبير: (معنى الآية: إذا عمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا منها، فإن أرضي واسعة)، وقال عطاء: (إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا منها، فإن أرض الله واسعة)، وقال مجاهد: (إن أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا).
وقال الكلبي: (نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن، فحثهم على الهجرة إلى المدينة، فشق عليهم وقالوا: كيف يكون حالنا إذا انتقلنا إلى دار الغربة وليس بها أحد يعرفنا فيواسينا، ولا نعرف وجوه الاكتساب فيها، فقطع الله عذرهم بهذه الآيات).
ومعناها: إن أرضي واسعة آمنة، وقيل: { واسعة } أي رزقي لكم واسع، فاخرجوا من هذه الأرض التي أنتم فيها. وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام ".
ثم ذكر ثواب من هاجر، فقال: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ يعني المهاجرين، { لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لنسكننهم غرف الدرة والزبرجد والياقوت، ولننزلنهم قصور الجنة)، وقرأ حمزة والكسائي: (لنثوينهم) يقال: ثوى الرجل إذا أقام، وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه، والمعنى: والذين آمنوا لننزلنهم من الجنة غرفا عوالي تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار ، { خالدين فيها نعم أجر العاملين }؛ لله.
ثم وصفهم فقال: { الذين صبروا }؛ أي على دينهم فلم يتركوه لشدة لحقتهم، { وعلى ربهم يتوكلون }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن المهاجرين توكلوا على الله وتركوا دورهم وأموالهم). وقيل: معناه: { وعلى ربهم يتوكلون } في أرزاقهم وجهاد أعدائهم ومهمات أمورهم.
قال مقاتل: (إن أحدهم كان يقول بمكة: كيف أهاجر إلى المدينة وليس لي بها مال ولا معيشة). فقال الله عز وجل: { وكأين من دآبة لا تحمل رزقها }؛ أي وكم من دابة في الأرض؛ وهي كل حيوان يدب على الأرض مما يعقل ومما لا يعقل.
والمعنى: كم من نفس دابة لا تحمل رزقها؛ أي لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئا لغد، { الله يرزقها }؛ حيث توجهت، { وإياكم }؛ يرزقكم إن أخرجتم إلى المدينة، وإن لم يكن لكم زاد ولا نفقة.
قال سفيان: (وليس شيء مما يخبئ ويدخر إلا الإنسان والفأر والنملة والغراب على ما قيل).
وقيل:
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: " أخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة فيها " فقالوا: يا رسول الله! كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها عقار ولا مال، فمن يطعمنا ويسقينا؟ "
فأنزل الله هذه الآية { وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم } يوما بيوم؛ أي يرزق من يحمل ومن لا يحمل، فكم من دابة لا تجمع رزقها لغد، ولا يقدر على حمل رزقها لضعفها، الله يرزقها وإياكم، { وهو السميع العليم }؛ أي السميع لأقوالهم: نخشى إن فارقنا أوطاننا العيلة، العليم بما في قلوبهم ونفوسهم، فلا يتركوا عبادة الله بسبب الرزق، ولا يهتموا لأجل ذلك.
[29.61]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض }؛ يعني لئن سألت مشركي مكة: من خلق السماوات، { وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون }؛ أي يصرفون عن عبادة الله الذي هذه صفته إلى عبادة جمادات لا تنفع ولا تضر.
[29.62]
قوله تعالى: { الله يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له }؛ أي يبسط الرزق على قوم، ويضيق على قوم، يفعل ذلك عن علم وحكمة، لا عن غلط وخطأ، { إن الله بكل شيء عليم }.
[29.63]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من نزل من السمآء مآء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله }؛ يعني كفار مكة أيضا، { قل الحمد لله }؛ أي الحمد لله على إقرارهم؛ لأن ذلك يلزمهم الحجة، ويوجب عليهم التوحيد. وقيل: معناه: الحمد لله على هذه النعم، وعلى ما تفضل به جل ذكره من الإنعام على العباد، { بل أكثرهم لا يعقلون }؛ بتوحيد ربهم مع إقرارهم بأنه خلق السماوات والأرض وأنزل المطر.
[29.64]
قوله تعالى: { وما هذه الحياة الدنيآ إلا لهو ولعب } أي باطل وغرور وعبث تنقضي عن قريب بسرعة، { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان }؛ يعني الجنة هي الحيوان؛ أي الحياة والدوام والبقاء الذي لا نفاذ له، والحيوان والحياة واحد. وقوله تعالى: { لو كانوا يعلمون }؛ أي لو كانوا يعلمون الفرق بين الحياة الدائمة والحياة الفانية لرغبوا في الباقي الدائم عن الفاني الزائل، ولكنهم لا يعلمون.
[29.65-66]
قوله تعالى: { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين }؛ يعني المشركين إذا ركبوا في السفينة وهاجت الرياح واضطربت الأمواج، وخافوا الغرق والهلاك، { دعوا الله مخلصين له الدين } أي دعوا الله مفردين له بالدعاء، وتركوا شركاءهم وأصنامهم فلا يدعونهم لإنجائهم، { فلما نجاهم إلى البر }؛ أي فلما خلصهم من تلك الأهوال، وأخرجهم إلى البر؛ { إذا هم يشركون * ليكفروا بمآ آتيناهم }؛ أي عادوا إلى شركائهم لكي يكفروا بما أعطيناهم، { وليتمتعوا }؛ في كفرهم، { فسوف يعلمون }؛ جزاء فعلتهم. قال عكرمة: (كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوا تلك الأصنام في البحر، وصاحوا: يا الله يا الله).
وقيل: إن (اللام) في قوله (ليكفروا) لام الأمر، ومعناها: التهديد والوعيد، كقوله
اعملوا ما شئتم
[فصلت: 40]
واستفزز من استطعت منهم بصوتك
[الإسراء: 64]، وكذلك عقبه بقوله، { فسوف يعلمون }.
[29.67]
قوله تعالى: { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } أي ألم ير كفار مكة { أنا جعلنا حرما آمنا } يعني مكة، ويسلب الناس من حولهم فيقتلون ويؤسرون وتؤخذ أموالهم، وأهل مكة آمنون من ذلك، { أفبالباطل يؤمنون }؛ أي فيقرون ويصدقون بالباطل وهي الأصنام بعد قيام الحجة، { وبنعمة الله يكفرون }؛ أي بمحمد والإسلام يجحدون. والتخطف: هو تناول الشيء بسرعة.
[29.68]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا }؛ أي لا أجد أظلم ممن زعم أن لله شريكا، { أو كذب بالحق لما جآءه }؛ يعني محمدا والقرآن، { أليس في جهنم مثوى للكافرين }؛ أي أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم، وهو استفهام، ومعناه: التقرير.
[29.69]
قوله تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }؛ أي الذين جاهدوا الكفار لابتغاء مرضاتنا لنهدينهم سبلنا إلى الجنة؛ أي لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة. وقيل: معناه: والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنهدينهم سبيل الشهادة والمغفرة.
وقال الفضيل: (معناه: والذين جاهدوا فينا في طلب العلم بالعمل به)، وقال أبو سليمان الداراني: (معناه: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله إلى ما لا يعلمون). وعن ابن عباس: (أن معناه: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا).
وقيل: معناه: والذين جاهدوا بالصبر على المصائب والنوائب لنهدينهم سبل الوصول للمواهب. وقيل: والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم دخول الجنان. وقال سهل بن عبدالله: (والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل دخول الجنة). قوله تعالى: { وإن الله لمع المحسنين }؛ أي من بالنصر على أعدائهم، والمعونة في دنياهم والثواب والمغفرة في عقباهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين ".
[30 - سورة الروم]
[30.1-5]
{ الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون }؛ أي غلبت فارس الروم، ففرح بذلك كفار مكة وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا بذلك على المسلمين وقالوا لهم: نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم.
وقصة ذلك: أن كسرى ملك فارس أرسل شهريار إلى الروم، فسار إليهم بأهل فارس ليغزوهم، فظهر على الروم فقتلهم وخرب مدائنهم، وكان قيصر ملك الروم قد بعث بجيش لما سمع بقدوم شهريار، فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم، فغلبت فارس الروم حتى انتزعوا بيت المقدس من الروم، وكان ذلك موضع عبادتهم.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة فشق ذلك عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح بذلك كفار مكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات { الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين }.
فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى الكفار وقال: (أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟! فلا تفرحوا ولا يقر الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا) فقام إليه أبي بن خلف الجمحي وقال له: كذبت! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله) فقال أبي بن خلف: كما غلبت عبدة النيران أهل الكتاب، فكذلك نحن نغلبكم) واستبعد المشركون ظهور الروم على فارس لشدة شوكة أهل فارس.
فقال أبو بكر لأبي بن خلف: (أنا أراهنك على أن الروم تغلب إلى ثلاث سنين) فراهنه أبي على خمس من الإبل، وقيل: على عشر من الإبل، (فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت أنا) ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:
" زد في الخطر وأبعد في الأجل "
ففعل ذلك، وجعل الأجل تسع سنين، وكان ذلك قبل تحريم القمار.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر:
" " إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ". قرأ: " زده في الخطر وماده في الأجل " "
فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت! فقال: أزيدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد أخاف فعلت.
فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة، أتاه فلزمه وقال أبي: إن تخرج من مكة فأقر لي كفيلا، فكفل له ابنه عبدالله بن أبي بكر، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد، أتاه عبدالله بن أبي بكر فلزمه وقال: لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا، فأعطاه كفيلا ومضى إلى أحد، ثم رجع فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس تسع سنين من مراهنتهم، وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل:
" لما كان يوم بدر قتلت المسلمون كفار مكة، وأتاهم الخبر أن الروم قد غلبت فارس، ففرح المسلمون بذلك، وغلب أبو بكر رضي الله عنه أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تصدق به " ".
ومعنى الآية: { غلبت الروم * في أدنى الأرض } يعني الجزيرة؛ وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، وقال عكرمة: (يعني أذرعات وكسكر). وقوله { وهم من بعد غلبهم } يعني الروم من بعد غلبة فارس إياهم سيغلبون فارس { في بضع سنين }؛ وهو ما بين الثلاث إلى العشر، فالتقى الروم وفارس في السنة السابعة من غلبة فارس إياهم، فغلبتهم الروم، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهزيمة فارس وظهور الروم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر.
قوله تعالى: { لله الأمر من قبل ومن بعد }؛ أي قبل أن غلبت الروم ومن بعد ما غلبت، يعني أن غلبة أحد الفريقين الآخر، أيهما كان الغالب والمغلوب؛ فإن ذلك كان بأمر الله تعالى وإرادته وقضائه وقدره.
وقوله تعالى: { ويومئذ يفرح المؤمنون }؛ يعني بغلب الروم فارس، يفرح المؤمنون، { بنصر الله }؛ الروم على فارس، ويكون فرح المؤمنين يومئذ لظهور معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وإهلاك بعض الكفار بعضا كما يفرح الصالحون بقتل الظالمين بعضهم بعضا.
وقوله تعالى: { ينصر من يشآء }؛ أي ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه، { وهو العزيز الرحيم }؛ أي هو العزيز بالنقمة ممن عصاه، الرحيم بأوليائه وهم المؤمنون.
[30.6]
قوله تعالى: { وعد الله لا يخلف الله وعده }؛ نصب على المصدر؛ أي وعد الله ذلك وعدا وهو راجع إلى قوله
سيغلبون
[الروم: 3] أي وعد الله ذلك لا يخلف الله وعده بظهور الروم على فارس، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ إن الله لا يخلف وعده؛ لأن أكثرهم كفار.
[30.7]
قوله تعالى: { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا }؛ يعني معايشهم وما يصلحهم. قال الحسن: (يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم، ويعلمون وجوه الاكتساب من التجارة والزراعة والحراثة والغراسة، وما يحتاجون إليه في الشتاء والصيف) قال الحسن: (بلغ والله من علم أحدهم في الدنيا أنه ينقر الدراهم بيده فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي!).
وقوله تعالى: { وهم عن الآخرة هم غافلون }؛ أي هم مع علمهم بأمور الدنيا لا يعلمون ما طريقة الدليل من أمر الآخرة، وما يكون فيها من البعث والثواب والعقاب، فهم غافلون عما هو أولى بهم، وعما يلزمهم من الاستعداد لذلك.
[30.8]
قوله تعالى: { أولم يتفكروا في أنفسهم } ، أي في خلق الله إياهم، { ما خلق الله السموت والأرض } ، فتعلمون أن الله لم يخلق السماوات والأرض، { وما بينهمآ إلا بالحق }؛ إلا بالحق؛ أي إلا الحق، { وأجل مسمى }؛ ومعنى الآية: أولم يتفكر أهل مكة بقلوبهم فيعلمون أن الله ما خلق السماوات والأرض، وما فيهما من العجائب والبدائع إلا ليحق الحق ويبطل الباطل، ويجزي كل عامل بما عمل عند انقضاء الأجل المسمى الذي جعله الله لانقضاء أمر السماوات والأرض وهو يوم القيامة. وقوله تعالى: { وإن كثيرا من الناس }؛ يعني كفار مكة، { بلقآء ربهم لكافرون }.
[30.9]
قوله تعالى: { أولم يسيروا في الأرض }؛ أي أولم يسافروا في الأرض، { فينظروا كيف كان عاقبة }؛ صار أمر، { الذين من قبلهم }؛ من الأمم السالفة حين كذبوا الرسل إلى الهلاك بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصف تلك الأمم فقال: { كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض }؛ أي حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، { وعمروهآ أكثر مما عمروها }؛ كفار مكة لأنهم كانوا أطول عمرا وأكثر عددا، { وجآءتهم رسلهم بالبينات } ، فلم يبق منهم ولا من عمارتهم أثر، فكذلك يكون حال هؤلاء.
قوله تعالى : { فما كان الله ليظلمهم }؛ بإهلاكهم، { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }؛ بالكفر والتكذيب.
[30.10]
قوله تعالى: { ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون }؛ أي ثم صار آخر أمر الذين أساءوا بالكفر والمعاصي السوء، يعني العذاب والنار بسبب تكذيبهم واستهزائهم بآيات الله. قال الفراء والزجاج: (السوءى ضد الحسنى وهي الجنة، وضدها النار)، وقال ابن قتيبة: (السوء جهنم، والحسنى الجنة، وإنما سميت سوءى؛ لأنها تسوء صاحبها).
[30.11-13]
قوله تعالى: { الله يبدأ الخلق ثم يعيده }؛ أي يخلقه من النطفة ثم يحييه بعد ما أماته { ثم إليه ترجعون }؛ ثم إلى موضع حسابه وجزائه يرجعون فيجزيهم بأعمالهم. قوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون }؛ أي ييأس المجرمون من رحمة الله، ومن كل خير حين عاينوا العذاب.
وقال الفراء: (ينقطع كلامهم وحجتهم)، وقيل: معنى (يبلس) أي يفتضح، وقيل: معناه: يندمون، وقيل: المبلس الساكت المنقطع عن حجته الآيس من أن يهتدي إليها، قال الشاعر:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
قال: نعم أعرفه وأبلسا
والمجرمون هم المشركون. قوله تعالى: { ولم يكن لهم من شركآئهم شفعاء }؛ أي لم يكن للكفار ممن أشركوه في العبادة شفعاء يشفعوا لهم إلى الله، { وكانوا بشركآئهم كافرين }؛ أي يتبرؤن منها ويتبرؤن منهم.
[30.14-15]
قوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون }؛ أي واذكر { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } الخلائق في طريق الجنة، وطريق النار. وقيل: معناه: يوم القيامة يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبدا.
وقال الحسن: (إن كانوا اجتمعوا في الدنيا ليفترقن يوم القيامة؛ هؤلاء في عليين، وهؤلاء في أسفل سافلين)، وهو قوله تعالى: { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون }؛ أي في الجنة ينعمون ويكرمون بالتحف ويسرون.
والحبرة السرور: وقيل: الحبرة كل نعمة حسنة، والتحبير التحسين. وسمي العالم حبرا لتخلقه بأحسن أخلاق المؤمنين، ويسمى المداد حبرا لأنه تحسن به الأوراق، وقيل: معنى الآية: فهم في رياض الجنة يتلذذون.
[30.16]
قوله تعالى { وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقآء الآخرة } ، وكذبوا بالبعث بعد الموت، { فأولئك في العذاب محضرون }؛ أي يحضرون في العذاب، ويحبسون.
[30.17-18]
قوله تعالى: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموت والأرض وعشيا وحين تظهرون }؛ أي فصلوا لله، على تأويل: فسبحوا لله، قال ابن عباس: (جمعت هذه الآية الصلوات الخمس ومواقيتها، فوقت المساء يصلى فيه المغرب والعشاء، { وحين تصبحون }: صلاة الفجر، { وعشيا }: العصر، { وحين تظهرون } الظهر).
وقوله تعالى: { وله الحمد في السموت والأرض } أي يحمده أهل السماوات وأهل الأرض، ويصلون له ويسجدون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قال: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون... } إلى قوله تعالى: { وكذلك تخرجون } وآخر سورة الصافات دبر كل صلاة، كتب الله من الحسنات عدد نجوم السماء، وقطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد نبات الأرض. وإذا مات أجرى الله له بكل حسنة عشر حسنات في قبره ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من سره أن يكتال له بالقفيز الأوفى فليقل: { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون... } إلى قوله تعالى: { وكذلك تخرجون * سبحان ربك رب العزة عما يصفون... } إلى آخر السورة ".
[30.19]
قوله تعالى: { يخرج الحي من الميت }؛ أي الإنسان الحي من النطفة الميتة، { ويخرج الميت من الحي } ، ويخرج النطفة وهي ميتة من الإنسان الحي، ويقال: يخرج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ، { ويحي الأرض } ، بإخراج الزروع منها، { بعد موتها }؛ أي بعد أن كانت لا تنبت، { وكذلك تخرجون } ، من قبوركم يوم القيامة إلى المحشر، فإن بعثكم بمنزلة ابتداء خلقكم، وهما في قدرة الله تستويان. قرأ حمزة: (تخرجون) بفتح التاء.
[30.20-21]
قوله تعالى: { ومن آياته أن خلقكم من تراب }؛ أي من دلائل قدرته وعلامات توحيده أن خلق أصلكم من تراب، يعني آدم، { ثم إذآ أنتم بشر تنتشرون }؛ أي ثم إذا أنتم من لحم ودم تنتشرون؛ أي تتفرقون في حوائجكم، وتنبسطون في الأرض، { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها }؛ أي من علامات توحيده وقدرته أن خلق لكم من جنسكم نساء لتطمئنوا إليها، ولم يجعلهن من الجن، { وجعل بينكم مودة ورحمة }؛ أي جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فيما يتراحمان ويتوادان، وما من شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما، حتى أن كثيرا من الناس يهجر عشيرته بسبب زوجته، وكذلك من النساء من تهجر عشيرتها بسبب زوجها.
والمعنى: من دلالة توحيد الله وقدرته أن خلق من نطفة الرجال ذكورا وإناثا؛ ليسكن الذكور إلى الإناث، والنطف عن صفة واحدة، { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون }؛ في عظمة الله وقدرته.
[30.22]
قوله تعالى: { ومن آياته خلق السموت والأرض } ، أي ومن علامات توحيده خلق السماوات والأرض بما فيهما من العجائب، { واختلاف ألسنتكم وألوانكم } ، أي لغاتكم وأصواتكم وصوركم وألوانكم، لأن الخلق بين عربي وعجمي وأسود وأحمر وأبيض، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، { إن في ذلك لآيات للعالمين }؛ أي للبر والفاجر والإنس والجن.
[30.23]
قوله تعالى: { ومن آياته منامكم باليل والنهار }؛ أي ومن آياته كيفية نومكم، وكيف يغلب عليكم، وأين يأتيكم، وكيف يزول عنكم فتطلبون معيشتكم، وقوله تعالى: { وابتغآؤكم من فضله }؛ تقدير (وابتغاؤكم من فضله بالنهار) يعني تصرفكم في طلب المعيشة بالنهار، { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } القرآن؛ سماع الاستدلال، والاعتبار، والتدبر.
[30.24]
قوله تعالى: { ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السمآء مآء }؛ أي خوفا للمسافر من الصواعق، وطمعا للمقيم في المطر وسقي الزرع، { فيحيي به الأرض بعد موتها }؛ أي في البرق، وإنزال المطر وإحياء الأرض بعد قحطها، { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }.
[30.25]
قوله تعالى: { ومن آياته أن تقوم السمآء والأرض بأمره }؛ يعني من غير عمد تحتهما، ولا علاقة فوقهما بقدرة الله وتسكينه، قوله تعالى: { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض }؛ أي ثم إذا دعاكم من القبور عند النفخة الثانية يدعو إسرافيل بأمره من صخرة بيت المقدس: أيتها الأجساد البالية والعروق المتمزقة والشعور المتمرطة، { إذآ أنتم تخرجون }؛ من قبوركم مهطعين إلى الداعي.
[30.26]
قوله تعالى: { وله من في السموت والأرض }؛ أي هم عبيدا وملكا، { كل له قانتون } ، أي كل له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث، وإن عصوا في العبادة فهم منقادون لله عز وجل لا يقدرون على الامتناع من شيء يراد بهم من صحة ومرض وغنى وفقر وحياة وموت.
[30.27]
قوله تعالى: { وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده }؛ أي هو الذي يبدأ الخلق من النطفة ثم يميته فيصير ترابا كما كان، ثم يبعثه في الآخرة. وقوله تعالى: { وهو أهون عليه }؛ أي الإعادة هينة عليه، وما شيء عليه بعسير، وقد يذكر لفظ (يفعل) بمعنى (فعيل) كقوله (الله أكبر) بمعنى كبير، وكذلك أهون عليه أو هين عليه. قال الفرزدق:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل
على أينا تعدو المنية أول
يريد بقوله: لأوجل؛ أي وجل، وقال أيضا:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا قوائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة. وإنما قيل على هذا التأويل؛ لأنه لا يجوز أن يكون بعض الأشياء على الله أهون من بعض.
قوله تعالى: { وله المثل الأعلى في السموت والأرض }؛ أي له الصفة العليا وهي القدرة التي لا يجري عليها العجز، { وهو العزيز الحكيم }؛ أي القاهر لكل شيء، الحكيم في جميع أفعاله.
[30.28]
قوله تعالى: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم }؛ أي وصف لكم أيها المشركون مثلا من أنفسكم، وبين لكم ذلك المثل من أنفسكم، ثم بينه فقال { هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركآء في ما رزقناكم } ، أي هل لكم من عبيدكم وإمائكم من شركاء فيما رزقناكم من الأموال؛ أي هل يشاركونكم في أموالكم فتكونوا أنتم مع عبيدكم سواء فيما أعطيناكم، { فأنتم فيه سوآء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } ، أي تخافون عبيدكم أن يقاسموكم في مالكم كما تخافون نساءكم وأقاربكم أن يورثوكم بعدكم، أو تخافوا لائمة عبيدكم إذا لم تعطوهم حقهم، كما تخافون لائمة بعضكم بعضا من الأقارب والشركاء إذا لم يؤدوا حقهم إليهم.
قالوا: لا! فقال: أفترضون لله تعالى ما لا ترضون لأنفسكم، تشركون عبيد الله في ملكه، وقد خلقهم، ولا تشركون عبيدكم فيما رزقكم الله وأنتم لم تخلقوهم، وتجعلون الخوف من عبيد الله كالخوف من الله إذ تعبدونهم كعبادة الله تعالى، { كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون }؛ أي هكذا يبين الآيات واحدة بعد واحدة ليكون ذلك أقرب إلى الفهم وواقع في القلب.
ومعنى { أنفسكم } ها هنا: أمثالكم من الأحرار، كقوله
ولا تلمزوا أنفسكم
[الحجرات: 11]. ومعنى الآية: كيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء وأنتم عبيدي وأنا مالكهم جميعا، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيده، كذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه.
[30.29]
قوله تعالى: { بل اتبع الذين ظلموا أهوآءهم بغير علم }؛ أي ليس لهم في الإشراك شبهة من حيث الحجة، ولكنهم يشركون بالله بناء على الجهل وهوى النفس { فمن يهدي من أضل الله }؛ أي لا هادي لمن أضله الله، { وما لهم من ناصرين }؛ أي ما لهم من مانعين من عذاب الله.
[30.30]
قوله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا }؛ أي فأقم يا محمد على دين الإسلام، وقوله { حنيفا } أي مائلا عن كل دين إلا الإسلام، وقوله تعالى: { فطرت الله }؛ أي اتبع دين الله، والفطرة: الملة؛ وهي الإسلام والتوحيد، { التي فطر الناس عليها }؛ أي خلق الله المؤمنين عليها، وقد ورد في الحديث:
" كل مولود يولد على الفطرة "
إلى آخر الحديث.
وانتصب قوله { فطرت الله } على الإغراء، وقيل: على معنى: اتبع فطرة الله.
وقوله تعالى: { لا تبديل لخلق الله }؛ أي لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثبات عليه، وهو نفي معناه النهي؛ أي لا تبدلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشرك. وقوله تعالى: { ذلك الدين القيم } يعني التوحيد هو الدين المستقيم، { ولكن أكثر الناس }؛ يعني كفار مكة، { لا يعلمون }؛ توحيد الله ودين الإسلام هو الحق.
[30.31-32]
قوله تعالى: { منيبين إليه واتقوه }؛ أي أقيموا وجوهكم راجعين إلى الله في كل ما أمركم به، لا تخرجون عن شيء من أوامره، وهذا لأن الخطاب في أول هذه الآيات للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله { فأقم وجهك } ، والمراد به أمته، كما في قوله
يأيها النبي إذا طلقتم النسآء
[الطلاق: 1] فكأنه قال: أقيموا وجوهكم منيبين؛ أي راجعين إلى أوامره، وقوله تعالى { واتقوه } أي اتقوا مخالفته، { وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم }؛ أي زايلوا دينهم الذي أمروا بالثبات عليه .
ومن قرأ (فرقوا دينهم) فمعناه: صاروا فرقا، وذلك معنى قوله: { وكانوا شيعا } ، أي صاروا جماعة، { كل حزب بما لديهم فرحون } ، أي كل جماعة اختارت دينا مثل اليهود والنصارى وسائر الملل، كل أهل دين يفرحون بما عندهم من الدين.
[30.33-34]
قوله تعالى: { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم }؛ أي إذا أصاب الناس شدة وبلية وقحط وغلاء يعني كفار مكة، دعوا ربهم لدفع الشدة، { منيبين إليه }؛ أي راجعين إليه، منقطعين من الخلق، لا يلجأون في شدائدهم إلى أوثانهم، { ثم إذآ }؛ أذهب عنهم تلك الشدة و { أذاقهم منه رحمة }؛ أي أعطاهم من عنده المطر، { إذا فريق منهم بربهم يشركون }؛ أي يعودون إلى الشرك { ليكفروا بمآ آتيناهم }؛ فيبدلوا الشكر كفرا، { فتمتعوا }؛ أي تلذذوا في الدنيا، { فسوف تعلمون } ، ماذا ينزل بكم.
[30.35]
قوله تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطانا }؛ أي أم أنزلنا على هؤلاء حجة وبرهانا وكتابا من السماء، { فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } ، يشهد وينطق بأن الله أمرهم بما يفعلون. وهنا استفهام إنكار؛ أي ليس الأمر على هذا.
[30.36]
قوله تعالى: { وإذآ أذقنا الناس رحمة فرحوا بها }؛ أي إذا أذقناهم نعمة استبشروا بها، { وإن تصبهم سيئة }؛ شدة ومحنة وبلية، { بما قدمت أيديهم }؛ في الشرك من المعاصي { إذا هم يقنطون }؛ أي إذا هم ييأسون من رحمة الله.
[30.37]
قوله تعالى: { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر }؛ أي ويضيق، { إن في ذلك }؛ أي في البسط والتقتير، { لآيات }؛ دالة على التوحيد، { لقوم يؤمنون }.
[30.38]
قوله تعالى: { فآت ذا القربى حقه }؛ أي أعط ذا القربى في الرحم حقه من الصلة والبر، وأعط { والمسكين }؛ الذي يطوف على الأبواب حقه أيضا، وهو التصدق عليه، وأعط { وابن السبيل }؛ النازل بك حقه؛ أي ضيافته، يعني أكرم الضيف النازل بك، { ذلك خير }؛ أي الذي ذكرت من الصلة والإعطاء والضيافة خير، { للذين يريدون وجه الله }؛ يعني رضا الله؛ أي إعطاء الحر أفضل من الإمساك { وأولئك هم المفلحون }؛ أي الفائزون السعداء الباقون في الجنة، ومن أعطى أحدا لا يريد به وجه الله ذهب ماله من غير أن يحصل على شيء، فلذلك قال: { يريدون وجه الله }.
[30.39]
قوله تعالى: { ومآ آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله }؛ أي ما تعاطيتم من عقد الربا رجاء أن تزيدوا أموالكم فلا يزيد في حكم الله، وعلى الآخذ أن يرده على المأخوذ منه، قال الله تعالى:
يمحق الله الربوا
[البقرة: 276].
قرأ ابن كثير (أتيتم) مقصورا غير ممدود. وقوله تعالى (ليربوا)، قرأ الحسن ونافع: (لتربو) بتاء مضمومة وجزم الواو على الخطاب؛ أي لتربو أنتم، وقرأ الباقون (ليربوا) بياء مفتوحة ونصب الواو، وجعلوا الفعل للربا.
وقوله تعالى: { ومآ آتيتم من زكاة تريدون وجه الله }؛ أي ما أعطيتم من صدقة تريدون بها رضا الله، { فأولئك هم المضعفون }؛ الذين يضاعف لهم في العاجل والآجل، يقال: رجل مضعف؛ أي ذو أضعاف كما يقال: رجل مقوي ذو قوة، وموسر؛ أي صاحب يسار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { ومآ آتيتم من ربا }: (الربا ها هنا هو هبة الرجل لصاحبه يريد أن يثاب أفضل منه). وقال السدي: (هو الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المجازاة، فإن ذلك لا يربو عند الله، ولا يؤجر عليه صاحبه ولا إثم عليه)، وقال الزجاج: (هو دفع الإنسان الشيء ليعوض ما هو أكبر منه، وذلك ليس بحرام ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهديه يستدعي ما هو أكثر منه، وإنما يربو عند الله هو العطية التي لا يطلب بها المكافأة، ولا يراد بها إلا رضا وجه الله).
[30.40]
قوله تعالى: { الله الذي خلقكم ثم رزقكم }؛ أي خلقكم في بطون أمهاتكم ثم أخرجكم، { ثم يميتكم }؛ بعد انقضاء آجالكم، { ثم يحييكم }؛ بعد الموت، { هل من شركآئكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون }.
[30.41]
قوله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر }؛ أي قحط المطر ونقصت الغلات وذهبت البركة في البر والبحر، أي أجدب البر وانقطعت مادة البحر، { بما كسبت أيدي الناس }؛ أي بشؤم ذنوبهم ومعاصيهم، الناس كفار مكة، { ليذيقهم }؛ الله بالجوع في السنين السبع، يعني { بعض الذي عملوا }؛ أي جزاؤه ليكون عقوبة معجلة، { لعلهم يرجعون }؛ من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، فيكشف الله عنهم الشدة. وفي هذا تنبيه على أن الله تعالى إنما يقضي بالجدوبة ونقص الثمرات والنبات لطفا منه في رجوع الخلق عن المعصية.
[30.42]
قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض }؛ أي قل لأهل مكة سافروا في الأرض، { فانظروا كيف كان عاقبة } ، أي كيف صار إجرام، { الذين من قبل كان أكثرهم مشركين }؛ أي انظروا إلى ديار عاد وثمود وقوم لوط ليدلكم ذلك على أنه لا ينبغي لأحد أن يكفر بالله تعالى.
[30.43]
قوله تعالى: { فأقم وجهك للدين القيم }؛ أي أقم قصدك وعملك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم وهو الإسلام المستقيم الذي لا عوج فيه، واعمل به أنت ومن تبعك، { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله }؛ يعني يوم القيامة، { يومئذ يصدعون }؛ أي يوم القيامة يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار.
[30.44-45]
قوله تعالى: { من كفر فعليه كفره } أي ضرر كفره، { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون }؛ أي يطأون لأنفسهم منازلهم في الجنة، { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ ثوابهم، ثم يزيدهم { من فضله }؛ أي يثيبهم أكثر من أعمالهم، { إنه لا يحب الكافرين }؛ أي يكرمهم ولا يثيبهم ولا يرضى عنهم.
[30.46]
قوله تعالى: { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات }؛ أي من علامات توحيده إرساله الرياح للبشارة بالمطر، { وليذيقكم من رحمته }؛ يعني الغيث والخصب، { ولتجري الفلك }؛ أي السفن تجري في البحر بتلك الرياح، { بأمره ولتبتغوا من فضله }؛ أي ولتسلكوا في البحر على السفن للتجارة وطلب الرزق بهذه الرياح، { ولعلكم تشكرون }؛ هذه النعم فتوحدونه.
[30.47]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات }؛ أي بالدلالات الواضحات فكذبوا بها، { فانتقمنا من الذين أجرموا }؛ أي عذبنا الذين كذبوهم، { وكان حقا علينا نصر المؤمنين }؛ أي كان واجبا علينا إنجاء المؤمنين مع الرسل من عذاب الأمم، وفي هذا تبشير للنبي صلى الله عليه وسلم بالظفر والنصر على من كذب به.
[30.48-49]
قوله تعالى: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا }؛ أي تزعجه من حيث هو، وذلك أن الله يحدث السحاب عقيب الرياح فترفعه الرياح في الهواء، { فيبسطه في السمآء كيف يشآء ويجعله كسفا } أي قطعا بعضها فوق بعض، { فترى الودق } يعني المطر، { يخرج من خلاله }؛ أي من وسطه إلى قوم دون قوم، { فإذآ أصاب به }؛ بذلك المطر، { من يشآء من عباده إذا هم يستبشرون }؛ يفرحون بالمطر، { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم }؛ المطر { من قبله لمبلسين }؛ أي يائسين من ذلك، كرره للتأكيد، والمبلس هو الآيس القانط.
[30.50]
قوله تعالى: { فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتهآ } ، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره. وآثار الرحمة هي أنواع النبات الذي ينبت من المطر من بين أخضر وأحمر وغير ذلك من الألوان.
وقوله { كيف يحي الأرض بعد موتهآ } كيف يجعل الأرض مخضرة بعد يبسها، { إن ذلك لمحي الموتى } ، أي الذي فعل ذلك هو الذي يحيي الموتى للنشور، فإنه كما يعيد الشجر الذي ظهر يبسه، ويعيد فيه الخضرة والنور والثمرة، كذلك يحيي الموتى، { وهو على كل شيء قدير }؛ من الموت والبعث قدير.
[30.51]
قوله تعالى: { ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا } ، ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فأيبست زروعهم، ورأوا الزرع مصفرا بعد خضرته، { لظلوا من بعده يكفرون } ، لصاروا بعد اصفرار النبت يجحدون ما سلف من النعمة، يعني أنهم يفرحون عند الخصب، وإذا استبطأوا الخصب والرزق جزعوا فكفروا بالنعم.
[30.52-53]
قوله تعالى: { فإنك لا تسمع الموتى }؛ يعني الكفار لا يسمع، والأعمال الذي لا يبصرون، ولذلك قال: { ولا تسمع الصم الدعآء إذا ولوا مدبرين * ومآ أنت بهاد العمي عن ضلالتهم }؛ أي لا تقدر أن تجبرهم على الهدى، وإنما بعثت داعيا ومبلغا. قوله تعالى: { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا }؛ أي إلا من يصدق بكتابنا، { فهم مسلمون }؛ أي هم الذين يستبدلون به فهم مخلصون منقادون لأمر الله.
[30.54]
قوله تعالى: { الله الذي خلقكم من ضعف }؛ أي من نطفة ضعيفة بطون الأمهات، ثم أطفالا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، { ثم جعل من بعد ضعف قوة } ، ثم جعلكم أقوياء بما أعطاكم من العقل والاستطاعة والهداية والتصرف في اختلاف المنافع ودفع المضار، { ثم جعل من بعد قوة }؛ قوة الشباب، { ضعفا }؛ عند الكبر والهرم، { وشيبة يخلق ما يشآء }؛ من ضعف وقوة وشيبة وشباب، { وهو العليم القدير }؛ أي العليم بخلقه القادر على تحويلهم من حال إلى حال.
[30.55]
قوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة }؛ أي تقوم الساعة، يحلف المشركون ما لبثوا في القبور غير ساعة واحدة. وقيل: ما لبثوا في الدنيا غير ساعة يستقلون في جنب أيام الآخرة، { كذلك كانوا يؤفكون }؛ أي هكذا كانوا يكذبون في الدنيا بجهلهم وغفلتهم كما كذبوا في الآخرة.
[30.56]
قوله تعالى: { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث }؛ أراد بالذين أوتوا العلم: الملائكة والأنبياء والمؤمنون، يقولون للكفار بعد ما أقسموا: لقد لبثتم فيما كتب الله لكم من اللبث إلى يوم البعث، وقيل: في حكم الله، وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ تقديره: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وهم الذين يعلمون كتاب الله. وقوله: { فهذا يوم البعث }؛ أي يوم الذي كنتم تنكرونه في الدنيا، وتكذبون به، { ولكنكم كنتم لا تعلمون }؛ وقوعه في الدنيا فلا ينفعكم العلم به الآن.
[30.57]
قوله تعالى: { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم }؛ أي اعتذارهم من الذنوب إن اعتذروا، { ولا هم يستعتبون }؛ أي لا يجابون إلى ما يطلبون من الرجعة إلى الدنيا، فإنهم يقولون:
ربنآ أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا
[السجدة: 12]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يقبل من الذين أشركوا عذر ولا عتاب ولا توبة في ذلك اليوم).
[30.58]
قوله تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل }؛ أي بينا لهم في القرآن من كل صفة، { ولئن جئتهم بآية }؛ مثل العصا واليد وبكل حجة، { ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون }؛ أي ما أنتم إلا على الباطل يا محمد وأصحابك!.
[30.59]
قوله تعالى: { كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون }؛ أي يختم على قلوب الذين لا يعلمون توحيد الله، فكل من لا يعلم توحيد الله فذلك لأجل ما طبع الله على قلبه.
[30.60]
قوله تعالى: { فاصبر إن وعد الله حق }؛ أي اصبر يا محمد على تبليغ الرسالة والوحي، وعلى ما يلحقك من أذية الكفار، فإن ما وعد الله من النصر وإظهار دين الإسلام صدق كائن يأتيك في حينه. والمعنى: (فاصبر إن وعد الله حق) بنصر دينك وإظهارك على عدوك حق فلا يحملنك تكذيب الكفار الذين لا يستيقنون بأمر الله على الحق، وكن حليما صبورا.
وقوله: { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } ، لا تعجل بالدعاء عليهم فيما يستعجلون من العذاب لقولهم:
ائتنا بعذاب الله
[العنكبوت: 29]، و
متى هذا الوعد
[سبأ: 29] و
عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب
[ص: 16]. ومعنى الآية: (ولا يستخفن) رأيك وحلمك يا محمد { الذين لا يوقنون }؛ بالبعث والحساب.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-5]
هذه السورة آيات الكتاب الحكيم الذي وعدك الله أن ينزله عليك.
وانتصب { هدى ورحمة } على الحال. وقرأ حمزة بالرفع على الابتداء، وقيل: على إضمار هو. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (معنى الآية: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب للموحدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) وما بعد هذا قد تقدم تفسيره.
[31.6]
قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم }؛ نزلت هذه الآية وما بعدها في النضر بن الحارث، كان اشترى كتبا فيها أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة، ويتملق بها في المجالس، ويقول: إن محمدا يحدثكم أحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم أحاديث فارس والروم، وأقرأ عليكم كما محمد يقرأ عليكم أساطير الأولين هو يأتيكم بكتاب فيه قصص الأمم الماضية، وأنا أتيت بمثله! وكانوا يستملحون حديثه، وكان إذا سمع شيئا من القرآن يهزأ به ويعرض عنه. فذلك قوله: { ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين }؛ أي ليصرف الناس عن دين الله بلا علم، ومن قرأ (ليضل) بفتح الياء، فمعناه: ليتشاغل بما يلهيه، وليصير أمره إلى الضلال والباطل.
ومعنى قوله تعالى { لهو الحديث } أي باطل الحديث، هذا قول الكلبي ومقاتل، وقيل: المراد بلهو الحديث الغناء، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهن ولا شراؤهن، وثمنهن حرام، والذي نفس محمد بيده؛ ما رفع رجل قط عقيرته يتغنى إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما على ظهره وصدره حتى يسكت "
، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وابن مسعود، قالوا: (هو والله الغناء، واشتراء المغنية والمغني بالمال).
وقال صلى الله عليه وسلم:
" " من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع أصوات الروحانيين يوم القيامة " قيل: وما الروحانيون يا رسول الله؟ قال: " أهل الجنة " "
، وعن إبراهيم النخعي أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب) وقال مكحول: (من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصل عليه).
قوله تعالى: { بغير علم } أي أنه جاهل فيما يفعل، لا يفعله عن علم، { ويتخذها هزوا } بالرفع عطفا على { من يشتري } ، وبالنصب عطفا على { ليضل } ، والكتابة المذكورة تعود إما إلى الآيات المذكورة في أول السورة، وإما إلى (سبيل الله)، والسبيل يؤنث لقوله
قل هذه سبيلي
[يوسف: 108].
[31.7]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا }؛ أي أعرض عن قبولها متعظما عن الإيمان بها، { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا }؛ أي ثقلا يمنعه عن السماع، { فبشره بعذاب أليم }؛ وجيع في الدنيا قبل أن يصل إلى الآخرة، وهو ما روي: (أنه أخذ أسيرا يوم بدر فقتل صبرا).
[31.8-9]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم * خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم }؛ ظاهر المعنى.
[31.10]
قوله تعالى: { خلق السموت بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم }؛ أي جبالا ثم أرسيت أوتاد لها لئلا تميد بأهلها، { وبث فيها من كل دآبة }؛ أي فرق الدواب الكثيرة في الأرض، { وأنزلنا من السمآء مآء }؛ يعني المطر، { فأنبتنا فيها من كل زوج كريم }؛ أي من كل نوع حسن.
[31.11]
قوله تعالى: { هذا خلق الله }؛ أي هذا الذي ذكرت لكم مما تعاينون خلق الله، { فأروني }؛ أيها الكفار، { ماذا خلق الذين من دونه }؛ أي شيء خلقه الذي تعبدون من دونه، فلم تجدوا شيئا يشيرون إليه من خلق غيره، ولم يقدروا على جواب هذا الكلام، فقيل: { بل الظالمون }؛ أي الكافرون، { في ضلال مبين }.
[31.12]
قوله تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة }؛ يعني العقل والعلم والعمل به، والإصابة في الأمور. واتفق العلماء على أن لقمان حكيما، ولم يكن نبيا إلا عكرمة وحده فإنه قال: (كان لقمان نبيا)، وقال بعضهم: خير لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة!
وعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" حقا أقوله: لم يكن لقمان نبيا، ولكن عبدا صمصامة، كثير التفكر، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمن عليه بالحكمة "
وروي أنه كان تتلمذ لألف نبي عليهم السلام.
واختلفوا في حرفته، فقال الأكثرون: كان نجارا، ويقال: كان خياطا، ويقال: كان راعيا، ويروى: كان عبدا حبشيا غليظ الشفتين مشقوق الرجلين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مر رجل بلقمان والناس مجتمعون حوله وهو يعظهم، فقال: ألست العبد الأسود الذي كنت ترعى الغنم؟! قال: بلى، قال: فما بلغ بك إلى ما أرى؟ قال: صدق الحديث؛ وأداء الأمانة؛ وترك ما لا يعنيني).
وعن أنس: (أن لقمان كان عبد داود عليه السلام وهو يسرد درعا، فجعل لقمان يتعجب مما يرى، ويريد أن يسأله فمنعته حكمته من السؤال، فلما فرغ منها، جعلها عليه وقال: نعم درع الحرب هذا ونعم حامله، فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله).
وقال عكرمة: (كان لقمان من أهون مماليك سيده، فبعث مولاه مع عبيد له إلى بستان لمولاهم يأتونه من ثمره، فجاءوا وليس معهم شيء، وقد أكلوا الثمرة، وأحالوا على لقمان بذلك! فقال لقمان لمولاه: إن ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينا، فاسقني وإياهم ماء حميما، فسقاهم فجعلوا يتقيؤن الفاكهة، وجعل لقمان يتقيأ ماء بحتا، فعرف صدقه وكذبهم).
قال: (وأول ما روي من حكمته أنه جاء مع مولاه فدخل المخدع، فأطال الجلوس فيه، فناداه لقمان: إن طول الجلوس على الحاجة يتجمع منه الكدر، ويورث الباسور، وتصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هوينا وقم هوينا، قال: فخرج وكتب حكمته على باب الحش).
ومعنى الآية { ولقد آتينا لقمان } علم التوحيد والمواعظ والفقه والعقل والإصابة في القول، وألهمناه أن يشكر الله على ما أعطاه من الحكمة.
ومعنى قوله: { أن اشكر لله }؛ أي قلنا له: اشكر الله فيما أعطاك من الحكمة، { ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه }؛ أي من يشكر نعم الله فإن منفعة شكره راجعة إلى نفسه، { ومن كفر }؛ فلم يوحد، { فإن الله غني }؛ عن شكره، { حميد }؛ يحمده الشاكر ويثبته على شكره.
[31.13]
قوله تعالى: { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه }؛ أي واذكر: إذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: { يبني لا تشرك بالله }؛ أحدا في العبادة، { إن الشرك لظلم عظيم }؛ عند الله؛ أي ليس من الذنوب شيء أعظم من الشرك بالله؛ لأن الله تعالى هو الحي المميت الخالق الرازق، فإذا أشركت به أحدا غيره فقد جعلت النعمة لغير ربها، وذلك من أعظم الظلم.
[31.14]
قوله تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه }؛ نزل في سعد بن أبي وقاص؛ لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حلفت أمه لا تذوق طعاما ولا شرابا ولا يظلها شيء حتى يرجع سعد إلى دينه، فمضت على هذا أياما، فبلغ من أمرها إلى أن تداخل بعض أسنانها في بعض، فأنزل الله هذه الآية، فقال سعد: (لو كان لها سبعون نفسا فخرجت ما ارتددت عن الإسلام) ففتح فاها وصب فيه الطعام والشراب. ومعنى { ووصينا الإنسان } أي أمرناه ببر والديه عطفا عليهما.
وقوله تعالى: { حملته أمه وهنا على وهن }؛ أي ضعفا على ضعف، ومشقة على مشقة، كلما ازداد الولد في الرحم كبر، ازدادت الأم ضعفا.
قوله تعالى: { وفصاله في عامين }؛ أي وفطامه في انقضاء عامين، وقدره بعامين بناء على الأغلب، ولأن الرضاع لا يستحق بعد هذه المدة. والفصال هو الفطام، وهو أن يفصل الولد عن الأم كي لا يرضع. والمعنى بهذا ذكر مشقة الوالدة بإرضاع الولد عامين. وروي عن يعقوب: (وفصله في عامين) بغير ألف.
قوله تعالى: { أن اشكر لي ولوالديك }؛ أي قلنا له اشكر لي على خلقي إياك، وعلى إنعامي عليك، واشكر لوالديك على تربيتهما إياك. وقال مقاتل: (اشكر لي إذ هديتك للإسلام، ولوالديك بما أولياك من النعم).
قوله تعالى: { إلي المصير }؛ أي مصيرك ومصير والديك، وعن سفيان بن عيينة في قوله: { أن اشكر لي ولوالديك } قال: (من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في إدبار الصلوات فقد شكر للوالدين).
[31.15]
قوله تعالى: { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما }؛ أي أجهدا عليك لتشرك بي جهلا بغير علم فلا تطعهما، فإن حقهما وإن عظم فليس بأعظم من حقي.
وقوله تعالى: { وصاحبهما في الدنيا معروفا }؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" حسن المصاحبة أن تطعمهما إذا جاعا، وتكسوهما إذا عريا، وعاشرهما عشرة جميلة "
{ واتبع سبيل من أناب إلي }؛ أي واتبع طريق من رجع إلي؛ أي من سلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والمعنى: واتبع دين من أقبل إلى طاعتي وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: (يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه أنه حين أتاه عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا: يا أبا بكر آمنت وصدقت محمدا؟ قال: نعم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدقوا، فأنزل الله تعالى يقول لسعد: (واتبع سبيل من أناب إلي) يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه).
ويستدل من قوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } على أن الابن لا يستحق القود على أبيه، ولا يحد الأب بقذفة الابن، ولا يحبس الأب بدين الابن، لأن في إيجاب القود والحد والحبس له عليه ما ينافي مصاحبتهما.
وعن أبي يوسف: (أن القاضي يأمر الأب بقضاء دين الابن، فإن تمرد حبسه لاستخفاف أمره) وقال محمد بن الحسن: (يحبس الأب في نفقة الابن الصغير، ولا يحبس بالدين الذي له عليه؛ لأنه لو لم يحبس في نفقة الصغير لتضرر الولد).
قوله تعالى: { ثم إلي مرجعكم }؛ أي مرجعكم ومرجع آبائكم، { فأنبئكم بما كنتم تعملون }؛ من الخير والشر. وقد تضمنت هذه الآية النهي عن صحبة الكفار والفساق، والترغيب في صحبة الصالحين لقوله تعالى { واتبع سبيل من أناب إلي }.
[31.16]
قوله تعالى: { يبني إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموت أو في الأرض يأت بها الله }؛ وذلك أن ابن لقمان سأل أباه فقال: أرأيت الحبة التي تكون في قعر البحار؛ أيعلمها الله؟ فأعلمه أن الله يعلم الحبة أينما كانت.
وقيل: إن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت! إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد، كيف يعلمها الله؟ فقال لقمان لابنه: { إنهآ إن تك } يعني إن المعصية إن تك مثقال حبة من خردل فتكون في صخرة التي تحت الأرضين السبع أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله للجزاء عليها.
ومن قرأ برفع (مثقال) فتقديره: أن تقع مثقال حبة.
وقوله تعالى: { إن الله لطيف خبير }؛ أي قادر على الإتيان بها، خبير بموضعها، يوصلها إلى صاحبها حيث كان. واللطيف: العالم بكل دقيق وجليل. ومعنى الآية: أن الله تعالى ضرب هذا مثلا لأعمال العباد، يعني أنه يأتي بأعمالهم يوم القيامة، وإن كان العمل الصالح في الصغر بوزن حبة من خردل، فالله تعالى يحفظه ولا يخفى عليه مكانه حتى يجازيه عليه، ونظير هذا قوله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
[الزلزلة: 7-8].
[31.17]
قوله تعالى: { يبني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر }؛ أي أقم الصلاة التي افترضها الله عليك، وأمر بالطاعة وانه عن المعصية، { واصبر على مآ أصابك }؛ من الأذية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوله تعالى: { إن ذلك من عزم الأمور }؛ أي الصبر على ما أصابك في ذات الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عظام الأمور. وقيل: من حق الأمور التي أمر الله بها.
[31.18]
قوله تعالى: { ولا تصعر خدك للناس }؛ قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (تصاعر) بالألف، وقرأ الباقون (تصعر) بغير ألف. قال ابن عباس: (معناه: لا تتكبر فتحقرك الناس، ولا تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك)، يقال : صعر خدك وصاعر، إذا مال وأعرض تكبرا. والمعنى: لا تتعظم على خلق الله، ولا تعرض عن الناس تكبرا عليهم، بل يكون الفقير والغني عندك سواء، ولا تعبس في وجه أحد من الناس.
قوله تعالى: { ولا تمش في الأرض مرحا }؛ أي ولا تمش في الأرض بالإعجاب والبطر وازدراء الناس، قال الحسن: (أنى لابن آدم الكبر وقد خرج من مخرج البول مرتين؟!).
وروي: أن المهلب بن أبي صفرة مر على مطرف بن عبدالله وهو يتبختر في جبة خز، فقال: (هذه مشية يبغضها الله ورسوله) فقال له المهلب: ما تعرفني؟! قال: (بلى؛ أعرفك، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل بين العذرة) فمضى المهلب وترك مشيته تلك.
وروي: أن عبدالله بن محمد بن واسع خرج يوما يتمشى، فقال محمد بن واسع: (من هذا؟!) قالوا: هذا ولدك عبدالله، قال: ادعوه، فجاؤا به إليه، فقال له: (يا بني! أتدري بكم اشتريت أمك؟ اشتريتها بثلاثمائة درهم، وأبوك لا كثر الله من مثله في الناس، أتمشي هذه المشية؟!).
قوله تعالى: { إن الله لا يحب كل مختال فخور }؛ الاختيال: هو التبختر في المشي، والفخور: هو المتطاول بذكر المناقب على السامع والافتخار عليه، وذلك مذموم لأن المستحق على نعم الله شكرا لا الفخر.
[31.19]
قوله تعالى: { واقصد في مشيك }؛ أي تواضع ولا تتبختر، وليكن مشيك قصدا لا تبخترا ولا إسراعا. قال صلى الله عليه وسلم:
" سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن "
يقال: قصد فلان في مشيته إذا مشى مستويا، وقال مقاتل: (لا تختل في مشيتك)، وقال عطاء: (قوله تعالى: { واقصد في مشيك } أي امش بالوقار والسكينة) كقوله تعالى:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا
[الفرقان: 63]، والمعنى: اقصد في المشي، لا تعجل ولا تمش بالهوينا.
قوله تعالى: { واغضض من صوتك }؛ أي اخفض صوتك ولا ترفعه على وجه انتهار الناس وإظهار الاستخفاف بهم، وقال عطاء: (معناه: اغضض من صوتك إذا دعوت وناجيت ربك)، وكذلك وصية الله تعالى في الإنجيل لعيسى عليه السلام: مر عبادي يخفضوا أصواتهم إذا دعوني، فإني أسمع وأعلم ما في قلوبهم.
قوله تعالى: { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير }؛ أي أقبح الأصوات صوت الحمير؛ لأن أوله زفير وآخره شهيق. قال ابن زيد: (لو كان في رفع الصوت خيرا ما جعله الله للحمير)، وعن أم سعد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الله تعالى يبغض ثلاثة أصوات: نهيق الحمار، ونباح الكلب، والداعية بالويل والحرب "
وقال سفيان: (صياح كل شيء تسبيحه الله إلا الحمار فإنه ينهق بلا فائدة).
[31.20]
قوله تعالى: { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموت وما في الأرض }؛ أي ألم تروا أن الله خلق وذلل لمنافعكم ولمصالحكم ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر، وفي الأرض من الأشجار والأنهار والبحار والدواب.
قوله تعالى: { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة }؛ أي أتم عليكم ووسع لكم نعمه (ظاهرة) من الخلق الحسن وسلامة الأعضاء الظاهرة، (وباطنة) من العقل والفهم والفطنة والمعرفة بالله.
وقيل: النعمة الظاهرة هي الإسلام، والباطنة ما يخفى من الذنوب ويستر من العورات. وقيل: الظاهرة ما يعلم الناس من حسناتك، والباطنة ما لا يعلمون من السيئات.
وقال الضحاك: (الظاهرة: حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة المعرفة). وقيل: الظاهرة الإسلام وما أفضل عليك من الرزق، والباطنة ما ستر من سوء عملك.
وقيل: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم العقبى. وقيل: الظاهرة تسوية الظواهر، والباطنة تصفية السرائر. وقيل: الظاهرة الرزق الذي يكتسب، والباطنة الرزق من حيث لا تحتسب. وقيل: الظاهرة المدخل للغداء، والباطنة المخرج للأذى.
وقيل: الظاهرة نعمة عليك بعد ما خرجت من بطن أمك، والباطنة نعمة عليك وأنت في بطن أمك. وقيل: الظاهرة ألوان العطايا، والباطنة غفران الخطايا. وقيل: الظاهرة المال والأولاد، والباطنة الهدى والإرشاد. وقيل: الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنة الإخلاص من المراءات. وقيل: الظاهرة ما أعطى من النعماء، والباطنة ما زوى من أنواع البلاء. وقيل: الظاهرة إنزال القطر والأمطار، والباطنة إحياء الأقطار والأنصار. وقيل: الظاهرة ذكر اللسان، والباطنة ذكر الجنان. وقيل: الظاهرة ضياء النهار، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار.
ومن قرأ (نعمة) على التوحيد فهي واحدة تبنى على الجميع، كما في قوله
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها
[إبراهيم: 34].
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم }؛ يعني النضر بن الحارث يخاصم في آيات الله وفي صفاته جهلا بغير علم ولا حجة، { ولا هدى ولا كتاب منير }؛ وقد تقدم تفسيره في سورة الحج.
[31.21]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اتبعوا مآ أنزل الله }؛ أي اعملوا بما أنزل الله، { قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبآءنا }؛ قالوا بل نعمل بما وجدنا عليه آباءنا، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة، قوله تعالى: { أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير }؛ فيتبعونه.
[31.22]
قوله تعالى: { ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى }؛ أي من يخلص طاعته لله وهو محسن فيها فيفعلها على موجب الشريعة فقد أخذ بالأمر الأوثق، { وإلى الله عاقبة }؛ ترجع خواتم { الأمور }؛ كلها، فيجزي كل عامل بما عمل.
قرأ السلمي: (ومن يسلم) بالتشديد. ومعنى قوله تعالى { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي اعتصم بالطرف الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هو لا إله إلا الله).
[31.23-24]
قوله تعالى: { ومن كفر فلا يحزنك كفره }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحزنه كفرهم مخافة أن يكون ذلك لتقصير من جهته، فأمنه الله من ذلك، والمعنى: من كفر فلا تهتم لكفره، فإن رجوعهم إلينا وحسابهم علينا، وهو قوله تعالى: { إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا }؛ أي نخبرهم بقبائح أعمالهم في الدنيا، ونجزيهم عليها، { إن الله عليم بذات الصدور }؛ أي عليم بما في القلوب من خير وشر. قوله تعالى: { نمتعهم قليلا }؛ أن نمهلهم في الدنيا يسيرا، { ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ }؛ أي ثم نجليهم في الآخرة إلى عذاب شديد.
[31.25-26]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * لله ما في السموت والأرض إن الله هو الغني الحميد }؛ قد تقدم تفسيره.
[31.27]
قوله تعالى: { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما:
" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، أتته أخبار اليهود فقالوا: بلغنا أنك قلت: { ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا } أعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال: " بل عنيت الجميع " فقالوا: ألم تعلم أن الله أنزل التوراة على موسى وفيها أنباء كل شيء وقد خلفها فينا فهي معنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله " فأنزل الله هذه الآية ".
والمعنى: لو جعل ما في الدنيا من الأشجار أقلاما يكتب بها، وصارت الجن والإنس كتابا، والبحار مدادا يمدها من بعدها سبعة أبحر؛ أي سبعة أمثال بحر الدنيا، وكتب بها كلمات الله وحكمه، لانكسرت الأقلام، وأعيت الإنس والجن، وفنيت البحار قبل أن ينقطع كلام الله وحكمه، { إن الله عزيز حكيم }؛ أي عزيز في سلطانه ذو حكمة في قوله وأفعاله.
وذهب بعضهم إلى أن معنى (كلمات الله) تعالى في هذه الآية: معاني القرآن وفوائده، وقال بعضهم: وهي نعم الله في الدنيا والآخرة، وإن نعمه في الآخرة غير متناهية.
[31.28]
قوله تعالى: { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة }؛ قال مقاتل: (قالت كفار قريش: إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما، فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فأنزل الله تعالى { ما خلقكم } " أيها الناس على الله سبحانه " في القدرة إلا كخلق نفس واحدة، وبعث نفس واحدة؛ { ولا بعثكم } في قدرة الله على بعث الخلق كلهم (إلا) كقدرته على بعث نفس واحدة، { إن الله سميع }؛ لما قالوا من أمر الخلق والبعث، { بصير }؛ به.
[31.29]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل }؛ أي ألم تعلم أن الله يزيد من ساعات الليل في ساعات النهار صيفا، ويزيد في ساعات النهار في ساعات الليل شتاء، { وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى }؛ أي ذللهما لمنافع بني آدم يجريان إلى يوم القيامة، ثم يسقطان، وينقطع جريهما، { وأن الله بما تعملون خبير }؛ أي خبير بأعمالكم في الدنيا ويجازيكم عليها.
[31.30]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق }؛ أو لتعلموا أن عبادة الله حق، { وأن ما يدعون من دونه }؛ من عباده، { الباطل وأن الله هو العلي }؛ بصفاته، { الكبير }؛ الذي لا شيء مثله في كبريائه وعظمته.
[31.31]
قوله تعالى: { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته }؛ أي ألم تعلم أن السفن تجري في البحر بإنعام الله تعالى، لو لم يخلق الرياح والماء على الهيئة التي خلقها الله عليها لما جرت السفن على ظهر الماء، { إن في ذلك لآيات }؛ أي لدلالات على توحيد الله، { لكل صبار شكور }؛ أي كثير الصبر على الطاعات والمحن، شكورا أي كثير الشكر على نعم الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:
" إن أحب العباد إلى الله من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر ".
[31.32]
قوله تعالى: { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين }؛ أي إذا أصابهم في البحر موج كالجبال في الارتفاع دعوا الله مخلصين له الدعاء، { فلما نجاهم }؛ من البحر وأهواله، { إلى البر فمنهم مقتصد }؛ أي منهم من يثبت على ذلك، ومنهم من يجحد. ثم قال: { وما يجحد بآياتنآ }؛ أي لا ينكر دلائل توحيدنا، { إلا كل ختار }؛ أي غدار، { كفور }؛ أي أكثر الكفر بآيات الله ونعمه. والختر في اللغة: أقبح الغدر. والظلل: جمع ظلة وهي السحابة التي ترتفع فتغطي ما تحتها.
وإن هذه الآية كانت سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل، وذلك أنه لما كان يوم فتح مكة، أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، فإنه قال:
" اقتلوهم، ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن الأخطل، ومقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ".
فأما عكرمة فركب في البحر، فأصابهم ريح عاصف، فقال أهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لم تغن عنكم شيئا ها هنا، فقال عكرمة: (لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره) ثم قال: (اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده) فجاء فأسلم.
[31.33]
قوله تعالى: { يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده }؛ أي اتقوا مخافة ربكم، واخشوا عذاب يوم لا يغني والد عن ولده، { ولا مولود هو جاز عن والده شيئا }؛ لاشتغال كل منهم لنفسه.
وقيل: معنى { لا يجزي والد عن ولده } أي لا يحمل شيئا من سيئاته ولا يعطيه شيئا من طاعته، { إن وعد الله حق }؛ في البعث والجزاء أي صدق كائن، { فلا تغرنكم الحياة الدنيا }؛ فلا تغتروا بالحياة الدنيا وما فيها من زينتها وزهرتها، { ولا يغرنكم بالله الغرور }؛ الشيطان، فإنه هو الغرور، وهو الذي من يشاء أن يغر، وغرور الشيطان تمنيته العبد: فإن الله تعالى غفور، فهون عليه ركوب المعاصي وما يهواه.
ومن قرأ (الغرور) بضم الغين فهي مصدر، ومعناه: الأباطيل. وعن سعيد بن جبير: (إن الغرور تمني المغفرة مع الإصرار على المعصية).
[31.34]
قوله تعالى: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت }؛ نزلت هذه الآية في البراء بن مالك، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أرضنا أجدبت، فمتى الغيث؟ وقد تركت امرأتي حبلى، فماذا تلد؟ وقد علمت بأي أرض ولدت - أي علمت أين ولدت - فبأي أرض أموت، وقد علمت ما عملت اليوم، فما أعمل غدا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم:
" مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما كسبه في غد إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله ".
يقال: إن هذه الخمسة الأشياء التي ذكرها الله في هذه الآية هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا الله، استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا.
ومعنى الآية : { إن الله عنده علم } قيام { الساعة } ، فلا يدري أحد سواه متى تقوم، في أي سنة أو في أي شهر، ليلا أو نهارا. وقوله { وينزل الغيث } معناه: هو المختص بإنزال الغيث، وهو العالم بوقت إنزاله، (ويعلم ما في الأرض) أي لا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى، أحمر أم أسود، وإنما يعلمه الله عز وجل نطفة وعلقة ومضغة، وذكرا أم أنثى، وشقيا وسعيدا، ومتى ينفصل عن أمه.
وقوله تعالى { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } يعني: ماذا تكسب من الخير والشر، أي ما تدري نفس ماذا تكسب غدا خيرا أو شرا، { وما تدري نفس بأي أرض تموت } أي في بر أو بحر أو سهل أو جبل. قال ابن عباس: (هذه الخمسة لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل مصطفى، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه).
قوله تعالى: { إن الله عليم خبير }؛ أي عليم بخلقه، خبير بأعمالهم وبما يصيبهم في مستقبل عمرهم.
وروي أن يهوديا كان في المدينة يحسب حساب النجوم، فقال اليهودي لابن عباس: إن شئت أنبأتك عن ولدك وعن نفسك، إنك ترجع الى منزلك فتلقى إبنا لك محموما، ولا يمكث عشرة أيام حتى يموت الولد، وأنت لا تخرج من الدنيا حتى تعمى، فقال ابن عباس: وأنت يا يهودي، قال: لا يحول علي الحول حتى أموت؟ قال: فأين موتك يا يهودي؟ قال ما أدري، قال ابن عباس: صدق الله { وما تدري نفس بأي أرض تموت } قال فرجع ابن عباس فلقي إبنا له محموما، فلما بلغ عشرا مات الصبي، ويقال عن اليهودي " أنه مات قبل الحول " ، وما خرج ابن عباس من الدنيا حتى كف بصره.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-3]
{ الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين }؛ أي الم هو تنزيل الكتاب، لا شك فيه أنه تنزل من رب العالمين، { أم يقولون افتراه }؛ معناه: يقول أهل مكة: اختلقه محمد من تلقاء نفسه، وليس كما يقولون، { بل هو الحق من ربك لتنذر قوما }؛ أي لتخوف بالقرآن قوما؛ { مآ أتاهم من نذير من قبلك }؛ لم يشاهدوا قبلك في زمانهم الذي هم فيه رسولا مخوفا؛ { لعلهم يهتدون }؛ أي لكي يهتدوا إلى الإيمان.
[32.4]
قوله تعالى: { الله الذي خلق السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام }؛ أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، أولها يوم الأحد، { ثم استوى على العرش }؛ أي استولى عليه، وقد تقدم في ذلك في سورة الأعراف. قوله تعالى: { ما لكم من دونه من ولي }؛ أي قريب ينفعكم، { ولا شفيع }؛ يشفع لكم، { أفلا تتذكرون }؛ أي أفلا تعتبرون.
[32.5]
قوله تعالى: { يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض }؛ أي يدبر الله أمر الدنيا مدة أيامها، فينزل القضاء والقدر من السماء إلى الأرض. قوله تعالى: { ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون }؛ قال ابن عباس: معناه يعود إليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكام، وينفرد الله تعالى بالأمر في يوم كان مقداره ألف سنة) يعني أن يوما من أيام الآخرة مثل ألف سنة مما تعدون من أيام الدنيا، وأراد بهذا اليوم يوم القيامة.
وقيل: معناه: يقطع الملك من المسافة نازلا وصاعدا في يوم واحد وهو مسيرة ألف عام مما يعده أهل الدنيا بمسيرهم، وذلك أن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام لبني آدم، وصعوده من الأرض إلى السماء كذلك؛ والملك يقطعه في يوم واحد. ولو أراد الله من الملك الصعود والنزول بدون مقداره (اليوم) لفعله الملك.
وأما قوله
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج: 4] فإن كان أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبريل، فالمعنى يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا، فيكون معنى قوله تعالى: { إليه } على هذا التأويل؛ أي إلى مكان الملك الذي أمره الله أن يعرج إليه، وكقول إبراهيم عليه السلام:
إني ذاهب إلى ربي
[الصافات: 99] أي حيث أمرني ربي بالذهاب إليه، وهو الشام. وكذلك قوله تعالى:
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله
[النساء: 100] أي إلى المدينة. ولم يكن الله عز وجل بالمدينة ولا بالشام.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أتاني ملك لم ينزل إلى الأرض قبلها قط برسالة من الله عز وجل، ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها ".
[32.6]
قوله تعالى: { ذلك عالم الغيب والشهادة }؛ أي ذلك الذي صنع ما ذكرناه من خلق السماوات والأرض، هو عالم ما غاب عن الخلق وعالم ما خفي، لا يقدر عليه سواه كما لا يعلم الغيب غيره. وقوله تعالى: { العزيز الرحيم }؛ أي القادر الذي لا يقاوم، المنيع في ملكه، المنعم على عباده.
[32.7-8]
قوله تعالى: { الذي أحسن كل شيء خلقه }؛ قرأ نافع وأهل الكوفة: (خلقه) بفتح اللام على الفعل؛ أي أحكم كل شيء مما خلقه. وقرأ الباقون: (خلقه) بسكون اللام؛ أي أحسن خلق كل شيء، فيكون نصب قوله: (خلقه) على البدل. وقال مقاتل: ((معناه: الذي علم كيف يخلق الأشياء من غير أن يعلمه أحد)). وقال السدي: ((أحسنه: لم يعلمه من أحد)).
قيل: إن الله عز وجل لما طول رجل البهيمة والطير، طول عنقه لئلا يتعذر عليه تناول قوته من الأرض، ولو لم يطول عنقه لما نال معيشته.
قوله تعالى: { وبدأ خلق الإنسان من طين }؛ يعني آدم عليه السلام كان أول طينا، { ثم جعل نسله }؛ أي ذريته، { من سلالة من مآء مهين }؛ أي من قليل من الماء ينسل من صلب الرجل وترائب المرأة، وهي النطفة، ووصفها بال (مهين) لأنه لا خطر له عند الناس. وسميت سلالة لأنها تنسل من الإنسان؛ أي تخرج. والهين هو الضعيف.
[32.9]
قوله تعالى: { ثم سواه ونفخ فيه من روحه }؛ رجع إلى ذكر آدم، يعني سوى خلقه ونفخ فيه من روحه؛ ثم عاد إلى ذريته فقال: { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة }؛ بعد أن كنتم نطفا. والأفئدة هي القلوب، { قليلا ما تشكرون }؛ هذه النعم فتوحدونه. والمعنى: خلق لكم السمع فاستمعوا إلى الحق، والأبصار فأبصروا الحق، والأفئدة؛ أي القلوب؛ فاعقلوا الحق.
وقيل : معنى { ثم سواه } يعني الماء المهين جمعه وخلقه وصوره ونفخ فيه من روحه؛ أي نفخ فيه الروح الذي يحيا به الناس. أضاف الله ذلك إلى نفسه لأنه هو الخالق.
[32.10]
قوله تعالى: { وقالوا أءذا ضللنا في الأرض أءنا لفي خلق جديد }؛ أي قال الكفار: إئذا هلكنا وانقطعت أوصالنا وذهبت آثارنا وصرنا ترابا، فلم يتبين شيء من خلقنا، أنبعث بعد ذلك؟! هذا لا يكون أبدا. ومعنى الضلالة في اللغة: الغيبوبة، يقال: ضل متاع فلان وضاع، بمعنى واحد.
وقوله تعالى: { بل هم بلقآء ربهم كافرون }؛ أي ليس كما يقولون أنهم لا يبعثون، بل هم بلقاء ربهم كافرون.
[32.11]
قوله تعالى: { قل يتوفاكم ملك الموت }؛ أي يقبض أرواحكم أجمعين ملك الموت، { الذي وكل بكم }؛ قال مجاهد: ((حويت له الأرض فجعلت له مثل طست، يتناول منها حيث يشاء)). وقال الكلبي: ((اسم ملك الموت عزرائيل، وله أربعة أجنحة: جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه ورأسه وجسده، وجعلت له الدنيا مثل راحة اليد لصاحبها، يأخذ منها ما أمر بقبضه من غير مشقة ولا عناء، وله أعوان من ملائكة الرحمة ومن ملائكة العذاب)).
وعن أنس بن مالك قال: [لقي جبريل ملك الموت بنهر فارس، فقال: يا ملك الموت كيف تستطيع قبض الأنفس، ها هنا عشرة آلاف، وها هنا كذا وكذا؟ قال عزرائيل: تزوى لي الأرض حتى كأنها بين فخذي فألتقطهم بيدي].
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا حان أجل الرجل، أتاه ملك فقال: أيها العبد كم خبر بعد خبر، وكم رسول بعد رسول؟ أنا الخبير ليس بعدي خبير، وأنا الرسول ليس بعدي رسول، أجب ربك طائعا أو مكروها. فإذا قبضت روحه وتصارخوا عليه، قال: على من تصرخون وعلى من تبكون؟ والله ما ظلمت لكم أجلا ولا أكلت لكم رزقا، بل دعاه ربه، فليبك الباكي على نفسه، فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحدا ".
وقوله تعالى: { ثم إلى ربكم ترجعون }؛ أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
[32.12]
قوله تعالى: { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم }؛ يعني كفار مكة ناكسوا رؤوسهم حياء وندما، والمعنى: ولو ترى يا محمد إذ المجرمون مطرقوا رؤوسهم من الخزي وشدة الندم في يوم القيامة عند علمهم بأن الحجة قد قامت عليهم من كل جهة، وأنهم لا مهرب لهم من العذاب، وذلك هو الغاية في الوجل والخجل، يقولون: { ربنآ أبصرنا وسمعنا }؛ أي لك الحجة علينا لأنا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم، { فارجعنا }؛ أي ولكن نسألك أن ترجعنا إلى الدنيا حتى، { نعمل صالحا إنا موقنون }؛ بك وبكتابك وبرسلك، وهذه الآية محذوفة الجواب؛ أي لو رأيت يا محمد، لرأيت غاية ما تعتبر به.
[32.13]
قوله تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها }؛ قال الحسن: ((أراد به مشيئة القدر من الله تعالى؛ لأنه لم يعجز عن شيء، ولكنه لا يجبر العباد على ذلك لكي لا يبطل الثواب والعقاب)). والمعنى: ولو شئنا لآتينا كل نفس رشدها وثباتها، ومثل ذلك
ولو شآء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا
[يونس: 99]
ولو شآء الله لجمعهم على الهدى
[الأنعام: 35].
وقوله تعالى: { ولكن حق القول مني }؛ معناه: ولكن وجب قولي عليهم بالعذاب، { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين }؛ بكفرهم وذنوبهم.
[32.14]
قوله تعالى: { فذوقوا بما نسيتم لقآء يومكم هذآ }؛ معناه: يقال لأهل النار إذا دخلوها: ذوقوا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم هذا؛ أي بما تركتم الإيمان بيومكم هذا. وقوله تعالى: { إنا نسيناكم }؛ أي تركناكم في العذاب وأحللناكم محل المنسي، { وذوقوا عذاب الخلد }؛ أي الذي لا ينقطع، { بما كنتم تعملون }؛ من الكفر والتكذيب.
[32.15]
قوله تعالى: { إنما يؤمن بآياتنا }؛ معناه: إنما يقر ويصدق بدلائلنا، { الذين إذا ذكروا بها }؛ أي وعظوا بها، { خروا سجدا }؛ لله مصلين مع الإمام، { وسبحوا بحمد ربهم }؛ أي عظموا الله ونزهوه في صلاتهم حامدين لربهم، { وهم لا يستكبرون } أي يعفروا وجوههم صاغرين.
[32.16]
قوله تعالى: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع }؛ أي ترفع لأجل الصلاة، قال مجاهد: ((هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة)). والمضاجع: هي الفرش التي يضطجعون عليها للنوم، واحدها مضجع.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، حتى كنا نصلي المغرب فلا نرجع حتى نصلي العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)). وروي: أن امرأة جاءت إلى أنس بن مالك فقالت: إني أنام قبل العشاء، فقال: ((لا تنامي؛ فإن هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء، تتجافى جنوبهم عن المضاجع)).
وقال الحسن: ((المراد بالآية قيام الليل والتهجد))، وكان يقول: ((هم قوم أخفوا لله تعالى عملا، وأخفى لهم ثوابا)).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد "
وقال الضحاك: ((هو أن يصلي الرجل العشاء والفجر في جماعة)).
قوله تعالى: { يدعون ربهم خوفا وطمعا }؛ أي خوفا من عذاب الله وطمعا في رحمة الله. وانتصب (خوفا) و(طمعا) لأنه مفعول له. وقوله تعالى: { ومما رزقناهم ينفقون }؛ أي ومما أعطيناهم من المال يتصدقون واجبا وتطوعا.
[32.17]
قوله تعالى: { فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين }؛ أي لا يعلم أحد ما أخفى الله لهم مما تقر به أعينهم وتطيب به أنفسهم، { جزآء بما كانوا يعملون }؛ في الدنيا من الأعمال الصالحة.
قال ابن مسعود: ((إن في التوراة مكتوب: لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولا خطر على قلب بشر، وما لم يحمله ملك مقرب، وإنه في القرآن: { فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين جزآء بما كانوا يعملون } )).
قرأ حمزة: (ما أخفي لهم) بإسكان الياء؛ أي ما أخفي لهم أنا، وحجته (قرة). وقرأ عبدالله: (نخفي لهم) بالنون. وقرأ محمد بن كعب: (ما أخفى لهم) بفتح الألف والفاء، يعني أخفى الله لهم.
[32.18]
قوله تعالى: { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط، جرى بينهما تنازع وتساب، فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي وأنا والله أحد منك لسانا وأبسط منك في القول، وأملأ منك في الكتيبة. فقال له علي رضي الله عنه: أسكت فإنك فاسق تقول الكذب. فأنزل الله هذه الآية)). والمراد بالمؤمن: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبالفاسق: الوليد بن عقبة.
وقال الزجاج: ((إنه لم يرد بالمؤمن مؤمنا، ولذلك قال: (لا يستوون) ولم يقل: لا يستويان)). وقال قتادة في معنى الآية: ((والله ما استووا لا في الدنيا ولا عند الموت ولا في الآخرة)).
[32.19]
قوله تعالى: { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى }؛ التي يأوي إليها المؤمنون، وقوله: { نزلا بما كانوا يعملون }؛ أي معدة لهم بأعمالهم.
[32.20]
قوله تعالى: { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار }؛ أي وأما الذين خرجوا من طاعة الله بكفرهم، فمأواهم النار، { كلمآ }؛ رفعهم لهب النار إلى أعلاها، فظنوا أنهم يخرجون منها ف، { أرادوا أن يخرجوا منهآ أعيدوا فيها } ، ردتهم ملائكة العذاب إلى أسفلها بمقامع من حديد، { وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون }؛ في الدنيا.
[32.21]
قوله تعالى: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى }؛ قيل: إن المراد بالعذاب الأدنى هو القحط والجوع الذي أصاب أهل مكة سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. وقيل: هو القتل يوم بدر. وقيل: العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها. وقيل: العذاب الأدنى هو عذاب القبر، والعذاب الأكبر هو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى: { دون العذاب الأكبر }؛ يعني بالعذاب الأكبر عذاب الآخرة، وقوله تعالى: { لعلهم يرجعون }؛ أي أخبرناهم ليرجعوا عن الكفر.
[32.22]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ }؛ ظاهر المعنى. قوله: { إنا من المجرمين منتقمون }؛ يعني الذين قتلوا ببدر، وعجلنا أرواحهم إلى النار. وأراد بالمجرمين المشركين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عق والديه، أو مشى مع ظالم لينصره، قال الله تعالى: { إنا من المجرمين منتقمون } ".
[32.23-26]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب }؛ أعطيناه التوراة جملة واحدة، { فلا تكن في مرية من لقآئه }؛ وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن سيلقى موسى قبل أن يموت، ثم لقيه في السماء ليلة المعراج أو في بيت المقدس حين أسري به، والمعنى: فلا تكن في شك من لقاء موسى. قال ابن عباس: ((يعني ليلة الإسراء)). ويقال: أراد به لقاؤهما في الجنة. ويقال: أراد به لقاء الله. ويقال: أراد به أن يلقى محمد صلى الله عليه وسلم من قومه الأذى مثل ما لقي موسى من قومه.
قوله تعالى: { وجعلناه هدى لبني إسرائيل }؛ أي جعلنا التوراة هدى لبني إسرائيل من الضلالة، { وجعلنا منهم أئمة }؛ أي جعلنا من بني إسرائيل أئمة، { يهدون بأمرنا }؛ يدلون الناس على ديننا فيقتدى بهم، فهم أنبياؤهم ومن استقام منهم على الدين. وقوله تعالى: { لما صبروا }؛ أي لما صبروا جعلناهم أئمة، كأنه قال: إن صبرتم على طاعتنا وصبرتم على معصيتنا جعلناكم أئمة.
قرأ حمزة والكسائي: (لما صبروا) بكسر اللام وتخفيف الميم؛ أي لصبرهم. ومعنى القراءة الأولى: حين صبروا. والمعنى: لما صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر، { وكانوا بآياتنا يوقنون }؛ أي ولكونهم موقنين بآياتنا. قوله تعالى: { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة }؛ أي هو الذي يقضي بين المؤمنين والكفار يوم القيامة، { فيما كانوا فيه يختلفون }؛ من الدين.
ثم خوف كفار مكة فقال: { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم }؛ أي أولم يتبين لهم آثار عذاب الاستئصال فيمن أهلك قبلهم من الأمم الماضية المكذبة ما يكون عبرة لهم، يمشون في مساكن المهلكين على منازلهم وقراهم، مثل آثار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، { إن في ذلك }؛ أي إن في إهلاكنا إياهم بالتكذيب، { لآيات }؛ لدلالات واضحة لمن بعدهم، { أفلا يسمعون }؛ سماع القبول والطاعة. ومن قرأ (أولم نهد) بالنون، فالمعنى بإضافة الفعل إلى الله عز وجل.
[32.27]
قوله تعالى: { أولم يروا أنا نسوق المآء إلى الأرض الجرز }؛ معناه: أولم يعلموا أنا نسوق المطر بالسحاب والرياح إلى الأرض اليابسة التي لا نبات فيها ولا شجر، { فنخرج به }؛ بذلك المطر، { زرعا }؛ رزقا، { تأكل منه أنعامهم }؛ أي تأكل أنعامهم من ساقها، { وأنفسهم }؛ وهم يأكلون من حبها، { أفلا يبصرون }؛ أفلا يعقلون.
والأرض الجرز: هي التي تأكل نباتها، يقال: ناقة جروز إذا كانت أكولا، وسيف جراز إذا كان مستأصلا، ورجل جرز إذا كان أكولا. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((هي أرض باليمن)). وقال مجاهد: ((هي أبين)).
[32.28-29]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الفتح }؛ وذلك أن كفار مكة كانوا يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يوشك أن يكون لنا يوم نستريح فيه من شركهم، فكان الكفار يهزءون بهم ويقولون: متى هذا الفتح؛ أي الحكم الذي بيننا وبينكم، { إن كنتم صادقين }؛ فيما تقولون.
والمعنى: أن كفار مكة يقولون: متى هذا الفتح؛ أي القضاء وهو يوم البعث، يقضي فيه الله بين المؤمنين والكافرين.
فقال الله تعالى: { قل يوم الفتح }؛ يعني يوم القيامة ويوم القضاء والفصل، { لا ينفع الذين كفروا إيمانهم }؛ لو آمنوا يومئذ، { ولا هم ينظرون }؛ أي ولا هم يمهلون، ولا يؤخرون لمعذرة أو توبة، ولا تؤخر عنهم عقوبتهم.
وعن ابن عباس في هذه الآية: ((المراد بالفتح فتح مكة، وأن الآية نزلت في بني خزيمة، كانوا هم الذين يستهزئون بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكرون وهم بمكة فتح مكة لهم. فلما كان يوم الفتح تكلمت بنو خزيمة بكلمة الإسلام، فقتلهم خالد بن الوليد ولم يقبل منهم إسلامهم)) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ".
[32.30]
قوله تعالى: { فأعرض عنهم }؛ أي عن جوابهم، { وانتظر } ، الفريضة فيهم، { إنهم منتظرون }؛ الفرصة فيك. قال ابن عباس: ((قوله تعالى: { فأعرض عنهم } نسخته آية السيف)). وقوله تعالى: { إنهم منتظرون } أي منتظرون لك حوادث الأزمان من موت أو قتل فيستريحون منك.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1]
{ يأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما:
" وذلك أن أبا سفيان بن حرب؛ وعكرمة بن أبي جهل؛ وأبا الأعور السلمي قدموا فنزلوا على عبدالله بن أبي رأس المنافقين؛ وجد ابن قيس؛ ومعتب ابن قسر المنافقين.
وكان يومئذ مع المشركين عبدالله بن سعد بن أبي سرح، فطلبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانوا طلبوا منه الأمان على أن يكلموه، فقالوا له: يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات، وقل: إن لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها، وندعك أنت وربك! فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله في قتلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " إني قد أعطيتهم الأمان ". فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة، فقال لهم عمر رضي الله عنه: أخرجوا في لعنة الله وغضبه "
، وأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: يا أيها النبي اتق الله في نقض العهد الذي بينك وبين أهل مكة لا تنقضه قبل أجله { ولا تطع الكافرين والمنافقين } فيما دعوك إليه، ولا تمل إليهم، ولا ترفق بهم ظنا منك أن ذلك أقرب إلى استمالتهم إلى الإيمان، فإن ذلك يؤدي إلى أن يظن بك مقارنة القوم على كفرهم، فمعنى قوله { ولا تطع الكافرين والمنافقين } يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة، والمنافقين عبدالله بن أبي وجد بن قيس وغيرهما.
قوله تعالى: { إن الله كان عليما حكيما }؛ أي عليما بأحوالهم، حكيما فيما أوجبه عليك في أمرهم وفيما يخلقه.
[33.2]
قوله تعالى: { واتبع ما يوحى إليك من ربك }؛ أي اعمل بما أمرك الله في القرآن من مجانبة الكفار والمنافقين وترك موافقتهم، { إن الله كان بما تعملون خبيرا }؛ قرأ بالياء أبو عمرو، وقرأ الباقون بالتاء أي خبير بك وبهم.
[33.3]
قوله تعالى: { وتوكل على الله }؛ أي فوض أمرك إلى الله واعتمد عليه في معاملتهم بما أمرت به في شأنهم، { وكفى بالله وكيلا }؛ أي حافظا وناصرا.
[33.4]
قوله تعالى: { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أبي راشد الفهري، وكان رجلا حافظا لبيبا لما يسمع، وكان يقول: إن في جوفي لقلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد! وكانت قريش تسميه ذا القلبين لدهائه وكثرة حفظه للحديث، فأنزل الله عز وجل هذه الآية تكذيبا لهم، فأخبر أنه ما خلق لأحد قلبين.
فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم أبو معمر، تلقاه أبو سفيان وهو يعدو وإحدى نعليه في يده والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر ما فعل الناس؟ قال: انهزموا. فقال له: ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟! فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده).
وقال الزهري ومقاتل: (هو مثل ضربه الله للمظاهر امرأته والمتبني ولد غيره، يقول: فكما لا يكون للرجل قلبان، لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى لا يكون له أمان، ولا يكون ولد ابن رجلين).
قوله تعالى: { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم }؛ أي ما جعل نساءكم اللائي تقولون لهن: أنتن علينا كظهور أمهاتنا، لم نجعلهن كأمهاتكم في الحرمة. وكانت العرب تطلق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ، فلما جاء الإسلام نهوا عنه، وأوجبت الكفارة في سورة المجادلة.
قوله تعالى: { وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم }؛ أي ما جعل من تدعونه ابنا من أبناء غيركم كأبنائكم الذين من أصلابكم في الانتساب والحرمة والحكم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة بعد أن أعتقه، فكان يقال: زيد بن محمد، فلما جاء الإسلام أمر أن تلحق الأدعياء بآبائهم، وكان يوم تبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي.
قرأ نافع وأبو عمرو (وتظهرون) بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء من غير ألف، وقرأ الشامي كذلك إلا أنه بألف، وقرأ حمزة والكسائي مثل قراءة شامي إلا أنه بالتخفيف، وقرأ عاصم والحسن بضم التاء وتخفيف الظاء وبألف وكسر الهاء، قال أبو عمرو: (وهذا منكر؛ لأن التظاهر من التعاون).
قوله تعالى: { ذلكم قولكم بأفواهكم }؛ أي الذي تقولونه من إضافة القلبين إلى الرجل الواحد، وقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وقول الرجل لغير ابنه: هذا ابني، قوله: تقولون بأفواهكم من غير أن يكون له حقيقة ولا عليه دلالة ولا حجة، { والله }؛ تعالى: { يقول الحق }؛ أي يبين أن الذين يقولونه قول باطل، { وهو يهدي السبيل }؛ أي يدل على طريق وإلى الدين المستقيم.
[33.5]
قوله تعالى: { ادعوهم لآبآئهم }؛ أي نسبوا هؤلاء الأدعياء إلى الآباء الذين قد ولدوا على فراشهم وقولوا: زيد بن حارثة، ولا تقولوا: زيد بن محمد. وقوله تعالى: { هو أقسط عند الله }؛ أي أعدل في حكم الله من نسبتكم إياهم إلى الذين تبنوهم. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (ما كنا ندعوا زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: { ادعوهم لآبآئهم هو أقسط عند الله }.
قوله تعالى: { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين }؛ فهم إخوانكم في الدين؛ أي من أسلم منهم، { ومواليكم }؛ أي وبنو أعمامكم، فقولوا: يا أخي ويا ابن عمي في الآية إباحة إطلاق اسم الأخوة وحظر اطلاق اسم الأبوة، وفي ذلك دليل على أن من قال لعبده: هذا أخي؛ لم يعتق لأنه يحتمل الأخوة في الدين، وإن قال: هذا ابني؛ عتق لأن ذلك ممنوع في غير النسب.
قوله تعالى: { وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به }؛ أي ليس عليكم إثم في نسبة الرجل إلى غير أبيه على وجه الخطأ. قال قتادة: (ولو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت تحسب أنه أبوه لم يكن عليك بأس)، { ولكن ما تعمدت قلوبكم }؛ أي ولكن الإثم عليكم فيما تعمدونه من ادعائهم إلى غير آبائهم، { وكان الله غفورا }؛ أي لمن تعمد ثم تاب، { رحيما }؛ به بعد التوبة.
قوله تعالى: { ولكن ما تعمدت قلوبكم } موضع قوله (ما) خفض عطفا على قوله { فيمآ أخطأتم } تقديره: ولكن فيما تعمدت قلوبكم.
[33.6]
قوله تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }؛ أي هو أشفق وأبر وأحق بالمؤمنين من بعضهم ببعض، وهو أولى بكل إنسان منه بنفسه. وقيل: معناه: إذا حكم فيهم بشيء نفذ حكمه فيهم، ووجبت طاعته عليهم.
وقال ابن عباس: (إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء، ودعتهم أنفسهم إلى شيء، كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعة أنفسهم). وقال مقاتل: (معناه طاعته النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعة بعضهم لبعض).
وقال الحكماء: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم لأنفسهم، تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. وقال أبو بكر الوراق: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى). وقال بسام بن عبدالله: (لأن أنفسهم تحرس من نار الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم يحرسهم من نار الآخرة).
قوله تعالى: { وأزواجه أمهاتهم }؛ أي كأمهاتهم في تعظيم حقهن وفي تحريم نكاحهن، فلا يحل لأحد أن يتزوج بهن، كما لا يجوز التزويج بالأم. ولم يرد إثبات الأمية من جميع الوجوه، ألا ترى أنه لا تحل رؤيتهن ولا يرين المؤمنين بخلاف الأمهات، وكذلك لا يخلو بهن، ولا يسافر بهم، ولا يرثهن ولا يرثونه، ولو كن كالأمهات من جميع الوجوه لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزوج بناته من أحد من الناس؛ لأن البنات يكن أخوات المؤمنين.
ومن هذا المعنى ما روي: أن امرأة قالت لعائشة: يا أم، قالت: (لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم) فبان بهذا أن معنى الأمومة تحريم نكاحهن فقط. ولهذا لا يجوز أن يقال لبناتهن أنهن أخوات المؤمنين.
وفائدة تحريم نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين في حياته وبعد وفاته تعظيم أمره وتفخيم شأنه، ولذلك حرم على الابن نكاح امراة أبيه.
قوله تعالى: { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }؛ أي وذو القرابة بعضهم أحق بميراث بعض في حكم الله، { من المؤمنين والمهاجرين }؛ إذا لم يكونوا قرابة، وذلك أنهم كانوا يتوارثون في ابتداء الإسلام بالهجرة والموآخاة.
قال الكلبي: (آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، فكان يوآخي بين الرجلين، وإذا مات أحدهم ورثه الثاني دون عصبته وأهله، فمكثوا كذلك ما شاء الله حتى نزلت الآية { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } من المؤمنين الذين آخا رسول الله بينهم والمهاجرين، فنسخت هذه الآية الموارثة بالموآخاة والهجرة، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات).
قوله تعالى: { إلا أن تفعلوا إلى أوليآئكم معروفا }؛ { معروفا } استثناء ليس من الأول، ومعناه: لكن فعلكم إلى أوليائكم جائز، يريد أن يوصي الرجل لمن يتولاه ممن لا يرثه بما أحب من ثلث ماله، فيكون الموصى له أولى بقدر الوصية من القريب الوارث، وقال ابن زيد: (معناه إلا أن توصوا لأولياءكم من المهاجرين). قوله تعالى: { كان ذلك في الكتاب مسطورا }؛ أي كان الميزان للأقرباء، والوصية للأصدقاء، ونسخ الميراث بالهجرة ورده إلى ذوي الأرحام مكتوبا في اللوح المحفوظ.
[33.7-8]
قوله تعالى: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم }؛ أي واذكر إذ أخذنا من النبيين عهودهم؛ أي يصدق بعضهم بعضا، ويبشر الأول بالآخر، ويأخذ كل رسول منهم على قوله بما أمر الله به، وقوله تعالى: { ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم }؛ قيل: إن الواو مقحمة؛ وتقديره: منك ومن نوح، فيكونوا (منك) ما بعده تفسير (النبيين).
والفائدة في تخصيص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر؛ لأنهم أهل الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل، ولهم الأمم والتبع. وقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب معه. وجاء في التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إني خلقت قبل الأنبياء وبعثت بعدهم ".
قوله تعالى: { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا }؛ أي عهدا وثيقا بأن يعبدوني ولا يشركون بي شيئا. وقيل: وأخذنا منهم عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا. وقوله تعالى: { ليسأل الصادقين عن صدقهم }؛ أي لكي يسأل المبلغين عن تبليغهم وهو قوله تعالى:
ماذآ أجبتم
[القصص: 65].
وفائدة سؤال الرسل وهم صادقون؛ لتكذيب الذين كفروا بهم فيكون هذا السؤال احتجاجا على الكاذبين، وإذا سئل الصادقون، فكيف يظن بالكاذبين؟! وقوله تعالى: { وأعد للكافرين عذابا أليما }؛ أي أعد للذين كفروا بالرسل عذابا شديدا.
[33.9]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم }؛ يذكرهم الله إنعامه عليهم في دفع الأحزاب عنهم من غير قتال، وذلك : أن الكفار جاءوا بأجمعهم في وقعة الخندق، وأحاطوا بالمدينة من أعلاها وأسفلها، طليحة بن خويلد الأسدي وأصحابه من فوق الوادي، وكان أبو الأعور السلمي وأصحابه من أسفل الوادي، وكان أبو سفيان وأصحابه ويهود بني قريظة في مواجهة المؤمنين، فاشتد الخوف بالمؤمنين وزاغت أبصارهم؛ أي مالت من الخوف، ويقال: مالت أبصار المنافقين خوفا من النظر إليهم. وكان الكفار خمسة عشر ألفا، وبلغت قلوب المسلمين الحناجر؛ أي كادت تبلغ الحلوق، وذلك أن شدة الخوف ترفع الرئة، فترفع الرئة القلب.
كما روي:
" أن المؤمنين قالوا: يا رسول الله! قد بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " قولوا: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، يكفيكهم الله تعالى " فأرسل الله على الكفار ريحا باردة منكرة شغلتهم عن الاستعداد للحرب، ومنعتهم من الثبات على المكان، وقلعت خيامهم وأكفأت أوانيهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون منها في سلامة، وليس بينهم إلا مسافة الخندق، وكان ذلك إحدى معجزاته عليه السلام كما قال صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور " ".
قوله تعالى: { إذ جآءتكم جنود }؛ يعني الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وهم عيينة بن حصن وأبو سفيان بن حرب وبنو قريظة، { فأرسلنا عليهم ريحا } ، وهي الصبا، أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم، وقوله: { وجنودا لم تروها } ، يعني الملائكة؛ { وكان الله بما تعملون بصيرا }.
وروي:
" أن شابا من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (إي والله لقد رأيته) قال: والله لو رأيناه لحملناه على رقابنا، وما تركناه يمشي على الأرض، فقال له حذيفة: (يا ابن أخي أفلا أحدثك عني وعنه؟) قال: بلى. قال: (والله لو رأيتنا يوم الخندق، وبنا من الجهد والجوع ما لا يعلمه إلا الله. قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى من الليل ما شاء الله، ثم قال: " ألا رجل يأتي بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنة؟ " فوالله ما قام منا أحد مما بنا من الخوف والجوع والجهد. ثم صلى ما شاء الله، ثم قال: " ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنة؟ " فوالله ما قام منا أحد مما بنا من الجهد والخوف والجوع. فلما لم يقم أحد، دعاني فلم أجد بدا من إجابته، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: " اذهب فجئ بخبر القوم، ولا تحدثن شيئا حتى ترجع ".
قال حذيفة: قمت وجنبي يضطربان، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي ووجهي، ثم قال: " اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته ". قال: فانطلقت أمشي حتى أتيت القوم، وإذا ريح الله وجنوده يفعل بهم ما يفعل، ما يستمسك لهم بناء، ولا تثبت لهم نار، ولا يطمئن لهم قدر. فبينما هم كذلك، إذ خرج أبو سفيان من رحله، فقال: يا معشر قريش؛ ما أنتم بدار مقام، لقد هلكت الخف والحافر وأخلفتنا بنو قريظة، وهذه الريح لا يستمسك لنا معها شيء، ولا تثبت لنا نار ولا تطمئن قدر. ثم عجل فركب راحلته، وإنها لمعقولة ما حل عقالها إلا بعدما ركبها.
فقال حذيفة: فقلت في نفسي: لو رميت عدو الله فكنت قد صنعت شيئا، فأوترت قوسي وأنا أريد أن أرميه، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولا تحدثن شيئا حتى ترجع ". فحططت القوس ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلما فرغ قال: " ما الخبر؟ " فأخبرته بذلك، فضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل. ثم أدناني منه وبي من البرد ما أجده، فألقى علي طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدميه وهو قائم يصلي) ".
[33.10]
قوله تعالى: { إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار } أي مالت عن كل شيء، فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب، { وبلغت القلوب الحناجر } ، والحنجرة جوف الحلق. قال قتادة: (شخصت القلوب من مكانها، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت).
وقوله تعالى: { وجنودا لم تروها } يعني الملائكة، بعث الله ملائكة على المشركين فقلعت أوتاد الخيل وأطناب الفساطيط، وأطفأت النيران وجالت الخيل بعضها في بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى وقع بهم الرعب فانهزموا من غير قتال.
قوله تعالى: { إذ جآءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } ، أي من فوق الوادي من قبل المشرق عليهم مالك بن عوف البصري، وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان، { ومن أسفل منكم } ، يعني من قبل المغرب فيهم أبو سفيان في قريش ومن تبعه، وأبو الأعور السلمي من قبل الخندق.
وكان من حديث الخندق:
" أن نفرا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكنانة بن الربيع وهوذة بن قيس وأبو عمارة الوائلي، وجماعة من بني النضير خرجوا حتى قدموا على قريش فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوهم فاجتمعوا مع قريش. فسارت وقائدها عيينة بن حصين الفزاري، وسارت بنو مرة وقائدها الحارث بن عوف، وسارت بنو أشجع وقائدها مسعر بن رخيلة الأشجعي، وسارت قريش وقائدها أبو سفيان.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب الخندق على المدينة، وكان الذي أشار بالخندق على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان، فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا. فحفره رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى أحكموه.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجمع الأسيال من رومة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهم ثلاثة آلاف من المسلمين، فكان الخندق بينهم وبين المشركين، وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، وظهر النفاق في المنافقين، حتى قال معتب بن بشير المنافق: كان محمد وعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، فأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. فذلك قوله تعالى: { وتظنون بالله الظنونا }.
فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الكفار معه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بين القوم إلا الرمي بالنبل والحصى والحصار.
فلما اشتد البلاء على الناس واستطال، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما من القوم، فجرى بينهما الصلح حتى وقع الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما في ذلك، فقالا: يا رسول الله؛ أهذا شيء أمرك الله به أم أمر تحبه أنت أم أمر تصنعه لنا؟ فإن كان أمرا من الله لك فلا بد لنا من العمل به، وإن كان أمرا تحبه فاصنع ما شئت، وإن كان شيئا تصنعه لنا فعرفنا به، فقال صلى الله الله عليه وسلم: " بل والله ما صنعت ذلك إلا أني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ".
فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من ثمارنا تمرة إلا قراء أو شراء، فكيف وقد أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " فأنت وذاك ". فتناول سعد الصحيفة التي كتبوا فيها صلحهم فمحاها.
ثم إنهم تراموا بالنبل، فوقعت رمية في أكحل سعد بن معاذ فقطعته، رماه ابن الغرفة من قريش، فما زال أكحله يسيل دما حتى خيف عليه، فقال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها، فإنه لا شيء أحب إلي من جهاد قوم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه وأخرجوه، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لنا شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
ثم أتى نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ قد أسلمت وإن قومي من غطفان لم يعلموا بإسلامي، فمرني فيهم بما شئت، فقال عليه السلام: " إنما أنت رجل واحد فخذل عنا إن استطعت ". فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة؛ لقد علمتم ودي لكم وما بيني وبينكم من المحبة. قالوا: صدقت؛ لست عندنا بمتهم.
فقال لهم: إن قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمد، وإن قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم؛ لأن هذه بلدكم وبها أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحولوا إلى غيركم، وإن قريشا وغطفان أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدون، إن رأوا لهم ها هنا صولة وغنيمة أخذوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين هذا الرجل وهو رجل ببلدكم لا طاقة لكم به، فلا تقاتلوه حتى تأخذوا رهنا من أشراف قريش وغطفان يكونون بأيديكم ثقة على أن يقاتلوا معكم. فقالوا له: لقد أشرت برأي ونصيحة.
ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال: يا معشر قريش؛ قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمدا، وقد بلغني أمرا رأيت حقا علي أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا علي. قالوا: نفعل! قال: اعلموا أن معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: أنا قد ندمنا على فعلنا، فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب رقابهم، ثم نكون معك على من بقي منهم، فقال لهم: نعم، وأنتم إذا بعثت اليهود إليكم يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال لهم: يا معشر غطفان؛ أنتم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت! قال: فاكتموا علي، قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فأرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى يهود بني قريظة نفرا من قريش وغطفان، فأتوهم وقالوا لهم: قد هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى يفرغ ما بيننا وبين محمد. فقال بنو قريظة: لسنا بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم تكون ثقة بأيدينا، فإنا نخاف أنكم إذا اشتد عليكم الحرب والقتال أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا، وهذا الرجل قريب من بلادنا، ولا طاقة لنا به.
فرجعت الرسل بما قالت بنو قريظة، فقالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثنا به نعيم بن مسعود لحق. وأرسلوا إلى بني قريظة: والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، ولكنكم إن كنتم تريدون الحرب فاخرجوا معنا فقاتلوا ونحن معكم. قالت بنو قريظة: لا نقاتل إلا إذا أعطيتمونا رهنا من رجالكم. فقالوا لهم: حدثنا نعيم بن مسعود بذلك فلم نصدقه، فقالوا لهم: إن الذي ذكره لكم حق. وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد حتى انصرفوا راجعين، والحمد لله رب العالمين ".
قوله تعالى: { وتظنون بالله الظنونا } ، فأما المنافقون فظنوا أن محمدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأما المؤمنون فأيقنوا أن ما وعدهم الله تعالى حق، وأنه سيظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون. قال الحسن في معنى: { وتظنون بالله الظنونا }: (يعني ظن المؤمنون بالله خيرا، وظن المنافقون أن الكافرين ظهروا على المؤمنين).
قرأ نافع وعاصم وابن عامر: (الظنونا) و(الرسولا) و(السبيلا) بإثبات الألف فيها وقفا ووصلا لأنه من أواخر الآي، وقرأ أبو عمرو بغير ألف وقفا ووصلا، وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل.
[33.11]
قوله تعالى: { هنالك ابتلي المؤمنون } أي في تلك الحال اختبر المؤمنون بالقتال ليتبين المخلص من المنافق. وقيل: معناه: امتحن المؤمنون بالخوف الشديد الذي عنده يظهر المؤمن القوي من المؤمن الضعيف، وذووا العزم الصحيح من غيرهم. وقوله: { وزلزلوا زلزالا شديدا }؛ أزعجوا وحركوا تحريكا شديدا، وذلك أن الخائف يكون قلقا مضطربا لا يستقر على مكانه.
[33.12]
قوله تعالى: { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } معناه: وإذ يقول الذين يستبطنون الكفر والذين في قلوبهم شك وضعف اعتقاد: ما وعدنا محمد أن فارس والروم يفتحان علينا ونحن في مكاننا هذا الذي لا يقدر أحد أن يبرز لحاجته إلا باطلا. قال قتادة: (قال ناس من المنافقين: يعدنا محمد أن نفتح قصور الشام وفارس، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله، هذا والله الغرور).
[33.13]
قوله تعالى: { وإذ قالت طآئفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا }؛ قال مقاتل: (هم بنو سالم من المنافقين)، وقال السدي: (عبدالله بن أبي وأصحابه). (يا أهل يثرب) أي يا أهل المدينة، قال أبو عبيدة: (يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول في ناحية منها). وقوله تعالى: { لا مقام لكم } أي لا موقف لكم في هذا الموضع، فارجعوا إلى المدينة.
وقرأ عاصم (لا مقام) بضم الميم؛ أي لا إقامة لكم ها هنا؛ لكثرة العدو وغلبة الحراب، فارجعوا إلى منازلكم، أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ويستأذن فريق منهم النبي }؛ معناه: ويستأذن فريق منهم النبي عليه السلام في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة؛ وهم: بنو حارثة وبنو سلمة، وكانوا يعتلون في الاستئذان بقولهم: { يقولون إن بيوتنا عورة }؛ أي بيوتنا خالية من الرجال نخاف عليها، وقيل: معناه: إن بيوتنا ليست بجديدة. وقال مقاتل والحسن: (معناه: قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها السراق). وقال قتادة: (قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا نأمن على أهلنا). فكذبهم الله تعالى وأعلم أن قصدهم الهرب، فقال عز وجل: { وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }؛ من القتال ونصرة المؤمنين.
وقرأ ابن عباس وأبو رجاء: (إن بيوتنا عورة) بكسر الواو؛ أي قصيرة الجدران، فيها خلل وفرجة. قال الزجاج: (يقال: عور المكان يعور عورا وعورة، وبيوت عورة وعورة، وهي مصدر). والعورة في اللغة: ما ذهب عنه الستر والحفظ، تقول العرب: اعور الفارس إذا كان فيه موضع خلل للضرب، وعور المكان إذا بدت منه عورة. قال الشاعر:
متى تلقهم، لا تلق للبيت عورة
ولا الضيف محروما ولا الجار مرملا
يقال: أرمل القوم إذا فرغ زادهم.
[33.14]
قوله تعالى: { ولو دخلت عليهم من أقطارها }؛ أي لو دخلت المدينة على هؤلاء المنافقين من أطرافها، يعني: لو دخل عليهم هؤلاء الأحزاب من نواحيها، { ثم سئلوا الفتنة لآتوها }؛ أي ثم دعوا إلى الشرك لأجابوها سريعا وأعطوها من أنفسهم. والمعنى: لو أن الأحزاب دخلوا المدينة، ثم أمروهم بالشرك لأشركوا.
وقرأ أهل المدينة (لأتوها) بالقصر؛ أي لفعلوها بأنفسهم، { وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا }؛ أي وما يلبثون بإجابتها إلا قليلا حتى يقبلوا. قال قتادة: (وما احتبسوا عن الإجابة إلى الكفر إلا قليلا)، ويقال: ما يتلبثون بالمدينة بعد إجابتهم إلا يسيرا حتى يهلكوا.
[33.15-17]
قوله تعالى: { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار }؛ قيل: إنهم بنو حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل، عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها. وقال قتادة: (هم قوم كانوا غابوا عن وقعة بدر، ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة، فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن، فلما كان يوم الأحزاب لم يفوا بذلك العهد).
ومعنى الآية: ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل غزوة الخندق { لا يولون الأدبار } أي لا ينهزمون ولا يولون العدو ظهورهم. وقوله تعالى: { وكان عهد الله مسئولا }؛ أي مطالبا مسؤولا عنه محاسبا عليه، يسألون عنه في الآخرة.
ثم أخبر الله أن الفرار لا يزيدهم في آجالهم؛ فقال: { قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل }؛ أي من حضر أجله مات أو قتل، فكلاهما مكتوب عليكم. وقوله تعالى: { وإذا لا تمتعون إلا قليلا }؛ أي إن فررتم من الموت أو القتل في هذه الوقعة لم يمتعوا إلا قليلا حتى يلحقكم أحد الأمرين. والمعنى: لا تمتعون بعد الفرار في الدنيا إلا مدة أجلكم.
ثم أخبر الله تعالى أن ما قدره عليهم وأراده بهم لا يدفع عنهم، قوله تعالى: { قل من ذا الذي يعصمكم من الله }؛ أي من الذي يجيركم ويمنعكم من الله، { إن أراد بكم سوءا }؛ أي هلاكا وهزيمة، { أو أراد بكم رحمة }؛ أي خيرا وهو النصر. وهذا كله أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم بهذه الأشياء.
ثم أخبر الله أنه لا ينفعهم قريب ولا ناصر ينصرهم من الله، فقال تعالى: { ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا }.
[33.18]
قوله تعالى: { قد يعلم الله المعوقين منكم والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا }؛ قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين، كانوا يبطئون المجاهدين ويمنعونهم عن الجهاد. يقال: عاق يعوق؛ إذا منع، وعوق إذا اعتاد المنع، وعوقه إذا صرفه عن الوجه الذي يريده.
قال قتادة: (هم قوم من المنافقين، كانوا يقولون: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وحزبه، دعوا هذا الرجل فإنه هالك، فخلوهم وتعالوا إلينا).
وقوله تعالى: { والقآئلين لإخوانهم هلم إلينا } أي ويعلم القائلين لإخوانهم تعالوا إلينا ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك، وقوله: { ولا يأتون البأس إلا قليلا }؛ أي لا يحضرون القتال في سبيل الله إلا قليلا؛ أي لا يقاتلون إلا رياء وسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا.
[33.19]
قوله: { أشحة عليكم }؛ أي بخلاء عليكم بأنفسهم وأموالهم، لا ينفقون شيئا منها في سبيل الله ونصرة المؤمنين. ثم أخبر عن جبنهم فقال تعالى: { فإذا جآء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت } ، من الخوف والفزع كما تدور أعين الذي يحضره الموت فيغشى عليه، ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم وتحار أعينهم لما يلحقهم من الخوف، { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد }؛ أي بسطوا ألسنتهم وأرسلوها، طاغين عليكم. قال الفراء: (معناه: آذوكم بالكلام وعضوكم بألسنة سليطة ذربة) يقال: خطيب مسلاق إذا كان بليغا في خطابه.
وقوله تعالى: { أشحة على الخير }؛ أي بخلاء بالغنيمة، يخاصمون فيها ويشاحون المؤمنين عليها عند القسمة، فيقولون: أعطونا فلستم أحق منا! وقوله تعالى: { أولئك لم يؤمنوا }؛ أي هم وإن أظهروا الإيمان ونافقوا فليسوا بمؤمنين، { فأحبط الله أعمالهم }؛ أي أبطل جهادهم وثواب أعمالهم؛ لأنه لم يكن في إيمان، { وكان ذلك } الإحباط، { على الله يسيرا }؛ قال مقاتل: (معنى الآية: فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن والغنيمة، سلقوكم بألسنة حداد؛ أي بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، وسيقولون: أعطونا فلستم أحق بها منا! فأما عند البأس والقتال فأجبن قوم وأخذلهم، وأما عند الغنيمة فأشح قوم).
[33.20]
قوله تعالى: { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي يظن المنافقون من جبنهم وخبثهم أن الأحزاب لم يذهبوا إلى مكة وقد ذهبوا، { وإن يأت الأحزاب }؛ في المرة الثانية؛ أي يرجعون إلى القتال، { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب }؛ داخلون في البادية مع الأعراب، { يسألون عن أنبآئكم }؛ أي يتمنون لو كانوا في بادية بالبعد منكم، يسألون عن أخباركم يقولون: ما فعل محمد وأصحابه؟! فيعرفون حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة. والمعنى بسؤالهم: أنه إذا كان الظفر لكم شاركوكم، وإن كان للمشركين شاركوهم، كل هذا من الخوف والجبن. قرأ يعقوب (يساءلون) بالتشديد والمد، بمعنى يتساءلون؛ أي يسأل بعضهم بعضا عن أخباركم، { ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا }؛ لو كان هؤلاء المنافقون فيكم ما قاتلوا إلا رميا بالحجارة من غير احتساب.
[33.21]
قوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }؛ أي لقد كان لكم في رسول الله قدوة حسنة في الصبر على القتال والثبات عليه واحتمال الشدائد في ذات الله، { لمن كان يرجوا الله }؛ يرجو ثواب الله، { واليوم الآخر } ، وثواب الدنيا والآخرة، { وذكر الله كثيرا } ، وذلك: أن كل من ذاد أو ذكر الله في لسانه ازدادت رغبته في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الآية: لقد كان لكم في رسول الله اقتداء لو اقتديتم به، والصبر معه في مواطن القتال كما فعل هو يوم أحد إذ كسرت رباعيته وشج حاجبه وقتل عمه، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل ما فعل هو. وقوله تعالى: { لمن كان يرجوا الله } يدل من قوله (لكم) وهو تخصيص بعد التعميم للمؤمنين.
[33.22]
قوله تعالى: { ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله }؛ وذلك أن الله تعالى كان قد وعدهم في سورة البقرة
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء
[البقرة: 214]... إلى قوله
ألا إن نصر الله قريب
[البقرة: 214] وقوله تعالى:
ليظهره على الدين كله
[الفتح: 28]. وقوله تعالى : { وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }؛ أي ما زادهم ما رأوه إلا إيمانا وتصديقا بوعد الله وتسليما لآخره.
[33.23-24]
قوله تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }؛ أي من جملة المؤمنين رجال وافوا ما عاهدوا الله عليه بالثبات على الدين والعمل بموجبه من الصبر على القتال وغير ذلك، { فمنهم من قضى نحبه }؛ أي من وفى بنذره، ومنهم من أقام على ذلك العهد حتى قتل شهيدا في سبيل الله. قيل: إن المراد به حمزة ابن عبد المطلب وأصحابه الذين قتلوا يوم أحد.
والنحب في اللغة: النذر، وقيل: النحب هو النفس، ومنه النحيب: وهو التنفس الشديد والنشج في البكاء. والمعنى على هذا القول: (منهم من قضى نحبه) { ومنهم من ينتظر }؛ الموت على ذلك العهد. وقيل: معناه: (فمنهم من قضى نحبه) أي مات أو قتل في سبيل الله فأدرك ما تمنى، فذلك قضاء النحب. وقيل: فرغ من عمله، ورجع إلى الله. وقال الحسن: (قضى أجله على الوفاء والصدق)، قال ابن قتيبة: (قضى نحبه: قتل).
وأصل النحب: النذر، كان قوم نذروا أنهم إن لقوا العدو قاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله تعالى فقتلوا. يقال: فلان قضى نحبه، إذا قتل. وقال محمد بن اسحاق: (فمنهم من قضى نحبه، من استشهد يوم بدر وأحد، ومنهم من ينتظر ما وعد الله من نصر أو شهادة على ما مضى عليه أصحابه).
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
" طلحة بن عبيدالله ممن قضى نحبه، ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت يده، فقال صلى الله عليه وسلم: " أوجب طلحة الجنة " "
وعن أبي نجيح: أن طلحة بن عبيد الله كان يوم أحد عند النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل، فجاء سهم متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتقاه طلحة بيده فأصاب خنصره.
وعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه، فلينظر إلى طلحة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيدالله ".
قوله تعالى: { وما بدلوا تبديلا }؛ أي ما غيروا عهد الله الذي عاهدوه عليه كما غيره المنافقون. وقوله تعالى: { ليجزي الله الصادقين بصدقهم }؛ أي صدق المؤمنون في عهدهم ليجزيهم الله بصدقهم، { ويعذب المنافقين }؛ بنقض العهد، { إن شآء }؛ قال السدي: (يميتهم الله على نفاقهم إن شاء فيوجب لهم العذاب). فمعنى شرط المشيئة في عذاب المنافقين إماتتهم على النفاق إن شاء ثم يعذبهم، { أو يتوب عليهم }؛ فيغفر لهم، ليس أنه يجوز أن لا يعذبهم إذا ماتوا على النفاق، { إن الله كان غفورا }؛ لمن تاب { رحيما }؛ بمن مات على التوبة.
[33.25]
قوله تعالى: { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا }؛ معناه: وصرف الله الكفار عن المؤمنين مغتاظين لم يكن فيهم من شفا غيظه، ولم ينالوا منهم مالا ولا غنيمة، ولم يروا سرورا، { وكفى الله المؤمنين القتال }؛ بالريح والملائكة التي أرسلت عليهم، { وكان الله قويا }؛ أي لم يزل قويا في ملكه، { عزيزا } ، في قدرته منيعا بالنقمة من أعدائه.
[33.26-27]
قوله تعالى: { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم }؛ معناه: وأنزل الذين عاونوا المشركين من أهل الكتاب وهم بنو قريظة، نقضوا العهد وأعانوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلهم الله من حصونهم مع شدة شوكتهم، وألقى في قلوبهم الرعب.
" وذلك أن بني قريظة كانوا قد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينصروا أعداءه عليه، فلما رأوا الأحزاب وكثرتهم ظنوا أنهم يستأصلون المؤمنين، فنقضوا العهد ولحقوا بهم.
فلما هزم الله المشركين ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، أراد أن ينزع لامته، فسمع هسيسا، فنظر فإذا جبريل عليه السلام في درعه وسلاحه، فقال له جبريل: أتنزع لامتك يا رسول الله والملائكة لم ينزعوا حتى يقاتلوا بني قريظة ويصلى فيهم العصر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: " وكيف لي بقتالهم وهم في حصونهم؟! " فقال جبريل: لألهمنك ذلك، فوالله لأدقنهم اليوم كما يدق البيض على الصفا. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأصحاب، فخرجوا إلى حصون بني قريظة، فألقي الرعب في قلوب القوم حتى طلبوا الصلح، وأبوا إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.
وكان سعد قد أصابه سهم في أكحله في حرب الخندق، فسأل الله أن يؤخره إلى أن يرى قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءه. فلما طلبت بنو قريظة النزول على حكم سعد، رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمل سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد احتبس أكحله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " احكم فيهم ". فقال: حكمت فيهم بأن يقتل مقاتلتهم ويسبى ذراريهم ونساؤهم وأموالهم. فقال صلى الله عليه وسلم: " حكمت فيهم مثل ما حكم الله فيهم ". فلما قتلت مقاتلتهم وسبيت نساؤهم وذراريهم، انفجر أكحل سعد فمات رحمه الله ".
والصياصي: جمع صيصة، وصيصة الثور قرنه، سمي بذلك؛ لأن قرنه حصنه الذي يتحصن به.
وروي:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الليلة التي انصرف فيها الأحزاب، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم السلاح، أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه وقد مشطت عقصته، فقال جبريل: قد وضعت السلاح يا رسول الله؟! قال: " نعم " قال: عفا الله عنك يا رسول الله! فوالله ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة.
وكان هذا في وقت الظهر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: " من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة ". وقدم النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم، فسار إليهم علي رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون سمع منهم مقالة قبيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع علي رضي الله عنه حتى لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالطريق. فقال: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الخبائث، قال: " أظنك سمعت منهم أذى؟ " قال: نعم. فسار النبي صلى الله عليه وسلم نحوهم حتى دنا من حصونهم، فقال لهم: " يا إخوان القردة أخزاكم الله، وأنزل فيكم نقمته " قالوا: يا أبا القاسم! ما كنت جهولا.
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف في قلوبهم الرعب. فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راجع عنهم، قال لهم كعب بن أسد: يا معشر اليهود؛ إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني سأعرض عليكم ثلاث خصال، فخذوا بأيها شئتم. قالوا: وما هي؟
قال: أما الأولى فنبايع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق ديننا أبدا، ولا نستبدل به غيره.
قال: فإن أبيتم هذه علي، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف، ولم يكن وراءنا ثقل يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين! فلا خير في العيش بعدهم.
قال: فإن أبيتم هذه، فاعلموا أن هذه ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا، وقد علمت أن الذين أحدثوا فيه الأحداث مسخوا، ولم يخف عليك من هم.
قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، نستشيره في أمرنا، فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. فسألوه إن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: أنه الذبح. قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من أعمدته، وقال: لا أبرح حتى يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله تعالى أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا، وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد مضى على وجهه ولم يأته قال: " أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه. ثم إن الله تعالى أنزل توبته، فقال صلى الله عليه وسلم: " تبت على أبي لبابة " فثار الناس إلى أبي لبابة ليطلقوه، فقال: والله لا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقه.
قال: فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس وقالوا: يا رسول الله؛ إنهم موالينا - أي حلفاؤنا - دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج ما قد علمت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسألهم إياه عبدالله بن أبى سلول فوهبهم له. فلما كلمه الأوس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الأوس؛ أما ترضون أن أحكم فيهم رجلا منكم؟ " قالوا: بلى، قال: " فذاك " إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة، تداوي الجرحى وتخدم المرضى.
فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قوم فاحتملوه على حمار، وقد وطأوا له وسادة من أدم، وكان رجلا جسيما. ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه؛ قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أن بني قريظة مقتولون.
فلما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قوموا إلى سيدكم، فأنزلوه " فقاموا إليه، فقال: يا أبا عمرو؛ إن رسول الله قد ولاك مواليك لتحكم بينهم، فقال سعد: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ". ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار " ابنة الحارث " امرأة من بني النجار، ثم بعث إليهم من يخرجهم إليه إرسالا، وأمر بضرب أعناقهم.
وكان فيهم يومئذ عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم في سبعمائة. وقيل: من ثمانمائة إلى تسعمائة، فقالوا لكعب وهو يذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما ترى ما يصنع بنا؟ قال: ما لكم لا تعقلون! ألا ترون من ذهب منكم لا يرجع، هو والله القتل، فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتي بحيي بن أخطب عدو الله وعليه حلة له فقاحية ويداه مغلولتان إلى عنقه بحبل، ثم أجلس فضرب عنقه ".
قالت عائشة رضي الله عنها: (كان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هناك)، قالت عائشة: ولم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة، كانت والله عندي تتحدث معي وتضحك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها، فبينا هي كذلك إذ هاتف يهتف باسمها: أين فلانة. قالت: هي أنا والله. قالت عائشة: فقلت لها: ويلك وما تلك؟ قالت: طلبت لأقتل، قلت: ولم؟ قالت: حدثا أحدثته، قالت: فانطلق بها فضرب عنقها. قالت عائشة: ما أنسى عجبا منها، طيب نفس وكثرة ضحك، وقد علمت أنها تقتل). قال الواقدي: (واسم تلك المرأة نباتة) امرأة الحكم القرظي، وكانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى فقتله، فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاد بن سويد.
وعن الزهري رضي الله عنه قال:
" كان رجل من قريظة يقال له الزبير بن باطا ويكنى أبا عبدالرحمن، مر يوما على ثابت بن قيس بن ثابت بن شماس في الجاهلية يوم بغاث، أخذه وحز ناصيته ثم خلى سبيله. فجاء ثابت بن قيس يوم بني قريظة فوجده قد صار شيخا كبيرا، فقال له ثابت: يا زبير هل تعرفني؟ قال: نعم؛ وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: فإني أريد أن أجازيك بما لك عندي من اليد، قال: افعل، فإن الكريم يجزي الكريم.
قال ثابت: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله؛ قد كان للزبير عندي يد وصنيعة وله علي منة وقد أحببت أن أجزيه، فهب لي دمه، فقال صلى الله عليه وسلم: " هو لك " فأتاه، فقال له: يا شيخ؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك. فقال: إني شيخ كبير، فإن ذهب أهلي وأولادي فما أصنع بالحياة؟ قال ثابت: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته أهله وولده، فقال: " هم لك " فقلت: يا شيخ؛ قد وهب لي رسول الله امرأتك وأولادك. فقال: يا ثابت؛ كيف يكون أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته ماله، فقال: " هو لك " فأعلمته بذلك.
فقال لي: يا ثابت؛ ما فعل الذي وجهه مرآة مضيئة كعب بن أسد؟ قلت: قتل، قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قلت: قتل، قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا غزال بن شموال؟ قلت: قتل. قال: فما فعل ببني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة؟ قلت: قتلوا كلهم.
قال: فإني أسألك يا ثابت بما بيني وبينك من الصنيعة واليد إلا ما ألحقتني بالقوم فوالله ما لي في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصائر حتى ألقى الأحبة. فضرب ثابت عنقه "
فلما بلغ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قوله: ألقى الأحبة، قال: تلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها أبدا.
قوله تعالى: { وقذف في قلوبهم الرعب }؛ أي ألقى في قلوبهم الخوف، { فريقا تقتلون }؛ يعني المقاتلة، { وتأسرون فريقا }؛ يعني الذراري، { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم }؛ يعني عقارهم ونخيلهم ومنازلهم وأموالهم من الذهب والفضة والحلي والعبيد والإماء، { وأرضا لم تطئوها }؛ يعني أرض بني النضير، وقيل: أرض خيبر.
والمعنى: سيفتح الله لكم أرضا لم تطأوها الآن بأقدامكم يعني خيبر، ففتحها الله عليهم بعد بني قريظة. وقال الحسن: (هي فارس والروم)، وقال قتادة: (هي مكة). قوله تعالى: { وكان الله على كل شيء قديرا }؛ فيه بيان أن الله قادر على إظهار الإسلام بغير القتال، وإنما أمر المؤمنين بالقتال ليعرضهم لجزيل الثواب.
[33.28-29]
قوله تعالى: { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا }؛ قال المفسرون:
" كان بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى منهن شهرا أن لا يقربهن ولم يخرج إلى أصحابه للصلوات.
فقالت الصحابة: ما شأن رسول الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: إن شئتم ذهبت إليه لأعلمكم ما شأنه؟ فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له. قال عمر: فجعلت أقول في نفسي: أي شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله ينبسط؟ فقلت: يا رسول الله؛ لو رأيت فلانة وهي تسألني النفقة فصككتها صكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " فذلك الذي أجلسني عنكم ". فأتى عمر حفصة فقال لها: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فما كان من حاجته لك فأولى.
ثم جعل يتتبع نساء النبي صلى الله عليه وسلم يكلمهن، حتى قال لعائشة رضي الله عنها: يغرك أنك امرأة حسناء وإن زوجك يحبك لتنتهين أو لينزلن الله فيكن القرآن. فقالت أم سلمة: يا ابن الخطاب؛ أوما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله ونسائه! فمن تسأل المرأة إلا زوجها؟ فأنزل الله هذه الآية { يأيها النبي قل لأزواجك } "
إلى آخرها.
وكان يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة؛ خمس من قريش: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، فهؤلاء من قريش. وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا مع حفصة، فتشاجرا فيما بينهما، فقال لها: هل لك أن أجعل بيني وبينك رجلا؟ قالت: نعم، قال: فأبوك إذا، فأرسل إلى عمر رضي الله عنه، فلما دخل عليها قال: تكلمي، قالت: يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقا! فرفع عمر يده فوجى وجهها ثم رفع فوجى وجهها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كف ".
فقال عمر: يا عدوة الله! أويقول رسول الله إلا حقا، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي. فقام صلى الله عليه وسلم فصعد إلى غرفة، فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه، يتغدى ويتعشى فيها، فأنزل الله تعالى: { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } الآية، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فعرض ذلك عليهن كلهن، فلم يخترن إلا الله ورسوله، وكان آخر من عرض عليها حفصة، فقالت: يا رسول الله؛ إني في مكان العائذة بك من النار، والله لا أعود لشيء تكرهه أبدا، بل أختار الله ورسوله، فرضي عنها ".
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه آية التخيير بدأ بعائشة أحبهن إليه، فخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجهه عليه السلام، وتابعها جميع نسائه على ذلك، فشكرهن الله وقصر نبيه صلى الله عليه وسلم عليهن، فقال
لا يحل لك النسآء من بعد
[الأحزاب: 52].
قيل:
" لما نزلت هذه الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة؛ إني ذاكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستأمري فيه أبوك " ثم قرأ هذه الآية ، فقال: { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله: { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة }؛ فقالت عائشة رضي الله عنها: قد علم الله أنه أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقك، وهل أستأمر في هذا؟! إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. ثم قالت: يا رسول الله؛ لا تخبر أزواجك أني اخترتك. ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعلت ".
وقيل:
" لما نزلت آية التخيير، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وخيرهن، وقال لعائشة: " أما أنت فلا تحدثي من أمرك شيئا حتى تشاوري أبويك " فقالت: أفيك أشاورهما؟! أنا أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ما لنا والدنيا؟! فتبعها سائر أزواجه، ولم تختر واحدة منهن نفسها إلا المرأة الحميرية ".
قوله تعالى: { فتعالين أمتعكن } أي أعطيكن مهركن { وأسرحكن سراحا جميلا } أي أطلقكن على وجه السنة. وقيل: معناه: أخرجكن من البيوت، لأنه ذكر المتعة قبل التسريح. قوله تعالى: { وإن كنتن تردن الله ورسوله }؛ أي ثواب الله ورضى رسوله { والدار الآخرة } أي الجنة، { فإن الله أعد للمحسنات منكن }؛ باختيار ثواب الله ورضى رسوله، { أجرا عظيما } ، في الآخرة.
[33.30]
قوله تعالى: { ينسآء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني النشوز وسوء الخلق) { يضاعف لها العذاب ضعفين }؛ أي يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين. والمعنى: يزيد في عذابها ضعفا، كما زيد في ثوابها ضعفا في قوله
نؤتهآ أجرها مرتين
[الأحزاب: 31].
وإنما ضوعف عذابهن على الفاحشة لأنهن يشاهدن من الزواجر ما يردع عن مواقعة الذنوب ما لا يشاهد غيرهن، فإذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب. وقوله تعالى: { وكان ذلك على الله يسيرا }؛ أي وكان عذابها على الله هينا.
وقوله تعالى { يضاعف لها العذاب ضعفين } ، قرأ ابن كثير وابن عامر (نضعف) بالنون وكسر العين مشددة من غير ألف (العذاب) بالنصب، وقرأ أبو عمرو (يضعف) بالياء وفتح العين والتشديد، ورفع (العذاب)، قال أبو عمرو: (وإنما قرأت هكذا مشددا من غير ألف لقوله (ضعفين)، يقال: ضعفت الشيء إذا جعلته مثله وضاعفته إذا جعلته أمثاله). وقرأ الباقون (يضاعف) بالألف ورفع (العذاب).
[33.31]
قوله تعالى: { ومن يقنت منكن لله ورسوله }؛ أي ومن يطع منكن لله ورسوله. وقيل: ومن تقم منكن على طاعة الله وطاعة رسوله، { وتعمل صالحا }؛ فيما بينها وبين ربها، { نؤتهآ أجرها مرتين }؛ أي نعطيها مكان كل حسنة عشرين حسنة، { وأعتدنا لها رزقا كريما }؛ أي حسنا؛ يعني الجنة. والرزق الكريم: ما سلم من كل آفة، ولا يكون ذلك إلا في الجنة.
قرأ يعقوب (تقنت) بالتاء ومثله روي عن ابن عامر، وقوله { وتعمل صالحا } ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف (ويعمل صالحا يؤتها) بالياء فيهما. وقرأ غيرهم (وتعمل) بالتاء (ونؤتها) بالنون. قال الفراء: (وإنما قرئ (يقنت) بالياء لأن (من) أداة تقوم مقام الاسم، يعبر به عن الواحد والاثنين والجمع والمؤنث والمذكر، قال الله تعالى:
ومنهم من ينظر إليك
[يونس: 43]
ومنهم من يستمعون إليك
[يونس: 42]، { ومن يقنت منكن لله } ).
[33.32-33]
قوله تعالى: { ينسآء النبي لستن كأحد من النسآء }؛ معناه: ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي، وأنا بكن أرحم وثوابكن أعظم، { إن اتقيتن }؛ الله. وشرط عليهن التقوى بيانا أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى لا باتصالهن بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه: ليست حالتكن كحالة النساء غيركن في الطاعة والمعصية والثواب والعقاب إن كنتن متقيات عن المعاصي مطيعات لله تعالى.
قوله تعالى: { فلا تخضعن بالقول }؛ أي فلا تلن القول للرجال على وجه يورث ذلك الطمع فيكن، فيطمع المنافقون في مواقعتكن، فقوله تعالى: { فيطمع الذي في قلبه مرض }؛ يعني زنى وفجور ونفاق. والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة؛ لأن ذلك أبعد من الطمع من الزينة.
وإنما قال { لستن كأحد من النسآء } ولم يقل كواحدة؛ لأن أحدا عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، قال تعالى:
لا نفرق بين أحد من رسله
[البقرة: 285] وقال تعالى
فما منكم من أحد عنه حاجزين
[الحاقة: 47].
قوله تعالى: { وقلن قولا معروفا }؛ أي قلن قولا حسنا لا يؤدي إلى الزينة، وقيل: معناه: وقلن ما يوجبه الدين والإسلام بغير خضوع فيه، بل بتصريح وبيان. قوله تعالى: { وقرن في بيوتكن }؛ أي إلزمن بيوتكن ولا تخرجن إلا في ضرورة.
قرأ نافع وعاصم (وقرن) بفتح القاف، وهو من قررت في المكان أقر، وكان الأصل اقررن في بيوتكن، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لأجل نقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف كقوله
فظلتم تفكهون
[الواقعة: 65] و
ظلت عليه عاكفا
[طه: 97]، والأصل ظللت وظللتم. وقرأ الباقون (وقرن) بكسر القاف من الوقار؛ أي كن أهل سكينة ووقار، والأمر منه للرجل قر، وللمرأة قري، ولجماعة النساء قرن، كما يقال من الوعد: عدن، ومن الوصل: صلن.
وعن محمد بن سيرين قال: (قيل لسودة بنت زمعة: ألا تحجين؛ ألا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، ثم أمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج منه حتى أموت. فوالله ما أخرجت من باب بيتها حتى أخرجوا جنازتها رضي الله عنها).
قوله تعالى: { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى }؛ التبرج: التبختر وإظهار الزينة، وما يستدعي به من شهوة الرجال وإبراز المحاسن للناس. والجاهلية الأولى: هي ما بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، كانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق ليس عليها غيره، وتعرض نفسها للرجال. وقال بعضهم: الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح، كان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء، ورجالهم حسان، وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه. فنهى الله تعالى هؤلاء عن فعل أهل الجاهلية وأمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في باقي الآية.
قوله تعالى: { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله }؛ أي إنما أمركن الله بما أمركن من الطاعة ولزوم البيوت { ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ، يعني رجس الذنوب والعيوب، { ويطهركم تطهيرا }. وقال ابن عباس: (عمل الشيطان وما ليس فيه رضى). ومعنى الرجس: السوء وما يوجب العقوبة. والمراد بأهل البيت ها هنا نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته. وقيل: أهل البيت كل من اتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم من جهة نسب علي أو نسب على العموم. وعن أبي سعيد الخدري: (أن الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية،
" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين، فجمعهم وأتى بقطيفة خيبرية فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء، فقال: " اللهم هؤلاء أهلي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " فقالت أم سلمة: أولست من أهلك؟ قال: " نعم " فدخلت الكساء بعدما دعا وانقضى دعاؤه ".
وعن عكرمة رضي الله عنه أنه قال: (نزلت هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس هو الذي تذهبون إليه)، وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق، واحتج بقوله في الخطاب
واذكرن ما يتلى في بيوتكن
[الأحزاب: 34] وكلا الخطابين لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يعني الخطاب الأول { وقرن في بيوتكن } ، وهذا الخطاب الثاني. وإنه ذكر الخطاب في قوله { عنكم } و { ويطهركم } لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهن فغلب المذكر.
[33.34]
قوله تعالى: { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة }؛ أي واحفظن ما يقرأ عليكن في بيوتكن من القرآن والمواعظ. وهذا حث لهن على حفظ القرآن والأخبار ومذاكرتهن بهما للإحاطة بحدود الشريعة. وقوله تعالى: { إن الله كان لطيفا خبيرا }؛ أي لطيفا بأوليائه، خبيرا بجميع خلقه وبجميع مصالحهم.
[33.35]
قوله تعالى: { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات }؛ الآية، قال قتادة: (لما ذكر الله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم دخل نساء من المسلمات عليهن؛ فقلن: ذكرتن ولم نذكر! فأنزل الله هذه الآية).
وقال مقاتل:
" لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسارة! قال: " ومم ذلك؟ " قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال. فأنزل الله هذه الآية ".
وقال مقاتل: (قالت أم سلمة بنت أبي أمية ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، فعسى أن لا يكون فيهن خير، ولا لله فيهن حاجة. فأنزل الله هذه الآية).
وقيل: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: (يا رسول الله! ذكر الله عز وجل الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير، فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا يتقبل منا طاعة). فأنزل الله هذه الآية.
واعلم: أن الرجال والنساء يجازون بأعمالهم الصالحة مغفرة لذنوبهم وأجرا عظيما.
ومعنى الآية: { إن المسلمين والمسلمات } يعني المخلصين بالتوحيد والمخلصات { والمؤمنين والمؤمنات } أي المصدقين بالتوحيد والمصدقات. والإسلام في اللغة: هو الانقياد والاستسلام. والإيمان في اللغة: هو التصديق، غير أن معنى الإسلام والإيمان في هذه الآية واحد.
قوله تعالى: { والقانتين والقانتات }؛ أي المطيعين لله في أوامره ونواهيه والمطيعات. والقانت: هو المواظب على الطاعة، والقنوت: طول القيام في الصلوات. وقوله تعالى: { والصادقين والصادقات }؛ يعني الصادقين في إيمانهم والصادقات. وقوله تعالى: { والصابرين والصابرات }؛ الصابر: هو الذي يحبس نفسه عن جميع ما يجب الصبر عنه، ويصبر على جميع ما يجب الصبر عليه.
وقوله تعالى: { والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات }؛ يعني بالمتصدقين الذين يؤدون ما عليهم من الصدقة المفروضة. ويقال: أراد به جميع الصدقات. وأما الخاشع: فهو المتواضع لله تعالى وللناس.
وقوله تعالى: { والصائمين والصائمات }؛ يعني الصائمين صوم الفرض بنية صادقة، ولكن فطرهم على حلال. قال ابن عباس: (من صام شهر رمضان وثلاثة أيام من كل شهر الغر البيض، كان من أهل هذه الآية، ويؤتون يوم القيامة بمائدة من الجنة، يأكلون منها والناس في شدة، ويظلهم الله تحت ظل عرشه والناس في شدة، وينفح من أفواههم ريح المسك).
وقوله تعالى: { والحافظين فروجهم والحافظات }؛ أي عما لا يحل، وقوله تعالى: { والذاكرين الله كثيرا والذاكرات }؛ قيل: أراد به الذكر في الصلوات الخمس. وقيل: أراد به الذكر باللسان والقلب في جميع الأحوال. قال ابن عباس: (يريد في أدبار الصلوات غدوا وعشيا وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله). وقال مجاهد: (لا يكون الرجل من الذاكرين كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا). وعن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين ركعتين، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات "
وقوله تعالى: { أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما }؛ وهو الجنة.
[33.36]
قوله تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }؛ نزلت هذه الآية في عبدالله بن جحش وأخته زينب، وكانت أمهما أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم،
" خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد ابن حارثة مولاه، فكره أخوها عبدالله أن يزوجها من زيد، وكان زيد عربيا في الجاهلية مولاه في الإسلام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه من سبي الجاهلية فأعتقه وتبناه.
فقالت زينب: لا أرضاه لنفسي، ثم قالت: يا رسول الله! أنا أتم نساء قريش من ابنة عمك، فلم أكن لأفعل ولا أرضاه يا رسول الله، وقال أخوها عبدالله كذلك أيضا، وكانت زينب بيضاء جميلة، وكان فيها حدة، فقال صلى الله عليه وسلم: " لقد رضيته لك " فأنزل الله هذه الآية ".
{ وما كان لمؤمن } أي ما ينبغي لمؤمن { ولا مؤمنة } يعني عبدالله بن جحش وأخته زينب إذا اختار الله تعالى ورسوله أمرا { أن يكون لهم الخيرة } بخلاف ما اختار الله ورسوله.
قرأ أهل الكوفة (أن يكون لهم الخيرة) بالياء للحائل بين التأنيث والفعل، وقرأ الباقون بالتاء. وقوله تعالى { الخيرة } قراءة العامة بفتح الياء؛ أي الاختيار، وقرأ ابن السميقع (الخيرة) بسكون الياء, وهما لغتان. وإنما جمع الضمير في قوله { لهم الخيرة } لأن المراد بقوله { لمؤمن ولا مؤمنة } كل مؤمن ومؤمنة في الدنيا.
قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله }؛ أي فيما أمرته، { فقد ضل ضلالا مبينا }؛ أي فقد أخطأ خطأ ، وذهب عن الحق والصواب ذهابا بينا.
فلما نزلت الآية قالت: قد رضيت يا رسول الله. وكذلك رضي أخوها، فجعلت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زيد وساق إليهما عليه السلام عشرة مثاقيل وستين درهما؛ وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا؛ وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
[33.37]
قوله تعالى: { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه }؛ أي واذكر يا محمد قولك { للذي أنعم الله عليه } بالإسلام وغيره، { وأنعمت عليه }؛ بالإعتاق؛ وهو زيد ابن حارثة؛ وقع بينه وبين امرأته زينب تشاجر، فجاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوها بما كانت تستطيل عليه بشرفها.
فقال صلى الله عليه وسلم لزيد على سبيل الأمر بالمعروف: { أمسك عليك زوجك }؛ امرأتك ولا تطلقها، { واتق الله }؛ فيها ولا تفعل في أمرها ما تأثم به. قوله تعالى: { وتخفي في نفسك ما الله مبديه }؛ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أضمر في نفسه أنه إن طلقها زيد، تزوجها هو وضمها إلى نفسه صلة لرحمها وشفقة عليها، فعاتبه الله على ذلك وإخفائه؛ لكي لا يكون ظاهر الأنبياء عليهم السلام إلا كباطنهم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهما لا يتفقان لكثرة ما كان يجري بينهما من الخصومة، فجعل يخفيه عن زيد، وكان الأولى بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوهما إلى الخلع فلم يفعل، وقال له: { أمسك عليك زوجك } خشية أنه لو خالعها ثم تزوجها النبي عليه السلام أن يطعن الناس عليه فيقال: تزوج بحليلة ابنه بعد ما بين للناس أن حليلة الابن حرام على الأب، فهذا معنى قوله تعالى: { وتخشى الناس }؛ أي تخاف لائمتهم أن يقولوا: أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها. قال ابن عباس في هذه الآية: (أراد بالناس اليهود، خشي أن يقول اليهود: تزوج محمد امرأة ابنه). وقوله تعالى: { والله أحق أن تخشاه }؛ أي هو أولى بأن تخشاه في كل الأحوال.
وعن علي بن الحسن: أن سئل عن هذه الآية فقال: (كان الله تعالى قد أعلم نبيه عليه السلام أن زينب ستكون من أزواجه، وأن زيدا سيطلقها، فعلى هذا يكون النبي عليه السلام معاتبا على قوله: { أمسك عليك زوجك } مع علمه بأنها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله به، وإنما كتم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه استحيا أن يقول لزيد: إن زوجتك ستكون امرأتي).
وقيل:
" إن زيد بن حارثة لما أراد فراقها، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: " ما لك؟ أرابك منها شيء؟ " قال: لا والله يا رسول الله، ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أمسك عليك زوجك واتق الله ".
ثم إن زيدا طلقها، فلما انقضت عدتها قال صلى الله عليه وسلم لزيد: " ما أجد في نفسي أحدا أوثق منك، إذهب إلى زينب فاخطبها لي " قال زيد: فذهبت فإذا هي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في صدري، حتى لم أستطع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب أبشري؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك؛ ففرحت بذلك، ونزل القرآن { زوجناكها } فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، أطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ".
قوله تعالى: { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها }؛ قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، يقال: قضى وطرا منها؛ إذا بلغ ما أراد من حاجته فيها، ثم صار عبارة عن الطلاق؛ لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة.
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: (لما انقضت عدة زينب بنت جحش خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل قوله تعالى { زوجناكها } فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليها بغير إذن لقوله تعالى { زوجناكها }. وكانت زينب تفاخر نساء النبي صلى لله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهلوكن، وزوجني الله عز وجل).
ومعنى الآية: { فلما قضى زيد منها وطرا } وطلقها { زوجناكها }. وقوله تعالى: { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا }؛ أي زوجناك زينب لكيلا يظن أن امرأة المتبنى لا تحل. والأدعياء: جمع دعي؛ وهو الذي يدعى ابنا من غير ولادة.
قال الحسن: (كانت العرب تظن أن حرمة المتبنى كحرمة الابن، فبين الله " أن نساء " الأدعياء غير محرمة على المتبنى وإن أصابوهن، وهو قوله { إذا قضوا منهن وطرا } بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرم بنفس العقد).
وقوله تعالى: { وكان أمر الله مفعولا }؛ معناه: وكان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب قضاء كائنا مكتوبا في اللوح المحفوظ.
[33.38]
قوله تعالى: { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله } أي ما كان عليه من ضيق وإثم فيما شرعه الله تعالى وأحله له كسنة الله، { في الذين خلوا من قبل } ، أي سائر الأنبياء الماضين في التوسعة عليهم في النكاح، فقوله: { سنة الله } منصوب بنزع الخافض، وقوله تعالى: { وكان أمر الله قدرا مقدورا }؛ أي قضاء مقضيا، أخبر الله تعالى أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره.
[33.39]
قوله تعالى: { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه }؛ موضع { الذين } الخفض؛ لأنه نعت الأنبياء عليهم السلام الذين خلوا من قبل، كانوا يبلغون الرسالة، { ولا يخشون أحدا إلا الله }؛ ويخشون الله ولا يخشون أحدا سواه، أي لا يخشون مقالة الناس، { وكفى بالله حسيبا }؛ أي مجازيا لمن يخشاه، وقيل: حفيظا لأعمال العباد، مجازيا لهم.
[33.40]
قوله تعالى: { ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم }؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب، قال الناس: إن محمدا تزوج امرأة ابنه! فأنزل الله تعالى { ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم } ، يعني أنه ليس بأبي زيد حتى تحرم عليه زوجته، { ولكن رسول الله وخاتم النبيين }؛ فعظموه وأقروا به.
قرأ الحسن وعاصم (وخاتم النبيين) بفتح التاء؛ أي آخر النبيين، وقرأ الباقون بكسر التاء على الفاعل؛ أي إنه ختم النبيين بالنبوة، { وكان الله بكل شيء عليما }؛ أي لم يزل عالما بكل شيء من أقوالكم وأفعالكم.
[33.41-42]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا }؛ اختلفوا في المراد بالذكر الكثير في هذه الآية. قال الكلبي: (المراد به الصلوات الخمس، وهي تتضمن أذكارا كثيرة، وأراد بالتسبيح التنزيه في الصلاة). وقال مجاهد: (هو أن لا ينساه أبدا). وقال مقاتل: (هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال، وهو أن يقول: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر. وهذه الكلمات يتكلم بهن صاحب الجنابة والغائط والحدث).
قال صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفاهه ".
قوله تعالى: { وسبحوه بكرة وأصيلا } بالغداة والعشي، قال الكلبي: (أما بكرة فصلاة الفجر، وأما أصيلا فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء). وقال بعضهم: أراد بذلك صلاة الصبح وصلاة العصر على قول قتادة، وصلاة المغرب على قول غيره. وخص طرفي النهار بالذكر؛ لأنه يجتمع عندهما ملائكة الليل والنهار، فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون. وقيل: خص التسبيح بطرفي النهار؛ لأن صحيفة العبد إذا كان في أولها وآخرها ذكر وتسبيح يرجى أن يغفر له ما بين طرفي الصحيفة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما جلس قوم قط يذكرون الله تعالى، إلا نادى منادي السماء: أن قوموا فقد غفرت لكم ذنوبكم، وبدلت سيئاتكم حسنات "
وقيل: معنى قوله { اذكروا الله ذكرا كثيرا } أي بالليل والنهار، وفي البر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقال مجاهد: (الكثير هو الذي لا يتناهى أبدا).
[33.43]
قوله تعالى: { هو الذي يصلي عليكم وملائكته }؛ أي يرحمكم ويغفر لكم، وقوله { وملائكته } أي يدعون لكم. وقيل: يأمر الملائكة بالاستغفار لكم. والصلاة من الله الرحمة بالثواب، ومن المؤمنين الدعاء، ومن الملائكة الاستغفار للمؤمنين.
وقوله تعالى: { ليخرجكم من الظلمات }؛ أي من ظلمات المعاصي والجهل { إلى النور }؛ العلم والطاعة، وقيل: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وقوله تعالى: { وكان بالمؤمنين رحيما }؛ أي لم يزل رحيما بهم إذ رضي عنهم وأمر الملائكة بالاستغفار لهم.
[33.44]
قوله تعالى: { تحيتهم يوم يلقونه سلام }؛ أي تحية المؤمنين من الله تعالى { يوم يلقونه } أن يسلم عليهم، يقول لهم الملائكة بأمر الله. السلام عليكم؛ مرحبا بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري. ونظير هذا قوله تعالى:
وقال لهم خزنتها سلام عليكم
[الزمر: 73]. وقوله تعالى: { وأعد لهم أجرا كريما }؛ أي رزقا حسنا في الجنة، وقيل: الأجر الكريم هو الذي يكون عظيم القدر.
[33.45-47]
قوله تعالى: { يأيها النبي إنآ أرسلنك شهدا }؛ على أمتك وعلى جميع الأمم بتبليغ الرسالة، { ومبشرا }؛ للخلق بالجنة والثواب لمن أطاع الله وصدقك، { ونذيرا }؛ أي ومخوفا بالنار والعقاب لمن عصى الله تعالى وكذبك. وقوله تعالى: { وداعيا إلى الله بإذنه }؛ أي وأرسلناك للناس راعيا للخلق إلى دين الله تعالى بأمره، يعني إنه أمرك بهذا. وقوله تعالى: { وسراجا منيرا }؛ أي وأرسلناك سراجا مضيئا لمن تبعك واهتدى بك، كالسراج في الظلمة يستضاء به.
وإنما سمي النبي عليه السلام سراجا؛ لأنه بعث والأرض في ظلمة الشرك، فكان حين بعث كالسراج في الظلمة. وقوله تعالى: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا }؛ أراد بالفضل الكبير مغفرة الله لهم، وما أعد لهم في الجنة.
[33.48]
قوله تعالى: { ولا تطع الكافرين والمنافقين }؛ فيما يطلبونه منك، فقد ذكرنا تفسيره في أول السورة. وقوله تعالى: { ودع أذاهم } أي اصبر على أذاهم واحتمل منهم، ولا تشتغل بمجازاتهم إلى أن تؤمر فيهم بأمر، وهذا منسوخ بآية السيف. وقوله تعالى: { وتوكل على الله }؛ أي فوض أمورك إليه. فإنه سيكفيك أمرهم إذا توكلت عليه؛ أي توكل عليه في كفاية شرهم وأذاهم، { وكفى بالله وكيلا }؛ إذا وكلت أمرك إليه.
[33.49]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }؛ أي إذا تزوجتموهن من قبل أن تجامعوهن، { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ، تستوفونها بالعدد لا بالحيض ولا بالشهور. والاعتداد هو استيفاء العدد، أسقط الله العدة من المطلقة قبل الدخول لبراءة رحمها، فلو شاءت تزوجت من يومها.
قوله تعالى: { فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا }؛ أي أعطوهن متعة الطلاق، وهذا على سبيل الوجوب فيمن يدخل بها ولم يسم لها مهرا، وعلى الندب في من سمى لها مهرا ثم طلقها قبل الدخول.
وقال سعيد بن المسيب: (نسخ حكم هذه الآية بقوله في سورة البقرة
فنصف ما فرضتم
[البقرة: 237]). وقال الحسن: (المتعة واجبة لكل مطلقة ومختلعة وملتعنة، ولكن لا يجير عليها الزوج).
وقوله تعالى: { وسرحوهن } أراد له التسريح عن المنزل لا عن النكاح؛ لأن حق الحبس لا يثبت إلا بأحد الأمرين: إما النكاح؛ وإما العدة، وقد عد ما جميع في هذا الموضع بعدد الطلاق المذكور.
والسراح الجميل: هو الذي لا يكون فيه جفوة ولا أذى ولا منع حق. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { فمتعوهن }: (أي أعطوهن المتعة، قال: وهذا إذا لم يكن سمى لها صداقا، فأما إذا فرض لها صداقا فلها نصف).
[33.50]
قوله تعالى: { يأيها النبي إنآ أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } أي أبحنا لك نساءك اللاتي تزوجتهن بمهور مسماة، وأعطيت مهورهن، وسمى المهر أجرا لأنه يجب بدلا عن منافع البضع، كما أن الأجر يجب بدلا عن منافع الدار والعبد.
قوله تعالى: { وما ملكت يمينك }؛ أي وأبحنا لك ما ملكت يمينك؛ يعني الجواري التي يملكها. وقوله تعالى: { ممآ أفآء الله عليك }؛ أي مما أعطاك الله من الغنيمة جويرية بنت الحارث، وصفية بنت حيي بن أخطب. ويدخل في هذه اللفظة الشراء والتزوج، كما روي في صفية
" أنه عليه السلام أعتقها ثم تزوجها، وجعل عتقها صداقها ".
قوله تعالى: { وبنات عمك وبنات عماتك }؛ أراد به إباحة تزويج بنات عمه وبنات عماته من بني عبد المطلب، { وبنات خالك وبنات خالاتك } ، وبنات خاله وبنات خالاته؛ يعني نساء بني زهرة من بني عبد مناف. وقوله تعالى: { اللاتي هاجرن معك }؛ أي هاجرن معك من مكة إلى المدينة، وهذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات، ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.
قوله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي }؛ بلا مهر إن أراد النبي أن يتزوجها، ومن قرأ (وهبت) بالفتح، فمعناه: أحللناها أن وهبت، وهي قراءة الحسن، فالفتح على الماضي والكسر على الاستئناف، وقوله تعالى: { إن أراد النبي أن يستنكحها }؛ أي إن أراد النبي أن يتزوجها فله ذلك. وقوله تعالى: { خالصة لك }؛ أي خاصة لك، { من دون المؤمنين }؛ فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء.
ولو تزوجها بلفظ الهبة وقبلها بشهود ومهر انعقد النكاح ولزم المهر، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال الشافعي ومالك: (لا ينعقد النكاح بلفظ الهبة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه تعالى قال { إن وهبت نفسها للنبي } ولم يقل لك، لأنه لو قال: إن وهبت نفسها لك، كان يجوز أن يتوهم أنه يجوز ذلك لغيره عليه السلام كما جاز في قوله تعالى: { وبنات عمك وبنات عماتك } ، لأنه قال تعالى { خالصة لك من دون المؤمنين }.
وحجة أبي حنيفة وأصحابه: أن إضافة الهبة إلى المرأة دليلا أن النبي لم يكن مخصوصا بالنكاح بلفظة الهبة، وإنما كانت خصوصية في جواز النكاح بغير بدل، ولو لم يكن بلفظ الهبة نكاحا لما قال تعالى { إن أراد النبي أن يستنكحها } ، فلما جعل الله الهبة جوابا للاستنكاح، علم أن لفظ الهبة نكاح.
وقوله { خالصة } نعت مصدر؛ تقديره: إن وهبت نفسها هبة خالصة لك بغير عوض، أحللنا لك ذلك من دون المؤمنين، فأما المؤمنون إذا قبلوا هذه الهبة على وجه النكاح لزمهم المهر.
ويقال: إن الخالصة نعت للمرأة؛ أي جعلناها خالصة لك فلا تحل لغيرك من بعدك.
وقد اختلفوا في هذه المرأة التي وهبت نفسها للنبي من هي؟ فقال قتادة: (هي ميمونة بنت الحارث). وقال الشافعي: (زينب بنت خزيمة، امرأة من الأنصار، وكانت تسمى أم المساكين). وقال الضحاك ومقاتل: (هي أم شريك بن جابر من بني أسد). وقال عروة بن الزبير: (هي خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم ).
قوله تعالى: { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } ، أي قد علمنا المصلحة للمؤمنين في أن لا يتزوجوا أكثر من الأربع، ولا يتزوجوا بغير مهر ولا ولي ولا شهود. والمعنى: أوجبنا عليهم أن لا يتزوجوا أكثر من أربع بمهر وولي وشهود. وقوله تعالى: { وما ملكت أيمانهم } ، أي وقد علمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم حتى لا يجوز لهم التزويج بالمعتقة من غير مهر، وحتى لا يباح لهم بملك اليمين كما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان له الصفي من الغنيمة ولم يكن لغيره. وقيل: معناه وما ملكت أيمانهم ممن يجوز سبيه وحربه، فأما ما كان له عهد فلا.
قوله تعالى: { لكيلا يكون عليك حرج } ، أي ضيق في أمر النكاح ومنع من شيء تريده، وهذا فيه تقديم؛ تقديره: خالصة لك من دون المؤمنين لكيلا يكون عليك حرج، أي أحللنا لك ما ذكرنا؛ ليرتفع عنك الحرج والضيق. قوله تعالى: { وكان الله غفورا } ، أي غفورا للنبي صلى الله عليه وسلم في التزويج بغير مهر، { رحيما } ، به في تحليل ذلك له. وقيل: غفور لمن يستحق المغفرة، رحيم بالعباد فيما يتصل بالدين والدنيا.
[33.51]
قوله تعالى: { ترجي من تشآء منهن وتؤوي إليك من تشآء } ، معناه: تؤخر من تشاء من فراشك من نسائك، وتضم إلى فراشك من تشاء منهن من غير حرج عليك. وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلا له، أبيح له أن يجعل لمن أحب منهن يوما أو أكثر، ويعطل من شاء منهن فلا يأتيها. وكان القسم واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم والتسوية بينهن، فلما " نزلت " هذه الآية سقط الوجوب، وصار الاختيار إليه فيهن. قال منصور عن أبي رزين: (وكان ممن آوى عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة رضي الله عنهن، وكان يسوي بينهن في القسم، وكان ممن أرجى سودة وجويرية وصفية وأم حبيبة وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء، وكان قد أراد أن يفارقهن، فقلن له: اقسم لنا ما شئت من نفسك، ودعنا على حالنا).
قوله تعالى: { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } ، معناه: إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليه، فلا عتب عليك ولا لوم.
وقوله تعالى: { ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بمآ آتيتهن كلهن } ، أي ذلك التخيير الذي خيرتك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذا كان ذلك منزلا من الله عليك، ويرضيهن كلهن بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وإيواء. قال قتادة: (إذا علمن أن هذا جاء من الله لرخصة، كان أطيب لأنفسهن وأقل لحزنهن).
قوله تعالى: { والله يعلم ما في قلوبكم } ، والله يعلم ما في قلوبكم من أمر النساء والميل إلى بعضهن، ويعلم ما في قلوبكم من الرضا والسخط وغير ذلك، { وكان الله عليما } ، بمصالح العباد، { حليما } ، على جهلهم ولا يعاقبهم بكل ذنب.
[33.52]
قوله تعالى: { لا يحل لك النسآء من بعد } ، قال قتادة: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خير نساءه فاخترن الله ورسوله، شكر الله لهن فقصره الله عليهن وحرم عليه سواهن). وكن يؤمئذ تسعا: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وأم حبيبة، وصفية، وميمونة، وجويرية، وسودة.
ومعنى الآية: لا يحل لك من النساء سوى هؤلاء اللاتي اخترنك، { ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } ، وليس لك أن تطلق واحدة منهن وتزوج بدلها. وقوله: { إلا ما ملكت يمينك } ، يعني مارية القبطية وغيرها من السبايا. وقوله تعالى: { وكان الله على كل شيء رقيبا } ، أي حفيظا. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حلت له النساء].
[33.53]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } ، نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب، قال أنس ابن مالك:
" لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أمي أم سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام فدعوتهم، فجعل القوم يدخلون فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم آخرون فيأكلون ويخرجون، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على الطعام ودعا فيه، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، وبقيت طائفة منهم لم يخرجوا.
فقال صلى الله عليه وسلم: " ارفعوا طعامكم " فرفعوا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وبقي أولئك القوم يتحدثون في البيت فأطالوا المكث. وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جميع بيوت أزواجه، ثم رجع فإذا القوم جلوس يتحدثون في بيته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فأنزل الله هذه الآية ".
قال أنس:
" فلما نزلت آية الحجاب جئت لأدخل كما كنت، فقال صلى الله عليه وسلم: " وراءك يا أنس " ".
ومعنى الآية: { لا تدخلوا بيوت النبي } صلى الله عليه وسلم { إلا أن يؤذن لكم } أي إلا أن يدعوا إلى الضيافة أو يؤذن لكم في الدخول، من غير أن يجتنبوا وقت الطعام فيستأذنوا في ذلك الوقت، ثم تقعدوا انتظارا لبلوغ الطعام ونضجه.
ومعنى: { غير ناظرين } أي منتظرين نضجه وإدراكه، يقال أنى يأني إناه، إذا حان وأدرك، وكانوا يدخلون بيته فيجلسون منتظرين إدراك الطعام، فنهوا عن ذلك.
قوله تعالى: { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } ، أي فتفرقوا، { ولا مستأنسين لحديث } ، ولا تجلسوا مستأنسين لحديث بعد أن تأكلوا، { إن ذلكم } ، إن طول مقامكم بعد في منزل النبي عليه السلام، { كان يؤذي النبي } ، صلى الله عليه وسلم، { فيستحيي منكم } ، أن يأمركم بالخروج، { والله } ، عز وجل، { لا يستحيي من الحق } ، أي لا يمنعه عن بيان ما هو الحق استحياء منكم، وإن كان رسوله يفعل ذلك.
قوله تعالى: { وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من ورآء حجاب } ، أي إذا سألتم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من متاع البيت، فخاطبوهم من وراء الباب والستر، قال مقاتل: (أمر الله المؤمنين أن لا يكلموا نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا من وراء حجاب). وعن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: (يا رسول الله إنه يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فنزلت آية الحجاب).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان عمر يقول: يا رسول الله احجب نساءك، فلم يفعل حتى نزلت هذه الآية). وعن عامر رضي الله عنه قال: (مر عمر رضي الله عنه على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهن: احتجبن؛ فإن لكن على النساء فضلا كما أن لزوجكن على الرجال فضلا. فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى نزلت آية الحجاب).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أمر عمر بن الخطاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الحجاب، فقالت زينب: يا ابن الخطاب إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا؟!). وقال أنس:
" كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فجئت يوما لأدخل فقال: " مكانك يا بني، قد حدث بعد أن لا يدخل علينا إلا بإذن " ".
وعن اسماعيل بن أبي حكيم في قوله تعالى: { فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث } قال: (هذا أدب أدب الله به الثقلاء). وقالت عائشة رضي الله عنها: (حسبك من الثقلاء أن الله لم يحتملهم فقال: { فإذا طعمتم فانتشروا }.
قوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } ، أي سؤالكم إياهن المتاع من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الريبة. وهذا الحكم في الحجاب وإن نزل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فالمعنى عام فيه وفي غيره، ونحن مأمورون باتباعه والاقتداء به، إلا فيما خصه الله به دون أمته.
قوله تعالى: { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } ، أي ليس لكم أن تؤذوه بالدخول في منزله بغير إذنه، ولا بالحديث مع أزواجه ولا بشيء من الأشياء، ولا يحل لكم ذلك.
قوله تعالى: { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } ، نزل في طلحة بن عبيد الله، قال: (ينهانا محمد صلى الله عليه وسلم أن ندخل على بنات أعمامنا - يعني عائشة وهما من بني تيم بن مرة - فلأن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي لأتزوجن عائشة). فحرم الله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عامة الناس، وجعلهن كأمهاتهم في الإكرام والتحريم. وقوله تعالى: { إن ذلكم كان عند الله عظيما } ، أي إن الذي قلتم وتمنيتم من تزويج أزواجه بعد موته كان عند الله عظيما في الوزر والعقوبة.
[33.54-55]
قوله تعالى: { إن تبدوا شيئا أو تخفوه } ، أي إن تظهروا قولا أو تضمروه، فإن الله عالم بالظواهر والبواطن والضمائر. وقيل: معناه: إن تظهروا أشياء من أمرهن، يعني طلحة، قوله تعالى: { أو تخفوه } أي تسرونه في أنفسكم، وذلك أن نفسه حدثته بتزويج عائشة. قوله تعالى: { فإن الله كان بكل شيء عليما } ، أي عليم بكل شيء من السر والعلانية.
فلما نزلت آية الحجاب قال الأباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله ونحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله:
قوله تعالى: { لا جناح عليهن في آبآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن } ، الآية. أي لا حرج عليهن في إذن آبائهن بالدخول عليهن، ولا في إذن الأبناء والإخوان وأبناء الإخوان وأبناء الأخوات.
فإن قيل: فهلا ذكر الأعمام والأخوال؟ قيل: إن العم والخال يجريان مجرى الوالدين في الرؤية، وكان ذكر الأباء يتضمن ثبات حكم الأعمام والأخوال. وقيل: إنما لم يذكر الأعمام والأخوال لكي لا يدخل أبناؤهما، ولا يطمعا فيهن.
قوله تعالى: { ولا نسآئهن } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني نساء المؤمنين، لا نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رأينهن). وقوله تعالى: { ولا ما ملكت أيمانهن } ، يعني العبيد والإماء، قيل: حمله على الإماء أولى؛ لأن الحر والعبيد يختلفان فيما يباح لهما من النظر، فلا يجوز للبالغين من العبيد أن ينظروا إلى شيء منهن.
قوله تعالى: { واتقين الله } ، أي واتقين الله أن يراكن غير هؤلاء، وقيل: اتقين الله في الإذن لغير المحارم في الدخول عليكن، { إن الله كان على كل شيء } ، من أعمال العباد، { شهيدا } ، لم يغب عنه شيء.
[33.56]
قوله تعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي } ، معناه: أن الله يترحم على النبي ويثني عليه، وقوله: { وملائكته } أي والملائكة يدعون له بالرحمة، وقوله تعالى: { يصلون } الضمير فيه يعود على الملائكة دون اسم الله تعالى؛ لأن الله عز وجل يفرد ذكره عن ذكر غيره إعظاما كما تقدم في قوله:
والله ورسوله أحق أن يرضوه
[التوبة: 62]. وقرأ ابن عباس: (وملائكته) بالرفع عطفا على محل قوله تعالى قبل دخول (إن)، ونظيره قوله تعالى:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
[المائدة: 69] وقد مضى ذلك.
وقيل: معنى قوله: { وملائكته يصلون } أي يثنون ويترحمون ويدعون له. وقال مقاتل: (أما صلاة الله فالمغفرة، وأما صلاة الملائكة فالاستغفار له). وقوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا صلوا عليه } ، أي قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، تعظيما وإجلالا وتفضيلا.
وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية، قيل:
" يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " ".
وعن عبدالله بن مسعود أنه قال: (إذا صليتم على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه؛ فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. قالوا: فعلمنا ذلك. قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه فيه الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
قوله تعالى: { وسلموا تسليما } ، يجوز أن يكون معناه: واخضعوا لأمره خضوعا، ويجوز أن يكون معناه: الدعاء بالسلام، يقول: السلام عليك يا رسول الله. وعن الحسن قال:
" سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: " قولوا: اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد "
والأفضل في هذا الباب أن تصلي على محمد وعلى آله، فتقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. فإن اقتصر على أحدهما جاز.
واختلفوا في كيفية وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: تجب في العمر مرة واحدة بمنزلة الشهادتين، وإلى هذا ذهب الكرخي قال: (إذا صلى عليه في عمره مرة واحدة فقد أدى فرضه، إلا أن المستحب لكل مسلم أن يكثر من الصلاة عليه في مقابلة حقه في الدين علينا، كما يلزم المرء الدعاء لأبويه المؤمنين ليقضي بذلك الدعاء حقهما عليه).
وقال بعضهم: تجب عليه في كل مجلس مرة بمنزلة سجدة التلاوة. وقال الطحاوي: (تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر) واستدل بما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
" من ذكرت عنده فلم يصل عليك فلا غفر الله له "
وقال الشافعي رضي الله عنه: (الصلاة عليه فرض في كل صلاة) وهذا قول لم يقل به أحد غيره.
[33.57]
قوله تعالى: { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } ، قال المفسرون: هم المشركون واليهود والنصارى، وصفوا الله بالولد فقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسوله وشجوا وجهه وكسروا رباعيته، وقالوا: مجنون، وشاعر، وساحر كذاب. قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، جعلوا له ندا وجعلوا له ولدا، وهو مع ذلك يعافيهم ويعطيهم ويرزقهم "
وكذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير.
ومعنى يؤذون الله، أي يخالفون أمر الله ويعصونه ويصفونه بما هو منزه عنه، والله تعالى لا يلحقه أذى. وقوله تعالى: { لعنهم الله } أي باعدهم الله يعني بالقتل والجلاء في الدنيا والعذاب بالنار في الآخرة، وهو قوله تعالى: { وأعد لهم عذابا مهينا } ، أي ذي هوان.
[33.58]
قوله تعالى: { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } ، أي يرمونهم بما ليس فيهم، قال قتادة والحسن: (إياكم وإيذاء المؤمن؛ فإن الله يغضب له ويؤذي من آذاه). وعن عبدالرحمن بن سمرة قال:
" خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " رأيت الليلة عجبا، رأيت رجالا معلقون بألسنتهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " ".
قوله تعالى: { فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } ، أي فقد قالوا كذبا وجنوا على أنفسهم وزرا وعقوبة.
[33.59]
قوله تعالى: { يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونسآء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } ، أي قل لنسائك وبناتك والحرائر من النساء يلقين على رؤوسهن ووجوههن من جلابيبهن، والجلباب: هو المقنعة التي تستر بها المرأة ما يظهر من العنق والصدر، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة.
قال المفسرون: يغطين رؤوسهن ووجوههن إلا عينا واحدة. وظاهر الآية يقتضي أن يكن مأمورات بالستر التام عند الخروج إلى الطرق، فعليهن أن يستترن إلا بمقدار ما يعرفن به الطريق.
وقوله تعالى: { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما } ، معناه: ذلك أقرب أن يعرفن الحرائر من الإماء فلا يؤذي الحرائر؛ لأن الناس كانوا يومئذ يمازحون الإماء ولا يمازحون الحرائر، وكان المنافقون يمازحون الحرائر، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: حسبنا أنهن إماء. فأمر الله الحرائر بهذا النوع من الستر قطعا لأعذار المنافقين.
وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان يضرب الإماء ويقول: (اكشفن رؤوسكن ولا تتشبهن بالحرائر). ومرت جارية بعمر رضي الله عنه متقنعة، فعلاها بالدرة وقال: (يا لكاع، أتتشبهين بالحرائر، ألقي القناع).
ويقال في معنى ذلك: { أدنى أن يعرفن } أي أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح؛ فييئس منهن فساق الرجال، فلا يطمعون فيهن كطمعهم فيمن تتبرج وتتكشف.
[33.60-61]
قوله تعالى: { لئن لم ينته المنافقون } ، أي لإن لم ينته المنافقون عن نفاقهم، { والذين في قلوبهم مرض } ، يعني الفجور وهم الزناة وضعفاء الدين عن أذى المؤمنين، { والمرجفون في المدينة } ، وهم قوم كانوا يوقعون الأخبار بما يكره المؤمنون، ويقولون: قد أتاكم العدو، ويقولون لسراياهم: أنهم قتلوا وهزموا، يخيفون المؤمنين بذلك. لئن لم ينتهوا عن هذه الأفعال القبيحة، { لنغرينك بهم } ، أي لنسلطنك عليهم، ونأمرك بقتلهم حتى تقتلهم وتخلو منهم المدينة، وهو قوله تعالى: { ثم لا يجاورونك فيهآ إلا قليلا } ، أي في المدينة، والمعنى: لا يساكنونك في المدينة إلا يسيرا حتى يهلكوا، { ملعونين } ، مطرودين مبعدين عن الرحمة، { أينما ثقفوا } ، أي أينما وجدوا وأدركوا.
قوله تعالى: { ملعونين } نصب على الحال، وقيل: على الذم، وتقدير النصب على الحال: لا يجاورونك إلا وهم ملعونون مطرودون مخذولون.
وقوله تعالى: { أخذوا وقتلوا تقتيلا } ، أي أخذوا وقتلوا مرة بعد مرة؛ لأنه إذا ظهر أمر المنافقين كانوا بمنزلة الكفار، ومن حق الكفار أن يقتلوا حيث يوجدون. قال قتادة: (أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق، فلما وعدهم الله في هذه الآية فكتموه).
[33.62]
قوله تعالى: { سنة الله في الذين خلوا من قبل } ، أراد بالسنة الطريقة التي أمر الله بلزومها واتباعها، وقد كانت هذه السنة في الأمم الماضية، لما آذى المنافقون أنبياءهم، أمر الله أنبياءه بقتالهم.
قال الزجاج: (سن الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا) ولا يبدل الله سنته فيهم، وهو قوله تعالى: { ولن تجد لسنة الله تبديلا } ، أي هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق.
[33.63-65]
قوله تعالى: { يسألك الناس عن الساعة } ، قال الكلبي: (سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة وعن قيامها) فقال الله تعالى: { قل إنما علمها عند الله } ، أي قل لهم يا محمد: إنما العلم بوقت قيامها عند الله، لا يطلع أحدا عليها. وقوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } ، أي أي شيء يعلمك أمر الساعة ومتى يكون قيامها، أي أنت لا تعرفه، ثم قال: { لعل الساعة تكون قريبا }.
وما بعد هذه الآية: { إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيهآ أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا } ، ظاهر المعنى.
[33.66]
قوله تعالى: { يوم تقلب وجوههم في النار } ، أي تقلب وجوه الكفار ظهر البطن، وقيل: تقلب إلى سواد، وقيل: تقلب إلى الأقفية.
وقرأ أبو جعفر: (تقلب) بفتح التاء بمعنى تتقلب. وقرأ عيسى بن عمر: (نقلب) بالنون وكسر اللام (وجوههم) بالنصب. وقوله تعالى: { يقولون يليتنآ أطعنا الله وأطعنا الرسولا } ، في الدنيا.
[33.67]
قوله تعالى: { وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا السبيلا } أي صرفونا عن الدين وعن سبيل الهدى. قرأ الحسن وابن عامر ويعقوب: (سادتنا) بالألف وكسر التاء على جمع الجمع.
[33.68]
قوله تعالى: { ربنآ آتهم ضعفين من العذاب } ، أي عذبهم مثلي عذابنا، فيكون ضعف على كفرهم وضعف على دعائهم لنا إلى الضلال. وقوله: { والعنهم لعنا كبيرا } ، قرأ عاصم (كبيرا) بالباء؛ أي عظيما، وقرأ الباقون بالثاء من الكثرة، وإنما اختاروا الكثرة لقوله:
ويلعنهم اللاعنون
[البقرة: 159] وقوله تعالى:
عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
[البقرة: 161] فهذا يشهد للكثرة.
حدثنا محمد بن الحسن العسقلاني، قال: (سمعت محمد بن السري يقول: رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان؛ وكأن رجلا يناظرني ويقول: (والعنهم لعنا كبيرا) وأنا أقول: (كثيرا). وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم فدخل علينا المسجد، وكان في وسط المسجد منارة لها باب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصدها.
فقلت: هذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله استغفر لي. فأمسك عني، فجئته عن يمينه فقلت: يا رسول الله استغفر لي، فأعرض عني، فقمت من تلقاء صدره، حدثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر وعن جابر بن عبدالله: " أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا " فتبسم عليه السلام وقال: " اللهم اغفر له ". فقلت: يا رسول الله إني وهذا نتكلم في قوله تعالى: (والعنهم لعنا كثيرا)، فأنا أقول: (كثيرا) وهذا يقول: (كبيرا)، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المنارة وهو يقول: كثيرا، كثيرا، بالثاء إلى أن غاب عني صوته).
[33.69]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } ، أي لا تكونوا في أذى محمد صلى الله عليه وسلم كبني إسرائيل، الذين آذوا موسى بعيب أضافوه إليه، فبرأه الله مما قالوا عليه، { وكان عند الله وجيها } ، أي رفيع القدر والمنزلة.
واختلفوا في العيب الذي أضافه بنوا إسرائيل إلى موسى، قال بعضهم: كان هارون أحب إلى بني إسرائيل من موسى لزيادة رفقه بهم، فلما مات هارون في حال غيبتهما عنهم، قالوا: إن موسى قتله لتخلص له النبوة، فأحياه الله تعالى حتى كذبهم.
وقال بعضهم: كان أذاهم له أنهم رموه بالأدرة لكثرة حيائه واستتاره عن الناس، وكانت بنوا إسرائيل عراة ينظر بعضهم إلى سوءة بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر.
قال: فذهب يغتسل مرة، فوضع ثوبه على حجر، فذهب الحجر بثوبه، فخرج موسى من الماء في إثر الحجر، يقول: ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنوا إسرائيل إلى سوأته عليه السلام، فقالوا: والله ما به من بأس. فقام الحجر بعدما نظروا إليه وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضربا. قال أبو هريرة:
" والله إن بالحجر ندب ستة أو سبعة من ضرب موسى "
قوله تعالى: { وكان عند الله وجيها } أي حظيا لا يسأله شيئا إلا أعطاه.
[33.70]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } ، أي اتقوا عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، { وقولوا قولا سديدا } ، قال ابن عباس: (صوابا)، وقال الحسن: (صادقا) يعني كلمة التوحيد: لا إله إلا الله.
[33.71]
قوله تعالى: { يصلح لكم أعمالكم } ، قال ابن عباس: (معناه يتقبل حسناتكم) { ويغفر لكم ذنوبكم } ، بسداد قولكم، { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } ، أي فقد نال الخير كله وظفر به، والفوز العظيم هو الظفر بالكرامة والرضوان من الله تعالى.
[33.72]
قوله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السموت والأرض والجبال } ، معناه: إنا عرضنا الأمانة التي هي الشرائع والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتركها العقاب. قال ابن عباس: (عرضت الأمانة على السماوات السبع التي زينت بالنجوم وحملت العرش العظيم، فقيل لهن بأخذ الأمانة بما فيها، قلن: وما فيها، قيل: إن أحسنتن جزيتن، وإن أسأتن عوقبتن، قلن: لا. ثم عرضت الأمانة على الجبال الصم الشوامخ الصلاب البواذح)، { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها }. قال ابن جريج: (قالت السماء: يا رب خلقتني وجعلتني سقفا محفوظا، وأجريت في الشمس والقمر والنجوم، لا أعمل فريضة ولا أبتغي ثوابا. وقالت الأرض: يا رب جعلتني بساطا ومهادا، وشققت في الأنهار، وأنبت في الأشجار، لا أتحمل فريضة ولا أبتغي ثوابا ولا عقابا).
ومعنى قوله: { فأبين أن يحملنها } أي مخافة وخشية لا معصية ولا مخالفة، والعرض كان تخييرا لا إلزاما، قوله: { وأشفقن منها } أي خفن من الأمانة أن لا توفيها، فيلحقهن العقاب، فأبوا ذلك تعظيما لدين الله وخوفا أن لا يقوموا به، وقالوا: نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا.
قوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } ، يعني: وحملها آدم عليه السلام قال الله له: يا آدم إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ولم يطقنها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فتحملها آدم، وقال: حملتها بين أذني وعاتقي.
قال ابن عباس: (عرض الله على آدم أداء الصلوات الخمس في مواقيتها، وأداء الزكاة عند محلها، وصيام رمضان، وحج البيت، على أن له الثواب وعليه العقاب، فقال: بين أذني وعاتقي).
وقال مقاتل: (قال الله تعالى لآدم: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال آدم: وما لي عندك؟ قال: إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة، فلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة، وإن عصيت وأسأت معذبك ومعاقبك. قال: قد رضيت يا رب، وتحملها. فقال الله عز وجل: قد حملتكها. فذلك قوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }.
قال الكلبي: (ظلمه حيث عصى ربه وأخرج من الجنة، وجهله حيث تحملها). وقال مقاتل: (ظلوما لنفسه، جهولا بعاقبة ما حمل). وقال مجاهد: (لما خلق الله السماوات والأرض والجبال، عرضت الأمانة عليها فلم تقبلها فلما خلق الله آدم عرضها عليه فقال: قد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا قدر ما بين العصر والظهر).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الله قال لآدم: إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض فلم يطقنها، فهل أنت حاملها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن حفظتها أجرت، وإن ضيعتها عوقبت، قال: قد تحملتها.
فما بقي في الجنة إلا كقدر ما بين الظهر والعصر حتى خرج منها).
وقال زيد بن أسلم: (الأمانة هي الصوم والغسل من الجنابة)، وقال بعضهم: (هي أمانات الناس والوفاء بالعهود. فحق على كل مؤمن أن لا يغش مسلما في شيء لا قليل ولا كثير).
وقال السدي: (هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وذلك أن آدم عليه السلام لما أراد أن يحج إلى مكة، قال: يا سماء احفظي أولادي بالأمانة، فأبت وقال للأرض كذلك، فأبت. وقال للجبال كذلك، فأبت. ثم قال لابنه قابيل: أتحفظهم بالأمانة؟ قال: نعم، تذهب وترجع فتجد أهلك كما يسرك. فانطلق آدم ورجع وقد قتل قابيل هابيل، فذلك قوله تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } يعني قابيل حين حمل أمانة أبيه ثم لم يحفظها).
[33.73]
قوله تعالى: { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } ، أي ليعذبهم الله بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل، ونقض الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم. قال الحسن: (هؤلاء الذين خانوها، وهم الذين ظلموها).
قوله تعالى: { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } ، لأنهم أدوا الأمانة، وهي الفرائض. وقيل: معنى الآية: إنا عرضنا الأمانة ليظهر نفاق المنافق، وشرك المشرك فيعذبهم الله، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم، أي يعود عليهم بالمغفرة والرحمة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات، وكذلك ذكر بلفظ التوبة، فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب، { وكان الله غفورا } ، للمؤمنين إذا تابوا، { رحيما } ، بمن مات على التوبة.
[34 - سورة سبإ]
[34.1]
{ الحمد لله الذي له ما في السموت وما في الأرض }؛ الحمد: الوصف بالجميل على جهة التعظيم، وقوله تعالى: { له ما في السموت وما في الأرض } المعنى: له ما في السماوات والأرض ملكا وخلقا، { وله الحمد في الآخرة }؛ أي يحمده أهل الآخرة على دوام نعمه عليهم كما يحمده أهل الدنيا، ولكن الحمد في الدنيا تعبد، وفي الآخرة شكر على سبيل السرور؛ لأنه لا يكلف في الآخرة، يقول أهل الآخرة: الحمد لله الذي صدقنا وعده، والحمد لله الذي هدانا لهذا، والحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والنقم في الدارين كلها منه. قوله : { وهو الحكيم الخبير }؛ أي الحكيم في أفعاله، الخبير بأحوال عباده.
[34.2]
قوله تعالى: { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها }؛ أي ما يدخل في الأرض ويغيب فيها من المطر والحيوانات من الميتة، ويعلم ما يخرج منها من أنواع النبات والزروع وغير ذلك مما لا يعلمه إلا هو، ويعلم { وما ينزل من السمآء }؛ من الأمطار التي هي سبب أرزاق العباد، ويعلم { وما يعرج }؛ في السماء؛ أي من يصعد، { فيها }؛ من الملائكة الحفظة لديوان العباد، وما يرتفع فيها من الرياح والحر والبرد، ويعلم ما يصعد فيها من أعمال العباد. يقال:عرج يعرج؛ إذا صعد، وعرج يعرج إذا صار أعرجا.
وقوله تعالى: { وهو الرحيم الغفور }؛ أي الرحيم بعباده، الغفور لمن استحق المغفرة.
[34.3]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة }؛ أي قال الكفار: لا تأتينا القيامة، { قل }؛ لهم يا محمد: { بلى وربي لتأتينكم }؛ على ما أخبر الله تعالى، { عالم الغيب }.
قرأ حمزة والكسائي (عالم الغيب) بخفض الميم على وزن فعال على المبالغة، كقوله: علام الغيوب، وقرأ نافع وابن عامر: (عالم) برفع الميم على تقدير: هو عالم، وقرأ ابن كثير وأبو عمر وعاصم (عالم) بالكسر نعت لقوله (وربي).
قوله تعالى: { لا يعزب عنه مثقال ذرة }؛ أي لا يغيب عنه ولا يبعد عليه معرفة وزن ذرة، { في السموت ولا في الأرض }؛ وخص الذرة بالذكر لأنها أصغر شيء يدخل في أوهام البشر، وهذا مثل؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة، والمعنى: الله يعلم كل شيء دق أو جل. قوله تعالى: { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين }؛ الكتاب المبين في هذه الآية هو اللوح المحفوظ.
[34.4]
قوله تعالى: { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم }؛ معناه: لتأتينكم الساعة ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات على أعمالهم بالمغفرة والرزق الكريم؛ أي الثواب الحسن في الجنة.
[34.5]
قوله تعالى: { والذين سعوا في آياتنا معاجزين }؛ أي سعوا فيها بعد ظهورها ووضوحها بالتكذيب لها والجحود بها، مقدرين أنهم سيفوتوننا، ويعاجزون الرسول صلى الله عليه وسلم، { أولئك لهم عذاب من رجز أليم }؛ من عذاب مؤلم، والرجز: أسوأ العذاب.
قرأ ابن كثير (أليم) بالرفع على نعت العذاب، وقرأ الباقون بالخفض على نعت الرجز.
[34.6]
قوله تعالى: { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد }؛ أول هذه الآية عطف على قوله { ليجزي } أي ولكي يعلم الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك وهو القرآن وآيه يهدي إلى صراط العزيز بالنقمة لمن لا يؤمن به، الحميد لمن وحده، أي يهدي إلى دين الله.
وقوله تعالى { الذين أوتوا العلم } يعني مؤمني أهل الكتاب. وقال قتادة: (يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقوله { هو الحق } إنما دخلت (هو) في هذا الموضع للفصل عند البصريين، ويسمى ذلك عمادا، ولا يدخل العماد إلا في المعرفة، قال الشاعر:
ليت الشباب هو الرجيع على الفتى
والشيب كان هو البدئ الأول
[34.7]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد }؛ أي قال الكفار على وجه التعجب والإنكار؛ أي قال بعضهم لبعض: هل ندلكم على رجل يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنكم تبعثون بعد أن تكونوا عظاما ورفاتا! وذلك قوله تعالى: { ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد } أي يقول لكم إذا بليتم وتقطعت أجسامكم واندرست آثاركم تعودون. وقوله تعالى { كل ممزق } أي إذا تفرقتم في الأرض وتفرقت العظام والجلود كل تفريق، { إنكم لفي خلق جديد } أي نجدد خلقكم بأن تبعثوا.
[34.8]
قوله تعالى: { أفترى على الله كذبا }؛ هذا من قول الكفار بعضهم لبعض؛ قالوا: افترى محمد على الله كذبا حين زعم أنا نبعث بعد الموت! { أم به جنة }؛ أي جنون، يقولون: زعم كذبا أم به جنون.
فرد الله عليهم مقالتهم بقوله: { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد }؛ أي ليس الأمر على ما قالوا من افتراء وجنون، كأنه قال: لا هذا ولا ذاك، ولكن الذين لا يؤمنون بالبعث في الآخرة، والخطأ البعيد في الدنيا.
[34.9]
قوله تعالى: { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السمآء والأرض }؛ معناه: إن سماءنا محيطة بهم والأرض حاملة لهم، { إن نشأ نخسف بهم }؛ هذه، { الأرض أو نسقط عليهم } تلك، { كسفا من السمآء } فما يحذرون هذا فيرتدعون عن التكذيب بآياتنا.
والمعنى: أن الإنسان حيث ما نظر رأى السماء فوقه، والأرض قدامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله، فكأنه تعالى قال: إن أرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئت خسفت بهم، وإن شئت أسقط عليهم قطعة من السماء.
قرأ حمزة والكسائي وخلف: (إن يشأ) و(يخسف) و(يسقط) في ثلاثتها بالياء لذكر الله تعالى قبله، وقوله تعالى (أفترى) ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فلذلك سقطت.
وقوله: { إن في ذلك لآية لكل عبد منيب }؛ أي إن فيما ذكر من منيعه وقدرته وفيما ترون من السماء والأرض لعلامة تدل على قدرة الله تعالى على البعث، وعلى من يشاء من الخسف بهم، لكل عبد أناب إلى الله ورجع إلى طاعته وتأمل ما خلق. قال الحسن: (المنيب: الراجع إلى الله تعالى بقلبه وقوله وفعله، فإذا نوى نوى لله، وإذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله).
[34.10-11]
قوله تعالى: { ولقد آتينا داوود منا فضلا }؛ يعني النبوة والكتاب والملك. قوله تعالى: { يجبال أوبي معه والطير }؛ أي سبحي معه إذا سبح، فكان داود عليه السلام إذا سبح سبحت الجبال معه حتى يسمع صوت تسبيحها. وقرئ (أوبي معه) أي عودي في التسبيح معه كلما عاد فيه.
وقال القتيبي: (أصله من التأويب، وهو السير بالليل كله، كأنه أراد ادني النهار كله بالتسبيح معه). وقيل: تسير معه كيف شاء.
وقوله { والطير } ، قرأ العامة بالنصب، وله وجوه؛ أحدها: بالفعل؛ تقديره: وسخرنا له الطير، تقول: أطعمته طعاما وماء أي وسقيته ماء. والثاني: بالنداء، يعني بالعطف على موضع النداء، لأن موضع كل منادى النصب. والثالث: بنزع الخافض، كأنه قال: أوبي معه الطير، كما يقال: لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها؛ أي مع فصيلها. وقرأ يعقوب (والطير) بالرفع عطفا على الجبال. وقيل: على الابتداء، قال الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا
فقد جاوزتما خمر الطريق
يروى هذا البيت بنصب (الضحاك) ورفعه.
وقوله تعالى: { وألنا له الحديد }؛ أي جعلنا له الحديد لينا يضربه كيف شاء من غير نار ولا مطرقة، وكان عنده مثل الشمع والطين المسلول والعجين. قوله تعالى: { أن اعمل سابغات }؛ أي قلنا له اعمل دروعا واسعات تامات يجرها لابسها على الأرض، فكان داود عليه السلام أول من عمل الدروع، والسابغ: هو الذي يغطي كل ما على الرجل حتى يفضل، فكان داود يبيع كل درع بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله ويتصدق على الفقراء والمساكين.
قوله تعالى: { وقدر في السرد }؛ أي اجعل حلق الدرع متتابعة متناسقة بعضها إلى بعض على مقدار معلوم لا يتفاوت على وجه، ولا تنفذ فيه السهام ولا السنان. يقال: سرد الكلام يسرده إذا ذكره بالتأليف على وجه تحصل به الفائدة، ومن هذا يقال لصانع الدروع: سراد وزراد. والسرود والزرد للوصل.
وقال بعضهم: السرد سمرك طرفي الحلق؛ أي لا تجعل المسامير دقاقا فتنغلق، ولا غلاظا فتكسر الحلق، واجعل ذلك على قدر الحاجة. والقول الأول أقرب إلى الآية، لأن الدروع التي عملها داود كانت بغير المسامير؛ لأنه كانت معجزة.
قوله تعالى: { واعملوا صالحا }؛ أي قال الله لآل داود: اعملوا صالحا فيما بينكم وبين ربكم، { إني بما تعملون بصير }؛ من شكر وطاعة.
[34.12]
قوله تعالى: { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر }؛ أي وسخرنا لسليمان الريح كانت تحمل سريره فتذهب في الغدو مسيرة شهر، وترجع في الرواح مسيرة شهر.
قال الفراء: (نصب (الريح) على المفعول؛ أي وسخرنا لسليمان الريح). وقرأ عاصم (الريح) بالرفع على معنى: وله تسخير الريح، والمعنى أن الريح كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للراكب المسرع.
قوله تعالى: { وأسلنا له عين القطر }؛ أي أذبنا له عين النحاس، فسالت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وإنما انتفع الناس بما أخرج الله لسليمان، وكان قبل سليمان لا يذوب. والقطر هو الرصاص.
قوله تعالى: { ومن الجن من يعمل بين يديه }؛ أي وسخرنا له من الجن { من يعمل بين يديه } من القصور والبنيان، { بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا }؛ أي من يمل من الشياطين عن أمرنا الذي أمرناه من الطاعة لسليمان، { نذقه من عذاب السعير }؛ أي من عذاب النار الموقدة. وقيل: إن الله تعالى وكل ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم من طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.
[34.13]
قوله تعالى: { يعملون له ما يشآء من محاريب وتماثيل }؛ أي يعملون لسليمان ما يشاء { من محاريب } أي مساجد، كان هو والمؤمنون يصلون فيها. ويقال: أراد بالمحاريب الغرف والمواضع الشريفة، يقال لأشرف موضع في الدار محراب، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت.
وقوله تعالى: { وتماثيل } أي تماثيل كل شيء، يعني صورا من نحاس وزجاج ورخام، كانت الجن تعملها، وكانوا يصورون له الأنبياء والملائكة في المسجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة، وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ثم صار حراما في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما روي في الحديث:
" إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة "
وروي:
" لعن الله المصورين بما صوروا ".
قوله تعالى: { وجفان كالجواب }؛ الجفان جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة من الصفر. وقوله { كالجواب } أي كالحياض العظام، فهي كحياض الإبل، والجواب جمع الجابية، وسمي الحوض جابية؛ لأنه يجبي الماء؛ أي يجمعه، والجباية جمع الماء. يقال: إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه.
قوله تعالى: { وقدور راسيات }؛ أي ثابتات عظام من الحجر كالجبال لا ترفع من أماكنها، ولكن يوقد تحتها حتى ينطبخ ما فيها من الأطعمة فيأكل منها الألوف، وكانت هذه الأعمال التي يعملونها معجزة لسليمان عليه السلام.
وقوله تعالى: { اعملوا آل داوود شكرا }؛ أي قلنا لهم: اعملوا بطاعة الله شكرا له على هذه النعم التي من بها عليكم. وقيل: انتصب قوله (شكرا) على المصدرية. وقوله تعالى: { وقليل من عبادي الشكور }؛ أي قليل من عبادي من يشكر لي؛ لأن الشاكرين وإن كثروا فقليل في جنب من لم يشكر.
[34.14]
قوله تعالى: { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته }؛ وذلك أن سليمان عليه السلام كان يعتاد طول القيام في الصلاة، وكان إذا أعيا اتكأ على عصاه، فاتكأ ذات يوم على عصاه، فقبض الله روحه، فبقي على تلك الحالة سنة، والعملة في أعمالهم يعملون كما هم ولم يجترئ أحد أن يدنو منه هيبة له.
وقوله { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته } دابة الأرض هي الأرضة التي تأكل الخشب، وقوله تعالى { منسأته } أي عصاه التي كان يتكئ عليها.
وقوله تعالى: { فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين }؛ أي فلما سقط سليمان لتآكل المنسأة، تبين الجن للإنس؛ أي ظهروا أنهم لا يعلمون الغيب، فلو علموا ما عملوا له سنة وهو ميت، فذلك قوله تعالى: { ما لبثوا في العذاب المهين } أي في العذاب من أعمالهم الشاقة التي كانوا يعملونها في بناء بيت المقدس وغيره، فلما علموا بموته لسقوط العصا تركوا الأعمال.
ثم أن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لآتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب لآتيناك بأطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الطين والماء، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، فما رأيتموه من الطين في جوف الخشب فهو مما ينقله الشياطين إليها شكرا لها!
وسميت العصا منسأة لأنه ينسأ بها الغنم وغيره؛ أي يؤخر ويطرد، يقال: أنسأ الله في أجله؛ أي أخر الله في أجله. وأكثر القراء يقرأون (منسأته) بالهمزة، وقرأ أبو عمرو ونافع بترك الهمزة، وهما لغتان.
وقوله تعالى { أن لو كانوا يعلمون الغيب } أي ظهر أمرهم. وقيل: في موضع النصب تقديره: علمت وأيقنت الجن { أن لو كانوا يعلمون الغيب } ، وكان الإنس قبل هذا يظنون أن الشياطين يعلمون السر يكون بين اثنين، فظهر لهم يومئذ أنهم لا يعلمون ذلك.
قال أهل التاريخ: كان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه، وكان عمر داود مائة وأربعون سنة.
[34.15]
قوله تعالى: { لقد كان لسبإ في مسكنهم آية }؛ قال فروة بن مسيك:
" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن سبأ ما هو؟ فقال: " رجل من العرب أولد عشرة أولاد، تيامن منهم ستة، وتشام منهم أربعة. فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة وحمير ومذحج والأشعريون وإنمار ومنهم بجيلة. وأما الذين شاموا فعاملة وغسان ولخم وجذام "
والمراد بسبأ القبيلة الذين هم من أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وقوله تعالى: { في مسكنهم } أنه كانت مساكنهم بمأرب من اليمن (آية) أي علامة يدل على قدرة الله وأن المنعم عليهم هو الله تعالى. ثم فسر تلك الآية فقال: { جنتان عن يمين وشمال }؛ أي عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا بذلك الوادي الذي بين مساكنهم.
والمعنى: لقد كان لأهل سبأ في مواضعهم علامة، وهي جنتان؛ أي بستانان؛ إحداهما عن يمين الطريق، وأخرى عن يسار الطريق، ويقال: كان بستانين عن يمين الطريق وبستانين عن شمال الطريق، إلا أن البساتين كل واحد من الجانبين سمي جنة لاتصال بعضها ببعض، وكانوا في النعمة بحيث كانت المرأة تمشي في تلك الطريق بين البساتين وعلى رأسها الزنبيل فيمتلئ من ألوان الفاكهة من غير أن تمس شيئا بيدها.
قرأ حمزة والنخعي وحفص (في مسكنهم) بفتح الكاف على الواحد، وقرأ الأعمش والكسائي وخلف: (مسكنهم) بكسر الكاف على الواحد أيضا، وقرأ الباقون: (مساكنهم) على الجمع.
قوله تعالى: { كلوا من رزق ربكم }؛ أي قيل لهم: (كلوا من رزق ربكم) يعني هذه النعم، { واشكروا له }؛ أي لله على نعمة هذه، وهذا حد الكلام، اثم ابتدأ فقال: { بلدة طيبة }؛ أي هذه بلدة طيبة أو لكم بلدة طيبة، يعني ليست بسبخة، ولم يكن يرى بعوضة قط، ولا ذباب ولا برغوث ولا حية ولا عقرب، وأن الرجل الغريب ليأتيها وفي ثوبه القمل والدواب، فحين يرى بيوتهم تموت الدواب والقمل. والمعنى: بلدة طيبة الهواء. وقوله تعالى: { ورب غفور }؛ أي غفور الخطايا، كثير العطايا.
[34.16]
قوله تعالى: { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم }؛ أي فأعرضوا عن الحق وكفروا وكذبوا أنبيائهم، ولم يشكروا نعم الله، وقالوا: لا نعرف لله تعالى نعمة علينا! وقالوا لأنبياءهم: قولوا لربكم الذي يزعمون أنه منعم فليحبس عنا نعمه إن استطاع!
قال وهب: (بعث الله تعالى إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا، فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه، وخوفوهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة).
قوله تعالى: { فأرسلنا عليهم سيل العرم } ، قال ابن الأعرابي: (العرم: السيل الذي لا يطاق)، وقال مقاتل: (العرم وادي سبأ). وقيل: العرم: المطر الشديد الذي يأتي منه سيل لا يطاق دفعه، وعرمة الماء ذهابه في كل مذهب.
وقيل: العرم هو الفأر الذي نقب السد عليهم، وصفة ذلك: أن الماء كان يأتي أرض سبأ من الشجر وأودية اليمن، فردموا ردما بين جبلين وحبسوا الماء في ذلك الردم، وجعلوا لذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل، فلا ينفذ الماء حتى يأتي ماء السنة الثانية، فأخصبوا وكثرت أموالهم. فلما كذبوا الرسل بعث الله عليهم جرذا نقب ذلك الردم، فاندفع الماء عليهم وعلى جنتيهم، فدفن السيل بيوتهم وأغرق جنتيهم وخرب أراضيهم.
قوله تعالى: { وبدلناهم بجنتيهم جنتين }؛ أي بدلناهم بالجنتين اللتين أهلكناهما جنتين، { ذواتي أكل خمط }؛ الأكل: اسم لما يؤكل. والخمط: شجر الأراك، ويقال: الخمط كل نبت قد أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله. وقيل: هو شجر ذات شوك.
قرأ أبو عمرو ويعقوب (أكل خمط) بالإضافة، وقرأ الباقون (أكل) بالتنوين، وهما متقاربان في المعنى.
وقوله تعالى: { وأثل }؛ الأثل: ما عظم من شجر الطرفاء، وقوله تعالى: { وشيء من سدر قليل }؛ والسدر إذا كان بريا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول، كما يكون ورق السدر الذي نبت على الماء. ومعنى قوله تعالى { وشيء من سدر قليل } يعني أن الخمط والأثل كان أكثر في الجنتين المبدلتين من السدر. قال قتادة: (كان شجر القوم من خير الشجر، فبدله الله من شر الشجر بأعمالهم)، والسدر هو شجر النبق.
[34.17]
قوله تعالى: { ذلك جزيناهم بما كفروا }؛ أي جزيناهم ذلك التبديل والتخريب بكفرهم بنعم الله تعالى، { وهل نجزي }؛ بمثل هذه العقوبة وتعجيل سلب النعمة، { إلا الكفور }؛ أي الكافر المعاند، وقيل: معناه: إن المؤمن نكفر عنه ذنوبه بطاعاته، والكافر يجازى على كل سوء يعمله. وقال الفراء: (المؤمن يجزى ولا يجازى) أي يجزى الثواب بعمله، ولا يكافؤ بسيئاته.
قرأ أهل الكوفة: (نجازي) بالنون وكسر الزاي. ونصب (الكفور) لقوله (جزيناهم) ولم يقل جوزوا، وقرأ الآخرون (يجازي) بياء مضمومة ورفع (الكفور).
وقوله تعالى { لقد كان لسبإ } من قرأ بالنصب فهو اسم قبيلة، فلهذا لم ينصرف، ومن نونه وخفضه فهو اسم لرجل.
[34.18-19]
قوله تعالى: { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } أي جعلنا بين أهل سبأ وبين قرى الأرض التي باركنا فيها وهي الأرض المقدسة باركنا فيها بالماء والشجر، يعني قرى الشام ومصر، وقوله { قرى ظاهرة } أي قرى متقاربة متصلة، إذا خرج الرجل من واحدة من القرى ظهرت له الأخرى، فكانوا لا يحتاجون في سيرهم إلى الشام إلى زاد، وكانت المرأة تخرج ومعها مغزلها، وعلى رأسها مكتلها، ثم تغزل ساعة فلا ترجع بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين الشام وأرض سبأ على تلك الصفة.
قوله تعالى: { وقدرنا فيها السير }؛ أي جعلنا القرى مواصلة بقدر السير المتصل على قدر المقيل والمبيت من قرية إلى قرية، أنعمنا عليهم في مسيرهم كما أنعمنا عليهم في مساكنهم، فقلنا لهم: { سيروا فيها ليالي وأياما }؛ إن شئتم بالليالي وإن شئتم بالأيام، { آمنين }؛ من الظلم والجوع والعطش وعن جميع ما يخاف في الطريق.
ومعنى الآية: { وقدرنا فيها السير } من القرية إلى القرية مقدارا واحدا، نصف يوم، وقلنا لهم: { سيروا فيها } في تلك القرى، { ليالي وأياما }؛ ليلا شئتم السير أو نهارا { آمنين } من الجوع والعطش والسباع والتعب ومن كل خوف.
ثم إنهم بطروا النعمة، وسألوا أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض، { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا }؛ أي اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب عليها الرواحل ونتزود الأزواد، ذلك أنهم قالوا لو كانت ثمارنا أبعد مما هي لكان أجدر أن نشتهيها، فاجعل بين منازلنا وبين مقصدنا المفاوز. ويقال: كانت هذه المسألة من تجارهم ليربحوا في أمولهم.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (بعد) على وجه الدعاء. وقرأ ابن الحنفية ويعقوب (ربنا) برفع الباء (باعد) بألف وفتح العين والدلالة على الخبر، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا. وقرأ الباقون (ربنا) بفتح الباء و(باعد) بالألف وكسر العين وجزم الدال على الدعاء. وقد قرئ (بعد) بضم العين و(بين) بالرفع؛ أي بعد ما يتصل بسفرنا.
قوله تعالى: { وظلموا أنفسهم }؛ يعني بترك الشكر والطاعة، وقيل: بالكفر، { فجعلناهم أحاديث }؛ لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم، ولم يبق منهم ولا من ديارهم أثر. وقوله تعالى: { ومزقناهم كل ممزق }؛ أي فرقناهم في البلاد المختلفة كل تفريق، وذلك أنهم شردوا في البلاد، وصاروا بحيث يتمثل بهم العرب يقولون: تفرق القوم أيدي سبأ وأيادي سبأ.
قال الشعبي: (أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان) وكانت غسان ملوك الشام.
قوله تعالى: { إن في ذلك }؛ أي فيما فعل بسبأ { لآيات }؛ لعبر ودلالات { لكل صبار } ، عن معاصي الله، { شكور }؛ لأنعمه.
[34.20-21]
قوله تعالى: { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين }؛ قرأ أهل الكوفة (صدق) بالتشديد؛ أي ظن فيهم ظنا حيث قال:
قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين
[ص: 82]
ولا تجد أكثرهم شاكرين
[الأعراف: 17] فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك واتباعهم إياه. وقرأ الآخرون (صدق) بالتخفيف؛ أي صدق عليهم في ظنه بهم.
وقوله تعالى { عليهم } أي على أهل سبأ، وقال مجاهد: على الناس كلهم إلا من أطاع الله عز وجل { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } وهم الذين قال الله تعالى فيهم
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الاسراء: 65].
وقيل: إن إبليس لما وسوس إلى آدم وعملت فيه وسوسته، طمع في ذريته؛ فقال: إنه مع فضله وعقله، وعملت فيه وسوستي؛ فكيف لا تعمل في ذريته؟ فأخبر الله في هذه الآية: أن القوم اتبعوه فصدقوا ظنه، إلا طائفة من المؤمنين لم يتبعوه في شيء.
وقيل: إن ابليس لما سأل النظرة فأنظره الله تعالى قال: لأضلنهم ولأمنينهم ولأموهنهم، ولم يكن في وقت هذه المقالة مستيقنا، وإنما قال ظنا منه، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.
وقوله تعالى: { وما كان له عليهم من سلطان }؛ أي ما كان لأبليس عليهم من حجة ولا نفاذ أمر إلا بالتزيين والوسوسة. وقوله: { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك }؛ أي ما كان تسليطنا إياه عليهم إلا لنعلم المؤمنين من الشاكرين.
والمعنى: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمن ظاهرا وكفر الكافر ظاهرا، وقد يذكر العلم ويراد به الإظهار. وقوله تعالى: { وربك على كل شيء حفيظ }؛ أي عالم بكل شيء من الإيمان وشك وغير ذلك.
[34.22]
قوله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموت ولا في الأرض }؛ أي قل لكفار مكة: أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، قال مقاتل: (أي ادعوهم ليكشفوا عنكم الضرر الذي نزل بكم في سنين الجوع).
وقيل: معناه: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم لكي يرزقوكم ويدفعوا عنكم الشدائد، ثم إنهم لا يملكون مثقال ذرة؛ أي لم يخلقوا زنة ذرة في السماوات ولا في الأرض، فمن أين يستحقون العبادة؟!
وقوله تعالى: { وما لهم فيهما من شرك }؛ أي ما لهم في السماوات والأرض من شرك في خلقهما، وقوله تعالى: { وما له منهم من ظهير }؛ أي وما الله تعالى منهم من معين فيما خلق.
وقوله تعالى: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له }؛ أي ولا تنفع شفاعة ملك مقرب ولا نبي ولا أحد حتى يأذن الله له في الشفاعة. وهذا تكذيب من الله لهم حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (أذن) بضم الألف، وقرأ غيرهم بالفتح، فمن فتح كان المعنى لمن أذن الله له في الشفاعة، وكذلك من قرأ بالضم لأن الآذن هو الله تعالى في القراءتين جميعا.
[34.23]
قوله تعالى: { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير }؛ قرأ ابن عامر ويعقوب: (فزع) بفتح الفاء والزاي، وقرأ غيرهما بضم الفاء وكسر الزاي. والمعنى: حتى إذا كشف الفزع والجزع عن قلوبهم. ومن قرأ بالفتح فالمعنى: حتى إذا كشف الله الفزع عن قلوبهم.
واختلفوا في هذه الكتابة والموصوفين بهذه الصفة، من هم؟ ومن النصب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟ فقال قوم: هم الملائكة. واختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنما فزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل.
قال عبدالله بن مسعود: (إذا تكلم الله تعالى بالوحي، سمع أهل السماء صلصلة مثل صلصلة السلسلة على الصفوان، فيصعقون لذلك ويخرون سجدا، فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم فترد إليهم، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضا: (ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله تعالى إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فيقولون له: ماذا قال ربك؟ قال: يقول الحق ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضوعا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا تكلم الله بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجدا، فيكون أول من رفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل بالملائكة، فكلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقول مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمر الله ".
وقال مقاتل والكلبي: (لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وخمسون عاما، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كلم الله تعالى جبريل بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فسمعت الملائكة الصوت بالوحي، فظنوا أنها القيامة قامت، فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل بالرسالة، جعل أهل كل سماء يسألونه على وجه التعرف بعد ما انكشف الفزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال جبريل ومن معه: قال الحق).
وقيل: لما سمعت الملائكة الوحي صعقوا فخروا سجدا ظانين أنها القيامة، فلما نزل جبريل بالوحي انكشف فزعهم فرفعوا رؤوسهم، وقال بعضهم لبعض: (ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق) يعني الوحي { وهو العلي الكبير } أي الغالب القاهر السيد المطاع الكبير العظيم، فلا شيء أعظم منه.
وقرأ الحسن (حتى إذا فزع عن قلوبهم) بالعين المعجمة والزاي بمعنى فزعت قلوبهم من الفزع، وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله { حتى إذا فزع عن قلوبهم } راجع إلى المشركين، فإنهم إذا شاهدوا أهوال يوم القيامة غشي عليهم، فيزيل الله ذلك عن قلوبهم، ثم تقول لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا والآخرة؟ فيقولون: الحق، فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
[34.24]
قوله تعالى: { قل من يرزقكم من السموت والأرض قل الله }؛ أي قل يا محمد لكفار مكة: من يرزقكم من السماوات المطر، ومن الأرض النبات والثمر؟ وإنما أمر بهذا السؤال احتجاجا عليهم؛ لأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة لا غيره، وذلك أنه إذا استفهمهم عن الرزق لم يمكنهم أن يبينوا رازقا غير الله، فيتحيروا في الجواب فيؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجواب، فيقول لهم: إن الذي يرزقكم هو الله عز وجل، وتم الكلام.
ثم أمر بأن يخبرهم أنهم على الضلال بعبادة غير الله تعالى بقوله تعالى: { وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين }؛ وهذا على وجه الإنصاف في الحجة لاستمالة قلوبهم، كما يقول القائل من المسارعين: أحدنا كاذب؛ وهو يعلم أنه صادق وصاحبه كاذب.
والمعنى: ما نحن وأنتم إلا على أمر واحد؛ أحد الفريقين مهتد والآخر ضال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه على الهدى، ومن خالفه في ضلال مبين.
[34.25]
قوله تعالى: { قل لا تسألون عمآ أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } أي قل يا محمد للكفار لا تؤاخذون بجرمنا، ولا نؤاخذ بجرمكم، فانظروا لأنفسكم واعلموا أن حرصنا على إيمانكم لا ينفعكم، وهذا على وجه التبرؤ منهم ومن كفرهم.
[34.26]
قوله تعالى: { قل يجمع بيننا ربنا }؛ يعني بعد البعث في الآخرة في المحشر، { ثم يفتح بيننا بالحق }؛ أي ثم يقضي بيننا ويحكم بيننا بالعدل، { وهو الفتاح العليم }؛ أي وهو القاضي العليم بما يقضي.
[34.27]
قوله تعالى: { قل أروني الذين ألحقتم به شركآء كلا }؛ أي قل لهم أروني الذين ألحقتموهم بالله تعالى وجعلتموهم شركاء الله في العبادة؛ هل لهم قدرة على الخلق والأمر، وهل يرزقون ويخلقون؟ وقوله تعالى { كلا } كلمة ردع وزجر؛ أي ارتدعوا عن مقالتكم وانزجروا؛ فإنكم لا تقدرون أن تجعلوا لله شركاء، { بل هو الله العزيز الحكيم }؛ أي المنيع الغالب لكل شيء، الحكيم في تدبيره لخلقه، فأنى يكون له شريك في ملكه. وقيل: معناه: قل أروني الذين ألحقتموهم بالله في العبادة شركاء هل يرزقون ويخلقون؟ كلا؛ لا يرزقون ولا يخلقون، بل الذي يخلق ويرزق هو الله العزيز في ملكه، الحكيم في أمره.
[34.28]
قوله تعالى: { ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا }؛ أي ما أرسلناك يا محمد إلا للناس كافة أي كلهم، أحمرهم وأسودهم. وقيل: معناه: إلا مانعا للناس من الكفر والضلال، والكف على هذا هو المنع. وأدخلت الهاء ها هنا للمبالغة كالرواية والعلامة، (بشيرا) بالخير لمن أطاع الله، (ونذيرا) أي ومخوفا بالنار لمن كفر بالله، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ يعني كفار مكة لا يتدبرون القرآن، فلو تدبروا لعلموا.
[34.29-30]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد }؛ أي يقول الكفار: متى هذا الوعد الذي تخوفونا به من البعث والعذاب، { إن كنتم صادقين }؛ في مقالتكم، { قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون }؛ أي قل لبعثكم وعذابكم ميقات يوم لا يؤخر عن وقت الوعد ولا يقدم وهو يوم القيامة.
[34.31-33]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه }؛ أي قال الكفار: لن نؤمن بصدق هذا القرآن ولا بالذي بين يديه من أمر الآخرة، والنشأة الثانية.
وقيل: معنى { ولا بالذي بين يديه } يعنون التوراة والإنجيل، وذلك: أنه لما قال مؤمنوا أهل الكتاب: إن صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابنا وهو نبي مبعوث، كفر أهل مكة بكتابهم.
وقوله تعالى: { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا }؛ أي ولو ترى يا محمد مشركي مكة محبوسون في المحشر للحساب يوم القيامة، يتجاوبون فيما بينهم يرد بعضهم على بعض القول في الجدال، ويحمل كل واحد منهم الذنب على صاحبه، فيقول الأتباع لرؤسائهم: { لولا أنتم }؛ ودعاؤكم إيانا إلى الكفر، { لكنا مؤمنين }؛ كغيرنا، بل أنتم منعتمونا وصددتمونا عن الإيمان.
فأجابهم رؤساؤهم على وجه الإنكار: { قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جآءكم بل كنتم مجرمين } باختياركم الكفر على الإيمان.
فقال الأتباع للرؤساء: { وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر اليل والنهار إذ تأمروننآ أن نكفر بالله ونجعل له أندادا }؛ قال الأخفش: (الليل والنهار لا يمكران بأحد، ولكن يمكر فيهما، وهذا كقوله
من قريتك التي أخرجتك
[محمد: 13] وهذا من سعة العربية).
والمعنى: بل مكركم بنا في الليل والنهار إذ تأمروننا، وكذلك يقال: فلان نهار صائم وليله قائم، وقال الشاعر: (ما ليل المطي بنائم). ومثله قوله تعالى:
فإذا عزم الأمر
[محمد: 21]. وقيل: مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما، كقوله
فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم
[الحديد: 16].
قوله تعالى: { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب }؛ أي أضمروها في أنفسهم؛ لأن موضع الندامة القلب. وقيل: أظهروها فيما بينهم، أقبل بعضهم يلوم بعضا، ويعرض بعضهم بعضا الندامة، وهذا من ألفاظ الأضداد، يقال: أسر إذا كتم، وأسر إذا أظهر.
وقوله تعالى: { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا }؛ أي غلت أيمانهم إلى أعناقهم، { هل يجزون إلا ما كانوا يعملون }؛ من الشرك في الدنيا.
[34.34-36]
قوله تعالى: { ومآ أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ }؛ أي ما أرسلنا في أهل قرية من رسول إلا قال رؤساؤها وأعيانها وأولو النعمة فيها: { إنا بمآ أرسلتم به }؛ من الإيمان والتوحيد، { كافرون * وقالوا }؛ للرسل: { نحن أكثر أموالا وأولادا }؛ فكما فضلنا عليكم في الدنيا لن نعذب بذنوبنا في الآخرة! افتخر مشركوا مكة على رسول الله والمؤمنين بأموالهم وأولادهم، وظنوا أن الله إنما خولهم المال والولد كرامة لهم عنده، فقالوا { وما نحن بمعذبين }؛ أي إن الله أحسن إلينا بالمال والولد فلا يعذبنا!
فقال الله تعالى لنبيه عليه السلام: { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر }؛ يعني أن بسط الرزق وتضييقه من الله تعالى بفعله إبتلاء وامتحانا، ولا يدل البسط على رضا الله تعالى، ولا التضييق على سخطه، { ولكن أكثر الناس لا يعلمون }؛ يعني أهل مكة لا يعلمون حين ظنوا أن أموالهم وأولادهم دليل على كرامة الله لهم.
[34.37]
قوله تعالى: { ومآ أموالكم ولا أولادكم }؛ أي ليست كثرة أموالكم ولا أولادكم ب الخصلة { بالتي تقربكم عندنا زلفى }؛ أي بالتي تقربكم إلى الثواب والكرامة قربة. وقيل: معناه: بالتي تقربكم عندنا قربى. قال الأخفش: (زلفى: اسم المصدر؛ كأنه أراد: بالتي تقربكم عندنا تقريبا). { إلا من آمن وعمل صالحا }؛ بصرف المال في وجوه الخير، وبصرف الأولاد في طاعة الله تعالى. وقيل: معناه: إلا من آمن وعمل صالحا فإن إيمانه وعمله يقربه مني.
وقوله تعالى: { فأولئك لهم جزآء الضعف بما عملوا }؛ أي لهم الجزاء المضاعف على حسناتهم بالحسنة الواحدة عشرا، { وهم في الغرفات }؛ الجنة، { آمنون }؛ من كل آفة ومكروه. والغرفة: هي البيوت فوق الأبنية.
قرأ حمزة (وهم في الغرفة) على الواحدة، لقوله
أولئك يجزون الغرفة
[الفرقان: 75]، وقرأ الباقون (في الغرفات) على الجمع، لقوله
لنبوئنهم من الجنة غرفا
[العنكبوت: 58]، وقرأ يعقوب (فأولئك لهم جزاء) بالنصب منونا (الضعف) بالرفع تقديره: فأولئك لهم الضعف جزاء على التقدير والتأخير.
[34.38]
قوله تعالى: { والذين يسعون في آياتنا معاجزين }؛ أي يسعون في دلائل التوحيد والنبوة معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا ويعجزوننا، { أولئك في العذاب محضرون }؛ أي محبوسون.
[34.39]
قوله تعالى: { قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشآء من عباده ويقدر له }؛ قد تقدم تفسيره.
وقوله تعالى: { ومآ أنفقتم من شيء فهو يخلفه }؛ أي ما أنفقتم من مال في غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه في الدنيا بالعوض، وفي الآخرة بالحسنات والدرجات.
وقوله تعالى { فهو يخلفه } لكم أو عليكم، يقال: أخلف الله له وعليه؛ إذا أبدل الله له ما ذهب عنه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من فقه المراد فقه في معيشته ".
وقال الكلبي: (معناه: وما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلفه، إما أن يعجله في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة). وعن سعيد بن بشار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان أحدهما يقول: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا "
وقوله تعالى: { وهو خير الرازقين }؛ أي وهو خير المخلفين، وإنما خير الرازقين لأنه قد يقال: رزق السلطان الجند.
[34.40-41]
قوله تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا }؛ يعني المشركين، { ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون }؛ هذا استفهام توبيخ للعابدين كقوله تعالى لعيسى:
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
[المائدة: 116]. فنزهت الملائكة ربهم عن الشرك و { قالوا سبحانك }؛ تنزيها لك مما أضافوا إليك من الشركاء، { أنت ولينا من دونهم }؛ أي ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم ولسنا نريد غيرك وليا، وأنت العالم بأمورنا وافترائهم علينا، كنا نواليك ولا نواليهم، { بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } ، أي أطاعوا الشياطين في عبادتهم إيانا؛ لأن الشياطين كانت دعوتهم إلى ذلك، فكان أكثرهم بالشياطين مؤمنين.
[34.42]
قوله تعالى: { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا }؛ أي يقال لهم: اليوم لا يقدر بعضكم لبعض جر نفع ولا دفع ضر، { ونقول } ، خزنه النار بأمر الله، { للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } في الدنيا.
[34.43]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات }؛ معناه: إذا يقرأ على أهل مكة آياتنا وهي القرآن واضحات الحجج، { قالوا ما هذا }؛ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم { إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آبآؤكم وقالوا ما هذآ إلا إفك مفترى } ، وقالوا: ما هذا الذي أتانا به إلا كذب مفترى؟ يعنون القرآن، { وقال الذين كفروا للحق لما جآءهم }؛ وهو القرآن: ما هذا القرآن؟ { إن هذآ إلا سحر مبين }.
[34.44-45]
قوله تعالى: { ومآ آتيناهم من كتب يدرسونها ومآ أرسلنا إليهم قبلك من نذير }؛ أي ما آتينا أهل مكة من كتب يقرؤنها. والمعنى: من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه، وما أرسلنا إليهم قبلك يا محمد من رسول.
ثم خوفهم وأخبر عن عاقبة من كذب قبلهم فقال: { وكذب الذين من قبلهم }؛ يعني أمم كافرة، { وما بلغوا }؛ يعني أهل مكة، { معشار مآ آتيناهم }؛ أي ما بلغ هؤلاء الذين أرسلت إليهم عشر ما أوتي الأمم قبلهم من القوة والعدة، { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير }؛ فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتعذيبي لهم، أليسوا مهلكين بالعذاب إذ لم يؤمنوا به معشار. والعشر والعشير جزء من عشرة. قال ابن عباس: (المعنى: وما بلغ قومك معشار ما آتيناهم من القوة وكثرة المال وطول العمر فأهلكهم الله).
[34.46]
قوله تعالى: { قل إنمآ أعظكم بواحدة }؛ أي آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي: { أن تقوموا لله مثنى وفرادى }؛ أي تقوموا لله اثنين اثنين وواحدا واحدا، { ثم تتفكروا } , فيناظروا ويذكروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هل ترون في فعله وقوله ودعائه إلى توحيد الله ما يكون من كلام المجانين وأفعالهم، وهو كلام عالم حازم؟ قال مقاتل: (والمعنى: ألا يتفكر منكم واحد ومع صاحبه ينظروا أن خلق السماوات والأرض دليل على أن خالقها واحد لا شريك له).
قوله تعالى: { ما بصاحبكم من جنة }؛ وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ساحر مجنون! فقال الله تعالى: { ما بصاحبكم من جنة } وما صاحبكم بمجنون، فعلى هذا المعنى يكون قوله { ما بصاحبكم من جنة } ابتداء كلام من الله تعالى، ويجوز أن يكون المعنى: ثم تتفكروا فتعلموا بطلان قولكم في نسبته إلى الجنون. وقوله تعالى: { إن هو إلا نذير لكم }؛ أي ما هو إلا رسول مخوف ، { بين يدي عذاب شديد }؛ أي بين يدي القيامة لكي تخلصوا أنفسكم من عذاب الله بالتلافي والتوبة.
[34.47]
قوله تعالى: { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم }؛ معناه: قل لهم يا محمد: ما سألتكم على تبليغ الرسالة أجرا فتتهموني، وقوله تعالى { فهو لكم } هذا الرجل يقول لغيره: ما أعطيتني فخذه، يريد بذلك لم يعطه شيئا، وقوله تعالى: { إن أجري إلا على الله }؛ أي ما ثوابي إلا على الله، { وهو على كل شيء }؛ من أعمال العباد { شهيد }.
[34.48]
قوله تعالى: { قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب }؛ القذف: هو الرمي بألسنتهم والحصى والكلام، قال الكلبي: (فمعنى الآية: قل إنه يأتي بالحق؛ أي يتكلم بالوحي وهو القرآن يلقيه إلى نبيه عليه السلام). والمعنى: قل إن ربي ينزل الوحي من السماء فيقذفه ويلقيه إلى الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: { علام الغيوب } ظاهر المعنى.
[34.49]
قوله تعالى: { قل جآء الحق }؛ يعني الإيمان والقرآن؛ أي ظهر الإسلام والقرآن، { وما يبدىء الباطل وما يعيد }؛ معناه: ذهب الباطل وزهق، فلم يبق له بقية يبدئ بها ولا يعيد. قال الحسن: (الباطل: كل معبود سوى الله، فإن كل معبود سوى الله لا يبدئ لأهله خيرا في الدنيا، ولا يعيد بخيره في الآخرة). فقال قتادة: (الباطل إبليس؛ أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه).
ويجوز أن يكون هذا استفهاما، كأنه قال: وأي شيء يبدئ الباطل؟ وأي شيء يعيده؟ وعن ابن مسعود قال:
" دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود معه ويقول: " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد "
أي ذهب الباطل بحيث لا يبقى له بقية، لا إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة كما قال تعالى
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه
[الأنبياء: 18]. ويقال: فلان ظهرت عليه الحجة، فما يبدئ وما يعيد، وما يحل وما يمر.
[34.50]
قوله تعالى: { قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسي }؛ وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد ضللت حين تركت دين آبائك! فقال الله تعالى { قل إن ضللت فإنمآ أضل على نفسي } أي ضرر ذلك راجع إلى نفسي، { وإن اهتديت }؛ إلى الحق، { فبما يوحي إلي ربي }؛ من القرآن والبيان، { إنه سميع }؛ لكل ما يقوله الخلق من حق وباطل، { قريب }؛ مني، لا تخفى عليه خافية.
[34.51-52]
قوله تعالى: { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت }؛ ولو ترى يا محمد الكفار، يعني عند البعث، فلا يمكنهم الغوث ولا الهرب من ما هو نازل بهم، لرأيت ما يعتبر به غاية الاعتبار. ومعنى الآية: { ولو ترى إذ فزعوا } عند البعث فلا يفوتونني؛ أي لا يفوتني أحد ولا ينجوا مني ظالم.
وقوله تعالى: { وأخذوا من مكان قريب }؛ يعني من القبور حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه. تعني هذه الآية؛ قال بعضهم: أراد بقوله { إذ فزعوا فلا فوت } مما أصابهم يوم بدر عند القتال. وقال بعضهم: أراد به يوم القيامة إذ فزعوا من مشاهدة عذاب جهنم، وعلموا أنهم لا يفوتون لله، وأخذوا بالعذاب من مكان قريب إلى جهنم فقذفوا فيها.
{ وقالوا } ، عند رؤية العذاب: { آمنا به } ، أي آمنا بالله تعالى وبرسوله، يقول الله تعالى: { وأنى لهم التناوش من مكان بعيد }؛ أي أين لهم تناول ما أرادوا بلوغه من مكان بعيد، يعني من الآخرة وقد تركوه في الدنيا؟ يعني أنهم قد تعذر عليهم تناول الإيمان كما يتعذر على الإنسان تناول النجوم.
والتناوش هو التناول، نشته أنوشه نوشا، إذا تناوله، كأنه قال: وأنى لهم التوبة. وقيل: ما يتمنون. قال ابن عباس: (يتمنون الرد حين لا رد).
قرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (التناؤش) بالمد والهمزة، وهو الإبطاء والبعد؛ أي من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم فيه. يقال: أنشت الشيء؛ إذا أخذته من بعيد، والنيش: الشيء البطيء. وقرأ الباقون بغير همزة من التناول، يقال: نشته إذا تناولته، وتناوش القوم في الحرب إذا تدانوا وتناول بعضهم بعضا.
واختار أبو عبيد ترك الهمز؛ لأنه قال: (معناه من التناول، فإذا همز كان معناه البعد فكيف يقول: { وأنى لهم } البعد من مكان بعيد). قوله تعالى: { من مكان بعيد } يعني أنهم يريدون أن يتناولوا التوبة، وقد صاروا في الآخرة، وإنما تقبل التوبة " في الدنيا " وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الآخرة.
[34.53]
قوله تعالى: { وقد كفروا به من قبل }؛ أي كانوا كافرين بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن في الدنيا قبل ما عاينوا من العذاب وأهوال القيامة. قوله تعالى: { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد }؛ أي ينسبون محمدا صلى الله عليه وسلم إلى السحر والجنون والكهانة رجما منهم بالغيب والقذف. والرجم بالغيب: أن يلفظ الإنسان شيئا لا يتحقق، ومنه سمي الرمي بالفاحشة قذفا.
ومعنى قوله تعالى { بالغيب } أن يقذفون محمدا صلى الله عليه وسلم بالظن لا باليقين، والغيب على هذا الظن، وهو ما غاب علمه عنهم. وقوله تعالى: { من مكان بعيد } يعني بعدهم عن الحق. وقال قتادة: (معنى { ويقذفون بالغيب } يقولون: لا بعث ولا جنة ولا نار).
[34.54]
قوله تعالى: { وحيل بينهم وبين ما يشتهون }: أي حيل بين هؤلاء الكفار وبين الرجعة إلى الدنيا، وقال الحسن: (معناه: حيل بينهم وبين الإيمان والتوبة)، { كما فعل بأشياعهم }؛ أي كما فعل بنظرائهم أو أشياعهم، ومن كان على مثل حالهم من الكفار، { من قبل } ، أي قبل هؤلاء، { إنهم كانوا في شك }؛ من البعث ونزول العذاب بهم، { مريب } ، أي ظاهر الشك.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبي إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا ".
[35 - سورة فاطر]
[35.1]
{ الحمد لله فاطر السموت والأرض }؛ أي خالقهما، مبتدئا من غير مثال سبق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما كنت أعرف ما معنى فاطر حتى اختصم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها؛ أي بدأتها).
قوله تعالى: { جاعل الملائكة رسلا }؛ قال بعضهم: أراد به بالملائكة كلهم، فإنهم كلهم رسل الله بعضهم إلى بعض وبعضهم إلى الإنس، وقال بعضهم: أراد بذلك جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والحفظة، يرسلهم إلى النبيين وإلى ما شاء من الأمور.
قوله تعالى: { أولي أجنحة }؛ صفة الملائكة أي ذوي أجنحة، { مثنى وثلاث ورباع } ، منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، اختارهم الله تعالى لرسالته من حيث علم أنهم لا يبدلون.
وقوله تعالى: { يزيد في الخلق ما يشآء }؛ أي يزيد في أجنحة الملائكة ما يشاء، فمنهم من له مائة ألف جناح، ومنهم من له أكثر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال:
" رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح ".
وعن ابن شهاب قال:
" سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتراءى له في صورته، فقال له جبريل: إنك لن تطيق ذلك يا رسول الله، قال: " إني أحب أن تفعل " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته، فغشي على النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه، ثم أفاق وجبريل مسنده إليه واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا " فقال جبريل عليه السلام: كيف لو رأيت إسرافيل يا رسول الله؟! له اثنا عشر جناحا، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب والعرش على كاهله ".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إن لله تعالى ملكا يسع البحار كلها في نقرة إبهامه). وقيل: معنى قوله { يزيد في الخلق ما يشآء } يعني حسن الصوت، كذلك قال الزهري، وقال قتادة: (هي الملاحة في العينين والشعر الحسن والوجه الحسن والخط الحسن).
وقوله تعالى { وثلاث ورباع } في موضع خفض؛ لأنه لا يتصرف. وقوله تعالى: { إن الله على كل شيء قدير }؛ أي قادر على ما يزيد على الزيادة والنقصان.
[35.2]
قوله تعالى: { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها }؛ أي ما يرسل الله إلى الناس من رسول فلا مانع له، وذلك لأن إرسال الرسول من الله تعالى رحمة لعباده كما قال تعالى:
ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين
[الأنبياء: 107].
وقيل: أراد بالرحمة ها هنا المطر والرزق والعافية وجميع النعم، ما يفتح الله من ذلك فلا مانع له، ولا يستطيع أحد من الخلق حبسه ولا إمساكه، وقوله تعالى: { وما يمسك فلا مرسل له من بعده }؛ أي وما يمسك الله من ذلك فلا يقدر أحد على إرساله، { وهو العزيز الحكيم }؛ أي العزيز فيما أمسك، الحكيم فيما أرسل.
[35.3]
قوله تعالى: { يأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم }؛ يعني أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم إذ أسكنكم الحرم ومنعكم من الغارات، { هل من خالق غير الله }؛ هذا استفهام، ومعناه التوبيخ؛ أي لا خالق سواه. وقوله تعالى: { يرزقكم من السمآء والأرض }؛ أي من السماء بإنزال المطر ومن الأرض بإخراج النبات، { لا إله إلا هو فأنى تؤفكون }؛ أي فأنى تصرفون عن الإله الذي هذه صفته إلى معبود لا يقدر على شيء.
[35.4]
قوله تعالى: { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك }؛ في هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يجزع على تكذيب قومه، ويصبر كما صبر على تكذيب الأمم الرسل، { وإلى الله ترجع }؛ عواقب { الأمور }؛ في مجازاة المكذبين ونصرة المسلمين.
[35.5]
قوله تعالى: { يأيها الناس إن وعد الله حق }؛ معناه إن الذي وعده الله المجازاة والبعث بعد الموت حق كائن، { فلا تغرنكم الحياة الدنيا }؛ بزينتها وزهرتها حتى تشتغلوا بها عن أمر دينكم، { ولا يغرنكم بالله الغرور }؛ أي ولا يستزلكم عن طاعة الله الشيطان الذي من عادته الغرور. وقرأ ابن سماك العدوي: (الغرور) بضم الغين، وهو أباطيل الدنيا، وأما (الغرور) بفتح الغين فيه، الشيطان.
[35.6-7]
قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا }؛ أي احترزوا من كيده، ولا تقبلوا منه وتطيعوه، { إنما يدعوا حزبه }؛ أي أهل طاعته ليكون معه، { ليكونوا من أصحاب السعير }؛ أي ليسوقهم إلى النار، { الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير }.
[35.8]
قوله تعالى: { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا }؛ نزلن في أبي جهل ومشركي مكة. وقيل: نزلت في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى، والمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن هداه الله ، ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: { فإن الله يضل من يشآء ويهدي من يشآء }.
قوله: { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات }؛ أي لا تغتم، ولا تهلك نفسك عليهم حسرات على تركهم الإسلام، { إن الله عليم بما يصنعون }؛ في كفرهم فيجازيهم بما هو أولى بهم، قرأ أبو جعفر (فلا تذهب) بضم التاء وكسر الهاء، نصب السين.
[35.9]
قوله تعالى: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا }؛ معناه: الله الذي أرسل الرياح لإثارة السحاب، { فسقناه إلى بلد ميت } ، فأجريناه الى بلد ميت ليس فيه نبات ولا شجر، { فأحيينا به الأرض بعد موتها } ، فأحيا " الله " بالمطر الأرض بإخراج الزرع والأشجار منها بعد يبسها وذهاب النبات منها، { كذلك النشور }؛ كذلك البعث في القيامة.
وهذا احتجاج على منكري البعث، فإن موتهم كموت الأرض، وذهاب أثرهم كذهاب أثر الأشجار والزروع، والقادر على إخراج الأشجار والزروع من الأرض قادر على إخراج الموتى من الأرض.
ومعنى الآية: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا } أي تزعجه من حيث هو { فسقناه إلى بلد ميت } أي مكان ليس فيه نبات { فأحيينا به الأرض بعد موتها } أي أنبتنا فيها الزرع والكلأ بعد أن لم يكن، { كذلك النشور } أي الإحياء والبعث.
وعن أبي رزين العقيلي قال:
" قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ " أوما مررت بوادي قومك ممحلا ثم مررت به خضرا؟ " قلت: بلى، قال: " فكذلك يحيي الله الموتى " وقال: " كذلك النشور " ".
[35.10]
قوله تعالى: { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا }؛ أي من كان يطلب العزة بعبادة الأصنام فليطلبها بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، العزيز من أعزه الله. وذلك أن الكفار كانوا يعبدون الأصنام طمعا في العزة كما قال الله تعالى:
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا
[مريم: 81]. أو قيل: معناه: من كان يريد أن يعلم العزة لمن هي فليعلم أنها لله تعالى.
قوله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب }؛ إلى الله تصعد كلمة التوحيد وهو قوله لا إله إلا الله، ومعنى { إليه يصعد } أي يعلم ذلك كما يقال: ارتفع الأمر إلى القاضي والسلطان أي علمه. وقيل: صعود الكلم الطيب أن يرفع ذلك مكتوبا أو مقبولا إلى حيث لا مالك إلا الله؛ أي إلى سمائه يصعد الكلم الطيب.
قوله تعالى: { والعمل الصالح يرفعه }؛ قال الحسن: (معناه: ذو العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله تعالى بعرض القول على الفعل، فإن وافق القول الفعل قبل، وإن خالف رد، لأن العبد إذا وحد الله وأخلص في عمله ارتفع العمل إلى الله تعالى). قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، من قال حسنا وعمل غير صالح رده الله تعالى، ومن عمل صالحا رفعه العمل).
وقرأ أبو عبدالرحمن (الكلام الطيب). وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله علي وسلم في قوله { إليه يصعد الكلم }:
" هو قول الرجل: سبحان الله؛ والحمد لله؛ ولا إله إلا الله؛ والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها ملك إلى السماء ".
وقيل: الكلام الطيب: لا إله إلا الله، والعمل الصالح: أداء فرائضه، ومن لا يؤدي فرضه رد كلامه. وجاء في الخبر:
" طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب "
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يقبل الله قولا بلا عمل "
، وعلى هذا المعنى قول الشاعر:
لا ترض من رجل حلاوة قوله
حتى يصدق ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله
فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفع: (قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر). وقيل: معناه: والعمل الصالح يرفعه الله؛ أي يقبله.
قوله تعالى: { والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد }؛ أي يفعلونها على وجه المخادعة كما كان الكفار يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة. وقيل: معناه: الذين يشركون بالله وبعمل السيئات لهم عذاب شديد في الآخرة. وقيل: أراد بقوله { يمكرون السيئات } يعملون عملا على وجه الرياء.
" كما روي أن رجلا قال: يا رسول الله؛ فيم النجاة غدا؟ فقال: " لا تخادع الله، فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلعه من الإيمان ". فقال رجل: يا رسول الله فكيف يخادع الله؟ فقال: " أن تعمل بما أمرك الله، لا يقبل مع الرياء عمل، فإن المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء: يا كافر؛ يا فاجر؛ يا غادر؛ يا خاسر؛ ضل عملك "
قوله تعالى: { ومكر أولئك هو يبور }؛ أي يفسد ويهلك ويكسر ولا يكون شيئا.
[35.11]
قوله تعالى: { والله خلقكم من تراب }؛ أي خلق أصلكم وأباكم آدم من تراب، { ثم من نطفة }؛ أي ثم خلق نسل آدم من نطفة، { ثم جعلكم أزواجا }؛ يعني ذكرانا وإناثا، { وما تحمل من أنثى }؛ أو تلد لتمام وغير تمام، { ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب }؛ أي ما يطول عمر أحد، ولا ينقص من عمر أحد إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ، وقوله: { إن ذلك على الله يسير }؛ أي كتابة الآجال والأعمال وحفظها من غير كتابة على الله هين.
[35.12]
قوله تعالى: { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سآئغ شرابه وهذا ملح أجاج }؛ قيل: هذه مثل ضربه الله، يقول: كما لا يستوي البحران أحدهما عذب في غاية العذوبة هنيء شرابه مريء، والآخر مر زعاف لا يستطاع شرابه، فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر، والتقي والفاسق. والسائغ: هو السالك في الحلق. والأجاج: شديد الملوحة. وقرأ عيسى (سيغ شرابه) مثل ميت وسيد.
قوله تعالى: { ومن كل تأكلون لحما طريا }؛ أي ومن كل البحرين تأكلون السمك لا يختلف طعم السمك لاختلاف ماء البحرين، فكذلك قد يولد للكافر ولد مسلم مثل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما.
وقوله تعالى: { وتستخرجون حلية تلبسونها }؛ قيل: أراد به إخراج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما خاصة وهو الملح. والمعنى: تستخرجون من الملح دون العذب. قيل: إن اللؤلؤ قطر المطر يقع في جوف الصدف فيكون منه اللؤلؤ.
قوله تعالى: { وترى الفلك فيه مواخر }؛ أي ترى السفن جواري في البحر، قال مقاتل: (هو أن ترى سفينتين، أحدهما مقبلة والأخرى مدبرة، وهذه تستقبل تلك، وتلك تستدبر هذه، تجريان بريح واحدة).
قوله تعالى: { لتبتغوا من فضله }؛ لتطلبوا من رزقه التجارة، فتحمل النعم فيها من بلد إلى بلد، قوله تعالى: { ولعلكم تشكرون }؛ أي فعل ذلك لتعلموا أن هذه النعم من الله، ولكي تشكرونه عليها.
[35.13]
قوله تعالى: { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى }؛ قد تقدم تفسيره.
وقوله تعالى: { ذلكم الله ربكم }؛ أي الذي يفعل هذه الأشياء هو الله ربكم، و؛ { له الملك }؛ الدائم الذي لا يزول، { والذين تدعون من دونه }؛ من الأصنام، { ما يملكون من قطمير }؛ لا يقدرون على أن ينفعوكم بقدر قطمير، وهو القشرة الدقيقة الملتزقة بنواة الثمرة كاللفافة عليها.
[35.14]
قوله تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم }؛ ولو كانوا سامعين ما أجابوكم بإغاثة ولا نصرة، والمعنى: إن تدعوهم لكشف ضر لا يسمعوا دعاءكم لأنها جماد لا تنفع ولا تضر، { ولو سمعوا }؛ بأن الله خلق فيهم السمع، { ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم }؛ أي يتبرؤن منكم ومن عبادتكم كما قال الله تعالى:
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا
[البقرة: 166] والمعنى بقوله: { يكفرون بشرككم } أي يتبرؤن من عبادتكم، يقولون: ما كنتم إيانا تعبدون.
قوله تعالى: { ولا ينبئك مثل خبير }؛ معناه: لا يخبرك بحقائق الأمور وعواقبها إلا الله؛ لأنه عالم بكل الأشياء، لا يخفى عليه منها شيء، ولا تلحقه المضار والمنافع.
[35.15-17]
قوله تعالى: { يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله }؛ أي المحتاجون إليه وإلى نعمه ومغفرته حالا بعد حال، { والله هو الغني }؛ عن إيمانكم وطاعتكم، { الحميد }؛ أي المحمود في أفعاله عند خلقه. وإنما أمركم بطاعته لتنتفعوا بها لا حاجة به إليها، { إن يشأ يذهبكم }؛ أي إن يشأ يهلككم، { ويأت بخلق جديد } ، ويأت بخلق أطوع منكم، { وما ذلك على الله بعزيز }؛ أي ليس إهلاككم وإتيانه بمثلكم على الله ممتنع.
[35.18-20]
قوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى }؛ أي لا تحمل يوم القيامة حمل حاملة أخرى؛ أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، { وإن تدع مثقلة }؛ بالذنوب، { إلى حملها لا يحمل منه شيء } ، إلى أن يحمل عنها شيء من ذنوبها لا تحمل من ذنوبها شيء، { ولو كان ذا قربى } ، ولو كانت المدعوة ذات قرابة من الداعية لما في ذلك من غلط حمل الآثام، ولو تحملته لا يقبل حملها؛ لأن كل نفس بما كسبت رهينة، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره.
وسئل الحسن بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم
[العنكبوت: 13] فقال (قوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يعني طوعا، وقوله
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم
[العنكبوت: 13] يعني كرها). قال ابن عباس: في قوله { وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء } قال: (يقول الأب والأم: يا بني احمل عني، فيقول: حسبي ما علي).
قوله تعالى: { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب }؛ يقول: إنما ينتفع بإنذارك ووعظك الذين يطيعون ربهم في السر، { وأقاموا الصلاة }؛ المفروضة، ولأن من خشي الله واجتنب المعاصي في السر من خشية الله تعالى، اجتنبها لا محالة في العلانية.
ويقال: إن الخشية في السر، والإقدام على الطاعة في السر، واجتناب المعصية في السر، أعظم عند الله ثوابا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" ما تقرب امرئ بشيء أفضل من سجود خفي في الليلة المظلمة "
وأما عطف الماضي في قوله تعالى { وأقاموا الصلاة } على المستقبل في قوله { يخشون } ، ففائدة ذلك أن وجوب خشية الله لا تختص بزمان دون زمان ولا بمكان دون مكان، ووجوب إقامة الصلاة يختص ببعض الأوقات.
قوله تعالى: { ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه }؛ أي ومن تطهر من دنس الذنوب والشرك ليكون عند ربه زكيا، فإن منفعة تطهره راجعة إلى نفسه، { وإلى الله المصير }؛ أي إليه يرجع الخلق كلهم في الآخرة، { وما يستوي الأعمى والبصير }؛ يعني المشرك والمؤمن، { ولا الظلمات ولا النور }؛ أي ولا الشرك ولا الضلال كالنور والهدى والإيمان.
[35.21-23]
قوله تعالى: { ولا الظل ولا الحرور }؛ ولا الجنة ولا النار. وقال عطاء: (يعني ظل الليل وسموم النهار)، { وما يستوي الأحيآء ولا الأموات }؛ يعني المؤمنين والكافرين، وهذه أمثال ضربها الله تعالى، كما لا تستوي هذه الأشياء، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن.
وقوله تعالى: { إن الله يسمع من يشآء }؛ أي يسمع كلامه من يشاء؛ أي يتعظ ويهتدي، قال عطاء: (يعني أولياءه الذين خلقهم لجنته). قوله تعالى: { ومآ أنت بمسمع من في القبور }؛ أي كما لا تقدر تسمع من في القبور، فكذلك لا تقدر أن تسمع الكفار، شبههم بالموتى لأنهم لا ينتفعون كالموتى.
وقرأ أبو رزين العقيلي (ما أنت بمسمع من في القبور) بلا تنوين بالإضافة، وقوله تعالى: { إن أنت إلا نذير }؛ أي ما أنت إلا رسول تنذرهم النار وتخوفهم، وليس عليك غير ذلك.
[35.24-26]
قوله تعالى: { إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير }؛ أي ما من أمة إلا سلف فيها نبي، { وإن يكذبوك }؛ فلست بأول رسول كذب، { فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات }؛ الواضحات، { وبالزبر }؛ وهي الكتب، وقوله تعالى: { وبالكتاب المنير }؛ يعني التوراة. وقيل: إنما كرر الزبور هي الكتب أيضا لاختلاف صفات الكتاب؛ لأن الزبور هو الكتابة الثابتة كالنقرة في الصخرة، ثم قال { وبالكتاب المنير } الموصوف واحد والصفات مختلفة. وقوله تعالى: { ثم أخذت الذين كفروا }؛ أي أخذتهم بالعقوبة, { فكيف كان نكير }؛ أي إنكاري عليهم وتعذيبي لهم.
[35.27]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء }؛ يعني المطر، { فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها }؛ وطعمها. قوله تعالى: { ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود }؛ أي وخلقنا من الجبال (جدد بيض) أي طرق يكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر، واحدها جدة، قال المبرد: (جدد: طرق وخطوط ونحو هذا، والجدد الجدة، وهي الطريقة كالمدة والمدد والعدة والعدد، وأما الجدد بضمتين فهي جمع الجديد مثل سرير وسرر).
وقوله تعالى { وغرابيب سود } يجوز أن يكون الغرابيب هي الجبال السود، كأنه قال: ومن الجبال غرابيب، والغرابيب الذي لونه كلون الغراب، ولذلك حسن أن يقال سود، وقال الفراء: (هذا على التقديم والتأخير، تقديره: وسود غرابيب).
[35.28]
قوله تعالى: { ومن الناس والدوآب والأنعام مختلف ألوانه }؛ كاختلاف الثمار والجبال، وتم الكلام على، { كذلك }.
قوله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء }؛ قال ابن عباس: (معناه: إنما يخافون من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني)، وقال مقاتل: (أشد الناس لله خشية أعلمهم به)، وقال مسروق: (كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا). قوله تعالى: { إن الله عزيز }؛ أي عزيز قاهر وغالب في ملكه، { غفور }؛ لذنوب المؤمنين.
[35.29]
قوله تعالى: { إن الذين يتلون كتاب الله }؛ يعني القرآن في الصلاة وغيرها، { وأقاموا الصلاة }؛ المفروضة، { وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية }؛ أي وأنفقوا مما أعطيناهم من الأموال تطوعا سرا فيسلموا بذلك عن تهمة الرياء، وفريضة جهرا فيسلمون بذلك عن تهمة المنع، ويقال أراد بذلك النفقة في الجهاد، { يرجون }؛ بذلك، { تجارة لن تبور }؛ أي لن تكسد ولا يرد عليها الفساد والبطلان.
[35.30]
قوله تعالى: { ليوفيهم أجورهم }؛ ليعطيهم أجر أعمالهم كاملة، { ويزيدهم من فضله }؛ فوق ما يستحقوه، قال ابن عباس: (يعني سوى الثواب)، وقوله تعالى: { إنه غفور شكور }؛ إنه غفور لذنوبهم، شكور يعامل بالأحسن معاملة الشاكر، قال ابن عباس: (غفر العظيم من ذنوبهم، وشكر اليسير من أعمالهم).
[35.31]
قوله تعالى: { والذي أوحينآ إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه }؛ أي موافقا لما قبله من الكتب، لأن كتب الله تعالى كلها دالة على توحيده وإن اختلفت بالشرائع، { إن الله بعباده لخبير بصير }؛ أي خبير بأقوالهم وأفعالهم ونياتهم فيجزيهم بما يستحقون.
[35.32]
قوله تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا }؛ قال مقاتل: (يعني القرآن)، وقوله تعالى: { الذين اصطفينا من عبادنا } يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قسمهم ورتبهم فقال تعالى: { فمنهم ظالم لنفسه }؛ وهو الذي مات على كبره ولم يتب عنها، { ومنهم مقتصد }؛ وهو الذي لم يصب كبيرة، { ومنهم سابق بالخيرات }؛ يعني المقربين الذين سبقوا إلى أعمال، وقال الحسن: (الظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته، والمقتصد: الذي استوت حسناته سيئاته، والسابق: من رجحت حسناته على سيئاته).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سابقنا سابق "
أي إلى الجنة أو إلى رحمة الله تعالى بالخيرات؛ أي بالأعمال الصالحة، { بإذن الله }؛ أي بإرادة الله، { ذلك هو الفضل الكبير }؛ معناه: إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير، وسمي إعطاء الكتاب إيراثا لأنهم أعطوه بغير مسألة ولا اكتساب.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا:
" السابقون يدخلون الجنة بغير حساب، والمقتصدون يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، والظالمون يحاسبو ما شاء الله أن يحاسبوا، ثم يرحمهم الله تعالى فيدخلهم الجنة، وهم الذين يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن... "
إلى آخر الآيتين.
وعن الحسن أنه قال: (السابق الذي ترك الدنيا، والمقتصد الذي أخذ الحلال، والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ). ويقال: الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق الذي اتقى سيئاته.
فإن قيل ما الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق؟ قيل: الواو لا توجب الترتيب كما قال تعالى
فمنكم كافر ومنكم مؤمن
[التغابن: 2]. وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته، وأخر السابق لئلا يعجب بنفسه. وقيل: قدم الظالم فإذا لم يكن له شيء يتكل عليه إلا رحمة الله تعالى، وثنى بالمقتصد لحسن ظنه بربه. وقيل: لأنه بين الخوف والرجاء، وأخر السابق لأنه اتكل على حسناته. وقيل: لئلا يأمن أحد مكره، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص.
وعن عقبة بن صهبان قال: (سألت عائشة عن قوله: { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } فقالت: يا بني كلهم في الجنة، وأما السابق فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم فمثلي ومثلك). وقال سهل بن عبدالله: (السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل).
وقيل: السابق الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد بمعاده ومعاشه، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل: الظالم طالب الدنيا، والمقتصد طالب العقبى، والسابق طالب المولى. وقيل: الظالم المرائي في جميع أفعاله، والمقتصد المرائي في بعض أفعاله دون بعض، والسابق المخلص في أفعاله كلها.
وقيل: الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه، والمقتصد من استوى ظاهره وباطنه، والسابق الذي باطنه خير من ظاهره. وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد الذي يصبر عند البلاء، والسابق الذي يتلذذ بالبلاء!
وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعا في الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب من الأسباب إلا لرحمته الكريم! وقيل: الظالم الذي يعبد الله على الغفلة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة, والسابق الذي يعبده على الهيبة. وقيل: الظالم الذي أعطي فمنع، والمقتصد الذي أعطي فبذل، والسابق الذي أعطي فشكر.
وقيل: الظالم غافل، والمقتصد طالب، والسابق واصل. وقيل: الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من استغنى بدينه، والسابق من استغنى بربه. وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل الأذان، والمقتصد الذي يدخل وقت الأذان، والظالم الذي يدخل وقت أقيمت الصلاة! وقيل: الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه. وقيل: الظالم مدعو، والمقتصد مأذون له، والسابق مقرب.
[35.33]
قوله تعالى: { جنات عدن يدخلونها }؛ يعني الأصناف الثلاثة: الظالم؛ والمقتصد؛ والسابق. ومعنى الآية: { جنات عدن } أي بساتين إقامة لا تزول, { يحلون فيها من أساور من ذهب }؛ أي يلبسون أقلبة من ذهب وسوار القلب. وقوله تعالى: { ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير }؛ من قرأ بالكسر فالمعنى من ذهب ومن لؤلؤ، ومن قرأ بالنصب فمعناه: ويحلون لؤلؤا.
[35.34-35]
قوله تعالى: { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن }؛ أي يقولون بعد دخولهم الجنة: { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } أي حزن الموت وأهوال يوم القيامة، وقيل: حزن المعاش وهموم الدنيا، فإن الدنيا سجن المؤمن. وقال عكرمة: (حزن الذنوب والسيئات)،
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، ولا في محشرهم، كأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم وهم يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ".
قوله تعالى: { إن ربنا لغفور شكور }؛ أي متجاوز عن الذنوب، يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب. قوله تعالى: { الذي أحلنا دار المقامة }؛ أي دار المقام وهي الجنة، { من فضله } ، بتفضله لا بالأعمال. وسمي دار المقامة لأن من دخلها يخلد لا يموت، ويقيم فيها لا يحول. قوله تعالى: { لا يمسنا فيها نصب }؛ أي لا يمسنا فيها تعب؛ { ولا يمسنا فيها لغوب }؛ أي مشقة وتعب وإعياء وقبور.
[35.36]
قوله تعالى: { والذين كفروا لهم نار جهنم }؛ أي الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لهم في الآخرة نار جهنم، { لا يقضى عليهم فيموتوا }؛ فلا يقضى عليهم بموت فيستريحون من العذاب، { ولا يخفف عنهم من عذابها }؛ من عذاب النار طرفة عين. قرأ الحسن: (فيموتون) بالنون ولا يكون حينئذ جوابا للنفي، والمعنى: لا يقضى عليهم ولا يموتون كقوله
ولا يؤذن لهم فيعتذرون
[المرسلات: 36].
قوله تعالى: { كذلك نجزي كل كفور }؛ أي هكذا يجزى في الآخرة كل كفور بنعم الله تعالى. قرأ العامة (نجزي) بالنون ونصب اللام، وقرأ أبو عمرو وحده بضم الياء وفتح الزاي على ما لم يسم فاعله ورفع اللام.
[35.37]
قوله تعالى: { وهم يصطرخون فيها }؛ أي يستغيثون في النار وهو افتعال من الصراخ يقولون: { ربنآ أخرجنا }؛ من النار، { نعمل صالحا }؛ أي بقول لا إله إلا الله، وقوله تعالى: { غير الذي كنا نعمل }؛ أي غير الشرك. فوبخهم الله تعالى فقال: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } ، معناه: أولم نعمركم مقدار ما يتعظ فيه من كان يريد أن يتعظ ويؤمن. قال عطاء: (يريد ثمانية عشر سنة)، وقال الحسن: (أربعين سنة)، وقال ابن عباس: (ستين سنة).
قال: (هو العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من عمره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر "
). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك "
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" منزل منايا أمتي ما بين الستين إلى السبعين ".
قوله تعالى: { وجآءكم النذير }؛ قال جمهور المفسرين: يريد النبي صلى الله عليه وسلم. وروي عن عكرمة وسفيان بن عيينة: (المراد من النذير الشيب) ومعناه: أولم نعمركم حتى شبتم؟. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أناف سنه على أربعين سنة ولم تغلب حسناته على سيئاته فليتجهز إلى النار ".
قوله تعالى: { فذوقوا فما للظالمين من نصير }؛ أي فذوقوا العذاب فما للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب.
[35.38]
قوله تعالى: { إن الله عالم غيب السموت والأرض إنه عليم بذات الصدور }؛ أي عالم سر أهل السماوات والأرض، إنه عليم بما في القلوب من الخير والشر.
[35.39-40]
قوله تعالى: { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض }؛ أي جعلكم خلفاء عن من كان قبلكم أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن، { فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا }؛ أي إلا نقصا، { قل أرأيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموت أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه }؛ أي خبروني عن شركائكم الذين أشركتموهم مع الله في العبادة؛ بأي شيء أوجبتهم لهم شركاء مع الله تعالى؟ بخلق خلقوه من الأرض؛ أم لهم نصيب في خلق السماوات؛ أم أعطيناهم كتابا فيه ما يدعونه فهم على بينة منه. قوله تعالى: { بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا }؛ ولكن ما يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا خداعا وأباطيل.
[35.41]
قوله تعالى: { إن الله يمسك السموت والأرض أن تزولا }؛ أي منعهما من الزوال والذهاب، { ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده }؛ أي ولو زالتا عن أماكنها لم يمسكهما أحد غير الله. قوله تعالى: { إنه كان حليما غفورا }؛ أي حليما عن مقالة الكفار، غفورا لمن تاب منهم، والحكيم هو القادر الذي لا يعجل بالعقوبة، والغفور كثير الغفران.
[35.42-43]
قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد أيمانهم }؛ أي حلف كفار مكة بالله غاية أيمانهم قبل أن يأتيهم محمدا صلى الله عليه وسلم، { لئن جآءهم نذير }؛ أي رسول، { ليكونن أهدى من إحدى الأمم }؛ أي ليكونن أسرع إجابة وأصوب دينا من إحدى الأمم، اليهود والنصارى والصابئين وغيرهم، { فلما جآءهم نذير }؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، { ما زادهم إلا نفورا }؛ عن الحق وتباعدا عن الهدى، وقوله تعالى: { استكبارا في الأرض }؛ منصوب على أنه مفعول له (أي ما زادهم إلا نفورا). الاستكبار في الأرض عتوا على الله وتكبرا عن الإيمان، وقيل: على البدل من قوله (نفورا). وقيل: على المصدر.
وقوله تعالى: { ومكر السيىء }؛ أي القصد أي الإضرار بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حيث لا يشعرون. قوله تعالى: { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله }؛ أي لا يحيق ضرر المكر السي إلا بفاعله، فقتلوا يوم بدر، والمكر السيء هو العمل القبيح، وقوله تعالى { ولا يحيق } أي ولا يحل ولا ينزل إلا بأهله.
قوله تعالى: { فهل ينظرون إلا سنت الأولين }؛ أي ما ينظر أهل مكة إلا أن ينزل بهم العذاب مثل ما نزل بمن قبلهم من الأمم السالفة المكذبة. قوله تعالى: { فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا }؛ أي لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم إلى غيرهم.
[35.44]
قوله تعالى: { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } معناه: أولم يسافروا في الأرض فينظروا كيف صار آخر أمر الذين من قبلهم عند تكذيبهم الرسل كيف فعل الله بهم؟ { وكانوا أشد منهم }؛ من أهل مكة، { قوة }؛ ومكن لهم ما لم يمكن لهؤلاء. قوله تعالى: { وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض }؛ أي لن يعجزه أحد من الخلق في السماوات ولا في الأرض، { إنه كان عليما قديرا }؛ أي عليما بخلقه، قادرا عليهم.
[35.45]
قوله تعالى: { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة }؛ أي لو يؤاخذهم بما كسبوا من المعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابة، { ولكن يؤخرهم }؛ بفضله، { إلى أجل مسمى }؛ إلى وقت معلوم، { فإذا جآء أجلهم }؛ فإذا جاء ذلك الوقت، { فإن الله كان بعباده بصيرا }؛ يفعل به ما يستحقونه من ثواب وعقاب.
[36 - سورة يس]
[36.1]
{ يس }؛ قال ابن عباس: (يريد: يا إنسان)، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وقال أبو العالية: (يا رجل)، وقال سعيد بن جبير: (يا محمد صلى الله عليه وسلم)، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم بإظهار النون، وقرأ عيسى بن عمر (يس) بالنصب تشبيها بأين وكيف، وقرأ ابن أبي إسحاق (يس) بكسر النون تشبيها بأمس وحذام وقطام، وقرأ هارون الأعور بضم النون تشبيها بمنذ وحيث وقط، وقرأ الآخرون بإخفاء النون.
[36.2-4]
قوله تعالى: { والقرآن الحكيم }؛ أي المحكم من الباطل، وقيل: أحكم بالحلال والحرام والأمر والنهي. قوله تعالى: { إنك لمن المرسلين } وذلك أن كفار مكة قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: لست مرسلا، فأقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم إنك مرسل. قوله تعالى: { على صراط مستقيم }؛ يعني دين الإسلام وطريق الأنبياء عليهم السلام الذين مضوا قبلك.
[36.5]
قوله تعالى: { تنزيل العزيز الرحيم }؛ أي هو تنزيل العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه، قال مقاتل: (معناه: هذا القرآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم). وقول ابن عامر وأهل الكوفة (تنزيل) بالنصب على المصدر، كأنه قال: ونزل تنزيلا.
[36.6]
قوله تعالى: { لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم }؛ متصل بقوله { إنك لمن المرسلين } لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم؛ أي لتنذر قوما لم يأتهم نذير قبلك؛ لأنهم كانوا في الفترة وهو معنى قوله: { فهم غافلون }؛ أي عن حجج التوحيد وأدلة البعث، وقيل: { فهم غافلون } عن أمر الآخرة.
[36.7]
قوله تعالى: { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون }؛ أي لقد حقت كلمة العذاب على أهل مكة لكثرة كفرهم فهم لا يصدقون، وهذا إخبار عن علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون، فقتلوا يوم بدر على الكفر.
[36.8-9]
قوله تعالى: { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا }؛ أي في أعناقهم وأيمانهم أغلالا، ولم يذكر الأيمان في الآية لأن الكلام دليل عليه؛ لأن الغلة لا يكون في العنق دون اليد، ولا في اليد دون العنق، وإنما تغل الأيدي إلى الأعناق. وقوله تعالى: { فهى إلى الأذقان }؛ كناية عن الأيدي دون الأغلال، وقوله تعالى: { فهم مقمحون }؛ أي رافعوا رؤوسهم، والمقمح: الرافع رأسه الغاض بصره.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فروي عن ابن عباس: (أن الآية نزلت في قوم من الكفار فيهم أبو جهل، تواطؤا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأوه يصلي، وحلف أبو جهل أنه إذا رآه يصلي ليدمغنه بالحجر، فأتوه يوما وهو يصلي، فجاءه أبو جهل ومعه الحجر، فرفع الحجر ليدمغن به النبي صلى الله عليه وسلم فيبست يده إلى عنقه والتزق الحجر إلى يده، فلما رجع إلى أصحابه خلصوا الحجر، فأخبرهم بأمر الحجر، فقال رجل من بني مغيرة: أنا أقتله! وأخذ الحجر ودنا من النبي صلى الله عليه وسلم، فطمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمع قراءته).
فذلك قوله تعالى: { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون }؛ أي جعلنا من بين أيديهم غطاء وسدا ومن خلفهم كذلك فأغشينا أبصارهم حتى لم يروا.
قال الفراء: (معنى أغشينا: ألبسنا أبصارهم غشوة أي عمى)، وعن ابن خثيم قال: (سمعت عكرمة يقرأ (فأعشيناهم) بالعين المهملة)، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقال الحسن: (هذا على طريق المثل) وذلك أن الله تعالى لما حال بينهم وبين من أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كمن غلت يده إلى عنقه لا يمكنه أن يبسطها إلى شيء، وهو طافح رأسه لا يبصر موضع قدمه، قد سد عليه طريقه في الذهاب والرجوع.
[36.10-11]
قوله تعالى: { وسوآء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }؛ أي من أضله الله هذا الضلال لم ينفعه الإنذار، { إنما تنذر من اتبع الذكر }؛ معناه: إنما ينفع الإنذار من اتبع القرآن، { وخشي الرحمن بالغيب }؛ أي وخاف من الله بحيث لا يراه، { فبشره بمغفرة }؛ لذنوبه، { وأجر كريم }؛ وثواب حسن في الجنة.
[36.12]
قوله تعالى: { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا }؛ أي ما أسلفوا من الخير والشر، وقوله تعالى: { وآثارهم }؛ أي خطاهم، فإن كل خطوة في الطاعة طاعة، وكل خطوة في المعصية معصية. وقيل: معنى { وآثارهم } أي ما استن به من بعدهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
قوله تعالى: { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين }؛ أي وكل شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ. وقيل: أراد بالإمام المبين: الصحائف التي يكتبها الملائكة، وسمي الإمام مبينا لأنه لا يندرس أثر مكتوبه.
[36.13-14]
قوله تعالى: { واضرب لهم مثلا }؛ أي مثل لأهل مكة مثل، { أصحاب القرية }؛ يعني إنطاكية؛ { إذ جآءها المرسلون } ، رسل الله تعالى، { إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنآ إليكم مرسلون }.
وذلك أن عيسى عليه السلام أرسل إلى أهل إنطاكية رسولين من الحواريين ليدعوهم إلى عبادة الله تعالى. وإنما أضيف الإرسال في الآية إلى الله تعالى لأن إرساله كان بأمر الله تعالى.
[36.15-27]
قوله تعالى: { قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون * وما علينآ إلا البلاغ المبين * قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون }
والقصة: أن عيسى عليه السلام لما بعث الرسولين إلى أنطاكية وقربا من المدينة، وجدا شيخا كبيرا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسلما عليه، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى عليه السلام ندعوكم إلى عبادة الله تعالى، قال: هل معكما آية؟ قالا: نعم؛ نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى. فقال الشيخ: إن لي إبنا مريضا صاحب فراش منذ سنين، قالا: فانطلق بنا إليه.
فانطلق بهما إليه، فمسحا ابنه فقام من ساعته صحيحا بإذن الله تعالى. ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى، وآمن حبيب النجار، وجعل يعبد الله تعالى في غار جبل في أبعد أطراف المدينة.
فسمع الملك بخبر هذين الرسولين، وكان يعبد الأصنام، فدعا لهما فأتياه، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى عليه السلام ندعوك إلى عبادة الله تعالى، قال: وما آيتكما؟ فقالا: نبرئ الأكمه والأبرص، فغضب الملك وأمر بهما فحبسا، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة.
فلما كذب الرسولان، بعث عيسى رسولا ثالثا يقال له: شمعون المصفي على إثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلد متنكرا، وجعل يعاشر حاشيته حتى أفشوا به، فرفع خبره الى الملك فدعاه فأكرمه وأنس به. فقال له ذات يوم: أيها الملك؛ بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعياك الى دين غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ قال: لا، قال: فإن رأى الملك أن يدعوهما ويسمع قولهما حتى يطلع على ما عندهما.
فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك. فقال لهما شمعون: صفاه وأوجزا، فقالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شمعون: وما آيتكما؟ قالا: ما تتمناه.
فأمر الملك حتى جاؤا بغلام مطموس العينين، موضع العينين كل لجهة، فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر، ثم أخذا بندوقتين فوضعتا في الحدقتين، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فعجب الملك من ذلك.
فقال شمعون للملك: إن سألت إلهك أن يصنع مثل هذا، فصنعه كان لك ولآلهتك الشرف. فقال الملك: ليس لي عنك سر أسره إليك: إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع.
ثم قال للمرسولين: إن هنا ميتا مات منذ سبعة أيام، فلم أدفنه وأخرته حتى يرجع أبوه، وكان أبوه غائبا، فإن قدر إلهكما على إحيائه آمنت به.
قالا: إن إلهنا قادر على كل شيء، ثم جعلا يدعوان الله علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سرا، فقام الميت حيا بإذن الله تعالى، وقد تغير وانتن وهو يقول: أيها الملك إني مت منذ سبعة أيام، ووجدت مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار، فأنا أحذركم ما أنتم عليه، فآمنوا بالله واتبعوا هؤلاء الثلاثة.
فقال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار الى الرسولين. فتعجب الملك من ذلك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل. فبلغ ذلك حبيبا النجار وهو على باب المدينة الأقصى.
وقيل: إن الملك قال لهم: إنكم توافقتم على هذا الكلام، ثم أمر بهم فأخذوا ونتفت حواجبهم وشعور أعينهم، وطيف بهم، فلما سمع حبيب النجار ذلك أقبل من أبعد أطراف المدينة يسعى؛ أي يعدو لينصر الرسل ويذكرهم ويدعو إلى طاعة المرسلين، وذلك:
قوله تعالى: { وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يقوم اتبعوا المرسلين }؛ وقال حبيب للرسل: أتريدون أجرا على ما جئتم به؟ قالوا: لا، فقال لقومه: { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون }؛ أي مصيبون في مقالتهم، فقالوا له: صبوت إليهم يا حبيب ودخلت في دينهم؟ فقال: { وما لي لا أعبد الذي فطرني }؛ أي أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي، { وإليه ترجعون } ، أي إليه ترجعون عند البعث فيجزيكم بكفركم.
ثم إن أهل المدينة قالوا: ليس الرسل بأولى بالنبوة منا فيما تقولون، قالوا: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين، أي ليس علينا إلا التبليغ البين.
فقال القوم للرسل: إنا تطيرنا بكم، أي تشاءمنا منكم، وقد كان حبس عنهم المطر، فقالوا ما أصابنا هذا الشر إلا من قبلكم { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } أي لئن لم تنتهوا من مقالتكم هذه لنقتلنكم رجما وليمسنكم منا عذاب، يعنون القتل والضرب.
فقالت لهم الرسل: { طائركم معكم } أي شؤمكم معكم وهو كفركم بالله تعالى. قوله تعالى: { أئن ذكرتم } معناه لئن وعظتم بمواعظ الله تشاءمتم بنا بما لا يوجب التشاؤم ولكن أنتم قوم مسرفون، متجاوزون عن الحد في الذنب والمعصية.
قوله تعالى: { وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى } يعني حبيبا النجار (قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) أي من لا يسألكم أموالكم على ما جاءكم به من الهدى، فقالوا له: أتبعتهم أنت يا حبيب؟ قال: نعم (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) في الآخرة.
ثم أنكر عليهم اتخاذ الأصنام وعبادتها، فقال: { أأتخذ من دونه آلهة } ، كما اتخذتم، { إن يردن الرحمن بضر } ، في جسدي أو في معيشتي، { لا تغن عني } ، لا تنفع عني، { شفاعتهم شيئا } ، يعني لا شفاعة لها، { ولا ينقذون }؛ أي ولا يخلصون من ذلك المكروه ولا من عذاب الله، قوله تعالى: { إني إذا لفي ضلال مبين } ، إن عبدت غير الله كنت إذا في الخاطئين، { إني آمنت بربكم فاسمعون }؛ مقالتي.
وقيل: إن قوله { إني آمنت بربكم } خطاب المرسل، قال لهم اسمعوا كلامي لتشهدوا لي به في الآخرة، فلما قال هذا وثب عليه قومه وثبة رجل واحد فقتلوه، قال ابن مسعود: (ووطؤه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، فأدخله الله الجنة فهو حي فيها يرزق)، وذلك قوله تعالى: { قيل ادخل الجنة }؛ فلما دخلها، { قال يليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين }؛ تمنى أن يعلموا أن الله غفر له ليرغبوا في دين الرسل، والمعنى: يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إياي بإدخاله لي الجنة.
[36.28-29]
قوله تعالى: { ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين }؛ وذلك أنهم لما قتلوه وغضب الله عليهم وعجل لهم العذاب، ومعنى الآية: وما أنزلنا على قوم حبيب بإهلاكهم من جند من السماء يعني الملائكة؛ أي لم تنتصر منهم بجند من السماء، { وما كنا منزلين } ولا كنا ننزل ذلك بمن قبلهم من الأمم إذا أهلكناهم.
ثم بين الله تعالى كيف كانت عقوبتهم وعذابهم فقال تعالى: { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون }؛ أي ميتون لا يتحرك منهم أحد. قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة، فتطايرت قلوبهم فإذا هم ميتون، ولم يسمع لهم حس، كالنار إذا طفئت.
[36.30]
قوله تعالى: { يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون }؛ قال مقاتل: (يا ندامة عليهم في الآخرة باستهزائهم بالرسل في الدنيا). والحسرة: أن يركب الإنسان من شدة اللوم ما لا نهاية بعده حتى يبقى قلبه حسيرا، والعرب إذا دعت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب، تقول: يا رجلا كريما أقبل. ثم بين الله تعالى سبب الحسرة فقال: { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون }.
[36.31]
قوله تعالى: { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون }؛ معناه: ألم ير أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من الأمم الماضية فخافوا أن يعجل لهم في الدنيا مثل ما عجل لغيرهم وهم يعلمون أنهم لا يعادون إلى الدنيا أبدا.
[36.32-34]
قوله تعالى: { وإن كل لما جميع لدينا محضرون }؛ أي وما كل منهم إلا لدينا محضرون في أرض المحشر للحساب والجزاء، هذا على قراءة من قرأ (لما جميعا) بالتشديد, وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة، وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن (ما) صلة مؤكدة، فإن (إن) للإثبات كأنه قال: وإن كل لجميع لدينا محضرون.
ثم وعظ الله كفار مكة ليعتبروا فقال تعالى: { وآية لهم الأرض الميتة أحييناها }؛ أي وعلامة لهم تدلهم على التوحيد والبعث، الأرض الميتة اليابسة التي لا نبات فيها ولا شجر { أحييناها } بإخراج الأشجار والزروع، { وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون } ، ما يقتات من الحبوب جمع الحب، { وجعلنا فيها جنات }؛ أي في الأرض بساتين، { من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون }؛ أي من عيون الماء.
[36.35]
قوله تعالى: { ليأكلوا من ثمره }؛ أي من ثمر النخيل والأعناب على اختلاف طعومها وألوانها، فيستدلوا بذلك على قدرة الله تعالى. قرأ الأعمش (ثمره) بضم الثاء وسكون الميم, وقرأ طلحة ويحيى وحمزة والكسائي وخلف (ثمره) بضم الثاء والميم، وقرأ الباقون بفتحهما.
قوله تعالى: { وما عملته أيديهم }؛ أي وما عملت أيديهم شيئا مما ذكرناه، وإنما هو من فعلنا، { أفلا يشكرون }؛ نعم الله، ويجوز أن يكون معناه: ليأكلوا من ثمره ومن ثمر ما عملت أيديهم، يعني الغروس والحرث.
قرأ أهل الكوفة (وما عملت) بغير هاء، ويجوز في (ما) ثلاثة أوجه: النفي بمعنى ولم تعمل أيديهم؛ أي وجدوها معمولة فلا صنع لهم فيها، وهذا قول الضحاك ومقاتل. والثاني: أن يكون بمعنى المصدر؛ أي ومن عمل أيديهم. والثالث: بمعنى (الذي) أي ومن الذي عملت أيديهم من الغرس والحرث. ومن قرأ (عملته) بالهاء، فالهاء عائدة على (ما) التي بمعنى الذي.
[36.36]
قوله تعالى: { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون }؛ أي سبحان الذي خلق الأصناف كلها من أجناس الفواكه والحبوب، وأصناف ما تنبت الأرض من الحلو والحامض والأبيض والأحمر وغير ذلك من الطعوم والألوان. وقوله تعالى: { ومن أنفسهم } أي وخلق من أنفسهم الذكران والإناث. وقوله تعالى: { ومما لا يعلمون } أي وخلق في البر والبحر وأجواف السماوات والأرض من جميع الأنواع والأشياء.
[36.37]
قوله تعالى: { وآية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون }؛ أي وعلامة لهم أخرى تدل على قدرتنا، الليل المظلم ينزع منه النهار فإذا هم داخلون في الظلام، وذلك أن الأصل هو الظلمة، والنهار داخل عليها لأن الله خلق الدنيا مظلمة، فإذا طلعت الشمس صارت الدنيا مضيئة تشبه ضوء النهار باللباس، فإذا ذهب الضوء بغروب الشمس كان ذهاب ذلك بمنزلة سلخ جلد الشاة عن الشاة، وسلخ الثوب الرجل عن الرجل، والمعنى: إذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل أن كشفها فأزيل فتظهر الظلمة.
[36.38]
قوله تعالى: { والشمس تجري لمستقر لها }؛ معناه: وآية لهم { والشمس تجري لمستقر لها } أي إلى مستقر لها وهو آخر مدة الدنيا ثم تجري بعدها، ويقال: مستقرها منازلها إذا انتهت الى أقصى منازلها التي لا تجاوزها في الصيف رجعت، ويقال: سمعت منازلها مستقرها، كما يقال في منزل الرجل: هو مستقره، وإن تصرف فيه وتحرك.
وعن أبي ذر قال:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى { والشمس تجري لمستقر لها } قال: " مستقرها تحت العرش "
قوله تعالى: { ذلك تقدير العزيز العليم }؛ أي ذلك الذي سبق ذكره تقدير العزيز في ملكه، العليم الذي لا يخفى عليه شيء. وفي قراءة ابن عباس: (تجري لا مستقر لها) أي لا قرار لها فهي جارية أبدا ما دامت الدنيا.
[36.39]
قوله تعالى: { والقمر قدرناه منازل }؛ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (والقمر) بالرفع عطفا على قوله
والشمس تجري
[يس: 38]، وقيل: على الابتداء، وقرأ الباقون بالنصب على معنى وقدرناه القمر وقدرنا منازل، كما تقول: زيدا ضربته.
والمعنى: قدرنا له منازل ينزل في كل ليلة منزلة، وجملة منازل ثمانية وعشرون، فإذا صار إلى آخر منزله وهي ليلة ثمان وعشرين، { حتى عاد كالعرجون القديم }؛ وهو عذق النخلة الذي فيه الشماريخ إذا يبس، ولأن العذق إذا مضت عليه الأيام جف وتقوس ويبس ودق واصفر وصار شبه الأشياء بالقمر في أول الشهر، وآخره، لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى.
[36.40]
قوله تعالى: { لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر }؛ يعني أن الشمس أبطأ مسيرا من القمر فلا تدركه، وذلك أن الشمس تقطع منازلها في سنة، والقمر يقطع منازله في شهر، وهما مسخران مقهوران على ما ذكرهما الله تعالى.
ويقال معنى قوله: { لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر } أي لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، كلاهما يسيران دائبين، ولكل حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك، فإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله تعالى: { ولا اليل سابق النهار }؛ أي لا تتأخر الشمس عن مجراها، فتسبق ظلمة الليل في وقت النهار.
قوله تعالى: { وكل في فلك يسبحون }؛ أي كل من الشمس والقمر والنجوم الغاربة والطالعة في فلك يسيرون ويجرون بالأبساط. والفلك: هو مواضع النجوم من الهواء؛ أي الذي يجري فيه، سمي بهذا الاسم لأنه يدور بالنجوم، ومنه فلكة المغزل لأنها تدور بالمغزل.
[36.41-42]
قوله تعالى: { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون }؛ معناه: وآية لهم أخرى يعني أهل مكة تدلهم على توحيد الله تعالى: أنا حملنا ذريتهم في السفينة المملوءة، وهي سفينة نوح عليه السلام، وذريته في كلام العرب: الآباء والأبناء والأجداد. قوله تعالى: { وخلقنا لهم من مثله ما يركبون }؛ أي وخلقنا لهم مثل سفينة نوح عليه السلام ما يركبون فيه على البحر، يعني السفن التي عملت بعد سفينة نوح عليه السلام على هيأتها وصورتها.
[36.43-44]
قوله تعالى: { وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم }؛ أي أن الله سبحانه وتعالى ذكر تفضله أنه يحفظهم، ولو شاء أغرقهم فلم يغنهم أحد ولم ينقذهم من الغرق، ومعنى قوله تعالى: { فلا صريخ لهم } أي فلا مغيث لهم، { ولا هم ينقذون }؛ من المكروه والغرق.
والصريخ: بمعنى الصارخ لهم بالاستغاثة. وقيل: الصريخ المعين على الصراخ، كأنه قال: فلا معين لهم { ولا هم ينقذون } أي ولا هم يخلصون من الغرق، { إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين } ، إلا أن تداركهم رحمة الله فتنقذهم إلى حين آجالهم.
[36.45-46]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم }؛ أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار اتقوا ما بين أيديكم من أمر الآخرة فاعملوا لها، وما خلفكم من أمر الدنيا. فاحذروهم ولا تغتروا بها، { لعلكم ترحمون }؛ أي لتكونوا على رجاء الرحمة من الله تعالى، وجواب (إذا) محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا أعرضوا. قوله تعالى: { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم }؛ من عبرة ودلالة تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم { إلا كانوا عنها معرضين }.
[36.47]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه }؛ قال مقاتل: (وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على الفقراء والمساكين ما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوه من حروثهم وأنعامهم لله، فقال الكفار: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ورزقه).
قال الحسن: (كان أهل الجاهلية أهل إجبار، فقالوا: لم يشأ الله أن نطعمه، ولو شاء الله لأطعمناه). ويقال لهم: ظنوا بجهلهم أنه تعالى إذا كان قادرا على أن يطعمهم فيغنيهم عن إنفاق الناس، وهذا القول منهم خطأ؛ لأن الله تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ليبلي الغني بالفقير فيما فرض له في ماله من الزكاة، والمؤمن لا يعترض على المشيئة، وإنما يوافق الأمر. وقوله تعالى: { إن أنتم إلا في ضلال مبين }؛ هذا من قول الكفار للمؤمنين، يقولون لهم: إن أنتم في اتباعكم محمدا صلى الله عليه وسلم وترك ديننا إلا في خطأ بين.
[36.48]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين }؛ أي يقول كفار مكة: متى هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد صلى الله عليه وسلم من القيام إن كنتم صادقين أنت وأصحابك أنا نبعث بعد الموت فأروني ذلك.
[36.49]
يقول الله تعالى: { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون } قال ابن عباس: (يعني النفخة التي تفجرهم وهم يخصمون في أمر الدنيا وفي مصرفاتهم)، والمعنى: تأخذهم الصيحة وهم يختصمون في البيع والشراء ويتكلمون في الأسواق والمجالس، وهي نفخة إسرافيل.
قيل: قرأ ابن كثير وورش (يخصمون) بفتح الخاء وتشديد الصاد، وقرأ نافع غير ورش ساكنة الخاء مشددة الصاد، وقرأ أبو عمرو بالإخفاء، وقرأ حمزة ساكنة الخاء مخففة؛ أي فغلب بعضهم بعضا بالخصام، وأجود القراءة فتح الخاء مع تشديد الصاد، ولأن الأصل يختصمون فألقيت حركة ألف المدغم على الساكن الذي قبله وهو الخاء، وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد.
[36.50]
قوله تعالى: { فلا يستطيعون توصية }؛ أي فلا يستطيع أحد أن يوصي في شيء من أمره، { ولا إلى أهلهم يرجعون }؛ أي ولا يلبث أحد أن يصير إلى منزله وأهله؛ لأنها تأخذهم بغتة فيموتون في مكانهم وفي أسواقهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والذي نفسي بيده لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا جديدا يريد أحدهما أن يدفعه إلى صاحبه فيحول قيام الساعة بينه وبين تسليمه إلى صاحبه، والذي نفسي بيده لتقومن الساعة وقد أهوى الرجل بلقمة ليضعها في فيه فيحول قيام الساعة بينه وبين وصولها إلى فيه ".
[36.51]
قوله تعالى: { ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون }؛ أي ونفخ في الصور نفخة البعث، فإذا هم من القبور الى عرصات القيامة يخرجون مسرعين، والنسلان مقاربة الخطو مع الإسراع، ومنه نسلان الذئب وهو هرولته وخببه، والأجداث هو القبور.
[36.52]
قوله تعالى: { قالوا يويلنا من بعثنا من مرقدنا }؛ قال المفسرون: إنما يقولون هذا؛ لأن الله يرفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون، فلما بعثوا في النفخة الآخرة وعاينوا القيامة ودعوا بالويل والثبور، فقالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيقول الملائكة: { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون }؛ على ألسنة الرسل أنه يبعثكم بعد الموت في موعد البعث.
وقال قتادة: (أول الآية للكافرين وآخرها للمؤمنين، فقال الكافر: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، وقال المسلم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون). ويجوز أن يكون قوله هذا من نعت المرقد، كأنهم يقولون: من بعثنا من مرقدنا هذا الذي كنا راقدين فيه؟ فيقال لهم: ما وعد الرحمن الذي بعثكم. ويجوز أن يكون ما وعد الرحمن على هذا القول خبر مبتدأ محذوف تقديره: حق ما وعد الرحمن، وهذا ما وعد الرحمن.
[36.53]
قوله تعالى: { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون }؛ هذا في النفخة الثانية؛ أي ما كانت نفخة البعث إلا صيحة واحدة لا تثنى، فإذا هم الأولون والآخرون في عرصات القيامة محضرون، فإهلاكهم كان صيحة واحدة، وبعث الخلائق كلهم كان صيحة واحدة.
[36.54]
قوله تعالى: { فاليوم لا تظلم نفس شيئا }؛ أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد على سيئات أحد، { ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } ، ولا يجزى كل عامل إلا ما عمل من خير أو شر.
[36.55]
قوله تعالى: { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون }؛ معناه: إن أصحاب الجنة في الآخرة في شغل فاكهون. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بجزم الغين، وقرأ الباقون (في شغل) بضم الغين، وهما لغتان مثل: السحت والسحت.
واختلف المفسرون في شغلهم، قال مقاتل: (شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النار فلا يذكرونهم ولا يهتمون بهم). وقال الحسن: (شغلوا بما في الجنة من النعم عن ما فيه أهل النار من العذاب).
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا "
قوله تعالى: { فاكهون } أي أصحاب فاكهة، كما يقال: شاحم لاحم؛ أي ذو شحم ولحم، وعاسل ذو عسل، وقرأ أبو جعفر (فكهون) بغير ألف، والفكه: الفرح الضحوك، الطيب النفس، ويقال: فاكه وفكه كحاذر وحذر.
[36.56-57]
قوله تعالى: { هم وأزواجهم في ظلال }؛ أي هم وحلائلهم في ظلال أشجار الجنة، { على الأرآئك متكئون } ، على السرر في الحجال جالسون بالاتكاء جلسة الملوك. والأرائك: هي السرر عليها الحجال، وقوله تعالى: { لهم فيها فاكهة }؛ أي لهم في الجنة ألوان الفواكه، { ولهم ما يدعون }؛ أي ولهم ما يتمنون ويسألون، وقال مقاتل: (معناه: ولهم ما يريدون). وقيل: معناه: من ادعى شيئا فهو له يحكم الله عز وجل لأنهم ما يدعون إلا ما يحسن.
[36.58]
قوله تعالى: { سلام قولا من رب رحيم }؛ أي لهم سلام يسمعونه من الله، ويعلمهم بدوام الأمن والسلامة مع سبوغ النعمة والكرامة. ويقال: تحييهم الملائكة عن الله تعالى، كما قال الله تعالى:
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم
[الرعد: 23-24].
وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بينما أهل الجنة في نعيمهم إذا سطع لهم نور، فيرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله تعالى: { سلام قولا من رب رحيم } فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتوا إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ".
[36.59]
قوله تعالى: { وامتازوا اليوم أيها المجرمون }؛ عناه: تفرقوا، وقال السدي: معناه: (كونوا على حدة)، ومقاتل: (معناه: اعتزلوا اليوم يعني في الآخرة من الصالحين). وقال الزجاج: (معناه: تفردوا عن المؤمنين). ومعنى الآية: أنه يقال للمجرمين: تميزوا عن المؤمنين، وذلك أن الخلق كلهم يحشرون مختلطين.
[36.60-61]
قوله تعالى: { ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان }؛ أي ألم آمركم وأوص إليكم، وقال الزجاج: (معناه: ألم أقدم لكم على ألسنة الرسل يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان، أي لا تطيعوا الشيطان، ومن أطاع شيئا فقد عبده).
قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }؛ أي عدو ظاهر العداوة، أخرج أبويكم من الجنة، { وأن اعبدوني }؛ أي أطيعوني ووحدوني، { هذا صراط مستقيم }؛ أي طريق مستقيم قائم، يعني دين الإسلام.
[36.62]
قوله تعالى: { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا }؛ أي ولقد أضل الشيطان منكم أمما كثيرة، وقيل: خلقا كثيرا.
قرأ علي رضي الله عنه (جبلا كثيرا) بسكون الباء مخففا، وقرأ عاصم ونافع وأيوب: (جبلا) بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. وقرأ يعقوب بضم الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو: (جبلا) بضم الجيم وسكون الباء مخففا، وقرأ الباقون بضم الجيم والباء وتخفيف اللام. وكلها لغات، ومعناها الخلق والجماعة.
وقوله تعالى: { أفلم تكونوا تعقلون }؛ أي أفلم تعقلوا ما رأيتم من الأمم إذ أطاعوا إبليس وعصوا الرسول فأهلكوا.
[36.63-64]
قوله تعالى: { هذه جهنم التي كنتم توعدون }؛ أي يقال لهم حين دنوا من النار: { هذه جهنم التي كنتم توعدون } بها في الدنيا. قوله تعالى: { اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون }؛ أي إلزموها اليوم بكفركم، وقاسوا حرها، وقوله تعالى { اليوم } يعني يوم القيامة.
[36.65]
قوله تعالى: { اليوم نختم على أفواههم }؛ وذلك أنهم ينكرون الشرك فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم، { وتكلمنآ أيديهم }؛ وتكلمت جوارحهم فشهدت عليهم بما عملوا، وقوله تعالى: { وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون }؛ قال عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أول عظم ينطق من الإنسان فخذه من رجله الشمال "
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أول ما تكلم من الإنسان فخذه وكفه ".
[36.66]
قوله تعالى: { ولو نشآء لطمسنا على أعينهم }؛ أي ولو نشاء ذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شقا ولا جفنا، والمعنى: ولو نشاء لأعميناهم في أسواقهم ومجالسهم بتكذيبهم إياك يا محمد كما فعلنا بقوم لوط حين راودوه عن ضيفه. وقوله تعالى: { فاستبقوا الصراط }؛ فغلبوا السبق وتبادروا إلى الطريق إلى منازلهم، { فأنى يبصرون }؛ لو فعلنا ذلك بهم.
[36.67]
قوله تعالى: { ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم }؛ أي في منازلهم فصيرناهم قردة وخنازير وحجارة ليس فيها روح، { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون }؛ أي لا يقدرون على ذهاب ومجيء، والمسخ في اللغة نهاية التبديل.
[36.68]
قوله تعالى: { ومن نعمره ننكسه في الخلق }؛ أي ومن نطول عمره في الدنيا نرده إلى الحالة الأولى من الضعف، قال الزجاج: (معناه: من أطلنا عمره نكسنا خلقه، فصار بدل القوة ضعفا، وبدل الشباب هرما) { أفلا يعقلون }؛ أن القادر على رد البشر من حالة القوة والكمال؛ أي حال الضعف وزوال العقل، قادر على إعادة الخلق بعد الموت.
ومن قرأ (تعقلون) بالتاء فهو على مخاطبة الكفار. قرأ عاصم وحمزة والأعمش: (ننكسه) بالتشديد، وقرأ غيرهم بالتخفيف وفتح النون.
[36.69-70]
قوله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }؛ إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه شاعر، وإن القرآن شعر، فأكذبهم الله بقوله تعالى { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } أي وما يتسهل له ذلك، وما كان يتزن له بيت شعر جرى على لسانه منكرا.
قال الحكيم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول العباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العب
د بين الأقرع وعيينة
قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو بين عيينة والأقرع، فقام إليه أبو بكر وقبل رأسه وقال: صدق الله { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }.
وعن الحسن رضي الله عنه:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: " كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا " فقال أبو بكر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال الشاعر (كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا) فقال عمر رضي الله عنه: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } ".
وعن عائشة رضي الله عنها؛
" أنها سئلت هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه، ولم يتمثل بيتا من الشعر إلا بيت طرفة: " ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزود بالأخبار ". فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا يا رسول الله، إنما هو: ويأتيك بالأخبار من لم تزود، فقال: " إني لست بشاعر وما ينبغي لي الشعر " ".
قوله تعالى: { إن هو إلا ذكر وقرآن مبين }؛ أي ما القرآن إلا ذكر وموعظة، فيه الفرائض والحدود والأحكام، { لينذر من كان حيا }؛ قرأ نافع وابن عامر بالتاء، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ الباقون بالياء، يعني لينذر القرآن من كان حيا، يعني مؤمنا حي القلب، لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر، { ويحق القول على الكافرين }؛ أي وتجب الحجة بالقرآن على الكافرين.
[36.71]
قوله تعالى: { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون }؛ معناه: أولم يشاهدوا أنا خلقنا لهم مما تولينا خلقه بإيداعنا وإنشائنا؟ لم يشاركنا في خلق ذلك شريك ولا معين. وذكر الأيدي ها هنا يدل على انفراده بما خلق، والمعنى أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملناه بقدرتنا؟ لا مما عملته أيدي مالكيها أنعاما وهو الإبل والبقر والغنم لها مالكون وضابطون، قاهرون لها يصرفونها كيف يشاوؤن، واليد تذكر ويراد بها القدرة وإظهار صنعه.
[36.72]
قوله تعالى: { وذللناها لهم }؛ أي لم يخلق الأنعام نافرة من بني آدم ولا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم، والمعنى: وسخرناها لهم مع قوتها وضعفهم، { فمنها ركوبهم }؛ أي مركوبهم، { ومنها يأكلون }؛ من لحومها، فقوله { فمنها ركوبهم } يعني الإبل، قال عروة: (في مصحف عائشة رضي الله عنها (ركوبتهم)) والركوب والركوبة واحد، مثل الحمول والحمولة، يقال: هذه الجمال ركوبة القوم وركوبتهم، وهذه النوق حلوبة القوم وحلوبهم.
[36.73-75]
قوله تعالى: { ولهم فيها منافع ومشارب }؛ أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها ومشارب من ألبانها، { أفلا يشكرون }؛ رب هذه النعمة فيوحدونه جميعهم وأفرادهم.
فقال: { واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون }؛ أي عبدوا من دون الله أصناما رجاء أن ينصرونهم ويشفعوا لهم، كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فنفى الله نصرهم بقوله: { لا يستطيعون نصرهم }؛ أي لا تقدر آلهتهم أن تمنعهم من العذاب، { وهم لهم جند محضرون }؛ أي لهم الأصنام كالعبيد للأرباب قيام بين أيديهم ينتصرون بهم، والأصنام لا تقدر على نصرهم ولا نصر أنفسهم. ويجوز أن يكون معناه: والمشركون محضرون من الأصنام في النار توبيخا لهم وتعذيبا للذين كانوا يعبدونهم. وقيل: معناه: إن المشركين ينصرون الأصنام وهي لا تستطيع نصرهم.
[36.76]
قوله تعالى: { فلا يحزنك قولهم }؛ أي لا يحزنك يا محمد قول كفار مكة في تكذيبهم إياك وقولهم إنك شاعر، { إنا نعلم ما يسرون }؛ في نفوسهم من تكذيبهم ومكرهم وخيانتهم، { وما يعلنون }؛ لك من العداوة بألسنتهم. والمعنى: إنا نثبتك ونجازيهم.
[36.77]
قوله تعالى: { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين }؛ يعني
" أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي وجعل يفتته ويذريه في الرياح، ويقول في أصحابه: أيحيي الله هذا العظم بعد ما رم! وبقولهم: إن محمدا يقول إذا متنا وصرنا ترابا نعاد، وتنفخ فينا الروح؛ إن هذا الشيء عجيب! من يقدر أن يحيي العظام وهي رميم؟!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يحيي الله هذا ويميتك ويدخلك النار "
فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: أولم ير الإنسان أنا خلقناه مع الحياة والعقل والحواس من نطفة فبلغناه؛ أي أن صار خصما جدلا ظاهر الخصومة، وهذا تعجيب من جهله وإنكار عليه خصومته؛ أي لا يتفكر بدء خلقه.
[36.78]
قوله تعالى: { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه }؛ أي ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي يفته بيده، ونسي خلقنا إياه وبعد أن لم يكن شيئا حتى صار مخاصما ف { قال من يحيي العظام وهي رميم }؛ أي شيء بال قاس، قدر الله تعالى بقدرة الخلق، فأنكر إحياء العظم البالي ما لم يكن ذلك في مقدور البشر.
[36.79]
قوله تعالى: { قل يحييها الذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم }؛ أي قل لهم يا محمد: الذي خلق من العدم إلى الوجود قادر على الإعادة بعد الممات، وهو عليم بالخلق بعد أن خلقهم.
[36.80-81]
قوله تعالى: { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون }؛ في هذه الآية زيادة بيان عن عجيب صنعه، ومعنى ذلك الزنود التي كانت العرب يورون منها النار، كانوا إذا احتاجوا إلى النار أخذوا غصنا من شجر المرخ وغصنا من شجر العفار وهو الأدين، فضربوا أحدهما بالآخر فخرجت النار، فقيل لهم: إن الذي جمع بين الماء والنار في الشجر الأخضر قادر على تضادهما، لا يطفئ الماء النار، ولا تحرق النار الشجر، قادر على أن يبعثكم ويرد أرواحكم إلى أجسادكم. ويقال: ما من شجرة إلا وفيها نار غير شجرة العناب، ولذلك يختارها القصارون لدق الثياب عليها.
ثم ذكر الله عز وجل: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض } ، ما هو أعظم خلقا من الإنسان فقال: { بقادر على أن يخلق مثلهم }؛ معناه: إن الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمهما وعجائبهما يقدر على إعادة خلق البشر؛ لأن خلق السماوات والأرض وما فيهما أبلغ في القدرة من إحياء الموتى، أفليس القادر عليهما قادر على الإعادة؟ { بلى وهو الخلاق } ، يخلق خلقا بعد خلق، { العليم } ، بجميع ما خلق.
[36.82]
قوله تعالى: { إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }؛ معناه: إنما أمره إذا أراد شيئا من البعث وغيره أن يقول له: كن بغير واسطة. فإن قيل: لم لا ينصب قوله تعالى (فيكون) على جواب الأمر كما يقال: آتني فأكرمك، قلنا: ذاك مستقبل مستحب، الثاني: بوجوب الأدنى، وهذا كائن مع إرادة الله تعالى، فالفعل واجب.
[36.83]
قوله تعالى: { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء }؛ نزه الله تعالى أن يوصف بغير القدرة؛ أي تنزيها للذي له القدرة على كل شيء من أن يوصف بغير القدرة، و { ملكوت كل شيء } أي ملك كل شيء، والقدرة على كل شيء، { وإليه ترجعون }؛ في الآخرة بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-2]
{ والصافات صفا }؛ يعني صفوف الملائكة في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالملائكة التي تصف أنفسها في السماء، قال ابن عباس: (يريد الملائكة صفوفا لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه، لم يلتفت منذ خلق الله عز وجل). وقيل: أقسم الله بصفوف الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمر الله بما يريد. قوله تعالى: { فالزاجرات زجرا }؛ أراد به الملائكة الذين يزجرون السحاب فيسوقونه إلى الموضع الذي أمروا به ويؤلفونه، وقال قتادة: (يعني زواجر القرآن) وهو كل ما ينهى ويزجر عن القبيح.
[37.3-4]
قوله تعالى: { فالتليت ذكرا }؛ يعني جبريل والملائكة يتلون كتاب الله وذكره، وقوله تعالى: { إن إلهكم لواحد }؛ جواب القسم، وإنما وقع القسم بهذه الملائكة؛ لأن في تعظيمها تعظيما لله، وقيل: هذا أقسم بالله تعالى على تقدير: ورب الصافات، إلا أنه حذف لما يقتضي من التعظيم، وكذلك
والذاريات
[الذاريات: 1]
والطور
[الطور: 1]
والنجم
[النجم: 1] وغير ذلك.
وقد تضمنت الآية تشريف الملائكة وتعظيم الاصطفاف في الصلاة، وفي الحديث:
" إنهم يصطفون في صلاتهم في السماء ويسبحون الله تعالى ويذكرونه، ويرفعون أصواتهم بقراءة القرآن في الصلاة كما يصطف الناس في صلاتهم "
قال مقاتل: (وذلك أن كفار قريش قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا، فأقسم الله بهؤلاء أن إلهكم لواحد ليس له شريك).
[37.5]
قوله تعالى: { رب السموت والأرض وما بينهما }؛ أي خالقهما ومشيتهما وتدبر ما بينهما، { ورب المشارق } ، مالك المشارق، وإنما قال ها هنا: (رب المشارق) لأن للشمس ثلاثمائة وستين مشرقا، تطلع كل يوم من مشرق، وتغرب في مغرب، فإذا تحولت السنة عادت إلى المشرق والمغرب، فإنما أراد جانب المشرق وجانب المغرب. وقيل: أراد به الجنس، وقيل: أراد به مشرقها ومغربها في يوم واحد. وأما قوله تعالى:
رب المشرقين
[الرحمن: 17] فقيل: إنما أراد به مشرق الشمس ومشرق القمر. وقيل: أراد بذلك مشرق الشتاء والصيف ومغربها. وشروق الشمس: طلوعها، يقال: شرقت إذا طلعت، وأشرقت اذا أضاءت.
[37.6]
قوله تعالى: { إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب }؛ أي زينا السماء التي هي أدنى إليكم من سائر السماوات بضوء الكواكب ونورها، قرأ أبو بكر (بزينة) بالتنوين ونصب (الكواكب) عمل الزينة في الكواكب؛ أي بأن زينا الكواكب فيها، وقرأ حمزة وحفص (بزينة) بالتنوين وخفض (الكواكب) على البدل؛ أي بزينة بالكواكب، وقرأ البافون بالإضافة.
[37.7]
قوله تعالى: { وحفظا من كل شيطان مارد }؛ أي جعل الكواكب حفظا من كل شيطان متجرد للشر، يقذفون بها إذا استرقوا السمع، والمارد: الخبيث الخالي من الخير، والمارد: هو المتمرد، قال الحسن: (وهذا دليل أنه إنما يرجم بالكواكب بعض الشياطين وهم المردة).
[37.8]
قوله تعالى: { لا يسمعون إلى الملإ الأعلى }؛ كأنه قال: (لا يسمعون) أي لا يسمع مردة الشياطين إلى الملائكة ولا إلى كلامهم، قال الكلبي: (معنى الآية: لكيلا يسمعوا إلى الكتبة من الملائكة). والملأ الأعلى: هم الملائكة؛ لأنهم في السماء، قرأ أهل الكوفة (يسمعون) بالتشديد أي يسمعون.
وقوله تعالى: { ويقذفون من كل جانب }؛ أي يرمون من كل جانب بالشهب، يعني أن الشياطين يرمون بالشهب عند دنوهم من السماء لاستماع كلام الملائكة في تدبر أمور الدنيا. يرمون بالشهب من نواحي السماء وأطرافها.
[37.9]
قوله تعالى: { دحورا ولهم عذاب واصب }؛ أي طردا وإبعادا، يقال: دحره دحرا ودحورا؛ إذا طرده وأبعده، ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب واصب أي دائم لا ينقطع، وقيل: معنى الواصب الموجع، من الوصب وهو الوجع، وقيل: الوجع: معنى الآية: أنهم يدحرون ويبعدون عن تلك المجالس التي يسترقون السمع { ولهم عذاب واصب } أي دائم إلى النفخة الأولى.
[37.10]
قوله تعالى: { إلا من خطف الخطفة }؛ أي إلا من اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة، { فأتبعه شهاب ثاقب }؛ أي لحقه وأصابه نار مضيئة تحرقه، والثاقب: النير المضيء، وهذا قوله إلا من استرق السمع مختلسا. والخطف: أخذ الشيء بسرعة. قوله تعالى: { فأتبعه شهاب ثاقب } أي نجم وهاج متوقد مضيء.
[37.11]
قوله تعالى: { فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ }؛ قبلهم من الأمم الماضية، كانت الأمم الماضية أشد منهم قوة وآثارا في الأرض، فأهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم، فكيف يأمن هؤلاء الهلاك مع إصرارهم على الكفر وهم أضعف ممن قبلهم.
ثم ذكر خلق الإنسان فقال: { إنا خلقناهم من طين لازب }؛ أي خلقنا أصلهم وهو أبو البشر آدم من طين لازب لاصق ثابت، يقال: له ضربة لازب، وضربة لازم، وإذا خلق أصلهم من طين لازم فكيف لا يقرون بقدرة الله تعالى على البعث.
[37.12]
قوله تعالى: { بل عجبت ويسخرون }؛ أي بل عجبت يا محمد من إنكارهم للبعث مع ظهور ما وجب من الحجة والأدلة، ويقال: بل عجب من جهلهم حيث اختاروا ما تجب به النار لهم وتركوا ما يجب لهم به الجنة، وهم يسخرون من بعثتك، ويستهزئون بكلامك بالقرآن.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء، وهي قراءة ابن مسعود على معنى أنهم قد حلوا محل من تعجب منهم، وقال الحسن بن الفضل: العجب من الله على خلاف العجب من الآدميين، وإنما معنى العجب ها هنا هو الإنكار والتعظيم، وقد جاء الخبر:
" أن الله ليعجب من الشاب ليست له صبوة ".
وقيل: إن الجنيد سئل عن هذه الآية فقال: (الله لا يعجب من شيء، ولكن الله وافق رسوله لما عجب رسوله فقال:
وإن تعجب فعجب قولهم
[الرعد: 5] أي هو كما تقوله) قال شريح: (إنما العجب ممن لا يعلم، والله تعالى عنده علم كل شيء).
وقرأ الباقون (بل عجبت) بفتح التاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم. و(بل) معناه: ترك الكلام الأول والآخر في كلام آخر، كأنه قال: دع يا محمد ما مضى عجيب من كفار مكة حين أوحي إليك القرآن ولم يؤمنوا به.
وقوله تعالى { ويسخرون } لأن سخريتهم بالقرآن ترك الإيمان به، قال قتادة: (عجب نبي الله من هذا القرآن حين نزل عليه، وظن أن كل من سمعه آمن به، فلما سمعه المشركون ولم يؤمنوا به وسخروا منه، عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال الله عز وجل: عجبت يا محمد من نزول القرآن عليك وتركهم الإيمان).
[37.13-21]
قوله تعالى: { وإذا ذكروا لا يذكرون }؛ وإذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون، { وإذا رأوا آية يستسخرون }؛ إذا رأوا معجزة مثل انشقاق القمر وغيره اتخذوه سخرية، ونسبوا ما دلهم على توحيد الله تعالى إلى السحر، { وقالوا إن هذآ إلا سحر مبين }. وقالوا أيضا على وجه الإنكار: { أءذا متنا وكنا }؛ صرنا؛ { ترابا وعظاما }؛ بالية، { أءنا لمبعوثون }؛ أي أنبعث بعد الموت، { أو آبآؤنا الأولون }؛ الذين مضوا قبلنا، { قل }؛ لهم يا محمد: { نعم }؛ تبعثون { وأنتم داخرون }؛ أنتم وآباؤكم؛ أي وأنتم أذلاء صاغرون، والدخور أشد الذل.
ثم ذكر أن بعثهم يقع بزجرة واحدة؛ أي بصيحة واحدة، فإذا هم قيام ينظرون ماذا يؤمرون به، وقوله تعالى: { فإنما هي زجرة واحدة }؛ أي فإنما قضية البعث صيحة واحدة من إسرافيل، يعني نفخة البعث، { فإذا هم ينظرون }؛ أي بعث الذي كذبوا به.
فلما عاينوا البعث ذكروا قول الرسل في الدنيا أن البعث حق، فدعوا بالويل، { وقالوا يويلنا }؛ من العذاب، { هذا يوم الدين }؛ أي هذا يوم الحساب والجزاء نجازى فيه بأعمالنا. فقالت الملائكة: { هذا يوم الفصل }؛ يوم القضاء، { الذي كنتم به تكذبون }؛ يفصل به بين المسيء والمحسن، والمحق والمبطل، وهو اليوم الذي كنتم به تكذبون في الدنيا.
[37.22-26]
قوله تعالى: { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم }؛ أي فيقال لخزنة جهنم: اجمعوا الذين ظلموا وقرناءهم من الشياطين الذين قبضوا لضلالتهم، ويقال: أراد بالأزواج نظراءهم وأشكالهم من الأتباع، والزوج في اللغة: النظير، ومن ذلك: زوجان من الخف. ويقال: أراد بالأزواج نساءهم، سواءا أكانت امرأة الكافر كافرة أو منافقة، والمعنى: اجمعوا الذين ظلموا من حيث هم إلى الوقف للجزاء والحساب، والمراد بالذين ظلموا المشركين.
قوله تعالى: { وما كانوا يعبدون * من دون الله }؛ يعني اجمعوا المشركين وأتباعهم وأوثانهم وطواغيتهم وأصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، قال مقاتل: (يعني إبليس وجنوده) فهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، قال الله تعالى:
أن لا تعبدوا الشيطان
[يس: 60]. قوله تعالى: { فاهدوهم إلى صراط الجحيم }؛ أي سوقوهم واذهبوا بهم إلى فريق الجحيم.
فلما انطلق بهم إلى جهنم أرسل ملك يقول لخزنة جهنم: { وقفوهم إنهم مسئولون }؛ أي اسألهم في موضع الحساب، يسألوا ويعرفوا أعمالهم، وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استفهام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنهم مسؤولون عن أعمالهم في الدنيا وأقاويلهم)، وقال مقاتل: (تسألهم خزنة جهنم: ألم يأتكم نذير، ألم يأتكم رسل منكم).
ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد، وهو قوله: { ما لكم لا تناصرون }؛ أي يقال لهم على سبيل التوبيخ: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا.
وذلك أن أبا جهل لعنه الله قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، فقيل لهم ذلك اليوم: ما لكم غير متناصرين، وأنتم زعمتم في الدنيا أنكم تناصرون، فالله تعالى قال: { بل هم اليوم مستسلمون }؛ أي منقادون خاضعون لما يراد بهم، والمعنى: هم اليوم أذلاء منقادون، لا حيلة لهم، فالعابد منهم والمعبود لا يحمل عن أحدهم أحدا ولا يمنع أحد عن أحد.
[37.27-32]
قوله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون }؛ أي أقبل الشياطين والمشركون يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ، { قالوا } ، فيقول المشركون للشياطين: { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين }؛ فتزينوا لنا الضلالة، وتردوننا عن الخير، { قالوا } ، فيقول لهم الشياطين: { بل لم تكونوا مؤمنين }؛ إنما كان الكفر من قبلكم، { وما كان لنا عليكم من سلطان }؛ أي من قوة فنجبركم على الكفر، { بل كنتم قوما طاغين }؛ أي متجاوزين ضالين.
وقال الحسن في معنى الآية: (وأقبل بعضهم على بعض؛ أي أقبل التابعون على المتبوعين من بني آدم، فيقولون: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فيقول لهم الرؤساء: ما أجبرناكم على الكفر بل كفرتم بسوء اختياركم، فيقول لهم التابعون: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين؛ أي من أقوى الجهات، وذلك أن جهة اليمين أقوى من جهة الشمال، كما أن اليمين أقوى من الشمال) وتقديره: خدعتمونا بأقوى الوجوه، واليمين هي القوة، قال الله تعالى:
فراغ عليهم ضربا باليمين
[الصافات: 93] أي بالقوة.
وقال قتادة: (معنى: إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين؛ أي تمنعوننا عن طاعة الله تعالى) فيقول الرؤساء: لم تكونوا مؤمنين في الأصل، إذا لم تكونوا تريدونه، فكيف إجباركم عليه وما كان لنا عليكم من سلطنة الإجبار على الكفر، { فحق علينا قول ربنآ }؛ أي فوجب علينا جميعا كلمة ربنا بالعذاب والسخط، وهي قوله تعالى:
لأملأن جهنم
[الأعراف: 18].
وقوله: { إنا لذآئقون }؛ أي لذائقوا العذاب، فالضال والمضل في النار، وقوله تعالى: { فأغويناكم }؛ أي أضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى الغواية، { إنا كنا غاوين } ، بأنفسنا.
[37.33-37]
يقول الله تعالى: { فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون }؛ أي لا ينفعهم التنازع والتخاصم، وكلا الفريقين مشتركون في العذاب، { إنا كذلك نفعل بالمجرمين }؛ أي هكذا نعاقب المشركين.
وقوله تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون }؛ أي إنهم كانوا يستكبرون عن كلمة التوحيد، { ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا }؛ أنترك آلهتنا وعبادتها، { لشاعر مجنون }؛ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم نسبوه إلى الشعر والجنون.
فأكذبهم الله تعالى بقوله: { بل جآء بالحق وصدق المرسلين }؛ أي ما هو يقول شاعر وما صاحبكم بمجنون { بل جآء بالحق } أي بالقرآن والتوحيد، { وصدق المرسلين } الذين كانوا قبله؛ أي أتى بما أتوا به من الأيمان وقول الحق.
[37.38-45]
قوله تعالى: { إنكم لذآئقو العذاب الأليم }؛ أي يقال لهم: إنكم أيها المشركون لذائقوا العذاب الأليم على شرككم ونسبتكم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشعر والجنون، { وما تجزون }؛ في الآخرة، { إلا ما كنتم تعملون }؛ في الدنيا من الشرك.
ثم استثنى فقال: { إلا عباد الله المخلصين }؛ أي لكن عباد الله الموحدين، فإنهم لا يعذبون، { أولئك لهم رزق معلوم }؛ أي يجزون بالبر ما يستحقون، وقيل: لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا.
وقيل: الرزق المعلوم هو ما ذكره بعد هذا في قوله تعالى { فواكه وهم مكرمون }؛ والفواكه جمع فاكهة، وعلى الثمار كلها رطبها ويابسها، وهم مكرمون بثواب الله تعالى على السرر، { في جنات النعيم * على سرر متقابلين }؛ لا يرى بعضهم قفا بعض، { يطاف عليهم بكأس من معين }؛ أي بآنية مملوءة من الشراب، ولا تسمى الآنية كأسا إلا إذا كان فيها الشراب، والمعين ها هنا الخمر، سميت معينا لأنها تجري هناك على وجه الأرض من العيون كما تجري الماء فيها في غير الأخدود.
[37.46]
قوله تعالى: { بيضآء لذة للشاربين }؛ قال الحسن: (خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، ليست هي على لون خمر الدنيا، ولكنها بيضاء لرقتها ونورها ورونقها وصفائها). وقوله تعالى { لذة للشاربين } أي لذيذة أو ذات لذة، يقال شرب لذ ولذيذ.
[37.47]
قوله تعالى: { لا فيها غول }؛ أي ليس في شربها صداع ولا وجع بطن ولا أذى، ولا تغتال عقولهم فتذهب بها. ويقال للوجع غول لأنه يؤدي إلى الهلاك، وقوله تعالى: { ولا هم عنها ينزفون }؛ أي ولا هم يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف إذا سكر، وقال الكلبي: (يعني لا فيها غول أي إثم، قال الله تعالى:
لا لغو فيها ولا تأثيم
[الطور: 23]). وقال ابن كيسان: (الغول المعصر).
وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق في خفاء، يقال: اغتاله اغتيالا إذا فسد عليه أمر فسد في خفية. وقوله تعالى { ولا هم عنها ينزفون } ، قرأ حمزة والكسائي وخلف بكسر الزاي ها هنا، وفي الواقعة، ومعناه: لا ينفذ شرابهم بل هو دائم لهم أبدا، يقال: نزف الرجل إذا نفذ شرابه، ومن قرأ بفتح الزاي فمعناه: لا يسكرون منها، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف؛ إذا سكر وزال عقله.
[37.48-49]
قوله تعالى: { وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون }؛ أي يعقد لهم مجلس الشراب، ويسقون هذه الكؤوس اللذيذة، وتحضرهم حور عين قاصرات الطرف، قصرت أطرافهن على أزواجهن لا يبتغين بهم بدلا، لا ينظرون إلى غير أزواجهن، والعين جمع العين وهن كبار الأعين وحسانها، وقال الحسن: (اللاتي بياض عينهن في غاية البياض، وسوادها في غاية السواد).
ومعنى الآية: وعندهم حابسات أعينهن الأعين غاضات الجفون قصرن أعينهن عن غير أزواجهن، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهن.
قوله تعالى: { عين } أي كبار الأعين حسانها، واحدتها عيناء يقال: رجل أعين، وامرأة عيناء، ونساء عين. وقوله تعالى: { عين } وامرأة عيناء ونساء عين.
وقوله تعالى { كأنهن بيض مكنون } أي مستور مصون، والبيض مح البيضة، قال الحسن: (يشبهن بيض النعام يكنها الريش من الريح) وهذا من تشبيهات العرب في وصف النساء بالبيض، فشبه الأبياض أبدانهن ببياض البيض المكنون، ويقال: أراد بالبيض المكنون ها هنا البياض الذي في داخل القشر الخارج.
[37.50-60]
قوله تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون }؛ أي يتحدثون في الجنة عن أمور الدنيا، { قال قآئل منهم }؛ في جواب ما يسأل عنه: { إني كان لي قرين }؛ أي كان لي صاحب في الدنيا يقول لي حين صدقت وهو منكر للبعث، { يقول أءنك لمن المصدقين }؛ بالبعث، { أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما }؛ بالية، { أءنا لمدينون }؛ أي لمجزيون محاسبون؟ وهذا استفهام إنكار، والدين: الحساب والجزاء، كأنه يقول: إن هذا الأمر ليس بكائن. { قال هل أنتم مطلعون } ، قال قائل من أهل الجنة لأصحابه: هل تطلعون على النار وعلى أهلها فتنظرون إلى هذا الذي كان قرينا لي وتعرفون حاله، فاطلع هو بنفسه على النار وأهلها فرأى قرينه في وسط الجحيم يعذب بألوان العذاب. قال ابن عباس: (وذلك أن في الجنة كوة ينظر منها إلى أهل النار)، { فاطلع } ، هذا المؤمن، { فرآه في سوآء الجحيم }؛ أي في وسط النار يعذب.
ف { قال تالله إن كدت لتردين }؛ أي أردت أن تهلكني كهلاك المترد من الشاهق، وقال مقاتل: (معناه: لقد كدت أن تغويني فأنزل منزلك)، والإرداء الإهلاك، ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه. قوله تعالى: { ولولا نعمة ربي }؛ أي لولا إنعامه علي بالإسلام، { لكنت من المحضرين }؛ معك في النار.
وقال الكلبي: (ثم يؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار، وينادي مناد بأهل الجنة: خلود فلا موت، وبأهل النار: خلود فلا موت) فيقول هذا القائل لأصحابه على جهة السرور: { أفما نحن بميتين }؛ في هذه الجنة أبدا، { إلا موتتنا الأولى }؛ التي كانت في الدنيا، { وما نحن بمعذبين }؛ أبدا. فيقال لهم: لا، فيقولون: { إن هذا لهو الفوز العظيم }؛ فزنا بالجنة ونعيمها، ونجونا من النار وجحيمها. فهذه قصة الأخوين ذكرهما الله في سورة الكهف بقوله تعالى
واضرب لهم مثلا رجلين
[الكهف: 32].
[37.61]
قوله تعالى: { لمثل هذا فليعمل العاملون }؛ أي لمثل هذا النعيم المقيم، والملك العظيم فليعمل العاملون في الدنيا، يعني بالنعيم ما ذكره الله من قوله
أولئك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * في جنات النعيم...
[الصافات: 41-43] إلى قوله
بيض مكنون
[الصافات: 49].
[37.62]
قوله تعالى: { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم }؛ معناه: أذلك الفوز الذي سبق ذكره لأهل الجنة خير مما يهيأ من الإنزال أم نزل أهل النار؟ وقوله تعالى: { أم شجرة الزقوم } لأهل النار في النار، والزقوم: هو ما يكره تناوله، والذي أراده الله شيء مر كريه تناوله، وأهل النار يكرهون على تناوله، فهم يتزقونه على أشد كراهة، تقول: تزقم هذا العظام؛ أي تناوله على نكد ومشقة شديدة.
[37.63-64]
قوله تعالى: { إنا جعلناها فتنة للظالمين }؛ روي سبب نزول هذه الآية: أنه لما نزل قوله تعالى:
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم
[الصافات: 62] كانوا يقولون لا ندري ما الزقوم؟ فكانوا يتذاكرون هذا الحديث إذ جاءهم عبدالله بن الزبعرى السهمي فذكروا له، فقال: أكثر الله في بيوتكم منها، إن أهل اليمن يدعوا الزبد والتمر الزقوم، فقال أبو جهل لجاريته: زقمينا يا جارية، فأتته بزبد وتمر، فقال: تزقموا فإن هذا الذي يخوفكم به محمد، فشاع في أهل مكة أن محمدا يخوف أصحابه بالزبد والتمر، فأنزل الله هذه الآية { إنا جعلناها فتنة للظالمين } أي عذابا بالكافرين، والفتنة: هي العذاب كما قال الله تعالى:
يوم هم على النار يفتنون * ذوقوا فتنتكم
[الذاريات: 13-14] أي عذابكم فأنزل الله تعالى
إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم
[الدخان: 43-44].
ويجوز أن يكون معنى الفتنة في هذه المحنة والبلية كما قال الله تعالى: هذه الشجرة افتتن بها الظلمة. قالوا: كيف يكون في النار شجرة وهي تأكلها؛ لأن النار تأكل الشجر، فأنزل الله تعالى { إنا جعلناها فتنة للظالمين } أي خبرة لهم افتتنوا بها وكذبوا بكونها.
وبين الله تعالى: { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم }؛ أي تنبت في قعر الجحيم، قال الحسن: (أصلها في قعر جهنم، وأصلها في دركاتها، بالنار غذيت ومنها خلقت بلهب النار، كما ينمو شجر بالماء، كلما ازدادت النار التهابا ازدادت تلك الشجرة نموا وارتفاعا، وإن أهل النار ليأكلون ويشربون ويلبسون النار، ويتقلبون في النار، وإن أهون أهل النار عذابا رجل يكون له نعلان يغلي من حرهما دماغه).
[37.65]
قوله تعالى: { طلعها كأنه رءوس الشياطين }؛ أي ثمرها كريه مر هائل المنظر كأنه حيات هائلات الرؤوس تكون في طريق اليمن، تسمي العرب تلك الحيات رؤوس الشياطين لقبحها. وقال بعضهم: أريد به الشياطين المعروفة، وقد اعتقد الناس قبحهم وقبح رؤوسهم، وإن لم يشاهدوهم، ولذلك يشبهون الشيء القبيح بالشياطين، يقول الرجل: رأيت فلانا كأنه شياطين، ورؤوسه رأس الشيطان، فالشياطين موصوفة بالقبح وإن كانت لا ترى.
[37.66]
قوله تعالى: { فإنهم لآكلون منها }؛ أي من ثمرها، { فمالئون منها البطون }؛ وذلك أن الله تعالى يلقي من أهل النار من شدة الجوع ما يلجؤهم الى أكلها بما هي عليه من الحرارة والمرارة والخشونة، فيبتلعونها على جهد حتى يختنقوا بها وتمتليء بطونهم منها، ويكون حالهم في الأكل منها أضر كحالهم في الأكل منها أولا.
[37.67]
قوله تعالى: { ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم }؛ وذلك أن الله تعالى يلقي عليهم عطشا بعد ذلك حتى يشربوا من الحميم، وهو الماء الحار الذي قد انتهى حره، والشوب كما هو خلط الشيء بما ليس منه، بما هو شر منه، يقال له شابه الشيء إذا خالطه، فشوب الجحيم في بطونهم الزقوم فيصير شوبا له.
[37.68]
قوله تعالى: { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم }؛ معناه: إن مرجعهم بعد شرب الجحيم وأكل الزقوم الى الجحيم، وذلك أنهم يوردون الحميم من شربه وهو خارج من الجحيم كما تورد الإبل الماء، ثم يردون إلى الجحيم، فيتجرعونه ويصب على رؤوسهم، ومرة يردون إلى النار الموقدة، وهذا عذابهم أبدا. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" أيها الناس اتقوا الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فلو أن قطرة قطرت من الزقوم من الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم، فكيف بمن هو طعامه ليس لهم طعام غيره ".
[37.69-70]
قوله تعالى: { إنهم ألفوا آبآءهم ضآلين }؛ معناه: إنهم وجدوا آباءهم في الدنيا ضالين عن الحق والدين، ف، كانوا، { فهم على آثارهم يهرعون }؛ أي يمضوا مسرعين كأنهم يزعجون من الإسراع الى اتباع آبائهم، يقال: هرع وأهرع إذا أسرع.
[37.71-74]
قوله تعالى: { ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين }؛ أي ولقد ضل قبل هؤلاء المشركين أكثر الأولين من الأمم الخالية، كما ضل قومك، { ولقد أرسلنا فيهم منذرين }؛ أي رسلا ينذرونهم العذاب؛ أي يخوفونهم بالعذاب على ترك الإيمان، { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين }؛ الذي أنذروا فكذبوا الرسل، كيف أهلكهم الله تعالى، وقوله تعالى: { إلا عباد الله المخلصين }؛ يعني إلا عباد الله الموحدين الذين لم يكذبوا، فإنهم نجو من العذاب ولم يهلكوا.
[37.75-76]
قوله تعالى: { ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون }؛ أي ولقد دعانا نوح على قومه بالإهلاك حين يئس من إيمانهم، وأذن له في الدعاء، وقال
أني مغلوب فانتصر
[القمر: 10]، وقال
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا
[نوح: 26]، وقوله { فلنعم المجيبون } أي نعم المجيبون فأجبناه وأهلكنا قومه الكافرين، { ونجيناه وأهله }؛ ومن آمن به، { من الكرب العظيم }؛ وهو الغرق.
[37.77]
قوله تعالى: { وجعلنا ذريته }؛ وذلك من كان معه من المؤمنين في السفينة انقرضوا من غير عقب، وكان نسل نوح عليه السلام من أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث، فأما سام فأبو العرب وفارس والروم، وحام أبو الحبش وجميع السودان والسند والهند والبربر، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وما هنالك من باقي الناس. قال ابن عباس: (لما خرج نوح عليه السلام من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده الثلاثة ونساءهم) فذلك قوله تعالى: { هم الباقين }.
[37.78-82]
قوله تعالى: { وتركنا عليه في الآخرين }؛ أي تركنا على نوح الذكر الجميل في الباقين بعده، وذلك الذكر قوله تعالى: { سلام على نوح في العالمين }؛ أي يصلى عليه إلى يوم القيامة، قال الزجاج: (معنى قوله تعالى: { وتركنا عليه في الآخرين } أي وأبقيناه ذكرا حسنا وثناء جميلا فيمن بعده إلى يوم القيامة) { إنا كذلك نجزي المحسنين }؛ أي كما جزينا نوحا وأنعمنا عليه، فكذلك نجزي المحسنين في القول والعمل، { إنه من عبادنا المؤمنين }؛ وقيل: (معناه: تركنا على نوح في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة)، { ثم أغرقنا الآخرين }.
[37.83-84]
قوله تعالى: { وإن من شيعته لإبراهيم }؛ معناه: وإن من أهل ملة نوح عليه السلام والمتمسكين بدينه لإبراهيم، { إذ جآء ربه بقلب سليم }؛ أي إذ أقبل إلى طاعة ربه بقلب سليم من الكفر والمعاصي ومن كل عيب. والشيعة: هي الجماعة التابعة لذي رأي لهم.
[37.85]
قوله تعالى: { إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون }؛ هذا إنكار من إبراهيم على قوله، كالرجل ينظر غيره على قبيح من الأمر، فيقول له: ما هذا الذي تفعل؟
[37.86-87]
قوله تعالى: { أإفكا آلهة دون الله تريدون }؛ معناه: أأتخذ آلهة تريدون عبادتها على وجه الكذب. وقيل: معناه: أتأفكون إفكا هو أسوأ الكذب، وتعبدون آلهة سوى الله، { فما ظنكم برب العالمين }؛ إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، أي فما ظنكم أنه يصنع بكم.
[37.88-90]
قوله تعالى: { فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم }؛ قال بعضهم: إنما نظر إلى النجوم نظر تدبر واعتبار، وليستدل بها على وقت الحمى كانت تأتيه، فلما عرف بذلك وقت حماه قال إني سقيم؛ أي جاء وقت سقمي ومرضي.
ويقال: أوهمهم بهذا القول أن به مرضا فتركوه، وكان يريد بهذا القول في نفسه: إني سقيم القلب بما أرى من أحوالكم القبيحة في عبادة غير الله، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم عيد يخرجون إليه، فكلفوه الخروج معهم إلى عيدهم؛ فنظر في النجوم يريهم أنه مستدل بها على حاله، فقال: إني سقيم، { فتولوا عنه مدبرين }؛ فتركوه وذهبوا إلى عيدهم.
[37.91-92]
قوله تعالى: { فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون }؛ أي مال إلى أصنامهم ميلة في خفية سرا لما أدبروا عنه فوجد بين أيديهم طعاما كانوا قد وضعوه قبل خروجهم إلى عيدهم، وزعموا بجهلهم أن أصنامهم تبارك لهم فيه، فإذا رجعوا من عيدهم أكلوه. قال مقاتل: (كانت أصنامهم اثنين وسبعين صنما من خشب وحديد ورصاص وذهب وفضة، وكان أكبرهم من ذهب وعيناه ياقوتتان، فلما رآهم إبراهيم كذلك وبين أيديهم الطعام، قال: ألا تأكلون ما حولكم من الأطعمة، فلما لم يكن منهم أكل ولا جواب قال لهم: ألا تنطقون إن كنتم آلهة).
[37.93]
قوله تعالى: { فراغ عليهم ضربا باليمين }؛ أي مال عليهم بالضرب بيده اليمنى وبالقوة، ويقال: بر يمينه التي كان حلف بالله لأكيدن أصنامكم، فجعل يضربهم بالفأس حتى جعلهم جذاذا، ثم جعل الفأس على عاتق كبير الأصنام، والروغان في اللغة: هو الميل على وجه الاضطراب.
[37.94-95]
قوله تعالى: { فأقبلوا إليه يزفون }؛ أي أقبل المشركون إليه بعد رجوعهم من عيدهم يسرعون في المشي، كأنهم أخبروا بصنعه فقصدوه. والزفيف: هو المشي السريع، ومن ذلك زفيف النعام وهو خببه الذي يكون بين المشي والعدو، ومنه الآزفة لسرعة مجيئها وهو القيامة.
وقرأ حمزة (يزفون) بضم الياء؛ أي يحملون دوابهم وظهورهم على الإسراع في المشي، وذلك أنهم أخبروا بصنع إبراهيم بآلهتهم، وأسرعوا ليأخذوه، فلما انتهى إليه؛ { قال } لهم محتجا عليهم: { أتعبدون ما تنحتون }؛ بأيديكم من الأصنام، أي تعبدون ما تنحتونه من الخشب والحجر أمواتا لا تنطق ولا تسمع ولا تنصر ولا تعقل.
[37.96-97]
قوله تعالى: { والله خلقكم وما تعملون }؛ تنحتون بأيديكم؛ أي خلقكم ومعمولكم وهو منحوتهم الذي نحتوه، والمعنى: خلقكم وعملكم، وهذا مذهب أهل السنة؛ لأنهم يعتقدون أن الله خلقهم وعملهم، والقدرية تنكر خلق الأعمال.
فلما ألزمهم إبراهيم عليه السلام الحجة، { قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم }؛ أي قالوا: ابنوا له حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا، وملؤوه نارا، وذلك قوله تعالى: { فألقوه في الجحيم } وهي النار العظيمة، فبنوا له ذلك وجمعوا فيه الحطب، وأرسلوا فيه النار حتى صار جحيما، ثم رموه بالمنجنيق.
فنجاه الله تعالى، وجعل النار عليه بردا وسلاما لم يؤذه منها شيء ولا أحرقت شيئا من ثيابه، وذلك لإخلاصه وقوة دينه وصدق توكله ويقينه، كما روي أنه عليه السلام لما انفصل من المنجنيق أتاه جبريل في الهواء، فقال هل لك من حاجة؟ فقال: وأما إليك فلا.
[37.98]
قوله تعالى: { فأرادوا به كيدا }؛ أي أرادوا به شرا، وهو أن يحرقوه بالنار، { فجعلناهم الأسفلين } ، لأن إبراهيم علاهم بالحجة حين سلمه الله تعالى ورد كيدهم عنه، ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى أهلكهم الله تعالى، وجعلهم في نار أعظم وأسفل مما ألقوه فيها.
[37.99-101]
قوله تعالى: { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين }؛ أي قال إبراهيم: إني ذاهب إلى مرضات ربي سيهديني لما فيه رشدي وصلاحي، وأراد بهذا الذهاب إلى الأرض المقدسة، وقيل: إلى أرض الشام، قال مقاتل: (فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد) فقال: { رب هب لي من الصالحين }؛ أي ولدا صالحا.
واستجاب الله دعاءه بقوله: { فبشرناه بغلام حليم }؛ قال الزجاج: (هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن، ويوصف في الحلم)، قال الحسن: (وهو إسحاق عليه السلام). وقال الكلبي: (هو إسماعيل، وكان أكبر من إسحاق بثلاثة عشر سنة).
[37.102]
قوله تعالى: { فلما بلغ معه السعي }؛ أي فلما بلغ ذلك الغلام معه حالة السعي في طاعة الله تعالى، كما قال الله تعالى:
وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت وإسمعيل
[البقرة: 127]، وقيل: معناه: فلما بلغ أن يمشي معه، وقال مجاهد: (لما شب حتى بلغ أن يتصرف معه ويعينه، وكان يومئذ ابن ثلاثة عشر سنة). وقيل: أراد بالسعي في الوقت الذي ينتفع الوالد بالولد في قضاء حوائجه.
قوله تعالى: { قال يبني إني أرى في المنام أني أذبحك }؛ أي رأيت في المنام رؤيا تأويلها أني أذبحك، وقيل: رأيت في المنام أني أذبحك، قال مقاتل : (رأى إبراهيم ذلك في المنام ثلاث ليال متواليات)، قال ابن جبير: (رؤيا الأنبياء وحي)، وقال قتادة: (رؤى الأنبياء حق، إذا رأوا شيئا فعلوه).
وقوله تعالى: { فانظر ماذا ترى }؛ أي من الرأي فيما ألقيت إليك، وقرأ حمزة والكسائي: (ماذا تري) بضم التاء وكسر الراء، ومعناه: ماذا تشير وماذا تريني من صبرك أو جزعك؟ { قال يأبت افعل ما تؤمر }؛ به من ذبحي، { ستجدني إن شآء الله من الصابرين }؛ على بلائه، وإنما قال له إبراهيم هذا القول مع كونه مأمورا بذبحه؛ لأنه أحب أن يعلم صبره وعزيمته على أمر الله وطاعته.
وفي الآية دلالة على أن إبراهيم كان مأمورا بذبح ولده، لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي بمنزلة الوحي إليهم في اليقظة، ولذلك قال الابن: { يأبت افعل ما تؤمر } ولم يقل: افعل ما رأيت في المنام.
واختلفوا في الذبيح من هو؟ فذهب الأكثرون إلى أنه إسحاق، وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وعباس بن عبدالمطلب، ومن التابعين كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي.
وقال آخرون: هو إسماعيل، وهو قول ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن ومجاهد والكلبي والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي. وروي عن أبي إسحاق الزجاج أنه قال: (الله أعلم أيهما الذبيح).
وسياق الآية يدل على أنه إسحاق؛ لأنه تعالى قال
فبشرناه بغلام حليم
[الصافات: 101] ولا خلاف أنه إسحاق، ثم قال: فلما بلغ معه السعي، فعطف بقصة الذبح مع ذكر اسحاق، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم القولان، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الذي أراد إبراهيم ذبحه هو إسحاق ".
وعن معاوية رضي الله عنه أنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل معاوية ومن الذبيحان؟ فقال: [إن عبد المطلب لما حفر زمزم نذر لله تعالى لئن سهل الله أمره ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبدالله، فمنعه أخواله وقالوا: إفد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، والذبيح الثاني إسماعيل]، ويدل على صحة هذا قوله عليه السلام:
" أنا ابن الذبيحين "
يريد أباه الأدنى عبدالله بن عبدالمطلب وجده إسماعيل.
وقال محمد بن كعب القرظي: (إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من بنيه إسماعيل، وإنا لنجده في كتاب الله تعالى، إن الله تعالى يقول حين فرغ من قصة المذبوح:
وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين
[الصافات: 112]).
وقال الأصمعي: (سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال: يا أصمعي أين ذهب منك عقلك؟! وأين كان إسحاق؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه كما قال
وإذ يرفع إبرهيم القواعد من البيت وإسمعيل
[البقرة: 127]، والنحر بمكة لا شك فيه). وسئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد:
إن الذبيح هديت إسماعيل
نطق الكتاب بذاك والتنزيل
شرف به خص الآله نبيه
وأتى به التفسير والتأويل
وأما قصة الذبح فقال السدي: (لما فارق إبراهيم قومه مهاجرا إلى الشام هاربا بدينه، دعا الله تعالى أن يهب له من سارة ابنا صالحا، فقال: (رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم) وهو اسحاق). قال السدي: (فهو والله إسحاق الذبيح). وقال محمد بن كعب: (هو إسماعيل).
فلما أمر الله إبراهيم بذبح من أمر، قال لابنه: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير قال له: { إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } قال: يا أبت افعل ما تؤمر واشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك عني حتى لا ينضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك وأسرع حد السكين على حلقي حتى تجسر علي فتذبحني ليكون أهون علي، فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فأقرئها مني السلام، فإن رأيت أن ترد إليها قميصي فافعل، فإنه عسى أن يكون أسلا لها عني.
فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، فأقبل عليه يقبله وقد ربطه وهو يبكي، والابن يبكي حتى استفرغ الدموع تحت خده، ثم إنه وضع السكين في حلقه فلم تعمل في حلقه شيئا.
قال السدي: (ضرب الله تعالى في حلقه صفحة من نحاس فلم تقطع السكين شيئا، فقال الابن عند ذلك: يا أبت كبني على وجهي فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك الرقة فتحول بينك وبين الله تعالى، ففعل ذلك إبراهيم، ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين.
ونادى أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه، فنظر إبراهيم فإذا هو جبريل عليه السلام ومعه كبش أقرن أملح، فكبر جبريل عليه السلام وكبر إبراهيم وكبر ابنه، فأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه، فلما ذبح إبراهيم الكبش رجع إلى إبنه فجعل يقول له: يا بني قد وهبك الله لي، ثم رجع إلى أمه فأخبرها الخبر فجزعت وقالت: يا إبراهيم أردت أن تذبح ولدي ولا تعلمني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما رأى إبراهيم ذبح ابنه قال الشيطان: والله لئن لم تزل آل إبراهيم في هذا الأمر لا بقيت استزل منهم أحدا، فتمثل الشيطان رجلا وأتى الولد فقال له: هل تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: نعم نحتطب لأهلنا حطبا من هذا الشعب، قال: والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذبحك، قال: فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا وطاعة لله عز وجل. فرجع الشيطان إلى أم الولد فقال لها: أتدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: نعم ذهبا يحتطبان، قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا هو أرحم به وأشد حبا له من ذلك، قال: إنه زعم أن الله أمره بذلك، قالت: فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن في امتثال أمر ربه.
فخرج الشيطان من عندها حتى أتى إلى إبراهيم عليه السلام فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة، قال: إني والله لأدري الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك هذا، فعرفه إبراهيم وقال: يا عدو الله لأمضين لأمر ربي. فرجع إبليس لعنه الله بغيظه ولم يصب من آل إبراهيم شيئا مما أراد).
[37.103-105]
قوله تعالى: { فلما أسلما وتله للجبين }؛ أي فلما انقادا وخضعا لأمر الله تعالى ورضيا به، وقرأ ابن مسعود: (فلما سلما) أي فوضا. قوله تعالى: { وتله للجبين } أي صرعه وأضجعه وكبه على وجهه للذبح، وقيل: طرحه على الأرض على أحد جنبيه كما يفعل بالكبش حين يذبح، نادته الملائكة من الجبل بإذن الله: { وناديناه أن يإبراهيم * قد صدقت الرؤيآ }؛ أي وفيت الرؤيا حقها؛ أي وفيت بما أمرت به في المنام، دع ابنك وخذ الكبش الذي ينحدر إليك من الجبل المشرف على مسجد منى.
وقوله تعالى { قد صدقت الرؤيآ } أي نودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا لأن الله تعالى قد عرف منهما الصدق حين قصد إبراهيم الذبح بما أمكنه وطاوع الابن بالتمكين من الذبح، ففعل كل واحد منهما ما أمكنه وإن لم يحققوا الذبح، وكان قد رأى في المنام معالجة الذبح ولم يرق الدم، ففعل في اليقظة ما رأى في المنام، فلذلك قيل له: { قد صدقت الرؤيآ } وتم الكلام. ثم قال { إنا كذلك نجزي المحسنين }؛ أي هكذا نجزي كل محسن ممن سلك طريقهما في الانقياد لأمر الله، وجميل الصبر على ابتلائه.
[37.106-107]
قوله تعالى: { إن هذا لهو البلاء المبين }؛ أي لهو الاختيار البين فيما يوجب النعمة والنقمة، وأي اختبار أعظم من أن يؤمر الشيخ الكبير بذبح الولد العزيز بيده. وقوله تعالى: { وفديناه بذبح عظيم } ، أي بكبش عظيم؛ أي أقمنا الذبح مقامه وجعلناه بدلا عنه.
وعن عطاء بن يسار قال: (لما بلغ إسماعيل سبع سنين رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح، فأخذ بيده ومضى به إلى حيث أمر حتى انتهى إلى منحر البدن اليوم، فقال: يا بني إن الله أمرني بذبحك، قال إسماعيل: فأطع ربك.
ففعل إبراهيم، فجعل ينحره في حلقه ، نحر في فأس لم تؤثر فيه الشفرة، فشحدها مرتين أو ثلاثا بالحجر، وفي كل لا يستطيع، فرفع رأسه فإذا هو بكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا).
قال الحسن بن الفضل: (ما فدي إلا بتيس هبط عليه من ثبير فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه). وقيل: كان الفداء وعلا من الأوعال الجبلية.
وأما قوله { بذبح عظيم } قال سعيد بن جبير: (حق عليه أن يكون عظيما، وقد رعى في الجنة أربعين خريفا). وقال مجاهد: (سمي لأنه متقبل)، وقال الحسن ابن الفضل: (لأنه كان من عند الله تعالى)، وقال أبو بكر الوراق: (لأنه لم يكن عن نسل وإنما كان بالتكوين).
[37.108-111]
قوله تعالى: { وتركنا عليه في الآخرين }؛ أي تركنا على إبراهيم في العالمين أن يقال: { سلام على إبراهيم } ، ويصلى عليه إلى يوم القيامة، { كذلك نجزي المحسنين } ، وبقينا عليها حسنا، { إنه من عبادنا المؤمنين }.
[37.112]
قوله تعالى: { وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين }؛ من جعل الذبيح إسماعيل قال: بشر الله إبراهيم بولد بعد هذه القصة جزاء لطاعته، ومن جعل الذبيح إسحاق قال: بشر إبراهيم بنبوة إسحاق، وأثيب إسحاق بصبره بالنبوة.
[37.113]
قوله تعالى: { وباركنا عليه وعلى إسحاق }؛ أي وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق، وقيل: على إسماعيل وعلى إسحاق، وقوله تعالى: { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين }؛ المحسن هو المؤمن، والظالم المبين هو الكافر.
[37.114-122]
قوله تعالى: { ولقد مننا على موسى وهارون }؛ أي أنعمنا عليهما بالنبوة والرسالة وغير ذلك من أنواع النعيم، والمن قطع كل أذية، ومنه قوله تعالى:
أجر غير ممنون
[الانشقاق: 25] أي غير مقطوع. قوله تعالى: { ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم }؛ أي وخلعناهما من الخزي القطيع من استعباد فرعون إياهم، ومن ذبح الأبناء، وتسخير الرجل في الأمور الشاقة، { ونصرناهم } ، على فرعون وقومه، { فكانوا هم الغلبين }؛ بعد ما كانوا مغلوبين، { وآتيناهما الكتاب المستبين }؛ أي أعطيناهما الكتاب البين وهو التوراة، { وهديناهما الصراط المستقيم }؛ وهو دين الاسلام، { وتركنا عليهما في الآخرين * سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين }.
[37.123]
قوله تعالى: { وإن إلياس لمن المرسلين }؛ قال ابن عباس: (هو عم اليسع، وهو من ذرية هارون بن عمران، وهارون هو جد أبيه). وقال ابن إسحاق: (إلياس هو يوشع بن نون).
ويقال: إلياس والخضر في الأحياء، فإلياس صاحب البراري، والخضر صاحب الجزائر، ويجتمعان في كل سنة مرة بعرفات!
وعن أنس رضي الله عنه قال:
" غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا نفح الناقة إذ نحن بصوت يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور لها المثوب عليها المستجاب لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أنس انظر هذا " فدخلت الجبل فاذا أنا برجل أبيض الرأس واللحية، عليه ثياب بيض طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما نظر إلي قال: أنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، قال: ارجع إليه فأقرئه مني السلام، وقل له: أخوك إلياس يريد لقاءك، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، حتى إذا كنا قريبا منه، تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت، فتحادثا طويلا، فنزل عليهما من السماء شبه السفرة، فدعوني أكلت معهما، فإذا فيها كمأة ورمان وكرفس، فلما أكلت قمت فتنحيت، فجاءت سحابة فاحتملته وأنا أنظر إلى بياض ثوبه، فهوت به قبل الشام ".
[37.124-125]
قوله تعالى: { إذ قال لقومه ألا تتقون }؛ عقاب الله بعبادة غير الله، وقوله تعالى: { أتدعون بعلا }؛ أي أتدعون بالإلهية بعلا صنما، { وتذرون } ، وتتركون عبادة، { أحسن الخالقين }؛ وكان قومه يعبدون صنما لهم من ذهب يقال له بعل، وكان طوله عشرين ذراعا، وكان له أربعة وجوه، فجعل إلياس يدعوهم إلى عبادة الله وهم في ذلك لا يسمعون منه شيئا.
[37.126]
قوله تعالى: { الله ربكم ورب آبآئكم الأولين }؛ أي خالقكم وخالق آبائكم، ومن قرأ (ربكم) بالنصب فعلى صفة (أحسن الخالقين).
[37.127-128]
قوله تعالى: { فكذبوه فإنهم لمحضرون }؛ أي لمحضرون في النار والعذاب بتكذيبهم، { إلا عباد الله المخلصين }؛ أي لكن عباد الله المخلصين مبعدون من الموضع الذي فيه المشركون.
[37.129-132]
قوله تعالى: { وتركنا عليه في الآخرين } ، يريد إلياس ومن آمن معه، { سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين }؛ قال أبو علي الفارسي: (تقديره: الياسيين) إلا أن اليائين للنسبة حذفتا، كما حذفتا في الأشعريين والأعجمين، وقرأ نافع (الياسين) أي سلام على أهل كلام الله وآل محمد صلى الله عليه وسلم، فإن يس من كلام الله تعالى في القرآن.
[37.133-136]
قوله تعالى: { وإن لوطا لمن المرسلين }؛ أي من جملة المرسلين، { إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين }؛ يعني امرأته المنافقة تخلفت في موضع العذاب في جملة الباقين، { ثم دمرنا الآخرين }؛ أي أهلكناهم بعذاب الاستئصال.
[37.137-138]
قوله تعالى: { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون }؛ هذا خطاب لمشركي العرب، كانوا يعدون على قريات قوم لوط فلم يعتبروا.
[37.139-142]
قوله تعالى: { وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون }؛ أي هرب من قومه إلى السفينة المملوءة بالناس والدواب، وإنما هرب لأن الله كان أوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا فلم يؤمنوا، وعلم أن العذاب نازل بهم، فخرج من بينهم من غير أن يأمره الله تعالى بالخروج، فكان ذلك دينا منه وكان قصده حين خرج منهم للمبالغة في تحذيرهم وإنذارهم، فكان بذهابه كالفار من مولاه، فوصف بالأباق.
وقوله تعالى: { فساهم فكان من المدحضين }؛ وذلك أنه لما ركب السفينة، وقفت السفينة ولم تسر بأهلها، فقال الملاحون: ها هنا عبد آبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها عبد آبق لا تجري، واقترعوا فوقعت القرعة على يونس فقال: أنا الآبق، { فالتقمه الحوت }.
قال سعيد بن جبير: (لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه، كأنه يطلب واحدا من أهلها، فقال يونس: يا أهل السفينة أنا المطلوب من بينكم، فقالوا: أنت أكرم على الله تعالى من أن يبتليك بمثل هذه البلية، فقال لهم: اقترعوا فمن خرجت القرعة على اسمه ألقي إلى الحوت، وكان يعلم أن القرعة تخرج عليه، إلا أنه لم يبدأ بإلقاء نفسه إلى الحوت مخافة أن تلحقه سمة الجنون، فساهم فوقع السهم عليه فكان من المسهومين).
والمدحض في اللغة: هو المغلوب في الحجة، وأصله من دحض الرجل إذا نزل من مكانه، فلما ألقي عليه السلم في البحر ابتلعه الحوت ابتلاع اللقمة.
وقوله تعالى: { وهو مليم }؛ أي أتى بما يستحق عليه اللوم، والمليم: الآتي بما يلائم على مثله، وسبب استحقاقه اللوم خروجه من بين قومه قبل ورود الإذن عليه من الله تعالى.
[37.143-144]
قوله تعالى: { فلولا أنه كان من المسبحين } ، أي لولا أنه كان قبل أن يلتقمه الحوت من المصلين لله تعالى، { للبث في بطنه إلى يوم يبعثون }؛ لمكث في بطن الحوت إلى يوم البعث والنشور. قال الحسن: (ما كانت له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملا صالحا قبل ذلك).
ويقال: إن المراد بالتسبيح في هذه الآية قوله في الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. قال السدي: (لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوما)، وقال الضحاك: (عشرين يوما)، وقال عطاء: (تسعة أيام)، وقال مقاتل: (ثلاثة أيام).
[37.145-147]
قوله تعالى: { فنبذناه بالعرآء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين }؛ اي ألهمنا الحوت أن يطرحه على فضاء من الأرض، والعراء هو المكان الخالي من الشجر والبناء، قال مقاتل: (معنى: { فنبذناه بالعرآء } يعني وجه الأرض وهو سقيم قد بلي لحمه مثل الصبي المولود)، قال ابن مسعود: (كهيئة الفرخ الذي ليس عليه ريش).
وقيل: معنى { وهو سقيم } أي وهو مريض، وذلك لما أصابه في بطن الحوت من الشدة والضغطة والبعد من الهواء والغذاء، حتى ضعف جسمه ورق جلده ولم يبق ظفر ولا شعر كالولد أول ما يخرج من بطن أمه.
فلما ألقي على وجه الأرض كان يتأذى بحر الشمس، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين، قال الكلبي: (هي القرع)، وهي شجرة الدباء العربي، وكل شجرة لا تقوم على ساق وتمتد على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ ونحوها فهو يقطين، واشتقاقه من قطن من المكان إذا أقام به، فهذا الشجر يكون ورقه وساقه على وجه الأرض، فلذلك قيل: يقطين، ومن خصائص شجرة القرع أنها لا يقربها ذباب، قالوا: فكان يستظل بها من الشمس، وسخر الله له وعلة بكرة وعشيا تختلف إليه، فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره.
ثم أرسله الله بعد ذلك وهو قوله: { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون }؛ وقال الحسن: (معناه: بل يزيدون)، وقال الكلبي: (معناه: ويزيدون)، وكان الذين أرسل إليهم أهل نينوى، كأنه أرسل قبل ما التقمه الحوت إلى قوم، وبعد ما نبذه الحوت إلى قوم آخرين.
[37.148]
قوله تعالى: { فآمنوا }؛ أي فآمن من أرسل إليهم يونس عليه السلام بما جاءهم به من عند الله تعالى. قوله تعالى: { فمتعناهم إلى حين }؛ أي إلى حين آجالهم. واختلفوا في الزيادة على مائة ألف، قال مقاتل: (كانت الزيادة عشرين ألفا)، وقال الحسن: (بضعا وثلاثين ألفا)، وقال سعيد بن جبير: (سبعين ألفا).
[37.149-150]
قوله تعالى: { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون }؛ أي سلهم - يا محمد - أهل مكة سؤال توبيخ وتقريع (ألربك البنات ولهم البنون)؟ وذلك أن قريشا وقبائل من العرب منهم خزاعة وجهينة وبنو سليم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وقوله تعالى: { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون }؛ أي حاضروا خلقنا إياهم، فكيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا خلقهم كما قال الله تعالى:
أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون
[الزخرف: 19].
[37.151-153]
قوله تعالى: { ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون }؛ في إضافة الأولاد إلى الله تعالى حين زعموا أن الملائكة بنات الله، تعالى عما يقولون علوا كبيرا، { أصطفى البنات على البنين }؛ القراءة المعروفة المشهودة بفتح الألف على الاستفهام الذي فيه التوبيخ، والمعنى: سلهم أصطفى البنات، إلا أنه حذف ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة مقطوعة على حالها مثل أستكبرت وأستغفرت، وأذهبتم ونحوها. وقرأ نافع برواية ورش (اصطفى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين، تقديره: ليقولون ولد الله ويقولون اصطفى البنات.
[37.154-157]
قوله تعالى: { ما لكم كيف تحكمون }؛ هذا توبيخ لهم؛ أي كيف ترضون لله ما لا ترضون لأنفسكم، { أفلا تذكرون } ، أفلا تتعظون فتمتنعون عن مقالتكم، { أم لكم سلطان مبين }؛ أم لكم حجة بينة على صحة دعواكم هذه، { فأتوا بكتابكم }؛ وحجتكم، { إن كنتم صادقين } فيما تدعون.
[37.158-160]
قوله تعالى: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا }؛ أي جعل هؤلاء بين الله وبين الملائكة الذين يشاهدونهم نسبا، وسميت الملائكة جنة في هذا لاستتارهم عن أعين الناس كاستتار الجن، وقوله تعالى: { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون }؛ أي علمت الملائكة أن الكفار الذين عبدوهم لمحضرون في العذاب لدعائهم إلى هذا القول.
ثم نزه الله تعالى نفسه فقال: { سبحان الله عما يصفون }؛ أي عما يصفونه ويضيفونه إليه، { إلا عباد الله المخلصين }؛ لكن عباد الله المخلصين من الجن والإنس لا يحضرون هذا العذاب.
[37.161-163]
قوله تعالى: { فإنكم وما تعبدون }؛ هذا خطاب لأهل مكة، معناه: فإنكم أيها المشركون وما تعبدونه من دون الله الأصنام، { مآ أنتم عليه بفاتنين }؛ أي ما أنتم على ذلك بمضلين أحدا، { إلا من هو صال الجحيم } ، إلا من كان في علم الله أنه يصلى الجحيم، وفي هذا بيان على أنهم يفسدون أحدا إلا من كان في معلوم الله أنه سيكفر، يعني أن قضاء الله سبق في قوم بالشقاوة، فإنهم يصلون النار، فهم الذين يضلون في الدين ويعبدون الأصنام.
[37.164-166]
قوله تعالى: { وما منآ إلا له مقام معلوم }؛ هذا من قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس منا معشر الملائكة ملك في السماوات والأرض إلا له موضع معلوم يعبد الله فيه، لا يتجاوز ما أمر به، { وإنا لنحن الصآفون }؛ أي المصطفون في الصلاة كصفوف المؤمنين. وقيل: صافون حول العرش ينتظرون الأمر والنهي من الله تعالى، { وإنا لنحن المسبحون }؛ أي المصلون لله، المنزهون له عن السوء، وعن جميع ما لا يليق بصفاته.
[37.167-170]
قوله تعالى: { وإن كانوا ليقولون } ، أي وقد كان كفار مكة يقولون: { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } ، لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأولين من الكتب، { لكنا عباد الله المخلصين }؛ لأخلصنا العبادة لله، فلما جاءهم الرسول والكتاب كما قالوا وطلبوا؛ { فكفروا به } ، كفروا بذلك، { فسوف يعلمون } ، ماذا ينزل بهم، وهذا كما قالوا: لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منكم.
[37.171-172]
قوله تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين }؛ معناه: لقد تقدم وعدنا بالنصر والظفر لعبادنا المرسلين، { إنهم لهم المنصورون } ، يعني بالكلمة قوله تعالى:
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي
[المجادلة: 21] فهذه الكلمة التي قد سبقت، فالله تعالى لم يفرض على نبي الجهاد إلا ونصره وجعل العاقبة له، قال الحسن: (ما غلب نبي في حرب ولا قتل فيه قط).
[37.173-177]
قوله تعالى: { وإن جندنا لهم الغالبون }؛ أي جند الله لهم الغلبة بالحجة والنصر في الدنيا، وينتقم الله من أعدائه في الآخرة. قوله تعالى: { فتول عنهم حتى حين }؛ أي أعرض عنهم حتى تنقضي المدة التي أمهلوا فيها، { وأبصرهم } ، في عذاب الآخرة، { فسوف يبصرون }؛ ما وعدوا من العذاب. وقيل: معناه: أعرض عنهم حتى نأمرك بقتالهم، وأبصرهم بقلبك فسوف يبصرون العذاب بأعينهم.
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: متى ينزل بنا العذاب الذي تعدنا به؟ فقال الله تعالى: { أفبعذابنا يستعجلون }؛ أي يطلبون تعجيل عذابنا لجهلهم، { فإذا نزل }؛ العذاب، { بساحتهم }؛ أي بفناء دارهم وموضع منازلهم، { فسآء صباح المنذرين }؛ أي فبئس صباح قوم أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا.
وعن أنس رضي الله عنه قال:
" لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، قال: " الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين " ".
[37.178-179]
قوله تعالى: { وتول عنهم حتى حين }؛ إنما ذكره ثانيا تأكيدا لوعد العذاب، وقوله تعالى: { وأبصر فسوف يبصرون }؛ ليس هذا بتكرار؛ لأنهما عذابان، أراد بالأول عذاب الآخرة، وبالثاني عذاب الدنيا يوم بدر.
[37.180]
قوله تعالى: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون }؛ أي تنزيها لربك رب القدرة والمنعة والغلبة عما يقولون من الكذب بالأوثان آلهة، وأن الملائكة بنات الله.
[37.181]
قوله تعالى: { وسلام على المرسلين }؛ الذين بلغوا عن الله التوحيد والشرائع. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين ".
[37.182]
قوله تعالى: { والحمد لله رب العالمين }؛ أي الشكر لله رب الخلائق على إهلاك الأعداء وإعزاز الأولياء. وقيل: معناه: والحمد لله رب العالمين على إهلاك المشركين ونصرة الأنبياء.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون...) إلى آخر السورة.
[38 - سورة ص]
[38.1]
{ ص والقرآن ذي الذكر }؛ اختلفوا في قوله (ص) قال: (صدق الله) وهو قول الضحاك، وقال عطاء: (صدق محمد صلى الله عليه وسلم)، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح اسم الله صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد). وقيل: هو من فواتح السور. قال ابن عباس: (هو قسم أقسم الله به)، وقال سعيد بن جبير: (هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين). وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفار عن القرآن والهدى.
قال الكلبي: (معناه: أعرض عن الهدى) كأنه ذهب إلى أنه كان في الأصل صد؛ أي صد أبو جهل أو صد أهل مكة عن الحق، فأبدلت إحدى الدالين ألفا).
وقرأ عيسى بن عمر: (صاد) بفتح الدال، ومثل قاف ونون، لاجتماع الساكنين وحركها بأخف الحركات. ومعناه: صاد محمد قلوب الرجال واستمالها حتى آمنوا به. وقرأ الحسن: (صاد) بكسر الدال من المضادات التي هي من المقابلة والمعارضة؛ أي عارض عملك بالقرآن.
قوله تعالى: { والقرآن ذي الذكر } أي ذي البيان الهادي إلى الحق. وقيل: معناه: ذي الشرف، كما في قوله تعالى:
وإنه لذكر لك ولقومك
[الزخرف: 44] والمعنى: أقسم الله تعالى بالقرآن أن محمدا صادق، وجواب قسم محذوف تقديره: والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقول الكفار.
[38.2-3]
قوله تعالى: { بل الذين كفروا في عزة وشقاق }؛ يعني: كفار مكة في منعة وحمية وتكبر عن الحق، { وشقاق } أي خلاف وعداوة لمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { كم أهلكنا من قبلهم من قرن }؛ أي من أمم بتكذيبهم الرسل، { فنادوا }؛ عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة، { ولات حين مناص }؛ أي وليس الحين حين نزو ولا قرار، قال وهب: (لات باللغة السريانية: وليس، وذلك أن السرياني إذا أراد أن يقول وليس يقول: ولات) وقال أئمة اللغة: (أصلها (لا) زيدت فيها التاء، كما زيدت في ثمت وربت). وقال قوم: إن التاء زيدت في (حين) كما زيدت في قول الشاعر :
العاطفون تحين ما من عاطف
والمطعمون زمان أين المطعم؟
والمراد بتحين: حين. فمن قال: إن التاء مع لا، فالوقف عليه بالتاء. وروي عن الكسائي (ولاه) بالهاء في الوقف، ومثله روى قنبل عن ابن كثير. ومن قال: إن التاء مع حين لا، فالوقف عليه، (ولا) ثم تبتدئ: تحين مناص.
قال ابن عباس: (كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطربوا في الحرب، قال بعضهم لبعض: مناص؛ أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، على عادتهم، فأجابتهم الملائكة: ولات حين مناص؛ أي ليس هذا حين منجى).
وقيل: معناه: { ولات حين مناص } أي ليس هذا حين نزو ولا حين فرار، والمناص مصدر من النوص، يقال: ناصه ينوصه إذا فاته، ويكون النوص بمعنى التأخر؛ أي ليس هذا حين التأخر، والنوص هو الفوت والتأخر.
[38.4]
قوله تعالى: { وعجبوا أن جآءهم منذر منهم }؛ أي وعجب المشركون أن جاءهم نبي منهم يخوفهم من عذاب الله، { وقال الكافرون هذا ساحر كذاب }؛ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم.
[38.5-6]
قوله تعالى: { أجعل الآلهة إلها واحدا }؛ أي قالوا لفرط جهلهم على وجه الإنكار: أجعل محمد الآلهة إلها واحدا؟ { إن هذا لشيء عجاب }؛ أما هذا الذي يقول محمد صلى الله عليه وسلم من رد الحوائج إلى إله واحد، إلا شيء مفرط في العجب.
والعجاب: ما يكون في غاية العجب، يقال: رجل طوال، وأمر كبار، وسيف قطاع، وسيل جحاف، ويراد بذلك كل مبالغة.
" وذلك أن عمر بن الخطاب لما أسلم شق على قريش، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الرؤساء والصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلا، منهم الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنا، وأبو جهل، وأبي بن خلف، وأبو البحتري بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والعاص بن وائل، والنضر بن الحارث، ومخرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، والأحنف بن شريق، وغيرهم.
قال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب وقولوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وإنا أتيناك لتقض بيننا وبين ابن أخيك. فمشوا إليه وهو يومئذ مريض مرض الموت ، فشكوا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: " أريد منهم كلمة واحدة إذا قالوها ملكوا العرب ودانت لهم العجم " فقالوا: وما هي؟! قال: " قولوا لا إله إلا الله " فنفروا من ذلك؛ وقالوا: أنجعل آلهة إلها واحدا؟! "
وقيل:
" إن أبا طالب لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قال: با ابن أخي؛ هؤلاء قومك يسألونك السواء، فلا تمل كل الميل عليهم، فقال: " وماذا يسألونني؟ " قال: ترفض ذكر آلهتهم ويدعونك وإلهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني أدعوهم إلى كلمة واحدة " قالوا: وما هي؟ قال: " لا إله إلا الله " ".
فنفروا من ذلك، وقال: { أجعل الآلهة إلها واحدا } ، فاغتاظوا من ذلك وخرجوا من عند أبي طالب يقول بعضهم لبعض: أمشوا واصبروا على آلهتكم. فذلك قوله تعالى: { وانطلق الملأ منهم }؛ أي انطلق من مجلسهم وهم يقولون الذي كانوا فيه عند أبي طالب، وهم يقولون: اثبتوا على عبادة آلهتكم واصبروا، { أن امشوا واصبروا على آلهتكم }؛ على دينكم، { إن هذا لشيء يراد }؛ أي هذا الشيء يريده محمد صلى الله عليه وسلم ولا يتم له ذلك.
[38.7]
قوله تعالى: { ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة }؛ أي قالوا: ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد في الملة الآخرة، يعنون النصرانية؛ لأنها آخر الملل، والنصارى لا توحد بأنهم يقولون: ثالث ثلاثة. { إن هذا إلا اختلاق }؛ أي قالوا: ما هذا الذي يقوله محمد صلى الله عليه وسلم إلا كذب اختلقه من تلقاء نفسه، يعنون الذي جاء به من التوحيد والقرآن.
[38.8]
قوله تعالى: { أءنزل عليه الذكر من بيننا }؛ أي قال المشركون: اختص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والكتاب من بيننا، ونحن أكبر منه سنا وأعظم شرفا! والمعنى بالذكر القرآن.
يقول الله تعالى: { بل هم في شك من ذكري }؛ أي يقولون ما يعتقدونه إلا شاكين، { بل لما يذوقوا عذاب }؛ الاستئصال، وهذا تهديد لهم، أي أنهم سيذوقوا العذاب ثم لا ينتفعون بزوال الشك في ذلك الوقت.
[38.9]
قوله تعالى : { أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب }؛ معناه: عندهم خزائن رحمة ربك؛ أي بأيديهم مفاتيح النبوة والرسالة فيضعونها حيث شاؤا. وقيل: معناه: عندهم خزائن رحمة ربك فيمنعونك ما من الله به عليك من الكرامة وفضلك به من الرسالة. ومعنى الآية: ليس ذلك بأيديهم ولكنه بيد العزيز في ملكه، الوهاب الذي وهب النبوة لك.
[38.10]
قوله تعالى: { أم لهم ملك السموت والأرض وما بينهما فليرتقوا فى الأسباب }؛ وذلك أنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما خص به من النبوة والوحي، فقال الله تعالى: { أم لهم ملك السموت والأرض } فينازعوا خالقهم، وينزل الوحي على من يختار، فقال لهم: { فليرتقوا فى الأسباب } أي فليصعد في طوق السماوات من سماء إلى سماء، فليمنع الوحي عنك إن كان لهم مقدرة على ذلك.
[38.11]
قوله تعالى: { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب }؛ أخبر الله تعالى نبيه أنه سيهزم جند المشركين ببدر، و(جند) خبر مبتدأ محذوف؛ أي هم جند، و(ما) زائدة، و(هنالك) إشارة إلى بدل ومصارعهم بها و(الأحزاب) سائر من تقدمهم من الكفار الذين تجرؤوا على الأنبياء عليهم السلام.
[38.12-14]
قوله تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح } ، أي كذبت قبل قومك قوم نوح، { وعاد } ، هودا، وكذب، { وفرعون ذو الأوتاد } ، وموسى عليه السلام، { وثمود }؛ صالحا، { وقوم لوط } ، لوطا، { وأصحاب لئيكة }؛ شعيبا، كذب هؤلاء أنبياءهم فحل بهم عذاب الاستئصال، وكذلك { أولئك }؛ أي أؤلئك، { الأحزاب } ، والأحزاب الجماعة الكثيرة القوية، { إن كل إلا كذب الرسل } ، كلهم كذبوا الرسل رسلهم، { فحق عقاب } ، فحق عليهم عقابي وعذابي، وكذلك يحق على قومك.
وسمي فرعون ذو الأوتاد؛ لأنه كان يمد بين الأوتاد فيرسل عليهم الحيات والعقارب. وقيل: إنه كان إذا غضب على الإنسان واتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض، قال عطية: (ذو الأوتاد؛ أي ذو الجنود والجموع الكثيرة) يعني أنهم كانوا يقون أمره ويشددون ملكه كما يقوي الوتد الشيء. وقيل: الأوتاد الأبنية المشيدة، سميت بذلك لارتفاعها كما سميت الجبال أوتادا.
[38.15]
قوله تعالى: { وما ينظر هؤلآء إلا صيحة واحدة }؛ أي ما ينظر أهل مكة لوقوع العذاب بهم إلا صيحة واحدة وهي نفخة البعث، وذلك أن العقوبة في قوم النبي صلى الله عليه وسلم مؤخرة إلى يوم البعث، وعقوبة الأمم الماضية كانت معجلة في الدنيا ومؤجلة في الآخرة، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقوبة الاستئصال في الدنيا من الأمم الماضية، وقال في هذه الأمة
بل الساعة موعدهم
[القمر: 46].
قوله تعالى: { ما لها من فواق }؛ أي ما لتلك الصيحة من رجعة إلى الدنيا، والفواق بضم الفاء وفتحها بمعنى واحد وهو رجوع، ومن ذلك قولهم: أفاق فلان من الجنون ومن المرض؛ إذا رجع إلى الصحة. والفواق بضم الفاء ما بين حلبتي الناقة؛ لأن اللبن رجوعه إلى الضرع بين الحلبتين. والمعنى: ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من رجوع. وقيل: يردد لك الصوت فيكون له رجوع.
[38.16]
قوله تعالى: { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب }؛ أي قاله المشركون عجل لنا صحيفتنا قبل الحساب حتى نعلم ما فيها، قال الكلبي: (لما نزل في الحاقة:
فأما من أوتي كتبه بيمينه
[الحاقة: 19] و
وأما من أوتي كتبه بشماله
[الحاقة: 25] قالوا على جهة الاستهزاء: ربنا عجل لنا قطنا في الدنيا، فقيل: يوم الحساب أعجل لنا كتابنا، قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء).
والقط: الصحيفة التي أحصت كل شيء. وقيل: القط: النصيب، وسميت كتب الجوائز قطوطا لأنهم كانوا يكتبون الأنصباء من العطايا في الصحائف، يقال: أخذ فلان قطه؛ إذا أخذ كتابه الذي كتب له بجائزته وصلته.
وقال ابن عباس: (معنى قوله { قطنا } أي حظنا من العذاب والعقوبة). قال قتادة: (نصيبنا من العذاب). قال مجاهد: (عقوبتنا). وقال عطاء: (هو يقوله النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو اءتنا بعذاب أليم).
[38.17]
قوله تعالى: { اصبر على ما يقولون }؛ اصبر يا محمد على ما يقولون من تكذيبك وعلى قولهم إنك ساحر وشاعر ومجنون وكاهن، وانتظر ما وعدك الله من النصر عليهم والانتقام منهم، { واذكر عبدنا داوود ذا الأيد }؛ أي ذي القوة في العبادة وذا النعم الكثيرة، كيف صبر على أذى قومه، { إنه أواب }؛ أي مطيع لله، مقبل على طاعته. والأواب: كثير الأوب الى الله تعالى. قال الزجاج: (كانت قوة داود على العبادة أتم قوة، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشد الصوم، وكان يصلي نصف الليل).
[38.18]
قوله تعالى: { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق }؛ معناه: إن الجبال كانت تسبح معه غدوة وعشية. والإشراق طلوع الشمس وإضاءتها، يقال: شرقت إذا طلعت، وأشرقت في الآية بصلاة الضحى، وعن ابن عباس رضي الله عنه:
" كنت أقرأ هذه الآية لا أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانيء في بيت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء، فتوضأ ثم صلى الضحى، وقال: " يا أم هانيء هذه صلاة الإشراق " ".
[38.19]
قوله تعالى: { والطير محشورة كل له أواب }؛ أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه تسبح الله معه غدوة وعشيا، { كل له أواب } أي كل لله تعالى مسبح ومطيع يرجع التسبيح مع داود كلما سبح. وقيل: معناه: كل له رجاع إلى طاعته وأمره.
[38.20]
قوله تعالى: { وشددنا ملكه }؛ أي قوينا ملكه وثبتناه بالهيبة، ويقال بالحرس، كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، كان فيهم أبناء الأنبياء لم يطمع في ملكه أحد. قرأ الحسن: (وشددنا) بالتشديد. قوله تعالى: { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب }؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: (الحكمة هي النبوة والمعونة بكل ما حكم). فقال مقاتل: (الحكمة الفهم والعلم). وقيل: الحكمة كل كلام حسن يدعو إلى الهدى وينهى عن الردى.
وأما { فصل الخطاب } فهو فصل القضاء بين الحق والباطل فيما بين الخصوم، لا يتعتع في قضائه. وقيل: فصل الخطاب وهو الحكم بالبينة واليمين. وقيل: هو قوله: أما بعد، وهو أول من قال: أما بعد، ومعناه أما بعد حمد الله فقد بلغت كذا وسمعت كذا.
[38.21-22]
قوله تعالى: { وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب }؛ اختلفوا في خطيئة داود عليه السلام والذي هو مستفيض بين العوام ما ذكره الكلبي: (أن داود عليه السلام كان يصلي ذات يوم في محرابه، والزبور منشور بين يديه، إذ جاءه إبليس في صورة حمامة من ذهب فيها كل لون حسن، فوقفت بين يديه فمد يده ليأخذها، فطارت غير بعيد من غير أن توسد من نفسها، فامتد إليها ليأخذها فطارت حتى وقعت في الكوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فجعل داود عليه السلام ينظر أين تقع، فأبصر امرأة في بستان تغتسل، وإذا هي من أعجب النساء وأحسنهن، وأعجبته، فلما حانت منها التفاتة أبصرته فأسبلت شعرها على جسمها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها. فسأل داود عنها وعن زوجها، فقالوا اسمها تشايع بنت شائع وزوجها أوريا بن حنانا وهو غائب في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود، فكتب داود إلى ابن أخته: اذا أتاك كتابي هذا فابعث أوريا إلى موضع كذا وإلى القلعة الفلانية، ولا يرجعوا حتى يفتحوها أو يقتلوا. فلما جاء الكتاب ندبه وندب الناس معه، فأتوا القلعة فلما أتوها رموهم بالحجارة حتى قتلوهم وقتل أوريا معهم. فلما انقضت عدتها تزوجها داود عليه السلام، فهي أم سليمان.
فلما دخل داود عليه السلام بها، فلم يلبث إلا يسيرا حتى بعث عليه ملكين في صورة آدميين، فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته، وكان من عادته أنه جزأ الدهر يوما لعبادته؛ ويوما لنسائه؛ ويوما للقضاء بين الناس.
فلما جاء الملكان في يوم عبادته منعهما الحرس من الدخول عليه، فتسوروا المحراب؛ أي دخلوا عليه من فوق المحراب، { إذ دخلوا على داوود } ، فلم يشعر وهو يصلي إلا وهما بين يديه جالسين، { ففزع منهم قالوا لا تخف } ، ففزع منهما، فقالا: لا تخف يا داود نحن، { خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط }؛ أي ولا تجر، قال السدي: (ولا تسرف)، وقال المؤرج: (ولا تفرط).
وقرأ أبو رجاء (تشطط) بفتح التاء وضم الطاء الأولى من الشطط، والإشطاط مجاوزة الحد. قوله تعالى: { واهدنآ إلى سوآء الصراط }؛ أي وأرشدنا إلى الطريق المستقيم.
[38.23]
قوله تعالى: { إن هذآ أخي له تسع وتسعون نعجة }؛ قال أحد الملكين: إن هذا أخي، أي على ديني له تسع وتسعون امرأة. والنعجة: البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج من البقر، وإنما يعني بهذا داود؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وهذا من أحسن التعريض، ويسمى تعريض التفهيم والتنبيه؛ لأنه لم يكن هناك نعاج.
وقوله تعالى: { ولي نعجة واحدة }؛ أي امرأة واحدة، { فقال أكفلنيها }؛ أي ضمها إلي واجعلني كبعلها أعولها. والمعنى: طلقها حتى أتزوجها، وقال ابن جبير: (معنى قوله: { أكفلنيها } أي تحول عنها)، { وعزني في الخطاب }؛ أي غلبني، وقال الضحاك: (أي تكلم وكان أفصح مني، وإن عاداني كان أبطش مني)، وقال عطاء: (معناه أعز مني وأقوى على مخاطبتي لأنه كان الملك).
[38.24-25]
قوله تعالى: { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه }؛ أي إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك بما كفلك من قوله عن امرأتك ليتزوجها هو. قوله تعالى: { وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض }؛ معناه: وإن كثيرا من الشركاء ليظلم بعضهم بعضا، ظن داود أنهما شريكان. وقوله تعالى: { إلا الذين آمنوا }؛ معناه: إلا الذين آمنوا { وعملوا الصالحات }؛ فإنهم لا يظلمون أحدا، { وقليل ما هم }؛ أي هم قليل، يعني الذين لا يظلمون.
قال السدي: (لما قال أحدهما: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، قال داود عليه السلام للآخر: ما تقول؟ قال: نعم لي تسع وتسعون نعجة وله نعجة، وأنا أريد أن آخذها وأكمل نعاجي مائة، قال داود عليه السلام: وهو كاره؟ قال نعم وهو كاره، قال: إذا لا ندعك وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا، وهذا يعني طرف الأنف، وأصله: الجبهة.
قال: يا داود أنت أحق أن يضرب مثل هذا، وهذا يعني طرف الأنف وأصله، حيث كان له تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة، فلم تزل تعرضه للقتل حتى قتل وتزوجت امرأته. ثم صعدا إلى السماء، فعلم داود عليه السلام أن الله قد ابتلاه وامتحنه، فخر راكعا أي ساجدا وأناب. ورجع إلى طاعة الله تعالى بالتوبة والندامة.
ومعنى قوله تعالى: { وظن داوود أنما فتناه }؛ أي وعلم داود أنا امتحناه بما قدرنا عليه من نظره إلى المرأة وافتتانه بها، وهذا قول بعض المفسرين، إلا أن هذا قول مردود، لا يظن بداود عليه السلام ضلالة، فهو أجل قدرة وأعظم منزلة، وكيف يظن بالأنبياء عليهم السلام أن يعرض المسلمين للقتل لتحصيل نسائهم لأنفسهم، ومن نسب الأنبياء عليهم السلام إلى هذا وصدق به فهو ممن لا يصلح لإيمانه بهم، ولئن يخطئ الإنسان في نفي الفواحش عنهم خير ممن يخطئ في إضافتها إليهم، وقد أمرنا في الشريعة بحمل أمور المسلمين على الصحة والسداد ما أمكن.
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما زاد داود عليه السلام على أن قال لزوجها: تحول لي عنها). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (لئن سمعت أحدا يقول إن داود عليه السلام قارب من تلك المرأة سواء أو حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص معتقدا صحته جلدته مائة وستين جلدة) يعني مثل حد قذف سائر الناس.
وقيل: إن ذنب داود عليه السلام أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالا، وحدث نفسه بذلك، فاتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغه قتله لم يجزع ولم يتوجع عليه كما يجزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك؛ لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله.
وقوله تعالى: { فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب }؛ أي خر ساجدا، وعبر عن السجود بالركوع لأن كليهما بمعنى الإنحناء، روي أنه مكث ساجدا أربعين ليلة حتى نبت العشب من دموعه على رأسه وأكلت الأرض جبينه، وكان يقول: رب زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب، سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته، وداود يبكي على خطيئته.
إلهي أنت خلقتني وفي سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف الغطاء، فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، وبأي قدم أقوم بها يوم تزل أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور.
إلهي أنا الذي لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك؟ سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي، سبحان خالق النور، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث، إلهي أنت تعلم سريرتي وعلانيتي، فاقبل معذرتي، سبحان خالق النور، إلهي برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك فإن إليك رغبتي، سبحان خالق النور.
إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، إلهي أعوذ بك من دعوة لا تستجاب، وصلاة لا تقبل، وذنب لا يغفر، سبحان خالق النور، إلهي فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين، ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وفنيت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطيئتي الزم بي من جلدي، سبحان خالق النور.
فأتاه نداء من السماء يا داود أجائع أنت فتطعم؟ أظمآن أنت؟ لتبقى مظلوم أنت فتنصر، ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء، فصاح صيحة فنودي: ارفع رأسك فقد غفرت لك، فلم يرفع رأسه حتى أتى جبريل فرفعه.
قال وهب: (لما نودي داود عليه السلام يا داود إني قد غفرت لك، قال: يا رب وكيف أنت لا تظلم أحدا؟ قال اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداءك فتحلل منه، وانطلق حتى أتى قبره، وناداه يا أوريا فقال: لبيك من هذا الذي قطع علي لذتي؟ فقال أنا داود، فقال ما جاء بك يا نبي الله؟ قال: أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك، قال: وما كان منك إلي؟ قال: عرضتك للقتل، قال: إنما عرضتني للجنة، فأنت في حل.
فأوحى الله إليه: يا داود ألم تعلم إن حكمي عدل، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته. قال: فرجع فناداه: فقال: من هذا الذي قطع علي لذتي؟ فقال: أنا داود، قال: يا نبي الله أليس قد غفرت عنك؟ قال: بلى؛ ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك، وقد تزوجتها فسكت فلم يجبه، فدعا فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه.
ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا نصبت الموازين القسط يوم القيامة، سبحان خالق النور، الويل ثم الويل لداود حين يؤخذ بذنبه، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار، سبحان خالق النور.
فنودي يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك، فقال: يا رب تعفوني وصاحبي لم تعف عنه؟ قال: يا داود أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه، وأقول له: هذا عوض من عبدي داود، فاستوهبك منه فيهبك لي، قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي، فذلك قوله تعالى: { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا }؛ بعد المغفرة؛ { لزلفى وحسن مآب }؛ أي لقربة ومكانة ومنزلة حسنة.
وعن مالك بن دينار في قوله تعالى: { وإن له عندنا لزلفى } قال: (يقول الله لداود وهو قائم بساق العرش: يا داود مجدني بصوتك الرخيم، فيقول: كيف وقد سلبتنيه في الدنيا؟ فيقول: إني أرده عليك، قال: فرفع داود صوته بالزبور فيستفرغ نعيم أهل الجنة وهو قوله { وحسن مآب } يعني الجنة التي هي مآب الأولياء والأنبياء).
وعن وهب بن منبه قال: (لما تاب الله على داود بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا ترقى له دمعة ليلا ولا نهارا، وكان أصاب الذنب وهو ابن سبعين سنة، وكان يخرج إلى الفيافي فيبكي ويبكي معه الشجر والرمال والطير والوحش، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالبكاء فتبكي معه الحجارة والجبال والدواب، ثم يجيء إلى الساحل فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطير الماء.
ثم يرجع إلى محرابه وقد بسط له فيه فرش من مسوح حشوها ليف، فيجلس عليها ويجيء الرهبان فيجلسون معه فيبكي وينوح، والرهبان معه فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش في دموعه ويصير داود مثل الفرخ، فيضطرب ويجيء ابنه سليمان عليه السلام فيحمله، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله).
وروي أن داود عليه السلام ما شرب قط بعد المغفرة شرابا إلا ونصفه ممزوج بدموعه، وكان يقول: سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك فكلهم عليك دلوني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خدت الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض "
، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كان الناس يعودونه وأنه يظنون أن به مرض وما به من مرض إلا الخوف والحياء من الله عز وجل، وما رفع داود عليه السلام رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتى مات ".
وكان داود عليه السلام اذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله، وإذا ذكر رحمته تراجعت. وعن الحسن رضي الله عنه أنه قال: (كان داود عليه السلام بعد الخطيئة لا يجلس إلا مع الخاطئين، ثم يقول: تعالوا إلى داود عليه السلام الخطاء، وكان يؤتى بخبز الشعير في الإناء، فلا يزال يبكي حتى يمتلئ بدموع عينيه، وكان يذرأ عليه الرماد ويأكله ويقول: هذا أكل الخاطئين).
وقال الكلبي رضي الله عنه: (سجد داود أربعين يوما حتى سقطت جلدة وجهه ونبت العشب من دموعه فعلى غطاء رأسه، وكان لا يقوم من سجوده إلا لصلاة أو قضاء حاجة، وكلن يقول في دعائه ومناجاته: قد عرفت يا رب رحمتك واسعة، ولولا رحمتك لفضحتني، فمن الذي ينصرني إن خذلتني؟ ومن الذي يغفر لي خطيئتي إن لم تمحها عني؟ ومن الذي يتداركني برحمته إن لم تجاوز عني؟
تصدعت الخدود وانقطت الاشجار وارتجت البحار وفزعت الجبال والآكام من عظم خطيئتي، لا أطيق حملها إن لم تحملها عني، فني دمعي وطال حزني ودق عظمي وبان لحمي، وبقي ذنبي على ظهري.
إليك أشكو فاقتي وضعفي وإفراطي في أمري، يا إله إبراهيم واسحاق ويعقوب، تنام كل عين وتستريح، وقد شخصت عيناي تنتظران إلى رحمتك، أدعوك يا رب فأسرع إجابتي وتقبل دعائي وارحم شحطي، وتجاوز عني برحمتك. فاستجاب الله دعاءه وغفر له ذنبه.
[38.26]
قوله تعالى: { يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض }؛ أي قال الله له بعد المغفرة، { يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض } أي نبيا ملكا على بني إسرائيل، والخليفة هو المدبر للأمر والمقيم. يا داود إنا صيرناك خليفة في الأرض تدبر أمور العباد من قبلنا، { فاحكم بين الناس بالحق }؛ أي العدل الذي هو حكم الله بين خلقه، { ولا تتبع الهوى } ، في الحكم بين الناس، { فيضلك عن سبيل الله } ، أي فيصرفك الهوى عن طاعة الله، { إن الذين يضلون عن سبيل الله } ، أي عن دين الله، { لهم عذاب شديد } ، في الآخرة، { بما نسوا يوم الحساب } أي تركوا العمل ليوم الحساب.
[38.27-28]
قوله تعالى: { وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا }؛ أي ما خلقناهما وما بينهما من الخلق عبثا إلا للأمر والنهي، وإنما خلقناهما للتعبد ولنجزي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته. قوله تعالى: { ذلك ظن الذين كفروا }؛ يعني أهل مكة الذين ظنوا أنهما خلقا لغير شيء، وأنه لا قيامة ولا حساب، { فويل للذين كفروا من النار }.
قال مقاتل: قال كفار قريش: إنا نعطى في الآخرة ما تعطون فأنزل الله تعالى: { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض }؛ معناه: أنجعل المؤمنين المطيعين كالمفسدين في الأرض؟ { أم نجعل المتقين كالفجار }؟ أي أم نجعل الذين يتقون الكفر والكبائر كالفجار الذين يرتكبون تلك الكبائر، لا نسوي بين الفريقين ولا ننزلهما منزلة واحدة.
[38.29]
قوله تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مبارك } أي هذا كتاب أنزلناه إليك مبارك فيه بركة لكم، كثير خيره ونفعه يعني القرآن، وقوله تعالى: { ليدبروا آياته }؛ أي ليتدبر الناس آياته يعني آيات الله، { وليتذكر أولوا الألباب }؛ أي ليتعظ ذوي العقول من الناس.
[38.30]
قوله تعالى: { ووهبنا لداوود سليمان }؛ أي أعطينا لداود ولدا وهو سليمان، ثم أثنى على سليمان فقال: { نعم العبد إنه أواب }؛ أي رجاع إلى الله، مقبل على طاعته.
[38.31]
قوله تعالى: { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد }؛ معناه: إذ عرض على سليمان بعد العصر الخيل السوابق وهي الخيول التي غنمها سليمان من أهل دمشق وأهل نصيبين، كانوا جمعوا جموعا ليقاتلوه فهزمهم وأصاب منهم ألف فرس غراب فعرضت، فجعل ينظر إليها ويتعجب من حسنها حتى شغلته عن صلاة العصر وغربت الشمس.
فذكر الصلاة فغضب وقال: ردوا الخيل علي، فردت فجعل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف حتى عقر منها تسعمائة فرس، وهي التي كانت عرضت عليه وبقيت مائة لم تعرض عليه، فكل ما في أيدي الناس من الخيل العراب فهي من نسل تلك المائة. هذا ذكره الكلبي.
وقد اعترض على هذا القول فقالوا: كيف يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء أن يغفل عن الصلاة المفروضة ثم يعمد إلى خيل لا ذنب لها يعقرها؟! ويجاب عنه: أن لم يكن ضرب سوقها وأعناقها إلا وقد أباح الله ذلك وأجزى به, وليس في الآية ما يقتضي أن الصلاة كانت مفروضة عليه في ذلك الوقت. وقد يذكر المسح ويراد الضرب، يقول العرب: مسح علاوته اذا ضربها بالسيف.
والصافنات هي الخيل التي تقوم ثلاثا وتكون القائمة الرابعة تصل إلى طرف حافرها بالأرض. صفن الفرس إذا يصفن صفونا إذا قام على ثلاث، وقلب أحد حوافره. والجياد جمع جواد، يقال فرس جواد اذا " كان سابقا " بالركض.
[38.32]
قوله تعالى: { فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي }؛ يعني إني آثرت الخير، ينال بهذا الخيل فشغلت به عن الذكر، وقد يذكر الخير ويراد به الخيل، لأن الخيل معقود بنواصيها الخير. قال الفراء: (يعني آثرت حب الخير). وقال قطرب: (أراد حبا على المصدر، ثم أضاف الحب إلى الخير).
وقوله تعالى: { عن ذكر ربي } يعني صلاة العصر. وقوله تعالى: { حتى توارت بالحجاب }؛ كناية عن الشمس؛ والمعنى حتى استوت الشمس بما يحجبها عن الأبصار، ولأن قوله تعالى (بالعشي) كناية عن الشمس؛ أي فيه ما يجري مجرى الشمس، وجاز الإضمار إذ في الكلام ما يدل عليه، قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
وأجن عورات الثغور ظلامها
[38.33]
قوله تعالى: { ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق }؛ قال أبو عبيد: (معنى الطفق يقول مثل ما زال يفعل ، وهو مثل: ظل وبات، والمعنى طفق يمسح مسحا؛ أي يضرب ضربا). وقال الفراء: (المسح ها هنا القطع). والمعنى: أنه ضرب سوقها وأعناقها؛ لأنها كانت سبب فوت صلاته، وقال عند ذلك: حتى لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى. والسوق جمع ساق.
[38.34]
قوله تعالى: { ولقد فتنا سليمان }؛ اختلفوا في سبب فتنة سليمان، قال بعضهم: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صدوق، بها ملك عظيم الشأن، فخرج سليمان إلى تلك المدينة تحمله الريح حتى نزل بها بجنوده من الجن والانس، فقتل ملكها وسبا ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال " لها " جرادة، لم ير مثلها حسنا وجمالا.
فدعاها سليمان إلى الاسلام فأسلمت على قلة نية منها، ولم يعلم سليمان ما في قلبها، فتزوجها وأحبها محبة شديدة لم يحب أحدا من نسائه، فكانت عنده لا يذهب حزنها ولا يرقى دمعها، فشق ذلك على سليمان، وقال لها: ويحك! ما هذا الحزن الذي لا يذهب؟ قالت: إني أذكر أبي أذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك. قال سليمان: قد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا خيرا من سلطانه، وهداك للإسلام، وهو خير من ذلك كله. قالت: هو كذلك؛ ولكن إذا ذكرت أبي أصابني ما ترى من الحزن، فلو أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري التي أنا فيها آراها بكرة وعشيا لرجوت أن يذهب ذلك حزني، ويسلي عني بعض ما أجد. فأمر سليمان الجن فمثلوا لها صورة أبيها في دارها كأنه هو، إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فآزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبسها.
وكان إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في ولائدها حتى تسجد له ويسجدن هن له، وكذلك كانت تعمل بالعشي وسليمان عليه السلام لا يعلم شيئا من ذلك، فكانت على ذلك أربعين صباحا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان صديقا، فقال لسليمان عليه السلام: إن غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة، قال: في داري؟! قال: في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، فأمر برماد قد رش، ثم أقبل تائبا إلى الله حتى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله عز وجل وتضرعا إليه، يدعو ويبكي ويستغفر مما كان في داره، فلم يزل يومه كذلك حتى أمسى ثم رجع.
وكانت أم ولد يقال لها الأمينة، كان إذا دخل لقضاء حاجته وضع خاتمه عندها حتى يتطهر، وكان لا يمس خاتمه وإلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضع يوما من الأيام خاتمه عندها كما كان يضعه، ثم دخل موضع الحاجة فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه صخرا على صورة سليمان لا تنكر منه شيئا، فقال: يا أمينة هات خاتمي، فناولته إياه، فجعله في يده ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس.
وخرج سليمان فأتى أمينة وقد تغير من حاله وهيئته عند كل من رآه، فقال: أمينة هات خاتمي، قالت: ومن أنت؟! قال: أنا سليمان بن داود عليه السلام، قالت: لست سليمان، وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمان أن الخطيئة قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدور من دور بني اسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون يزعم أنه سليمان.
فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق ويعطونه كل يوم سمكتين، فاذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها. فمكث كذلك أربعين يوما صباحا عدة ما كان عبد الوثن في داره.
فلما مضى أربعون يوما طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة فأخذها بعض الصيادين وكان قد عمل له سليمان، فأعطاه سمكتين أجرته، فباع سليمان إحدى السمكتين بأرغفة وعمد إلى السمكة الأخرى فشق جوفها ليشويها، فوجد الخاتم فجعله في يده، ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجن، وأقبل عليه الناس وعرف أن الذي كان دخل عليه إنما هو بسبب ما كان أحدث في داره، فرجع إلى مملكته وأظهر التوبة من ذنبه.
وأمر الشياطين فقال: إئتوني بصخر، فطلبته له الشياطين حتى وجدته، فأتي به فأدخل في صخرة وسد عليه بأخرى ثم أوثقها بالحديد والرصاص ثم أمر به فقذف في البحر.
وقال بعضهم: كان سبب فتنته قتله الخيل وضربه سوقها وأعناقها.
قوله تعالى: { وألقينا على كرسيه جسدا }؛ أي شيطانا اسمه صخر، وقد ذكرناه. ويقال: معنى ذلك أن سليمان كان له ولد فاجتمعت الشياطين فقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك ما نحن فيه من البلاء والخدمة، فسبيلنا أن نقتل الولد أو نخبله، فعلم سليمان بذلك فأمر الريح فحملته إلى السحاب فأودعه السحاب خوفا عليه من الشياطين، فعاقبه الله تعالى على تخوفه من الشياطين، وأمات ولده في السحاب فألقي ميتا على كرسيه فهو الجسد الذي أريد بقوله { وألقينا على كرسيه جسدا } لأن الجسد عبارة عما لا يكون روحا. وقوله تعالى: { ثم أناب }؛ ثم رجع بعد أربعين يوما إلى ملكه.
[38.35]
قوله تعالى: { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي }؛ معناه: لما رجع ملك سليمان إليه قال: رب اغفر لي ذنبي وهب لي ملكا لا أسلب فيه كما سلبت في المرة الأولى، { إنك أنت الوهاب } ، ولا يجوز أن يكون سؤاله الملك برغبته له في الدنيا ولا بخلا بمثله على من بعده، ولكن طلب آية تدل جميع الخلق على أن الله تعالى غفر له ذنبه ورده إلى منزلة الأنبياء عليهم السلام.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أنه صلى صلاة فقال: " إن الشيطان عرض لي ليفسد علي صلاتي، فأمكنني الله منه فخنقته ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا وتنظروا إليه جميعا، فذلك قول سليمان عليه السلام { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } " ".
[38.36]
قوله تعالى: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخآء حيث أصاب }؛ فاستجبنا له دعاءه وسخرنا له الريح تسير بأمره لينة كيف أراد، وذلك أنه كان إذا أراد تسيير الريح عاصفة كانت تجري عاصفة حالة حمل السرير لكثرة من عليه من النجوم والحشم والأواني والفرش والأطعمة والأشربة، وكانت في حالة ما تجري بالسرير وذلك أرفق بمن يكون على السرير، وأبعد من الضرر.
ومعنى الآية: فسخرنا له الريح تجري بأمره لينة الهبوب ليست بالعاصف { حيث أصاب } أي حيث أراد من النواحي، وحيث قصد.
[38.37]
قوله تعالى: { والشياطين كل بنآء وغواص }؛ أي وسخرنا له الشياطين يبنون له الأبنية الرفيعة التي تعجز عنها الإنس، ويبنون له أيضا ما يشاء من محاريب وتماثيل، وقوله تعالى: { وغواص } أي ويغوصون له في البحر فيستخرجون له اللآلئ والجواهر.
[38.38]
قوله تعالى: { وآخرين مقرنين في الأصفاد }؛ أي وسخرنا آخرين من الشياطين وهم المردة، سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد وهي السلاسل من الحديد، فكان سليمان يجعل الشياطين مقرنين في القيود والأغلال، ويعرف من شاء منهم في الأعمال، فمعنى قوله { مقرنين في الأصفاد } أي مشدودون في القيود.
[38.39]
قوله تعالى: { هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب }؛ معناه: قلنا له هذا عطاؤنا لك من المال والملك والجنود المسخرة لم نعطه أحدا قبلك، ولا نعطيه أحدا بعدك.
وقوله { فامنن أو أمسك } أي إعطاء ما أعطيناك من شئت وكيف شئت وما شئت ولمن شئت، واحبس عمن شئت بغير تقدير، ولم يؤخذ عليك حد محدود في المنع ولا في الإعطاء، ولا حرج عليك فيما فعلت من ذلك، وقال في معنى { فامنن أو أمسك } أي أطلق من الشياطين الذين أوثقتهم أو امسك في الوثاق من شئت منهم، وليس عليك في ذلك تبعة ولا جزاء.
[38.40]
قوله تعالى: { وإن له عندنا لزلفى }؛ أي وإن مع ما خص به في الدنيا في الملك والبسطة والنبوة والرسالة لقربه عندنا، { وحسن مآب } ، في الآخرة ونصيبا وافرا من ثوابنا في الجنة، فجمع له ملك الدنيا وملك الآخرة.
وروي أن مدة ملك سليمان قبل الفتنة عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشر سنة، ومات وله ثلاث وخمسون سنة، ومدة ملكه أربعون سنة.
[38.41-42]
قوله تعالى: { واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب }؛ معناه: واذكر يا محمد عبدنا أيوب إذ نادى ربه في البلاء فقال: يا رب إني أصابني الشيطان بنصب؛ أي بتعب في بدني وعذاب في أهلي ومالي. والنصب والنصب بمعنى واحد، مثل الرشد والرشد والحزن والحزن.
قرأ أبو جعفر (بنصب) بضمتين، وقرأ يعقوب (بنصب) بفتح النون والصاد، وقرأ هبيرة عن حفص وعاصم (بنصب) بفتح النون وجزم الصاد، وقرأ الباقون ب (النصب) بضم النون وسكون الصاد، وكل ذلك لغات فيه.
قال قتادة: (معنى قوله { بنصب وعذاب } النصب الضر في الجسد، والعذاب في المال). قال السدي: (النصب أنصب الجسد، والعذاب أهلك المال).
ثم فرج الله عنه، واختلفوا في سبب بلاء أيوب، قال الحسن رضي الله عنه: (إن ابليس قال: يا رب هل من عبيدك من إن سلطتني عليه يمتنع علي؟ قال: نعم؛ عبدي أيوب، فجعل يأتيه الشيطان بوساوسه وحبائله فلا يقدر منه على شيء. قال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، فجعل يأتيه فيقول: يا أيوب هلك من مالك كذا وكذا، فيقول أيوب: اللهم أنت قد أعطيتنيه وأنت قد أخذته، اللهم لك الحمد على ما منعت، ولك الحمد على ما أبقيت، فمكث كذلك حتى هلك ماله كله.
فقال إبليس: يا رب إنه لا يبالي بماله فسلطني على جسده، فأنك لو سلطتني على جسده لم تجده شاكرا، فسلطه عليه فنفخ في أنفه فانتفخ وجهه وسرى ذلك إلى جسده، فوقع فيه الديدان.
إلا أن هذا القول لا يصح ولا وجه لقبوله، ولا يجوز أن يسلط الله إبليس على نبي من أنبيائه فيفعل به ما أحب.
ويقال: سبب ابتلائه أن إنسانا استغاث به في ظلم يدرؤه عنه، فصبر لورده حتى فاته فابتلي. فلما مكث أيوب في البلاء ما مكث، قاربت امرأته الشيطان في بعض الأمور، قيل: إن الشيطان قال لها: لئن أكل أيوب طعاما لم يذكر اسم الله عليه عوفي. ويقال: إنها قالت لأيوب: لو تقربت إلى الشيطان فذبحت له عناقا، فقال: لا والله، ولا كفا من تراب. وحلف ليجلدنها إن عوفي مائة جلدة. وقيل: إن إبليس قال لها: إن شفيته تقولين لي شفيته، فأخبرت بذلك أيوب فحلف.
فلما طال البلاء على أيوب، وبلغ به غاية الجد سأل الله تعالى أن يكشف ضره، فقيل له: { اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب }؛ أي اضرب بها الأرض، فركض برجله الأرض فنبعت عين ماء فاغتسل منها فذهب الداء من ظاهره، فضرب برجله الأرض مرة أخرى فنبع ماء وشرب منه، فذهب الداء من باطن جسده. والركض: هو الدفع بالرجل على جهة الإسراع، ومنه ركض الفرس لاسراعه، والمغتسل موضع الاغتسال.
[38.43]
قوله تعالى: { ووهبنا له أهله }؛ أي أحيينا له أهله وأولاده الذين كانوا بأعيانهم، { ومثلهم معهم } ، ورزقناه مثلهم في المستقبل، { رحمة منا } ، أي نعمة منا عليه، { وذكرى لأولي الألباب } ، وعظمة لأولي العقول من الناس، وذلك ليعلم العاقل أن ما يصيبه في الدنيا من المحن والمكاره والمصائب في النفس والأهل والمال، لا يكون لهوان العبد على الله كما يظنه الجهال، وإنما هو امتحان من الله لأوليائه كي يعوضهم بذلك جزيل ثوابه.
[38.44]
قوله تعالى: { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث }؛ وذلك أن أيوب كان حلف في مرضه أن يجلد امرأته مائة جلدة، وكان ذلك لشيء كرهه منها على ما تقدم، فجعل الله تحلة يمينه أن يأخذ حزمة واحدة فيها مائة قضيب فيضربها به. والضغث: هو ملء الكف من الشجرة والحشيش والشماريخ.
وقوله تعالى: { ولا تحنث } أي لا تدع الضرب فتحنث، وفي هذا دليل على جواز الاحتيال بمثل هذه الحيلة في اليمين على الضرب، فأما في الحدود فلا يجوز الاحتيال بمثل هذا؛ لأن الله تعالى قال:
ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله
[النور: 2] وهذا نهي عن التخفيف عن من وجب عليه الحد.
قوله تعالى: { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب }؛ أي إنه صبر على البلاء الذي ابتلي به . فإن قيل: كيف صبر وهو يقول مسني الضر؟ قيل: إنه لم يشك إلى مخلوق وإنما شكا إلى الله عز وجل حين ألح عليه الشيطان بالوسوسة، وخاف على نفسه أن لا يقوم بطاعة الله تعالى، فدعا الله بعد أن أذن له في الدعاء. والأواب: هو المقبل على طاعة الله تعالى الراجع إليه.
[38.45]
قوله تعالى: { واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب } معناه: اذكر يا محمد لقومك وأمتك حديث هؤلاء الأنبياء؛ ليقتدوا بهم في حسن إقبالهم؛ فيستحقوا بذلك جميل الثناء وجزيل الثواب. وقال مقاتل: (معناه: واذكر يا محمد صبر عبادنا إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر اسحاق على الذبح، وصبر يعقوب حين ذهب بصره، ولم يذكر اسماعيل لأنه لم يقبل بشيء).
قوله: { أولي الأيدي والأبصار }؛ معناه: أولي القوة في طاعة الله والأبصار في معرفة الله. قال قتادة: (أعطوا قوة في العبادة، وبصر في الدين). ويقال: إن الأيدي جمع اليد وهي الصنيعة؛ أي وهم ذوو الصنائع الجميلة في طاعة الله تعالى.
وقرأ الحسن: (الأيد) بغير الياء وهو عبارة عن القوة. ويجوز أن يكون المراد به، فحذف الياء كما نحذف الداعي والهادي.
[38.46-47]
قوله تعالى: { إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار }؛ معناه: إنا آثرناهم بخصلة خالصة وهي ذكرى الدار الآخرة. وقال مجاهد: (إنهم كانوا يكثرون ذكر الآخرة لم يكن لهم هم غيرها). وقال السدي: (أخلصوا بذكر الآخرة؛ أي بخوف الآخرة) { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار }؛ الأصفياء هو إخراج الصفوة من كل شيء، فهم صفوة وغيرهم كدر.
[38.48]
قوله تعالى: { واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل }؛ أي اذكرهم بصبرهم وفضلهم لتسلك طريقهم، { وكل من الأخيار }. واليسع نبي من الأنبياء، قال الكلبي: (هو ابن عم الياس). وأما ذي الكفل وهو نبي أيضا كفل مائة نبي عليهم السلام يطعمهم ويسقيهم. وقيل: إنه كان يعمل في العبادة عمل رجلين فسمي ذا الكفل، والكفل الضعف كما في قوله تعالى:
يؤتكم كفلين من رحمته
[الحديد: 28].
[38.49-50]
قوله تعالى: { هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب }؛ أي هذا القرآن عظة وشرف للناس، وقيل: هو ذكر في الدنيا لهؤلاء الأنبياء يذكرون به أبدأ، وإن لهم مع ذلك لحسن مرجع في الآخرة، فسر حسن المرجع فقال: { جنات عدن }؛ أي بساتين إقامة، { مفتحة لهم الأبواب }؛ وانتصب على الحال، وذلك أنهم اذا انتهوا إليها وجدوها مفتحة الأبواب لا يحبسون على الباب ليفتح لهم عند الورود. ويقال: إن أبوابها تفتح من غير فتح ولا مفتاح، والمفتحة أبلغ من اللفظ من المفتوحة، والألف واللام في قوله { الأبواب } عوض عن الإضافة؛ تقديره: مفتحة لهم أبوابها كما في قوله تعالى
فإن الجنة هي المأوى
[النازعات: 41].
[38.51]
قوله تعالى: { متكئين فيها }؛ أي في الجنات، { يدعون فيها }؛ في الجنات، { بفاكهة كثيرة وشراب }؛ أي يدعون في الجنات بألوان الفاكهة وألوان الشراب. والاتكاء: هو الاستمساك بالسناد على هيئة جلوس الملوك.
[38.52]
قوله تعالى: { وعندهم قاصرات الطرف أتراب }؛ أي وعندهم حور في الجنة قاصرات الطرف على أزواجهن لا يردن غيرهم بقلوبهم ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. وقوله { أتراب } أي مستويات على ميلاد امرأة واحدة، مستويات في السن والشباب والحسن، كلهن بنات ثلاث وثلاثين سنة.
[38.53]
قوله تعالى: { هذا ما توعدون ليوم الحساب }؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء؛ ومعناه: قل للمتقين: هذا ما يوعدون به ليوم الحساب. وقرأ الباقون (يوعدون) بالياء؛ أي هذا الذي تقدم ذكره ما يوعد به المتقون على لسان النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية: هذا الذي ذكرناه ما توعدون به يوم الحساب.
[38.54]
قوله تعالى: { إن هذا لرزقنا }؛ أي هذا الذي ذكرناه رزقنا لهم، { ما له من نفاد }؛ أي ما له من انقطاع ولا فناء. قال ابن عباس: (ليس بشيء في الجنة نفاد، ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد حيا مكانه).
[38.55-57]
قوله تعالى: { هذا وإن للطاغين لشر مآب }؛ أي هذا الثواب الذي تقدم ذكره للمتقين، ثم ابتدأ الخبر عما للطاغين فقال: { وإن للطاغين } أي الذين طغوا على الله وكذبوا الرسل وجاوزوا الحد في الكفر والمعصية { لشر مآب } أي لشر مرجع ومصير، ثم أخبر بذلك فقال: { جهنم يصلونها }؛ أي يلزمونها يوم القيامة، { فبئس المهاد }؛ يمهدنها لأنفسهم، { هذا } العذاب { فليذوقوه حميم وغساق }؛ أي يقال لهم في ذلك اليوم: هذا حميم وغساق فليذوقوه.
والحميم: الماء الحار الذي قد انتهى حره من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار. والغساق: ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، من قولهم: غسقت عينه إذا تصبت، والغسقان الانصباب.
قرأ حمزة والكسائي وخلف: (وغساق) بالتشديد على معنى أنه يسال من صديد أهل النار. وقرأ الباقون بالتخفيف مصدر غسق يغسق إذا سال.
قال الكلبي: (الغساق هو الزمهرير البارد الذي قد انتهى برده، يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار). وقال ابن زيد: (هو المنتن بلغة الترك والطخارية والعماليق). وقال الحسن: (لا أدري ما الغساق وما سمعت فيه شيئا من الصحابة إلا أنه بعض ما أعد لأهل النار، قوم أخفوا من المعصية أعمالا فأخفى الله لهم عقابا).
[38.58]
قوله تعالى: { وآخر من شكله أزواج }؛ قرأ الأكثرون (وآخر) على الوحدان؛ أي وعذاب آخر من شكل العذاب الأول، والشكل المثل؛ يعني ضربا من العذاب على مثل الحميم والغساق في الكراهة. وقرأ أهل البصرة (وأخر) على الجمع على معنى: وأنواع أخر من شكله؛ أي وأصناف من العذاب، وقوله { أزواج } أي ألوان وأنواع وأشباه.
[38.59-61]
قوله تعالى: { هذا فوج مقتحم معكم }؛ معناه: أن القادة والرؤساء من المشركين إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الاتباع، قال الملائكة من الخزنة للقادة: هذا فوج؛ أي قطيع من الناس مقتحم معكم النار، أي داخلون معكم النار، فتقول القادة: { لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار }؛ كما صليناها، فيقول الاتباع للقادة: { قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا }؛ أي أنتم بدأتم بالكفر قبلنا، { فبئس القرار }؛ جهنم للمشركين.
ثم يقول الأتباع: { قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار }؛ أي يقولون ربنا من شرع لنا هذا الكفر وسنه لنا فزده عذابا ضعفا في النار. والاقتحام: هو الدخول في الشيء بشدة وصعوبة. وذلك أن أهل النار يساقون إليها فوجا فوجا، فيقال للرؤساء: هؤلاء الاتباع داخلون معكم، فيقولون لا مرحبا بهم، كيف يدخلون معنا ونحن في هذا الضيق؟! فيقول لهم الخزنة: إنهم صالوا النار؛ أي داخلونها كما دخلتم.
والرحب في اللغة هو السعة، وكذلك المرحب، ومعنى لا مرحبا بهم يعني لا اتسعت بهم مساكنهم ولا كرامة لهم، وهذا إخبار أن مودتهم تنقطع وتصير عداوة، فيقول لهم الأتباع: { بل أنتم لا مرحبا بكم } أي لا وسع الله عليكم، أنتم شرعتم لنا بهذا العذاب، فيقول الله تعالى: { فبئس القرار } أي بئس المكان الذي أنتم فيه.
قوله تعالى: { قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار } أي قالت الأتباع والقادة جميعا: ربنا من سن لنا هذا الكفر قبلنا فزده عذابا ضعفا مما علينا من العذاب، يعني حيات وعقارب وأفاعي. قال الحسن: (ما من أحد من أهل النار إلا وهو يعرف يوم القيامة شيطانه الذي يضله ويوسوس إليه في الدنيا).
[38.62]
قوله تعالى: { وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار }؛ قال الكلبي: (وذلك أن كفار قريش ينظرون في النار، فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين في دار الدنيا يعني فقراء المؤمنين، فعند ذلك يقولون: ربنا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار؛ أي كنا نعدهم في الدنيا من السفلة، ونقول لهم: أنتم تتركون شهواتكم تطلبون بذلك النعم بعد الفناء، فهذا معنى { كنا نعدهم من الأشرار } وهم عمار وخباب وصهيب وبلال وسلمان وسالم وأشباههم من فقراء المؤمنين).
[38.63]
قوله تعالى: { أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار }؛ أي يقولون قد اتخذناهم سخريا؛ أي مالت أبصارنا عنهم فلم نكن نعدهم شيئا، قال الحسن: (كل ذلك قد فعلوه، اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم).
ومن قرأ (اتخذناهم) بقطع الألف وفتحها معناه الاستفهام؛ كأنهم ينكرون ذلك على أنفسهم، وهم يقولون في الآخرة سخرناهم وزاغت أبصارهم عنهم لضعفهم، فيقولون: ما لنا لا نراهم، ولم يدخلوا معنا في النار، أم دخلوا معنا ولكن لا نراهم.
وفي قوله { سخريا } قراءتان: ضم السين وكسرها، فمن ضمها فهو من السخرية؛ أي استذلوهم، ومن قرأها بالكسر فهو من الهزؤ.
[38.64]
قوله تعالى: { إن ذلك لحق }؛ أي إن الذي وصف عنهم لصدق كائن واقع، ثم بين ما هو فقال: { تخاصم أهل النار }؛ أي تخاصم القادة والأتباع على ما أخبر به عنهم.
[38.65-66]
قوله تعالى: { قل إنمآ أنا منذر }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: إنما أنا منذر لكم أحذركم عقوبة الله، { وما من إله إلا الله الواحد القهار }؛ أي وقل لهم أيضا: ما من إله إلا الله الواحد لا شريك له، القهار لخلقه الغالب عليهم، { رب السموت والأرض وما بينهما العزيز الغفار }؛ أي المنتقم ممن لا يؤمن به، المتجاوز عمن تاب وآمن به.
[38.67-68]
قوله تعالى: { قل هو نبأ عظيم }؛ أي قل يا محمد لهم هذا القرآن الذي أتيتكم به عظيم الشأن والشرف، أنتم عن تدبره والعمل به معرضون. وقيل: معناه أمر القيامة عظيم؛ { أنتم عنه }؛ عن الاستعداد له، { معرضون }.
[38.69]
قوله تعالى: { ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون }؛ معناه: إن النبأ الذي أتيتكم به من قصة آدم وإبليس دليل واضح على نبوتي؛ لأن ذلك لا يعلم إلا بوحي من الله تعالى أو بقراءة الكتب، ثم بينه من بعد بقوله:
وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] الآية أي إني ما علمت ذلك إلا بوحي من الله تعالى.
[38.70]
قوله تعالى: { إن يوحى إلي }؛ معناه: ما يوحى إلي هذا القرآن، { إلا أنمآ }؛ لأني؛ { أنا نذير مبين }؛ أي ما يوحى إلي إلا لأني نبي ونذير مبين، أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن، وما تتركون من الحرام والمعصية.
[38.71-74]
قوله تعالى: { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين }؛ قد تقدم تفسير هذا.
[38.75]
قوله تعالى: { قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي }؛ أي ما منعك عن السجود لمن توليت خلقه من غير واسطة وسبب، وقوله: { أستكبرت أم كنت من العالين } ، أي رفعت نفسك فوق قدرك، { أم كنت من العالين } الذين علو في منزلة من السجود لمثله.
قال ابليس: { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين }؛ والنار شيء مضيء، والطين شيء مظلم.
[38.77-79]
قوله تعالى: { قال فاخرج منها فإنك رجيم }؛ أي قيل: من السماء، وقيل: من الجنة، وقيل: من الأرض إلى جزائر البحار. والرجيم: هو المرجوم بالخزي والفضيحة والشهب إذا رجع إلى السماء. { وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون }.
[38.80-81]
قوله تعالى: { قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم }؛ المؤجلين إلى وقت النفخة الأولى، فلم يجبه إلى ما سأل، ولم يعرفه ذلك الوقت.
[38.82-83]
قوله تعالى: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين }؛ أي لأدعونهم إلى الغواية ولأضلنهم، { إلا عبادك منهم المخلصين } ، إلا عبادك الذين أخلصتهم وعصمتهم فلا سبيل لي عليهم.
[38.84-85]
قوله تعالى: { قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين }؛ قول مجاهد والأعمش وحمزة وخلف: برفع الأول ونصب الثاني؛ أي بمعنى فأنا الحق أو فمني الحق وأقول، وقرأ الباقون بنصبهما.
واختلف النحاة في وجه ذلك، فقيل: نصب الأول على الإغراء، والثاني بإيقاع القول عليه. وقيل: الأول قسم، والثاني مفعول، تقديره: قال فبالحق وهو الله، أقسم بنفسه ثم حذف الخافض فنصب كما يقول الله: لأفعلن، أقسم الله تعالى ليملأن جهنم من إبليس وأتباعه.
[38.86]
قوله تعالى: { قل مآ أسألكم عليه من أجر }؛ أي قل يا محمد لكفار مكة: ما أسألكم على تبليغ الوحي والقرآن من مال تعطونيه جعلا، { ومآ أنآ من المتكلفين }؛ أي لم أتكلف دعاءكم اليه من تلقاء نفسي بل أمرت بذلك.
[38.87-88]
قوله تعالى: { إن هو إلا ذكر للعالمين }؛ أي ما القرآن إلا موعظة للحق أجمعين، { ولتعلمن }؛ أنتم يا كفار مكة، { نبأه }؛ أي خبر صدقه، { بعد حين }؛ أي بعد الموت، وقيل: يوم القيامة. وقال الحسن: (يا ابن آدم؛ عند الموت يأتيك الخبر اليقين).
[39 - سورة الزمر]
[39.1-2]
قوله تعالى: { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }؛ معناه: هذا تنزيل من الله العزيز بالنقمة لمن لا يؤمن، الحكيم في أمره وقضائه. ويجوز أن يكون (تنزيل) مبتدأ وخبره { من الله } كما يقال: نعم الدنيا والدين من الله تعالى. قوله تعالى: { إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق }؛ أي أنزلنا إليك هذا القرآن بالحق ولم ينزله باطلا، وقوله تعالى: { فاعبد الله مخلصا له الدين }؛ أي اعبد الله وحده لا كما يعبده عبدة الأوثان.
[39.3]
قوله تعالى: { ألا لله الدين الخالص }؛ أي إن العبادة الخالصة لله، وفي هذا بيان أن غير الخالص لا يكون لله، والإخلاص أن يقصد العبد بنيته وعمله خالقه لا يجعل ذلك تعرضا للدنيا.
وقيل: معنى { ألا لله الدين الخالص } أي إن الدين الخالص من الشرك هو لله، وما سواه من الأديان فليس بدين الله الذي أمره به. قال قتادة: (الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله).
قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أوليآء }؛ يعني الذين يعبدون الأصنام والملائكة والشمس والقمر والنجوم يقولون: { ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى }؛ أي يقولون ما نعبدهم إلا ليشفعوا لنا إلى الله.
قوله تعالى: { إن الله يحكم بينهم }؛ أي بين أهل الأديان يوم القيامة، { في ما هم فيه يختلفون }؛ من أمور الدين، كل يقول: الحق ديني، فهم مختلفون، وحكم الله بينهم: أن يعذب كلا على قدر استخفافه، وقوله تعالى: { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار }؛ أي لا يرشد لدينه من كذب في زعمه أن الآلهة تشفع له الله تعالى.
[39.4]
قوله تعالى: { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء } أي لو أراد أن يتخذ لنفسه ولدا كما زعم بعض الكفار أن الملائكة بنات الله! لما اقتصر على الأدون من البنات دون الأعلى من الذكران، وهذا كقوله تعالى
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا
[الإسراء: 40]، وقال تعالى
ألكم الذكر وله الأنثى
[النجم: 21].
وقيل: معناه: لو أراد أن يتخذ ولدا كما قالت النصارى في المسيح واليهود في العزيز لاختار خلقا أفضل من عيسى عليه السلام وعزير. وقوله تعالى: { سبحانه }؛ أي تنزيها له في كل صفة لا تكون من أرفع الصفات، وقوله: { هو الله الواحد }؛ لا شريك له و " ليس " شيء كمثله، { القهار }؛ الغالب على خلقه الذي لا يحتاج إلى ولد وظهير.
[39.5]
قوله تعالى: { خلق السموت والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل }؛ أي خلق السماوات والأرض عبرة للخلق، وإقامة للحق لا للعبث والباطل، يدير الليل على النهار، ويدير النهار على الليل، وكل واحد على الآخر، ويزيد من ساعات أحدهما في ساعات الآخر.
والتكوير: هو إدارة الشيء على الشيء، ومنه كور العمامة، وقد تسمى الزيادة كورا، كما قيل في الدعاء:
" اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور "
أي من النقصان بعد الزيادة. وقوله: { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى }؛ أي إلى الوقت الذي وقت الله الدنيا إليه وهو انقضاؤها وفناؤها، وقوله: { ألا هو العزيز الغفار }؛ أي خالق هذه الأشياء هو الله الغالب على كل شيء، الغفار لأوليائه وأهل طاعته.
[39.6]
قوله تعالى: { خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها }؛ أي خلقكم من نفس آدم وحدها ثم خلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه القصيرة، { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }؛ يعني الإنزال ها هنا الإنشاء والخلق؛ أي وخلق لكم من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز زوجين ذكرا وأنثى.
وقوله: { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } ، أي خلقكم نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن تخرجوا من البطون، { في ظلمات ثلاث }؛ يعني ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. وقيل: ظلمة الأصلاب وظلمة الأرحام وظلمة البطون. وقوله تعالى: { ذلكم الله ربكم له الملك }؛ الدائم الذي لا يزول، ولا خالق غيره، { لا إله إلا هو فأنى تصرفون }؛ بعد هذا البيان والبرهان.
[39.7]
قوله تعالى: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم }؛ أي إن تكفروا يا أهل مكة بنعم الله، فإن الله غني عنكم، لم يأمركم بالإيمان من حاجة له إليكم لا لجلب منفعة ولا لدفع مضرة، وإنما آمركم به لنفعكم، { ولا يرضى لعباده الكفر }؛ أي لا يرضى لأوليائه وأهل طاعته الكفر. وقيل: معناه: ولا يرضى لعباده المخلصين الذي قال " فيهم "
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الاسراء: 65] فألزمهم شهادة لا إله إلا الله وحببها إليهم.
وقال السدي: (ولا يرضى لعباده المؤمنين أن يكفروا)، وهذه طريقة من قال بالتخصيص في هذه الآية ومن أجراها على العموم فمعناه: لا يرضى الكفر لأحد، وكفر الكافر غير مرض، وإن كان بإرادة، فالله تعالى مقدر الكفر غير راض به لأنه " ما " يمدحه ولا يثني عليه، قال قتادة: (ما رضي الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعاه إليها، ولكن قدره عليه).
قوله تعالى: { وإن تشكروا يرضه لكم }؛ معناه: وإن تشكروا ما أنعم عليكم من التوحيد يرض ذلك الشكر لكم ويثيبكم عليه، { ولا تزر وازرة وزر أخرى }؛ أي لا تؤخذ نفس وزرا بذنب أخرى، { ثم إلى ربكم مرجعكم }؛ في الآخرة، { فينبئكم } ، فيجزيكم، { بما كنتم تعملون } ، في الدنيا، { إنه عليم بذات الصدور } ، بعزائم القلوب.
[39.8]
قوله تعالى: { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه }؛ إذا أصاب الكافر شدة في عيشه أو بلاء في جسده دعا ربه راجعا إليه بقلبه، قال عطاء: (يريد عتبة بن ربيعة)، وقال مقاتل: (يعني أبا حذيفة بن المغيرة).
وقوله: { ثم إذا خوله نعمة منه }؛ أي ثم إذا أعطاه نعمة منه؛ أي أغناه وأنعم عليه بالصحة، { نسي ما كان يدعو إليه من قبل }؛ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، { وجعل لله أندادا }؛ أي رجع إلى عبادة الأوثان، { ليضل عن سبيله }؛ أي ليزل عن دين الإسلام، ويضل الناس، { قل }؛ يا محمد لهذا الكافر: { تمتع بكفرك قليلا }؛ في الدنيا إلى أجلك، لفظه لفظ الأمر ومعناه التهديد والوعيد، { إنك من أصحاب النار }؛ في الآخرة فما ينفع التمتع القليل من الدنيا.
[39.9]
قوله تعالى: { أمن هو قانت آنآء اليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه }؛ معناه: هذا خير أيها الكافر أم من هو قانت؟ وقيل: معناه: أمن هو قانت كمن جعل لله أندادا. وقيل: معناه: أهذا الخير أم من هو قانت لله؟. والقانت: هو المواظب على طاعة الله تعالى، القائم بما يجب عليه لأمر الله. و { آنآء اليل } ساعاته.
وقوله: { ساجدا وقآئما } نصب على الحال؛ أي تارة ساجدا وتارة قائما، يفعل ذلك حذرا من العذاب وطمعا في الثواب. وقرأ نافع وابن كثير: (أمن) بالتخفيف؛ لأن ألف الاستفهام دخلت على (من) هو استفهام إنكار، والمعنى: أمن هو قانت كالأول. وروي أن قوله: { أمن هو قانت آنآء اليل ساجدا وقآئما } نزلت في عثمان ابن عفان رضي الله عنه.
وقوله تعالى: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }؛ أي لا يستوي العالم والجاهل، فكذلك لا يستوي المطيع والعاصي، { إنما يتذكر أولوا الألباب }؛ أي يتعظ بمواعظ الله ذوو العقول من الناس.
وقال مقاتل: (نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي. { قل هل يستوي الذين يعلمون } يعني عمار { والذين لا يعلمون } يعني أبا حذيفة).
وعن ابن عباس؛ أنه قال: (من أحب أن يهون عليه الموقف يوم القيامة، فليره الله ساجدا في سواد الليل ساجدا أو قائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه).
[39.10]
قوله تعالى: { قل يعباد الذين آمنوا اتقوا ربكم }؛ أي أطيعوه واجتنبوا معاصيه، وتم الكلام ثم قال: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا }؛ أي وحدوا الله وأحسنوا العمل، { حسنة }؛ يعني الجنة.
قوله تعالى: { وأرض الله واسعة }؛ أي ارحلوا من مكة، وهذا حث لهم على الهجرة من مكة إلى حيث يأمنون، فيه بيان أنه لا عذر لأحد في ترك طاعة الله تعالى لكونه بأرض لا يتمكن فيها من ذلك.
وقوله تعالى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }؛ معناه: إنما يوفى الصابرون على دينهم فلا يتركونه بمشقة تلحقهم. وهذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين لم يتركوا دينهم، ولما اشتد عليهم الأمر صبروا وهاجروا، والمعنى: يعطون أجرهم كاملا على صبرهم على البلاء، وهجران أهلهم وأوطانهم بغير وزن ولا مقدار، بل يعطون نعيما وثوابا لا يهتدي إليه عقل ولا وصف.
[39.11-12]
قوله تعالى: { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين }؛ أي قل يا محمد لكفار مكة: إني أمرت أن أعبد الله، { وأمرت لأن أكون أول المسلمين } ، وأمرت أن أعبده على التوحيد والإخلاص، لا يشوب عبادته شرك.
قال مقاتل: (وذلك أن كفار قريش قالوا له: يا محمد ما يحملك على ما أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها؟ فأنزل الله هذه الآية). أي قل لهم إني أمرت بالقرآن بتوحيد الله تعالى، وأن آمر الخلق كلهم بذلك، وأمرت أن أكون أول من أسلم من أهل هذا الزمان.
[39.13-15]
قوله تعالى: { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم }؛ بالرجوع إلى دين آبائي، { قل الله أعبد مخلصا له ديني }؛ بالتوحيد لا أشرك به شيئا، { فاعبدوا ما شئتم من دونه }؛ هذا أمر تهديد، { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة }؛ بأن صاروا إلى النار، { ألا ذلك هو الخسران المبين } ، يعني الكفار هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم من الأزواج والخدم بالتخلية في النار. ويقال: خسران الأهل أن يخسروا أهلهم من الحور العين التي أعدت لهم في الجنة لو أسلموا.
[39.16]
قوله تعالى: { لهم من فوقهم ظلل من النار }؛ أي أطباق من النار تلهب عليهم، { ومن تحتهم ظلل }؛ أي مهاد من النار. يريد بذلك أنهم جعلوا بين أطباق جهنم، فأحاطت بهم النار من كل جانب.
وإنما سمي الذي من تحتهم ظلا لأنه ظلل لا يكون أسفل منهم. وقوله تعالى: { ذلك يخوف الله به عباده }؛ أي ذلك الذي ذكر من عذاب الكفار تخويف للمؤمنين ليخافوه فيتقونه بالطاعة والتوحيد. ثم أمرهم بذلك فقال: { يعباد فاتقون }؛ أي اتقوا عذابي بامتثال أوامري.
[39.17-18]
قوله تعالى: { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها }؛ يعني اجتنبوا كل ما يعبد من دون الله، { وأنابوا إلى الله }؛ أي ورجعوا إلى طاعة الله بعزائمهم وأقوالهم وأفعالهم، { لهم البشرى }؛ بالجنة، { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }؛ وذلك لأن القرآن يشتمل على ذكر المباحات والطاعات، والمباحات حسنة، والطاعات أحسن، واستحقاق الثواب يتعلق بفعل الأحسن.
ويجوز أن يكون معنى الآية: أن العفو عن القصاص أحسن من استيفاء القصاص، والصبر أحسن من الانتصار، كما قال الله تعالى:
وأن تعفوا أقرب للتقوى
[البقرة: 237]، وقال الله تعالى:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور
[الشورى: 43]، وقال الله تعالى:
فمن تطوع خيرا فهو خير له
[البقرة: 184] فجعل الأخذ بأحسن الطريقين أعظم للصواب.
وقيل: معنى { فيتبعون أحسنه } أي أحسنه وكله حسن، قوله تعالى: { أولئك الذين هداهم الله }؛ أي الذين وصفناهم، { وأولئك } ، هم الذين وفقهم الله للصواب، { هم أولوا الألباب }؛ أي ذوو العقول.
وقال عطاء عن ابن عباس: (أن أبا بكر رضي الله عنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقه، فجاء عثمان رضي الله عنه وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وسعيد، فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا، فنزل فيهم { فبشر عباد * الذين يستمعون القول } أي يستمعونه من أبي بكر { فيتبعون أحسنه } أي حسنه، وكله حسن، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم ذوو العقول).
[39.19-20]
قوله تعالى: { أفمن حق عليه كلمة العذاب }؛ معناه: أفمن وجبت عليه كلمة العذاب بكفره كمن ليس كذلك، { أفأنت تنقذ من في النار }؛ أي سبق في علم الله أنه من أهل النار، أفأنت تنقذه فتجعله مؤمنا، يعني لا تقدر على ذلك.
قال عطاء: (يريد أبا لهب وأولاده ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان به). قوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم }؛ بالإيمان والطاعة، { لهم غرف من فوقها غرف مبنية }؛ أي لهم منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها، { تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد } ، وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا لا يخلفه.
[39.21]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء }؛ يعني المطر، { فسلكه ينابيع في الأرض }؛ أي فأجراه في الأرض ينابيع وهو جمع ينبوع، والينبوع: المكان الذي ينبع منه الماء. قال مقاتل: معناه (فجعله عيونا وركايا في الأرض) وذلك أن أصل المياه التي في الأرض من السماء.
وقوله: { ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه }؛ أي ثم يخرج بالمطر زرعا من بين أحمر وأصفر وأبيض وأخضر، { ثم يهيج }؛ أي ييبس، { فتراه }؛ بعد الخضرة، { مصفرا ثم يجعله }؛ الله ، { حطاما }؛ أي متكسرا متفتتا دقاقا، { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب }؛ أي الذي ذكر من صنع الله وقدرته لدلالة ذوي العقول على سرعة زوال الدنيا، وعلى قدرة الله على البعث بعد الموت.
[39.22]
قوله تعالى: { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه }؛ معناه: أفمن وسع الله صدره لقبول الإسلام، فهو على بيان وحجة من ربه يبصر به الحق من الباطل، كمن طبع الله على قلبه فلم يهتد للحق لقسوته، فال قتادة: (فهو على نور من ربه: النور هو كتاب الله تعالى، فيه يأخذ وبه ينهى).
وتقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه، كمن قسي قلبه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
" تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، قالوا: يا رسول الله وما هذا الانشراح؟ قال: " إذا دخل نور القلب انشرح وانفسح " قلنا يا رسول الله؛ وما علامة ذلك؟ قال: " الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل لقاء الموت "
قيل: إن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، وقال مقاتل: (أفمن شرح الله صدره للإسلام يعني النبي صلى الله عليه وسلم).
قوله تعالى: { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله }؛ هم أبو جهل وأصحابه من الكفار، { أولئك في ضلال مبين }. وقيل: إن قوله { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه } يعني عليا وحمزة، وقوله تعالى { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } هو أبو لهب وأولاده. وقوله { من ذكر الله } أي عن ذكر الله.
[39.23]
قوله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث }؛ يعني القرآن، سمي حديثا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه. وقوله: { كتابا }؛ منصوب على البدل من أحسن الحديث. قوله: { متشابها }؛ أي يشبه بعضه بعضا في كونه حكمة ومصلحة، وفي أنه حق لا تناقض فيه.
وقوله تعالى: { مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }؛ أي مكرر الأنباء والقصص للإبلاغ والتأكيد، وتثنى تلاوته في الصلاة وفي غيرها فلا يمل من سماعه.
وقوله : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } خوفا مما في القرآن من الوعيد، ومعنى تقشعر: تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله، تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة ورقها "
وقال الزجاج: (إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إذا اقشعر جلد الإنسان من خشية الله حرمه الله على النار ".
وعن عبدالله بن عروة قال: قلت لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: (كانوا كما نعتهم الله تعالى، تدمع عيونهم وتقشعر منه جلودهم) فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن خروا مغشيا عليهم؟ قالت: (أعوذ بالله من الشيطان).
وروي: أن ابن عمر رضي الله عنه مر برجل من أهل العراق ساقط فقال: (ما بال هذا؟) فقالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط، فقال ابن عمر رضي الله عنه: (إنا لنخشى الله ولا نسقط) وقال ابن عمر: (إن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم! ما كان هذا صنع أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم).
قوله تعالى: { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله }؛ أي تسكن رعدة أعضائهم إذا سمعوا آيات الرحمة، وقيل: تلين جلودهم وقلوبهم؛ أي تطمئن وتسكن إلى ذكر الله للجنة والثواب.
قال قتادة: (هذا نعت أولياء الله، وصفهم الله بأن تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما ذلك في أهل البدع وهو من الشيطان).
وقوله تعالى: { ذلك هدى الله يهدي به }؛ يعني أحسن الحديث وهو القرآن، هدى الله يهديه، { من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد }.
[39.24]
قوله تعالى: { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة }؛ قال ابن عباس: (وذلك أن الكافر يلقى في النار مغلول اليد إلى العنق، لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه)، فكان معنى الآية: أفمن يتقي بوجهه شدة العذاب يوم القيامة كمن يدخل الجنة ويتلذذ بنعيمها.
قيل: إن هذه الآية نزلت في أبي جهل، قال الكلبي: (ينطلق به إلى النار مغلولا، فإذا دفعته الخزنة فيها تتلقفه النار بأول وجهه)، وقوله: { وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون }؛ أي يقول الخزنة للكفار: ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون في الدنيا من الكفر والمعاصي.
[39.25]
قوله تعالى: { كذب الذين من قبلهم }؛ أي كذب الذين من قبل كفار مكة رسلهم، { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون }؛ يعني وهم آمنون في أنفسهم غافلون عن العذاب. وفي هذه الآية تحذير لأهل مكة لئلا يسلكوا طريقة من قبلهم فينزل بهم من العذاب ما نزل بمن قبلهم.
[39.26]
قوله تعالى: { فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا }؛ أي الهوان والعذاب في الحياة الدنيا، { ولعذاب الآخرة أكبر }؛ مما أصابهم في الدنيا، { لو كانوا يعلمون }؛ ولكنهم لم يعلموا ذلك.
[39.27]
قوله تعالى: { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل }؛ أي ولقد ضربنا لأهل مكة في هذا القرآن من كل مثل لهم فيه من كل وجه ما يحتاجون إليه، { لعلهم يتذكرون }؛ فيؤمنوا.
[39.28]
قوله تعالى: { قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون }؛ قرآنا نصبه على الحال كما يقال: جاءني زيد رجلا صالحا، وقوله تعالى: { غير ذي عوج } أي مستقيم وليس مختلف، وعن ابن عباس: (غير ذي عوج؛ أي غير مخلوق)، وقيل: غير تضادد واختلاف، لا يخالف الكتب المنزلة قبله.
[39.29]
قوله تعالى: { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون }؛ أي وصف الله مثل آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، يقول الله: الذي يعبد آلهة شين في أخلاقهم وشراسة، والذي يعبد ربا واحدا خالصا في عبادته إياه، والمعنى فيه شركاء متشاحون، ورجلا سلما لرجل سلم له من غير منازع، وقيل: معناه: أن أربابا كثيرة فيه شركاء متشاحون سيئة أخلاقهم، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه، يقال: رجل شكس وشرس، وضرس وضبس، إذا كان سيء الخلق ومخالفا للناس.
قوله تعالى: { ورجلا سلما لرجل }؛ (ورجلا سالما) هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ومجاهد والحسن ويعقوب، واختيار أبي عبيد؛ لأن السالم " الخالص " ضد المشترك، وقرأ الباقون (سلما) من غير ألف بفتح اللام وهو ضد المحارب، ولا موضع للحرب ها هنا، والمعنى ورجلا ذا سلم لرجل، من قولهم: هو لك سلم؛ أي مسلم لا منازع لك فيه.
وقوله: { هل يستويان مثلا }؛ أي هل يستوي عندك شرك فيه مختلفون يملكونه جميعا ورجل خالص لرجل لا شركة فيه لأحد. والمعنى هل يستوي من يعبد آلهة شتى مختلفة، يعني الكافر، والذي يعبد ربا واحدا، يعني المؤمن، وهذا استفهام معناه الإنكار؛ أي لا يستويان.
قوله تعالى: { الحمد لله }؛ أي الشكر لله دون غيره من المعبودين، وقوله: { بل أكثرهم لا يعلمون }؛ ما يصيرون إليه من العقاب، والمراد بالأكثر الكل.
[39.30-32]
قوله تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون }؛ إنك يا محمد ميت عن قليل وإنهم ميتون، وقيل: معناه: إنك ستموت وإنهم سيموتون، { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون }؛ يعني المحق والمبطل، والظالم والمظلوم. قوله: { فمن أظلم ممن كذب على الله } ، بأن جعل له ولدا وشريكا، { وكذب بالصدق إذ جآءه }؛ وكذب بالصدق بالتوحيد والقرآن إذ جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { أليس في جهنم مثوى للكافرين }؛ لفظة استفهام وهو تقدير وتحقيق؛ أي مثواهم جهنم.
[39.33-35]
قوله تعالى: { والذي جآء بالصدق }؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، { وصدق به }؛ أبو بكر رضي الله عنه كان يصدقه في كل ما أخبر به، فلذلك سمي صديقا، وقوله تعالى: { أولئك هم المتقون }؛ يعني أبا بكر وأصحابه المؤمنين، وقوله تعالى: { لهم ما يشآءون عند ربهم }؛ يعني لهم ما يشاؤون من الكرامة في الجنة و { ذلك جزآء المحسنين }؛ في أقوالهم وأعمالهم. وقوله تعالى: { ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا }؛ أي ليكفر الله عنهم أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا بحسناتهم، { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } ، قال مقاتل: (بالمحاسن من أعمالهم، ولا يجزيهم بالمساوئ).
[39.36-37]
قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده }؛ وذلك " أن " المشركين من أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تزال تشتم آلهتنا وتعيبها فاتقها أن لا تصيبك بشيء فتخبلك! فأنزل الله هذه الآية. وقيل: معناه: أليس الله بكاف عبده محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه عداوة من يعاديه.
ومن قرأ (عباده) فالمراد بالعباد الأنبياء، وذلك أن الأمم قصدتهم بالسوء، وهو قوله تعالى:
وهمت كل أمة برسولهم
[غافر: 5] فكفاهم الله شر من عاداهم، يعني إنه كافيك كما كفى هؤلاء الرسل قبلك.
وقوله تعالى: { ويخوفونك بالذين من دونه } ، أي بالذين يعبدون من دونه هم الأصنام. { ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام }.
[39.38]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته }؛ وذلك أنهم " مع " عبادتهم غير الله يقرون أن الله خالق هذه الأشياء، فجعل الله إقرارهم بذلك حجة عليهم.
وبين أنه تعالى إذا أراد بعبده ضرا لم تقدر الأصنام على دفعه عنه، وإذا أراد بعبد رحمة لم تقدر الأصنام على حبسها عنه، فكيف يعبدونها ويتركون عبادة الله الذي له هذه الصفات.
قوله تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون } أي أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بأن جميع ما تعبدون من دون الله لا يملكون كشف ضر، قال ابن عباس رضي الله عنه: (والمعنى: أرادني الله بفقر أو مرض أو بلاء أو شدة، هل هن كاشفات ضره، أو أرادني برحمة أي بخير وصحة، هل هن حابسات تلك الرحمة عني).
قرأ أبو عمرو ويعقوب (كاشفات) و (ممسكات) بالتنوين؛ لأن اسم الفاعل غير واقع، وما لم يقع منه فوجهها التنوين، وقرأ الباقون بغير تنوين استخفافا، وكلا الوجهين حسن.
وقوله تعالى: { قل حسبي الله }؛ أي يكفيني الله تعالى الذي بيده الضر والرحمة، { عليه يتوكل المتوكلون }؛ أي به يثق الواثقون لا بغيره.
[39.39-40]
قوله تعالى: { قل يقوم اعملوا على مكانتكم }؛ أي على ناحيتكم التي اخترتموها، { إني عامل }؛ على ناحيتي وجهتي ، { فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه }؛ أي يفضحه ويهلكه في الدنيا، { ويحل عليه عذاب مقيم }؛ وينزل عليه عذاب دائم في الآخرة. ويجوز أن يكون قوله { من يأتيه عذاب يخزيه } ابتداء كلام من الله تعالى، وخبره { يخزيه ويحل عليه عذاب }.
[39.41]
قوله تعالى: { إنآ أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق }؛ يعني القرآن لتعلموا ما فيه وتعملوا به، { فمن اهتدى فلنفسه }؛ أي فمنفعة اهتدائه راجعة إلى نفسه، { ومن ضل فإنما يضل عليها } ، ومن ضل فضلاله راجع إليه، { ومآ أنت عليهم بوكيل }؛ أي بحفيظ؛ أي تجبرهم بالإيمان، وهذا كان قبل أن يؤمر بقتالهم.
[39.42]
قوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } معناه: الله يقبض الأرواح عند انقضاء آجالها، ويقبض الأرواح التي لم تمت في منامها، { فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى }؛ فيحبس الأرواح التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الأجساد، ويرد أرواح النائمين إليهم عند الاستيقاظ، { إلى أجل مسمى }؛ أي إلى الأجل الذي قدر الله لهم وهو انقضاء الأجل، { إن في ذلك لآيات }؛ إن في رد الأرواح بعد القبض لعلامات، { لقوم يتفكرون }؛ في قدرة الله تعالى، فيستدلون بذلك على قدرته على البعث.
قال الزجاج: (لكل إنسان نفسان؛ أحدهما: نفس التمييز؛ وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل. والأخرى: نفس الحياة؛ إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس). وعن ابن جريج عن ابن عباس أنه قال: (إن النفس التي هي العقل والتمييز، والروح هو الشعاع الذي به يتحرك الإنسان، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، وإذا مات قبض نفسه وروحه).
ويقال: إن الأشباح له نفس وروح وحياة، والبهائم لها أرواح، والنبات له حياة، فنما النبات بحياته، وتحرك البهائم بأرواحها، وتمييز الإنسان بنفسه، فإذا نام غرب عنه عقله وفهمه وتمييزه، فإذا انتبه عاد كما كان، وكذلك الميت إذا بعث عاد يبعث كما كان.
" وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنة؟ فقال: " النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون ولا يموتون "
وروي أن في التوراة مكتوب : يا بن آدم كما تنام تموت، وكما تستيقظ تبعث.
وقوله { فيمسك التي قضى عليها الموت } أي يمسكها عن جسد، يعني الروح التي توفاها فلا تعود إلى الجسد، وقوله { ويرسل الأخرى } يعني النفس إلى الجسد { إلى أجل مسمى } أي إلى انقضاء الأجل.
قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (قضي عليها) بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء، ورفع (الموت) على ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون: (قضى) على الفعل الماضي، ونصب (الموت عليها).
قوله تعالى: { الله يتوفى الأنفس }؛ قال المفسرون: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتعارفوا ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات فلا يردها، وأرسل أرواح الأحياء إلى الأجساد إلى وقت انقضاء مدة حياتها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليضطجع على جنبه الأيمن، وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ".
[39.43-44]
قوله تعالى: { أم اتخذوا من دون الله شفعآء }؛ نزلت في أهل مكة زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله، فقال تعالى منكرا عليهم (أم اتخذوا من دون الله آلهة) أي بل اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها طمعا في شفاعتها، { قل } ، لهم يا محمد: { أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } ، أتعبدونهم وإن كانوا لا يقدرون على شيء من الشفاعة ولا يعقلون الشفاعة، فكيف يشفعون؟ وقيل: ولا يعقلون أنكم تعبدونهم.
ثم أخبر أنه لا شفاعة إلا بإذنه، فقال: { قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموت والأرض ثم إليه ترجعون }؛ أي لا يشفع أحد إلا بإذنه، والمعنى لا يملك أحد الشفاعة إلا بتمليكه، وهو إبطال لشفاعة الأصنام.
[39.45-46]
قوله تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة }؛ وذلك أن المشركين إذا قيل لهم لا إله إلا الله وحده نفروا من ذلك واستكبروا.
والاشمئزاز في اللغة: النفور والاستكبار. قال ابن عباس رضي الله عنه: (اشمأزت انقبضت عن التوحيد) وقال قتادة: (استكبرت)، وقال أبو عبيدة: (نفرت).
قوله تعالى: { وإذا ذكر الذين من دونه }؛ يعني الأصنام التي يعبدونها من دون الله، { إذا هم يستبشرون }؛ والمعنى إذا قيل لهم: لا إله إلا الله، نفروا من ذلك، وإذا ذكرت أصنامهم فرحوا بذكرها. فقيل له: { قل }؛ لهم يا محمد: { اللهم فاطر السموت والأرض }؛ أي خالقهما، { عالم الغيب والشهادة }؛ أي عالم ما غاب عن العباد، وما علمه العباد، { أنت تحكم بين عبادك } ، أي تقضي بين عبادك، { في ما كانوا فيه يختلفون }؛ من الدين.
[39.47-48]
قوله تعالى: { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة }؛ أي لو كان للذين ظلموا أنفسهم بالشرك ما في الأرض جميعا من المال ومثله معه لفدوا به أنفسهم لشدة ما ينزل بهم من العذاب، ثم لا يقبل منهم ذلك الفداء، وظهر لهم من عقاب الله ما لم يكونوا يتوقعون في الدنيا أنه ينزل بهم في الآخرة.
وذلك أنهم لما كانوا لا يقرون بالبعث والنشور كانوا لا يتوقعون أهوال يوم القيامة، بل كانوا ينتظرون ثواب الله أن لو قامت القيامة كما أخبر الله عنهم بقوله
ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى
[فصلت: 50] فإذا رأوا العذاب فقد، { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما كسبوا }؛ وظهر لهم عقوبات ما كسبوا من المعاصي، { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } ، وحل بهم جزاء استهزائهم بالكتاب والرسول.
[39.49]
قوله تعالى: { فإذا مس الإنسان ضر دعانا }؛ أي إذا أصابه مكروه دعانا لنكشف عنه، { ثم إذا خولناه نعمة منا } ، ثم أعطيناه نعمة منا من صحة وعافية، ويسر بعد شدة، { قال إنمآ أوتيته على علم }؛ الله أنني أهل لذلك، وقال: على علم مني فيه بوجوه مكاسبة.
وقوله: { بل هي فتنة }؛ أي بل النعمة والشدة بلية وامتحان من الله للغني والفقير، للغني بالشكر وللفقير بالصبر، { ولكن أكثرهم لا يعلمون }؛ أنها من الله.
[39.50-51]
قوله تعالى: { قد قالها الذين من قبلهم }؛ أي قد قال تلك الكلمة قارون حين قال
إنمآ أوتيته على علم عندي
[القصص: 78]. والمعنى: قد قالها الذين من قبل هؤلاء الكفار، { فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون }؛ أي ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئا، والمعنى أنهم ظنوا إنما آتيناهم لكرامتهم علينا، ولم يكن كذلك؛ لأنهم وقعوا في العذاب، ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا، وقوله تعالى: { فأصابهم سيئات ما كسبوا }؛ أي جزاؤها.
ثم أوعد كفار مكة فقال: { والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا }؛ أي جزاء ما قالوا وعملوا، { وما هم بمعجزين }؛ لأن مرجعهم الله، فهم لا يعجزونه ولا يفوتونه فيجازيهم بأعمالهم.
[39.52]
قوله تعالى: { أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر }؛ معناه: أولم يعلموا أن الله يوسع الرزق على من يشاء ويضيق على من يشاء، كل ذلك من عنده لا بحول الإنسان وقوته، { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون }؛ إن في البسط والتقتير لآيات لقوم يصدقون أنها من الله تعالى.
[39.53]
قوله تعالى: { قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن هذه الآية نزلت في وحشي وأصحابه الذين قتلوا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من المؤمنين، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولا يطلبون التوبة، فأنزل هذه الآية).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال:
" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يا محمد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا؟ وأنا قد فعلت ذلك كله، فهل تجد لي فيه رخصة؟ فأنزل الله تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا }.
فقال وحشي: هذا شرط شديد لا أقدر على هذا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء } وقال وحشي: وإني في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله { قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } فجاء وحشي فأسلم، فقال المسلمون: هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: " بل للمسلمين عامة " ".
معنى الآية: قل يا عبادي الذي جاوزوا الحد في المعاصي بالكفر والزنا والقتل ونحوها: لا تيأسوا من رحمة الله، { إن الله يغفر الذنوب جميعا }؛ أي الصغائر والكبائر، { إنه هو الغفور }؛ لمن تاب وآمن، { الرحيم }؛ بمن تاب على التوبة.
[39.54]
قوله تعالى: { وأنيبوا إلى ربكم }؛ أي ارجعوا إلى طاعة ربكم بالتوبة، { وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } ، واستسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تمنعون مما يراد بكم.
[39.55]
قوله تعالى: { واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم }؛ وهو القرآن، { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون }؛ وقت مجيئه.
[39.56]
قوله تعالى: { أن تقول نفس يحسرتا على ما فرطت في جنب الله }؛ معناه: بادر واحذر من أن تقول نفسي، أو حذار من أن تصير إلى حالة تتحسرون فيها على التفريط فيما ينال به ثواب الله، قال الفراء: (معنى قوله { في جنب الله }: هو القرب؛ أي في قرب الله وجواره).
والمعنى: أن تقول نفسي: يا حسرتا على ما فرطت في طلب جوار الله وقربه وهو الجنة، وقال عطاء: (معناه: على ما ضيعت من ثواب). وقوله تعالى: { وإن كنت لمن الساخرين }؛ أي وما كنت إلا من المستهزئين القرآن والمؤمنين في الدنيا وبمن دعاني إلى التوحيد.
[39.57]
قوله تعالى: { أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين }؛ أي وخوفا أن تقول لو أن الله نجاني من العذاب لكنت من جملة المتقين الشرك.
[39.58-59]
قوله تعالى: { أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من } ، الموحدين، { المحسنين }؛ أو تقول حين ترى العذاب أو لئلا تقول حين ترى العذاب: لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكون من الموحدين المحسنين.
فيقال لهذا القائل: { بلى قد جآءتك آياتي }؛ يعني القرآن؛ { فكذبت بها }؛ أي قلت: ليست من عند الله، { واستكبرت }؛ أي وتكبرت من الإيمان بها، وتعظمت عن الإقرار بذلك، { وكنت من الكافرين } ، وصرت من الجاحدين لنعم الله، فأصابك ما أصابك بجنايتك على نفسك.
[39.60]
قوله تعالى: { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة }؛ أي وترى يا محمد يوم القيامة الذين كذبوا على الله في قولهم: عزير ابن الله، وقولهم: المسيح ابن الله، وقولهم: الملائكة بنات الله تعالى، وقول عبدة الأصنام: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، ترى هؤلاء تسود وجوههم وتزرق أعينهم. وقوله: { أليس في جهنم مثوى للمتكبرين }؛ تحقيق وتقرير، والمثوى: هو المنزل، والمتكبر: هو المتعظم عن الإيمان.
[39.61]
قوله تعالى: { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم }؛ أي يخلصهم من العذاب بفوزهم الذي استحقوه بأعمالهم، قال المبرد: (المفازة: مفعلة من الفوز) وهي السعادة وإن جمع فحسن كقولهم السعادة والسعادات، ويقرأ (بمفازاتهم). وقوله: { لا يمسهم السوء }؛ أي لا يصيبهم العذاب، { ولا هم يحزنون }؛ لأنهم رضوا بالثواب.
[39.62]
قوله تعالى: { الله خالق كل شيء }؛ أي جميع ما في الدنيا والآخرة من شيء فالله خالقه، وهو المستحق للعبادة، قوله تعالى: { وهو على كل شيء وكيل }؛ أي الأشياء كلها موكلة إليه، فهو القائم بحفظها، المدبر لأمورها، الكفيل بأرزاقها.
[39.63]
قوله تعالى: { له مقاليد السموت والأرض }؛ أي له خزائن السماوات والأرض، يفتح الرزق على من يشاء ويغلقه، قال ابن عباس: (المقاليد المفاتيح) واحد المقاليد مقليد، كما يقال منديل ومناديل، وقال الضحاك: (مقاليد السماوات والأرض خزائنها). ويجوز أن تكون المقاليد جمع المقلاد، وهو مفعال من المقلادة؛ أي هو مالك الخلق وله طاعتهم وبيده قلوبهم.
وقوله تعالى: { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون }؛ معناه: والذين كفروا بالقرآن هم الذين خسروا حتى صاروا في النار.
[39.64]
قوله تعالى: { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون }؛ وذلك أن المشركين من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتؤمن ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى أتأمرونني أن أعبد غير الله أيها الجاهلون بالنعمة.
قرأ نافع (تأمروني) بنون واحدة خفيفة على التخفيف، وقرأ ابن عامر بنونين على الأصل، وقرأ الباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام.
[39.65-66]
قوله تعالى: { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين }؛ أي ليحبطن عملك الذي عملته قبل الشرك، وهذا أدب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وتهديد لغيره، لأن الله قد عصمه من الشرك ومداهنته الكفار. قوله تعالى: { بل الله فاعبد }؛ أي وحد؛ لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده، { وكن من الشاكرين }؛ لإنعامه عليك به.
[39.67]
قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره }؛ أي ما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، إذ عبدوا الأوثان من دونه، وأمروا النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة غيره. ثم أخبر عن عظمته فقال: { والأرض جميعا قبضته يوم القيمة }؛ أي وجميع الأرض في مقدوره يوم القيامة كالذي يقبض عليه القابض في قبضته، وهذا كما يقال: فلان في قبضة فلان؛ أي تحت أمره وقبضته، والقبضة في اللغة: ما قبضت عليه بجمع كفك، أخبر الله تعالى عن قدرته فذكر أن الأرض كلها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره، كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه.
قوله تعالى: { والسموت مطويات بيمينه }؛ ذكر اليمين للمبالغة في الاقدار، يعني أنه يطويها بقدرته كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، قال الأخفش: (معناه مطويات في قدرته نحو قوله أو ما ملكت أيمانكم؛ أي ما كانت لكم عليه قدرة وليس الملك لليمين دون الشمال). وقد يذكر اليمين بمعنى القوة كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
ثم نزه نفسه عن شركهم فقال: { سبحانه وتعالى عما يشركون }.
[39.68]
قوله تعالى: { ونفخ في الصور فصعق من في السموت ومن في الأرض }؛ قد ذكرنا أن النفخة نفختان في قول أكثر المفسرين وبينهما أربعون سنة، فالنفخة الأولى هي نفخة الصعق.
والصعق: هو الموت بصيحة شديدة حالة هائلة، ومنها الصواعق وهي التي تأتي بشدة الرعد، وعن عبدالله بن عمر قال:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه فيصعق من في السماوات ومن في الأرض "
أي يموتون من الفزع وشدة الصوت. قوله تعالى: { إلا من شآء الله }؛ يعني الملك الذي ينفخ في الصور، ثم يميته الله بعد ذلك، وقال الحسن: (يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وملك الموت). وعن أبي هريرة رضي الله عنه:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن هذه الآية: " من الذي شاء الله أن يصعقهم؟ قال: هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش " ".
عن أنس ابن مالك قال:
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقال لهم: " جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فيقول الله تعالى: يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل، فيأخذها؛ ثم يقول: خذ نفس ميكائيل، فيأخذها، ثم يقول الله تعالى: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك يا رب تباركت وتعاليت بقي جبريل وملك الموت، فيقول الله تعالى: مت يا ملك الموت، فيموت، ثم يقول الله تعالى: يا جبريل من بقي؟ فيقول: تباركت وتعاليت بقي وجهك الباقي الدائم، وبقي جبريل الميت الفاني، فيقول: يا جبريل مت، فيبقى ساجدا يخفق بجناحيه فيموت " ".
وقال الضحاك: (معنى قوله: { إلا من شآء الله } هم رضوان والحور ومالك والزبانية)، وقال قتادة: (الله أعلم بثنياه). وقيل: هم عقارب النار وحياتها.
قوله تعالى: { ثم نفخ فيه أخرى }؛ يعني نفخة البعث، { فإذا هم قيام ينظرون }؛ ماذا يقال لهم.
[39.69-70]
قوله تعالى: { وأشرقت الأرض بنور ربها }؛ وأضاءت الأرض يومئذ بعدل ربها، فسمي العدل نورا كما سمي النبي صلى الله عليه وسلم نورا وسمي القرآن نورا. ويقال: إن نور الأرض العدل، كما أن نور الدين العلم، وقال بعضهم: يخلق الله تعالى يومئذ نورا يضيء لأهل القيامة غير الشمس والقمر.
قوله تعالى: { ووضع الكتاب }؛ يعني صحائف الأعمال، { وجيء بالنبيين والشهدآء }؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: (المراد بقوله { والشهدآء } هم الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة) وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال عطاء: (يعني الحفظة) وقال السدي: (يعني الذين استشهدوا في طاعة الله).
وقوله تعالى: { وقضي بينهم بالحق }؛ أي قضي بين الرسل والأمم بالعدل، { وهم لا يظلمون }؛ أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد في سيئات أحد. قوله: { ووفيت كل نفس ما عملت }؛ أي أعطيت كل نفس برة أو فاجرة جزاء ما عملت من خير أو شر، { وهو أعلم بما يفعلون }؛ وهو أعلم بفعلهم، لا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد.
[39.71-72]
قوله تعالى: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا }؛ وذلك أنهم يساقون إلى جهنم فوجا فوجا، الأول فالأول، يساق كفار كل أمة على حدة، والزمر: جماعات في تفرقة بعضها على إثر بعض، يساقون سوقا عنيفا، يسحبون على وجوههم إلى جهنم، { حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها }؛ عند مجيئهم، { وقال لهم خزنتهآ }؛ وهم الزبانية: { ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم } ، ويخوفونكم، { لقآء يومكم هذا } ، اليوم، { قالوا بلى } ، أتونا بالرسالة، { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين }؛ ولكن وجبت كلمة العذاب على الكافرين، فيقول لهم الزبانية: { قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين }؛ ادخلوا أبواب جهنم السبعة خالدين فيها.
ومعنى قوله { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } هو قوله تعالى:
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
[هود: 119]. واختلف القراء في قوله { فتحت } فخففها الكوفيون، وشددها الباقون على التكثير.
[39.73-74]
قوله تعالى: { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا }؛ وذلك أن المؤمنين ينطلق بهم إلى الجنة فوجا فوجا بالتلطف والإكرام، { حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها }؛ قال الأخفش: (هذه الواو زائدة) والمعنى: فتحت أبوابها حتى تكون جوابا لقوله { حتى إذا جآءوها }. وقال الزجاج: (القول عندي أن الجواب محذوف، تقديره: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وسلم عليهم خزنتها ساروا إلى السعادة ووصلوا إلى مقصودهم).
وقيل: هذه الواو واو الحال تقديره: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها، وأدخل الواو ها هنا لبيان أنها قد كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنها قد كانت مغلقة قبل مجيئهم.
ويقال: زيدت الواو ها هنا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب جهنم سبعة فزيدت الواو فرقا بينهما. وحكي عن أبي بكر بن عياش: (أنها تسمى واو الثمانية) وذلك أن من عادة قريش أنهم يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية، فإذا بلغوا الثمانية زادوا فيها الواو، فيقولون: خمسة ستة سبعة وثمانية، يدل عليه قوله تعالى
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام
[الحاقة: 7]، وقال الله
التائبون العابدون
[التوبة: 112] فلما بلغ الثامن
والناهون عن المنكر
[التوبة: 112]، وقال تعالى
سبعة وثامنهم كلبهم
[الكهف: 22]، وقال تعالى
ثيبات وأبكارا
[التحريم: 5]. وقيل: زيادة الواو في صفة الجنة علامة لزيادة رحمة الله تعالى.
قوله تعالى: { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }؛ قال ابن عباس: (معنى قوله { طبتم } أي طاب لكم المقام)، وقيل: معناه ظفرتم بصالح أعمالكم وكنتم طيبين في الدنيا. وقيل: طابت لكم الجنة فادخلوها خالدين. فلما دخلوها { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } ، أي أنجزنا وعده، { وأورثنا الأرض } ، وأنزلنا أرض الجنة، { نتبوأ من الجنة حيث نشآء }؛ أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء، لقول الله تعالى { فنعم أجر العاملين }؛ أي نعم ثواب العاملين لله في الدنيا الجنة.
[39.75]
قوله تعالى: { وترى الملائكة حآفين من حول العرش }؛ أي محدقين حول العرش محيطين به، { يسبحون بحمد ربهم }؛ إجلالا لعظمته، { وقضي بينهم }؛ الخلائق، { بالحق }؛ أي بالعدل وانتصف بعضهم من بعض، { وقيل } ، ويقال لهم بعد الفراغ: { الحمد لله رب العالمين }؛ وذلك أن الله تعالى ابتدأ خلق الأشياء بالحمد فقال:
الحمد لله الذي خلق السموت والأرض
[الأنعام: 1] فلما بعث الخلق واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ختمه بقوله: { الحمد لله رب العالمين }.
[40 - سورة غافر]
[40.1]
{ حم }؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" حم، اسم من أسماء الله تعالى، وهي مفتاح خزائن ربك "
، وقال ابن عباس: [هو اسم الله الأعظم]. وعن عكرمة قال: (ألر و حم و ن حروف الرحمن مقطعة)، وقيل: (أقسم الله بحملة " عرشه " وملائكته لا يعذب أحدا عاد إليه يقول: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه)، وقال عطاء الخراساني: (الحاء: افتتاح أسماء الله: حليم وحميد وحي وحكيم، والميم: افتتاح أسمائه: ملك ومجيد ومنان)، وقال الضحاك: (حم قضى ما هو كائن).
[40.2-3]
قوله تعالى: { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم }؛ أي هذه تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم بخلقه، وقرأ حم بفتح الميم؛ أي أتل حميم . قوله تعالى: { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب }؛ أي غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله، وهم أولياؤه وأهل طاعته، وقابل التوب من الشرك، شديد العقاب لمن مات على الشرك.
والتوب: جمع التوبة، ويجوز أن يكون مصدرا من تاب يتوب توبا، قوله تعالى: { ذي الطول }؛ أي ذي الغنى عمن لا يوحده ولا يقول: لا إله إلا الله. وقال الكلبي: (ذو الفضل على عباده والمان عليهم)، وقال مجاهد: (ذو السعة والغنى).
قوله تعالى: { لا إله إلا هو }؛ أي لا معبود للخلق سواه، { إليه المصير }؛ أي مصير من آمن، ومصير من لم يؤمن، وعن الحسن رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل عن بعض إخوانه الذين كانوا بالشام، فقال: ما فعل أخي فلان؟ وقالوا: ذاك أخو الشيطان يخالط أهل الأشرفية وخالف أصحابه. فقال: إذا خرجتم إلى الشام فآذنوني. فلما أرادوا الخروج أعلموه، فكتب:
من عبدالله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان. بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد: فإن الله تعالى قال: { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب... } إلى قوله { إليه المصير }. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فلما جاءه الكتاب قالوا له: اقرأ كتابك أيها الرجل، فلما قرأ { العزيز العليم } قال: عليم بما أصنع، { غافر الذنب } إن استغفرت غفر لي، و { وقابل التوب } إن أنا تبت ليقبل توبتي، { شديد العقاب } إن لم أفعل عاقبني { ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير }. ثم قال: صدق الله ونصح عمر رضي الله عنه، فأقبل بطريقة حسنة إلى أن مات.
فلما بلغ عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا؛ إذا رأيتم أخاكم نزل فشددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه).
[40.4]
قوله تعالى: { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا }؛ أي ما يخاصم في آيات الله لتكذيبها والطعن فيها والمراء عليها إلا الذين كفروا، { فلا يغررك تقلبهم في البلاد }؛ بالتجارات وسلامتهم في تصرفاتهم بعد كفرهم، فإن عاقبة أمرهم العذاب كعاقبة من قبلهم من الكفار. وقيل: معناه: فلا يغررك ذهابهم ومجيئهم في الأسفار بالتجارات، فإنهم ليسوا على شيء.
[40.5]
قوله تعالى: { كذبت قبلهم }؛ أي قبل قومك، { قوم نوح }؛ وقوله تعالى: { والأحزاب من بعدهم }؛ وهم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود؛ أي كذبوا رسلهم كما كذبك قومك، { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه }؛ فيقتلوه، { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق }؛ أي وخاصموا الرسل بالباطل ليبطلوا به الحق الذي جاءت به الرسل، { فأخذتهم } ، بعاقبة الاستئصال، { فكيف كان عقاب }؛ لهم.
[40.6]
قوله تعالى: { وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا }؛ أي مثل ما حق على الأمم المكذبة حقت كلمة ربك بالعذاب على الذين كفروا من قومك، { أنهم أصحاب النار } ، في الآخرة.
[40.7-9]
قوله تعالى: { الذين يحملون العرش ومن حوله }؛ يعني حملة العرش والطائفين به، وهم الكروبيون وهم سادة الملائكة، { يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به }؛ بأنه واحد لا شريك له، { ويستغفرون للذين آمنوا } ، ويقولون: { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما }؛ أي وسعت رحمتك كل شيء، { فاغفر للذين تابوا }؛ عن الشرك والمعصية، { واتبعوا سبيلك }؛ الطريق الذي دعوتهم إليه، { وقهم } ، وادفع عنهم، { عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن }؛ أي ربنا وأدخلهم بساتين إقامة، { التي وعدتهم }؛ في الكتب على ألسنة الرسل، وأدخل معهم، { ومن صلح من آبآئهم وأزواجهم وذرياتهم }؛ ونسائهم وأولادهم، { إنك أنت العزيز }؛ في ملكك وسلطانك، { الحكيم }؛ في أمرك وقضائك، { وقهم السيئات }؛ وادفع عنهم عقوبة السيئات، { ومن تق السيئات يومئذ } ومن يدفع عنه عقوبة السيئات، { فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم }؛ أي النجاة الوافرة.
وانتصب قوله { رحمة وعلما } على التمييز، قال ابن عباس: (حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدمه مسيرة خمسمائة عام، ومستقر أرجلهم في الأرض السابعة السفلى، ورؤوسهم تحت العرش، وهم خشوع لا يرفعون أبصارهم، وهم أشد خوفا من أهل السماوات السبع).
وعن الضحاك قال: (لما خلق الله حملة العرش قال لهم: احملوا عرشي، ولم يطيقوا! فخلق مع كل ملك من الأعوان مثل جنود سبع سماوات من الملائكة، وقال لهم: احملوا عرشي، فلم يطيقوا! فخلق مع كل واحد من الأعوان مثل جنود سبع سماوات وأرضين من الملائكة، ومثل من في الأرضين من الخلق، وقال لهم: احملوا عرشي، فلم يطيقوا! فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سماوات وجنود سبع أرضين وعدد ما في الرمل من الحصى والثرى وقال: احملوا عرشي، فلم يطيقوا! فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوها حملوا العرش)، وقال صلى الله عليه وسلم:
" أذن لي أن أتحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ".
[40.10]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون }؛ وذلك أن الكفار لما دخلوا النار مقتوا أنفسهم، ومقت بعضهم بعضا لاشتغالهم في الدنيا بما قادهم إلى النار، فيناديهم مناد: { لمقت الله أكبر } أي مقت الله إياكم في الدنيا { إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم.
[40.11-12]
قوله تعالى: { قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين }؛ قال بعضهم: معناه: كنا نطفا في أصلاب آبائنا أمواتا فخلقت فينا الحياة، ثم أمتنا بعد ذلك عند انتهاء آجالنا ثم أحييتنا للبعث، وهذا كقوله تعالى
وكنتم أموتا فأحيكم ثم يميتكم ثم يحييكم
[البقرة: 28]. قالوا هكذا لأنهم كانوا في الدنيا فكذبوا في البعث، فاعترفوا في النار بما كذبوا به، وهو قوله تعالى: { فاعترفنا بذنوبنا }؛ أي بالتكذيب.
وقال بعضهم: أراد بالموت الأولى التي تكون عند قبض الأرواح، وبالموت الثانية التي تكون بعد الإحياء في القبر للسؤال؛ لأنهم أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فسئلوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة للبعث، فيكون المراد بالإحياء الأول الإحياء في القبر، وبالإحياء الثاني الإحياء للبعث. قوله تعالى: { فاعترفنا بذنوبنا } أي بإنعامك علينا ونفوذ قضائك فينا وتكذيبنا في الدنيا، { فهل إلى خروج من }؛ النار، من، { سبيل } ، طريق فنؤمن بك ونرجع إلى طاعتك؟
فيجابون: ليس إلى خروج من سبيل، يقال لهم: { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم }؛ أي ذلك العذاب في النار والمقت بأنكم إذا قيل لكم في الدنيا: لا إله إلا الله، أنكرتم وكفرتم وقلتم أجعل الآلهة إلها واحدا، { وإن يشرك به }؛ بالله، { تؤمنوا } ، صدقتم، { فالحكم لله العلي }؛ في سلطانه، { الكبير }؛ في عظمته لا يرد حكمه.
[40.13-15]
قوله تعالى: { هو الذي يريكم آياته }؛ أي دلائل توحيده ومصنوعاته التي تدل على قدرته من السماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والسحاب وغير ذلك، { وينزل لكم من السمآء رزقا }؛ يعني المطر الذي يسبب الأرزاق، { وما يتذكر إلا من ينيب }؛ أي ما يتعظ بهذه المصنوعات. وقيل: معناه: وما يتعظ بالقرآن إلا من يرجع إلى دلائل الله فيتدبرها.
ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: { فادعوا الله مخلصين له الدين }؛ أي مخلصين له الطاعة موحدين، { ولو كره الكافرون }؛ منكم ذلك.
ثم عظم تعالى نفسه فقال: { رفيع الدرجات ذو العرش }؛ أي رافع درجاتكم، والرفيع بمعنى الرافع، والمعنى: أنه يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة. قوله تعالى: { ذو العرش } أي خالقه ومالكه، { يلقي الروح من أمره } ، أي ينزل الوحي، { على من يشآء من عباده }؛ أي على من يختص بالنبوة والرسالة، { لينذر }؛ ذلك النبي الموحى إليه، { يوم التلاق }؛ أي يوم القيامة، وسمي يوم التلاق؛ لأنه يلتقي فيه أهل السماوات والأرض، والمؤمنون والكافرون والظالمون والمظلومون، ويلتقي المرء فيه بعمله، وقرأ الحسن: ( { لتنذر } بالتاء (يا محمد يوم التلاق) أي لتخوف فيه)، وقرأ العامة بالياء، أي لينذر الله.
[40.16]
قوله تعالى: { يوم هم بارزون }؛ أي يوم هم خارجون من مواضعهم من الأرض والبحار وحواصل الطير وبطون السباع، { لا يخفى على الله منهم }؛ ولا من أعمالهم، { شيء }؛ ومحله رفع بالابتداء، و { بارزون } خبره.
ويقول الله في ذلك اليوم: { لمن الملك اليوم }؛ فيقول الخلق كلهم: { لله الواحد القهار }؛ وقال الحسن: (هو السائل والمجيب؛ لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الحمد لله الذي تصرف بالقدرة وقهر العباد بالموت، نظر الله إليه، ومن ينظر إليه لم يعذبه، واستغفر له كل ملك في السماء، وكل ملك في الأرض ".
[40.17]
قوله تعالى: { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت }؛ أي تجزى كل نفس بعملها، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، { لا ظلم اليوم }؛ من أحد إلى أحد، { إن الله سريع الحساب }؛ يحاسبهم جميعا في ساعة واحدة، يظن كل واحد أنه المجاب دون غيره.
[40.18]
قوله تعالى: { وأنذرهم يوم الأزفة }؛ أي حذرهم يوم القيامة؛ والمعنى: يا محمد أنذر أهل مكة يوم الآزفة، يعني القيامة، سميت القيامة آزفة من الأزف: وهو الأمر إذا قرب، والقيامة آزفة لسرعة مجيئها. قال الزجاج: (قيل لها: آزفة لأنها قريبة وإن استبعدها الناس، وكل آت فهو قريب)، { إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين }؛ أي تزول القلوب من مواضعها من الخوف، فتشخص صدورهم حتى يبلغ حاجزهم في الحلوق، فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فيستريحوا.
وذلك أن القلب بين فلقتي الرئة، فإذا انتفخت الرئة عند الفزع رفعت القلب حتى يبلغ الحنجرة، فيلصق بالحنجرة فلا يقدر صاحبه على أن يرده إلى مكانه، ولا على أن يلفظ به فيستريح. ونظيره قوله تعالى:
وبلغت القلوب الحناجر
[الأحزاب: 10]، وقوله تعالى:
فلولا إذا بلغت الحلقوم
[الواقعة: 83] وقوله تعالى
وأفئدتهم هوآء
[إبراهيم: 43] وقوله تعالى:
إذا بلغت التراقي
[القيامة: 26].
وقوله تعالى: { كاظمين } أي مغمومين مكروبين ممتلئين غما وخوفا وحزنا، يعني أصحاب القلوب يتردد حزنهم وحسراتهم في أجوافهم، والكاظم: هو الممتليء أسفا وغيظا، والكظم تردد الغيظ والحزن والخوف في القلب حتى يضيق به، نصب (كاظمين) على الحال، قوله تعالى: { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع }؛ أي ما لهم من قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع الشفيع فيهم فتقبل شفاعته.
[40.19]
قوله تعالى: { يعلم خآئنة الأعين }؛ أي خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل، قال ابن عباس: (خائنة الأعين: هو الرجل يكون جالسا مع القوم، فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها). وقال قتادة: (هي همزه بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله). ويجوز أن يكون المراد به: يعلم العين الخائنة؛ أي يجازي بخائنة الأعين، فكيف بما فوقها، كما قال في آية أخرى
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
[الاسراء: 36].
وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه:
" لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وعليك الثانية "
، يعني بأن الأولى إذا وقع نظر إلى موضع لا يجوز له النظر إليه لا عن تعمد منه، فإنه لا يكون إثما في ذلك، وإنما يأثم إذا عاد بالنظر ثانية. وقوله تعالى: { وما تخفي الصدور }؛ أي ويعلم ما تضمر الصدور عند خائنة الأعين، ويعلم ما تسر القلوب من المعصية.
[40.20]
قوله تعالى: { والله يقضي بالحق }؛ أي يحكم بالقسط والعدل، لا يمنع أحدا من ثواب عمله، ولا يعاقبه على ذنب لا يكتسبه، بل يجزي بالحسنة والسيئة، قوله تعالى: { والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء }؛ معناه: والذين تدعون من دون الله من الأصنام لا ينفعون من أطاعهم، ولا يضرون من عصاهم ولا يجازون أحدا؛ لأنهم لا يعلمون ولا يقدرون.
قرأ نافع (والذين تدعون) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، { إن الله هو السميع }؛ لمقالتهم، { البصير }؛ بهم وأعمالهم.
[40.21-22]
الآية ظاهرة المعنى. وقوله تعالى: { وما كان لهم من الله من واق } أي ما كان لهم من عذاب الله من واق يقي العذاب عنهم.
[40.23-24]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا }؛ يعني الآيات التسع، { وسلطان مبين }؛ أي حجة ظاهرة، { إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب }؛ أي كثير الكذب، وخص فرعون وهامان وقارون بالكذب؛ لأنهم كانوا هم المتبوعين، وفي ذكر المتبوعين ذكر التابعين.
[40.25]
قوله تعالى: { فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين آمنوا معه واستحيوا نسآءهم }؛ أي استبقوا النساء للخدمة، وذلك أن فرعون كان قد أخبر أنه يولد من بني إسرائيل مولود يذهب ملكه على يديه، فأمر بقتل أبنائهم واستبقاء نسائهم، فلما جاءهم موسى عليه السلام بالحق، أمر بإعادة ذلك القتل عليهم كيلا يبلغ الأبناء فيعينوه عليهم. قوله تعالى: { وما كيد الكافرين إلا في ضلال }؛ أي يذهب كيدهم باطلا، ويحيق بهم ما كانوا يكيدون.
[40.26]
قوله تعالى: { وقال فرعون ذروني أقتل موسى }؛ وذلك أن قوم فرعون قالوا له: أرجئه وأخاه ولا تقتلهما، فإنك إن قتلتهما قبل ظهور حجتنا عليهما وقعت للناس الشبهة في أنهما كانا على الحق، فقال فرعون: دعوني أقتل موسى، { وليدع ربه }؛ حتى يدفع ذلك القتل عنه.
ثم بين لأي معنى يقتله فقال: { إني أخاف أن يبدل دينكم }؛ يعني يبدل عبادتكم إياي، { أو أن يظهر في الأرض الفساد }؛ وأراد ظهور الهدى وتغير أحكام فرعون فجعل ذلك فسادا.
قرأ الكوفيون ويعقوب: (أو أن يظهر) بالألف، وقرأ نافع وأبو عمرو: (ويظهر) بضم الياء وكسر الهاء، ونصب (الفساد)، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء ورفع (الفساد)، واختار أبو عبيد قراءة نافع وأبو عمرو، ولأنها أشبه بما قبلها لإسناد الفعل إلى موسى وعطفه على بدله.
[40.27]
قوله تعالى: { وقال موسى إني عذت بربي وربكم }؛ أي لما توعد موسى بالقتل قال موسى: إني عذت بربي وربكم، { من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } ، متعظم عن الإيمان وعن قبول الحق لا يصدق بيوم القيامة، استعاذ موسى بالله ممن أراد به سوء.
[40.28]
قوله تعالى: { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جآءكم بالبينات من ربكم }؛ اختلفوا في هذا المؤمن، فقال بعضهم: كان قبطيا من آل فرعون، غير إنه كان آمن بموسى وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.
وقال مقاتل والسدي: (كان ابن عم فرعون)، وهو الذي حكى الله عنه
وجآء رجل من أقصى المدينة يسعى
[القصص: 20]، وهذا هو الأشير وكان اسمه حزقيل، وقيل: حزبيل. وقال بعضهم كان إسرائيليا، وتقدير الآية: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون.
وقوله تعالى: { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } أي لأن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم بما يدل على صدقه من المعجزات، { وإن يك كاذبا فعليه كذبه }؛ لا يضركم ذلك، { وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم }؛ أي يصبكم كل الذي يعدكم من العذاب إن قتلتموه وهو صادق.
والمراد بالبعض الكل في هذه الآية، وقال الليث: (بعض ها هنا زائدة؛ أي يصبكم الذي يعدكم)، وقال أهل المعاني: هذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم)، فذكر البعض ليوجب الكل، ويدل على ذكر البعض بمعنى الكل، قال لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
أراد كل النفوس، ومثل قول الآخر.
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله تعالى: { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب }؛ أي لا يهديه في الآخرة إلى جنته وثوابه. والمسرف هو المتجاوز عن الحد في المعصية.
[40.29]
قوله تعالى: { يقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض }؛ أي قال لهم الرجل المؤمن على وجه النصيحة لهم: { يقوم لكم الملك اليوم ظاهرين } أي غالبين مستعلين في أرض مصر، { فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا }؛ أي فمن يمنعنا من عذاب الله إن جاءنا، { قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى }؛ أي ما أشير عليكم إلا ما أراه حقا من الصواب في أمر موسى، { ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد }؛ أي ما أعرفكم إلا طريق الهدى.
[40.30-31]
قوله تعالى: { وقال الذي آمن يقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب }؛ معناه: وقال لهم الرجل المؤمن: إني أخاف عليكم في قتله وترك الإيمان به أن ينزل بكم من العذاب، { مثل دأب }؛ مثلما نزل بالأمم الماضية قبلكم حين كذبوا رسلهم، { قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم }. وقوله تعالى: { وما الله يريد ظلما للعباد }؛ أي لا يعاقب أحدا بلا جرم.
[40.32]
قوله تعالى: { ويقوم إني أخاف عليكم يوم التناد }؛ يعني يوم القيامة ينادى فيه كل أناس بإمامهم، وينادي فيه أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وينادى فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، وأصله: يوم التنادي بإثبات الياء كما في التناجي والتقاضي، إلا أن الياء حذفت منه كما حذف من قوله تعالى
يوم يدع الداع
[القمر: 6] وشبه ذلك.
وقيل: سمي يوم التنادي لأن الكفار ينادون فيه على أنفسهم بالويل والثبور، كما قال تعالى:
لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا
[الفرقان: 14]، وقيل في معنى ذلك: أنه ينادي المنادي ألا أن فلان بن فلان سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا، وينادي: إلا إن فلان بن فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا.
وقرأ الحسن: (يوم التنادي) بإثبات الياء على الأصل. وقرأ ابن عباس: (يوم التنادي) بتشديد الدال على معنى يوم التنافر، وذلك إذا هربوا فندوا في الأرض كما يند الإبل إذا شردت على أصحابها.
قال الضحاك: (إذا سمعوا بزفير النار نادوا هربا، فلا يأتوه قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى { يوم التناد } ، وقوله تعالى:
إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموت والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان
[الرحمن: 33].
[40.33]
قوله تعالى: { يوم تولون مدبرين }؛ أي منصرفين عن موقف الحساب إلى النار، { ما لكم من الله من عاصم }؛ أي مانع يمنعكم من عذابه، { ومن يضلل الله فما له من هاد }.
[40.34]
قوله تعالى: { ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينات }؛ أي جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالدلالات ظاهرة على وحدانية الله تعالى
ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار
[يوسف: 39]. وقيل: معنى قوله { من قبل } أي من قبل المؤمن.
وقوله تعالى: { فما زلتم في شك مما جآءكم به }؛ أي في شك من عبادة الله وحده، { حتى إذا هلك } ، حتى إذا مات، { قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا }؛ يأمرنا وينهانا، { كذلك يضل الله من هو مسرف }؛ هكذا يهلك الله من هو متجاوز عن الحد، { مرتاب }؛ أي شاك في توحيد الله وصدق أنبيائه.
[40.35]
قوله تعالى: { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم }؛ قال الزجاج: (هذا تفسير المسرف المرتاب) على معنى هم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان بالإبطال والتكذيب والطعن بغير حجة أتتهم، { كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا }؛ أي عظم جدالهم بغضا وسخطا عند الله وعند الذين آمنوا، { كذلك يطبع الله }؛ أي هكذا يختم الله بالكفر، { على كل قلب متكبر }؛ عن الإيمان، { جبار }؛ للناس على " ما " يريد.
قال ابن عباس: (يختم على قلوبهم فلا يسمعون الهدى ولا يعقلون الرشاد) وقرئ (على كل قلب) بالتنوين، وقال الزجاج: (الوجه الإضافة لأن المتكبر هو الإنسان).
[40.36-37]
قوله تعالى: { وقال فرعون يهامان ابن لي صرحا }؛ أي قال لوزيره هامان: ابن لي قصرا منيفا مشيدا بالآجر، قال في موضع آخر:
فأوقد لي يهامان على الطين فاجعل لي صرحا
[القصص: 38] وكان هامان هو أول من استعمل الآجر لبناء الصرح، ولكن كره بناء القبور بالآجر.
قوله تعالى: { لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموت }؛ الطريق للسماوات، والسبب في الحقيقة: كل ما يوصلك إلى الشيء، ولذلك سمي الجبل سببا. وقال بعضهم: أسباب السماوات طبقاتها.
قوله تعالى: { فأطلع إلى إله موسى }؛ ظن فرعون بجهله أن إله موسى مما يرقى إليه، قوله تعالى: { وإني لأظنه كاذبا } ، أي إني لأظن موسى كاذبا فيما يقول إن له ربا في السماء، ولما قال موسى: رب السماوات، فظن فرعون بجهله واعتقاده الباطل أنه لما لم ير في الأرض أنه في السماء، فرام الصعود إلى السماء لرؤية إله موسى. وقيل: معناه: وإني لأظن موسى كاذبا فيما يقول أن له ربا غيري أرسله إلينا.
وقرأ الأعرج (فأطلع إلى إله موسى) بنصب العين على جواب (لعلي) بالفاء على معنى إني إذا بلغت اطلعت، وقرأه العامة (فأطلع) عطفا على قوله تعالى: { وكذلك زين لفرعون سوء عمله }؛ أي كذا حسن له قبح عمله، زين له الشيطان جهله، ومن قرأ (زين) بفتح الزاي على أن المعاصي يدعو بعضها إلى بعض.
وقوله تعالى: { وصد عن السبيل }؛ أي صد غيره عن الهدى، ويحتمل أنه صد عن السبيل بنفسه، و { صد } بضم الصاد أي منع عن سبيل الحق، { وما كيد فرعون إلا في تباب }؛ أي في خسار وهلاك.
[40.38-39]
قوله تعالى: { وقال الذي آمن يقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد }؛ أي قال الرجل المؤمن من آل فرعون: يا قوم اتبعوني على ديني أحملكم على طريق السداد والهدى، { يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع }؛ أي مشقة يسيرة تنقطع، { وإن الآخرة هي دار القرار }؛ فلا تزول أي هي المحل الذي يقع فيه الاستقرار.
[40.40]
قوله تعالى: { من عمل سيئة } ، يعني الشرك، { فلا يجزى إلا مثلها }؛ فلا يجزى إلا مثلها في العظم، معنى النار، { ومن عمل صالحا }؛ أي طاعة، { من ذكر أو أنثى وهو مؤمن }؛ مخلص، قال ابن عباس: (يعني قول لا إله إلا الله) { فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب }؛ أي بما لا يعرف له مقدار.
[40.41-42]
قوله تعالى: { ويقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار }؛ أي قال لهم الرجل المؤمن: يا قوم ما لي أدعوكم إلى سبب النجاة، { وتدعونني لأكفر بالله } ، وتدعونني إلى عمل أهل النار وهو الشرك. وقوله تعالى: { وأشرك به ما ليس لي به علم }؛ أي من لا أعرف له ربوبيته، { وأنا أدعوكم إلى العزيز }؛ أي الغالب المنتقم ممن عصاه، { الغفار }؛ لمن تاب وآمن.
[40.43]
قوله تعالى: { لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة }؛ يعني قوله { لا جرم } أي حقا أن ما تدعونني إليه من المعبودين دون الله ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، قال السدي: (معناه: لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة)، والتقدير: ليس له استجابة دعوة. قوله تعالى: { وأن مردنآ إلى الله }؛ أي وإن مرجعنا إليه في الآخرة، يفصل بين المحق والمبطل، { وأن المسرفين }؛ أي وإن المتجاوزين عن الحد في الكفر وسفك الدماء بغير الحق، { هم أصحاب النار }.
[40.44]
قوله تعالى: { فستذكرون مآ أقول لكم }؛ أي فستذكرون هذا الذي أقول لكم في الدنيا من النصيحة إذا نزل بكم العذاب في الآخرة، في حين لا ينفعكم الذكر عليه، { وأفوض أمري إلى الله }؛ أي وأترك أمر نفسي إلى الله فأثق به ولا أشتغل بكم، { إن الله بصير بالعباد }؛ أي بأوليائه وأعدائه.
[40.45-46]
قوله تعالى: { فوقاه الله سيئات ما مكروا }؛ وذلك أن فرعون أراد أن يقتله فهرب منهم، فلم يقدروا عليه، ودفع الله عنه غائلة مكرهم، { وحاق بآل فرعون سوء العذاب }؛ أي نزل بفرعون وقومه أشد العذاب، قال الكلبي: (غرقوا في البحر ودخلوا النار ) والمعنى: وحاق بآل فرعون سوء العذاب، في الدنيا الغرق، وفي الآخرة النار، فذلك قوله تعالى: { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا }؛ ارتفاع (النار) على البدل من { سوء العذاب }.
قوله تعالى: { يعرضون عليها غدوا وعشيا } أي صباحا ومساء، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخا ونقمة، قال ابن مسعود: (إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين)، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن " أهل " الجنة، وإن كان من أهل النار فمن " أهل " النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة ".
وقوله تعالى: { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } قرأ نافع والكوفيون بقطع الألف وكسر الخاء؛ أي يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، وهو الدرك الأسفل من النار، وقرأ الباقون بضم الخاء ووصل الألف على الأمر لهم بالدخول.
[40.47]
قوله تعالى: { وإذ يتحآجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار }؛ أي واذكر يا محمد لقومك: إذ يختصم أهل النار في النار، وباقي الآية مفسر في سورة إبراهيم عليه السلام.
[40.48-50]
قوله تعالى: { قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ }؛ أي إنا نحن وأنتم قد استوينا في العذاب، { إن الله قد حكم بين العباد }؛ أي قضى بهذا علينا وعليكم وحكم أن لا يتحمل أحد عذاب أحد.
فلما رأوا شدة العذاب، { وقال الذين في النار } ، قالوا، { لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب }؛ أي يهون عنا العذاب قدر يوم من أيام الدنيا، { قالوا } ، فيقول الزبانية: { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات }؛ أي بالدلالات الظاهرة على وحدانية الله، { قالوا بلى } ، فيقولون: بلى قد أتتنا الرسل، { قالوا } ، فتقول لهم الزبانية: { فادعوا } ، أنتم فإن الله تعالى لم يأذن لنا في الدنيا، { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }؛ أي في ضياع لا ينفعهم.
[40.51-52]
قوله تعالى: { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا }؛ أي إنا لنعين الرسل والمؤمنين على أعدائهم في الدنيا بالاستعلاء عليهم بالحجة وبالغلبة عليهم في المحاربة، ونعينهم، { ويوم يقوم الأشهاد }؛ بإعلاء كلمتهم وإظهار منزلتهم، والمعنى: ويوم القيامة تقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ، وعلى الكفار بالتكذيب.
وواحد الأشهاد: شاهد، مثل صاحب وأصحاب، وطائر وأطيار، والمراد من الأشهاد الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح والمكان والزمان، يشهدون بالحق لأهله، وعلى المبطل بفعله، { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم }؛ أي إن اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم، وإن تابوا لم تنفعهم التوبة، { ولهم اللعنة }؛ أي البعد من الرحمة، { ولهم سوء الدار }؛ يعني جهنم سوء المنقلب.
[40.53-55]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الهدى }؛ من الضلالة يعني التوبة، وقيل: معناه: ولقد أعطينا موسى الدين المستقيم، { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } ، ونزلنا على بني إسرائيل التوراة والإنجيل والزبور، { هدى وذكرى لأولي الألباب } ، هدى من الضلالة وعظة لذوي العقول، { فاصبر } ، يا محمد على أذى الكفار كما صبر الرسل قبلك، { إن وعد الله حق } ، في نصرتك وإظهار دينك صدق كائن، { واستغفر لذنبك }؛ يعني الصغائر؛ لأن أحدا من البشر لا يخلو من الصغائر وإن عصم من الكبائر.
وقيل: معناه: واستغفر لذنوب أمتك، { وسبح بحمد ربك }؛ أي نزهه عن كل صفة لا تليق به، واحمده على كل نعمة. ويجوز أن يكون المراد بالتسبيح في الآية من قوله: { بالعشي }؛ الصلوات الخمس وقت ما بعد الزوال إلى وقت العشاء الآخرة، ومن قوله: { والإبكار }؛ صلاة الفجر. والمعنى: صل لربك شاكرا لربك بالعشي والإبكار.
[40.56]
قوله تعالى: { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم }؛ وذلك أن اليهود كانوا يجادلون في النبي صلى الله عليه وسلم في رفع القرآن، وكانوا يقولون له: صاحبنا المسيح بن داود، يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطان البر والبحر، ويرد الملك إلينا وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله! ويعظمون أمر الدجال، فأنزل الله هذه الآية.
ومعناه: إن الذين يخاصمون بغير حجة أتتهم، { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله }؛ أي ما في قلوبهم إلا عظمة عن قبول الحق لحسدهم، ما هم ببالغي تلك العظمة التي في قلوبهم لأن الله تعالى مذلهم، فلا يصلون إلى دفع من آيات الله.
قال ابن عباس: (والمعنى: ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من العظمة ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله مذلهم). وقال ابن قتيبة: (إن في صدورهم إلا تكبر على محمد، وطمع أن يصلوه وما هم ببالغي ذلك، فاستعذ بالله يا محمد من الكبر ومن شر اليهود ومن شر الدجال ومن كل ما تجب الاستعاذة منه)، وقوله تعالى: { إنه هو السميع البصير }؛ بهم وبأعمالهم.
[40.57]
قوله تعالى: { لخلق السموت والأرض أكبر من خلق الناس }؛ أي هذا أكبر من خلق بغير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب فيه أعظم في النفس وأهول في الصدر من خلق الناس، { ولكن أكثر الناس }؛ الكفار، { لا يعلمون }؛ حين لا يستدلون بذلك على توحيد خالقهما وقدرته على ما هو أعظم من خلق الدجال، وعلى أن يمنع المسلمين من غلبته عليهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن قبل خروج الدجال ثلاث سنين، أول سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، وفي السنة الثالثة تمسك السماء ما فيها والأرض وما فيها، ويهلك كل ذات ظلف وضرس ".
وعن أبي أمامة الباهلي قال:
" خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فكان أكثر خطبته أن يحدثنا عن الدجال ويحذرنا، فكان من قوله: " أيها الناس؛ إنه لم تكن فتنة في الأرض أعظم من فتنة الدجال، إن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا حذر أمته منه، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، والله تعالى خليفتي على كل مسلم.
أنه يخرج بين جبلين بين العراق والشام يعيث يمينا ويعيث شمالا، فيا عباد الله اثبتوا، فإنه يبدأ فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي! ثم يثني ويقول: أنا ربكم ! ولن تروا ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور وليس ربكم بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كل مؤمن، فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه.
وإن من فتنته أن معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليقرأ فواتح سورة الكهف ويستغيث بالله، فتكون عليه بردا وسلاما، وإن من فتنته أن معه شياطين يتمثل كل واحد منهم على صورة إنسان، فيأتي الأعرابي فيقول له: إذا بعثت أباك وأمك وأهلك تشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شياطينه على صوت أبيه وأمه، فيقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك، ومن فتنته أن يسلط على نفس فيقتلها، ثم يحييها الله بعد ذلك، فيقول الدجال: انظروا إلى عبدي هذا، فإني بعثته الآن ويزعم أن له ربا غيري " ".
قال مقاتل: (إن الرجل الذي يسلط عليه الدجال رجل من جشعم، فيقتله ثم يبعثه الله تعالى، فيقول له الدجال: من ربك؟ فيقول: الله ربي وإنك الدجال عدو الله).
[وإن من فتنته يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أبيك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شياطينه على صورة أبيه وأمه. وإن أيامه أربعين يوما، فيوم كالسنة، ويوم دون ذلك، ويوم كالشهر، ويوم دون ذلك، ويوم كالجمعة، ويوم دون ذلك، وآخر أيامه كالشرفة، فيصبح الرجل بباب المدينة فلا يبلغ بابها حتى تغرب الشمس].
" قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: " تقدرون فيها كما تقدرون في هذه الأيام الطوال، فلا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه الرجل وغلب عليه، إلا مكة والمدينة فإنه لا يأتيهما، ويكون إمام الناس يومئذ بالمدينة رجلا صالحا، فيقال له: صل الصبح، فإذا كبر ودخل في الصلاة ونزل عيسى عليه السلام، فإذا رآه ذلك الرجل عرفه فيتأخر ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ويقول له: صل قائما، أقيمت لك الصلاة.
فيصلي عيسى وراءه ثم يقول: افتحوا الباب، فيفتح باب المدينة، ومع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلهم ذوو سلاح وسيف محلا، فإذا نظر الدجال إلى عيسى ذاب كما ذاب الرصاص من النار والملح في الماء، فيقول له عيسى: إن لي فيك ضربة لن تفوتني بها، فيدركه عند باب كذا الشرقي وهو باب قتيلة، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، فلا شجر ولا حجر ولا دابة إلا قالت: يا عبد الله المسلم هذا كافر فاقتله.
ويكون عيسى عليه السلام حكما عدلا وإماما مقسطا، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، وترفع الشحناء والتباغض، وترفع حمة كل دابة حتى يدخل الصبي يده فم الحنش فلا يضره، ويلقى الإنسان الأسد فلا يضره، ويكون الأسد في الإبل كأنه كلبها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، ويملأ الأرض إسلاما، ويسلب الكفار ملكهم، ولا يكون الملك إلا للمسلمين، ويبارك في الأرزاق حتى أن النفر يجتمعون على رمانة واحدة، ويكون الفرس بدرهمين "
وبالله التوفيق).
[40.58-59]
قوله تعالى: { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء }؛ أي فكما لا يستويان فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر في الآخرة في الجزاء بالعذاب والنعيم، وباقي الآيتين: { قليلا ما تتذكرون * إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } ظاهر المعنى.
[40.60]
قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم }؛ أدعوني ووحدوني في الدنيا أقبل منكم وأستمع دعاءكم، { إن الذين يستكبرون عن عبادتي }؛ إن الذين يتعظمون عن طاعتي وعن المسألة مني، { سيدخلون جهنم داخرين }؛ أي صاغرون ذليلون، والداخر: هو الذليل الصاغر، قال حسان:
قتلنا من وجدنا يوم بدر
وجئنا بالأسارى داخرا
قرأ ابن كثير (سيدخلون) بضم الياء وفتح الخاء.
[40.61-63]
قوله تعالى: { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا }؛ أي تبصرون فيه لطلب المعاش، { إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون }؛ نعم الله، { ذلكم الله ربكم خلق كل شيء }؛ ومبتدعه، لا معبود سواه، فلا ينبغي لأحد أن يدعو مخلوقا مثله، { لا إله إلا هو فأنى تؤفكون }؛ وقد تقدم تفسير ذلك، { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون }؛ أي هكذا كان لمصرف القوم الذين كانوا بدلائل الله يجحدون.
[40.64-65]
قوله تعالى: { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا }؛ أي مستقرا للأحياء والأموات، كما قال:
فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
[الأعراف: 25] { والسمآء بنآء }؛ أي وجعل السماء سقفا مرفوعا فوق كل شيء، { وصوركم فأحسن صوركم }؛ أي خلقكم فأحسن خلقكم.
قال ابن عباس: (خلق الله ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده، ويتناول بيده وكل ما خلق الله يتناول بفيه). وقال الزجاج: (خلقكم أحسن الحيوان كله)، { ورزقكم من الطيبات }؛ أي من لذيذ الأطعمة وكريم الأغذية.
وقوله تعالى: { ذلكم الله ربكم }؛ أي الذي فعل ذلك كله هو ربكم فاشكروه، { فتبارك الله رب العالمين }؛ أي فتعالى الله دائم الوجود لم يزل ولا يزال رب كل ذي روح من الجن والإنس وغيرها، { هو الحي لا إله إلا هو }؛ بلا أول ولا آخر، لم يزل، كان حيا ولا يزال حيا، منزه عن كل آفات، وليس أحد غيره من الأحياء بهذه الصفات، لا مستحق للإلهية غيره، { فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين } ، فوحدوه مخلصين له الدين؛ أي الطاعة، واشكروه على معرفة التوحيد. قال ابن عباس رضي الله عنه: (إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله فيقل في إثرها: الحمد لله رب العالمين).
[40.66]
قوله تعالى: { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءني البينت من ربي وأمرت أن أسلم لرب العلمين }؛ أي أمرت أن أستقيم على الإسلام.
[40.67]
قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من تراب }؛ أي خلق أصلكم من تراب، { ثم من نطفة }؛ لآبائكم، { ثم من علقة } ، ثم نقلكم إلى العلقة وهو الدم الغليظ، { ثم يخرجكم }؛ من بطون أمهاتكم أطفالا واحدا واحدا لذلك قوله: { طفلا }؛ وقال
بالأخسرين أعمالا
[الكهف: 103] لأن الواحد يكون أعمال.
وقوله تعالى: { ثم لتبلغوا أشدكم }؛ أي بنقلكم إلى حال اجتماع القوة والكمال، { ثم لتكونوا شيوخا }؛ أي تصيروا شيوخا بعد الأشد، { ومنكم من يتوفى من قبل }؛ من قبل البلوغ ومن قبل الشيخوخة، { ولتبلغوا أجلا مسمى }؛ يريد أجل الحياة إلى الموت، ولكل أجل لحياته ينتهي إليه، ويقال: لتبلغوا أجلا مسمى؛ أي لتوافوا القيامة للجزاء والحساب، { ولعلكم تعقلون } ، ولكي يعقلوا وحدانية الله تعالى وتمام قدرته، وتصدقوا بالبعث بعد الموت.
[40.68-72]
قوله تعالى: { هو الذي يحيي ويميت }؛ أي يحيي الأموات ويميت الأحياء، { فإذا قضى أمرا }؛ من الإحياء والإماتة، { فإنما يقول له } ، يريده، { كن فيكون } ، ويحدثه.
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله }؛ أي يخاصمون في القرآن بالرد والتكذيب، وهم المشركون، { أنى يصرفون } ، كيف يصرفون إلى الكذب بعد وضوح الدلالة، { الذين كذبوا بالكتاب }؛ الذين كذبوا بالقرآن، { وبمآ أرسلنا به رسلنا } ، من الشرائع والأحكام والتوحيد، { فسوف يعلمون } ، عاقبة أمرهم، { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون } حين تجعل الأغلال الحديد مع السلاسل في أعناقهم، يسحبون في الحبال على وجوههم، يلقون، { في الحميم } ، في نار عظيمة، { ثم في النار يسجرون }؛ قال مجاهد: (توقد بهم النار فصاروا وقودها).
[40.73-76]
قوله تعالى: { ثم قيل لهم } ، ثم تقول لهم الزبانية: { أين ما كنتم تشركون } ، أين الآلهة التي كنتم تعبدونها، وترجون منافعها، وتدعونها، { من دون الله } ، فيؤلمون قلوبهم بمثل هذا التوبيخ كما يؤلمون أبدانهم بالتعذيب، { قالوا }؛ فيقول الكفار: { ضلوا عنا } ، أي ضلت ألهتنا عنا؛ أي ضاعت فلا نراها، ثم يجحدون عبادة الأصنام فيقولون: { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا } ، إن لم نكن نعبد من قبل هذا شيئا، ويجوز أن يكون هذا كالرجل يعمل عملا لا ينتفع به، فيقال له: إيش تعمل؟ فيقول: لا شيء.
وقوله تعالى: { كذلك يضل الله الكافرين }؛ أي هكذا يهلكهم ذلك العذاب الذي نزل بكم، { ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق }؛ بالباطل، { وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين }؛ قال مقاتل: (يعني البطر والخيلاء).
والغل: هو ما يجعل في العنق للإذلال والإهانة. والطوق: هو ما يجعل للإجلال والكرامة. وقرأ ابن عباس: (والسلاسل) بفتح اللام، و(يسحبون) بفتح الياء؛ معناه: ويسحبون السلاسل.
[40.77]
قوله تعالى: { فاصبر إن وعد الله حق }؛ بنصرك والانتقام منهم، { فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون }؛ معناه: فإن انتقمنا منهم وأنت حي فبشرى لك، وإن نتوفاك قبل " أن " نريك ذلك فإلينا مرجع الكل منهم للمجازاة، وسيصل إليهم موعدهم.
[40.78]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك }؛ أي منهم من قصصنا عليك خبرهم في القرآن، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم، { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله }؛ في الآية إبلاغ عذر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأتيهم به من الآيات التي كانوا يقترحونها عليه، وليس علينا حصر عدد الرسل، ولكنا نؤمن بجملتهم.
وقوله تعالى: { فإذا جآء أمر الله }؛ أي إذا جاء قضاؤه بين أنبيائه وأممهم، { قضي بالحق } ، لم يظلموا إذا عذبوا { وخسر هنالك }؛ عند ذلك، { المبطلون } ، المكذبون.
[40.79-80]
قوله تعالى: { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون }؛ الله الذي خلق لكم الإبل والبقر والغنم لتركبوا بعضها وتأكلوا لحم بعضها، { ولكم فيها منافع }؛ من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم }؛ أي لتبلغوا عليها في ركوبها حاجة في قلوبكم لا تبلغونها إلا بها، قال مجاهد: (تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد مما كانت)، { وعليها وعلى الفلك تحملون }؛ أي وعلى ظهورها في البر وعلى السفن في البحر تحملون في كسبكم وحجكم وتجاراتكم.
[40.81]
قوله تعالى: { ويريكم آياته }؛ أي يريكم الله دلائل قدرته من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والجبال والبحار، وتسخر الأنعام لمنافع العباد، كلها من آيات الله، { فأي آيات الله تنكرون } ، فأي آية من آيات الله تجهلون أنها ليست من الله تعالى؟.
[40.82-83]
قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم }؛ من الأمم كيف أهلكهم الله بتكذيبهم الرسل، { كانوا أكثر منهم }؛ من أهل مكة بالعدد، { وأشد قوة }؛ في البلدان، وأظهر؛ { وآثارا في الأرض }؛ في الأبنية العظيمة، والقصور المشيدة، والعيون المستخرجة، { فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } ، فلم ينفعهم من عذاب الله كثرة عددهم وشدة قوتهم وجمعهم الأموال، { فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }؛ بالجهل الذي عندهم أنه علم، وقالوا: نحن أعلم منهم، لن نبعث ولن نعذب، فمعنى قوله: { فرحوا بما عندهم من العلم } أي رضوا بما عندهم من العلم وهو في الحقيقة جهل وإن زعموه علما.
[40.84-85]
قوله تعالى: { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا } ، فلما رأوا عذابنا آمنوا، { بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا }؛ ولا ينفع الإيمان عند ذلك.
وقوله تعالى: { سنت الله التي قد خلت في عباده }؛ أي هذا قضائي في خلقي أن من كذب أنبيائي وجحد ربوبتي؛ أي سن الله هذه السنة في الأمم كلها أن لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وسنة الله هي حكم الله الذي مضى في عباده في بعث الرسل إليهم، ودعائهم إلى الحق وترك المعاجلة بالعقوبة، وأن الإيمان وقت البأس لا ينفع.
ونصب قوله { سنت الله } على التحذير أو على المصدر، وقوله تعالى: { وخسر هنالك الكافرون }؛ أي هلك عند ذلك المكذبون.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-4]
{ حم * تنزيل من الرحمن الرحيم }؛ قال { تنزيل } مبتدأ؛ وخبره: { كتاب فصلت آياته }؛ أي بين حلاله وحرامه، ومعنى التنزيل: المنزل كما يذكر العلم بمعنى المعلوم، والحلق بمعنى المحلوق، قوله تعالى: { قرآنا عربيا }؛ منصوب على الحال؛ أي بينت آياته في حال جمعه على مجرى لغة العرب، { لقوم يعلمون }؛ اللسان العربي، { بشيرا }؛ بالجنة لمن أطاع، { ونذيرا }؛ بالنار لمن عصى الله، { فأعرض أكثرهم }؛ أهل مكة عن الإيمان، { فهم لا يسمعون }؛ سماعا ينتفعون به.
[41.5]
قوله تعالى: { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه }؛ أي قال كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: قلوبنا في أغطية مما تدعونا إليه من القرآن لا يصل إلى قلوبنا، { وفي آذاننا وقر }؛ أي ثقل وصمم يمنع من استماع ما تقرؤه.
والأكنة: جمع كنان، مثل عنان وأعنة. { ومن بيننا وبينك حجاب }؛ وبيننا وبينك حاجز وفرقة في الدين فلا نوافقك على ما تقول، { فاعمل }؛ على أمرك ودينك، { إننا عاملون }؛ على أمرنا ومذهبنا.
[41.6-7]
قوله تعالى: { قل }؛ يا محمد: { إنمآ أنا بشر مثلكم }؛ أي كواحد منكم ولولا الوحي ما دعوتكم . وقوله تعالى: { يوحى إلي أنمآ إلهكم إله واحد }؛ لا شريك له، { فاستقيموا إليه }؛ أي لا تميلوا عن سبيله وتوجهوا إليه إلى طاعته، { واستغفروه }؛ من الشرك ووحدوه.
قوله تعالى: { وويل للمشركين }؛ وويل لمن لا يقول لا إله إلا الله، { الذين لا يؤتون الزكاة } ، ولا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، { وهم بالآخرة هم كافرون } ، وقال الحسن: (لا يقرون بالزكاة، ولا يرون إيتاءها ولا يؤمنون بها)، قال الكلبي: (عابهم الله وقد كانوا يحجون ويعتمرون)، قال قتادة: (الزكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا) أي فمن عبرها نجا، ومن لم يعبرها هلك.
وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار يعاقبون في الآخرة على ترك الشرائع كما يعاقبون على ترك الإيمان؛ لأن الله وعدهم على ذلك، وقال في جواب أهل النار حين يقال لهم
ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين
[المدثر: 42-44].
[41.8]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون }؛ أي غير مقطوع، من قولهم: مننت الحبل إذا قطعته، وثواب المؤمن لا ينقطع. وقيل: لا يمن عليهم بذلك؛ لأن المنة تكدر الصنيعة.
[41.9]
قوله تعالى: { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين }؛ أي { قل أإنكم } يا أهل مكة { لتكفرون بالذي خلق الأرض } في عظمها وقوتها في يوم الأحد ويوم الاثنين، { وتجعلون له أندادا }؛ من الأصنام؛ أي أضدادا، وقوله تعالى: { ذلك رب العالمين }؛ أي ذلك الذي هذه قدرته رب كل ذي روح وملكهم.
[41.10]
قوله تعالى: { وجعل فيها رواسي من فوقها }؛ أي وخلق فيها جبالا ثوابت أوتادا لها في يوم الثلاثاء، { وبارك فيها }؛ أي بارك في الأرض بالسماء والشجر والنبات والثمار، { وقدر فيهآ أقواتها في أربعة أيام }؛ أي معايشها، قدر الله لكل حيوان ما يكفيه بحسب الحاجة، وجعل في كل أرض معيشة ليست في غيرها لتعايشوا وتتجروا.
وكان تقدير الأقوات في يوم الأربعاء، فتم خلق الأرض بما فيها في أربعة أيام، ولو أراد الله أن يخلقها في لحظة واحدة لفعل وقدر، ولكنه خلقها في ستة أيام لأنه تعالى حليم ذو أناة، أحب أن يعلم الخلق الأناة في الأمور.
وقال الحسن: (معنى قوله { وقدر فيهآ أقواتها } أي قسم الأرض أرزاق العباد والبهائم)، وقال الكلبي: (الخبز لأهل قطر؛ والثمر لأهل قطر؛ والذرة لأهل قطر؛ والسمك لأهل قطر، جعل الله في كل بلدة ما لم يجعل في الأخرى؛ ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من موضع إلى موضع).
وقوله تعالى: { سوآء للسآئلين }؛ رفعه أبو جعفر على الابتداء؛ أي هن سواء، وخفضه الحسن ويعقوب نعت أربعة أيام، ونصبه الباقون على معنى: استوت سواء للسائلين، واستواء يعني على المصدر كما يقال: في أربعة أيام تماما. ومعناه: من سأل عنه فهكذا الأمر.
وقال السدي: (سواء لا زيادة ولا نقصان جوابا لمن سأل في كم خلقت الأرض والأقوات، فيقال: أربعة أيام سواء). و(للسائلين) ها هنا هم اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مدة خلق السماوات والأرض، ويجوز قوله { سوآء للسآئلين } عائدا على تقدير الأقوات، كأنه قال: لكل محتاج إلى القوت.
[41.11]
قوله تعالى: { ثم استوى إلى السمآء وهي دخان }؛ قال السدي: (كان ذلك الدخان من نفس الماء حين تنفس، وكان بخاره يذهب في الهواء، فخلقت السماء منه وفتقت سبعا في يوم الخميس والجمعة).
وقوله تعالى: { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها }؛ أي ائتيا ما آمركما وافعلا، كما يقال: ائت ما هو الأحسن؛ أي افعله.
قال المفسرون: إن الله تعالى قال: أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك واخرجي ثمارك ونباتك، وقال لهما: اعملا ما آمركما طوعا وإلا ألجأتكما ذلك حتى تفعلاه كرها، فأجابتا بالطوع وهو قوله تعالى: { قالتآ أتينا طآئعين }؛ أي أتينا أمرك. ولما ركب الله فيهن العقول، وخطاب من يعقل جمعهن جمع من يعقل كما قال تعالى:
كل في فلك يسبحون
[الأنبياء: 33] ولو جمعهن جمع من لا يعقل لقيل: طائعات.
ويقال في معناه: أتينا نحن من فينا طائعين، وإنما ذكر تارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الجمع؛ لأن السماوات والأرض شيئان من حيث الجنس بمنزلة الفئتين (والطائعين )، فقيل لهما: ائتيا، ثم السماوات بنفسها جماعة، وكذلك الأرض، فلذلك قالتا: { أتينا طآئعين }. وانتصب (طوعا) و (كرها) على معنى أطيعا طاعة أو تكرهان كرها.
وبلغنا أن بعض الأنبياء قال: يا رب؛ لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما { ائتيا طوعا أو كرها } عصياك ما كنت صانعا بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: فأين تلك الدابة؟ قال: في مرج من مروج، قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علومي.
[41.12]
قوله تعالى: { فقضهن سبع سموت }؛ أي صنعهن وأحكمهن وأتم خلقهن سبع سماوات بعضها فوق بعض بما فيهن من الشمس والقمر والنجوم، { في يومين } ، في يوم الخميس والجمعة، فتم خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
لفظ القضاء في اللغة بمعنى الإتمام، ومن ذلك: انقضاء الشيء إذا تم، وقضى فلان إذا مات؛ لأنه تم عمره، وقال الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
عملهما وصنعهما.
قوله تعالى: { وأوحى في كل سمآء أمرها }؛ قال قتادة: (يعني خلق شمسها وقمرها ونجومها، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البر وما لا يعلمه إلا هو). وقيل: أمر في كل سماء بما أراد. وقيل: أوحى إلى أهل كل سماء ما يصلحها به من أمره.
قوله تعالى: { وزينا السمآء الدنيا بمصبيح }؛ أي زينا السماء القربى إلى الأرض بمصابيح وهي النجوم، وقوله تعالى: { وحفظا }؛ أي وحفظناها بالنجوم من استراق الشياطين السمع حفظا.
وقيل: انتصب (حفظا) على تقدير: وزينا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا، فبعض النجوم زينة للسماء لا يتحرك، وبعضها يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وبعضها رجوم للشياطين.
قوله تعالى: { ذلك تقدير العزيز العليم }؛ أي ذلك الذي سبق ذكره؛ تقديره: العزيز في ملكه القادر القاهر الذي لا يلحقه عجز ولا يعتريه سهو ولا جهل، أحكم ذلك كله وأتقنه حتى لا يدخله الخلل مدى الدهور.
[41.13-14]
قوله تعالى: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله }؛ الآية، وذلك أن الملأ من قريش قالوا: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فأتاه وكلمناه، وأتانا ببيان أمره. فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما لا يخفى علي إن كان كذلك.
فمضى عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحطيم، فكلمه ولم يترك شيئا إلا قاله، وكان عتبة من أحسن الناس حديثا، فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كان ذلك طلبا للرئاسة عقدنا لك ألويتنا وكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان لك الباءه زوجناك عشر نسوة ممن تختار من بنات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم.
فلما فرغ عتبة من كلامه قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون... } إلى قوله { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }. فوثب عتبة فزعا مخافة أن يصب عليه العذاب الذي خوفه به النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى قومه مذعورا وأقسم لا يكلم محمدا بعدها أبدا.
فقال له أبو جهل: لعلك صبوت إلى محمد، وما ذاك إلا من حاجة أصابتك، وإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد! فغضب عتبة وقال: والله لقد كان أبي من أكثر قريش مالا، ولكن أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، والله ما اهتديت لجوابه. فقال حرث بن علقمة: والله لقد أفسد هذا الرجل ديننا وفرق بين كلمتنا، وأيم الله لئن بقي هذا الرجل ويقيم ليكونن بطن الأرض خير لكم من ظهرها، وسيبين ذلك لكم إذا خرج منكم إلى غيركم، فذروه ما ترككم.
ومعنى الآية: فإن أعرضوا عن الإيمان بك ولم يقبلوا قولك بعد هذا البيان، فقل: خوفتكم عذابا مثل عذاب قوم هود وقوم صالح. والصاعقة: هو الهلاك على حالة هائلة.
وقوله تعالى: { إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم } أي إذا جاءتهم الرسل إلى من كان قبلهم فعلموا بتواتر الأخبار. ثم إنهم الرسل أيضا من خلف من كان قبلهم بأن لا يعبدوا إلا الله، { قالوا لو شآء ربنا لأنزل ملائكة }؛ أي لو شاء ربنا أن ينزل إلينا رسولا لأنزل ملائكة من جنده، { فإنا بمآ أرسلتم به كافرون }؛ ما أنتم إلا بشر مثلنا. ويجوز أن يكون معنى { من بين أيديهم ومن خلفهم } بأن الرسل أتتهم من جميع جهاتهم.
[41.15]
قوله تعالى: { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق }؛ أي تعظموا عن الإيمان بنبيهم وأعجبتهم أجسامهم، { وقالوا }؛ لنبيهم: { من أشد منا قوة }؛ بالبدن فيهلكنا، وذلك أن هودا عليه السلام خوفهم وهددهم بالعذاب، فقالوا: نحن نقدر على دفعه بفضل قوتنا، وكانت لهم أجسام طويلة وخلق عظيم، فلما أتتهم الريح قاموا ليصدون عنهم فحملتهم إلى عنان السماء ثم صرعتهم على وجوههم ثم ألقت عليهم الرمل حتى غطتهم، وكان يسمع أنينهم تحت التراب حتى أهلكهم الله.
فلما قالوا لنبيهم: { من أشد منا قوة } قال الله تعالى ردا عليهم: { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة }؛ لأن الخالق للشيء لا بد أن تكون له مزية على خلقه، { وكانوا بآياتنا يجحدون }؛ أي يكفرون.
[41.16]
قوله تعالى: { فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا }؛ أي عاصفا شديد الصوت، مأخوذ من الصرة وهي الصيحة، وقال ابن عباس: (يعني الباردة، مأخوذ من الصر وهو البرد). قال الفراء: (هي الباردة تحرق كما تحرق النار) وهي ريح باردة شديدة الهبوب، ذات صوت تحرق كالنار.
وقوله تعالى: { في أيام نحسات }؛ أي نكدات مشؤومات عليهم، ذات نحوس، قال ابن عباس: (كانوا يتشاءمون بتلك الأيام). قرأ ابن عامر وأهل الكوفة (نحسات) بكسر الحاء، وقرأ الباقون بسكونها، يقال: يوم نحس ونحس.
قوله تعالى: { لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا }؛ أي عذاب الهون والذل وهو العذاب الذي يخزون به، والخزي والفضيحة والنكال كله بمعنى واحد، { ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون } ، وعذاب الآخرة أبلغ في المذلة وأبقى وأشد، لا يدفع عنهم ولا يخفف عنهم.
[41.17-18]
قوله تعالى: { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }؛ أي وأما ثمود فبينا لهم سبيل الهدى ودعوناهم ودللناهم على الخير بإرسال الرسل، فاختاروا الكفر على الإيمان بعد أن أريناهم الأدلة وأخرجنا لهم ناقة عشراء من صخرة ملساء، { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } ، أي ذي الهوان، { بما كانوا يكسبون } ، بكفرهم وعقرهم الناقة، { ونجينا الذين آمنوا }؛ بصالح، { وكانوا يتقون }؛ الشرك والكبائر.
[41.19]
قوله تعالى: { ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون }؛ قرأ نافع ويعقوب (نحشر) بنون مفتوحة وضم الشين، ونصب (أعداء)، وقرأ الباقون (يحشر) بالياء المضمومة ورفع (أعداء). ومعنى الآية: وأنذرهم يوم يجمع أعداء الله ويساقون إلى النار بالعنف، وقوله تعالى { فهم يوزعون } أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ثم يقذفون في النار.
[41.20-21]
قوله تعالى: { حتى إذا ما جآءوها }؛ أي حتى إذا جاءوا النار التي لم يقذفوا ثم يقذفون في النار. قوله تعالى: حشر أعداء الله حبسوا عندها وهم يعاينونها، ويقال لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون، فيجحدون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، فعند ذلك يختم على أفواههم وتستنطق جوارحهم { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم } ، وكل عضو من أعضائهم بما ارتكبوا من الكفر والمعاصي.
قوله تعالى: { وجلودهم بما كانوا يعملون }؛ قال ابن عباس: (يريد فروجهم، كنى عنها بالجلود). وقيل: الجلود الجوارح، { وقالوا لجلودهم } ، فيقول الكفار لجلودهم بعدما يرد النطق إلى ألسنتهم: { لم شهدتم علينا }؛ وعملتم على هلاكنا، { قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء }؛ وتم الكلام.
ثم قال الله تعالى: { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون }؛ أي ليس إنطاقه الجلود أبدع من خلقه إياكم ابتداء وإعادة بعد الموت، وليس هذا من كلام الجلود.
[41.22]
قوله تعالى: { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم }؛ معناه: ما كنتم تستترون بالمعاصي عن الناس مخافة من أن تشهد عليكم هذه الجوارح في الآخرة؛ لأنكم ما كنتم تظنون ذلك، { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون }؛ ولكن عملتم بالمعاصي عمل من يظن أن الله لا يعلم بما يعمله في السر. قال ابن عباس: (كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكنه يعلم ما يظهر!).
[41.23]
قوله تعالى: { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم }؛ أي ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون، { أرداكم فأصبحتم من الخاسرين }؛ أي أهلككم فصرتم من المنبذين بالوزر والعقوبة. وقيل: معنى { أرداكم } أي طرحكم في النار.
[41.24]
قوله تعالى: { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم }؛ أي فإن يمسكوا عن الاستغاثة ولم ينطقوا بشكوى فالنار مسكن لهم منتقمة منهم، { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين }؛ أي وإن يطلبوا العتبى وهي الرضا فماهم عن " أن " يطلبوا رضاهم ويقبل عذرهم. يقال: أعتبني فلان؛ أي أرضاني بعد استخاطه إياي، واستعتبته طلبت منه أن يعتب أي يرضى.
[41.25]
قوله تعالى: { وقيضنا لهم قرنآء }؛ معناه: سببنا لهم أعوانا وقرناء من الشياطين حتى أضلوهم وهو قوله تعالى: { فزينوا لهم ما بين أيديهم }؛ من أمر الآخرة أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، { وما خلفهم }؛ من أمر الدنيا أن لا ينفقوا في وجوه البر، وأن يتلذذوا في الدنيا ويجمعوا الأموال، { وحق عليهم القول }؛ أي وجب عليهم، { في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين }.
[41.26]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }؛ وذلك أن كفار قريش قالوا لأتباعهم: لا تسمعوا هذا القرآن الذي يقرؤه عليكم محمد، فإذا سمعتموه يقرأ فارفعوا أصواتكم بالأشعار والأراجيز والغوا فيه بالمكاء والصفير، وقابلوه بكلام اللغو حتى تغلبوه فيسكت.
[41.27-28]
يقول الله تعالى: { فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا }؛ أي في الدنيا بالقتل والأسر، { ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون } ، ولنعاقبنهم في الآخرة بعذاب أشد من عذابهم في الدنيا، { ذلك }؛ العذاب، { جزآء أعدآء الله }. وقوله تعالى: { النار }؛ بدل من العذاب؛ أي بدل من قوله { جزآء أعدآء الله }. وقوله تعالى: { لهم فيها دار الخلد }؛ أي لهم في النار دار الإقامة، { جزآء بما كانوا بآياتنا يجحدون }؛ يعني القرآن جحدوا أنه من عند الله.
[41.29]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا ربنآ أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس }؛ معناه: يقول الذين كفروا في النار: يا ربنا أرنا اللذين أضلانا عن الحق. قال بعضهم: يريد به إبليس وقابيل أول من أحدث المعصية في بني آدم، { نجعلهما تحت أقدامنا }؛ أي أسفل منا في النار، { ليكونا من الأسفلين }؛ في الدرك الأسفل. وقيل: معناه: ليكونا أشد عذابا منا.
[41.30-32]
قوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله }؛ أي إن الذين وحدوا الله، { ثم استقاموا } ، على الإيمان ولم يشركوا. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: (اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: (يعني ثم استقاموا على أن الله رب لهم)، وقال مجاهد: (هم الذين لم يشركوا به شيئا حتى يلقوه). وقال بعضهم: يعني الاستقامة على أداء الفرائض ولزوم السنة. وروي عن عمر رضي الله عنه: (استقاموا لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب).
وقوله: { تتنزل عليهم الملائكة }؛ يعني قبض أرواحهم فتقول لهم: { ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون }؛ أي لا تخافوا ما أنتم واقفون عليه، ولا تحزنوا على الدنيا وأهلها، وتقول لهم عند خروجهم حين يرون أهوال القيامة: { نحن أوليآؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة }؛ توليناكم وحفظنا أعمالكم، ونتولاكم في الآخرة ونحفظكم.
وعن ثابت أنه قال: (بلغنا أن المؤمن إذا خرج من قبره يوم القيامة، نظر إلى حافظين قائمين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن وأبشر بالجنة التي كنت توعد).
وقال عثمان رضي الله عنه في معنى قوله: (ثم استقاموا: ثم أخلصوا العمل لله عز وجل). وقال مجاهد وعكرمة: (معناه: ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله).
وقال مقاتل: (استقاموا على المعرفة، ولم يرتدوا، تتنزل عليهم الملائكة) في ثلاث مواطن: عند الموت، وفي القبر، وفي وقت البعث: أن لا تخافوا على صنيعكم ولا تحزنوا على مخلفيكم.
وقال مجاهد: (أن لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على خلفتكم في الدنيا من ولد وأهل، فإنه سيخلفكم في ذلك كله). وقال السدي: (لا تخافوا من ذنوبكم فإني أغفرها لكم).
وقال بعضهم: معنى هذه الآية: أن الذين قالوا: { ربنا الله ثم استقاموا } بالوفاء على ترك الخنى تتنزل عليهم الملائكة بالرضى: أن لا تخافوا من الغنى ولا تحزنوا على الغنى وأبشروا بالبقاء مع الذي كنتم توعدون من اللقاء. وقيل: معناه: ألا تخافوا فلا خوف على أهل الاستقامة، ولا تحزنوا فإن لكم أنواع الكرامة وأبشروا بالجنة التي هي دار السلامة، لا تخافوا فعل دين الله إن استقمتم، ولا تحزنوا، فبحبل الله اعتصمتم، وأبشروا بالجنة إن تبتم لا تخافوا ما دمتم ولا تحزنوا فقد نلتم ما طلبتم، وأبشروا بالجنة التي فيها رغبتم، ولا تحزنوا فأنتم أهل الإيمان، ولا تحزنوا وأنتم أهل الغفران، وأبشروا بالجنة التي هي دار الرضوان، لا تخافوا وأنتم أهل الشهادة، ولا تحزنوا فأنتم أهل السعادة، وأبشروا بالجنة التي هي دار الزيادة، لا تخافوا فأنتم أهل النوال، ولا تحزنوا فأنتم أهل الوصال، وابشروا بالجنة التي هي دار الحلال، لا تخافوا فقد أمنتم الثبور، ولا تحزنوا فإن لكم الحور، وأبشروا بالجنة التي هي دار السرور، ولا تخافوا فسعيكم مشكور، ولا تحزنوا فذنبكم مغفور، وابشروا بالجنة التي هي دار النور، لا تخافوا فطالما كنتم خائفين، ولا تحزنوا فقد كنتم عارفين، وأبشروا بالجنة التي عجز عنها وصف الواصفين، لا تخافوا فأنتم من أهل الإيمان، ولا تحزنوا فأنتم من أهل الحرمان، وأبشروا بالجنة التي هي دار الأمان.
لا تخافوا فسلمتم من أهل الجحيم، ولا تحزنوا فقد وصلتم إلى الرب الرحيم، وأبشروا بالجنة التي هي دار النعيم، لا تخافوا فقد زالت عنكم المخافة، ولا تحزنوا فقد سلمتم من كل آفة، وابشروا بالجنة التي هي دار الضيافة، لا تخافوا العزل من الولاية، ولا تحزنوا على ما قدمتم من الجناية، وأبشروا بالجنة التي هي دار الهداية، لا تخافوا حلول العذاب، ولا تحزنوا من هول الحساب، وأبشروا بالجنة التي هي دار الثواب، لا تخافوا فأنتم سالمون من العقاب، ولا تحزنوا فأنتم واصلون إلى الثواب، وأبشروا بالجنة فأنها نعم المآب.
قوله تعالى: { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم }؛ أي تقول لهم الملائكة: نحن أولياؤكم؛ أي نحن الحفظة الذي كنا معكم في الأولى، ونحن أحباؤكم أولياؤكم في الآخرة، لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة، { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } من الكرامات واللذات، يعني ولكم في الآخرة ما تشتهي أنفسكم، { ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم }؛ أي أنزلهم الله نزلا، ولا يجوز أن يكون قوله (نزلا) جمع نازلة، ويكون المعنى: ولكم ما تدعون من غفور رحيم نازلين. ويجوز أن يراد به القوت الذي يقام للنازل والضيف، والمعنى: ثبت لهم ما يدعون { نزلا من غفور رحيم } أي كثير المغفرة، رحيم بمن كان على الإيمان والتوبة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لما نزلت هذه الآية { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قال: " أمتي ورب الكعبة "
، لأن اليهود قالوا ربنا الله ثم لم يستقيموا إذ قالوا: عزير ابن الله! والنصارى قالوا: ربنا الله، ثم لم يستقيموا إذ قالوا: المسيح ابن الله!.
[41.33]
قوله تعالى: { ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله)، وقال الحسن: (هو المؤمن أجاب الله دعوته ودعوة الناس إلى ما أجاب الله فيه دعوته وعمل صالحا في إجابته) { وقال إنني من المسلمين }؛ وقالت عائشة رضي الله عنها: (إن هذه الآية نزلت في المؤذنين الذين يدعون إلى الصلاة ويصلون بين الأذان والإقامة).
[41.34]
قوله تعالى: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة }؛ ولا تستوي كلمة التوحيد وكلمة الشرك، وقيل: هما الطاعة والمعصية، ويقال: الخصلة الحميدة والخصلة السيئة. وقيل: الحلم والجهل، والعفو والإساءة.
ودخول (لا) في قوله: { ولا السيئة } زائدة للتأكيد وبعد المساواة؛ لأن المعنى: لا تستوي الحسنة والسيئة، ومثله قول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله فعل
هم والطيبان أبو بكر وعمر
وقوله تعالى: { ادفع بالتي هي أحسن }؛ أي ادفع السفاهة والعجلة بالأناة وبالرفق، وذلك أنك إن لقيت بعض من يضمر في نفسه عداوتك فتبدأه بالسلام أو تبتسم في وجهه لأن ذلك يلين لك قلبه، ويسلم لك صدره فذلك قوله تعالى: { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }؛ أي إذا فعلت ذلك صار الذي يعاديك صديقا قريبا لك. وتسمي العرب القريب حميما؛ لأنه يحمي لما يهم صاحبه.
[41.35]
قوله تعالى: { وما يلقاها إلا الذين صبروا }؛ أي ما يلقى هذه الخصلة التي هي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال المكروه وصبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، { وما يلقاهآ } ، أي وما يعطاها، { إلا ذو حظ عظيم }؛ من الخير. وقيل: من الصبر، وقيل: الحظ العظيم الجنة، أي ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة. وقيل: الحظ العظيم القدر، العظيم عند الله.
[41.36-37]
قوله تعالى: { وإما ينزغنك من الشيطن نزغ }؛ أي وإما يلحقنك من الشيطان وسوسة عند هفوة غيرك وعندما يدعو بك إلى معصية الله فتصرفك الوسوسة عن الاحتمال، { فاستعذ بالله }؛ أي اعتصم بالله من شر الشيطان، امض على حكمك، { إنه هو السميع }؛ لمقالة أعدائك، { العليم }؛ بهم وبمجاراتهم.
ثم ذكر الله علامات توحيده ودلائل قدرته؛ فقال: { ومن آياته اليل والنهار والشمس والقمر }؛ أي ومن آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته الليل والنهار بما فيهما من المنافع والمقاصد، والشمس والقمر بما فيهما من البدائع، { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن }؛ أي لا تعبدوا الشمس والقمر، واعبدوا الله الذي خلقهن، { إن كنتم إياه تعبدون }؛ أي إن كنتم تريدون بعبادة الشمس والقمر عبادة الله.
وذلك أن قوما من الكفار يسجدون لهما ويزعمون أنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى، فقيل لهم: إن كنتم تريدون بذلك عبادة الله تعالى، فالسجود لخالقهما أولى من السجود لهما.
فإن قيل: ما معنى قوله { خلقهن } والقمر مذكر والشمس مؤنثة، والمذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر؟ قلنا: إن قوله (خلقهن) راجع إلى الآيات التي سبق ذكرها في أول هذه الآية من الليل والنهار والشمس والقمر، ويكون ضمير ما لا يعقل على لفظ التأنيث كما يقال: هذه كباش ذبحن وذبحت.
[41.38]
قوله تعالى: { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له باليل والنهار }؛ أي فإن تكبروا عن عبادتي والسجود لي فالملائكة الذين عند ربك بقرب الكرامة والمنزلة يصلون له بالليل والنهار، وينزهونه عن كل ما لا يليق له، { وهم لا يسئمون }؛ أي لا يميلون على عبادته ولا يفترون.
واختلفوا في موضع السجود من هذه السورة؛ فقال الحسن: (عند قوله (تعبدون). وهو قول الشافعي. وقا ابن عباس ومسروق: (هو عند قوله: لا يسأمون) وهو قول علمائنا، وهو الأصح لأنه موضع تمام الكلام.
[41.39]
قوله تعالى: { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة }؛ من آياته الدالة على وحدانيته وقدرته أنك ترى الأرض مغبرة يابسة لا نبات فيها، { فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت }؛ تحركت للنبات وانتفخت وارتفعت له حتى يكاد النبات يظهر، { إن الذي أحياها }؛ بإنزال المطر، { لمحى الموتى }؛ في الآخرة، { إنه على كل شيء قدير }؛ من الإحياء والإماتة.
[41.40]
قوله تعالى: { إن الذين يلحدون في آياتنا }؛ أي يميلون عن الحق في آياتنا إلى جانب الباطل، قال مقاتل: (يميلون عن الإيمان بالقرآن)، وقال مجاهد: (يلحدون بآياتنا بالمكاء واللغط)، { لا يخفون علينآ } ، بأشخاصهم وأفعالهم وأقوالهم وعزائمهم. واللحد واللحاد بمعنى واحد وهو الميل، ومنه الملحد لعدوله عن الحق، ومنه اللحد الذي في القبر لأنه في جانب منه.
قوله تعالى: { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة }؛ هو تقدير نفي المساواة بين الفريقين. قيل: المراد قوله { أفمن يلقى في النار } أبو جهل وجدله { خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة } حمزة، وقوله: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير }؛ لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد.
[41.41]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا بالذكر }؛ أي بالقرآن، { لما جآءهم }؛ وقوله تعالى: { وإنه لكتاب عزيز }؛ محذوف الجواب، تقديره: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) سينزل بهم من العذاب ما هو مذكور في الكتاب العزيز. والعزيز: هو الكريم على الله. وقيل: هو الممتنع على من يريد معارضته وتغييره بزيادة ونقصان.
[41.42]
قوله تعالى: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه }؛ أي لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يجيء بعده كتاب فيبطله، وقال الزجاج: (معناه: أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه)، فمعنى الباطل على هذا الزيادة والنقصان. وفي عين المعاني: (الباطل إبليس).
وقوله تعالى: { تنزيل من حكيم حميد }؛ أي منزل من عالم بوجوه الحكمة، مستحق للحمد على خلقه بإنعامه عليهم.
[41.43]
قوله تعالى: { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك }؛ فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان يلحقه من أذية قومه؛ أي قد قيل للأنبياء قبلك ساحر، وكذبوا كما كذبت. ويجوز أن يكون معناه: ما أقول لك ولا آمرك بتبليغ الوحي والرسالة إلا ما قد قيل للرسل قبلك.
وقوله تعالى: { إن ربك ذو مغفرة وذو عقاب أليم }؛ أي لذو مغفرة لمن تاب وآمن، وذو عقاب أليم لمن ثاب على الكفر.
[41.44]
قوله تعالى: { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته }؛ أي لو جعلناه قرآنا بلغة غير لغة العرب لقال العرب: ولو بينت آياته بلغة العرب حتى نفهمها عندك بغير مترجم.
قوله تعالى: { ءاعجمي وعربي }؛ استفهام على وجه الاستبعاد؛ كأنهم قالوا: كتاب أعجمي ورسول عربي، كيف يكون هذا؟! فينكرونه أشد الإنكار. يقال: رجل أعجمي إذا كان لا يفصح سواء كان من العرب أو العجم، ورجل عجمي إذا كان منسوبا إلى العجم وإن كان فصيحا، ورجل أعرابي إذا كان من أهل البادية سواء كان من العرب أو لم يكن، ورجل عربي إذا كان منسوبا إلى العرب وإن كان غير فصيح.
ومعنى الآية: أنهم كانوا يقولون: إن المنزل عليه عربي، والمنزل أعجمي، فكان ذلك أشد لتكذيبهم، { قل }؛ يا محمد: { هو للذين آمنوا هدى وشفآء }؛ يعني القرآن هدى للذين آمنوا من الضلالة وشفاء من الأوجاع. وقال مقاتل: (شفاء لما في القلوب بالبيان الذي فيه ).
وقوله تعالى: { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر }؛ أي إنهم في ترك القبول بمنزلة الصم العمي، وسيؤديهم تكذيبهم إلى العمى، وقوله تعالى: { وهو عليهم عمى }؛ أي عموا عن القرآن وصموا عنه.
وقال السدي: (عمت قلوبهم عنه). والمعنى: وهو عليهم ذو عمى. وانتصب قوله (عمى) على المصدر. وقوله تعالى: { أولئك ينادون من مكان بعيد }؛ أي إنهم لا يسمعون ويفهمون كما أن من دعا من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم. والمعنى: أنه بعيد عندهم من قلوبهم ما يتلى عليهم.
[41.45]
قوله تعالى: { ولقد آتينا موسى الكتاب }؛ يعني التوراة، { فاختلف فيه }؛ قومه كما اختلف قومك في القرآن، وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما آتيناك الكتاب وكذب به قومك وصدق به بعضهم كذلك آتينا موسى الكتاب فكذب به بعض قومه وصدق به بعضهم.
قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم }؛ معناه: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة كما قال تعالى
بل الساعة موعدهم
[القمر: 46] لعذبهم بعذاب الاستئصال. وقيل: أراد بسبق الكلمة: أن لا يعذبهم وأنت فيهم.
والمعنى: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن مكذبي القرآن إلى أجل مسمى يعني القيامة، لقضي بينهم بالعذاب الواقع بمن كذب، { وإنهم لفي شك منه } ، من صدقك وكتابك، { مريب }؛ أي موقع لهم الريبة، وقيل: إنهم لفي شك من القرآن ظاهر الشك.
[41.46]
قوله تعالى: { من عمل صلحا فلنفسه ومن أسآء فعليها... }؛ ظاهر المراد.
[41.47-48]
قوله تعالى: { إليه يرد علم الساعة }؛ أي لا يعلم متى وقت قيامها إلا الله تعالى، ولا يجاب فيها بشيء، ويقال: الله أعلم.
قوله تعالى: { وما تخرج من ثمرات من أكمامها }؛ قرأ نافع وابن عامر (ثمرات) بالجمع، وقرأ الباقون (ثمرة) على الوحدان. وقوله تعالى: { من أكمامها } الأكمام جمع الكمة، وهي ليف النخل، وقال ابن عباس: (الأكمام الكفري قبل أن ينشق، فإذا انشق فليس بأكمام) { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه }؛ بين الله أن الذي يعلم الثمار في الأكمام، والأولاد في الأرحام مع مشاهدة الأكمام، والأمهات هو الله تعالى لا يعلمه أحد غيره، ومن لم يشاهد شيئا منها أولى.
قوله تعالى: { ويوم يناديهم أين شركآئي }؛ فيه وعيد للمشركين؛ أي يقال للمشركين يوم القيامة: أين شركائي في ظنكم وزعمكم؟! فيقولون: { قالوا آذناك ما منا من شهيد }؛ أي أعلمناك وعرفناك أنا كنا في الدنيا جهلاء غير عارفين، ما منا من شهيد أن لك شريكا، يتبرؤون يومئذ من أن يكون مع الله شريك. وقوله تعالى: { وضل عنهم }؛ أي ضاع، { ما كانوا يدعون }؛ يعبدون، { من قبل }؛ في الدنيا. قوله تعالى: { وظنوا ما لهم من محيص }؛ أي أيقنوا أنه لا خلاص لهم من النار.
[41.49]
وقوله تعالى: { لا يسأم الإنسان من دعآء الخير }؛ أي لا يمل الإنسان من الخير، { وإن مسه الشر }؛ والمكروه والأمراض والأسقام والشدائد، { فيئوس قنوط }؛ أي يصير آيس شيء من عود النعمة، وزوال المكروه عنه، فيضجر على ذلك غاية الضجر.
[41.50]
قوله تعالى: { ولئن أذقناه رحمة منا }؛ أي نعمة منا، { من بعد ضرآء مسته }؛ من بعد مكروه مسه، { ليقولن هذا لي }؛ أي بفضلي وقوتي وعمل استحققته، وهذا من اختلاف الكفار. قوله تعالى: { ومآ أظن الساعة قآئمة }؛ هذا يدل على أن هذا الإنسان كافر.
قوله تعالى: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى }؛ أي لست على يقين من البعث، فإن كان الأمر على ذلك ورددت إلى ربي أن لي عنده الجنة ويعطيني في الآخرة أفضل ما أعطاني في الدنيا. قال الله تعالى: { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ }؛ وعيد لهم.
[41.51]
قوله تعالى: { وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه }؛ أي اذا أنعمنا على الكافر أعرض عن الطاعة والشكر وتباعد عن الواجب كبرا، { وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض } ، وإذا أصابه مكروه الدهر فإذا هو يئس يدعو الله ليكشف ذلك عنه.
والمعنى بقوله تعالى { دعآء عريض } أي كثير لا يمل من الدعاء. وإنما لم يقل: طويل؛ لأن ذكر العريض أبلغ في باب الامتداد والانبساط، لأن العريض يدل على الطويل، ولا يدل الطويل على العريض.
[41.52]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن كان من عند الله }؛ أي قل يا محمد لأهل مكة: أرأيتم إن كان القرآن من عند الله، { ثم كفرتم به من أضل }؛ عن الحق والهدى، { ممن هو في شقاق بعيد }؛ خلاف للحق بعيد عنه، وهو أنتم، فلا أحد أضل منكم.
[41.53-54]
قوله تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم }؛ أي سنريهم دلائل التوحيد من مسير النجوم وجريان الشمس والقمر طلوعا وغروبا على مر الدهور، وفي الأرض من الجبال والأودية والأشجار. قوله تعالى: { وفي أنفسهم } من مخارج الأنفاس ومجاري الدم وموضع العقل والفكر والفهم وآلات الكلام.
وقيل: معنى { سنريهم آياتنا في الآفاق } أي سنريهم ما نفتح من القرى على محمد صلى الله عليه وسلم في النواحي والأطراف { وفي أنفسهم } فتح مكة. قال الحسن: يعني (سنريهم ظهور محمد على الآفاق وعلى مكة حتى يعرفوا أنه مؤيد من قبل الله تعالى بعد أن كان واحدا لا ناصر له). وذلك معنى قوله تعالى: { حتى يتبين لهم أنه الحق }؛ أي ما يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق.
قوله تعالى: { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد }؛ معناه: أولم يكف بربك شاهدا أن القرآن من الله وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق وشهيد هو العالم. قوله تعالى: { ألا إنهم في مرية من لقآء ربهم }؛ معناه: ألا إنهم في شك من البعث والثواب والعقاب، { ألا إنه بكل شيء محيط }؛ أحاط بكل شيء علما؛ إنه يعلم الغيب والشهادة.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-3]
{ حم * عسق }؛ (ح) حلمه و (م) مجده و (ع) علمه و (س) سناؤه و (ق) قدرته، أقسم الله بها، { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم }؛ اخبارا بالغيب ويكون قبل أن يكون، وقيل: الحاء من الرحمن، والميم من ملك، والعين من عزيز والسين من قدوس والقاف من قاهر، ومعنى { كذلك يوحي إليك } مثل ما أوحينا إليك بهذه السورة أوحينا إلى من قبلك من الرسل. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ليس من نبي إلا وقد أوحي إليه ب حم عسق كما أوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم).
[42.4]
قوله تعالى: { له ما في السموت وما في الأرض وهو العلي العظيم }؛ ظاهر المعنى.
[42.5]
قوله تعالى: { تكاد السموت يتفطرن من فوقهن }؛ أي تكاد كل سماء تشقق فوق التي تليها من قول المشركين: اتخذ الله ولدا، ومن استعظام كفر أهل الأرض مع عظم نعم الله تعالى عليهم.
قوله تعالى: { والملائكة يسبحون بحمد ربهم }؛ أي ينزهون الله عن القول الذي تكاد السماوات يتفطرن منه، { ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم }؛ لأوليائه وأهل طاعته.
[42.6]
قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أوليآء }؛ يعني كفار مكة اتخذوا آلهة فعبدوها من دون الله، وقوله تعالى: { الله حفيظ عليهم }؛ أي الله حفيظ على أعمالهم ليجازيهم بها، { ومآ أنت عليهم بوكيل }؛ أي لم يوكلك حتى تؤخذ بهم وتعاقب بمخالفتهم.
[42.7]
قوله تعالى: { وكذلك أوحينآ إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها }؛ أي كما أنزلنا على من قبلك بلسان قومهم أنزلنا عليك قرآنا بلغة العرب لتخوف به أم القرى وهي مكة، سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها. وقوله تعالى: { ومن حولها } أي لتنذر أهل أم القرى ومن حولها من البلدان، وقيل: يعني قرى الأرض كلها.
قوله تعالى: { وتنذر يوم الجمع }؛ وهو يوم القيامة، يجمع الله فيه الأولين والآخرين، وأهل السماوات وأهل الأرض، { لا ريب فيه }؛ أي لا شك في الجمع فيه أنه كائن، ثم بعد الجمع يتفرقون كما قال الله تعالى: { فريق في الجنة وفريق في السعير }؛ أي طائفة من أهل الجمع وهم المؤمنون يساقون إلى الجنة يتنعمون ويتمتعون، وطائفة يساقون إلى النار ذات الوقود وهم الكفار فيها يعذبون.
[42.8]
قوله تعالى: { ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة }؛ أي لو شاء لجمعهم على دين الإسلام بأن يعرفهم طريق الحق بالاضطرار، ولكنه لم يفعله، أراد أن يعرضهم للثواب والإلجاء يمنع من ذلك، ومثل قوله تعالى
ولو شآء الله لجمعهم على الهدى
[الأنعام: 35]. وقوله تعالى: { ولكن يدخل من يشآء في رحمته }؛ أي في دين الإسلام، { والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } ، يمنعهم؛ أي والكافرون ما لهم من ولي يدفع عنهم العذاب ولا نصير يمنعهم من " النار ".
[42.9]
قوله تعالى: { أم اتخذوا من دونه أوليآء }؛ بل اتخذ الكفار من دون الله أربابا، { فالله هو الولي }؛ قال ابن عباس: (وليك يا محمد وولي من اتبعك) { وهو يحيي الموتى }؛ يبعثهم للجزاء، { وهو على كل شيء }؛ من الإحياء والإماتة، { قدير }.
[42.10]
قوله تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله }؛ معناه: وما اختلفتم فيه من شيء من الدين فردوا حكمه إلى كتاب الله، واعتمدوا الأدلة دون التقليد والشبه كما قال الله تعالى:
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
[النساء: 59].
وقوله تعالى: { ذلكم الله ربي }؛ الذي ادعوكم إلى عبادته وهو الله ربي، { عليه توكلت }؛ في كفاية مهماتي، { وإليه أنيب }؛ أي أرجع في المعاد.
[42.11]
قوله تعالى: { فاطر السموت والأرض }؛ أي هو مبتدعهما ومدبرهما، { جعل لكم من أنفسكم أزواجا }؛ أي خلق لكم من مثل خلقكم نساء، وخلق لكم، { ومن الأنعام أزواجا }؛ ذكورا وإناثا لتكمل منافعكم بها، يعني خلق الذكر والأنثى من الحيوان كله. قوله تعالى: { يذرؤكم فيه }؛ أي يخلقكم في الرحم ويكثركم بالتزويج، ولولاه لم يكن الناس.
وقوله تعالى: { ليس كمثله شيء }؛ في العلم والقدرة والتدبير، { وهو السميع }؛ بمقالة العباد، { البصير }؛ بأعمالهم، والكاف في { كمثله } زائدة مؤكدة، والمعنى: ليس مثله شيء، إذ لا يجوز أن يقال: ليس مثل مثله شيء؛ لأن من قال ذلك فقد أثبت المثل لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
[42.12]
قوله تعالى: { له مقاليد السموت والأرض }؛ أي له مفاتيحها، قال ابن عباس: (يريد مفاتيح الرزق في السماوات والأرض). وقال الكلبي: (مقاليد السماوات خزائن المطر، وخزائن الأرض النبات). والمعنى أنه يقدر على فتحها، يملك فتح السماء بالمطر، وفتح الأرض بالنبات، يدل على هذا قوله تعالى: { يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر }؛ أي يوسعه على من يشاء، ويضيقه على من يشاء؛ لأن مفاتيح الرزق بيده، { إنه بكل شيء عليم }؛ من البسط والضيق ما لا يفعل ذلك جزافا، ولكن يرزق كل أحد على ما توجبه الحكمة.
[42.13]
قوله تعالى: { شرع لكم من الدين }؛ أي بين وأوضح من الدين، { ما وصى به نوحا }؛ يعني التوحيد، { والذي أوحينآ إليك }؛ من القرآن وشرائع الإسلام، { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى }؛ وشرع لكم ما وصى به إبراهيم وموسى وعيسى.
ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال: { أن أقيموا الدين }؛ يعني التوحيد، { ولا تتفرقوا فيه }؛ أي لا تختلفوا في التوحيد، قال مجاهد: (يعني شرع لكم ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار بالله تعالى والطاعة في كل شيء أمره الله به، فذلك دينه الذي شرعه لهم).
قوله تعالى: { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه }؛ قال مقاتل: (معناه: عظم على مشركي مكة ما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى والإخلاص له وحده وخلع الأنداد).
قوله تعالى: { الله يجتبي إليه من يشآء }؛ أي يصطفي من عباده لدينه من يشاء، { ويهدي إليه }؛ إلى دينه؛ { من ينيب }؛ أي من يقبل إلى طاعته، وقيل: معناه: الله يختار لرسالته من يشاء ممن تقتضي الحكمة اختياره، ويهدي إلى جنته وثوابه من يرجع إلى طاعته.
[42.14]
قوله تعالى: { وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم }؛ أي ما اختلف اليهود والنصارى إلا من بعد ما وضح لهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأنكر من أنكر من علمائهم للبغي والعداوة على طلب الدنيا، خافوا أن تذهب عنهم رئاستهم ومكانتهم، وأن يصيروا تابعين بعد أن كانوا متبوعين، فتركوا اسم الإسلام، وقوله تعالى { بغيا بينهم } أي بغيا منهم على محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم }؛ أي لولا حكم الله بإنظارهم وتأخير العذاب عن هذه الأمة { إلى أجل مسمى } يعني يوم القيامة { لقضي بينهم } أي بين من آمن ومن كفر بنزول العذاب بالمكذبين في الدنيا. وقوله تعالى : { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم }؛ يعني اليهود والنصارى أورثوا التوراة من بعد أنبيائهم وأسلاف أحبارهم، { لفي شك منه مريب }؛ من دين الإسلام ظاهر الشك.
[42.15]
قوله تعالى: { فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم }؛ أي فلذلك الذي سبق ذكره، يعني الذي وصى به الأنبياء من التوحيد فادع. وقيل: معناه: فلأجل ما وقع منهم من الشك فادع واستقم على دين الإسلام كما أمرت ولا تتبع أهواء أهل الكتاب، وذلك أنهم دعوا إلى دينهم، { وقل آمنت بمآ أنزل الله من كتاب }؛ أي آمنت بكتب الله كلها. وإنما قال ذلك لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض الكتب دون بعض. وقوله تعالى: { وأمرت لأعدل بينكم }؛ أي أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم في الأحكام.
وقوله تعالى: { الله ربنا وربكم }؛ أي إلهنا وإلهكم وإن اختلفت أعمالنا، وكل يجازى بما عمل. قوله تعالى: { لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم }؛ لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، لا يؤاخذ أحد بعمل غيره، قوله تعالى: { لا حجة بيننا وبينكم }؛ أي قد ظهر الحق وسقط الباطل، ومع ذلك الحجة لنا عليكم لظهورها، وقوله تعالى: { الله يجمع بيننا }؛ وبينكم في الآخرة فيجازي كلا بعمله، { وإليه المصير }.
[42.16]
قوله تعالى: { والذين يحآجون في الله من بعد ما استجيب له }؛ أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ظهور دلائله، وهم اليهود والنصارى قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم! فهذه خصومتهم وإنما قصدوا بما قالوا دفع ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: { من بعد ما استجيب له } أي من بعد ما دخل الناس في الإسلام وأجابوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما دعاهم إليه، { حجتهم داحضة عند ربهم }؛ أي خصومتهم باطلة حين زعموا أن دينهم أفضل من الإسلام، وقوله { عند ربهم } أي في حكم ربهم، وإنما قال ذلك لأنها لم " تكن " باطلة في زعمهم، { وعليهم غضب }؛ من الله، { ولهم عذاب شديد } في الآخرة.
[42.17]
قوله تعالى: { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }؛ معناه: الله الذي أنزل القرآن بالحق؛ أي بما ضمنه من الأمر والنهي والفرائض والأحكام، وكله حق من الله تعالى. وقوله تعالى { والميزان } اختلفوا في إنزال الميزان، قال الحسن ومجاهد والضحاك: (أراد به العدل) وإنما كنى عن العدل بالميزان لأن الميزان طريق معه العدل والمساواة.
وقال بعضهم: أنزل الميزان الذي يوزن به في زمن نوح عليه السلام. وقال ابن عباس: (أمر الله بالوفاء، ونهى عن البخس).
قوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة قريب }؛ هذا تخويف للمشركين من قرب الساعة لينزجروا، وقد كان قوم من المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة تكذيبا بها، فأنزل الله هذه الآية، وإنما قال { قريب } ولم يقل قريبة؛ لأن تأنيث الساعة غير حقيقي كما في قوله تعالى
إن رحمت الله قريب
[الأعراف: 56] ولأن معنى الساعة البعث.
[42.18]
قوله تعالى: { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها }؛ والذين يستعجلون بها قصد الإتيان بها استبعادا لقيامها لأنهم لا يؤمنون بها، وهذه طريقة الجهلاء في كل شيء يجحدونه من حقائق الأمور.
وقوله تعالى: { والذين آمنوا مشفقون منها }؛ أي خائفون منها لا يدرون على ما يقدمون عليه لأنهم موقنون أنهم مبعوثون محاسبون، { ويعلمون أنها الحق }؛ أي الساعة لا ريب فيها.
قوله تعالى: { ألا إن الذين يمارون في الساعة }؛ تدخلهم المرية والشك في القيامة، { لفي ضلال بعيد }؛ حين لم يفكروا فيعلموا أن الذي خلقهم أولا قادر على بعثهم.
[42.19]
قوله تعالى: { الله لطيف بعباده }؛ أي بار رحيم بهم، يعني أهل طاعة، وقال مقاتل: (لطيف بالبر والفاجر، لا يهلكهم جوعا)، يدل على هذا قوله تعالى: { يرزق من يشآء }؛ وكل من رزقه الله من مؤمن وكافر ذي روح ممن يشاء أن يرزقه، { وهو القوي }؛ على ما أراد من رزق من يرزقه، { العزيز } يعني الغالب الذي لا يلحقه عجز فيما أراد. واللطيف هو الموصل للنفع إلى غيره من جهة يدق استدراكها.
[42.20]
قوله تعالى: { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه }؛ أي من كان يريد بعمله نفع الآخرة { نزد له في حرثه } أي نعينه على العبادة ، ونسهل له، وقيل: نزد له في ثوابه الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: نزد له في قوته ونشاطه وخشيته في العمل، كما قال تعالى
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
[العنكبوت: 69].
قوله تعالى: { ومن كان يريد حرث الدنيا }؛ أي ومن كان يريد بعمله نفع الدنيا من رزق أو محمدة، { نؤته منها }؛ ما نشاء على ما تقتضيه الحكمة، { وما له في الآخرة من نصيب }؛ من ثواب؛ لأنه عمل لغير الله، قال السدي: (هذا المنافق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه سهمه من الغنيمة).
[42.21-22]
قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }؛ يعني كفار مكة ألهم آلهة سنوا من الدين والشريعة ما لم يعلم الله به؟ قال ابن عباس: (شرعوا لهم دينا غير دين الإسلام) { ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم }؛ أي لولا حكم الله بأن يفصل بينهم يوم القيامة لعاجلهم بالعقوبة، { وإن الظالمين لهم عذاب أليم }؛ أي وجيع في الآخرة { ترى الظالمين } ، الذين يكذبونك خائفين يوم القيامة، { مشفقين مما كسبوا }؛ من الكفر والتكذيب، { وهو واقع بهم }؛ أي وجزاؤه واقع بهم.
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات }؛ الروضة: هي البستان الجامع لأنواع الرياحين، والجنة هي البستان الجامع لأنواع الشجر، { لهم ما يشآءون عند ربهم }؛ من النعيم في حكمة ربهم، { ذلك هو الفضل الكبير }؛ أي المن العظيم من الله تعالى.
[42.23]
قوله تعالى: { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ أي ذلك الذي سبق ذكره من النعيم يبشر الله عباده المؤمنين المخلصين.
قوله تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى }؛ أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة؛ أي تعليم الشريعة أجرا، وهذا دأب كل نبي مع قومه، وقوله تعالى: { إلا المودة في القربى } أي لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. قال ابن عباس: (لم يكن بطن من بطون قريش إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة فيهم).
والمعنى: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من الحق إلا أن تحفظوني في قرابتي بيني وبينكم. وقال مجاهد: (معناه: يا معشر قريش لا أسألكم على ما أقول أجرا، أرقبوني في الدعاء بيني وبينكم، ولا تعجلوا إلي ودعوني والناس). وقال الحسن: (معناه: إلا أن تؤدوا إلى الله فيما يقربكم إليه من العمل الصالح).
وعن ابن عباس قال:
" لما نزلت { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين يأمرنا الله بمودتهم؟ قال: " علي وفاطمة وولدهما " ".
وعن علي رضي الله عنه قال: (قال فينا، في آل محمد، في حم آية لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن، ثم قرأ: { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } )، وقال الكلبي: (معناه: لا أسألكم على الإيمان جعلا إلا أن توادوا أقاربي، حث الله الناس على مودة ذوي قرابته).
وعلى الأقوال كلها قوله { إلا المودة } استثناء ليس من الأول، وليس المعنى: أسألكم المودة في القربى؛ لأن الأنبياء لا يسألون أجرا على تبليغ الرسالة، والمعنى ولكني أذكركم المودة في قرابتي.
قوله تعالى: { ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا }؛ أي ومن يكتسب حسنة نجازيه عليها أضعافا، بالواحدة عشرا فصاعدا، { إن الله غفور }؛ لذنوب الناس، { شكور }؛ للقليل حتى يضاعفه.
[42.24]
قوله تعالى: { أم يقولون افترى على الله كذبا }؛ يعني كفار مكة قالوا: اختلق محمد كذبا حين زعم أن القرآن من عند الله، فاغتممت لذلك يا محمد، { فإن يشإ الله يختم على قلبك }؛ أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم، { ويمح الله الباطل } ، ويذهب الله ما يقولون من الباطل، { ويحق الحق }؛ يعني الإسلام، { بكلماته }؛ أي بما أنزل من كتابه، وقد فعل الله ذلك فأزهق باطلهم وأعلى كلمة الإسلام، { إنه عليم بذات الصدور }؛ أي بما " في " قلوب خلقه.
[42.25-26]
قوله تعالى: { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون }؛ من خير وشر، من قرأ بالتاء فهو خطاب للمشركين وتهديد لهم، { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ أي يجيبهم ما سألوه. قال ابن عباس: (يثيبهم )، { ويزيدهم من فضله }؛ سوى ثواب أعمالهم تفضلا عليهم، وقال أبو صالح: (يشفعهم في إخوانهم)، { والكافرون لهم عذاب شديد }.
[42.27]
قوله تعالى: { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض }؛ أي لو وسع على عباده لطغوا وتطاولوا، وقال مقاتل: (معناه: لو وسع الله لعباده فرزقهم من غير كسب لعصوا وبطروا النعمة وطلبوا ما ليس لهم أن يطلبوه)؛ لأن الذي يوسع عليه يرتفع من منزلة إلى منزلة، ومن مركب إلى مركب، ومن ملبس إلى ملبس، ويستطيل بذلك على الناس، ويستعين برزق الله على المعصية.
وقوله تعالى: { ولكن ينزل بقدر ما يشآء }؛ معناه: ولكن يوسع على قوم، ويضيق على آخرين على ما تقتضيه الحكمة، { إنه بعباده خبير بصير } أي أعلم بهم من أنفسهم، منهم من يصلح له الفقر ولو أغناه لكان شرا له، ومنهم من يصلح له الغنى، ولو أفقره لكان شرا له.
[42.28]
قوله تعالى: { وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا }؛ أي ينزل المطر من بعد ما يئسوا منه، { وينشر رحمته }؛ بإخراج النبات والثمار، وقيل: معنى (ينشر رحمته) أي يبسط مطره، { وهو الولي }؛ لمن أطاعه، وقيل: وهو الولي بإنزال المطر عاما بعد عام، { الحميد }؛ المستحق للحمد على خلقه بإنعامه عليهم.
[42.29]
قوله تعالى: { ومن آياته خلق السموت والأرض وما بث فيهما من دآبة }؛ معناه: ومن دلائل توحيده خلق السماوات والأرض بما فيهما من الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والأشجار { وما بث فيهما } أي وما فرق فيهما من الملائكة والناس وغيرهم، وقيل: معناه: وما بث في الأرض من دابة، وهذا كقوله
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان
[الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما، { وهو على جمعهم }؛ في الآخرة، { إذا يشآء قدير }.
[42.30-31]
قوله تعالى: { ومآ أصبكم من مصيبة }؛ يعني وما أصابكم من المعاصي في النفس والمال والولد أو نكبة حجر أو عثرة قدم، { فبما كسبت أيديكم } ، يعني المعاصي، { ويعفوا عن كثير }؛ فلا يعاقب بها لطفا بهم.
قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من خدشة عود أو عثرة قدم أو اختلاج عرق إلا بذنب، وما يعفو الله تعالى أكثر "
وقال الحسن: (معنى الآية: وما أصابكم من حد في سرقة أو زنى فبما كسبت أيديكم). وقال الضحاك: (ما حفظ رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب) وقرأ هذه الآية وقال: إن أعظم الذنوب نسيان القرآن).
وفي مصاحف المدينة والشام (بما كسبت أيديكم). قال الزجاج: (وإثبات الفاء أجود لأن الفاء جواب الشرط). ومن حذفها فعلى أن (ما) بمعنى (الذي) تقديره: والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم) { ومآ أنتم بمعجزين في الأرض }؛ يا معشر المشركين لا تعجزوني في السماوات حيث كنتم، ولا تسبقونني هربا في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيهما، { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير }.
[42.32-33]
قوله تعالى: { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام }؛ أي ومن آياته الدالة على توحيده وقدرته الجواري في البحر، وهي السفن جمع جارية تجري في البحر، { كالأعلام } أي كالجبال الطوال، { إن يشأ يسكن الريح }؛ معناه: إن شاء الله يسكن الريح التي تجري بها السفن فيبقين واقفات على ظهر الماء، ويبقى أهلها حيارى لا يجدون حيلة في الخلاص؛ لأن ماء البحر راكد لا تجري السفينة فيه إلا بريح تجريه، فذلك معنى قوله تعالى: { فيظللن رواكد على ظهره }؛ يعني السفن رواكد؛ أي ثوابت على ظهر البحر لا تجري ولا تبرح، { إن في ذلك لآيات }؛ أي لدلالات على توحيد الله تعالى، { لكل صبار }؛ على طاعته، { شكور }؛ على نعمه. وقيل: لكل صبار في الشدة، شكور في الرخاء.
[42.34]
قوله تعالى: { أو يوبقهن بما كسبوا }؛ أي يهلكهن بالريح العاصف، ويغرقهن، يعني: أهلهن { بما كسبوا } أي بما أشركوا واقترفوا من الذنب، { ويعف عن كثير }؛ من ذنوبهم فينجيهم من الغرق والهلاك. والمعنى: { أو يوبقهن } وإن يشأ يعف عن كثير فتجري السفن على ما يشاؤون.
[42.35]
قوله تعالى: { ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص }؛ يعني أن الكفار الذين يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله بعد البعث علموا أن لا مهرب لهم من عذاب الله تعالى.
فمن قرأ (ويعلم) بالرفع فعلى الابتداء من غير أن يكون معطوفا على (ويعف) لأن علم الله تعالى مقطوع به لا يجوز تعليقه بمشيئة، ومن قرأ بالنصب فهو نصب على إضمار (أن) معناه: ولئن يعلم الذين ينازعون في آياتنا بالتكذيب أنه لا مخلص لهم في الآخرة من عذابه، كما لا مخلص لأهل السفينة من البحر إلا بالله.
[42.36]
قوله تعالى: { فمآ أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا }؛ أي ما أعطيتم من شيء مما في أيديكم فهو متاع يتمتع به إلى حين، { وما عند الله خير وأبقى }؛ من الثواب أفضل وأدوم مما في أيديكم، ثم بين الله لمن الثواب فقال: { للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون }.
[42.37]
قوله تعالى: { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون }؛ قد تقدم الكلام في الكبائر والفواحش في سورة النساء، قال مقاتل: (الفواحش ما يقام فيها الحد في الدنيا). وقيل: الفواحش الزنى وأنواعه، وكبائر الإثم الشرك، كذا قال ابن عباس. وقرأ حمزة (كبير الإثم) على الوحدان وهو يريد الجمع.
وقوله تعالى { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } أي يكظمون الغيظ ويعفون عمن ظلمهم، ويطلبون بذلك ثواب الله وعفوه. وهذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين أقبل رجل من المشركين يشتمه ويقع فيه ولم يرد عليه أبو بكر رضي الله عنه.
[42.38]
قوله تعالى: { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة }؛ أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة، { وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون } أي فعالا من المشورة، وهي الأمر الذي يتشاور فيه، يقال: صار هذا الأمر شورى بين القوم إذا تشاوروا فيه.
والمعنى أنهم يتشاورون فيما يبدو لهم، ولا يعجلون في الأمر. وقال الحسن: (والله ما تشاور قوم إلا هداهم الله تعالى لأفضل ما بحضرتهم). والمعنى: أنهم إذا حدث بهم أمر لا نص فيه من كتاب ولا سنة ولا إجماع؛ شاور بعضهم بعضا لإظهار الحق.
[42.39]
قوله تعالى: { والذين إذآ أصابهم البغي هم ينتصرون } ، معناه: الذين إذا أصابهم البغي والظلم والعدوان هم ينتصرون ممن ظلمهم، قال عطاء: (يعني المؤمنين الذين أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم، ثم مكنهم الله تعالى في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم).
قال ابن زيد: (جعل الله المومنين صنفين: صنف يعفون عمن ظلمهم، فبدأ بذكرهم فقال:
وإذا ما غضبوا هم يغفرون
[الشورى: 37]. وصنف ينتصرون ممن ظلمهم، وهم الذين ذكروا في هذه الآية، ومن انتصر فأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك ما حد الله فهو مطيع لله، ومن أطاع الله فهو محمود).
ثم اعلم: أن أول هذه الآية يقتضي أن الاقتصار بأخذ الواجب من القصاص أو نحوه أفضل؛ لأن الله تعالى عطف هذه الآية على الآية التي ذكر فيها الاستجابة لله تعالى وإقام الصلاة.
وتكلموا في معنى ذلك، قال بعضهم: أراد به الانتصار ممن فارقهم في دينهم، فأما من المسلمين فالانتصار مباح، كما قال
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل
[الشورى: 41] والعفو أفضل، كما قال تعالى
وأن تعفوا أقرب للتقوى
[البقرة: 237]، وقال تعالى:
فمن عفا وأصلح فأجره على الله
[الشورى: 40].
وقال بعضهم: إذا كان العفو يؤدي إلى الإخلال بشيء من حقوق الله مثل العفو عن الفاسق الذي لا يرتدع، والعفو عن الباغي الذي لا يكون مصرا على قصده، فالانتصار أولى من العفو، وإذا كان العفو لا يؤدي إلى إسقاط شيء من حقوق الله تعالى فالعفو أفضل كما قال تعالى في آية القصاص
فمن تصدق به فهو كفارة له
[المائدة: 45]. وفي بعض التفاسير: إنما جعل الانتصار في أول هذه الآيات أفضل لأنهم كانوا يكرهون أن يذللوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق.
[42.40]
قوله تعالى: { وجزآء سيئة سيئة مثلها }؛ فيه بيان أنه لا تجوز الزيادة على السيئة الأولى، وإنما سميت الثانية سيئة لأنها في مقابلة الأولى، والأولى سيئة لفظا ومعنى، والثانية سيئة لفظا لا معنى، وسميت بهذا الاسم لأن مجازاة السوء لا تكون إلا بمثله، قال مقاتل: (معنى هذه الآية في القصاص في الجراحات والدماء).
قوله تعالى: { فمن عفا وأصلح فأجره على الله }؛ أي من عفى عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه فأجره على الله تعالى، وقوله تعالى: { إنه لا يحب الظالمين }؛ يعني من يبدأ بالظلم. وفيه بيان أن الله تعالى إنما ندب المظلوم إلى العفو لا لميله إلى الظالم أو لحبه إياه، ولكن ليعرض المظلوم لجزيل الثواب بالعفو.
[42.41-42]
قوله تعالى: { ولمن انتصر بعد ظلمه }؛ أي بعد ظلم الظالم إياه، فالمصدر ها هنا مضاف إلى المفعول، كقوله:
من دعآء الخير
[فصلت: 49] و
بسؤال نعجتك
[ص: 24]، { فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس }؛ يعني الذين يبدأون بالظلم، { ويبغون في الأرض بغير الحق }؛ أي يعملون بالمعاصي، { أولئك لهم عذاب أليم }.
[42.43]
قوله تعالى: { ولمن صبر وغفر }؛ يعني من صبر ولم ينتصر وغفر، { إن ذلك }؛ الصبر والتجاوز، { لمن عزم الأمور }؛ قال مقاتل: (من الأمور التي أمر الله بها)، والمراد بذلك إذا كان الجاني نادما مقلعا. والعزم على الشيء هو أن يعقد قلبه على أنه سيفعله، وكلها كانت رغبة الصابر في الثواب أكثر كان عزمه على التجاوز أتم لتيقنه بالخلف والثواب.
[42.44]
قوله تعالى: { ومن يضلل الله }؛ أي من يخذله الله بعناده وجحوده، ويضله عن الهدى، { فما له من ولي من بعده }؛ أي ما له من أحد يلي هدايته بعد إضلال الله إياه. وقيل: معناه: من يهلكه الله ويضيعه فما له من ولي يلي أمره ويدفع عنه العذاب.
قوله تعالى: { وترى الظالمين }؛ أي ترى المشركين يا محمد، { لما رأوا العذاب }؛ في الآخرة يسألون الرجعة إلى الدنيا، { يقولون هل إلى مرد من سبيل }.
[42.45-46]
قوله تعالى: { وتراهم يعرضون عليها }؛ أي على النار قبل أن يدخلوها، { خاشعين من الذل }؛ أي أذلاء من الهوان، وقيل: ساكنين متواضعين، { ينظرون من طرف خفي }؛ أي ينظرون إلى النار سارقة الأعين نظر الخائف؛ أي من يخافه فزعا منه. وقيل: معنى { خاشعين } مطرقين من الخجل والوجل، والطرف هو العين.
وعن ابن عباس أنه قال: (ينظرون بقلوبهم نظر الأعمى، إذا سمع حسا وقف مستمعا خائفا منه لأن الله تعالى قال:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
[الإسراء: 97]).
قوله تعالى: { وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة }؛ أي عرف المؤمنون خسران الكفار في ذلك اليوم فقالوا : { إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } بأن صاروا إلى النار، وأهليهم في الجنة بأن صاروا لغيرهم. وقوله تعالى: { ألا إن الظالمين في عذاب مقيم }؛ أي دائم لا ينقطع، { وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل }.
[42.47]
قوله تعالى: { استجيبوا لربكم }؛ أي أجيبوا داعي ربكم، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله }؛ لا يقدر أحد على دفعه وهو يوم القيامة، { ما لكم من ملجأ يومئذ }؛ تلجأون إليه، { وما لكم من نكير }؛ ينكر العذاب ويدفعه عنكم، وقيل: لا تقدرون أن تنكروا ما توقفون عليه من ذنوبكم وما ينزل بكم.
[42.48]
قوله تعالى: { فإن أعرضوا فمآ أرسلناك عليهم حفيظا }؛ فإن أعرضوا عن إجابتك يا محمد فما أرسلناك عليهم حفيظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم، { إن عليك إلا البلاغ }؛ عن الله.
قوله تعالى: { وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة }؛ أي غنى وصحة، { فرح بها }؛ يعني الكافر، { وإن تصبهم سيئة }؛ أي قحط، { بما قدمت أيديهم }؛ من الكفر، { فإن الإنسان كفور }؛ لما تقدم من نعم الله عليه ويجحد.
[42.49-50]
قوله تعالى: { لله ملك السموت والأرض }؛ أي له التصرف فيهما بما يريد، { يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا }؛ مثل ما وهب للوط عليه السلام، { ويهب لمن يشآء الذكور }؛ مثل ما وهب لإبراهيم عليه السلام لم يكن له ولد أنثى، { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا }؛ أي يجمع لمن يشاء البنين والبنات، كما وهب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كان له ثلاثة بنين وأربع بنات، { ويجعل من يشآء عقيما }؛ لا يولد له مثل يحيى وعيسى عليه السلام، { إنه عليم }؛ بعواقب الأمور وأواخرها وأوائلها، وفواتحها وخواتمها، وظواهرها وبواطنها، { قدير }؛ على كل شيء، لا يلحقه عجز ولا يعتريه منع.
[42.51]
قوله تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشآء }؛ أي ما كان لآدمي أن يكلمه الله مواجهة بغير حجاب، إلا أن يوحي أن يقذف في قلبه ويلهم إما في المنام أو بالإلهام، كما أخبر الله في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله
إني أرى في المنام أني أذبحك
[الصافات: 102].
وقوله تعالى: { أو من ورآء حجاب } كما كلم موسى عليه السلام، كان يسمع كلامه من حيث لا يراه، أو يرسل من الملائكة جبريل أو غيره فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء الله.
قال الزجاج: (المعنى: أن كلام الله للبشر إما أن يكون بإلهام أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم). فمن قرأ (أو يرسل) بنصب اللام فمعناه: أو أن يرسل رسولا من الملائكة، كما أرسل جبريل عليه السلام، وتقديره: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أن يوحي إليه أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا. ومن قرأ بالرفع أراد: وهو يرسل فهو ابتداء واستئناف، والوقف كاف على ما قبله.
وقوله تعالى: { إنه علي حكيم }؛ أي هو أعلى من أن يدركه الخلق بالأبصار الفانية بلا حجاب، الحكيم فيما يأمر وينهى.
[42.52-53]
قوله تعالى: { وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا }؛ أي كما أوحينا إلى الرسل من قبلك أوحينا إليك جبريل بالقرآن الذي " فيه " حياة القلوب من الجهل. ومن هذا سمي القرآن روحا؛ لأنه سبب حياة الدين، كما أن الروح سبب حياة الجسد. وقال مقاتل: (معنى قوله { روحا } يعني الوحي) وهو القرآن؛ لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر. وقوله { من أمرنا } ، وقيل: إن الروح ها هنا جبريل.
وقوله: { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان }؛ أي ما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا ما الإيمان؛ قيل: لأنه كان لا يعرف القرآن قبل الوحي، ولا كان يعرف بشرائع الإيمان ومعالمه، وهي كلها إيمان، وهذا اختيار الإمام محمد بن جرير، واحتج بقوله
وما كان الله ليضيع إيمانكم
[البقرة: 143] يعني الصلاة سماها إيمانا. وقيل: معناه: ما كنت تدري ما الإيمان قبل البلوغ، يعني حين كان طفلا في المهد. وقال الحسين بن الفضل: (هذا من باب حذف المضاف؛ معناه: " أي ما كنت تدري ما الكتاب " ولا أهل الإيمان " أي " من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن)، وفي الجملة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على الكفر قط، وإنه كان على فطرة الإسلام حين ولد، وكذلك جميع أنبياء الله صلوات الله عليهم قبل الوحي كانوا مؤمنين، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: { ولكن جعلناه نورا }؛ يعني الوحي ودليلا على الإيمان والتوحيد، { نهدي به من نشآء من عبادنا }؛ إلى دين الحق، { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم }؛ أي لتدعو الخلق كلهم بوحينا إليك إلى طريق قائم يرضاه الله وهو الإسلام. وقوله تعالى: { صراط الله الذي له ما في السموت وما في الأرض }؛ خفض على البدل، وقوله تعالى: { ألا إلى الله تصير الأمور }؛ أي إليه ترجع عواقب الأمور في الآخرة.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-3]
{ حم * والكتاب المبين }؛ أقسم الله بالقرآن، المبين: الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة، وأبان ما يحتاج إليه من الشرائع، وجواب: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }؛ أي إنا أنزلناه على لغة العرب ليكون أبلغ في الحجة وأدعى إلى القبول، كي يعقله العرب من غير مترجم.
[43.4]
قوله تعالى: { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }؛ أي إنه مذكور مثبت في اللوح المحفوظ عندنا، كما قال في آية أخرى
بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ
[البروج: 21 - 22]، وسمي اللوح أم الكتاب؛ لأنه أصل كل كتاب، وتسمى الوالدة: أما؛ لأنها أصل الولد.
وقوله تعالى { لدينا } يريد الذي عندنا نخبر عن فضيلته، ومنزلته وشرفه أن كذبتم به يا أهل مكة، فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل. ويقال: ذو حكمة لا يحتمل الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير.
[43.5]
قوله تعالى: { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين }؛ قال الكلبي: (يقول الله لأهل مكة: أفنترك عنكم الوحي صفحا فلا نأمركم ولا ننهاكم ولا نرسل إليكم رسولا؟ وهذا استفهام معناه الإنكار؛ أي لا نفعل ذلك).
ومعنى الآية: أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم، وهو قوله تعالى: { أن كنتم قوما مسرفين } ، والمعنى: لإن كنتم، والكسر في (إن) على أنه جزاء استغنى عن جوابه بما تقدمه، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت كذا، ومثله
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم
[المائدة: 2] بالفتح والكسر، وقد تقدم.
ومعنى الآية: أفنضرب عنكم تذكرنا إياكم الواجب ونترككم بلا أمر ولا نهي معرضين عنكم لئن أسرفتم. والصفح في اللغة: هو الإعراض، يقال: صفح عن دينه أي أعرض عنه، " صفح " فلان عني بوجهه؛ أي أعرض, وهو في صفات الله بمعنى العفو، يقال: أصفح عن دينه؛ أي أعرض عنه. والإضراب والضرب في الكلام كلاهما بمعنى الإعراض والعدول.
[43.6-7]
قوله تعالى: { وكم أرسلنا من نبي في الأولين * وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون }؛ فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان أن دأب كل أمة مع رسولهم التكذيب والاستهزاء به، وإن من سنة الله تعالى إهلاك المكذبين، فحدث أيها الرسول قومك كي لا يسلكوا طريق من قبلهم فينزل بهم من العذاب ما نزل بمن قبلهم.
[43.8]
قوله تعالى: { فأهلكنآ أشد منهم بطشا }؛ أي أقوى من قومك، يعني الأولين الذين هلكوا بتكذيبهم، { ومضى مثل الأولين }؛ وسبق فيما أنزلنا إليك تشبيه بتكذيبهم، فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك.
[43.9-10]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض }؛ معناه: ولئن سألت قومك من خلق السماوات والأرض، { ليقولن خلقهن العزيز العليم } ، وهذا إخبار عن غاية جهلهم إذ أقروا بأن الله خلق السماوات والأرض، ثم عبدوا معه غيره وأنكروا قدرته على البعث، فهم يقرون بالله ويشركون به غيره، كما قال تعالى في آية أخرى
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
[يوسف: 106] وتم الكلام والإخبار عنهم.
ثم ابتدأ قوله عز وجل فقال: { الذي جعل لكم الأرض مهدا }؛ هذا ابتداء كلام من الله تعالى على معنى: نعم خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهادا يمكنكم القرار عليها، { وجعل لكم فيها سبلا }؛ أي طرقا، { لعلكم تهتدون }؛ في الطريق من بلد إلى بلد، وتهتدون بوحدانية الله .
[43.11]
قوله تعالى: { والذي نزل من السمآء مآء بقدر }؛ يعني المطر بمقدار معلوم يعلمه خازن المطر ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أهلكهم، بل هو بقدر يكون معاشا لكم ولأنعامكم، وقوله تعالى: { فأنشرنا به بلدة ميتا }؛ أي فأحيينا بذلك المطر بلدا ميتا بإخراج الأشجار والزرع، { كذلك تخرجون }؛ من القبور يوم النشور للحساب والجزاء.
[43.12]
قوله تعالى: { والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون }؛ معناه والذي خلق الأصناف كلها والألوان كلها، ويقال: الذكور والإناث كلها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون عليها في البر.
[43.13]
قوله تعالى: { لتستووا على ظهوره }؛ الكناية تعود إلى لفظ (ما) أي لتستووا على ظهور ما تركبون، { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه }؛ يعني النعمة بتسخير ذلك المركب في البر والبحر، قال مقاتل والكلبي: (وهو أن تقول: الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه)، { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا }؛ المركب وذلله لنا، وسهل ركوبه، ولولا تسخيره لنا، { وما كنا له مقرنين }؛ أي مطيقين ضابطين، يريد: لا طاقة لنا بالإبل ولا بالفلك ولا بالبحر، لولا أن الله تعالى سخر لنا ذلك.
قال قتادة: (قد علمكم الله كيف تقولون إذا ركبتم). وعن ابن مسعود أنه قال: (إذا ركب الرجل الدابة فلم يذكر اسم الله، ردفه الشيطان، فقال له: تغن، فإن لم يحسن قال له: تمن).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " أنه كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، والعمل بما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا وأطوعنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال ". وإذا رجع قال: " آيبون تائبون لربنا حامدون " ".
[43.14]
قوله تعالى: { وإنآ إلى ربنا لمنقلبون }؛ فيه بيان أنه كما يذكر نعمة الله عليه في الدنيا، فعليه أن يذكر مصيره إلى الآخرة. وينبغي للعاقل إذا ركب دابة أو سفينة أن يتذكر آخر مركبه وهي الجنازة، وإذا لبس أن يتذكر آخر ملبسه وهو الكفن، وإذا اغتسل أن يتذكر آخر عهده بالغسل، وإذا نام أن يذكر الحال التي يوضع فيها على جنبه في اللحد.
[43.15-17]
قوله تعالى: { وجعلوا له من عباده جزءا }؛ أي جعل الكفار لله تعالى من عباده جزءا؛ لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله، فوصفوا عباد الله بأنهم جزء من الله، وقد تقدم أن الذين قالوا هذا القول حي من خزاعة، ومعنى الجعل ها هنا الحكم بالشيء، والوصف والتسمية كما جعل فلان زيدا من أعلم الناس؛ أي وصفه بذلك، ويقال: إن الجزء في كلام العرب عبارة عن الأنثى كما قال الشاعر:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
أراد ب (أجزأت): ولدت أنثى. قوله تعالى: { إن الإنسان لكفور مبين }؛ أراد بالإنسان الكافر، وقوله تعالى { لكفور مبين } أي لجحود لنعم الله، { مبين } ظاهر الكفران.
ثم أنكر عليهم هذا فقال تعالى: { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين }؛ هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقولوا: أتخذ ربكم لنفسه البنات وأصفاكم بالبنين وأخلصكم بهم. والمعنى: كيف اختار لنفسه أهون قسمي الولد، واختار لكم أعلى القسمين، والحكمة لا توجب أن يختار الحكيم الأدون لنفسه والأعلى لغيره.
ثم وصف كراهتهم بالبنات، فقال قوله عز وجل: { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا }؛ أي وإذا أخبر أحدهم بما وصف للرحمن من إضافة البنت إليه صار وجهه مسودا متغيرا يعرف فيه الحزن. وقوله تعالى: { وهو كظيم }؛ أي يتردد حزنه في جوفه. وقد تقدم تفسيره في سورة النحل.
[43.18]
قوله تعالى: { أومن ينشأ في الحلية }؛ زيادة في الإنكار عليهم والمذمة لهم، كأنه قال: أويختار لنفسه مع استغنائه عن الخلق كلهم (من ينشأ في الحلية) أي من ربي في حلية الذهب والفضة، { وهو في الخصام غير مبين } ، وهو في الكلام غير ثابت الحجة.
قال المبرد: (تقدير الآية: أوتجعلون له من ينشأ في الحلية، يعني البنت نبتت). (وهو في الخصام غير مبين)؛ أي وهو عند المخاصمة غير مبين الحجة، قال قتادة: (قل ما تكلمت امرأة بحجتها إلا تكلمت بحجتها عليها) لضعف رأيها ونقصان عقلها.
ويستدل من هذه الآية على ثبوت الترخص للنساء في التزين بحلية الذهب والفضة،
" كما قال صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الذهب بإحدى يديه، والحرير بالأخرى وقال: " هذان محرمان على ذكور أمتي، حل لإناثهم " ".
[43.19]
قوله تعالى: { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا }؛ معناه: ووصفوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن أنهم بنات الله، وقرئ (عبد الرحمن) وكل صواب، وقد جاء القرآن بالأمرين معا، وذلك قوله
بل عباد مكرمون
[الأنبياء: 26] وقوله
إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته
[الأعراف: 206]، وفي قوله تعالى (عبد الرحمن) دلالة على رفع المنزلة والقربة من الكرامة.
وقوله تعالى: { أشهدوا خلقهم }؛ معناه: أحضروا عند خلقهم فعلموا ذلك، والشهادة ها هنا من الحضور، ووبخهم الله على ما قالوا ما لم يشاهدوه. وقرأ نافع: (أشهدوا خلقهم) بهمزة الاستفهام وتخفيف الهمزة الثانية على معنى أحضروا وعاينوا خلقهم حتى علموا أنهم أناث، وهكذا كقوله
أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون
[الصافات: 150].
قال ابن عباس: (يريد: أحضروا وعاينوا خلقهم؟)، قال الكلبي:
" لما قالوا هذه المقالة سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما يدريكم أنهم إناث؟ " قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا أنهم إناث "
فقال الله: { ستكتب شهادتهم ويسألون }؛ عنها في الآخرة.
[43.20]
قوله تعالى: { وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدناهم }؛ يعني بني مليح من خزاعة، كانوا يعبدون الملائكة، { وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدناهم } أي ما عبدوا الملائكة، وإنما عبدناهم بمشيئة الله تعالى. وإنما كانوا يقولون هذا القول إبلاغا لعذرهم عند سفلتهم، يقول الله تعالى: { ما لهم بذلك من علم }؛ بقولهم إن الملائكة بنات الله وإنهم كذبوا في ذلك، وهو قوله تعالى: { إن هم إلا يخرصون }؛ أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا، ولم يتعرض لقولهم { لو شآء الرحمن ما عبدناهم } بشيء؛ لأن هذا القول حق، وإن كان من الكفار، وهذا كقوله :
وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء
[النحل: 35] أي ولو جعلت قوله { ما لهم بذلك من علم } ردا لقولهم { لو شآء الرحمن ما عبدناهم } كان المعنى: أنهم قالوا: إن الله قدرنا على عبادتهم فلم يعاقبنا لأنه رضي ذلك، وهذا كذب منهم؛ لأن الله تعالى وإن قدر كفر الكافر لا يرضاه، وتقدير الكفر من الكافر لا يكون رضى من الله له.
[43.21-22]
قوله تعالى: { أم آتيناهم كتابا من قبله }؛ أي هل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله، { فهم به مستمسكون }؛ أي آخذون بما فيه. ثم أعلم الله أنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة فقال تعالى: { بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة }؛ أي على سنة وملة ودين.
ومن قرأ (على إمة) بكسر الهمزة فمعناه: على طريقة؛ أي ليس لهم حجة إلا هذا القول، { وإنا على ءاثارهم مهتدون }؛ أي ليس لهم حجة إلا تقليد آبائهم.
[43.23-25]
قوله تعالى: { وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ } أي ملوكها وأغنياؤها ورؤساؤها: { إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون }؛ بهم.
فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم }؛ معناه: أتتبعون دين آبائكم وتكفرون مثلهم، ولو جئتكم بأرشد مما وجدتم عليه آباءكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك؛ و { قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون }.
ثم ذكر ما فعل بالأمم المكذبة تخويفا لهم فقال تعالى: { فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين }؛ يعني ما صنع بقوم نوح وعاد وثمود.
[43.26-30]
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآء مما تعبدون } معناه واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه حين خرج من السرب وهو ابن سبع عشرة سنة، رأى أباه وقومه يعبدون الأصنام، فقال لهم: إني براء مما تعبدون من دون الله تعالى، { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } ، إلا من الذي خلقني فإنه سيحفظني ويرشدني لدينه وطاعته.
وقوله تعالى: { وجعلها كلمة باقية في عقبه }؛ أي وجعل براءته عن عبادة غير الله وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله؛ باقية في عقبه لكي يرجعوا إلى التوحيد، ويدعوا الخلق إليه، فلا يزال في ولده من يوحد الله تعالى. ومعنى الآية: وجعلها كلمة باقية في ذرية إبراهيم ونسله، فلا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده، { لعلهم يرجعون }؛ أي لعل أهل مكة يتبعون هذا الدين ويرجعون إلى دينك دين إبراهيم، إذ كانوا من ولده. وقال السدي: (لعلهم يتوبون ويرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله تعالى).
ثم ذكر نعمته على قريش فقال: { بل متعت هؤلاء وآبآءهم }؛ يعني المشركين متعتهم بأموالهم وأنفسهم وأنواع النعم، ولم أعاجلهم بعقوبة كفرهم، بل أمهلتهم زيادة في الحجة وقطعا للمعذرة، { حتى جآءهم الحق }؛ أي القرآن، { ورسول مبين }؛ للحجج وهو النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم الأحكام والدين.
وكان من حق الإنعام أن يطيعوا الرسول بإجابته، فلم يجيبوه وعصوا، وهو قوله: { ولما جآءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون }؛ أي لما جاء الرسول والقرآن، نسبوا القرآن إلى السحر وجحدوا به.
[43.31-32]
قوله تعالى: { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }؛ أي قال كفار مكة: هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين مكة والطائف، وعنوا بالرجلين إما الوليد بن المغيرة من مكة، وإما أبا مسعود الثقفي من الطائف، ظنوا بجهلهم أن استحقاق النبوة إنما يكون بشرف الدنيا مع اعترافهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم من أرفعهم نسبا.
فقال الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لما قالوا: { أهم يقسمون رحمت ربك }؛ يعني النبوة التي هي من أعظم النعم، وذلك أنهم اعترضوا على الله بقولهم: لم لم ينزل هذا القرآن على غير محمد، فبين الله تعالى أنه الذي يقسم النبوة لا غيره.
قال مقاتل: (يقول الله تعالى: أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤا). فبين الله تعالى أنه لم يجعل أمر معايشهم مع قلة خطر ذلك إلى رأيهم، بل رفع بعضهم فوق بعض في الرزق، وتلقاه شذ على ما توجبه الحكمة، فقال تعالى: { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا }؛ أي قسمنا الرزق في المعيشة، وليس لأحد أن يتحكم في شيء من ذلك، فكيف نجعل أمر النبوة مع عظم قدره ورفعة شأنه إلى رأيهم، قال قتادة في معنى (نحن قسمنا بينهم معيشتهم): (تلقى الرجل ضعيف الحيلة عي اللسان وهو مبسوط في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة بسط اللسان وهو مقتر عليه).
وقوله تعالى: { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات }؛ يعني الفضل في الغنى والمال { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا }؛ أي ليستخدم بعضهم بعضا، فيسخر الأغنياء بأموالهم الفقراء ليلتئم قوام أمر العالم، وقال قتادة: (ليملك بعضهم بعضا فيتخذونهم عبيدا ومماليك). والسخري بالكسر من الاستهزاء، وبالضم من التسخير.
وقوله تعالى: { ورحمت ربك خير مما يجمعون }؛ أي وما خصك الله به من النبوة خير لك مما يجمعون من المال. وقيل: معناه: ورحمة ربك يعني الجنة للمؤمنين خير مما يجمع الكفار من الأموال.
[43.33]
قوله تعالى: { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون }؛ معناه: ولولا أن تميل بالناس الدنيا فيصير الخلق كلهم كفارا لأعطى الله الكافر في الدنيا غاية ما يتمنى فيها لهوانها وقلتها عند الله تعالى، ولكنه لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلق حب العاجلة.
وقوله (سقفا) من قرأه بالوحدان فهو على معنى جعلنا لكل بيت سقفا من فضة. ومن قرأ (سقفا) بضمتين فهو جمع سقف، مثل رهن ورهن. ومن قرأه (سقفا) بضم السين وجزم القاف فعلى تخفيف سقف مثل رهن. قوله تعالى: { ومعارج عليها يظهرون } يعني الدرج عليها يرتفعون ويعلون، واحدها معرج، ويقال معراج ومعاريج ومعارج، مثل مفاتيح ومفاتح في جمع مفتاح، والمعنى: وكذلك جعلنا لهم معارج من فضة عليها يصعدون.
[43.34-35]
قوله تعالى: { ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون }؛ أي ولبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة، على سرر الفضة يجلسون ويتكئون، وقوله تعالى: { وزخرفا }؛ الزخرف هو الذهب، كأنه قال: وجعلنا أمتعتهم من الذهب.
هكذا في التفاسير أن المراد بالزخرف الذهب، إلا أنه في اللغة الزخرف: كمال الزينة، كما قال تعالى
حتى إذآ أخذت الأرض زخرفها
[يونس: 24]، ويجوز أن يكون قوله { وزخرفا } عطفا على قوله
من فضة
[الزخرف: 33] كأنه قال: من فضة وزخرفا، إلا أنه لما قال حذف (من) جعل نصبا، وهذا إنما يكون على قول الكوفيين.
قوله تعالى: { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا }؛ من قرأ (لما) بالتشديد فالمعنى: ما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا, ومن قرأ بالتخفيف ف (ما) صلة زائدة، والمعنى: وإن كل لما متاع الحياة الدنيا، يتمتع به إلى حين ثم يفنى، وثواب { والآخرة عند ربك للمتقين }؛ الكفر والفواحش، والذي قرأ (لما) بالتشديد حمزة جعله في معنى إلا، وحكي عن سيبويه: نشدتك لما فعلت، بمعنى إلا فعلت.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد، ولصببت الدنيا عليه صبا "
قال: ومصداق ذلك قوله تعالى:
ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون
[الزخرف: 33].
[43.36-37]
قوله تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا }؛ أي من يعرض عن ذكر الرحمن نسبب له شيطانا يضله، يجعل ذلك جزاؤه، { فهو له قرين }؛ لا يفارقه في الدنيا والآخرة، يقال: عشي إلى النار بالليل إذا تنورها فقصدها، وعشي عنها إذا أعرض عنها قاصدا لغيرها، ونظير هذا مال إليه ومال عنه، قال الشاعر:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد
ومن قرأ (يعش) بفتح الشين وهو من عشى يعشى إذا لم يبصر بالليل، والمعنى: ومن يعم عن ذكر الرحمن.
قال الزجاج: (معنى الآية: ومن يعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين، نعاقبه بشيطان نقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينا له فلا يهتدي، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين).
وقوله تعالى: { فهو له قرين } أي صاحب يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى وهو على الضلالة، وذلك قوله تعالى: { وإنهم ليصدونهم عن السبيل }؛ معناه: وإن الشياطين ليمنعونهم عن سبيل الهدى، { ويحسبون }؛ الكفار ، { أنهم مهتدون }.
[43.38-39]
قوله تعالى: { حتى إذا جآءنا }؛ يعني الكافر إذا جاء يوم القيامة { قال } ، لقرينه وهو الشيطان الذي يجعل معه في سلسلة واحدة: { يليت بيني وبينك بعد المشرقين }؛ المشرق والمغرب إذ كنا في الدنيا فلم أرك ولم ترني، { فبئس القرين }؛ كنت لي.
وإنما سمي المشرق والمغرب باسم الواحد للازدواج، كما يقال للشمس والقمر: القمران، وفي تثنية أبي بكر وعمر: العمرين، قال الشاعر:
أخذنا بآفاق السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
وقرئ: (حتى إذا جاءنا) يعني الكافر وشيطانه يبعثان يوم القيامة في سلسلة واحدة، كما روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ بيده شيطانه فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، فلذلك حيث يقول: (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين)، ويقول الله في ذلك اليوم للكافرين " و " أنت أيها الشيطان: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم }؛ أي إذا أشركتم في الدنيا، { أنكم في العذاب مشتركون }؛ قال المفسرون: لا يخفف عنهم الإشراك شيئا من العذاب، لأن لكل واحد منهم الحظ الأوفر من العذاب، ولا يستأنس بعضهم ببعض.
[43.40]
قوله تعالى: { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي }؛ أي أفأنت تسمع الكفار الذين يتصاممون عن الحق ويتعامون عنه، { ومن كان في ضلال مبين }؛ أي بين قد ظهرت ضلالته.
[43.41-42]
قوله تعالى: { فإما نذهبن بك }؛ أي نميتك قبل أن نريك النقمة في كفار مكة، { فإنا منهم منتقمون }؛ بالقتل بعدك، { أو نرينك }؛ في حياتك ما، { الذي وعدناهم }؛ من الذل، { فإنا عليهم مقتدرون }. بين الله تعالى أنه قادر على عقوبتهم في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
والأصل: في (إما): (إن ما) فحذف الشرط (ان وما) صلة ومتى دخلت (ما) في الشرط للتوكيد دخلت النون الثقيلة المؤكدة في الفعل المذكور بعدها.
ومعنى الآية: أن الله تعالى " قال " مطيبا لقلب نبيه صلى الله عليه وسلم: إن ذهبنا بك انتقمنا لك ممن كذبك بعدك أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من العذاب، فإنا قادرون عليهم متى شئنا عذبناهم ثم أري ذلك يوم بدر.
[43.43-44]
قوله تعالى: { فاستمسك بالذي أوحي إليك }؛ أي استمسك بالقرآن، { إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك }؛ أي القرآن شرف لك ولهم، { وسوف تسألون }؛ عن شكر هذه النعمة، يعني ما أعطاه الله من الحكمة وقومه المؤمنين من الهدى بالقرآن إلى إدراك الحق، وقال مجاهد: (القوم ها هنا العرب، والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم).
[43.45]
قوله تعالى: { وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }؛ وذلك أنه
" لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث الله آدم وجميع المرسلين وأذن جبريل ثم أقام، وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال جبريل: سل يا محمد من أرسلنا من قبلك، هل أرسلنا عليهم جواز عبادة غير الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أسأل قد اكتفيت " ".
وقيل: معناه: اسأل أمم من أرسلنا قبلك، يعني مؤمني أهل الكتاب سلهم هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد، فلم يشك ولم يسأل، (ومعنى الأمر بالسؤال لتقرير مشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى).
[43.46-47]
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا موسى بآيتنآ إلى فرعون وملإيه فقال إني رسول رب العلمين * فلما جآءهم بآياتنآ إذا هم منها يضحكون }؛ أي يهزأون ويضحكون منها جهلا وغفلة.
[43.48]
قوله تعالى: { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها }؛ يعني ما نرادف عليهم من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس، وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله تعالى: { وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون }؛ لأنهم عذبوا بهذه الآيات.
[43.49-50]
قوله تعالى: { وقالوا يأيه الساحر }؛ قال الكلبي: (يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيما يعظمونه، ولم يكن " السحر " صفة ذم، وكان علماؤهم في ذلك الوقت السحرة، فكانوا يوقرونه بهذا القول، ولم يريدوا شتمه).
وقوله تعالى: { ادع لنا ربك بما عهد عندك }؛ أي سل ربك بما عهد عندك فيمن آمن بك ليكشف العذاب عنا، والمعنى: بما عهد فيمن آمن به من كشف العذاب عنه، { إننا لمهتدون }؛ مؤمنون بك.
فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فذلك قوله تعالى: { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون }؛ العهد الذي عاهدوا موسى، معناه: إذا هم ينقضون عهودهم.
[43.51]
قوله تعالى: { ونادى فرعون في قومه }؛ إلى قوله: { قال يقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون }؛ يعني أنهار النيل تجري من تحتي؛ أي من تحت قصوري وفي بساتيني، وقال الحسن: (بأمري) فعلى هذا معناه: من تحت أمري، أفلا تبصرون عظمتي وشدة ملكي وفضلي على موسى.
[43.52]
قوله تعالى: { أم أنآ خير من هذا الذي هو مهين }؛ أي بل أنا خير من هذا الذي هو ضعيف حقير، يعني موسى؛ وإنما وصفه بهذا لأنه كان يقوم بأمر نفسه، ولم يكن أحد يقوم بأمره، ومن ذلك المهنة، وقوله تعالى: { ولا يكاد يبين }؛ أي لا يكاد يبين الكلام، يعني أنه كان بلسانه لثغة من أثر العقدة التي كانت، وكان مع ذلك بليغا مبينا.
[43.53]
قوله تعالى: { فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب }؛ معناه: قال فرعون: هلا ألقي على موسى أسورة من ذهب إن كان رسولا كما يسور الملوك رسلهم تعظيما لهم، وكان آل فرعون يلبسون الأساور، والأسورة جمع السوار، والأساور جمع الأسورة.
وقوله تعالى: { أو جآء معه الملائكة مقترنين }؛ أي متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له، ويشهدون له بصدقه. والمعنى: أن فرعون قال: هلا جاء معه الملائكة متعاونين يمشون معه فيدلون على صدقه بنبوته.
[43.54]
قوله تعالى: { فاستخف قومه فأطاعوه }؛ أي استخف فرعون عقول قومه القبط فوجدهم خفاف العقول فأطاعوه على تكذيب موسى، { إنهم كانوا قوما فاسقين }؛ أي خارجين عن أمرنا.
[43.55-56]
قوله تعالى: { فلمآ آسفونا انتقمنا منهم }؛ أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم، وجازيناهم على معاصيهم، { فأغرقناهم أجمعين }. والآسف: الغضب في هذه الآية، وأصله في اللغة: الحزن، إلا أن الحزن لا يجوز في صفات الله.
وقوله تعالى: { فجعلناهم سلفا }؛ أي متقدمين، وقيل: سلفا إلى النار، { ومثلا للآخرين }؛ يتمثل بهم في الهلاك إلى آخر الدهر.
وقرأ حمزة (سلفا) بالضم في السين واللام: جمع سليف وهو الماضي مأخوذ من سلف بضم اللام يسلف؛ أي تقدم فهو سليف. ومن قرأ (سلفا) بضم السين وفتح اللام فهو جمع سلفة وهي الفرقة التي قد مضت.
[43.57-58]
قوله تعالى: { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما:
" لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم... } الآية، قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن الزبعرى: أخاص هذا أم عام؟ فقال: " عام " فقال ابن الزبعرى: فإن عيسى تعبده النصارى، فهو والنصارى في النار، وعزير تعبده اليهود، وخزاعة تعبد الملائكة، فإن كان هؤلاء في النار فآلهتنا خيرا منهم، فأنزل الله تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا } ".
والمعنى: لما شبهوه بآلهتهم { إذا قومك منه يصدون } يعني قومه الكفار كانوا يضجون ضجيج المجادلة، حيث خاصموه وقالوا: رضينا أن تكون آلهتنا، وهو قولهم: { وقالوا ءأ لهتنا خير أم هو }؛ أي ليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فآلهتنا في النار.
قرئ (يصدون) بكسر الصاد وضمها، قال الفراء والزجاج والأخفش والكسائي: (هما لغتان، معناهما: يضجون). وقيل: يصدون: يعرضون. ومن قرأ بكسر الصاد فمعناه: يضحكون.
قوله تعالى: { ما ضربوه لك إلا جدلا }؛ أي ما ذكروا لك وصف عيسى إلا ليجادلوك به؛ لأنهم قد علموا أن المراد بحصب جهنم ما اتخذوه من الموت.
ثم ذكر أنهم أصحاب خصومات فقال: { بل هم قوم خصمون }؛ أي جدلون بالباطل، وعن أبي أمامة الباهلي أنه قال: (ما ضل قوم إلا أوتوا الجدل. ثم قرأ هذه الآية).
[43.59-60]
قوله تعالى: { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه }؛ فيه بيان أن عيسى عليه السلام عبد مثلهم فضله بالنبوة والرسالة، والمعنى: أنعمنا عليه بالنبوة، { وجعلناه مثلا لبني إسرائيل }؛ أي جعلنا خلقه بغير الأب آية تدلهم على وحدانية الله تعالى وقدرته على ما يريد.
ثم خاطب كفار مكة فقال تعالى: { ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة }؛ أي لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة، { في الأرض يخلفون }؛ كم يكون خلفا منكم.
[43.61-62]
قوله تعالى: { وإنه لعلم للساعة }؛ يعني نزول عيسى من أشراط الساعة نعلم به، { فلا تمترن بها }؛ أي لا تشكن في القيامة إنها كائنة، ولا تكذبوا، و؛ قل لهم: { واتبعون }؛ على التوحيد، و { هذا }؛ الذي أنا عليه، { صراط مستقيم }؛ أي دين قائم لا عوج فيه، { ولا يصدنكم الشيطان }؛ أي لا يصرفنكم عن هذا الدين، { إنه لكم عدو مبين }؛ أي ظاهر العداوة.
[43.63-64]
قوله تعالى: { ولما جآء عيسى بالبينات }؛ أي بالمعجزات، وقال قتادة: (يعني الإنجيل)، وقوله تعالى: { قال قد جئتكم بالحكمة }؛ أي بالإنجيل، وقيل: بالنبوة، و؛ جئتكم { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه }؛ فيما بينكم، قال مجاهد: (من أحكام التوراة).
فإن قيل: فهلا بين لهم جميع ما اختلفوا فيه وقد أرسل إليهم؟ قلنا: قد اختلفوا فيه؛ قال بعضهم: إن الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وقد بين لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقال بعضهم: معناه: لأبين لكم بعض الكتاب الذي تختلفون فيه، إذ كانوا مختلفين في بعض التوراة. وقال بعضهم معناه: لأبين لكم أمر دينكم لأنهم كانوا مختلفين في أمر دينهم ودنياهم، والمقصود من إرسال الرسل بيان الدين، فكان ذلك بعض ما اختلفوا فيه، وقد يذكر البعض أيضا بمعنى الكل، كما قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وأراد بالبعض الكل، لأن المستعجل أيضا قد يدرك البعض، { فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم }.
[43.65-66]
قوله تعالى: { فاختلف الأحزاب من بينهم }؛ يعني اليهود والنصارى، وقيل: المراد به فرق النصارى على ما تقدم ذكره من الاختلاف فيما بينهم في عيسى عليه السلام، وقوله تعالى: { فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم * هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة }؛ أي هل ينظرون إلا القيامة أن تأتيهم فجأة على غرة منهم، " من " غير تأهب ولا استعداد، { وهم لا يشعرون }؛ وقت مجيئها.
فإن قيل: كيف تسمى القيامة الساعة وهي تشتمل على خمسين ألف سنة؟ قلنا: إنما سميت ساعة لسرعة مجيئها، ولأنها في جنب ما وراءها ساعة، وهي سريعة الانقضاء على المؤمنين.
[43.67]
قوله تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين }؛ يعني الأخلاء في يومئذ؛ أي يوم تأتي الساعة { بعضهم لبعض عدو } يعني إذا كانت الخلة على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة، { إلا المتقين } يعني المؤمنين الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عدواة.
وفي الحديث:
" أن الأخلاء أربعة: مؤمنان وكافران، فإذا سئل المؤمن عن خليله، قال: ما علمته إلا أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، ويسأل المؤمن الثاني عن خليله، فيقول مثل ذلك، ويثني كل واحد منهما على صاحبه خيرا، فتزداد مخاللتهما في الآخرة على التي كانت في الدنيا. ثم يسأل أحد الكافرين عن خليله، فيقول: بئس الأخ؛ ما علمته إلا أمارا بالمنكر، نهاء عن المعروف، اللهم أضلله كما أضلني، ويقول الآخر مثل ذلك، ويثني كل واحد منهما على صاحبه شرا وتنقلب مخاللتهما عداوة، لأنها لم تكن في ذات الله تعالى ".
[43.68-70]
قوله تعالى: { يعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين }؛ أي يقال للمتقين: يا عبادي لا خوف عليكم من أهوال القيامة وما بعدها، ولا أنتم تحزنون إذا حزن الناس، فقوله: (الذين) موضع نصب على النعت لعبادي، لأن عبادي منادى مضاف.
وقوله تعالى: { وكانوا مسلمين } أي خاضعين منقادين، يقال لهم: { ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون }؛ أي لأنتم وحلائلكم المؤمنات تكرمون غاية الإكرام بالتحف والهدايا. ويقال: معنى: تحبرون: تسرون، والحبور السرور.
[43.71-73]
قوله تعالى: { يطاف عليهم بصحاف من ذهب }؛ أي يطوف عليهم خدمهم بقصاع من ذهب فيها من أنواع الأطعمة اللذيذة الشهية، وواحد الصحاف: صحفة؛ وهي القصعة الواسعة العريضة، وقوله تعالى: { وأكواب }؛ أي وأكواب من ذهب، والأكواب جمع الكوب، وهو إناء مستدير مدور الرأس لا عروة له. وقيل: الأكواب هي الأباريق التي لا خراطيم لها ولا أذن.
قوله تعالى: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين }؛ أي في الجنة ما تتمنى الأنفس وتستحسنه الأعين، { وأنتم فيها خالدون * وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون }؛ من الأعمال الصالحة ، { لكم فيها فاكهة كثيرة }؛ ألوان الفاكهة الكثيرة، { منها تأكلون }.
[43.74-76]
قوله تعالى: { إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون }؛ أي إن المجرمين في عذاب جهنم دائمون، { لا يفتر عنهم }؛ أي يرفه عنهم ولا يهون عليهم، { وهم فيه مبلسون }؛ أي آيسون من الروح والراحة.
والإبلاس هو: اليأس من الخير، والمبلس هو الساكت المنقطع ليأسه من الفرح، { وما ظلمناهم }؛ بهذا العذاب، { ولكن كانوا هم الظالمين } لأنفسهم بالكفر والمعاصي.
وفي قراءة ابن مسعود (الظالمون) بالرفع على لغة تميم يعملون المضمر قبله، وأما على القراءة التي ليست في المصحف (فهم) زيادة وفصل لا موضع لها من الإعراب بمنزلة (ما) في قوله
فبما رحمة من الله لنت
[آل عمران: 159].
[43.77]
قوله تعالى: { ونادوا يمالك ليقض علينا ربك }؛ وذلك أنه إذا اشتد عليهم العذاب وقد صيرهم، تمنوا الموت، فنادوا مالكا خازن جهنم: يا مالك ادع لنا ربك يقضي علينا بالموت فنستريح من العذاب بعد أربعين سنة، { قال إنكم ماكثون }؛ مقيمون دائمون، وعن ابن عباس: (أنهم ينادون مالكا ألف سنة فيجيبهم: إنكم ماكثون في العذاب)، وقرأ علي وابن مسعود: (يا مال) بالترخيم.
[43.78]
قوله تعالى: { لقد جئناكم بالحق }؛ أي لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش محمدا رسولنا بالحق، { ولكن أكثركم للحق كارهون }.
[43.79]
قوله تعالى: { أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون }؛ أي بل احكموا عند نفوسهم أمرا في كيد محمد صلى الله عليه وسلم والمكر به، فإنا محكمون أمرا في مجازاتهم شرا بشر.
[43.80]
قوله تعالى: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون }؛ السر ما يعقده الإنسان في نفسه ويضمره بقلبه، والنجوى ما يحدث به غيره في الخفية، وقوله تعالى (بلى) أي نسمع سرهم ونجواهم، ورسلنا هم الحفظة عندهم، يكتبون عليهم ذلك.
ويقال: إن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر من المشركين، وهم صفوان بن أمية، وربيعة بن عمرو وأخوه حبيب بن عمرو، وكانوا يمكرون في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: إن الله يعلم السر يكون بين الاثنين، أفترونه يعلم ما نقول؟ قال ربيعة: أراه يعلم بعض ما نقول ولا يعلم بعضا، فقال صفوان: ولا كلمة واحدة، ولو علم بعضه لعلمه كله، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
[43.81]
قوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين }؛ وذلك أن المشركين لما قالوا: لله ولد! ولم يرجعوا عن مقالتهم، أنزل الله هذه الآية، والمعنى: قل لهم يا محمد: { إن كان للرحمن ولد } في زعمكم { فأنا أول العابدين } من عبد الله وحده وكذبكم بما تقولون، هكذا روي عن مجاهد.
وقال قتادة والحسن: (معناه: ما كان للرحمن ولد، وأنا أول من عبد الله من أهل هذا الزمان). وقيل: معناه: إن كان للرحمن ولد كما تزعمون فأنا أول من غضب للرحمن، فعلى هذا القول العابد من العبد بمعنى الغضب. وقال الفراء: (عبد عليه أي غضب عليه). وقيل: معناه: فأنا أول الآنفين، يقال: عبد يعبد؛ إذا أنف وغضب.
[43.82]
قوله تعالى: { سبحان رب السموت والأرض }؛ نزه الله تعالى نفسه مما يقول المشركون؛ أي تنزيها لخالق السماوات والأرض، { رب العرش عما يصفون }؛ يضيفون إليه من الولد.
[43.83]
قوله تعالى: { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون }؛ أمر بتركهم على وجه التوبيخ؛ أي اترك يا محمد كفار مكة يخوضوا في أباطيلهم، ويلعبوا في دنياهم بمقالتهم حتى يعاينوا يوم القيامة.
[43.84]
قوله تعالى: { وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله }؛ أي هو معبود من في السماوات ومن في الأرض، لا معبود غيره ولا إله إلا هو، { وهو الحكيم }؛ في أمره وقضائه، { العليم }؛ بخلقه وتدبيرهم.
[43.85]
قوله تعالى: { وتبارك الذي له ملك السموت والأرض وما بينهما }؛ أي تعالى ودام الذي بيده خزائن السماوات والأرض وما بينهما، { وعنده علم الساعة }؛ أي علم قيام الساعة، لا يعلم وقتها أحد غيره، { وإليه ترجعون }؛ في الآخرة.
[43.86]
قوله تعالى: { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة }؛ أي لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة، ثم استثنى عيسى والعزير والملائكة فقال: { إلا من شهد بالحق }؛ أي من شهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، { وهم يعلمون }؛ بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. والمعنى: إلا من شهد بكلمة التوحيد، وعلم بقلبه أنها حق.
[43.87]
قوله تعالى: { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون }؛ أي ولئن سألت هؤلاء الذين عبدوا غير الله: من خلقهم وخلق معبودهم؟ ليقولن: الله خلقهم، فمن أين يصرفون عن عبادة الله مع معرفتهم بأنه الخالق، والخالق أولى بالعبادة من المخلوق؟
[43.88]
قوله تعالى: { وقيله يرب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون }؛ من قرأ بنصب اللام؛ فمعناه: يعلم قيام الساعة، ويعلم (قيله) محمد يا رب؛ لأن معنى
وعنده علم الساعة
[الزخرف: 85] ويعلم قيام الساعة. وقيل: انتصب عطفا على قوله
سرهم ونجواهم
[الزخرف: 80] كأنه قال: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، (وقيله) يا رب في شكوى منهم إلى ربه. قال المبرد: (العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف على المعطوف عليه).
ومن قرأ (وقيله) بكسر اللام فهو على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله. والقيل مصدر كالقول، يقال: قلت قولا وقيلا وقالا. ولو قرئ (وقيله) بالرفع على معنى: وقيل محمد صلى الله عليه وسلم، هذا كان جائزا في الكلام.
[43.89]
قوله تعالى: { فاصفح عنهم }؛ أي أعرض عنهم إلى أن تؤمر فيهم بشيء، { وقل سلام } ، قال عطاء: (يريد مداراة حتى ينزل حكمي)، ومعناه: المتاركة؛ أي سلام هجران وترك لا سلام تحية، { فسوف يعلمون }؛ عاقبة كفرهم، وماذا ينزل بهم فيندمون حين لا ينفعهم الندم.
ومن قرأ (تعلمون) فعلى الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بهذا، قال مقاتل: (نسخ السيف الإعراض والسلام).
[44 - سورة الدخان]
[44.1-4]
قوله تعالى: { حم * والكتاب المبين }؛ أول السورة قسم، وجوابه: { إنآ أنزلناه }؛ وقيل: جوابه: { إنا كنا منذرين } لأنه ليس من عادة العرب أن يقسموا بنفس الشيء الذي يخبرون عنه، فعلى هذا يكون قوله: { إنآ أنزلناه } معترضا بين القسم والجواب، { في ليلة مباركة إنا كنا منذرين } ، والليلة المباركة: هي ليلة القدر، { فيها يفرق كل أمر حكيم } ، أنزل الله فيها القرآن إلى السفرة في السماء الدنيا، فوضعوه في بيت العزة، ثم كان جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء على مقدار الحاجة، هكذا روي عن ابن عباس، وقد قدمنا ذلك في قوله تعالى
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
[البقرة: 185].
وسميت هذه الليلة مباركة لأن فيها الرحمة ومغفرة الذنوب، وفيها يقدر الله الأشياء من أرزاق العباد وآجالهم وغير ذلك من الأمور. ويقال: إنما سميت مباركة لأنه لا يقدر فيها شيئا من المكاره، كما قال تعالى:
سلام هي حتى مطلع الفجر
[القدر: 5].
وعن عكرمة أنه كان يقول: (الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان، فيها يقضى كل أمر فيه حكمة، وفيها ينسخ لجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت جميع ما هم موكلون به من سنة إلى سنة). وكان ابن عباس يقول: (إنك لتلقى الرجل في السوق قد كتب اسمه في الموتى). والصحيح: أن الليلة المباركة هي ليلة القدر، وعليه أكثر المفسرين.
[44.5-6]
قوله تعالى: { أمرا من عندنآ }؛ انتصب ب (يفرق) بمنزلة (يفرق) لأن (أمرا) بمعنى فرقا. وفيه بيان أن الذي يفرق في هذه الليلة لا يكون إلا من عند الله تعالى وتدبيره، كأنه قال: بأمر من عندنا. قوله تعالى: { إنا كنا مرسلين }؛ أي مرسلين محمدا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء، { رحمة من ربك }؛ أي رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم. وانتصب على أنه مفعول له على تقدير الرحمة، وقال الزجاج: (تقديره: إنا أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة). { إنه هو السميع }؛ لما يقوله المحق والمبطل، { العليم } ، بأفعال العباد.
[44.7-8]
قوله تعالى: { رب السموت والأرض وما بينهمآ }؛ بالخفض على البدل من قوله { رحمة من ربك }. وقوله تعالى: { وما بينهمآ } يعني من الهواء والخلق. وقوله تعالى: { إن كنتم موقنين * لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبآئكم الأولين }؛ معناه: أن الذي دبر السماوات والأرض هو الذي دبر بإرسال الرسل رحمة منه، فإن كنتم موقنين بتدبيره في السماوات والأرض، فأيقنوا إنما هو مثله. واليقين: ثلج الصدر بالعلم، ولذلك يقال: وجد برد اليقين، ولا يجوز في صفات الله تعالى: موقن، ويجوز: عليم وعالم.
[44.9]
قوله تعالى: { بل هم في شك }؛ يعني الكفار من هذا القرآن، { يلعبون }؛ أي يهزأون به لاهين عنه.
[44.10-16]
قوله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السمآء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم * ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون * أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عآئدون }؛ وذلك أن المشركين بالغوا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ويئس من إيمانهم به ودعا عليهم فقال:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ".
فأنزل الله تعالى هذه الآيات، فأخذتهم السنة حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة من الجوع، وارتفع القطر وأجدبت الأرض، وكانوا إذا نظروا إلى السماء رأوا دخانا بين السماء والأرض للظلمة التي غشيت أعينهم وأبصارهم من شدة الجوع. ويقال: يبست الأرض وانقطع الغيث.
والمعنى: فانتظر يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين،
" فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم دعوتك فأجبتني، وسألتك فأعطيتني، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريا مريعا طبقا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار " ، فما برح النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله المطر.
وجاء الناس يشتدون وقالوا: الغرق الغرق، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عآئدون } فكشف الله عنهم الشدة، ثم عادوا إلى الكفر "
فذلك قوله تعالى: { يوم نبطش البطشة الكبرى }؛ وذلك يوم بدر، { إنا منتقمون }.
وهذا التأويل إنما يستقيم على قول ابن مسعود فإنه كان يقول: (خمس قد مضين: الدخان والروم والبطشة واللزام وانشقاق القمر) وكان يذهب إلى أن البطشة الكبرى هي التي أصابتهم يوم بدر، وذلك أعظم من الجوع الذي أصابهم بمكة.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالدخان في هذه الآيات: الدخان الذي ينزله الله تعالى عند قيام الساعة، ثم يغشاهم عذاب أليم بعد ذلك، كما روي عن مسروق أنه قال: (إذا كان يوم القيامة نزل دخان من السماء، فأخذ بأسماع الكفار والمنافقين وأبصارهم حتى تصير رؤوسهم كالرأس الحنيذ، ويأخذ المؤمنين بمنزلة الزكام).
فعلى هذا القول يكون معنى قوله تعالى: { أنى لهم الذكرى } أي من أين لهم الذكرى، أي من أين ينفعهم إيمانهم { وقد جآءهم رسول مبين } في الوقت الذي كانوا مكلفين فيه ثم أعرضوا عن الإيمان به { وقالوا معلم مجنون } أي هو معلم يعلمه الجن، ويعترضون له. وقيل: معناه: يعلمه بشر مجنون بادعائه النبوة. ويكون معنى قوله: { إنا كاشفو العذاب } أي عذاب الدنيا بعد مجيء الرسول إلى وقت الدخان، فمهلهم لكي يتوبوا، ولن يتوبوا.
والمراد بالبطشة الكبرى على هذا القول يوم القيامة، وأما على القول الأول فقوله: { أنى لهم الذكرى } أي التذكر والاتعاظ، يقول: كيف يتذكرون ويتعظون، وحالهم أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر الصدق والدلالة، { ثم تولوا عنه } أي أعرضوا ولم يقبلوا قوله.
وقوله تعالى: { إنا كاشفو العذاب } يعني عذاب الجوع { قليلا } أي زمانا يسيرا، قال مقاتل: (يعني يوم بدر إنكم عائدون في كفركم وتكذيبكم) وفيه إعلام أنهم لا يتعظون، وإنه إذا رفع عنهم العذاب عادوا إلى طغيانهم. قوله تعالى: { يوم نبطش البطشة الكبرى } أي واذكر لهم ذلك اليوم، يعني يوم بدر.
[44.17]
قوله تعالى: { ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون }؛ أي كلفنا قبل أهل مكة قوم فرعون من الطاعة ما اشتد عليهم، { وجآءهم }؛ موسى، { رسول كريم } ، لا خلاف على الله تعالى.
[44.18-24]
قوله تعالى: { أن أدوا إلي عباد الله }؛ أي بأن أدوا إلي بني إسرائيل، وهذا قول موسى، يقول: أطلقوا بني إسرائيل من العذاب والتسخير، فإنهم أحرار، { إني لكم رسول }؛ من الله، { أمين }؛ على الرسالة، لست بخائن ولا كذاب ولا كاتم مما أوحي إلي، { وأن لا تعلوا على الله }؛ أي لا تتجبروا عليه بترك طاعته، { إني آتيكم بسلطان مبين }؛ بحجة بينة ظاهرة تدل على صدقي.
فلما قال موسى هذه المقالة توعدوه بالقتل بالحجارة، فقال: { وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون } ، أي اعتصمت بخالقي وخالقكم من أن تقتلوني بالحجارة، { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون }؛ أي وإن لم تصدقون فاتركوني لا معي ولا علي، فلا أقل من أن تكفوا شركم عني.
فأبوا أن يقبلوا منه، ولم يؤمنوا به، { فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون }؛ أي مشركون، ولم يدع إلا بعد أن أذن له في الدعاء عليهم، فدعا عليهم.
قال الله تعالى له: { فأسر بعبادي ليلا }؛ حتى تقطع بهم البحر، { إنكم متبعون }؛ يتبعكم فرعون وقومه فيكون ذلك سببا لغرقهم، فسار موسى بمن معه من بني إسرائيل حتى أتى بهم البحر، فضربه بعصاه بأمر الله تعالى فانفلق ودخله أصحابه.
ثم عطف موسى ليضرب البحر بعصاه ليلتئم ويخلط الطريق التي جعلها الله لبني إسرائيل حتى لا يعبر فيها فرعون وقومه، فقيل له: { واترك البحر رهوا }؛ أي ساكنا منفتحا على ما هو عليه حتى يدخله فرعون وجنوده، { إنهم جند مغرقون }؛ في حكم الله تعالى.
قال ابن عباس: (معنى قوله اتركه رهوا؛ أي اتركه طريقا). والرهو: يكون بمعنى الفرجة بين الشيئين، ونظر أعرابي إلى فالج؛ فقال: سبحان الله! رهو بين سنامين، فيكون المعنى على هذا: واترك البحر ذا رهو؛ أي ذا فرجة، وهي الطريق التي أظهرها الله تعالى في الماء.
[44.25-28]
قوله تعالى: { كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم } أي كم ترك فرعون وقومه بعد الغرق من بساتين عامرة بليغة الأشجار، وعيون ظاهرة عذبة فيها زرع ومساكن شريفة حسنة، { ونعمة }؛ أي وعيش لين، { كانوا فيها فاكهين }؛ أي ناعمين متعجبين، { كذلك }؛ كانت حالهم. وقيل: كذلك أفعل بمن عصاني، { وأورثناها }؛ وأورثنا ما تركوه، { قوما آخرين }؛ وهم بنو إسرائيل، رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر فصارت أموال قوم فرعون ونعيمهم لهم من غير كلفة ولا مشقة، كالميراث الذي ينقل من المورث إلى الوارث من غير مشقة تلحق الوارث، وهذا من غاية إنعام الله على بني إسرائيل.
[44.29]
قوله تعالى: { فما بكت عليهم السمآء والأرض }؛ أي ما بكت على فرعون وقومه؛ أي كانوا أهون من أن يبكي عليهم أحد من أهل السماء والأرض، إنهم كانوا في مقام الجدي.
قال صلى الله عليه وسلم:
" ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان: باب يصعد فيه عمله، وباب ينزل فيه رزقه، فإذا مات بكيا عليه، وكذلك مصلاه الذي كان يصلي فيه من الأرض "
فذلك قوله تعالى: { فما بكت عليهم السمآء والأرض }. وعن مجاهد أنه قال: (إذا مات المؤمن بكت عليه الأرض أربعين يوما صباحا). وعن السدي قال: (لما قتل الحسين رضي الله عنه بكت السماء عليه، وبكاؤها حمرة أطرافها).
والمعنى على هذا: لم يكن لفرعون وقومه موضع طاعة في الأرض ولا مصاعد طاعات في السماء فتفقدهم وتبكي عليهم، بخلاف المؤمنين. وقوله تعالى: { وما كانوا منظرين }؛ أي لم ينظروا ولم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها.
[44.30-31]
قوله تعالى: { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين }؛ أي خلصناهم مما كان فرعون يفعل بهم من ذبح الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم في الأمور الشاقة. وقوله تعالى: { من فرعون إنه كان عاليا }؛ أي متكبرا؛ { من المسرفين } ، من المتجاوزين عن الحد حتى ادعى الإلهية.
[44.32-33]
قوله تعالى: { ولقد اخترناهم على علم على العالمين }؛ أي اخترنا بني إسرائيل بكثرة الأنبياء صلوات الله عليهم فيهم على عالمي زمانهم، { وآتيناهم من الآيات }؛ من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك، { ما فيه بلاء مبين }؛ أي نعمة ظاهرة.
[44.34-35]
قوله تعالى: { إن هؤلاء ليقولون * إن هي إلا موتتنا الأولى }؛ راجع إلى ذكر كفار مكة يقولون: ما الموتة نموتها في الأولى ثم لا نبعث بعدها، ومعنى قوله: { وما نحن بمنشرين }؛ أي بمبعوثين، وهذا ذم لهم على الجهل.
[44.36]
قوله تعالى: { فأتوا بآبآئنا إن كنتم صادقين }؛ أي قالوا فأحيي يا محمد آباءنا الذين ماتوا حتى نسألهم: أحق ما تقول أم باطل؟ وروي أنهم كانوا يقولون: إن كان ما تقوله فأت بقصي بن كلاب ليخبرنا عنك، فإنه كان صدوقا فيما بيننا.
[44.37]
قوله تعالى: { أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين }؛ خوفهم الله تعالى مثل عذاب الأمم الخالية، فقال: (أهم خير أم قوم تبع) أي ليسوا خيرا منهم، يعني أقوى وأشد وأكثر، والمعنى أهم خير في القدرة والقوة والمال، أم قوم ملك اليمن { والذين من قبلهم }.
وخص ملك اليمن بالذكر لأنه كان أقرب إلى زمانهم. وتبع اسم لكل من كان من ملوك اليمن، كما أن فرعون اسم ملك مصر، وقيصر اسم ملك الروم، وكسرى اسم ملك العجم. وإنما سمي ملك اليمن بهذا الاسم لكثرة تبعه.
وجاء في التفسير: أن ملك اليمن الذي كان أقرب إلى زمانهم كان مؤمنا، وكان اسمه أسعد بن ملكي كرب، وكان قومه كفارا. وروي عن عائشة أنها قالت: (كان تبع رجلا صالحا، ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه). وروي: (أنه وجد مكتوبا على قبرين بناحية حمير: هذان قبرا رضوى وحصيا ابني تبع ماتا لا يشركان بالله شيئا).
[44.38-39]
قوله تعالى: { وما خلقنا السموت والأرض وما بينهما لعبين }؛ أي لم نخلقهما عابثين، { ما خلقناهمآ إلا بالحق }؛ أي للحق؛ أي للثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، { ولكن أكثرهم }؛ أكثر المشركين، { لا يعلمون }.
[44.40-42]
قوله تعالى: { إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين }؛ معناه: إن يوم الفصل بين الخلائق ميعادهم أجمعين، يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون.
ثم نعت ذلك اليوم فقال تعالى: { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا }؛ أي يوم لا ينفع فيه صديق صديقا ولا قريب قريبا، { ولا هم ينصرون }؛ أي ولا يمنعون من عذاب الله، { إلا من رحم الله }؛ وهم المؤمنون، فإنه يشفع بعضهم لبعض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" وإن الرجل من أمتي ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر "
{ إنه هو العزيز }؛ في انتقامه من أعدائه، { الرحيم }؛ بالمؤمنين.
[44.43-45]
قوله تعالى: { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم }؛ قد تقدم تفسير شجرة الزقوم، والأثيم ذو الإثم وهو أبو جهل، قال أهل اللغة: الأثيم كثير الإثم، وعن ابن مسعود: (أنه كان يلقن رجلا: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فكان الرجل يقول: طعام اليتيم! فقال له: قل: طعام الفاجر). { كالمهل }؛ دردي الزيت وعكر القطران، وهو أسود غليظ. وقيل: المهل كل ما يمهل في النار من نحاس أو فضة أو غير ذلك حتى يذوب وينماع يشتد حره.
وقوله تعالى: { يغلي في البطون }؛ أي في بطون الكفار ، وقرئ (يغلي) بالياء يعني الطعام، واختاره أبو عبيد؛ لأن المهل مذكر، وقرئ بالتاء يعني الشجرة، قال أبو علي الفارسي: (لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل؛ لأن المهل إنما ذكر للتشبيه به في الذوب، ألا ترى أن المهل لا يغلي في البطون إنما يغلي ما شبه به).
[44.46-47]
قوله تعالى: { كغلي الحميم }؛ يعني الماء الحار إذا اشتد غليانه. وقوله تعالى: { خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم }؛ يقال للزبانية: (خذوه) يعني الآثم (فاعتلوه) أي قودوه بالعنق دفعا وسحبا إلى وسط الجحيم، يقال: عتله يعتله، ويعتله إذا جره وذهب به إلى مكروه، وقال مجاهد: (فادفعوه على وجهه إلى وسط الجحيم). وقيل للوسط: سواء لاستواء المسافة بينهما وبين أطرافه المحيطة به.
[44.48-49]
قوله تعالى: { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم }؛ قال مقاتل: (إن خازن النار يضربه على رأسه " بمقمعة من حديد " فينقب رأسه عن دماغه، ثم يصب فيه ماء حميما قد انتهى حره، ويقول له): { ذق إنك أنت العزيز الكريم }.
وذلك أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء تهددني! فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك " أن " تفعلا بي شيئا، وإني لمن أعز أهل هذا الوادي وأكرمهم! فيقول له الملك: ذق العذاب أيها المتعزز المتكرم في زعمك كما كنت تقوله. وقرأ الكسائي (أنك) بالفتح على تقدير: ذق بأنك أو لأنك أنت العزيز الكريم، أو بهذا القول الذي قلته في الدنيا.
[44.50]
قوله تعالى: { إن هذا ما كنتم به تمترون }؛ أي يقول لهم الخازن: إن هذا العذاب الذي كنتم به تشكون في الدنيا أو تكذبون به.
[44.51-52]
قوله تعالى: { إن المتقين في مقام أمين * في جنات وعيون } الأمين هو المقام الذي أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث، والمقام هو المجلس، وقرئ (مقام) بضم الميم، يريد موضع الإقامة، ومعنى القراءتين واحد.
[44.53]
قوله تعالى: { يلبسون من سندس وإستبرق }؛ السندس ما لطف من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه مع دقة السلك، وهما نوعان من الحرير. وقوله تعالى: { متقابلين }؛ أي يقابل بعضهم بعضا في المجالس بالتحية والمحبة.
[44.54]
قوله تعالى : { كذلك وزوجناهم بحور عين }؛ أي كذلك حالهم في الجنة، وقرناهم بحور عين، والحور: الشديدة بياض العين، الشديدة سوادها، البيضاء البشرة والعين، جمع العيناء، واسعة العين الحسنة، قال مجاهد: (الحور: هن اللواتي يحار الطرف فيهن، يرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن، يرى الناظر وجهه في صدر إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون).
[44.55]
قوله تعالى: { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين }؛ فيه بيان أن بساتين الجنة تشتمل على كل الفواكه في كل وقت من الأوقات بخلاف بساتين الدنيا، وقوله تعالى: { آمنين } من الانقطاع والنقصان، وآمنين مما يخاف من الفواكه من التخم والأمراض والأسقام.
[44.56-57]
قوله تعالى: { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }؛ أي لا يموتون سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا، { ووقاهم عذاب الجحيم }؛ أي ودفع عنهم ربهم عذاب النار مع ما أعطاهم من النعيم المقيم. وقوله تعالى: { فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم }؛ أي فعل الله ذلك بالمتقين تفضلا منه عليهم. وسمي الثواب " فضلا " لأن الله تعالى لم يكلفهم لحاجته، ولكن ليصلوا إلى ذلك الثواب.
[44.58]
قوله تعالى: { فإنما يسرناه بلسانك }؛ أي أنزلنا القرآن بلغتك ولغة قومك ليسهل عليهم، و { لعلهم يتذكرون }؛ يتعظون فيؤمنوا به، ولولا تيسير الله حفظهما ما قدر أحد على حفظه لعظم أمره وجلال قدره.
[44.59]
قوله تعالى: { فارتقب إنهم مرتقبون }؛ أي انتظر بالكفار ما وعدناهم من العذاب إنهم منتظرون هلاكك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة إيمانا واحتسابا وتصديقا، بها، أصبح مغفورا له، وإن قرأها في سائر الليالي كانت له نورا يوم القيامة ".
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-3]
{ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }؛ { حم } مبتدأ وخبره { تنزيل } ، وقوله تعالى: { إن في السموت والأرض لأيت للمؤمنين } أي لدلالات على الحق تدل بخلقها على أن لها خالقا قديما لا أول له، ويدل تعظيمها وبقاؤها من غير علاقة فوقها ولا عماد تحتها على قادر لا يعجزه شيء. وقوله تعالى { لأيت } في موضع نصب؛ لأنه اسم (إن)، كما يقال: إن في الدار لزيدا.
[45.4]
قوله تعالى : { وفي خلقكم وما يبث من دآبة ءايت }؛ أي وفي خلقكم حالا بعد حال من نطفة إلى أن يصير إنسانا ثم يصير فيه العقل ثم الحواس، وما يبث من دابة على وجه الأرض على اختلاف أجناس الدواب ومنافعها وصورها، وما يقصر من منافعها في ذلك دلالات واضحة على وحدانية الله تعالى: { لقوم يوقنون }؛ يطلبون علم اليقين، ويوقنون أنه لا إله غيره.
وقرأ حمزة (آيات) (وتصريف الرياح) بالكسر على أنهما منصوبان نسقا على قوله تعالى
إن في السموت والأرض
[الجاثية: 3] على معنى وإن في خلقكم آيات، ومن رفع فعلى الاستئناف بعد أن، تقول العرب: إن لي عليكم مالا وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه.
[45.5]
قوله تعالى: { واختلاف الليل والنهار }؛ أي وفي ذهابهما ومجيئهما، وما يحدث في كل واحد منهما من الزيادة والنقصان من غير أن يكونا جميعا أزيد من أربع وعشرين ساعة، { ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح } ، وفيما أنزل الله من السماء من المطر فأحيا به الأرض بعد يبسها، وفي تقلب الرياح شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا وعذابا ورحمة، { ءايت لقوم يعقلون }؛ الدلالة ويتدبرونها.
[45.6]
قوله تعالى: { تلك ءايت الله نتلوها عليك بالحق }؛ أي تلك التي سبق ذكرها دلائل الله لعباده يتلوها عليك جبريل بأمرنا بقصصنا عليك بالحق، { فبأي حديث بعد } ، كتاب، { الله وءايته يؤمنون }؛ إن لم يؤمنوا بهذا القرآن. ومن قرأ بالتاء فعلى تأويل: قل لهم يا محمد: فبأي حديث تؤمنون.
[45.7-8]
قوله تعالى: { ويل لكل أفاك أثيم * يسمع ءايت الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم }؛ يعني النضر بن الحارث، كان يروي من أحاديث العجم للمشركين فيستملحون حديثه، وكان إذا سمع آيات القرآن استهزأ بها، فجعل الله له العذاب مرتين، مرة أليما ومرة مهينا، وقد ذكرنا تفسير الآية في سورة لقمان.
ومعنى الآية: ويل لكل كذاب فاجر كثير الإثم، يسمع القرآن يقرأ عليه ولا يتدبره، ولا يخشع لاستماعه، بل يقيم على كفره متعظما عن الإيمان بالله، كأن لم يسمع آيات الله، فخوفه يا محمد بعذاب وجيع يخلص وجعه إليه.
[45.9]
قوله تعالى: { وإذا علم من ءايتنا شيئا اتخذها هزوا }؛ أي إذا سمع من آيات القرآن شيئا اتخذها هزوا، { أولئك لهم عذاب مهين }.
[45.10]
قوله تعالى: { من ورآئهم جهنم }؛ أي لهم من بعد موتهم جهنم، { ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا }؛ ولا ينفعهم ما كسبوا من الأموال والأولاد شيئا، { ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء }؛ أربابا في دفع شيء من عذاب الله، { ولهم }؛ في الآخرة؛ { عذاب عظيم }؛ كل ذلك للنضر بن الحارث وأمثاله.
[45.11]
قوله تعالى: { هذا هدى }؛ أي هذا القرآن بيان للحق من الباطل في كل ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، { والذين كفروا بآيت ربهم }؛ الله أي جحدوا دلائل الله، { لهم عذاب من رجز أليم }؛ أي عذاب من عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وقرئ (أليم) بالرفع على نعت العذاب، وبالكسر على نعت الرجز.
[45.12]
قوله تعالى: { الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره }؛ أي هو الذي ذلل لكم البحر بتسهيل السبيل إلى سلوكها باتخاذ السفن وإصلاحها، { ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } ، وباقي الآية قد تقدم تفسيرها.
[45.13]
قوله تعالى: { وسخر لكم ما في السموت }؛ من شمس وقمر ونجوم ومطر وثلج وبرد، { وما في الأرض }؛ من دابة وشجر ونبات وثمار وأنهار، ومعنى سخره لنا: هو أنه خلقها لانتفاعنا بها على الوجه الذي يريده. قوله تعالى: { جميعا منه }؛ أي الكل رحمة منه وبفضله ومنه، { إن في ذلك لأيت لقوم يتفكرون }؛ في صنع الله وإحسانه، فيوحدونه.
[45.14-15]
قوله تعالى: { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله }؛ نزلت في عمر رضي الله عنه: شتمه رجل من بني غفار بمكة، فهم أن يبطش به، فأمره الله بالعفو والتجاوز. والمعنى: قل للذين آمنوا اغفروا، ولكنه شبهه بالشرط والجزاء كقوله تعالى:
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة
[إبراهيم: 31].
وقوله: { لا يرجون أيام الله } أي لا يخافون عذاب الله من إيذائكم، فتجاوزوا عنهم ليوفيهم الله عقاب سيئاتهم بما عملوا. ويجوز أن يكون المعنى: تجاوزوا عن الذين لا يرجون ثواب الله للمؤمنين، { ليجزي }؛ الله، { قوما } ، المؤمنين يوم الجزاء، { بما كانوا يكسبون }؛ بما كانوا يعملون من الخيرات.
وقيل: إن الآية نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا في أذى شديد من أهل مكة قبل أن يؤمروا بقتالهم، فأمر الله المؤمنين بترك مكافأتهم، ثم نسخت بقوله تعالى
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا
[الحج: 39].
وقال الحسن: (لم تنسخ هذه الآية، وهي على الاستحباب في العفو ما لم يؤدوا إلى الإخلال بحق الله أو إلى إذلال الدين). { من عمل صلحا فلنفسه ومن أسآء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون }.
[45.16]
قوله تعالى: { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب }؛ يعني التوراة والإنجيل، { والحكم والنبوة }؛ أي الفهم في الكتاب وفصل الأمر، وجعلنا فيهم الأنبياء والرسل، { ورزقناهم من الطيبات }؛ أي من الحلال ومن لذيذ الأطعمة كالمن والسلوى وغيرهما، { وفضلناهم على العالمين }؛ أي على عالمي زمانهم بكثرة النبيين فيهم، وفضل الله أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكثرة العلماء فيهم، والقائمين بالحق منهم كما قال تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس
[آل عمران: 110].
[45.17]
قوله تعالى: { وآتيناهم بينات من الأمر }؛ يعني العلم بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بين لهم من الأمر، { فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون }؛ الآية قد تقدم تفسيرها.
[45.18]
قوله تعالى: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها }؛ أي ثم أكرمناك يا محمد بعد اختلافهم فجعلناك على طريقة مستقرة من الدين، فاستقم عليها وادع الخلق إليها، ولا تعمل بأهواء الذين يخالفونك في أمر الدين والقبلة، وهو قوله تعالى: { ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون } ، توحيد الله؛ قيل: يعني كفار قريش.
[45.19]
قوله تعالى: { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا }؛ أي لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئا إن اتبعت أهواءهم، { وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض } ، يعني المشركين أنصار بعضهم بعضا، { والله ولي المتقين }؛ أي ناصر المؤمنين المتقين الشرك وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
[45.20]
قوله تعالى: { هذا بصائر للناس وهدى ورحمة }؛ أي هذا القرآن عظات للناس وعبرة وبيان لهم من الضلالة ونجاة من العذاب، { لقوم يوقنون }؛ أنه من الله تعالى.
[45.21-22]
قوله تعالى: { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات }؛ قيل: إن هذه الآية نزلت في ثلاث نفر من المشركين؛ وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، بارزوا عليا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم يوم بدر، كانوا يقولون لهم: لئن كان محمد حقا في الآخرة لتفضل عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا.
ومعنى الآية: أحسب الذين { اجترحوا } اكتسبوا { السيئات } المعاصي { أن نجعلهم } في الآخرة { كالذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وعملوا الصالحات } من الصلاة والزكاة.
وتم الكلام، ثم قال: { سوآء محياهم ومماتهم } ، ارتفع (سواء) على أنه خبر مبتدأ مقدم، تقديره: محياهم ومماتهم سواء، والضمير فيهما يعود إلى القبيلتين المؤمنين والكافرين، يقول المؤمن مؤمن في محياه ومؤمن في مماته، والكافر كافر في حياته ومماته. والمعنى: إن المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه، يريد محيا القبيلتين ومماتهم سواء.
ومن قرأ (سواء) بالنصب جعله مفعولا ثانيا، فجعله على تقدير: فجعل محياهم ومماتهم سواء، يعني أحسبوا أن حياتهم وموتهم كحياة المؤمنين وموتهم؛ كلا؛ وقوله تعالى: { سآء ما يحكمون }؛ أي بئس ما يقضون حين يرون أن لهم في الآخرة ما للمؤمنين، { وخلق الله السموت والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون }.
[45.23]
قوله تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه }؛ وذلك أن أهل مكة كانوا يعبدون الحجر والخشب، فإذا رأوا ما هو أحسن منه، رموا بالأول وعبدوا الثاني، فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم، قال قتادة: (هو الكافر لا يهوى ما شاء إلا ركبه، يبنون العبادة على الهوى لا على الحجة، فأنزل الله هذه الآية: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } ). قال الحسن: (اتخذ إلهه هواه لا يعرف إلهه بعقله وإنما يعرفه بهواه).
وقوله تعالى: { وأضله الله على علم }؛ أي خذله على ما سبق في عمله أنه ضال قبل أن يخلقه، { وختم على سمعه }؛ فلم يسمع الهدى، وعلى { وقلبه }؛ فلم يعقل الهدى، { وجعل على بصره غشاوة }؛ أي ظلمة فهو لا يبصر الهدى به. قوله تعالى: { فمن يهديه من بعد الله }؛ أي من يهديه من بعد إضلال الله له، { أفلا تذكرون }؛ فتعرفوا قدرته على ما يشاء.
[45.24]
قوله تعالى: { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا }؛ أي نموت نحن ويحيى آخرون ممن يأتون بعدنا، وقال الزجاج: (معناه نحيي ونميت، والواو للاجتماع) والقائلون بهذا زنادقة قريش.
قوله تعالى: { وما يهلكنآ إلا الدهر }؛ أي إلا طول العمر واختلاف الليل والنهار، { وما لهم بذلك من علم }؛ أي لم يقولوه على علم علموه، بل قالوا ضلالا شاكين.
قوله تعالى: { إن هم إلا يظنون }؛ وكان هذا القول من زنادقتهم الذين كانوا ينكرون الصانع الحكيم، ويزعمون أن الزمان ومضي الأوقات هو الذي يحدث هذه الحوادث، يموت قوم ويحيا قوم.
[45.25-27]
فيه بيان أنهم كانوا يتعلقون بالحجج الباطلة، ولو تأملوا لعلموا أن دلائل معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أوكد مما كانوا يطلبون.
[45.28]
قوله تعالى: { وترى كل أمة جاثية }؛ أي وترى أهل كل دين باركة على الركب متهيئة للحساب والجزاء، مترقبة لما يصنع بها، كما ينحني بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، { كل أمة تدعى إلى كتابها }؛ أي إلى صحائف أعمالها، يقال لهم: { اليوم تجزون ما كنتم تعملون }؛ في دار الدنيا من الخير والشر.
[45.29-31]
قوله تعالى: { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون }؛ يعني كتاب الحفظ يقرؤونه فيدلهم على ما عملوا، فكأنه ينطق كما يقال: نطق الكتاب بتحريم الخمر، وقوله { بالحق } أي بالعدل، فيه حسناتهم وسيئاتهم، وقوله تعالى { إنا كنا نستنسخ } أي نأمر الملائكة بنسخ ما عملتم وتبيينه بيانا شافيا وتثبيته عليكم.
وما بعدها هذا ظاهر المعنى: { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين * وأما الذين كفروا أفلم تكن ءايتى تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين }.
[45.32-33]
قوله تعالى: { وإذا قيل إن وعد الله حق }؛ لبعث، { والساعة لا ريب فيها }؛ أي القيامة كائنة من غير شك، { قلتم ما ندري ما الساعة }؛ أنكرتموهم وأظهرتم الشك فقلتم: { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين }؛ ومن قرأ (والساعة) بالنصب فهو عطف على (وعد) { وبدا لهم }؛ في الآخرة، { سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }؛ في الدنيا؛ أي ظهر لهم قبائح أعمالهم حين عاينوا ذلك في كتابهم الذي أحصى عليهم كل قليل وكثير.
[45.34]
قوله تعالى: { وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين }؛ أي نتركم في النار، ونترك مراعاتكم وحفظكم، ولا نحفظكم من العذاب كما لم تحفظوا حق الله، وتركتم الإيمان والعمل بلقاء هذا اليوم. والنسيان ضد الحفظ، وقد يكون للترك.
[45.35]
قوله تعالى: { ذلكم بأنكم اتخذتم ءايت الله هزوا }؛ أي ذلك العذاب عليكم بسبب أنكم اتخذتم كتاب الله ورسوله استهزاء، { وغرتكم الحياة الدنيا }؛ حتى قلتم لا بعث ولا حساب، { فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب رضاهم، ولا يقالون؛ لأنه لا يقبل في ذلك اليوم استقالة وقد انقطعت المعاينة فلا يجابون، ولا يقبل لهم في " ذلك " اليوم عذر ولا توبة.
[45.36-37]
قوله تعالى: { فلله الحمد رب السموت ورب الأرض رب العالمين }؛ أي لله الشكر على عظيم نعمائه على الخلائق كلهم، { وله الكبريآء في السماوات والأرض }؛ وهو المختص بالكبرياء في السماوات والأرض، وله العظمة والجبروت فيهما، { وهو العزيز }؛ في ملكه وسلطانه، { الحكيم }؛ في قضائه وأمره له وحده في أعلى مراتب التعظيم لأنه سبحانه لا يجوز عليه صفة النقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يقول الله: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدة منها ألقيته في جهنم ".
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-3]
قوله تعالى: { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }؛ قد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { ما خلقنا السموت والأرض وما بينهمآ إلا بالحق }؛ ظاهر المعنى، { وأجل مسمى }؛ ينتهي إليه وهو يوم القيامة تنتهي إليه السماوات والأرض، وهذا إشارة إلى فنائهما وانقضائهما.
قوله تعالى: { والذين كفروا عمآ أنذروا معرضون }؛ أي معرضون عما خوفوا به من القرآن، ولا يتدبرون ولا يتفكرون.
[46.4]
قوله تعالى: { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله }؛ من الملائكة والأصنام، وتدعون أنها آلهة، { أروني ماذا خلقوا من الأرض }؛ أي أخبروني ماذا خلقوا من الأرض، لأن الخالق هو الذي يستحق العبادة، { أم لهم شرك في السموت } أم لهم نصيب في خلق السماوات، فذلك ما أشركتموهم في عبادة الله تعالى، { ائتوني بكتاب من قبل هذآ }؛ القرآن فيه برهان ما تدعون، { أو أثارة من علم }؛ معناه ائتوني ببقية من علم المتقدمين، { إن كنتم صادقين }.
وقيل: الأثارة؛ والأثرة - بإسكان الثاء - والأثرة - بفتحها - معناها: الرواية من العلماء، يقال: فلان يأثر الحديث عن فلان، ومنه قوله تعالى:
إن هذآ إلا سحر يؤثر
[المدثر: 24]، والعلم المأثور هو المروي.
[46.5]
قوله تعالى: { ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة }؛ أي أبعد ذهابا عن الصواب ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب دعاء ولو دعاه، { إلى يوم القيامة } يعني الأصنام، { وهم عن دعآئهم غافلون } أي عن دعاء من دعاها؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تبصر.
[46.6]
قوله تعالى: { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعدآء وكانوا بعبادتهم كافرين } معناه: وإذا جمع الناس يوم القيامة صارت الأصنام أعداء لمن عبدها في الدنيا، كما قال تعالى:
ويوم القيامة يكفرون بشرككم
[فاطر: 14]، وقال:
تبرأنآ إليك ما كانوا إيانا يعبدون
[القصص: 63].
[46.7-8]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هذا سحر مبين }؛ ويقولون: إن محمدا أتى به من نفسه، وهو قوله: { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا }؛ أي لايقدرون أن يردوا عني عذابه، فكيف أفتري على الله لأجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني إن افتريت عليه شيئا؟ وهو قوله تعالى: { هو أعلم بما تفيضون فيه }؛ أي الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب به والقول فيه إنه سحر وكهانة، { كفى به شهيدا بيني وبينكم }؛ أي القرآن جاء من عند الله، { وهو الغفور الرحيم }؛ في تأخير العذاب عنكم حين لم يعجل عليكم بالعقوبة.
قال الزجاج: (هذا دعاء لهم؛ أي التوبة، معناه: أن من أتى من الكبائر بمثل ما أتيتم به من الافتراء على الله ثم تاب، فالله غفور رحيم، أي غفور له رحيم به).
[46.9]
قوله تعالى: { قل ما كنت بدعا من الرسل }؛ أي ما أنا أول رسول أرسل إلى الناس، قد بعث قبلي كثير من الرسل. والبديع من كل شيء المبتدع، { ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم }؛ أيتركني بمكة أو يخرجني منها أو يخرجكم. وقيل: معناه: لا أدري أموت أم أقتل، ولا أدري أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أو يخسف بكم.
وهذا إنما هو في الدنيا، فأما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة، وأن من كذبه في النار، ألا تراه يقول: { إن أتبع إلا ما يوحى إلي }؛ وقد أوحي إليه ما يصير إليه الكافر والمؤمن في الآخرة. وقيل: معناه: وما أدري ماذا أومر به في الكفار من حرب أو سلم، وما أدري ماذا يفعل الله بهم أيعاجلهم الله بالعقوبة أو يؤخرها عنهم.
قوله تعالى: { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } أي ما أتبع إلا القرآن ولا أبتدع من عندي شيئا، { ومآ أنا إلا نذير مبين }؛ أي أنذركم وأبين لكم الشرائع.
[46.10]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم }؛ ثم اختلفوا، والمراد بشاهد في هذه الآية فقال من ذهب إلى أن هذه السورة مكية كلها: أن المراد به يامين بن يامين، فإن عبدالله بن سلام ممن أسلم بالمدينة، وهذا شاهد قدم بمكة فآمن. وقيل: إن المراد بالشاهد موسى عليه السلام كان من بني إسرائيل، وكان شهادته للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة من تصديق القرآن، ومثل القرآن هو التوراة.
وقال ابن عباس: (هو عبدالله بن سلام)، روي:
" أنه قدم من الشام، فأتى النبي عليه السلام ليلا وشهد أن نعته مكتوب في التوراة فآمن به، ثم قال: أخبئني في البيت، ثم أحضر اليهود سلهم عني، فإنهم سيذكرونني عندك ويخبرونك بمكاني من العلم.
ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخبر اليهود وقال لهم: " ما تقولون في عبدالله ابن سلام؟ " فقالوا: عالمنا وابن عالمنا، وسيدنا وابن سيدنا، وبقية المتقدمين منا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم إن آمن بي تؤمنوا أنتم؟ " فقالوا: إنه لا يفعل ذلك.
فكرر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد أخرى حتى قالوا: نعم، فخرج عبدالله بن سلام وقال لهم: ألم يأتكم في التوراة عن موسى عليه السلام: إذا رأيتم محمدا فأقرئوه مني السلام وآمنوا به؟ ثم جعل يوقفهم من التوراة على مواضع منها فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وكانوا يستكبرون ويجحدون، فقال عبدالله بن سلام للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، أرسلك بالهدى ودين الحق. فقالوا: ما كنت أهلا لما أثنينا عليك، ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك ".
ومعنى الآية: أخبروني ماذا تقولون إن كان القرآن من عند الله، أنزله وكفرتم أيها المشركون، { وشهد شاهد من بني إسرائيل } عبدالله بن سلام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته { على مثله } أي عليه أنه من عند الله، والمثل صلة. وقوله تعالى: { فآمن } يعني الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان به، وجواب (إن) محذوف؛ وتقديره: أليس قد ظلمهم.
قوله تعالى: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين }؛ وقيل: تقدير الجواب: { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } أفأمنوا عقوبة الله، { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } يعني المعاندين بعد الوضوح والبيان يحرمهم الله الهداية.
[46.11-14]
قوله تعالى: { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونآ إليه }؛ أي قال الكفار من بني أسد وغطفان وأشجع لمن أسلم من جهينة ومزينة وأسلم وغفار: (لو كان هذا) يعنون القرآن (خيرا) مما نحن عليه لما سبق رعاة الشاة ونحن أرفع منهم، { وإذ لم يهتدوا به }؛ مع ظهوره ووضوحه، { فسيقولون } مع ذلك، { هذآ }؛ القرآن؛ { إفك قديم }؛ كذب متقادم أتبعه محمد وأحباؤه في عصره.
يقول الله تعالى: { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة }؛ أي ويشهد للقرآن كتاب موسى قبله إمام يقتدى ونجاة من العذاب لمن آمن به، { وهذا كتاب مصدق } وهذا القرآن مصدق لما في التوراة. وقوله تعالى: { لسانا عربيا }؛ أي بلسان عربي تعقلونه. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال، ويكون (لسانا) توكيدا، كما يقال: جاءني زيد رجلا صالحا، يريد: جاءني زيد صالحا، وقال الزجاج: (قوله تعالى: { إماما } نصب على الحال) تقديره: وتقدمه كتاب موسى عليه السلام إماما.
وفي الكلام محذوف تقديره: إماما ورحمة فلم يهتدوا به، يدل عليه قوله تعالى: { وإذ لم يهتدوا به } وذلك أن المشركين لم يهتدوا بالتوراة فيتركوا عبادة الأصنام ويعرفوا منه صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: { وهذا كتاب مصدق }؛ غير الكتب التي قبله { لسانا عربيا } منصوب على الحال؛ أي مصدق لما بين يديه عربيا. ومعنى قوله تعالى: { كتاب موسى إماما } أي يقتدى به؛ يعني التوراة، { ورحمة } من الله للمؤمنين به؛ قيل: القرآن.
وعن عروة عن أبيه قال: (كانت زنيرة أمرأة ضعيفة البصر، فلما أسلمت كان الأشراف من مشركي قريش يستهزئون بها ويقولون: والله لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة. فأنزل الله تعالى فيها وفي أمثالها { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذآ إفك قديم } أي أساطير الأولين).
قوله تعالى: { لينذر }؛ أي أنزلناه لتخوف، { الذين ظلموا } ، يعني مشركي مكة. ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب. وقوله تعالى: { وبشرى } أي وهو بشرى، { للمحسنين }؛ الموحدين، يعني الكتاب.
قوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزآء بما كانوا يعملون }.
[46.15]
قوله تعالى: { ووصينا الإنسان بولديه إحسانا }؛ في الآية دليل على أنها نزلت في رجل بعينه؛ لأن الناس كلهم لا يكون حملهم ورضاعهم ثلاثون شهرا، ولا يقولون إذا بلغوا أربعين سنة: { رب أوزعني }. وجاء في التفسير: أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قوله تعالى: { حملته أمه كرها }؛ أي على كلفة ومشقة، وأراد به الحمل في البطن إذا ثقل عليها الولد، قوله تعالى: { ووضعته كرها }؛ يريد شدة الطلق ومشقة الوضع. قرأ أهل الكوفة { إحسانا } وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه.
قوله تعالى: { وحمله وفصله ثلثون شهرا }؛ أي حمله ستة أشهر ورضاعه أربعة وعشرون شهرا. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعته أحد وعشرين شهرا). وقال مقاتل وعطاء والكلبي: (هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وكان حمله وفصاله هذا القدر)، ويدل على صحة هذا قوله تعالى: { حتى إذا بلغ أشده... } ثم إلى آخر الآية. وقرأ الحسن ويعقوب (وفصله) بغير ألف.
قوله تعالى: { حتى إذا بلغ أشده }؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: (أشده بضع وثلاثون سنة) وقال: (ثماني عشرة سنة). وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام، وكان لا يفارقه في أسفاره وحضوره. فلما { وبلغ أربعين سنة }؛ ونبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربه، { قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك }؛ أي ألهمني شكر نعمتك، { التي أنعمت علي }؛ بالهداية والإيمان حتى لم أشرك بك شيئا، { وعلى والدي }؛ أبي قحافة عثمان بن عمر وأمي أم الخير بنت صخر بن عمر، قال علي رضي الله عنه: (هذه الآية نزلت في أبي بكر أسلم أبواه جميعا، ولم يجتمع أحد من الصحابة والمهاجرين أبواه غيره، وأوصاه الله بهما).
قوله تعالى: { وأن أعمل صلحا ترضه }؛ فأجاب الله وأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه، واستجاب الله في ذريته حين قال: { وأصلح لي في ذريتي }؛ فلم يبق له ولد ولا والد إلا آمنوا بالله وحده، قال موسى بن عقبة: (لم يدرك أربعة النبي صلى الله عليه وسلم هم وأبناؤهم إلا هؤلاء: أبو قحافة، وأبو بكر، وابنه عبدالرحمن، وأبو عتيق بن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه). قال البخاري: (أبو عتيق أدرك النبي صلى الله عليه وسلم).
قوله { وأصلح لي في ذريتي } أي اجعل أولادي كلهم صالحين وقوله: { إني تبت إليك وإني من المسلمين }؛ أي إني أقبلت إلى كل ما يجب وأسلمت لك بقلبي ولساني وإني من المخلصين، فأسلم أبوه وأمه ولم يبق له ولد إلا أسلم.
[46.16]
قوله تعالى: { أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا }؛ أي أهل هذه الصفة الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا وهو الطاعات، { ونتجاوز عن سيئاتهم }؛ التي سبقت في الجهل، وقوله تعالى: { في أصحاب الجنة وعد الصدق }؛ أي يدخلون في أصحاب الجنة وعدا صدقا من الله تعالى: { الذي كانوا يوعدون }؛ به في الدنيا على ألسنة الرسل.
[46.17]
قوله تعالى: { والذي قال لوالديه أف لكمآ }؛ نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر، قال لأبيه وأمه قبل أن يسلم حين كانا يدعوانه إلى الإسلام، ويخبرانه بالبعث بعد الموت وهو يأبى ويسيء القول لهما، فقال لهما: { أف لكمآ } أي أف قذفا لكما، كما يقال عند شم الرائحة الكريهة، { أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي }؛ أي تخوفانني أن أخرج من القبر وقد مضت القرون من قبل ولم يخرج أحد منهم من قبره، أين عبدالله بن جدعان؟ أين فلان وأين فلان؟! { وهما يستغثيان الله }؛ يعني أبويه يدعوان الله له بالهدى ويقولان له: { ويلك آمن }؛ أي صدق بالبعث، { إن وعد الله حق } ، بالبعث، { فيقول ما هذآ إلا أساطير الأولين }؛ فيقول لهما: ما هذا الذي تقولان إلا أكاذيب الأولين.
والاستغاثة بالله دعاؤك الله ليغيثك على ما نابك، والجار محذوف، تقديره: يستغيثان بالله. وقرأ القراء والأعمش (أن أخرج) بفتح الألف وضم الراء.
قال ابن عباس: (فلما ألح عليه أبواه في دعائه إلى الإيمان؛ قال لهما: أحيوا لي عبدالله بن جدعان، فإنه كان شيخا صدوقا، وأحيوا لي عامر بن كعب، ومشايخ من قريش حتى أسألهم عن ما تقولان، وأخرجا لي بعض آبائي وأجدادي من قبورهم لأسألهم، فإن صدقوكما آمنت).
[46.18]
قوله تعالى: { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم }؛ أي وجبت عليهم كلمة العذاب في أمم قد مضت من قبلهم، { من }؛ كفار، { الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين }؛ الإيمان. ثم أسلم عبدالرحمن وحسن إسلامه، وكان من أفاضل المؤمنين.
وذهب الحسن إلى أن الآية نزلت في كافر عاق لوالديه مكذب للبعث، مات على كفره، قال: (لأن قوله { أولئك الذين حق عليهم القول } إعلام بأنهم لا يؤمنون) وإلى هذا القول ذهب الزجاج.
ويروى أن معاوية كتب إلى مروان: (لتأخذن على الناس البيعة ليزيد) فكره ذلك عبدالرحمن وقال: (أتأخذون البيعة لأبنائكم؟!) قال مروان: هذا الذي يقول الله فيه
والذي قال لوالديه أف لكمآ
[الحاقة: 17] فلما بلغ ذلك عائشة فقالت: (كذب مروان! والله ما هو به، إنما أنزل الله ذلك في رجل من بني أمية، ولو شئت أن أسميه لسميته لكم، ولكن أشهد أن الله لعن أباك وأنت في صلبه، فهو في قصص من لعنه الله).
[46.19]
قوله تعالى: { ولكل درجت مما عملوا }؛ أي ولكل الفريقين من الكافرين والمؤمنين منازل مما عملوا، { وليوفيهم أعملهم وهم لا يظلمون }؛ أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد في سيئاتهم.
[46.20]
قوله تعالى: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار }؛ أي وأنذرهم يوم يعرض كفار مكة على النار ويقال لهم: { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا }؛ أي أذهبتم أموالكم، وقيل: قوتكم وشبابكم في لذاتكم في الدنيا، لا في طلب رضى الله، بل في وجوه محرمة، وانتقصتم بطيباتكم في الدنيا، { واستمتعتم بها }؛ (ف) ليس لكم، { فاليوم }؛ ها هنا حسنات، وإنما { تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق }؛ أي الهوان الشديد باستكباركم في الأرض بالباطل، وخروجكم من أمر الله تعالى إلى المعصية.
وعن ابن عباس:
" أن عمر رضي الله عنه قال: للنبي صلى الله عليه وسلم: (أدع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع الله على فارس والروم وهم لا يعبدون الله تعالى) فقال صلى الله عليه وسلم: " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " ".
وروي:أن عمر رضي الله عنه قال:
" دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة وإنه لمضطجع على حصير، وإن بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، فسلمت ثم جلست، فقلت: يا رسول الله؛ أنت نبي الله وصفوته وخيرته من خلقه، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر؛ إن أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنا أخرت لنا طيباتنا " ".
وعن سالم بن عبدالله بن عمر كان يقول: (والله ما نعبأ بلذات العيش بأن نأمر بصغار المعزى فتسمط لنا، ونأمر بلباب الحنطة فيخبز لنا، ونأمر بالنبيذ فينبذ لنا، حتى إذا صار مثل عين يعقوب أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا أردنا أن نستبقي طيباتنا لأنا سمعنا الله عز وجل يذكر قوما فقال { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها }.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: (رأى عمر رضي الله عنه في يدي لحما معلقا فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: اشتهيت لحما فاشتريته، فقال عمر: وكلما اشتهيت يا جابر اشتريت؟ أما تخاف هذه الآية { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا }.
وعن محمد بن ميسرة قال: قال جابر بن عبدالله: (اشتهى أهلي لحما فشريته ومررت بعمر، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهى أهلي اللحم فاشتريت هذا اللحم بدرهم، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه، أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا } ).
وعن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة قال: (دخل عتبة بن فرقد على عمر رضي الله عنه وهو يكوم كعكا شاميا ويتفوق لبنا حازرا فقال: يا أمير المؤمنين لو أمرت أن يصنع لك طعام ألين من هذا؟ فقال: يا ابن فرقد؛ أترى أحدا من العرب أقدر على ذلك مني؟ فقال: ما أحد أقدر على ذلك منك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: سمعت الله تعالى عير أقواما فقال { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } والله لو شئت أن أكون أصلبكم طعاما وأحسنكم ثيابا لفعلت، ولكن أستبقي دنياي لآخرتي).
وعن حفص بن أبي العاص قال: (كنت أتغدى مع عمر رضي الله عنه فيجيء بخبز متقطع يابس غليظ، فجعل يأكل منه ويقول لنا: كلوا، فجعل يعتذر فقال: ما لكم لا تأكلون؟ قلنا: لا نأكله والله يا أمير المؤمنين، ما نستطيع لكنا نرجع إلى طعام ألين من طعامكم هذا.
فقال: يا ابن العاص أما ترى أني قادر أن آمر بدقيق أن ينخل بخرقة، وأن يخبز في تنور، وآمر بعناق سمينة فليسمط عنها شعرها ثم تخرج مصلية كأنها كذا وكذا، أما ترى أني أقدر أن أعمل إلى صاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أنش عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال؟ قال: قلت والله يا أمير المؤمنين لجاد ما نعت العيش؟ قال: أجل والله الذي لا إله إلا هو، لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في العيش، ولكني سمعت الله تعالى يقول: { أذهبتم طيبتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها }.
وكان يقول: (لا تنخلوا الدقيق فإنه كله طعام)، وكان عمر رضي الله عنه يتغدى اللبن والقديد، وعن الزهري رضي الله عنه قال: (حدثني عبدالله بن عباس عن عمر رضي الله عنه أنه حدثه:
" أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده على حصير مرمولا قد أثر الشريط في جنبه متوسدا وسادة من أدم حشوها ليف، قال عمر رضي الله عنه: فالتفت في البيت فوالله ما رأيت شيئا يرد البصر إلا إهابا جلودا معطوفة قد سطع ريحها، فبكيت وقلت: يا رسول الله، إنك خيرة الله من خلقه، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير، فاستوى رسول الله صلى الله علي وسلم جالسا وقال: " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أؤلئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " ".
وروي: أن عمر رضي الله عنه قدم من الشام، فصنع له طعام طيبا فقال: هذا لنا! فما لنفوس المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة يا أمير المؤمنين، فاغرورقت عينا عمر بالدموع، ثم قال: لئن كان حظنا في الخطام وهم في رياض الجنة، لقد باينونا بونا بعيدا).
وروي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة، فرآهم يرقعون ثيابهم بالأدم، ما يجدون لها رقاعا، فقال: " هل أنتم اليوم خير من قوم يعدو أحدهم في خلة ويروح في أخرى، ويعد عليه بجفنة ويراح بأخرى " ".
قوله تعالى: { فاليوم تجزون عذاب الهون } يعني يوم القيامة تجزون العذاب الذي فيه دلكم وخزيكم، { وبما كنتم تفسقون }.
[46.21]
قوله تعالى: { واذكر أخا عاد }؛ أي اذكر يا محمد لقومك أهل مكة أخا عاد وهو هود عليه السلام، { إذ أنذر قومه بالأحقاف }؛ أي إذ خوف قومه وحذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا بالأحقاف، وهو جمع حقف وهو المستطيل المعوج من الرمل، قال عطاء: (رمال بلاد الشعر)، وقال مقاتل: (هي باليمن في حضرموت)، وقال ابن عباس: (واد بين عمان ومهرة) وإلى مهرة ينسب الجمال المهرية.
وقال قتادة: (ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشعر، وكانوا من قبيل إرم). وقال ابن زيد: (الأحقاف: ما استطال من الرمل وأشرف كهيئة الجبل، ولم يبلغ أن يكون جبالا، وجمعه حقف، والأحقاف جمع الجمع).
قوله تعالى: { وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه }؛ أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده إلى قومهم، { ألا تعبدوا إلا الله }؛ أي لم يبعث رسولا قبل هود ولا بعده إلا بالأمر بعبادة الله وحده، وهذا كلام اعترض بين إنذار هود وكلامه لقومه، ثم عاد إلى كلام هود لقومه بقوله: { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم }؛ تقدير الكلام: إذ أنذر قومه بالأحقاف وقال: إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، ويحتمل أن يكون المراد بهذا العذاب عذاب الدنيا، ويحتمل عذاب الآخرة.
[46.22-23]
قوله تعالى: { قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا }؛ أي قالوا: يا هود أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا بالإفك، { فأتنا بما تعدنآ }؛ من العذاب، { إن كنت من الصادقين } إن العذاب نازل بنا، { قال }؛ لهم هود: { إنما العلم } بمجيء العذاب، { عند الله }؛ يعلم متى يأتيكم العذاب وأنا { وأبلغكم مآ أرسلت به }؛ إليكم من الوحي والإنذار، والمعنى: إنما أنا مبلغ، والعلم بوقت العذاب عند الله، { ولكني أراكم قوما تجهلون }؛ أي أمر الله وعقابه.
[46.24]
قوله تعالى: { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم }؛ معناه: فلما رأوا العذاب الذي خوفوا به عارضا كهيئة السحاب تستقبل أوديتهم التي كانوا إذا رأوا الغيم من نواحيها كانت سنتهم سنة خصب، ظنوه سحاب خير، { قالوا هذا عارض ممطرنا }؛ أي هذا الذي وعدتنا به سحاب قد عرض في السماء ممطرنا، فقال لهم هود: { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم }؛ أي ريح الدبور جاءت من قبل المغرب فيها عذاب أليم وجيع لكم.
قال المفسرون: كان عاد قد حبس عنهم المطر أياما، فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استكبروا وقالوا: { هذا عارض ممطرنا } غيم فيه مطر، فقال هود: { بل هو ما استعجلتم به } ثم بين ما هو؛ فقال: { ريح فيها عذاب أليم }.
[46.25]
قوله تعالى: { تدمر كل شيء بأمر ربها }؛ أي تهلك كل شيء مرت به من الناس والدواب والأموال { فأصبحوا }؛ يعني عادا؛ { لا يرى إلا مساكنهم }؛ قال الزجاج: (معناه لا ترى شيئا إلا مساكنهم، والمعنى: لا تر أيها المخاطب إلا مساكنهم، لأن السكان والأنعام بادت بالريح).
قال ابن عباس: (فلم يبق إلا هود ومن معه)، وعن ابن عباس قال: (لما رأوا العارض قاموا، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرعاة والمواشي تطير به الريح بين السماء والأرض، فرأوا الفساطيط والضعائن ترفعها الرياح كأنها جراد فدخلوا بيوتهم وأغلقوا على أنفسهم الأبواب، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم واحتملتهم إلى عنان السماء، ثم هرعتهم وأهالت الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما لهم أنين، ثم أمر الله بعد ذلك فاحتملتهم فرمت بهم في البحر).
وقرأ الأعمش وحمزة وعاصم ويعقوب (فأصبحوا لا يرى) بياء مضمومة (إلا مساكنهم) بالرفع أي لا ترى الناس إلا مساكنهم لأنهم كانوا تحت الرمل.
قوله تعالى: { كذلك نجزي القوم المجرمين }؛ أي هكذا نجزي من أجرم جرمهم بمثل ما جازيناهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الريح فزع، وقال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به " وكان يقوم ويقعد ويتغير لونه، فيقول له: ما لك يا رسول الله؟! فيقول: " إني أخاف أن تكون مثل قوم هود حيث قالوا: هذا عارض ممطرنا " ".
[46.26]
قوله تعالى: { ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه }؛ الخطاب لأهل مكة، والمعنى: ولقد مكنا عادا فيما لم نمكنكم فيه من البسطة في المال والولد وزيادة القوة والقامة وشدة الأبدان، قال المبرد: (ما) في قوله (فيما) بمنزلة (الذي) و(إن) بمنزلة (ما).
وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة }؛ أي قلوبا يعقلون بها فلم ينفعهم ذلك من عذاب الله إذ نزل بهم بسبب أنهم، { فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله }؛ دلائل الله، { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }؛ أي نزل بهم عقاب استهزائهم بالرسل، أخبر الله أنهم أعرضوا عن قبول الحجج والتفكر فيما يدلهم على التوحيد ما أعطاهم الله من الحواس التي تدرك بها الأدلة.
[46.27]
قوله تعالى: { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى }؛ هذه زيادة التخويف لأهل مكة، والمعنى: ولقد أهلكنا ما حولكم من أهل القرى مثل عاد وقوم تبع باليمن وقوم صالح بالحجر وقوم لوط على طريقكم بالشام، أراد بالقرى المهلكة باليمن والشام. قوله تعالى: { وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون }؛ وبينا لكم الآيات في كل وجه لكي ترجعون من الكفر إلى الإيمان، وقيل: معناه: وبينا الآيات لعل أهل القرى يرجعون.
[46.28]
قوله تعالى: { فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة }؛ فهلا حين نزل بهم العذاب أعانهم الذين عبدوهم من دون الله ليقربوهم إلى الله في زعمهم، وقوله تعالى: { بل ضلوا عنهم }؛ أي بل ما نفعوهم، وقوله تعالى: { وذلك إفكهم }؛ أي إن دعاءهم آلهتهم هو إفكهم وافتراؤهم، { وما كانوا يفترون }؛ يعني اتخاذهم الآلهة من دون الله هو كذبهم وافتراؤهم على الله أنها آلهة.
[46.29-30]
قوله تعالى: { وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن }؛ معناه: اذكر إذ وجهنا نفرا من الجن؛ وذلك
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما آيس من إسلام أهل مكة، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام، فلما انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ووصل بطن نخلة، قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمر به نفر من أشراف جن نصيبين من اليمن فاستمعوا القرآن ".
قال ابن عباس: (كانوا تسعة نفر)، وقال الكلبي ومقاتل: (كانوا سبعة صرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستمعوا منه وينذروا قومهم). وهو قوله تعالى: { يستمعون القرآن }.
فلما انتهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لبعض: اسكتوا حتى تستمعوا قراءته، وذلك معنى قوله تعالى: { فلما حضروه قالوا أنصتوا }؛ أي فلما فرغ من التلاوة قال بعضهم لبعض: اسكتوا حتى تستمعوا قراءته، وإنما قالوا ذلك لأنهم سمعوا شيئا لم يسمعوا مثله، فلما فرغ من القرآن انصرفوا إلى قومهم مخوفين لهم بالقرآن، وذلك معنى قوله تعالى: { فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } ، أي فلما فرغ من التلاوة انصرفوا إلى قومهم منذرين؛ أي محذرين إياهم عذابا إن لم يؤمنوا، وهذا قاله سعيد بن جبير وجماعة من أئمة الخبر.
وقال آخرون: بل
" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله، فقرأ عليهم القرآن، فصرف الله نفرا من الجن وجمعهم له، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم تبعني " فأطرقوا، فقال لهم مرة ثانية، فأطرقوا، فقال لهم مرة ثالثة، فاتبعه عبدالله بن مسعود، قال عبدالله بن مسعود: (لم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون، وحط لي ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال: " لا تخرج منه حتى أدعو إليك ".
ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النور تهوي، وسمعت لفظا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته سودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما سمعت صوته، ثم طفقوا يتقطعون أمثال قطع السحاب ذاهبين.
ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، وقال: " أنمت؟ " قلت: لا والله؛ ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تفزعهم بعصاك تقول: " اجلسوا " فقال: " لو خرجت لم آمن عليك أن يختطفك بعضهم " ثم قال: " هل رأيت؟ " فقلت: نعم؛ رأيت رجالا سودا.
قال: " أولئك جن نصيبين، سألوني المتاع فمنعتهم بكل عظم حليل وروثة وبعرة " فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقذرها للناس علينا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث، فقلت: يا رسول الله صلى عليه وسلم وما يعني ذلك منهم؟ قال: " إنهم لا يجدون عظما إلا يجدون عليه لحمة يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ".
فقلت: يا رسول الله سمعت لفظا كثيرا شديدا، قال: " إن الجن تدارت في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إلي فقضيت بينهم ". ثم قال لي رسول الله: " هل معك ماء؟ " فقلت: يا رسول الله معي نبيذ تمر في إداوة، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ به وقال: " ثمرة طيبة وماء طهور " ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب يحلون ويظعنون ".
قوله تعالى: { فلما حضروه قالوا أنصتوا } أي قال بعضهم لبعض: أنصتوا، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كان يقع بعضهم على بعض من شدة رغبتهم في سماع القرآن، قوله تعالى: { فلما قضي } أي فلما فرغ من تلاوة القرآن، وقرأ لاحق ابن حميد (قضى) بفتح القاف والضاد يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم جعل النبي صلى الله عليه وسلم أولئك النفر من الجن رسلا إلى قومهم.
وأسماء أولئك النفر: شاضر وماصر ومنشي وماشي والأحقب وعمرو بن جابر وزوبعة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن كان في نفر من أصحاب رسول الله يمشون، ورفع لهم إعصار، ثم جاء إعصار أعظم منه، ثم انقشع فإذا حية قتيل، فعمد منا رجل إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها! فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرو بن جابر؟! فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر! فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع مؤمنيهم، فقتل عمرو بن جابر وهو الحية التي رأيتم وهو النفر من الجن الذين استمعوا القرآن).
وذكر: أن حية دخلت على رجل من التابعين وهي تلهث عطشى فسقاها، ثم إنها ماتت فدفنها، فأتي من الليل فسلم عليه وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا من جن نصيبين اسمه زوبعة.
وبلغنا في فضائل عمر بن عبد العزيز أنه كان يمشي بأرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها، فاذا قائل يقول يا سرق اشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح، فقال من أنت رحمك الله؟ فقال رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات.
وقد قتلت عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قد قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لو كان مؤمنا ما دخل على حريم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة، وما جاء إلا ليستمع الذكر، فأصبحت عائشة فزعة واشترت رقابا فأعتقتهم.
ويقال: الذين جاءوا ليستمعوا القرآن كانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قوله تعالى: { قالوا يقومنآ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم }.
[46.31]
قوله تعالى: { يقومنآ أجيبوا داعي الله وآمنوا به }؛ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم }؛ فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلا من الجن، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فواقفوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، فقال بعضهم: أمرهم ونهاهم.
واختلف العلماء في مؤمني الجن، فقال بعضهم: ليس لمؤمني الجن إلا نجا منهم من النار، وتأولوا فيه، قوله: { يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم } ، وعن الليث أنه (الجن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم). وقال آخرون: إذا كان عليهم العقاب في الإساءة، وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس، وعن الضحاك قال: (الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون).
[46.32]
قوله تعالى: { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض }؛ أي لا يعجز الله ولا يفوته، { وليس له من دونه أوليآء أولئك }؛ الذين لا يجيبون الرسل، { في ضلال مبين }.
[46.33]
قوله تعالى: { أولم يروا أن الله الذي خلق السموت والأرض ولم يعي بخلقهن }؛ أي لم يضعف عن إبداعهن، { بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير }؛ والمعنى: أليس الله بقادر على إحياء الموتى فيما ترون يا أهل مكة، فإن خلق السماوات والأرض بما فيهن من العجائب والبدائع أعظم من إعادة الحياة في الميت بعد ما كانت فيه.
[46.34]
الآية ظاهرة المعنى.
[46.35]
قوله تعالى: { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل }؛ وهم خمسة أولوا الكتب والشرائع: محمد صلى الله عليه وسلم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم، وقيل: إنهم رسل سلخوا من جلودهم فلم يجزعوا.
وقيل: أراد بأولي العزم الأنبياء كلهم، وحرف (من) على هذا القول لتبيين الجنس كما في قوله
فاجتنبوا الرجس من الأوثان
[الحج: 30]، قال ابن يزيد: (كل الرسل كانوا أولي عزم).
وقال بعضهم: كل الأنبياء أولوا عزم إلا يونس عليه السلام، ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وسلم نهي عن أن يكون مثله لخفة وعجلة ظهرت منه حين ولى مغاضبا لقومه، فابتلاه الله بالحوت فابتلعه، وقيل: أولوا العزم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر، قال الله تعالى فيهم
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده
[الأنعام: 90].
وقال مقاتل: (أولوا العزم ستة: نوح صبر على أذى قومه وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر على البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر). قال ابن عباس: (العزم: الصبر)، وقال القرظي: الرأي والصواب).
وقال الحسن: (أولوا العزم أربعة: إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم السلام، أما إبراهيم فعزمه أنه قيل له: أسلم، فقال أسلمت لرب العالمين، وابتلي في ولده وماله ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما ابتلي به، قال الله تعالى:
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن
[البقرة: 124]، وقال الله تعالى:
وإبراهيم الذي وفى
[النجم: 37]، وأما موسى فعزمه أن قومه كلما قالوا له: إنا لمدركون، قال: كلا إن معي ربي سيهدين. وأما داود عليه السلام فعزمه أنه أخطأ خطيئة فبكى عليها أربعين سنة. وأما عيسى فعزمه أن لم يضع لبنة على لبنة زهدا في الدنيا).
فكأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل؛ أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم عليه السلام، وكن واثقا بنصر مولاك مثل ثقة موسى عليه السلام مهتما بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود عليه السلام، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى عليه السلام، فقال الشاعر:
أولوا العزم نوح والخليل كلاهما
موسى وعيسى والنبي محمد
فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والله لأصبرن كما صبر أولوا العزم من الرسل، وأجهد كما جهدوا، ولا قوة إلا بالله ".
وقوله تعالى: { ولا تستعجل لهم }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ضجر بعض الضجر من كفرهم، وأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم الإسلام، فأمر بالصبر وترك الاستعجال، ثم أخبر أن العذاب منهم قريب، فقوله: { كأنهم يوم يرون ما يوعدون }؛ من العذاب في الآخرة؛ { لم يلبثوا إلا ساعة من نهار }؛ أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والقبور كأنه ساعة، لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلا.
وتم الكلام، ثم قال تعالى: { بلاغ }؛ أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ عن الله إليك، والبلاغ بمعنى التبليغ بلغكم محمد صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل. قوله تعالى: { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون }؛ أي لا يقع العذاب إلا بالعاصين الخارجين عن أمر الله تعالى، وقيل: معناه: ما يهلك إلا مشرك أو منافق.
[47 - سورة محمد]
[47.1]
معناه: الذين كفروا بتوحيد الله وصدوا الناس عن الإسلام، يعني كفار مكة أضل أعمالهم؛ أي أبطلها وأذهبها فلا أجر لهم فيها وكأنها لم تكن، وأراد بأعمالهم إطعامهم الطعام وصلتهم الأرحام.
[47.2]
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد }؛ أي صدقوا بالقرآن الذي نزل على محمد، { وهو الحق }؛ أي الصدق، { من ربهم كفر عنهم سيئاتهم }؛ أي غفرها لهم فلا يحاسبون عليها، { وأصلح بالهم }؛ أي حالهم، قال المبرد: (البال: الحال). وقال ابن عباس: (عصمهم أيام حياتهم حتى لم يمنعوا).
وقيل: معناه: وأظهرهم على أعدائهم وقواهم من ضعفهم، قال ابن عباس رضي الله عنه: (الذين كفروا صدوا عن سبيل الله أهل مكة، والذين آمنوا وعملوا الصالحات للأنصار).
[47.3]
قوله تعالى: { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل }؛ أي ذلك الإضلال والإصلاح باتباع الذين كفروا الشرك، { وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم }؛ واتباع المؤمنين التوحيد والقرآن، فالشرك هو الباطل، والتوحيد هو الحق والقرآن. قوله تعالى: { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم }؛ معنى أن من كان كافرا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنا كفر الله سيئاته وأصلح باله.
[47.4-5]
قوله تعالى: { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب }؛ أي إذا لقيتموهم في القتال فاضربوا رقابهم؛ أي اقتلوهم، والمعنى: فاضربوا الرقاب ضربا، وهذا مصدر أقيم مقام الأمر، كما في قوله
فتحرير رقبة
[البقرة: 92]، وقيل: انتصب قوله { فضرب } على الإغراء.
قوله تعالى: { حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق }؛ أي حتى إذا أكثرتم القتل فيه وغلبتموهم وبالغتم في قتلهم فاستوثقوهم بالأسر، ولا يكون الأسر إلا بعد المبالغة في القتل، كما قال الله
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض
[الأنفال: 67]، والمعنى حتى إذا قهرتموهم وغلبتموهم وصاروا أسارى في أيديكم فشدوا وثاقهم كيلا يهربوا، يقال: أوثقه أي إيثاقا ووثاقا إذا شد أسره لئلا يفلت.
قوله تعالى: { فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع الحرب أوزارها }؛ معناه: فإما أن تمنوا عليهم بعد أن تأسروهم وتطلقوهم بغير فداء، وإما تطلقوهم يفدون بأسراكم عندهم أو بمال، والمعنى فإما بعد أن تأسروهم إما مننتم عليهم منا فأطلقتموهم بغير عوض، وإما أن تفدوا فداء.
وعن ابن عباس قال: (هذه الآية منسوخة بقوله
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5]). وإليه ذهب أبو حنيفة وقال: (لا يجوز المن على الأسير ولا الفداء بالمال ولا بغير المال من الأسارى، ولا يباع السبي من أهل الحرب).
ولم يختلف أهل التفسير في أن التوبة نزلت بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين العلماء في جواز قتل الأسير وجواز قسمة الأسارى بين المسلمين إذا لم يكن الأسارى من العرب، وإنما اختلفوا في جواز المن عليهم في مفاداتهم بالمال أو النفس.
قال الشافعي: (يجوز المن عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي عزة الشاعر يوم بدر على أن لا يقاتل، فرجع إلى مكة ثم عاد بعد ذلك للقتال فأسر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله). فأجاب أصحابنا عن هذا إنما من عليه كما من العرب، وكان لا يجوز استرقاقه، وقال أبو يوسف ومحمد: (تجوز مفاداة الأسير).
قوله تعالى: { حتى تضع الحرب أوزارها } أي حتى يضع أهل الحرب أسلحتهم، والأوزار في اللغة: الأثقال، وقيل: المراد بالأوزار هنا الآثام، وقال ابن عباس: (معنى قوله { حتى تضع الحرب أوزارها } أي حتى لا يبقى أحد من المشركين). وقال مجاهد: (حتى لا يكون دين إلا الإسلام).
وقيل: حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا فلا يبقى دين غير الإسلام، ولا يعبد وثن. وقال الفراء : (معناه: حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم).
وقيل: معناه: حتى تضع أهل الحرب آلتها وعدتها، وآلتهم أسلحتهم فيمسكوا عن الحرب، وحرب القوم المحاربون كالركب والشرب، ويقال أيضا للكراع: أوزار، قال الشاعر وهو الأعشى:
وأعددت للحرب أوزارها
رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومعنى الآية: أتخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على الأديان كلها، ويدخل فيه أهل مكة طوعا وكرها، ويكون الدين كله لله، فلا يحتاج إلى قتال ولا إلى جهاد، وذلك عند نزول عيسى عليه السلام من السماء فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، يلقى الذئب الشاة فلا يتعرض، ولا تكون عداوة بين اثنين.
قوله تعالى: { ذلك ولو يشآء الله لانتصر منهم }؛ أي ذلك الذي أمرتم به من الجهاد، ولو يشاء الله لانتقم منهم؛ أي من الكفار من غير أن يأمركم بقتالهم، المعنى: ولو يشاء الله لانتصر من الكفار بإهلاكهم، ويعذبهم بما شاء، { ولكن ليبلوا بعضكم ببعض }؛ ولكن يأمركم بالحرب ليبلو بعضكم بعضا، قال ابن عباس: (يريد من قتل من المؤمنين صار إلى الثواب، ومن قتل من المشركين صار إلى العذاب)، يعني: ولكن ليتعبدكم بالقتال تعويضا للثواب.
قوله تعالى: { والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم }؛ قرأ العامة (والذين قاتلوا في سبيل الله) وقرأ أبو عمرو (قتلوا) بضم القاف وكسر التاء مخففا، وقرأ الحسن بضم القاف وكسر التاء مشددا وقرأ عاصم والجحدري: (قتلوا) بفتح القاف والتاء، والوجه قراءة العامة لأنها تشمل من قاتل قتل أو لم يقتل، وقراءة أبي عمرو تخص المقتولين، ولأنه تعالى قال { سيهديهم ويصلح بالهم } قال ابن عباس: (سيهديهم إلى أرشد الأمور، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا)، وهذا لا يحسن في وصف المقتولين.
ومعنى الآية: والذين قتلوا في سبيل الله يوم بدر فلن يبطل الله ثواب أعمالهم كما أبطل ثواب أعمال الكفار؛ و { سيهديهم } إلى ثوابه وجنته، { ويصلح بالهم }؛ في النعيم.
[47.6]
قوله تعالى: { ويدخلهم الجنة عرفها لهم }؛ أي بينها لهم حتى عرفوها من غير استدلال، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تعرفوا إلى منازلهم. وقيل: معناه: طيبها لهم من العرف وهي الرائحة الطيبة، وطعام معرف؛ أي مطيب.
[47.7-9]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم }؛ أي إن تنصروا دين الله ونبيه صلى الله عليه وسلم ينصركم بالتوفيق والكفاية والإظهار على الأعداء، { ويثبت أقدامكم }؛ عند القتال بتقوية قلوبكم، { والذين كفروا فتعسا لهم }؛ أي فمكروها لهم وسوءا، والتعس في اللغة: الانحطاط والعثور، يقال: تعس يتعس إذا انكب وعثر، قال ابن عباس: (يريد: في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار).
وانتصب قوله { فتعسا لهم } على الدعاء؛ أي أتعسهم الله تعسا، قال الفراء: (هو نصب على المصدر)، وأصل التعس في الدواب والناس، وهو أن يقال للعاثر: تعسا؛ إذا لم يريدوا قيامه، وضده لعا إذا أرادوا قيامه.
قوله تعالى: { وأضل أعمالهم }؛ أي أبطلها وأحبطها لأنها كانت في طاعة الشيطان. قوله تعالى: { ذلك بأنهم كرهوا مآ أنزل الله }؛ أي ذلك التعس والإضلال بأنهم كرهوا ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وبين من الفرائض من الصلاة والزكاة، { فأحبط أعملهم }؛ لأنها لم تكن في إيمان.
[47.10]
قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض }؛ يعني أهل مكة، { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم }؛ من الأمم المكذبة، { دمر الله عليهم }؛ منازلهم وأهلكهم بالعذاب، والتدمير: الهلاك، ثم يوعد مشركي مكة فقال: { وللكافرين أمثالها }؛ إن لم يؤمنوا؛ أي أمثال عقوبتهم وأشباه عقوبات من كان قبلهم.
[47.11]
قوله تعالى: { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا }؛ أي ذلك النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين بأن الله ولي الذين آمنوا يلي أمرهم ويتولى نصرهم، { وأن الكافرين لا مولى لهم }؛ أي ليس لهم ولي يعينهم ولا ناصر ينجيهم من العذاب.
[47.12]
قوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ ظاهر المعنى، { والذين كفروا يتمتعون }؛ في الدنيا، { ويأكلون كما تأكل الأنعام }؛ تأكل وتشرب ولا تدري ما في غد، كذلك الكفار لا يلتفتون إلى الآخرة، { والنار مثوى لهم }؛ أي منزلهم ومقامهم ومصيرهم.
وأراد بالتمتع التعيش في الدنيا في الجهل، وشبه أكل الكافر بأكل الأنعام لأنهم يأكلون للشبع لا يهمهم ما في غد، والمؤمن همته مصروفة إلى أمر دينه يأكل للقيام بعبادة الله لا للشبع، ويكون قصده من التمتع إعفاف نفسه وزوجته، وابتغاء ما كتب من الولد.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، فإن كان لا بد: فثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للنفس "
وقال الحسن: (وهو أنكم إذا أشبعتم عصيتم شئتم أو أبيتم).
[47.13]
قوله تعالى: { وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم }؛ هذا تحذير لأهل مكة بقوله: كم أهلكنا من أهل قرية من كان أكثر عددا وأبسط ملكا ويدا من أهل قريتك؛ يعني مكة التي أخرجتك أهلها، { فلا ناصر لهم }؛ فلم يكن لهم ناصر ينجيهم من عذاب الله، فحذر قومك يا محمد مثل حالتهم.
[47.14]
قوله تعالى: { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله }؛ معناه: حال من كان على نصره من ربه ويقين كحال من زين له قبح عمله فيعبدوا الأوثان، { واتبعوا أهواءهم }؛ في عبادتها.
[47.15]
قوله تعالى: { مثل الجنة التي وعد المتقون }؛ أي صفة الجنة التي وعد المتقون الشرك والكبائر، { فيهآ أنهار من مآء غير آسن }؛ أي متغير طعمه وريحه، يقال: آسن الماء يأسن أسونا وأسنا إذا تغير، وهو الذي لا يشتهيه من نتنه فهو آسن وأسن، مثل حاذر وحذر. وقيل: إن الآسن ما يعرض أن يتغير، والأسن بالقصر، ما تغير في الحال، وقرأ ابن كثير (آسن) بالقصر.
قوله تعالى: { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه }؛ أي لم يحمض كما تحمض وتتغير ألبان الدنيا؛ لأنه لم يخرج من ضروع الأنعام، { وأنهار من خمر لذة للشاربين }؛ بخلاف خمر الدنيا؛ فإنها لا تخلو من المرارة، وعن ما يحدث فيها من أنواع المرض ومن العقوبة في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: { وأنهار من عسل مصفى }؛ أي مصفى من الأقذار، من العكر والكدر، بخلاف عسل الدنيا الذي يكون من بطون النحل، فإنه لا يخلو من الشعر وغيره. قال مقاتل: (أنهار الجنة المذكورة تتفجر من الكوثر إلى الجنة). ويقال : إنها تتفجر من تحت شجرة طوبى.
قوله تعالى: { ولهم فيها من كل الثمرات }؛ أي ولهم في الجنة من جميع أنواع الثمرات والفواكه مما علموه وما لم يعلموه، ومما سمعوه وما لم يسمعوه، ظاهرها مثل باطنها، لا يخالطها قشر ولا رذال ولا نوى.
قوله تعالى: { ومغفرة من ربهم }؛ أي ولهم مع ذلك النعيم المقيم مغفرة من ربهم لذنوبهم، فلا يذكر شيء من معاريضهم في الجنة؛ لأن الله تعالى قد سترها عليهم فهي بمنزلة ما لم يعمل، { كمن هو خالد في النار وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم }؛ أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار { وسقوا مآء حميما } شديد الحر تستعر عليه جهنم منذ خلقت { فقطع أمعآءهم } في الجوف من شدة الحر، والأمعاء: جميع ما في البطن من الحوايا، واحدها معاء، كما قال تعالى في آية أخرى:
يصهر به ما في بطونهم والجلود
[الحج: 20].
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا شربه صاحبه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره "
وعن محمد بن عبدالله الكاتب قال: قدمت من مكة، فلما صرت إلى طيزناباذ ذكرت بيت أبي نؤاس:
بطيزناباذ كرم ما مررت به
إلا تعجبت ممن شرب الماء
فهتف به هاتف أسمعه ولا أراه:
في الجحيم حميم ما تجرعه خل
ق إلا ما بقي له بطن أمعاء
[47.16]
قوله تعالى: { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم الجمعة وعاب المنافقين في خطبته، فلما خرجوا من المسجد قالوا لعبدالله بن مسعود: ماذا قال محمد على المنبر الساعة؟ فقد سمعنا قوله ولم نفهمه، كأنهم كانوا يسمعون سماع تهاون واستخفاف.
والآنف: الساعة؛ من قولك: استأنفت الشيء إذا ابتدأته، والمعنى: ومن هؤلاء الكفار من يستمع إليك: المنافقون يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونا منهم بذلك وتثاقلا، فإذا خرجوا قالوا للذين أوتوا العلم من الصحابة: مذا قال محمد الآن، وذلك أنهم سألوا ابن مسعود وابن عباس عما قال النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وتهاونا وهذا كالرجل يستمع إلى غير سماع استخفافا، ثم يقول بعد ذلك لأصحابه: أليس الذي كان يقول فلان.
قوله تعالى: { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم }؛ أي ختم عليها بالكفر فلا يعقلون الإيمان، والطبع هو الختم على القلب بسمة تعلمها الملائكة بأنه جاحد لا يفلح أبدا، { واتبعوا أهوآءهم }؛ في الكفر والنفاق.
[47.17]
قوله تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم }؛ أي والذين اهتدوا بالإيمان بك والاستماع إلى خطبتك زادهم الله بصيرة في دينهم، وألهمهم ترك المعاصي واجتناب المحارم. ويجوز أن يكون زادهم إعراض المنافقين هدى، وأعطاهم الله ثواب تقواهم في الآخرة.
[47.18]
قوله تعالى: { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة }؛ أي ما ينتظر هؤلاء الكفار والمنافقون إلا أن تأتيهم الساعة فجأة على غرة منهم، { فقد جآء أشراطها }؛ أي علاماتها، ومن أشراطها خروج نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنها تأتيهم بغتة في آخر الزمان، قال صلى الله عليه وسلم:
" بعثت أنا والساعة كهاتين "
، ومن أشراطها أيضا بيع الحكم وقطيعة الرحم.
قوله تعالى: { فأنى لهم إذا جآءتهم ذكرهم }؛ أي من أين لهم التوبة؟ ومن أين لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة حين لا ينفعهم ذلك.
[47.19]
قوله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره. والمعنى: إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا قاضي حينئذ إلا الله، ولا مخرج يومئذ إلا إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان علم ذلك، ولكن هذا خطاب يدخل فيه الناس.
والمعنى: من علم أن لا إله إلا الله فليقم على العلم ويثبت عليه، قوله تعالى: { واستغفر لذنبك }؛ أي استعصم من مواقعة ذنب يوجب الاستغفار. ويقال: معناه: استغفر لصغائرك؛ فإنه لا صغيرة مع الإصرار، { وللمؤمنين والمؤمنات }؛ واستغفر لذنوب المؤمنين والمؤمنات، وهذا إكرام من الله لهذه الأمة حين أمر نبيهم أن يستغفر لهم وهو الشفيع المجاب فيهم.
وقوله تعالى: { والله يعلم متقلبكم ومثواكم }؛ أي متصرفاتكم في الدنيا من أول ما ينقلبون من ظهر إلى بطن إلى أن تخرجوا من دنياكم إلى قبوركم، ويعلم أين مثواكم في الآخرة، قال عكرمة: (معناه: والله يعلم متقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، ومثواكم مقامكم في الأرض). وقال مقاتل: (والله يعلم منتشركم بالنهار ومأواكم بالليل). والمعنى: إنه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها.
[47.20]
قوله تعالى: { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة }؛ قال ابن عباس: (إن المؤمنين سألوا ربهم أن ينزل سورة فيها ثواب القتال في سبيل الله). وقيل: إن المؤمنين كانوا يشتاقون إلى تواتر نزول القرآن، وكانوا يستوحشون إذا أبطأ الوحي، وهو قولهم { لولا نزلت سورة } أي هلا نزلت سورة، يقول الله تعالى: { فإذآ أنزلت سورة محكمة }؛ أي بالأحكام التي لا يجري عليها النسخ، يعني لا ينسخ منها شيء، قال قتادة: (كل سورة يذكر فيها الجهاد فهي محكمة وهي أشد السور على المنافقين).
والمعنى: أن المؤمنين قالوا: هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجهاد، قال الله تعالى: { فإذآ أنزلت سورة محكمة } { وذكر فيها القتال }؛ أي إيجاب القتال، { رأيت الذين في قلوبهم مرض }؛ وهم المنافقون، { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت }؛ عند ذكر القتال كنظر الذي هو في غشيان من الموت، كراهة منهم للقتال مخافة أن يقتلوا في الحرب. قال الزجاج: معناه: رأيت المنافقين يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون إليك نظرا شديدا، شزرا بتحديق شديد كراهة منهم للجهاد نظر المغشي عليه من الموت.
قوله تعالى: { فأولى لهم }؛ كلمة وعيد لهم، ومعناه: وليهم المكروه والعقاب أولى لهم، وهذا كما قال تعالى:
أولى لك فأولى
[القيامة: 34]، قال الأصمعي: (معنى قوله: أولى لك فأولى؛ أي وليك وقاربك ما تكره).
[47.21]
قوله تعالى: { طاعة وقول معروف }؛ ابتداء وخبره محذوف، تقديره: طاعة وقول معروف أمثل وأحسن، والمعنى على هذا: أن الله تعالى قال: لو أطاعوا وقالوا قولا معروفا كان أمثل وأحسن. ويجوز أن يكون هذا متصلا بما قبله على معنى: فأولى لهم طاعة لله ولرسوله وقول معروف بالإجابة والطاعة.
قوله تعالى: { فإذا عزم الأمر }؛ فإذا وجد الأمر ولزم فرض القتال، نكلوا وكذبوا فيما وعدوك من أنفسهم، { فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم }؛ أي لو صدقوا الله في إيمانهم وجهادهم لكان خيرا لهم من المعصية والكراهة والمخالفة.
[47.22-23]
قوله تعالى: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض }؛ أي فلعلكم إن انصرفتم من محمد صلى الله عليه وسلم وعن ما يأمركم به أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر والفساد في الأرض من وأد البنات، ومن قتل بعضكم بعضا كفعل الجاهلية، وقيل: معناه: لعلكم إن توليتم أمر هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسدوا في الأرض بالقتال، { وتقطعوا أرحامكم }؛ بالبغي، فيقتل قريش بني هاشم، وبنو هاشم قريشا.
وذهب كثير من الناس إلى أن هؤلاء بنو أمية، والمعنى: فلعلكم إن أعرضتم عن الإيمان والقرآن، وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض فتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفساد وقتل بعضكم بعضا، وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء بعد ما جمعكم الله بالاسلام والألفة، فتعودوا إلى ما كنتم عليه في جاهليتكم من القتل والبغي وقطيعة الرحم. وقال المسيب بن شريك: (معناه: فهل عسيتم إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم، نزلت في أمية بن خلف وفي بني هاشم).
قرأ يعقوب وأبو حاتم: (وتقطعوا) مخففا من القطع اعتبارا بقوله
ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل
[البقرة: 27]، وقول الحسن (وتقطعوا) بفتح الحروف المشددة اعتبارا بقوله
فتقطعوا أمرهم بينهم
[المؤمنون: 53]، وقرأ الكافة (وتقطعوا) بضم التاء وتشديد الطاء وكسرها من القطع على التكثير لأجل الأرحام.
ثم ذم الله تعالى من يريد ذلك فقال تعالى: { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم }؛ فلا يسمعون الحق ولا يهتدون للرشد، يعني المنافقين الذين يفسدون في الأرض، ويقطعون أرحامهم، ونسبهم الله تعالى إلى الصمم والعمى لإعراضهم عن أمر الله تعالى، وأما في مشاهدتهم فإنهم لا يكونون صما ولا عميانا، ومثله قوله تعالى:
وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله
[الأحقاف: 26].
[47.24]
قوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن }؛ فتعرفوا ما يوعدون للمتمسك بالقرآن، { أم على قلوب أقفالهآ }؛ يعني الطبع على القلب، وهذا استعارة لإغلاق القلب عن معرفة الإسلام والقرآن، وكأن على قلوبهم أقفالا تمنعهم من الاستدلال.
[47.25]
قوله تعالى: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }؛ قال قتادة: (هم كفار أهل الكتاب، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه ويجدون صفته في كتابهم، ونعته مكتوبا عندهم). فمعناه: إن الذين رجعوا كفارا من بعد ما ظهر لهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته في كتابهم، { الشيطان سول لهم }؛ أي زين لهم القبيح، { وأملى لهم }؛ الله تعالى؛ أي أمهلهم موسعا عليهم ليتمادوا في طغيانهم، ولم يعجل عليهم بالعقوبة.
ويحسن الوقوف على قول: { سول لهم } لأنه فعل الشيطان، والإملاء فعل الله تعالى، على قول الحسن: لا يحسن الوقوف؛ لأنه يقال في تفسيره: { وأملى لهم }: مد لهم الشيطان في العمل.
وقرأ أبو عمرو (وأملي لهم) على ما لم يسم فاعله، وهو حسن للفصل بين فعل الشيطان وفعل الله تعالى، ونعلم يقينا أنه لا يؤخر أحد مدة أحد ولا يوسع فيها إلا الله تعالى. وقرأ مجاهد (وأملي) بضم الهمزة وإسكان الياء على معنى: وأنا أملي لهم.
[47.26]
قوله تعالى: { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر }؛ معناه: ذلك الإملاء لليهود بأنهم قالوا للمشركين: سنطيعكم في بعض الأمور؛ أي في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا ذلك فيما بينهم، فأخبر الله تعالى عنهم وأعلم أنه يعلم ذلك فقال: { والله يعلم إسرارهم }؛ وقرأ بكسر الألف على المصدر؛ أي إسرارهم بكسر الألف، والمعنى: والله يعلم أسرار اليهود والمنافقين.
[47.27-28]
قوله تعالى: { فكيف إذا توفتهم الملائكة }؛ أي كيف يكون حالهم إذا قبضت أرواحهم الملائكة، { يضربون وجوههم وأدبارهم }؛ وظهورهم بمقامع الحديد عند قبض الأرواح.
ثم ذكر سبب ذلك الضرب: { ذلك بأنهم اتبعوا مآ أسخط الله وكرهوا رضونه فأحبط أعملهم }؛ بما كتموا من التوراة، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان { فأحبط أعملهم } ، معنى ما كان من بر وصلة وخير عملوه في غير الإيمان بكفرهم.
[47.29]
قوله تعالى: { أم حسب الذين في قلوبهم مرض }؛ أظن المنافقون؛ { أن لن يخرج الله أضغانهم }؛ يعني أن لن يتلوا شيئا يظهر فيه حقدهم للمسلمين وضغنهم عليهم، فأمر الله تعالى بالقتال والنفقة، فبخل المنافقون بالمال فظهر نفاقهم، والضغن: هو الحقد الذي يضمره الإنسان بقلبه ولا يظهره لغيره.
[47.30]
قوله تعالى: { ولو نشآء لأريناكهم }؛ أي لعرفناكهم وأعلمناكهم، { فلعرفتهم بسيماهم }؛ أي بالعلامة القبيحة التي نظهرها عليهم، قال الزجاج: (معناه: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة؛ وهي السيماء؛ فلعرفتهم بتلك العلامة).
وقوله تعالى: { ولتعرفنهم في لحن القول }؛ أعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلعه على نفاقهم في فحوى كلامهم، فكان لا يتكلم بعد نزول الآية منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرف بكلامه وبما يعتذرون إليه به من المعاذير الكاذبة.
قال المفسرون معنى قوله { في لحن القول } أي في فحوى القول، ومعناه: ومقصده، ويقال: فلان لحن بحجته ولاحن في كلامه، وفي الحديث:
" لعل بعضكم ألحن بحجته "
أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام، وإذا قيل: لحن في كلامه أو ألحن؛ فمعناه: ذهب بالكلام إلى خلاف جهة الصواب. ولحن القارئ إذا ترك الإعراب الصواب وعدل عنه. وقوله تعالى: { والله يعلم أعمالكم }؛ أي يعلم ظواهرها وبواطنها.
[47.31]
قوله تعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين }؛ لنعاملكم معاملة المختبر فيما نأمركم به من الجهاد حتى نميز المجاهدين منكم من غيرهم، والصابرين في القتال من الذين لا يصبرون.
وإنما كنى بالعلم عن التمييز؛ لأنه يتوصل بالعلم إلى التمييز، فكان الله تعالى عالما بكل منهم قبل أن خلقهم، ولكن أراد بالعلم في هذه الآية العلم الذي يجب به الجزاء، وهو علم الشهادة لا علم الغيب.
وقوله تعالى: { ونبلوا أخباركم }؛ أي نختبر بما نأمركم به وننهاكم عنه أخباركم وأحوالكم حتى يظهر للناس، وكان الفضيل بن عياض إذا أتى على هذه الآية بكى وقال: (إنك إن بلوت أخبارنا وفضحتنا وهتكت أستارنا ).
[47.32]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله }؛ يعني بني قريظة والنضير، { وشآقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى }؛ في التوراة، { لن يضروا الله شيئا }؛ بتركهم الهدى، إنما يضرون أنفسهم، { وسيحبط أعمالهم }؛ فلا يريدون لها في الآخرة ثوابا.
[47.33]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } أي أطيعوا الله في الفرائض وأطيعوا الرسول في السنن، { ولا تبطلوا أعمالكم } بالشرك والربا، فإن الشرك يبطل العمل، قال الله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65]، والرياء يحبط العمل بالمعصية، وقيل: بالعجب، وقال عطاء: (بالشك والنفاق)، قال الحسن: (بالمعاصي والكبائر).
ويستدل بظاهر هذه الآية: على أن من شرع في قربة نحو الصلاة والصوم والحج، لم يجز له الخروج منها قبل إتمامها؛ لما فيه من إبطال عملها.
[47.34]
قوله تعالى: { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم }؛ وإنما ذكر الموت على الكفر؛ لأن الكفار قبل الموت يفرض أن يؤمن فيغفر له، وإذا مات على كفره حبط عمله حبوطا لا يلحقه التدارك والتلافي.
[47.35]
قوله تعالى: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }؛ أي لا تعطفوا عن قتال الكفار وتدعوهم إلى الصلح { وأنتم الأعلون } بما وعدكم الله من النصر في الدنيا والثواب والكرامة في الأخرى. قال الزجاج: (منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا) { وأنتم الأعلون } أي الغالبون.
قوله تعالى: { والله معكم }؛ أي بالعون والنصرة على عدوكم بثوابي حفظكم، { ولن يتركم أعمالكم }؛ أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم، وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز للإمام أن يدعوا الكفار إلى الصلح، ولا أن يجيبهم إلى الصلح في حال ما تكون الغلبة للمسلمين، فإن الواو في قوله: { وأنتم الأعلون } واو الحال، كما يقال: لا تسلم على فلان وأنت راكب؛ أي في حال ما كنت راكبا.
[47.36-37]
قوله تعالى: { إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو }؛ أي الدنيا بما فيها من زينتها باطل وغرور، تفنى وتزول عن قريب، واللعب: العمل الذي لا تتعلق به فائدة، واللهو: هو الفرح الذي لا يبقى.
قوله تعالى: { وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم }؛ أي تؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وتتقوا الفواحش والكبائر، يؤتكم ثواب أعمالكم كافيا وافيا، { ولا يسألكم أمولكم }؛ كلها في الإنفاق في سبيله، بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم الجنة، ونظيره قوله تعالى:
مآ أريد منهم من رزق
[الذاريات: 57].
وقيل: معناه: ولا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أموالكم، وقيل: معناه: ولا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها، إنما يسألكم ربع العشر، فطيبوا نفسا، قوله تعالى: { إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم }؛ معناه: إن يجهدكم في المسألة، ويلح عليكم ويسألكم جميع أموالكم، فبخلوا بها ويمنعوا الواجب.
وقوله: { ويخرج أضغانكم } التي تحدث في القلوب بسبب البخل، قال قتادة: (قد علم الله أن في مسألة المال خروج الأضغان). وقوله { أضغانكم } أي بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله، ولكن فرض عليكم يسيرا وهو ربع العشر. والإحفاء في المسألة: هو الإلحاح والتشديد. وقيل: معنى الآية: ولا يسألكم أموالكم لنفسه، بل يسألكم ليؤتكم أجوركم.
[47.38]
قوله تعالى: { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله }؛ يعني ما فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، { فمنكم من يبخل }؛ بذلك، { ومن يبخل }؛ بذلك، { فإنما يبخل عن نفسه }؛ عاقبة بخله تعود عليه في العقاب، فيصير بخله على نفسه، { والله الغني }؛ عن ما عندكم من الأموال وعن أعمالكم، { وأنتم الفقرآء }؛ وأنتم محتاجون إلى الله وإلى ما عنده من الجزاء والرحمة والمغفرة، ثم يأمركم بالإنفاق لحاجته ولا لجر منفعة ولا لدفع مضرة، وإنما أمركم بذلك لمصالحكم.
قوله تعالى: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم }؛ أي وإن تعرضوا عن طاعة الله يستبدل قوما لا يعصون ويفعلون ما يؤمرون، وقيل: معناه: وإن تعرضوا عن الإسلام وعما افترض عليكم من حق يستبدل قوما غيركم أطوع لله منكم، { ثم لا يكونوا أمثالكم }؛ بل يكون أمثل منكم وأطوع. قال الكلبي: (هم كندة والنخع)، وقال الحسن: (هم العجم)، قال عكرمة: (هم فارس والروم).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنه سئل عن هذه الآية؛ فقيل: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله في صدر سلمان الفارسي - وقيل: على فخذه - وقال: " هذا وأصحابه ". وقال: " والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان معلقا بالثريا لتناوله رجال من أبناء فارس " "
قال الكلبي في قوله: { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } قال: (لم يتولوا ولم يستبدل بهم).
[48 - سورة الفتح]
[48.1]
{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا }؛
" وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة يريد العمرة، وتجهز معه ناس كثير من أصحابه ومعهم الهدي يسوقونها مع أنفسهم، فبلغ ذلك قريشا فاستعدوا ليصدوه وأصحابه، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فزع المشركون بنزوله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي ليأتيهم بالخبر، فلما أتاهم عروة أبصر قوما عمارا لم يأتوا للقتال، فرجع إلى قريش وأخبرهم بذلك وهو كاره لصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكعبة، فشتموه واتهموه.
ثم بعثوا رجلين آخرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ابعثوا الهدي في وجوههما ولبوا " فلما رجع الرجلان إليهم قالا لهم مثل ما قال عروة. فبعثوا سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي، قال صلى الله عليه وسلم حين أبصره: " هذا رجل فاجر، وما أرى إلا قد سهل أمركم ". فلما أتاهم سهيل تذاكروا المهادنة والموادعة.
فلما كان في وسط النهار، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبيعة، فنادى مناديه في العزم: " الآن روح القدس جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بالبيعة " فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جلس تحت الشجرة، فبايعه المسلمون وكادت تلك البيعة في صدور المشركين.
فلما أمسوا وهم على ذلك، رمى رجل من المشركين بالليل في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثار المسلمون بالحجارة فرموا أعداء الله حتى أدخلوهم البيوت وهزموهم بإذن الله. وأقبل أشرافهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هذا لم يكن عن رضى منا ولا ممالأة، وإنما فعله سفهاؤنا ، وعرضوا الصلح على النبي صلى الله عليه وسلم فقبله، ولم يعطهم المشركون الصلح حتى قهرهم المسلمون في غير قتال بالرمي بالحجارة.
فاصطلح الفريقان على أن يتوادعوا سنين، على أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تلك السنة، فمن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من المشركين لم يقبله حتى تنقضي المدة، ومن لحق بالمشركين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهو منهم. على أن المسلمين إذا شاؤا اعتمروا العام القابل في هذا الشهر الذي صدهم المشركون فيه، على أن لا يحملوا بأرضهم سلاحا.
فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكتبوا كتاب القضية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم، فوجد رجل من المسلمين من ذلك الشرط وجدا شديدا، فقالوا: يا رسول الله؛ من لحق بنا منهم لم نقبله، ومن لحق بهم منا فهو منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما من لحق بهم منا فأبعدهم الله، وأما من أرادنا منهم فسيجعل الله له مخرجا، وإن يعلم الله منه الصدق ينجيه منهم ".
فلما فرغوا من كتاب القضية، أقبل جندل بن سهيل وهو يرشف في قيوده، وكان أبوه قد أوثقه حين خشي أن يذهب إلى رسول الله، فجاء حتى وقع بين ظهران المسلمين؛ وقال: إني منكم وإني أعوذ بالله أن ترجعوني إلى الكفار.
فأراد رجال من المسلمين أن يمنعوه، وناشدهم سهيل بن عمرو العهد والميثاق! فقال صلى الله عليه وسلم: " خلوا بينهم وبينه؛ فسينجيه الله منهم ". فانطلق به أبوه، وكان ماء الحديبية قد قل من كثرة من مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بدلو من الماء، فتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمضمض ثم مجه في الدلو، ثم أمرهم أن يجعلوه في البئر، فامتلأت البئر ماء حتى جعلوا يغرفون منه وهم جلوس على شفة البئر، وكان هذا شأن الحديبية.
ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا وصيفا فوعدهم الله خيرا أن يفتحها لهم، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نزل قوله تعالى: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } ، والفتح المبين: ما كان من استعلاء المسلمين عليهم حتى غلبوهم بالحجارة وأدخلوهم بيوتهم، وتيسير الصلح أيضا من الفتح المبين وظهور النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر من الفتح.
قال: (وأنجى الله أبا جندل بن سهيل من أيديهم، وخرج منهم واجتمع إليه قريب من سبعين رجلا كرهوا أن يقعدوا مع المشركين، وعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبلهم حتى تنقضي المدة، فجعلوا يقطعون الطريق على المشركين، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه أن يقبضهم إليه، وقالوا: أنت في حل ممن اختارك علينا يا محمد؛ فإنهم إن يكونوا معك كان أهون علينا، فلحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم) ".
وعن قتادة قال: (بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بفتح مكة). ومعنى قوله تعالى: { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } يعني صلح الحديبية، وكان صلحا بغير قتال، قال الفراء: (والفتح قد يكون صلحا).
ومعنى الفتح في اللغة: فتح المغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودا متعذرا حتى فتح الله. قال جابر: (ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية). وقال الزهري: (لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم).
ويجوز أن يكون معنى الفتح: الإكرام بالنبوة والإسلام والأمر بدعوة الخلق إليهما. وقيل: معنى { فتحنا لك } أي قضينا لك بالنصر، ومنه المفتاح وهو القاضي، ومنه قوله تعالى:
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق
[الأعراف: 89] أي اقض بيننا.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالآية فتح مكة بالغلبة والقهر؛ لأن الصلح لا يسمى فتحا على الإطلاق، قال الشعبي: (بويع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بيعة الرضوان، فأظهره الله على خيبر في منصرفه، وظهرت الروم على فارس في ذلك الوقت)، والفتح في اللغة: هو الفرج المزيل للهم.
[48.2-3]
قوله تعالى: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر }؛ قال ابن الأنباري: (سألت أبا عباس عن اللام في قوله { ليغفر لك الله } ، فقال: هو لام كي، معناها: إنا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة حادث واقع حسن معنى (كي).
وقوله تعالى: { ما تقدم من ذنبك وما تأخر } المراد بالذنب ها هنا الصغائر، فأما الكبائر فالأنبياء معصومون منها أبدا؛ لأنهم الأمناء على الوحي والرسالة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تدمى قدماه، فقيل: يا رسول الله؛ أتصنع هذا وقد جاءك من الله أن قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا ".
قوله تعالى: { ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما }؛ أي بالنبوة والمغفرة، والمعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام. قوله تعالى: { وينصرك الله نصرا عزيزا }؛ أي ينصرك بالحجة والسيف على عدوك نصرا قويا لا ذل معه.
[48.4-5]
قوله تعالى: { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين }؛ قيل: السكينة هي ما أسكن الله قلوبهم من التعظيم لله ولرسوله والوقار لئلا تزعج نفوسهم لما يرد عليهم. وقوله تعالى: { ليزدادوا إيمنا مع إيمنهم }؛ أي ليزدادوا تصديقا إلى تصديقهم السابق. قال الكلبي: (لما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقا إلى تصديقهم).
قوله تعالى: { ولله جنود السموت والأرض }؛ أي جموع أهل السماوات والأرض، يعني الملائكة والجن والإنس والشياطين، { وكان الله عليما }؛ بمصالح خلقه، { حكيما }؛ فيما يأمرهم به وينهاهم عنه.
قال ابن عباس: (فلما نزل
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح: 1-2] قال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاك الله، فما لنا؟ فأنزل الله قوله تعالى: { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما }؛ أي نجاة عظيمة من النار وظفرا بالجنة.
[48.6]
قوله تعالى: { ويعذب المنافقين والمنافقات }؛ معناه: إنا فتحنا لك ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار وليعذب المنافقين من الرجال والمنافقات من النساء، وهم أظهروا الإيمان باللسان وأسروا الكفر من أهل المدينة، { والمشركين والمشركات }؛ من أهل مكة، { الظآنين بالله ظن السوء }؛ ومعنى ظنهم السوء: أنهم ظنوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا ينصر عليهم وأنهم هم الذين ينصرهم الله على رسوله، وذلك قبيح لا يجوز في صفة الله تعالى: وقوله: { عليهم دآئرة السوء }؛ أي العذاب والهلاك، { وغضب الله عليهم ولعنهم } أي وطردهم عن رحمته، { وأعد لهم جهنم }؛ في الآخرة، { وسآءت مصيرا }.
[48.7]
قوله تعالى: { ولله جنود السموت والأرض }؛ وليس على وجه التكرار؛ لأن الأول في أعانة المؤمنين، وهذا متصل بذكر المنافقين في الانتقام منهم، ومعنى ذلك: أن في الأول { ولله جنود السموت والأرض } فالله قادر على أن يسخرهم لينتقم بهم من أعدائه من كل ما دب ودرج من ذلك حتى البرغوث والعقرب؛ لأن الله لم يأمر المسلمين بالقتال لأجل هلاك المشركين، وإنما أمرهم بالقتال ليعوضهم بذلك جزيل الثواب الذي لا ينال إلا بالقتال، وها هنا متصل ذكر الانتقام من المنافقين.
وقوله تعالى: { وكان الله عزيزا حكيما }؛ أي لم يزل منيعا مستغنيا من الكفار، حكيما في أمره وقضائه.
[48.8]
قوله تعالى: { إنآ أرسلنك شهدا ومبشرا ونذيرا }؛ معناه: إنا أرسلناك يا محمد شاهدا على أمتك بتبليغ الرسالة، وقيل: شاهد على أقوالهم وأفعالهم فإنها تعرض عليه، { ومبشرا } بالجنة للمطيعين، { ونذيرا } أي مخوفا بالنار لمن عصى الله تعالى.
[48.9]
قوله تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه }؛ أي قرئ بالتاء في الأربعة على معنى قولهم: لتؤمن بالله ورسوله، وقرئ بالياء في الأربعة أيضا؛ يعني: من آمن به وصدقه، قوله تعالى: { وتعزروه } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي يعينوه وينصرونه بالسيف واللسان، وقرأ محمد بن السميقع: (وتعززوه) بزائين، وقوله { وتوقروه } أي وتعظموه وتبجلوه، وهذا وقف تام.
وقوله تعالى: { وتسبحوه }؛ أي وتسبحون الله عز وجل، { بكرة وأصيلا }؛ أي يصلون له بالغداة والعشي، وفي قراءة ابن عباس: (وتسبحوا الله بكرة وأصيلا).
[48.10]
قوله تعالى: { إن الذين يبايعونك } ، يعني بيعة الرضوان بالحديبية، { إنما يبايعون الله } بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يفروا ويقاتلوا، بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة استظل بها بالحديبية، وكان الذين بايعوه نحو ألف رجل وخمسمائة رجل، بايعوه على النصرة والنصح والسمع والطاعة، وأن لا يفروا من العدو.
ومعنى الآية: إن الذين يبايعونك يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا، إنما يبايعون في ذات الله، ليس أنت المراد بذلك، بل المراد به القيام بعبادة الله. وقيل: المراد بذلك أنهم باعوا الله أنفسهم بالجنة.
وقوله تعالى: { يد الله فوق أيديهم } ، أي نعمة الله في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، يعني إحسان الله إليهم بأن هداهم للإيمان أبلغ وأتم من إحسانهم إليك بالنصرة والبيعة، وقال ابن كيسان: (معناه: قوة الله ونصرته فوق أيديهم ونصرتهم؛ أي اتق بالله ونصرته لك لا بنصرتهم، وإن بايعوك)، وقال: معناه: يد الله في الثواب والوفاء لهم فوق أيديهم في الوفاء، فإنهم لو وفوا بما ضمنوا فالله أوفى بما ضمن، وأقدر على ذلك). واليد ها هنا هي القدرة.
قوله: { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه }؛ أي من نقض عقد البيعة فضرر نقضه عائد عليه، وليس له الجنة ولا كرامة، { ومن أوفى بما عاهد عليه الله }؛ من البيعة فتم على ذلك واستقام، { فسيؤتيه أجرا عظيما }؛ فسيعطيه الله في الآخرة ثوابا عظيما في الجنة.
وروي أن هؤلاء المبايعين لم ينقض أحد منهم البيعة؛ لأنهم كانوا مخلصين، ولذلك قال الله
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة
[الفتح: 18] رضاه عنهم دليل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة، أولياء الله أهل النصرة، والذي لم يدخل معهم في البيعة يومئذ إلا رجل من المنافقين يقال له جد بن قيس، اختبأ يومئذ تحت إبط بعيره ولم يدخل في بيعتهم، أماته الله على نفاقه.
[48.11]
قوله تعالى: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنآ أموالنا وأهلونا } أخبر الله النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجع من الحديبية إلى المدينة، أتاه الأعراب الذين يخلفون عنه بغير عذر، ولم يخرجوا معه وهم مزينة وجهينة وغطفان وقوم من الديل، فيقولون له: شغلتنا أموالنا وأهلونا عن الخروج معك يا محمد، أي شغلتنا النساء والذراري فلم يكن لنا من يخلفنا فيهم، { فاستغفر لنا }؛ من التخلف عنك.
قوله تعالى: { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }؛ أي يسألون المغفرة بألسنتهم { ما ليس في قلوبهم } يعني: لأنهم لا يبالون أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يحاربوه ويصرفوه عن البيت، وأحرم عليه السلام بالعمرة وساق الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب وقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوا يقتلون أصحابه فيقاتلهم، فتخلفوا عنه، واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنآ أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا } الآية.
قوله تعالى: { فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا }؛ معناه: من يمنعكم من عذاب الله إن أقمتم على الكفر والنفاق، { بل كان الله بما تعملون خبيرا }؛ معناه: بل كان الله عالما بتخلفكم عن القتال من غير عذر.
قرأ حمزة والكسائي وخلف (ضرا) بضم الضاد وهو سوء الحال، وقرأ الباقون (ضرا) بفتح الضاد لأنه قابله بالنفع، وأراد بالنفع الغنيمة. وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى أنه إن أراد بهم شيئا لم يقدر أحد على دفعه عنهم.
[48.12-14]
قوله تعالى: { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } أظهر الله نفاقهم، وبين أن تخلفهم عنه لم يكن بسبب أموالهم وأهليهم، ولكن كانوا يقولون فيما بينهم: يستأصل محمدا وأصحابه عدوهم في هذه الكرة فلا يرجعون إلى المدينة أبدا فنستريح منهم.
وقوله تعالى: { وزين ذلك في قلوبكم }؛ أي زين الشيطان لكم ذلك الظن في قلوبكم، { وظننتم ظن السوء }؛ أي ظننتم نبي الله وأصحابه أنهم لن يرجعوا من سفرهم هذا وأنهم سيهلكون.
قوله تعالى: { وكنتم قوما بورا }؛ أي هلكى فاسدي القلوب لا تصلحون لخير، والبوار الهلاك، وما بعد هذا، { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنآ أعتدنا للكافرين سعيرا * ولله ملك السموت والأرض يغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء وكان الله غفورا رحيما } ، ظاهر المعنى.
[48.15]
قوله تعالى: { سيقول المخلفون }؛ يعني هؤلاء المخلفين سيقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: { إذا انطلقتم إلى مغانم } ، خير، { لتأخذوها ذرونا نتبعكم }؛ نخرج معكم، فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم من ذلك بعد تخلفهم من غزوة الحديبية.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وانطلق إلى خيبر، قال هؤلاء المخلفون { ذرونا نتبعكم } قال الله تعالى: { يريدون أن يبدلوا كلام الله }؛ أي أن الله تعالى خص أهل الحديبية بمغانم خيبر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يأذن للمنافقين أن يخرجوهم معهم إلا متطوعين ليس لهم من المغانم شيء. فأراد المنافقون أن يشاركوا فيها ليبطلوا حكم الله تعالى: { قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }؛ يعني: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يسير معه منهم أحدا.
ومعنى قوله { من قبل } أي قال الله في ذلك بالحديبية قبل خيبر، وقبل خروجنا إليكم: أن غينمة خيبر لمن شهد الحديبية، { فسيقولون بل تحسدوننا }؛ أي سيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمركم الله بذلك، ولكن تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة. قوله تعالى: { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا }؛ أي لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين إلا قليلا منهم، وهو من صدق الرسول ولم ينافق.
[48.16]
قوله تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب }؛ أي قل لهؤلاء المخلفين عن الحديبية: { ستدعون }؛ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم { إلى }؛ قتال؛ { قوم أولي بأس شديد }؛ أي أهل اليمامة، قال الزهري: (هم أهل اليمامة بنو حنيفة أتباع مسيلمة، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه)، قال رافع بن خديج: (كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم).
وقال ابن جريج: (سيدعوكم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس والروم) { تقاتلونهم أو يسلمون }؛ معناه: تقاتلوهم أن يكون منهم الإسلام، { فإن تطيعوا }؛ أبا بكر وعمر، { يؤتكم الله أجرا حسنا }؛ عظيما في الجنة، { وإن تتولوا كما توليتم من قبل }؛ عن طاعة محمد صلى الله عليه وسلم في المسير إلى الحديبية، { يعذبكم }؛ في الآخرة، { عذابا أليما }؛ شديدا.
قرأ أبي (أو يسلموا) بحذف النون؛ أي حتى يسلموا، وكقول امرئ القيس: (أو نموت)، وقرأ الكافة بإثبات النون في محل الرفع عطفا على { تقاتلونهم }.
[48.17]
قوله تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج }؛ أي ليس على هؤلاء إثم في قعودهم عن القتال لعجزهم عنه، { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنت تجري من تحتها الأنهر }؛ عائد إلى من يلزمه الجهاد، { ومن يتول }؛ عن الجهاد مع قدرته عليه، { يعذبه عذابا أليما }.
[48.18]
قوله تعالى: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }؛ يعني بيعة الرضوان بالحديبية، وإنما سميت بيعة الرضوان بهذه الآية، وكان سبب هذه البيعة:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار يريد مكة، فلما بلغ الحديبية وقفت ناقته، فزجرها فلم تنزجر وبركت، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هذا بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل ".
ودعا عمر رضي الله عنه ليرسله إلى أهل مكة، فيأذنوا له بأن يدخل مكة ويحل من عمرته وينحر هديه، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله؛ ما لي بها حميم وليس بمكة من بني عدي بن كعب يمنعني، وإني أخاف قريش على نفسي لأنها قد علمت عداوتي إياها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان، قال: " صدقت ". فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فأرسله.
فجاء الشيطان وصاح في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأن أهل مكة قتلوا عثمان، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على قتال أهل مكة.
قال عبدالله بن معقل: كنت قائما على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، وبيدي غصن من الشجرة أذب به عنه وهو يبايع الناس، كان أول من بايع رجل من بني أسد يقال له أبو سنان بن وهب ".
واختلفوا في عدد أهل البيعة، فقال قتادة: (كانوا خمس عشرة مائة)، وقال ابن عباس: (كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين)، وقال جابر: (كانوا ألفا وأربعمائة).
قوله تعالى: { فعلم ما في قلوبهم }؛ أي فعلم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء والإخلاص والعزم على القتال، { فأنزل السكينة عليهم }؛ يعني الطمأنينة والصبر والرضا حين بايعوا على أن يقاتلوا ولا يفروا، { وأثابهم فتحا قريبا }؛ أي وأعطاهم فتح خيبر.
[48.19]
قوله تعالى: { ومغانم كثيرة يأخذونها }؛ معناه: ومغانم كثيرة يأخذونها من أموال يهود خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، { وكان الله عزيزا }؛ أي غالبا، { حكيما }؛ في أمره، حكم لهم بالغنيمة، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة.
وعن أنس رضي الله عنه:
" وأنا رديف أبي طلحة يوم أتينا إلى خيبر، فصبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مساحيهم وفؤوسهم وغدوا على حروثهم، فلما رأونا ألقوا ما بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ".
وعن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال:
" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، سرينا ليلا وعامر بن الأكوع معنا وكان شاعرا، فقال له رجل من القوم: ألا تسمعنا يا عامر، فنزل يحدوا بالقوم يرتجز ويقول: "
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
هم الذين بغوا علينا
ونحن من فضلك ما استغنينا
فاغفر بفضلك ما أتينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين السكينة علينا
" قال صلى الله عليه وسلم: " من هذا؟ " قالوا: عامر بن الأكوع، قال: " قد غفر لك ربك يا عامر " فقال رجل: لو أمتعتنا به يا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وإنما قال ذلك ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استغفر لرجل قط إلا استشهد.
قال: (فلما قدمنا خيبر وتصاف القوم، خرج يهودي فخرج إليه عامر بن الأكوع وهو يقول: "
قد علمت خيبر أني عامر
شاكي السلاح بطل مغامر
" واختلفا بضربتين، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر، ووقع سيف عامر على ركبة نفسه وساقه فمات منها. قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من الصحابة وهم يقولون: بطل عمل عامر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فأخبرته بذلك، فقال: " كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين ".
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه وكان حينئذ أرمد قد عصب عينه بشق برد، قال سلمة بن الأكوع: فجئت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما لك يا علي؟ " قال: رمدت يا رسول الله، قال: " أدن مني " فدنا منه، فتفل في عينيه فبرئ من ساعته، وما وجعت عيناه بعد ذلك أبدا حتى مضى سبيله. ثم أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية فهدى بها وعليه حلة أرجوان حمراء، فأتى مدينة خيبر، فخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول: "
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب
إذا الحروب أقبلت نلتهب
كان حمايا مانعا لا يقرب
" فبرز إليه علي رضي الله عنه، وقال: "
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غابات شديد قسوره
أكيلكم بالسيف كيل السندره
" فاختلفا بضربتين، فبدره علي رضي الله عنه بالضربة فقد الحجر والمغفر وفلق رأسه فوقع ميتا، وكان الفتح على يديه).
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز ويقول: "
قد علمت خيبر أني ياسره
شاكي السلاح بطل معاقره
إذا الليوث أقبلت مبادره
إن سلاحي فيه موت حاضره
" فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو يقول: "
قد علمت أني زبار
قوم لقوم غير ناكث فرار
ابن حماة المجد وابن الأخيار
ياسر لا يغررك جمع الكفار
فجمعهم مثل السراب جار
" فقالت أمه صفية بنت عبدالمطلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال: " ابنك يقتله ". ثم التقيا فقتله زبير.
ثم لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحصون حصنا حصنا، ويحوز الأموال، فلما أمسى الناس أوقد نيرانا كثيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: " على أي شيء توقدون؟ " قالوا: على لحم الحمر الإنسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهرقوها واكسروا القدور " فقالوا: نهديك القدور ونغسلها، فقال: " هي أو ذاك ".
ثم أتي رسول الله بصفية بنت حيي بن أخطب وبأخرى معها، أتى بهما بلال رضي الله عنه، فلما رأت المرأة التي مع صفية القتلى من اليهود صرخت وصكت وجهها وحست التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم: " إعزلوا عني هذه الشيطانة " وأمر بصفية فأجلست خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله أصفاها لنفسه.
وكانت قد رأت في منام وهي عروس كنانة بن ربيع أن قمرا وقع في حجرها، فقصت رؤياها على زوجها فلطم وجهها لطمة اخضرت عيناها منها، وقال: إنك تتمنين ملك الحجاز محمدا.
فلما رأى رسول الله خضرة عينها سألها عن ذلك، فأخبرته الخبر، فأوتي من زوجها كنانة بن الربيع كان عنده كنز بني النضير، فسأله إياه فجحده أن يكون عالما بمكانه. فجاء يهودي فقال: فإني قد رأيت كنانة يطوف بهذه الخربة كل غداة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة: " أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ " قال: نعم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه ".
[48.20]
قوله تعالى: { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها }؛ أي وعدكم الله في المستقبل من زمان غنائم كثيرة تأخذونها، قال مقاتل: (من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى يوم القيامة) { فعجل لكم هذه }؛ يعني غنيمة خيبر، { وكف أيدي الناس عنكم }؛ أي منع أسدا وغطفان من قتالكم، وكانوا حلفاء لأهل خيبر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها، همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم.
وقوله تعالى: { ولتكون آية للمؤمنين }؛ أي ولتكون غنيمة خيبر دلالة على المؤمنين على صدقك يا محمد، حيث إن الله تعالى أخبر أنهم يصيبونها في المستقبل، ثم وجد المخبر على وفق الخبر، وقوله تعالى: { ويهديكم صراطا مستقيما }؛ أي ويثيبكم على دين الإسلام، ويرشدكم إلى الأدلة في الدين.
[48.21]
قوله تعالى: { وأخرى لم تقدروا عليها }؛ أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم يقدروا عليها الآن، { قد أحاط الله بها }؛ يفتحها عليكم، قال الفراء: (حفظها لكم ومنعها من غيركم حتى يفتحها لكم).
واختلفوا فيها، فقال ابن عباس وابن أبي ليلى والحسن ومقاتل: (هي فارس والروم) وكانت العرب لا تقدر على قتال فارس والروم، وفتح مدائنها حتى قدروا عليها بالإسلام. وقال قتادة: (هي مكة)، وقال عكرمة: (هي خيبر). وقوله تعالى { قد أحاط الله بها } أي أحاطت قدرته بها وبأهلها، { وكان الله على كل شيء قديرا }؛ كل شيء من فتح القرى والنصر وغير ذلك قدير.
[48.22]
قوله تعالى: { ولو قتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار }؛ يعني أسدا وغطفان الذين أرادوا نهب ذراري المسلمين فانهزموا عنكم لأن الله ينصركم عليهم، { ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا }؛ قال ابن عباس: (من تولى غير الله خذله الله ولم ينصره).
[48.23]
قوله تعالى: { سنة الله التي قد خلت من قبل }؛ أي سنة الله التي قد خلت من قبل في نصر أوليائه وقهر أعدائه؛ أي هذه سنتي في أهل طاعة وأهل معصية أنصر أوليائي وأخذل أعدائي، { ولن تجد لسنة الله }؛ لحكم الله، { تبديلا }؛ تغييرا.
[48.24-25]
قوله تعالى: { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم }؛ أول هذه الآية يدل على أن الله تعالى منع أيدي أهل مكة يوم الحديبية عن قتال المسلمين بالرعب، ومنع أيدينا عن قتالهم بالنهي.
وقيل: إن المؤمنين لم ينهوا عن قتالهم يومئذ، ولكن لم يقدر الله ذلك للمؤمنين إبقاء للمؤمنين المستضعفين الذين كانوا في أيدي المشركين كما قال تعالى: { وكان الله بما تعملون بصيرا * هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله }.
وقوله تعالى: { من بعد أن أظفركم عليهم } ، قال أنس رضي الله عنه: (وذلك أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله من جبل التنعيم عند صلاة الفجر متسلحين، يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأخذهم رسول الله وأعتقهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية) { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم }.
وقال ابن عباس: (بعثت قريش أربعين رجلا أو خمسين رجلا منهم، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا فأتي بهم رسول الله، فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله بالحجارة والنبل، فأنزل الله هذه الآية). { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله } أي هم الذين كفروا بمحمد والقرآن، يعني كفار مكة، وصدوكم عن المسجد الحرام أن تطوفوا به للعمرة ويحلوا من عمرتكم.
وقوله تعالى { والهدي معكوفا } أي وصدوا الهدي ممنوعا أن يبلغ محله الذي إذا صار إليه حل نحره وهو الحرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ساق في ذلك العام سبعين بدنة إلى مكة. { معكوفا } في اللغة هو الممنوع عن الذهاب في جهته بالإقامة في مكانه، يقال: عكف على الأمر عكوفا، واعتكف في المسجد إذا أقام به.
ومعنى الآية: هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي وهي البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين بدنة معكوفا أي محبوسا أن يبلغ محله أي مسجده، وهذه الآية دلالة على أن محل الهدي الحرم، ولو كان محله غير الحرم لما كان معكوفا عن بلوغ محله.
قوله تعالى: { ولولا رجال مؤمنون ونسآء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم }؛ معناه: ولو تطأوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات مقيمات بمكة لم تعلموهم فتقتلوهم، { فتصيبكم منهم }؛ قبلهم، { معرة }؛ أي عيب ومسبة في العرب بأنكم قتلتم أهل دينكم، ويقال: أراد بالمعرة الغم والجزع. وجواب (لولا) محذوف تقديره: لولا ذلك لدخلتم على أهل مكة ولوطأتموهم ليلا ولضربتم رقاب المشركين بنصرنا إياكم، ولكن الله منع من ذلك كراهة وطئ المؤمنين المستضعفين الذين كانوا بمكة، والمؤمنات بالقتل لأنهم لو دخلوا مكة لم يتميز لهم المؤمنون من الكفار، فلم يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين.
وقيل: المراد بالمعرة الإثم والدية والكفارة، إلا أن الصحيح ما ذكرناه من قبل؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أن المسلمين إذا قصدوا حصنا من حصون الكفار وقاتلهم وأصابوا من في الحصن من أطفال الكفار ومن أسارى المسلمين أنه لا إثم عليهم ولا دية و لا كفارة، ولقد حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نهيه عن قتل النساء والولدان.
قوله تعالى: { بغير علم }؛ موضعه التقديم، تقديره: لولا أن تطأوهم بغير علم، { ليدخل الله في رحمته من يشآء }؛ اللام متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الكلام على تقدير: حال بينكم وبينهم { ليدخل الله في رحمته من يشآء } يعني من أسلم من الكفار بعد الصلح، ورحمة الله جنته، قوله تعالى: { لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما }؛ معناه: لو تميز المؤمنون عن الكفار لعذبنا الكفار عذابا أليما يعني بالقتل والسبي بأيدكم.
[48.26]
قوله تعالى: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } قال مقاتل: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم الحديبية ومعه الهدي، قال كفار مكة: قتل محمد أبناءنا وإخواننا، ثم أتانا يدخل علينا في منازلنا، فتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم آنافنا، واللات والعزى لا يدخل علينا. فهذه الحمية حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم).
قوله تعالى: { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين }؛ حتى لم يدخلوا، { وألزمهم كلمة التقوى }؛ وهو كلمة لا إله إلا الله، الكلمة التي يتقي بها من الشرك.
والحمية في اللغة: هي الأنفة التي تحمي الإنسان كأن قلوبهم حمية لمعصية الله، فأنزل الله بدل ذلك على قلب نبيه عليه السلام وعلى قلوب المؤمنين من الطمأنينة والسكون والوقار والهيبة، وألزمهم توحيد الله والإيمان برسوله.
قوله تعالى: { وكانوا أحق بها وأهلها }؛ أي كانوا أحق بكلمة التوحيد من كفار مكة وكانوا أهلها في علم الله تعالى مستحقين لها في الدنيا، { وكان الله بكل شيء }؛ من أمرهم، { عليما }.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه إلا حرمه على النار "
، قال عمر رضي الله عنه: (أنا أحدثك بها، هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله محمدا وأصحابه وهي كلمة التقوى).
وقال عطاء الخراساني: (هي لا إله إلا الله محمد رسول الله). وعن علي رضي الله عنه أن سئل عن كلمة التقوى فقال: (هي لا إله إلا الله والله أكبر)، وهو قول ابن عمر. وقال عطاء بن رباح: (هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
وقيل: إن الحمية التي جعلها الكفار في قلوبهم، هي ما روي:
" أن المشركين لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب لهم بكتاب الصلح، قال لعلي رضي الله عنه: " أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم " فقال المشركون: أما الرحمن فلا ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا يكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: " أكتب: باسمك اللهم، ثم اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". فقال سهيل بن عمرو: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، لكن اكتب باسمك واسم أبيك، فقال صلى الله عليه وسلم: " إني لرسول الله ولقد كذبتموني ".
وقال لعلي رضي الله عنه: " أمح رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال علي: لا أمحوك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " أكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله سهيل ابن عمرو على وضع الحرب بين الناس بكف بعضهم عن بعض، على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجا أو معتمرا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله. ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله " ".
فهذه الحمية التي في قلوبهم، يعني الأنفة من الاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم، ومن قوله: محمد رسول الله.
[48.27]
قوله تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق }؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم حق.
فلما رجع وأصحابه من الحديبية ولم يدخلوا مكة، قال المنافقون: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام. فأنزل الله الآية وأخبر أنه أرى رسول الله الصدق في منامه، وأنهم يدخلونه فقال الله: { لتدخلن المسجد الحرام }؛ يعني العام المقبل، { إن شآء الله }؛ قال أبو عبيدة: (إن معنى: إن شاء الله) حيث أري رسول الله في المنام. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: (استثنى الله فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون).
وقيل: معناه: بمشيئة الله، وقال بعضهم: هذا اللفظ حكاية الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه رأى في المنام أن ملكا ينادي: { لتدخلن المسجد الحرام إن شآء الله آمنين }. وقيل: إنما كان ذلك تأديبا للعباد ليدخلوا كلمة الاستثناء فيما يخبرون عنه في المستقبل من نفي وإثبات، قوله: { آمنين }؛ أي آمنين من العدو.
قوله تعالى: { محلقين رءوسكم ومقصرين }؛ قريبا أنهم يدخلون مكة إلى أن يبلغوا آخر النسك، { لا تخافون }؛ العدو، بخلاف عام الحديبية. فيه دليل أن الحلق والتقصير قربة في الإحرام من حيث إن الإحلال يقع بهما، وفيه دليل أن المحرم بالخيار عند التحليل من الإحرام إن شاء حلق وإن شاء قصر. وفي الحديث:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة ".
قوله تعالى: { لا تخافون } أي لا تخافون من المشركين، { فعلم }؛ الله ما في تأخير الدخول عام الحديبية من الخير والصلاح، { ما لم تعلموا }؛ أنتم، { فجعل من دون ذلك }؛ أي من قبل الدخول، { فتحا قريبا }؛ يعني فتح خيبر.
[48.28]
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله }؛ أي أرسل رسوله بالطريق المؤدي إلى الجنة ودين الإسلام ليظهر دين الإسلام على الأديان كلها بالحجة والغلبة، { وكفى بالله شهيدا }؛ على نبوتك ورسالتك إن لم يشهد سهيل وأمثاله.
[48.29]
قوله تعالى: { محمد رسول الله }؛ هذا مبتدأ وخبره قوله تعالى: { والذين معه أشدآء على الكفار }؛ أي والذين معه من المؤمنين أشداء على الكفار، غلاظ عليهم، والأشداء جمع الشديد، وهو قوي في دين الله تعالى، القوي على أعداء الله، كانوا لا يميلون إلى الكفار لقرابة ولا غيرها، بل أظهروا لهم العداوة في الدين، وكانوا على الكفار كالأسد على فرسه.
قوله تعالى: { رحمآء بينهم }؛ أي متواددون فيما بينهم، متعاطفون حتى أنهم كانوا بعضهم لبعض كالوالد لولده، والعبد لسيده، وقوله تعالى: { تراهم ركعا سجدا }؛ أي راكعين وساجدين يكثرون الصلاة لله، { يبتغون فضلا من الله ورضوانا }؛ يعني الجنة، ورضى الله تعالى.
قوله: { سيماهم في وجوههم من أثر السجود }؛ أي علامة التهجد ظاهرة على وجوههم من كثرة السجود بالليل، والمعنى يتبين في وجوههم أثر السهر، قال الضحاك: (إذا سهر أصبح مصفرا) وقال عطية: (مواضع السجود أشد بياضا في يوم القيامة). وقال مجاهد: (يعني الأثر: الخشوع والتواضع والسمت الحسن). وقال عكرمة: (هو التراب على الجباه لأنهم يسجدون على التراب لا على الثباب).
وقال الحسن في وصفهم: (إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما بالقوم مرض، ويقول: لعلهم خولطوا في عقولهم، والله لقد خالطهم أمر عظيم). يريد بذلك ما في قلوبهم من خوف الآخرة.
وقال بعضهم: { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } هو نور يجعله الله في وجوههم يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا في الدنيا كما قال الله
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
[آل عمران: 106]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" تحشر أمتي يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء ".
وقال منصور: (سألت مجاهد عن قوله: { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } قال: ليس هو الأثر الذي يكون في جبهة الرجل مثل ركبة البعير، فقد يكون ذلك برجل هو أقسى قلبا من الحجارة، ولكن هو نور في وجوههم من الخشوع). وقال ابن جريج: (هو الوقار)، وقال سمرة: (هو البهاء)، وقال سفيان: (يصلون بالليل، فإذا أصبحوا عرف ذلك في وجوههم؛ بيانه قوله عليه السلام:
" من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار "
وروي في بعض الأخبار:
" أن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا نار أنضجي، يا نار أحرقي وموضع السجود لا تقربي ".
قوله تعالى: { ذلك مثلهم في التوراة }؛ أي ذلك الذي ذكره في القرآن من وصفهم هو ما وصفوا به في التوراة، { ومثلهم في الإنجيل }؛ أيضا، ثم ذكر الله وصفهم في الإنجيل: { كزرع أخرج شطأه }؛ أي سبيله، وقال ابن زيد: (أولاده). والشطأ: فراخ الزرع، يقال: الشطأ الزرع أن يخرج سبعا أو ثمانيا أو عشرا، وهذا مثل ضربه الله لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون ويقوون، قال قتادة: (مكتوب في الإنجيل: أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
قرأ العامة (شطأه) بإسكان الطاء، وقرأ بعض أهل مكة والشام بفتحها، وقرأ يحيى بن وثاب (شطأه) مثل عصاه، وقرأ الجحدري: (شطه) بلا همزة، وكلها لغات.
قوله تعالى: { فآزره }؛ أي أعانه الشطأ وقواه وشده، مأخوذ من المؤازرة وهي المعاونة، والأزر: الظاهر، والوزير المعين، وأعانه الزرع، الشط أن يخرج من الشطأ ثمان وتسع وعشر.
قوله تعالى: { فاستغلظ }؛ أي غلظ ذلك الزرع وتقوى، { فاستوى على سوقه }؛ أي قام على قصبه وساوى الصغار والكبار حتى استوى بعضه مع بعض، وصار الفرع مثل الأم. والسوق: جمع ساق، وهو قصبة الزرع، وساق الشجرة حاملة الشجرة، ويجوز أن يكون المراد بالساق: الكعب ، وكلما ازداد الزرع كعبا ازداد قوة، قوله تعالى: { يعجب الزراع }؛ أي يصير بحال يعجب الحراث.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لمحمد وأصحابه، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة كما كان أول الزرع دقيقا ثم غلظ وقوي وتلاحق، وكذلك المؤمنون قوى بعضهم بعضا حتى استغلظوا واستووا على أمرهم، { ليغيظ بهم الكفار }؛ أي إنما كثرهم وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين.
قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما }؛ قال الزجاج: (منهم) للجنس وليس يريد بعضهم، لأنهم كلهم مؤمنون، والأجر العظيم هو الجنة).
[49 - سورة الحجرات]
[49.1]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }؛ أي لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله، ولا تعجلوا به، وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }: (أي تصوموا قبل أن يصوم نبيكم صلى الله عليه وسلم) { واتقوا الله }؛ في تضييع حقه ومخالفة أمره، { إن الله سميع }؛ لأقوالكم، { عليم }؛ بأفعالكم، وقال جابر: (نزل قوله تعالى: { لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة).
وقالت عائشة رضي الله عنها: " نزلن في النهي عن صوم يوم الشك)، وعن مسروق قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها في يوم الشك، فقالت للجارية: اسقيه، فقلت: إني صائم، فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم، وفيه نزل { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله }.
وعن الحسن البصري قال: (نزلت هذه الآية في الذبح يوم الأضحى، كأنه قال: لا تذبحوا قبل ذبح النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ناسا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: فأمرهم أن يعيدوا الذبح).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سبب نزول هذه الآية:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطا من أصحابه وهم سبع وعشرون رجلا، وأمر عليهم المنذر بن عمرو، وأمرهم أن يسيروا إلى بني عامر بن صعصعة، وأن يمروا على بني سليم، فباتوا عندهم، فلما كان عند الرحيل، أضل أربعة من المسلمين بعيرا لهم، فاستأذنوا المنذر أن يتخلفوا عنه حتى يطلبوه، فأذن لهم.
وسار المنذر بمن بقي معه، وكانت بنوا سليم دست إلى بني عامر خبر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستعدوا لقتالهم واجتمعوا لهم، فسار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة، فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل المنذر وأصحابه، وقتل أحد الأربعة ورجع الثلاثة إلى المدينة، فلقوا رجلين خارجين من المدينة فقالوا: مما أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فقالوا: إنهما من عدونا، فقتلوهما وأخذوا سلبهما.
وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا له القصة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " بئسما فعلتم، إنهما من أهل ميثاقي من بني سليم، وهذا الذي معكم من سلبهما من كسوتي ".
وجاء السليميون يطلبون القود، فقال لهم النبي صلى الله عليه سلم: " إن صاحبيكم اعتزما إلى عدونا، فلا قود فيهما ولكنا نؤدي إليكم الدية " فأمر عليه السلام أن تقسم ديتهما على أهل ميثاقه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ".
والمعنى: لا تقدموا بقول ولا فعل حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يأمركم في ذلك.
وقيل: إن ناسا كانوا يقولون: لو أن الله تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا، فقيل: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، فإن الله أعلم بصلاح خلقه.
وقرئ (لا تقدموا) بفتح التاء والدال، فيجوز أن يكون معناهما واحدا، يقال: قدمت في كذا وتقدمت فيه، كما يقال عجلت في الأمر وتعجلت فيه بمعنى واحد، ويجوز أن يكون معنى الضم: لا تقدموا كلامكم ولا فعلكم وما أنتم صانعون في أمر من الأمور قبل أن يأمركم الله ورسوله. ومعنى قراءة الفتح لا تقدموا بأمر ولا فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأمركم به.
وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سئل الرسول عن شيء خاضوا فيه، وتقدموا بالفتوى والقول، فنهوا عن ذلك وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله قبل أن يقول رسول الله.
وقيل: معنى الآية: لا تمشوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك بين يدي العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء، ودليل هذا ما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال:
" رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر رضي الله عنه فقال: " أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر رضي الله عنه " ".
[49.2]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }؛ روي:
" أن رهطا من بني تميم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، منهم الأقرع بن حابس وعطارد ابن الحاجب والحارث بن عمرو وغيرهم، فقاموا على باب المسجد، فنادى الأقرع ابن حابس: يا محمد أتأذن لي في الكلام؟ فوالله إن حمدي لزين وذمي لشين، فقال صلى الله عليه وسلم: " كذبت! ذلكم الله تعالى ".
ثم أذن لهم فدخلوا، فقال: " يا محمد أتأذن لخطيبنا؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: " أدعوا إلي ثابت بن قيس بن شماس " فدعي له، فقال صلى الله عليه وسلم: " ليتكلم صاحبكم " فتكلم، فقال عليه السلام: " أجب يا ثابت " فأجابه.
فقال الأقرع: " إئذن لشاعرنا يا محمد " فقال عليه السلام: " أدعوا إلي القارعة " يعني حسان، فلما جاء حسان قال صلى الله عليه وسلم: " ليتكلم شاعركم " فلما تكلم، قال صلى الله عليه وسلم: " أجبه يا حسان " فأجابه، فقال عطارد للأقرع: والله إن محمدا المؤتى له - أي أعطي كل شيء - فإن خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا.
وعلت الأصوات وكثر اللغط، وكان أشدهم صوتا وأعلاهم ثابت بن قيس، وكان به صمم لا يكاد يسمع إلا أن يصاح به فيجيب بمثله. فأنزل الله هذه الآية، ونهوا أن يرفعوا أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما له؛ لأن رفع الصوت على الإنسان يوهم الاستخفاف به في ظاهر الحال ".
وعن جابر بن عبدالله قال:
" لما جاء بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: أخرج يا محمد؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين، قال: فخرج إليهم وقال: " إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين " قالوا: نحن أناس من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا لشاعركم ونفاخرك، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا ". فقال: لشاب من شبابهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك، فقام فقال:
الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عدة وسلاحا ومالا، فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فعالنا.
فقال صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قم " فقام فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها فأعظمهم أخلاقا فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصاره، ورد الله لرسوله وعز المدينة. فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فمن قالها منع منا ماله ونفسه، ومن أباها قتلناه، وكان قتله في الله علينا هينا، أقول قولي وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات.
فقالوا لشاب منهم: قم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقام الشاب وقال: "
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
منا الرؤوس وفينا تقسم الربع
ونطعم الناس عند القحط كلهم
لحم الشواء اذا لم يؤنس القزع
إنا أبينا ولا يأبى لنا أحد
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
" فقال صلى الله عليه وسلم: " أجبه يا حسان " فقال: "
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته
تقوى الإله وكل الخير يصطنع
ثم قال حسان أيضا:
نصرنا رسول الله والدين عنوة
على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كإيزاع المخاض مشاشه
وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أحدا لما استقلت شعابه
بضرب لنا مثل الليوث الخوادر
ألسنا نخوض الخوض في حومة الوغى
إذا طاب ورد الموت بين العساكر
ونضرب هام الدارعين وننتمي
إلى حسب من جذم غسان قاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرما
على الناس بالخيفين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى
وأمواتنا من خير أهل المقابر
فقال الأقرع بن حابس: والله لقد جئت لأمر ما حال حولا، وإني قد قلت شعرا فاسمعه، فقال هات، فقال
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا
إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنا رؤوس الناس في كل معشر
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإن لنا المرباع في كل غارة
تكون بنجد أو بأرض التهائم
" فقال صلى الله عليه وسلم: " أجبه يا حسان " فقال: "
بنو دارم لا تفخروا إن فخركم
يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم
لنا خول ما بين ظئر وخادم
" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه " قال: فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليه من حسان، ثم رجع حسان إلى شعره، فقال: "
وأفضل ما نلتم من المجد والعلا
ردافتنا عند احتضار المواسم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم
وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا
ولا تفخروا عند النبي بدارم
وإلا ورب البيت مالت أكفنا
على هامكم بالمرهفات الصوارم
" فقام الأقرع وقال: إن محمدا المؤتى له، والله ما أدري ما هذا الأمر؛ تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أحسن شعرا.
ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما يضرك ما كان قبل هذا ". ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم.
وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهثم، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم، فازدرى به قيس بن عاصم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له } ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" لما نزل قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا أرفع أبدا على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن الزبير رضي الله عنه أنه قال: (ما حدث عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه من شدة خفض صوته).
وكان ثابت بن قيس في أذنيه صمم وكان جهوري الصوت، وكان إذا كلم إنسانا جهر بصوته، فربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته، فلما نزل قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم } أي لئلا تحبط أعمالكم، يعني تبطل حسناتكم، جعل ثابت يبكي على قارعة الطريق، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟! فقال: أخاف أن تكون هذه الآية نزلت في، فأخاف أن تحبط عملي وأن أكون من أهل النار.
فمضى عاصم إلى رسول الله فأخبره، فقال: " اذهب وادعه لي " فدعاه لرسول الله، فقال: " ما يبكيك يا ثابت؟ " قال: أنا صيت يا رسول الله؛ وأخاف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال صلى الله عليه سلم: " أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا ويدخلك الله الجنة؟ " فقال: رضيت يا رسول الله؛ لا أرفع صوتي بعدها عليك يا رسول الله "
فأنزل الله فيه وفي أبي بكر رضي الله عنه وعمر وأمثالهم:
قوله تعالى: { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ... }.
[49.3]
قوله تعالى: { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى }؛ أي أخلصها واصطفاها واختبرها، كما يمتحن الذهب بالنار فيخرج خالصا، وقال ابن عباس: (معناه: أولئك الذين أكرم الله قلوبهم). وقيل: أذهب الشهوات عنها.
قال الزجاج: أمر الله بتبجيل نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يغضوا أبصارهم عندما يخاطبون بالسكينة والوقار؛ لئلا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون فلذلك قال: فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، قاتل ثابت بن قيس وسالم مولى أبي حذيفة قتالا شديدا حتى قتلا، واستشهد ثابت وعليه درع.
قوله تعالى: { يغضون أصواتهم } الغض النقص من كل شيء، قال الله تعالى:
واغضض من صوتك
[لقمان: 19]، وقوله تعالى: { امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي أخلصها للتقوى. قوله تعالى: { لهم مغفرة وأجر عظيم }؛ أي في الجنة.
[49.4-5]
قوله تعالى: { إن الذين ينادونك من ورآء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }؛ وذلك: أن قوما من بني العنبر وهم حي من تميم، بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم سرية، وأمر عليهم عيينة بن الحصين الفزاري، فهربوا فسبى ذراريهم ونساءهم وجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجالهم ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم.
فلما أبصرهم العيال بكوا عليهم، فنهضوا وعجلوا قبل أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلوا ينادون: يا محمد اخرج إلينا، وكان صلى الله عليه وسلم حينئذ نائما، فتأذى بأصواتهم، ولم يعلموا في أي حجرة هو، فجعلوا يطرقون على جميع حجراته، وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة وبيت، فطافوا على جميع الحجرات وهم ينادون: اخرج علينا.
وقوله تعالى: { أكثرهم لا يعقلون } وصفهم الله بالجهل وقلة العقل وقلة الصبر. قوله تعالى: { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم }؛ يعني ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم للصلاة لخلى سبيلهم بغير فداء، فلما نادوه وأيقظوه أعتق نصف ذراريهم وفادى نصفهم بقوله تعالى: { ولو أنهم صبروا } كنت تعتق كلهم، { والله غفور رحيم }؛ لمن تاب منهم.
[49.6]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ }؛ وذلك:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق، وكان بينه وبينهم أحنة، فلما اتصل خبره بهم وسمعوا به اجتمعوا ليتلقوه، ففر منهم وكر راجعا إلى المدينة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم قد منعوا الزكاة وارتدوا عن الإسلام وقصدوا قتلي.
فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جيش، وقال له: " انزل بساحتهم ليلا، فإن رأيت ما يدل على الإسلام من الأذان للصلاة والتهجد أمسك عن محاربتهم، وطالبهم بصدقاتهم ".
فلما سار إليهم خالد ليلا سمع فيهم الأذان والتهجد، فكف عنهم إلى أن دخل عليهم لا على وجه قتال، وقالوا: قد استبطأنا رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، فسلموها إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ".
وسمى الوليد بن عقبة فاسقا، لكذبه الذي وقع به. الأغر أو الفاسق: الخارج عن طاعة بارتكاب كثير من الذنوب. وقيل: الفاسق الذي لا يستحي من الله. وقيل: هو الكذاب المعلن بالذنب. والنبأ: الخبر عما يعظم شأنه فيما يعمل عليه.
قوله تعالى: { فتبينوا }؛ قد ذكرنا قراءتين فيه في سورة النساء، قوله تعالى: { أن تصيبوا قوما بجهالة }؛ أي لئلا تصيبوا قوما وهم مسلمون، { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين }.
[49.7-8]
قوله تعالى: { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } معناه: إعلموا أن رسول الله لو يجيبكم في كثير مما سألتموه لوقعتم في العنت وهو الإثم والمشقة. وقيل: اتقوا أن تكذبوا رسول الله وتقولوا باطلا، فإن الله يخبره فتفتضحوا، ثم قال: لو يطيعكم الرسول في كثير مما تخبرونه فيه بالباطل لعنتم؛ أي لوقعتم في العنت وهو الإثم والهلاك.
ثم خاطب المؤمنين الذين لا يكذبون فقال: { ولكن الله حبب إليكم الإيمان }؛ أي جعله أحب الأديان إليكم، { وزينه في قلوبكم }؛ حتى اخترتموه، { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان }؛ أي بغض إليكم هذه الأشياء: الكفر ظاهر المعنى، والفسوق والكذب والخروج عن أمر الله ، والعصيان: جمع معاصي الله.
ثم عاد إلى الخبر عنهم فقال: { أولئك هم الراشدون }؛ أي المهتدون إلى محاسن الأمور. ثم بين أن جميع ذلك تفضل من الله تعالى فقال: { فضلا من الله ونعمة }؛ أي تفضلا من الله ورحمة، { والله عليم }؛ بما في قلوبهم، { حكيم }؛ فيهم بعلمه.
[49.9]
قوله تعالى: { وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }؛
" نزل ذلك في الأوس والخزرج بسبب الكلام الذي جرى بين عبدالله بن أبي رأس المنافقين وعبدالله ابن رواحة لما استبا جاء قوم هذا فاقتتلوا بالنعال والترامي بالحجارة، ولم يكن بين الطائفتين سيف.
وسبب اختصامهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره، فبال حماره وهي أرض سبخة، فأمسك عبدالله بن أبي آنفه وقال: إليك عني فوالله لقد آذاني نتن حمارك. فقال عبدالله بن رواحة: والله لنتن حمار رسول الله أطيب ريحا منك.
فغضب لعبدالله بن أبي رجل من قومه، وغضب لابن رواحة رجل من قومه، فاستبوا وتحامل أصحاب كل واحد مع أصحاب الآخر، فتجادلوا بالأيدي والجريد والنعال، فأنزل الله هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض.
وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملا على سيفه فوجدهم قد اصطلحوا، فقال عبدالله بن أبي: أعلي تشتمل بالسيف يا بشير؟ قال: نعم والذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتى أقتلك ".
قوله تعالى: { فأصلحوا بينهما } أي بالدعاء إلى حكم الله والرضا بما في كتاب الله لهما وعليهما.
قوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى }؛ أي طلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح، { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله }؛ حتى ترجع عن البغي إلى كتاب الله، والصلح الذي أمر الله تعالى به.
والبغي هو الاستطالة، والعدول عن الحق وعما عليه جماعة المسلمين. والطائفة الباغية هي التي تطلب ما ليس لها أن تطلبه، قوله { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } أي حتى ترجع إلى طاعة الله.
قوله تعالى: { فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا }؛ أي واعدلوا في الإصلاح بينهما، وفي كل حكم، { إن الله يحب المقسطين }؛ أي يحب الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما تولوه، الإقساط في اللغة هو العدل، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، ومنه قوله
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا
[الجن: 15].
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" يا ابن أم عبد؛ هل تدري كيف حكم الله فيمن يفيء من هذه الأمة "؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: " لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيها ".
[49.10]
قوله تعالى: { إنما المؤمنون إخوة }؛ يعني في الدنيا والولاية، { فأصلحوا بين أخويكم }؛ يعني بين كل مسلمين تخاصما وتقاتلا واختلفا، قرأ ابن سيرين (بين أخويكم) بالجمع، وقرأ حسن (بين إخوانكم) بالألف والنون.
وقوله تعالى: { واتقوا الله }؛ أي أطيعوا الله ولا تخالفوا أمره، { لعلكم ترحمون }. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه؛ ولا يعيبه ولا يخذله، ولا يتطاول عليه بالبنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلا أن يغرف له منه، ولا يشتري لبيته الفاكهة فيخرجون بها إلى أولاد جاره إلا أن يطعموهم منها).
[49.11]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم }؛ أي لا يستهزئ الرجل من أخيه فيقول: إنك رديء المعيشة لئيم الحسب وأشباه ذلك مما ينتقصه به وهو خير منه عند الله. وقيل: معناه: لا يعير قوم قوما لعل المسخور منه أفضل عند الله تعالى من الساخرين، { ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن }؛ ولا يعير نساؤنا نساءنا لعل المسخورة منهن أفضل من الساخرات. وقيل: معناه: لا يسخر غني من فقير لفقره.
قوله تعالى: { ولا تلمزوا أنفسكم }؛ أي لا تعيبوا إخوانكم الذين هم كأنفسكم، { ولا تنابزوا بالألقاب }؛ أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب الذي يكرهه صاحبه؛ لأن عليه أن يخاطب أخاه بأحب الأسماء إليه.
وقال قتادة: (معناه: لا تقل لأخيك المسلم: يا فاسق ويا منافق، ولا يقول لليهودي بعد أن آمن: يا يهودي) وذلك معنى: { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان }؛ قال عطاء: (هو كل شيء أغضبت به أخاك كقولك: يا كلب؛ يا خنزير؛ يا حمار).
قوله تعالى: { ومن لم يتب }؛ أي من لم يتب ممن التنابز { فأولئك هم الظالمون }؛ وقال: (نزل قوله تعالى: { ولا نسآء من نسآء } في نساء رسول الله عيرن أم سلمة بالقصر). ويقال: نزلت في عائشة رضي الله عنها أشارت بيدها في أم سلمة أنها قصيرة.
وروى عكرمة عن ابن عباس:
" أن صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن النساء يعيرنني يا يهودية بنت يهوديين، فقال صلى الله عليه وسلم: " هلا قلت: أبي هارون وعمي موسى وأن زوجي محمد " "
فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولا تلمزوا أنفسكم } أي لا يغتب بعضكم بعضا ولا يطعن بعضكم على بعض.
وقيل: اللمز العيب في المشهر، والهمز في المغيب، وقال محمد بن زيد: (اللمز يكون باللسان والعين والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان)، قال الشاعر:
إن لقيتك تبدي لي مكاشرة
وإن أغب فلأنت الهامز اللمزه
[49.12]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم }
" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر، ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويهيء لهما طعامهما وشرابهما، ويصيب من طعامهما، فضم سلمان إلى رجلين من أصحابه في بعض أسفاره، فتقوم سلمان معهما.
فاتفق ذات يوم أنه لم يعد لهما شيئا فغلبته عيناه فنام، فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئا؟ قال: لا، قالا: ولم؟ قال: غلبتني عيناي، فقالا: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واطلب لنا منه طعاما وإداما - وقيل: إنهما قالا له: انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم واسأله لنا فضل إدام إن كان عنده - فذهب فسأل فقال صلى الله عليه وسلم: " إنطلق إلى الخازن فليطعمك إن كان عنده " وكان الخازن يومئذ أسامة بن زيد، فانطلق إليه فلم يجد عنده شيئا.
فرجع إليهما فأخبرهما بذلك، فقالا: إنه بخيل يأمره رسول الله ويبخل هو علينا، فقالا في سلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لقال: ليس فيها ماء! ثم جعلا يتجسسان هل كان عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإدام. فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: " ما لي أرى حمرة اللحم على أفواهكما؟ " قالا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تناولنا يومنا هذا لحما؟ فقال: " ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة " فأنزل الله هذه الآية: { يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا }؛ والظن الذي هو الإثم: أن يعرض بقلب الإنسان في أخيه ما يوجب الريبة فيحققه من غير سبب يوجبه، كما روي في الخبر: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " ".
وقوله تعالى: { ولا تجسسوا } التجسس: البحث عن عيب أخيه الذي ستره الله عليه. ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله ولا تتبعوا عورات الناس، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تجسسوا؛ ولا تحاسدوا؛ ولا تباغضوا؛ ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا ".
وروي: أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: (إن فلانا يواظب على شرب الخمر، فقال له: إذا علمته يشربها فأعلمني. فأعلمه فذهب معه حتى انتهى إلى داره، فدخل عليه وقال: أنت الذي تشرب الخمر؟ فقال: وأنت تتجسس عيوب المسلمين؟ فقال عمر: تبت أن لا أعود، فقال الرجل: وأنا تبت لا أعود).
وروى زيد بن أسلم: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات ليلة ومعه عبدالرحمن بن عوف إذ شبت لهما نار، فأتيا الباب فاستأذنا ففتح لهما فدخلا، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح، فقال عمر للرجل: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: من هذه معك؟ قال: امرأتي، قال: وفي القدح؟ قال: ماء زلال، فقال للمرأة : وما الذي تغنين؟ فقالت: أقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا خشية الله والتقى
لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن العقل والحياء يكفني
وأكرم بعلي أن تنال مواكبه
ثم قال: يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: { ولا تجسسوا } قال: صدقت، وانصرف).
قوله تعالى: { ولا يغتب بعضكم بعضا }؛ أي لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوء مما هو فيه، فإن يتناوله بما ليس فيه فهو بهتان،
" وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: " أن تذكر من الرجل ما يكرهه إذا سمعه " فقيل: يا رسول الله، وإن كان حقا؟ فقال: " وإن كان حقا، وأما إذا كان باطلا فهو البهتان " ".
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " إياكم والغيبة، فإن الغيبة أشد من الزنى " قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " إن الرجل يزني ويتوب، فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا اغتاب أحدكم أخاه فليستغفر له، فإن ذلك كفارة له ".
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال:
" جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني زنيت، فأعرض عنه حتى أقر أربع مرات، فأمر برجمه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم على رجلين يذكران ماعزا، فقال أحدهما: هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم كرجم الكلب، فسكت عنهما حتى مرا على جيفة حمار، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنزلا فأصيبا أكلة منه " فقالا: يا رسول الله أنأكل من هذه الجيفة؟! فقال: " فما أصبتما من لحم أخيكما أعظم عليكما، أما إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها " ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم "
وقال رجل لابن سيرين: إني قد اغتبتك فاجعلني في حل، قال: (إني أكره أن أحل ما حرم الله تعالى).
والغيبة في اللغة: هي ذكر العيب بظهر الغيب، وذكر عيب الفاسق المصر على فسقه بمعنى يرجع إلى قبائح أفعاله على وجه التحقير له فليس بغيبة كما ورد في الحديث:
" اذكروا الفاجر عما فيه كي يحذره الناس ".
وكان الحسن يقول في الحجاج: (جاءنا أخيفش وأعيمش، يخرج إلينا ثيابا قصيرة، والله ما عرف فيها عينان في سبيل الله، يرجل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصلاة أيها الرجل) ثم جعل الحسن يقول: (هيهات والله!! حال دون ذلك السيف والسوط).
قوله تعالى: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا }؛ أي كما كرهتم أكل لحم الميت طبعا فاكرهوا غيبة الحي عقلا، فإن العقل أحق أن يتبع من الطبع. ووجه تشبيه الغيبة لحمه ميتا أن الاغتياب ذكر له بالسوء من غير أن يحس هو بذلك، فهو بمنزلة الأكل من لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
وعن ابن عباس أنه دخل الكعبة فقال: (ما أطيب ريحك وأعظم حرمتك، ولحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك، إنما جعلك الله حراما، وحرم من المؤمن دمه وماله وعرضه، وأن يظن به السوء).
وعن الحسن أنه قيل له: إن أقواما يجلسون مجلسك ويحفظون عليك سقط كلامك ثم يغيبونك، فقال: طمعت نفسي في جوار الرحمن وطول الجنان والنجاة من النيران ومرافقة الأنبياء عليهم السلام، ولم أطمع نفسي في السلامة من الناس، إنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم، فإذا لم يسلم منهم خالقهم فالمخلوق أجدر أن لا يسلم.
قوله تعالى: { فكرهتموه }؛ أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا. قوله تعالى: { واتقوا الله }؛ أي اتقوه في الغيبة، { إن الله تواب }؛ على من تاب، { رحيم }.
[49.13]
قوله تعالى: { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى }؛ نزلت في نفر من قريش قالوا حين سمعوا أذان بلال: أما وجد محمد مؤذنا غير هذا الغراب؟ والمعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من آدم وحواء، فكلكم متساوون في النسب، لأن كلكم يرجع إلى أب واحد وأم واحدة. ومعنى الآية: الزجر عن التفاخر بالأنساب، قال صلى الله عليه وسلم:
" إنما أنتم من رجل واحد وامرأة واحدة، ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى ".
ثم ذكر أنه إنما فرق أنساب الناس ليتعارفوا لا ليتفاخروا فقال تعالى: { وجعلناكم شعوبا وقبآئل لتعارفوا }؛ الشعوب جمع شعب بفتح الشين؛ وهو الحي العظيم مثل ربيعة ومضر، والقبائل دونها وهو كبكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول جماعة من المفسرين.
وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: " يريد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب) وإلى هذا ذهب قوم فقالوا: الشعوب من العجم من لا يعرف لهم أصل نسب كالهند والترك، والقبائل من العرب. وقيل: معناه: وجعلكم متشعبين مفرقين نحو العرب وفارس والروم والهند وقبائل العرب وبيوتات العجم. والشعب بكسر الشين: الطريق في الجبل، وجمعه شعاب.
والحاصل أن الشعوب رؤوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، والقبائل دون الشعوب وهم كبكر من ربيعة وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر؛ واحدتها عمارة بفتح العين، وهم كشيبان من بكر ودارم من تميم، ودون العمائر البطون؛ واحدها بطن وهو كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ؛ واحدها فخذ وهم بني هاشم وبني أمية من لؤي، ثم الفصائل واحدها فصيلة وعشيرة.
قوله تعالى: { لتعارفوا } أي ليعرف بعضكم بعضا في النسب لا لتفاخروا فيما بينكم، كما أن الله تعالى خالف بين خلقكم وصوركم لتعرفوا بعضكم بعضا، وقرأ الأعمش (لتعارفوا) وقرأ ابن عباس (لتعرفوا) بغير ألف.
وقوله تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }؛ (أن أكرمكم) بفتح الألف، { إن الله عليم خبير }؛ معناه: إن أكرمكم في الآخرة اتقاكم لله في الدنيا، وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء، الناس من آدم؛ وآدم من التراب؛ أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله " وقال: " كرم الرجل دينه وتقواه، وفضله عقله، وحسبه خلقه ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وإنما أنتم بني آدم، أكرمكم عند الله أتقاكم ".
وقال ابن عباس: (كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى)، وقال الشاعر:
ما يصنع العبد بعز الغنى
والعز كل العز للمتقي
من عرف الله فلم تغنه
معرفة الله فذاك الشقي
[49.14]
قوله تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا }؛ نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في سنة جدبة، وأظهروا شهادة أن لا إله إلا الله، ولم يكونوا مؤمنين في السر، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها، وكانوا يزعمون أنهم مخلصون في إيمانهم، ولم يكونوا كذلك، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: يأتيك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وأتيناك بالأثقال والعيال والذراري، يمنون على رسول الله، ولم نقاتلك كما تقاتلك بنو فلان وبنو فلان، ويريدون بذلك الصدقة ويقولون: أعطنا. فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: أنهم قالوا صدقنا باللسان والقلوب، قل لهم يا محمد: لم تؤمنوا؛ أي لم تصدقوا بقلوبكم كما صدقتم بألسنتكم { ولكن قولوا } استسلمنا وأنقدنا مخافة السبي والقتل: { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله }؛ في السر كما أطعتم في العلانية، فتتوبوا من الكفر والنفاق، { لا يلتكم من أعمالكم شيئا }؛ أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا، { إن الله غفور }؛ لمن تاب، { رحيم }؛ بمن مات على التوبة.
ومن قرأ (لا يألتكم) بالهمزة فهو من ألت يألت ألتا إذا نقص، ويقال: لات يليت ليتا بهذا المعنى، وكلا القراءتين بمعنى واحد.
[49.15-17]
قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله }؛ أي هم الذين أقروا وصدقوا بوحدانية الله ونبوة رسوله، { ثم لم يرتابوا }؛ أي لم يشكوا في دينهم بعد الإيمان، { وجاهدوا }؛ العدو، { بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله }؛ طاعة، { أولئك هم الصادقون }؛ في الإيمان.
فلما نزلت هذه الآية جاء القوم يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يؤمنون في السر والعلانية، وقد علم الله منهم غير ذلك، فأنزل الله:
قوله تعالى: { قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم }؛ معناه: كيف يعلمون الله بالدين الذي أنتم عليه، وهو عالم بكل شيء من كل وجه، وكيف يجوز أن يعلم من كان بهذه الصفة.
وقوله: { يمنون عليك أن أسلموا } وذلك أن هؤلاء المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: قاتلتك العرب بأسيافهم ونحن جئناك بالأهل والذراري والأثقال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فقال الله تعالى: { يمنون عليك }؛ يا محمد؛ { أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم }؛ فإن إجابتكم إلى الإسلام لم تكن إلا لاجابتكم على أنفسكم لا إنكم أنعمتم على من دعاكم إلى ذلك.
ومن المعلوم أن حق الداعي إلى الهداية أعظم من حق المطيع بالإجابة، فليس للمطالب أن يطالب بالحق الذي له وينسى الحق الأعظم الذي عليه، ولذلك قال الله: { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان }؛ وأخرجكم من الضلال، { إن كنتم صادقين }؛ في مقالتكم.
[49.18]
قوله تعالى: { إن الله يعلم غيب السموت والأرض والله بصير بما تعملون }؛ فيه بيان أنه لا ينفع المنافق عند الله كتمان الكفر؛ لأنه تعالى عالم به.
فإن قيل: كيف تجوز المنة من الله تعالى والمنة مما يكدر الصنيعة؟ قيل: إن المنة عمن يستغنى عنه تكدر الصنيعة، وأما الله تعالى ليس من أحد إلا وهو محتاج إليه، فليس في منته تكدير للنعمة لاستحالة أن يستغنى بغيره عنه. وقد يقال: إذا كفرت النعمة حسنت المنة، وبالله التوفيق.
[50 - سورة ق]
[50.1]
{ ق }؛ قال ابن عباس: (هو اسم من أسماء الله أقسم به)، وقال القرطبي: (هو افتتاح اسمه: قدير؛ وقادر؛ وقاهر؛ وقابض)، وقال عكرمة والضحاك وجماعة المفسرين: (هو اسم جبل محيط بالدنيا من زبرجد أخضر اخضرت السماء منه، وهو وراء الحجاب الذي فيه تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة، وليس في الأرض بلد إلا وتحتها عرق من عروق ذلك الجبل، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض حرك عرقه ذلك فزلزل، وإذا أراد الله بأهل مدينة هلاكا أمره فحرك عرقه فخسف بهم).
قال وهب: (إن ذا القرنين أتى على جبل قاف، فسأله: هل وراءك شيء؟ قال: ورائي أرض مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة من جبال الثلج يخطم بعضها بعضا، ومن ورائك أيضا أرض مثلها من البرد، لولا ذلك الثلج والبرد لاحترقت من حر جهنم).
وقال بعضهم: معنى قوله تعالى { ق } قضي الأمر ما هو كائن، وقال أبو بكر الوراق: (معناه: قف عند أمرنا ونهينا ولا تعديهما). وقيل: معناه: قل يا محمد.
قوله تعالى: { والقرآن المجيد }؛ أي الشريف الكريم على الله. واختلف العلماء في جواب القسم، فقال أهل الكوفة جوابه: { بل عجبوا } ، وقال الأخفش: (جوابه محذوف؛ تقديره: والقرآن المجيد لتبعث).
وقيل: جوابه
ما يلفظ من قول
[ق: 18]. وقيل: جوابه
قد علمنا
[ق: 4] كما قال الله
والشمس وضحاها
[الشمس: 1] إلى أن قال
قد أفلح من زكاها
[الشمس: 9] فذلك جواب القسم، إلا أن اللام حذفت منه، ويجوز أن تجعل (بل) في جواب القسم موضع (لقد).
وجوابات القسم ستة:
1. (إن) شديدة كقوله
والفجر * وليال عشر
[الفجر: 1-2] إلى أن قال:
إن ربك لبالمرصاد
[الفجر: 14].
2. و (ما) في النفي كقوله
والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك
[الضحى: 1-3].
3. و (لا) أي النافية، واللام مفتوحة كقوله
فوربك لنسألنهم أجمعين
[الحجر: 92].
4. و (إن) الخفيفة كقوله
تالله إن كنا
[الشعراء: 97].
5. و (لا) كقوله
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت
[النحل: 38].
6. و (قد) كقوله
والشمس وضحاها
[الشمس: 1] إلى أن قال
قد أفلح من زكاها
[الشمس: 9].
7. و (بل) كقوله { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا }.
[50.2-3]
قوله تعالى: { بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم } ، أي مخوف يعرفون حسبه ونسبه وصدقه وأمانته، { فقال الكافرون هذا شيء عجيب }؛ عجبوا لكون محمد رسولا إليهم، فأنكروا رسالته وأنكروا البعث بعد الموت، وهو قوله: { أءذا متنا وكنا ترابا }؛ أي أنبعث إذا متنا؟ قالوا ذلك متعجبين أنهم إذا ماتوا وصاروا ترابا كيف يبعثون بعد ذلك؟ وقالوا: { ذلك رجع بعيد }؛ أي الرد إلى الحياة بعيد غير كائن أبدا، استبعدوا بجهلهم أن يبعثوا بعد الموت.
[50.4]
قوله تعالى: { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم }؛ أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وأشعارهم، والمعنى: لا يخفى علينا شيء مما تأخذ الأرض من أبدان الموتى، فمن علم ذلك فهو قادر على إعادة ذلك الخلق بعينه إلى الحياة.
وقوله: { وعندنا كتاب حفيظ }؛ أراد به اللوح المحفوظ، حفظ من الزيادة والنقصان، عندنا كتاب حافظ لعدتهم وأسمائهم، وقد أثبتنا فيه ما يكون من جميع الأشياء المقدرة.
[50.5]
قوله تعالى: { بل كذبوا بالحق لما جآءهم }؛ أي كذبوا بالقرآن لما جاءهم بدلائل الله، { فهم في أمر مريج }؛ أي مختلط ملتبس عليهم، لا يثبتون على شيء واحد، مرة يشكون وأخرى يجحدون، ومرة يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر، ومرة يقولون: هو شاعر، ومرة يقولون: معلم مجنون، وتارة يقولون للقرآن: هو سحر يؤثر، وتارة يقولون: هو أساطير الأولين، وتارة يقولون: سحر مفترى.
وقال الحسن: (ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم)، وقال قتادة: (من ترك الحق مرج عليه رأيه، والتبس عليه دينه)، ومن ذلك المرج لاختلاط أشجارها بعضها من بعض.
[50.6]
قوله تعالى: { أفلم ينظروا إلى السمآء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج }؛ ودلهم بهذا على قدرته بعظيم خلقه، فقال: أفلم ينظروا كيف بنيناها وزيناها بالكواكب وما لها من فتوق وشقوق وصدوع.
[50.7]
قوله تعالى: { والأرض مددناها }؛ أي بسطناها، { وألقينا فيها رواسي } أي جبالا، { وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج }؛ أي من كل لون حسن منظره.
[50.8]
قوله تعالى: { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب }؛ أي فعلنا ذلك الذي ذكرناه ليبصر به ويتذكر به، فهو تذكير وعظة وتنبيه لكل عبد منيب يرجع إلى الله ويتفكر في قدرته.
قال أبو حاتم: (قوله { تبصرة } منصوب على المصدر) يعني تبصيرا وتذكيرا وتنبيها له؛ لأن من قدر على خلق السماوات والأرض والنبات قدر على بعثهم.
[50.9]
قوله تعالى: { ونزلنا من السمآء مآء مبركا }؛ يعني المطر، { فأنبتنا به جنت }؛ أي بساتين، { وحب الحصيد }؛ يعني الزرع الذي من شأنه أن يحصد حصيدا، حصد أم لم يحصد، وذلك البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد وتدخر وتقتات. وإضافة الحب إلى الحصيد وهما واحد لاختلاف اللفظين، كما يقال مسجد الجامع، وربيع الأول، وخف البعير، وحبل الوريد ونحوها.
[50.10]
قوله تعالى: { والنخل باسقات لها طلع نضيد }؛ معناه: وأنبتنا النخل طوالا، يقال: بسقت النخلة إذا طالت. والطلع النضيد: هو الكفري ما دام في أكمامها، فهو منضود بعضه فوق بعض، وإذا خرج من أكمامها فليس بنضيد.
[50.11]
قوله تعالى: { رزقا للعباد }؛ انتصب على وجهين: أحدهما: رزقناهم هذه الأشياء، والثاني: أنبتناها للرزق، فهو منصوب؛ لأنه مفعول له؛ ولأنه مصدر فعل محذوف.
قوله تعالى: { وأحيينا به بلدة ميتا }؛ أي أحيينا بالمطر مكانا ميتا لا نبات فيه، فكما أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء، وأنبتنا هذه الأقوات من الحبوب اليابسة، { كذلك الخروج }؛ أي كذلك تنبتون بالمطر في قبوركم ثم تخرجون للبعث، والقدرة على إعادة النبات دليل على القدرة على إعادة الحياة إلى الميت.
[50.12-14]
قوله تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الأيكة وقوم تبع }؛ فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن هؤلاء الكفار سلكوا التكذيب طريقة من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم، وقد رأيتم كيف كان إنكاري عليهم، وكيف أهلكناهم.
والرس: برزون اليمامة، والنبي هو حنظل بن سنان. وأصحاب الأيكة قوم شعيب عليه السلام، والأيكة غيظ. وأما قوم تبع فقد تقدم أن تبع اسم ملك حمير، وقد ذكر ذلك في قوله تعالى:
أهم خير أم قوم تبع
[الدخان: 37].
قوله تعالى: { كل كذب الرسل }؛ أي كل من هؤلاء المذكورين كذب الرسل، { فحق وعيد }؛ أي فوجب عليهم عذابه، وحق عليهم كلمة العذاب.
وسمي تبعا لكثرة أتباعه وكان يعبد النار فأسلم ودعا قومه إلى الإسلام وهم حمير فكذبوه، قال حاتم الرقاشي: كان أسعد الحميري من التتابعة، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال:
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت وزيرا له وابن عم
قال قتادة: (ذم الله قوم تبع ولم يذمه، وكان من ملوك اليمن، فسار بالجيوش وافتتح البلاد وقصد مكة ليهدم البيت، فقيل له: إن لهذا البيت ربا يحميه، فندم وأحرم ودخل مكة وطاف بالبيت وكساه، وهو أول من كسا البيت).
[50.15]
قوله تعالى: { أفعيينا بالخلق الأول }؛ هذا جواب لقولهم (ذلك رجع بعيد). والمعنى: أعجزنا حين خلقناهم أولا ولم يكونوا شيئا، فكيف عن بعثهم، وهذا تقرير لهم لأنهم اعترفوا بأن الله الخالق وأنكروا البعث. ثم ذكر أنهم في شك من البعث، فقال الله تعالى: { بل هم في لبس من خلق جديد }؛ أي بل هم في شك من البعث.
[50.16-18]
قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه }؛ أي ولقد خلقنا لبني آدم ونعلم ما يحدث به قلبه؛ أي نعلم ما يخفي ويكن في نفسه، { ونحن أقرب إليه }؛ بالعلم بأحواله وبما في ضميره، { من حبل الوريد }؛ وهو عرق في باطن العنق بين العليا والحلقوم، وهما وريدان عن يمين ثغرة النحر ويسارها، يتصلان من ناحيتي الحلق والعاتق، ينصبان أبدا من الإنسان. وقال الحسن: (الوريد: الوتين؛ وهو عرق معلق به القلب، والله تعالى أقرب إلى المرء من قلبه).
ومعنى الآية: { ونحن أقرب إليه } أي أعلم به وأقدر عليه من بعضه، وإن كان بعضه له حجاب فلا يحجبنا شيء؛ أي لا يحجب علمنا عنه شيء.
ثم ذكر أنه مع علمه وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة، فقال: { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد }؛ قال مقاتل: (هما ملكان يتلقيان عمل ابن آدم ومنطقه) أي يأخذان ذلك ويثبتانه في صحائفهما، أحدهما عن يمين يكتب الحسنات، والثاني عن شمال يكتب السيئات، فذلك قوله { وعن الشمال قعيد } ولم يقل قعيدان؛ لأنه أراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فاكتفى من أحدهما عن الأخرى، كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
أي نحن بما عندنا راضون. والقعيد مثل قاعد كالسميع والعليم والقدير، وقال أهل الكوفة: أراد قعودا.
روي:
" أن الله تعالى وكل بالإنسان ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات، فإذا تكلم العبد بحسنة كتبها الذي على اليمين عشرا، وإذا تكلم بسيئة قال صاحب اليمين للآخر: أنظره، فنظره ست ساعات أو سبع ساعات، فإن تاب واستغفر لم يكتبها، وإن لم يتب كتب عليه سيئة واحدة "
هكذا قال صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" وكل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات العبد قالا: يا رب قد قبضت عبدك؛ أفتأذن لنا أن نصعد إلى السماء؟ فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحون، فيقولان: أنقيم في أرضك؟ فيقول: إن أرضي مملوءة من خلقي يعبدونني، فيقولان: أين نذهب؟ فيقول: قوما على قبر عبدي وهللاني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة ".
قوله تعالى: { قعيد } أي رصيد حافظ حاضر ملازم لا يبرح. قوله تعالى: { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد }؛ أي حافظ حاضر { عتيد } أي معتد له.
[50.19]
قوله تعالى: { وجاءت سكرة الموت بالحق }؛ أي جاءت غمرات الموت وأهواله وشدتها التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، { بالحق } أي بما يصير إليه من أمر الآخرة من شقاوة أو سعادة تحقق عليه عند الموت. ويقال له: { ذلك ما كنت منه تحيد }؛ أي تميل وتهرب وتكره، قد أيقنت أنه الآن، يقال: حاد عن الشيء يحيد عنه حيدا؛ إذا مال وزاغ ونكص، وقرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه (وجاءت سكرة الحق بالموت).
[50.20]
قوله تعالى: { ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد }؛ يريد نفخة البعث، يكون يوم القيامة وهو يوم يتحقق فيه الوعيد، وهو اليوم الموعود للأولين والآخرين يجتمعون فيه. وقيل: معناه: ذلك الذي وعد الله الكفار أن يعذبهم فيه.
[50.21-22]
قوله تعالى: { وجآءت كل نفس معها سآئق وشهيد }؛ أي سائق يسوقها إلى المحشر، وشاهد يشهد عليها بما عملت قال الكلبي: (السائق هو الذي يكتب السيئات، والشهيد هو الذي يكتب الحسنات)، والمراد بالنفس ها هنا نفس الكافر، يدل عليه قوله تعالى: { لقد كنت في غفلة من هذا }؛ اليوم في الدنيا، { فكشفنا عنك غطآءك }؛ الذي كان في الدنيا يغشى قلبك وسمعك وبصرك، { فبصرك اليوم حديد }؛ أي فأنت اليوم عالم نافذ البصر، تبصر ما كنت تنكر في الدنيا. وقيل: معناه: { فبصرك اليوم حديد } أي فعلمك نافذ، وهو من البصيرة لا بصر العين، كما يقال: فلان بصير بهذا الأمر؛ أي عالم به. وقيل: معناه: فبصرك اليوم شاخص لما ترى من الهول.
[50.23-24]
قوله تعالى: { وقال قرينه هذا ما لدي عتيد }؛ يعني الملك الذي يكتب عمله السيء في الدنيا يقول: هذا الذي كتبته من عمله معد محفوظ محصى، يعني أن الملك يقول: لديه هذا الذي وكلتني به قد أحضرته، فيقول الله تعالى لقرينه: { ألقيا في جهنم }؛ إطرحا فيها، { كل كفار }؛ بالله وبنعمته، { عنيد } ، معرض عن الإيمان والقرآن إعراض المضاد له. وهذا خطاب الواحد بلفظ التثنية على عادة العرب، يقولون للواحد: ارحلاها وآزجراها. وقيل: الخطاب لخازن النار، ومخاطبة الواحد بلفظ الاثنين من فصيح كلام العرب، ومنه قولهم للواحد في الشعر (خليلي)، قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب
نقض لبانات للفؤاد المعذب
وقال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال الفراء والسدي وأبو ثروان:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر
وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
ومنه قول الحجاج: (يا حرسي إضربا عنقه)، قال الزجاج: (تثنية على الحقيقة والخطاب للمتلقين معا، والسائق والشهيد جميعا)، وقرأ الحسن: (ألقين) بنون التأكيد كقوله تعالى:
لنسفعا بالناصية
[العلق: 15].
[50.25-26]
قوله تعالى: { مناع للخير }؛ أي لا ينزل خيرا ولا يعطي شيئا من حق الله. قوله تعالى: { معتد }؛ أي ظالم لا يقر بتوحيد الله، قوله تعالى: { مريب }؛ أي شاك في البعث والتوحيد. قوله تعالى: { الذي جعل مع الله إلها آخر }؛ أي شريكا، { فألقياه في العذاب الشديد }؛ أي إطرحاه في النار.
[50.27]
قوله تعالى: { قال قرينه }؛ أي شيطانه: { ربنا مآ أطغيته }؛ أي ما أغويته، ما أضللته؛ أي لم أتول ذلك. وقيل: معناه: قال قرينه الذي يشهد عليه من الملائكة: { ربنا مآ أطغيته } أي ما عجلت عليه في الكتابة وما كتبت عليه إلا ما قال وفعل، { ولكن كان في ضلال }؛ خطأ، { بعيد }؛ من الصواب. وإنما يقول الملك هذا القول بعد ما يقول الكافر: يا رب علي كتب ما لم أقل ولم أفعل وما أنظرني، ولكن عجل في الكتابة علي.
[50.28]
قوله تعالى: { قال لا تختصموا لدي }؛ أي يقول الله تعالى: لا تختصموا عندي كما تختصموا عند ملوك الدنيا، فإني ملك لا يكرر الكلام عندي، { وقد قدمت إليكم }؛ على ألسنة الرسل بالوعد و؛ { بالوعيد }؛ لا ينفعكم الاختصام بعد أن أخبرتكم على ألسنة الرسل بعذابي في الآخرة لمن كفر.
[50.29]
قوله تعالى: { ما يبدل القول لدي }؛ أي لا خلف لوعدي ووعيدي، وقد قضيت ما أنا قاض عليكم من العذاب، لا تبديل له. وقيل: معناه: لا يكذب عندي ولا يغير القول من جملته؛ لأني أعلم الغيب وأعلم كيف ضلوا وكيف أضللتموهم، ولا يقدر أحد أن يشقي أحدا ممن أسعدته، ولا يسعد أحد ممن أشقيته.
قوله تعالى: { ومآ أنا بظلام للعبيد }؛ أي لا أعاقب أحدا من غير جرم، ولا أخذل أحدا من غير ذنب، ومن عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها.
[50.30]
قوله تعالى: { يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد } قرأ نافع (يقول) بالياء على معنى: يقول الله. والمعنى: أنذرهم يوم يقول لجهنم: هل امتلأت كما وعدتك، فتقول: { هل من مزيد } أي لم يبق موضع لم يمتلئ فلا مزيد، على هذا قال المفسرون: أراها الله تصديق قوله
لأملأن جهنم
[الأعراف: 18] فلما امتلأت قال لها: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد على هذا الامتلاء؟ وهذا استفهام إنكار؛ أي قد امتلأت ولم يبق في موضع خال. هذا قول عطاء ومجاهد. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: (أنها تستزيد إلى ما فيها) ووجه هذا القول أن هذا السؤال في قوله { هل امتلأت } كان قبل دخول جميع أهلها فيها. ويجوز أن يكون المعنى: أنها طلبت أن تزاد في سعتها لتضايقها بأهلها.
[50.31-32]
قوله تعالى: { وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد }؛ أي قريب، وأديت الجنة للمتقين الشرك غير بعيد، ينظرون إليها قبل دخولها، ويقال لهم عند تقريبها: { هذا }؛ الذي ترونه، { ما توعدون }؛ في الدنيا على ألسنة الرسل، { لكل أواب حفيظ }؛ أي لكل رجاع عن معاصي الله إلى طاعة الله، حافظ لحدود الله من الخروج إلى ما لا يجوز.
قال مجاهد: (الأواب الذي يذكر الله فيستغفر منه)، وقيل: هو الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب. وقيل: الأواب المسبح من قوله
يجبال أوبي معه
[سبأ: 10]. وقيل: هو الذاكر لله، وقال مقاتل: (المطيع). وقيل: هو الذي لا يقوم من محله حتى يستغفر الله، وقال أبو بكر الوراق: (هو المتوكل على الله في السراء والضراء، لا يهتدي إلى غير الله). وقيل: هو الذي لا يشتغل إلا بالله.
[50.33]
قوله تعالى: { من خشي الرحمن بالغيب }؛ صفة للأواب الحفيظ، والمعنى: من خاف الله وخاف من عذابه وأطاعه ولم يعصه، وعبده حيث لا يراه إلا الله، وهو معنى قوله { بالغيب } { وجآء بقلب منيب }؛ أي جاء بقلب مخلص راجع عن معاصي الله إلى طاعته، والقلب المنيب: هو التائب، وموضع { من خشي } الخفض على نعت الأواب.
[50.34-35]
قوله تعالى: { ادخلوها بسلام }؛ يعني سلامة من الهموم والعذاب وأمان من كل مكروه، { ذلك يوم الخلود }؛ في الجنة لأنه لا موت فيها ولا فناء ولا انقطاع، { لهم ما يشآءون فيها }؛ من أنواع النعيم، { ولدينا مزيد }؛ أي نزيدهم من عندنا ما لم يسألوه، ولا خطر على قلوب، ولا بلغته أفهامهم، وقال جابر: " المزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم بلا كيف).
[50.36-37]
قوله تعالى: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا }؛ هذا تخويف لأهل مكة؛ أي كم أهلكنا من قوم هم أشد منهم بطشا، { فنقبوا في البلاد }؛ أي ساروا وتقلبوا وطافوا في البلاد. وأصله من النقب وهو الطريق؛ وكأنهم سلكوا كل طريق فلم يجدوا مخلصا عن أمر الله.
قال الزجاج: (لم يروا مخلصا من الموت، كأنهم ضربوا في الأرض مع شدة شوكتهم وبطشهم، وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفرا من الموت، يموتون فيصيرون إلى عذاب الله).
قرأ الحسن: (فنقبوا) بالتخفيف، وقرأ السلمي على اللفظ الأمر على التهديد والوعيد؛ أي أقبلوا في البلاد وأدبروا يا أهل مكة وتصرفوا منها كل متصرف، وسيروا في الأرض فانظروا، { هل من محيص * إن في ذلك لذكرى }؛ أي إن ما صنع بهم من هلاك القرى لعبرة وعظة؛ { لمن كان له قلب }؛ عقل وحزم وبصيرة، { أو ألقى السمع }؛ أي استمع ما يقال له على جهة التفهم، يقول العرب: ألق سمعك؛ أي استمع مني؛ { وهو شهيد }؛ أي شاهد القلب حاضره غير غافل ولا ساه.
[50.38]
قوله تعالى: { ولقد خلقنا السموت والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب }؛ واللغوب هو التعب، وذلك أن اليهود لعنهم الله قالوا: خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، فأعيا واستراح يوم السبت! فذلك لا يعمل فيه شيئا. فأكذبهم الله بقوله { وما مسنا من لغوب } ، واللغوب هو التعب، وسبحان الله أن يوصف بتعب أو نصب.
[50.39-40]
قوله تعالى: { فاصبر على ما يقولون }؛ أي إصبر يا محمد على ما يقولون من الأذى والتكذيب، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال، قوله تعالى: { وسبح بحمد ربك }؛ أي صل بأمر ربك واحمده، { قبل طلوع الشمس وقبل الغروب }؛ أراد بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر. وقيل: معناه: قبل الغروب: الظهر والعصر، { ومن الليل فسبحه }؛ يعني: صلاة المغرب والعشاء. وسميت الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح: (سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى).
وقوله تعالى: { وأدبار السجود }؛ يعني الركعتين بعد المغرب وقبل الوتر. وقيل: التسبيح في أواخر الصلاة، يسبحون الله ثلاثا وثلاثين، ويحمدون ثلاثا وثلاثين، ويكبرون ثلاثا وثلاثين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه كان يقول في آخر صلاته عند انصرافه: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون... } إلى آخر السورة ".
وعن الشعبي والأوزاعي أنهما قالا: (أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم: الركعتان قبل الفجر). وقال ابن زيد: (معنى قوله { وأدبار السجود } وهو النوافل، وأدبار المكتوبات).
قرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وعاصم والكسائي وابن عامر: (وأدبار) بفتح الألف جمع الدبر. وقرأ الباقون بالكسر على المصدر من أدبر يدبر إدبارا.
[50.41]
قوله تعالى: { واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب }؛ أي استمع يا محمد صيحة القيامة والبعث والنشر، ويوم النداء هو يوم صيحة إسرافيل، وهو يوم النفخة الأخيرة، يقوم فيه على صخرة بيت المقدس فينفخ في الصور، والصخرة أقرب مكان من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلا كذا قال الكلبي.
وفي الحديث:
" أنه ينادي: أيتها العظام البالية، والعروق المتمزقة، والشعور المتفرقة، أخرجن لفصل القضاء فيكن، فيخرجون على وجه الأرض ".
[50.42]
قوله تعالى: { يوم يسمعون الصيحة بالحق }؛ أي بالبعث، وقيل: إنها كائنة بالحق، { ذلك يوم الخروج }؛ أي من القبور إلى المحشر.
[50.43]
قوله تعالى: { إنا نحن نحيي ونميت }؛ أي نحيي الأموات ونميت الأحياء، { وإلينا المصير }؛ في الآخرة للجزاء.
[50.44]
قوله تعالى: { يوم تشقق الأرض عنهم سراعا }؛ أي تتصدع عنهم مسرعين، والمعنى يوم تشقق الأرض عنهم خارجين سراعا يسرعون إلى الداعي، { ذلك }؛ الحشر، { حشر علينا يسير }؛ أي هين وسهل.
[50.45]
قوله تعالى: { نحن أعلم بما يقولون }؛ يا محمد من تكذيبك من أمر البعث وغير ذلك، يعني كفار مكة، { ومآ أنت عليهم بجبار }؛ أي بمسلط قهار تجبرهم على الإسلام، إنما بعثت مذكرا محذرا، وذلك قبل أن يؤمر بالقتال، قوله تعالى: { فذكر بالقرآن }؛ أي عظ به، { من يخاف وعيد }؛ وإنما خص الخائفين بالوعظ؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك، والمعنى: ذكر بالقرآن من يخاف ما وعدت من عصاني من العذاب.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-2]
{ والذاريات ذروا }؛ يعني الرياح تذروا التراب، وتهشم النبات، أي تفرقه، وهي مخفوضة على القسم. قوله تعالى: { فالحاملات وقرا }؛ يعني السحاب تحمل ثقلا من ماء المطر، فتصير كالموقدة، والوقر بكسر الواو الحمل، والوقر بفتح الواو الثقل في الأذن.
[51.3-6]
قوله تعالى: { فالجاريات يسرا }؛ يعني السفن تجري في الماء جريا سهلا مع عظمها. قوله تعالى: { فالمقسمات أمرا }؛ يعني الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به من الأرزاق وغيرها.
أقسم الله بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعته وقدرته. قوله تعالى: { إنما توعدون لصادق }؛ يعني إن الذي توعدون من الثواب والعقاب لصادق، { وإن الدين }؛ أي الجزاء، { لوقع }؛ كائن يوم القيامة.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال ذات يوم في خطبة: (سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء من القرآن إلا وسأخبركم به. فقال رجل: يا أمير المؤمنين؛ ما الذاريات ذروا؟ فقال: الرياح: وقال: ما الحاملات وقرا؟ قال: السحاب. قال: ما الجاريات يسرا؟ قال: السفن. قال: ما المقسمات أمرا؟ قال: الملائكة).
وعن الأعرج قال: بلغنا أن مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة الكرسي، فتهيج من ثم فتقع بعجلة الشمس، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال، ثم تهيج من رؤوس الجبال فتقع في البر، وأما الشمال فإنها تمر بجنة عدن، فتأخذ من عرف طيبها، فتمر على أرواح الصديقين، ثم يكون مهبها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، وتهب الدبور من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، وتهب الصبا من مطلع الشمس إلى مغرب بنات نعش، لا تدخل هذه في حد هذه، ولا هذه في حد هذه).
[51.7]
قوله تعالى: { والسمآء ذات الحبك }؛ هذا قسم آخر، ومعناه: والسماء ذات الخلق الحسن المستوي، هذا قول عكرمة، قال: (ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، قيل: ما أحسن حبكه!)، وبه قال ابن عباس وقتادة والربيع. وقال سعيد بن جبير: (ومعناه: ذات الزينة).
وقال مجاهد: (والسماء ذات البنيان المتقن). وقال الضحاك: (ذات الطريق التي ترى فيها كحبك الماء إذا ضربته الرياح، وحبك الرمل إذا سفته الريح، وحبك الشعر الجعد، وحبك الثوب الحسن النسيج).
والحبوك في اللغة: ما أجيد عمله، وواحد الحبك حباك، مثل مثال ومثل. ويجوز أن يكون واحدة حبيكة مثل طريقة وطرق. وقيل: الحبك طريق الملائكة، وقال الحسن: (حبكها زينها بالنجوم). وقيل: (ذات الحبك) أي ذات الخلق الشديد، قال تعالى:
وبنينا فوقكم سبعا شدادا
[النبأ: 12].
[51.8]
قوله تعالى: { إنكم لفي قول مختلف }؛ هذا جواب القسم الثاني، والمعنى: إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف من بين مصدق بالنبي صلى الله عليه وسلم ومكذب به، ومتوقف في أمره، وبعضكم يقول في محمد : هو شاعر، وبعضكم يقول: مجنون، وفي القرآن يقول بعضكم: هو سحر، وبعضكم يقول: هو كهانة، وبعضكم يقول: هو أساطير الأولين.
[51.9]
قوله تعالى: { يؤفك عنه من أفك }؛ أي ينصرف عن الإيمان من صرف حتى يكذب به، يعني بذلك من حرمه الله الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
[51.10]
قوله تعالى: { قتل الخراصون }؛ أي لعن الكذابون، وقال ابن عباس: (المرتابون)، والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك، كما قال الله
قتل الإنسان مآ أكفره
[عبس: 17] أي لعن. والخراصون: هم الكذابون.
قال الفراء: (والمراد بهم ها هنا الذين قالوا: محمد شاعر وكذاب ومجنون وساحر). والخارص: هو الذي يقطع في الأمور والحكم بمقداره بالتخمين، يعني من غير علم، ومنه خارص الذي يقطع في مقداره بغير حقيقة.
[51.11]
قوله تعالى: { الذين هم في غمرة ساهون }؛ نعت لهم، والغمرة هي الجهل، ومنه الغمر الجهل، والساهي هو الغافل عن أمر الآخرة. والمعنى: الذين هم في غفلة وعمى وجهالة عن أمر الآخرة، ساهون لاهون.
[51.12-14]
قوله تعالى: { يسألون أيان يوم الدين }؛ أي يسألون متى يكون الجزاء على وجه الإنكار، يقولون: يا محمد متى يوم الجزاء، تكذيبا منهم واستهزاء، فأجيبوا بما يسوءهم، فقيل: { يوم هم على النار يفتنون }؛ أي يحرقون وينضجون ويعذبون بها.
يقال: فتنت الذهب إذا أحرقت الغش الذي فيه، والكفار غش كلهم فيحرقون، ويقول لهم خزنة النار: { ذوقوا فتنتكم }؛ أي حريقكم وعذابكم، { هذا الذي كنتم به تستعجلون }؛ في الدنيا تكذيبا به. وإنما لم يقل: فتنتكم هذه؛ لأن الفتنة ها هنا بمعنى العذاب، فرد الإشارة إلى المعنى.
[51.15-18]
قوله تعالى: { إن المتقين في جنات وعيون * آخذين مآ آتاهم ربهم } أي قابلين ما أعطاهم ربهم من كرامة في الجنة. وقيل: معناه: عاملين بما أمرهم ربهم في الدنيا، وقوله تعالى: { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين }؛ في الدنيا في أعمالهم، وقوله تعالى: { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون }؛ أي ما ينامون، هذا بيان إحسانهم.
والهجوع: النوم بالليل دون النهار، و(ما) زائدة، والمعنى: كانوا يهجعون قليلا من الليل ويصلون أكثر الليل. وقيل: معناه: قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها، وقال مجاهد: (كانوا لا ينامون كل الليل).
واختار قوم الوقف على قوله { كانوا قليلا } على معنى: كانوا من الناس قليلا، وهو قول الضحاك ومقاتل. ثم ابتدأ فقال: { من الليل ما يهجعون } وهذا على نفي النوم عنهم البتة. وقيل: معناه: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: (يصلون ما بين المغرب والعشاء). وعن جعفر بن محمد أنه قال: (من لم يهجع ما بين المغرب والعشاء فهو منهم)، عن أبي ذر قال:
" سألت رسول الله: أي صلاة الليل أفضل؟ قال: " نصف الليل وقليل فاعله "
قوله تعالى: { وبالأسحار هم يستغفرون }؛ قال الحسن: (كانوا يمدون الصلاة إلى العصر ثم يأخذون في الاستغفار بالأسحار).
[51.19]
قوله تعالى: { وفي أموالهم حق للسآئل والمحروم }؛ يعني بذلك الحق الزكاة، فليس عليهم من سواها، والسائل: هو الذي يسأل الناس، والمحروم: هو الذي لا يسأل، يحرم نفسه بترك سؤاله، ويحرمه الناس بترك إعطائه.
وقال إبراهيم: (المحروم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة)، وقال زيد بن أسلم: (هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته)، ويقال: هو صاحب الحاجة بذهاب ماله بدليل قوله
إنا لمغرمون * بل نحن محرومون
[الواقعة: 66-67].
عن أبي قلابة قال: كان رجل من أهل اليمامة له مال، فجاء سيل فذهب ماله، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المحروم فأقسم له). وقال قتادة والزهري: (هو المتعفف الذي لا يسأل)، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
" لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن لحاجته فيتصدق عليه ".
وعن عبدالله بن عمر والشعبي والحسن ومجاهد أنهم قالوا: (في المال حق واجب سوى الزكاة)، وهي الحقوق التي تلزم عندما يعرض من الأموال من النفقة على الوالدين إذا كانا فقيرين، وعلى ذي الرحم المحرم، وما يجب من إطعام المضطر وحمل المنقطع وغير ذلك.
[51.20-21]
قوله تعالى: { وفي الأرض آيات للموقنين }؛ آيات الأرض جبالها وأنهارها واختلاف نباتها وبحارها وأشجارها، بذلك كله دلائل توحيد الله لمن أيقن. قوله تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }؛ معناه: وفي أنفسكم آيات إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما إلى نفخ الروح.
وقال عطاء: (يعني اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع). وقال ابن الزبير: (هو أن يأكل ويشرب من مكان واحد، ثم يخرج بعد ذلك من مكانين، مكان الغائط ومكان البول، حتى أنه لو شرب لبنا محضا خرج ماء). وقوله تعالى { أفلا تبصرون } أي أفلا تنظرون بقلوبكم نظر من كان يرى الحق بعينه.
[51.22]
قوله تعالى: { وفي السمآء رزقكم }؛ يعني المطر الذي هو سبب النبات، والنبات هو مما قسمه الله تعالى للعباد وكتبه في السماء، أخبر الله تعالى أن أرزاق العباد حيث لا يأكله السوس ولا تناله اللصوص، فقال تعالى: { وفي السمآء رزقكم }.
وعن واصل الأحدب أنه قرأ هذه الآية فقال: (إني أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة فمكث فيها ليالي لا يصيب شيئا، فلما كان يوم الرابع إذ هو خوص صرة من دوخلة رطب، فلم يزل كذلك حتى مات).
قوله تعالى: { وما توعدون }؛ قال عطاء: (معناه: وفي السماء ما توعدون من الثواب والعقاب مكتوب)، وقال الكلبي: (وما توعدون من الخير والشر). وقال مجاهد: (الجنة والنار).
[51.23]
قوله تعالى: { فورب السمآء والأرض إنه لحق مثل مآ أنكم تنطقون } أقسم الله تعالى بنفسه، والذي بينه من أمر الرزق وغيره (لصدق) كان نطقكم الذي هو الصدق من كلمة التوحيد ونحوها حق قرأه أهل الكوفة (مثل ما أنكم) برفع (مثل) على أنه صفة لقوله (لحق). وقرأ الباقون بالنصب على الترك على معنى إنه يحق حقا { مثل مآ أنكم تنطقون } ، وقيل: تقديره: كمثل ما أنكم تنطقون.
وقال بعض الحكماء: معنى قوله: { مثل مآ أنكم تنطقون } أي كما أن كل إنسان لا ينطق بلسان غيره، كذلك لا يأكل إنسان رزق غيره والذي قدر له، ولا يأكل إلا رزق نفسه، كما لا يتكلم إلا بلسان نفسه.
قال الحسن: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه "
، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت "
، قال الشاعر:
أسعى لأطلبه والرزق يطلبني
والرزق أكثر لي مني له طلبا
[51.24-25]
قوله تعالى: { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين }؛ أي قد أتاك يا محمد أضياف إبراهيم عليه السلام الذي أكرمهم بخدمته وقيامه بين أيديهم، قال ابن عباس ومقاتل: (معنى الآية: قد أتاك ولم يكن إذ ذاك آتاك إياه)، وقوله تعالى { المكرمين } يعني عند الله.
وذكر ابن عباس: (أن أضياف إبراهيم: إسرافيل وجبرائيل وميكائيل). وقال مقاتل: (يعني بقوله { المكرمين } أي أكرمهم إبراهيم فأحسن عليهم القيام، وكان لا يقوم على رأس ضيف، فلما رأى هيئتهم حسنة قام هو وامرأته سارة لخدمتهم). وقال الكلبي: (أكرمهم بالعجل). قال صلى الله عليه وسلم:
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت ".
قوله تعالى: { إذ دخلوا عليه }؛ وهم جبرائيل ومعه من الملائكة، قال ابن عباس ومقاتل: (كانوا اثنى عشر ملكا)، وقال محمد بن كعب: (كانوا سبعة ما خلا جبرائيل)، وقال عطاء: (كانوا ثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل).
قوله تعالى: { فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون }؛ معناه: سلموا عليه سلاما. وقيل: قالوا أسلم سلاما؛ كأنهم آنسوه من الوجل. فقال سلام منكم؛ أي أمنت بما جاءني من السلام. قوله تعالى: { قوم منكرون } أي إنه لم يعرفهم لأنه ظن أنهم من الإنس.
[51.26-28]
قوله تعالى: { فراغ إلى أهله }؛ أي عدل ومال إلى سارة من حيث لم يعلم أضيافه لأي شيء عدل، { فجآء بعجل سمين }؛ أي كثير الشحم فوضعه بين أيديهم، قال قتادة: (وكان عامة مال إبراهيم البقر) { فقربه إليهم }؛ ليأكلوه، فلم يأكلوا، { قال ألا تأكلون }؛ من طعامي، { فأوجس منهم خيفة }؛ أي فأضمر في نفسه خيفة منهم حيث لم يأكلوا من طعامه، ظن أنهم يريدون به سوء، فلما علموا خوفه، { قالوا لا تخف }؛ إنا رسل ربك، { وبشروه بغلام عليم }؛ حليم في صغره، عليم في كبره وهو إسحاق عليه السلام.
[51.29]
قوله تعالى: { فأقبلت امرأته في صرة }؛ أي في ضجة وصيحة؛ أي أخذت تولول؛ أي تقول: يا ويلتا. وقيل: الصرة جماعة النساء، مأخوذ من الصرة التي هي مجمع الدراهم، ومنه الشاة المصراة، وقوله تعالى: { فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم }؛ قال مقاتل والكلبي: (جمعت أصابعها فضربت جنبيها تعجبا).
ومعنى الصك: الضرب للشيء بالشيء العريض، والصرة مأخوذ من الصر وهو الصوت، كأنها جاءت بشدة الصياح فلطمت وجهها وهي تقول: أألد وأنا عجوز عاقرة، وكانت يوم البشرى بنت ثمان وتسعين سنة، وكان إبراهيم أكبر منها بسنة.
ومعنى قوله تعالى: { وقالت عجوز عقيم }؛ تقديره: أتلد عجوز عقيم، وكانت سارة لم تلد قبل ذلك، وكان بين البشارة والولادة سنة، فولدت سارة وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة.
[51.30]
قوله تعالى: { قالوا كذلك قال ربك }؛ أي كما قلنا لك إنك ستلدين غلاما عليما، { إنه هو الحكيم العليم }؛ الحكيم من العقيم بالولد وغير العقيم، العليم بمصالح العباد. والعقيم في النساء هي التي لا تأتي بالولد، وفي الرياح هي التي لا تأتى بالمطر، ولا يكون فيها الخير.
[51.31-32]
قوله تعالى: { قال فما خطبكم أيها المرسلون }؛ أي قال إبراهيم: ما شأنكم وفيما أرسلتم، { قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين }؛ كافرين لنهلكهم بكفرهم وعملهم الخبيث، أرادوا بذلك قوم لوط.
[51.33-34]
قوله تعالى: { لنرسل عليهم حجارة من طين }؛ أراد به الحجارة المطبوخة كالآجر، { مسومة عند ربك للمسرفين }؛ والمسومة المعلمة. روي: أنها كانت مخططة بسواد في حمرة، وكان على كل حجر اسم من جعل إهلاكه. والمسرف هو الخارج من الحق، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
[51.35]
قوله تعالى: { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين }؛ أراد به لوطا ومن كان معه آمن وهما ابنتاه، وهما زعورا و ريثا، أمرهم الله تعالى بأن يخرجوا بقطع من الليل، ومعنى قوله تعالى { من كان فيها } أي في قرية لوط، وذلك قوله
فأسر بأهلك
[هود: 81] أمر الله لوطا بأن يخرج هو ومن معه من المؤمنين لئلا يصيبهم العذاب.
[51.36]
قوله تعالى: { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }؛ أي غير أهل بيت من المسلمين، يعني لوطا وبنتيه، وصفهم الله بالإيمان والإسلام جميعا؛ لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم، والمراد بالإسلام ها هنا الإيمان.
[51.37]
قوله تعالى: { وتركنا فيهآ آية }؛ أي وتركنا في مدينة قوم لوط عليه السلام علامة، { للذين يخافون العذاب الأليم }؛ تدلهم على أن الله أهلكهم فيخافون مثل عذابهم، فإن اقتلاع البلدان لا يقدر عليه أحد إلا الله.
[51.38]
قوله تعالى: { وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين }؛ أي وفي خبر موسى عليه السلام وقضيته مع فرعون آية أيضا، وقوله تعالى { بسلطان مبين } أي بحجة ظاهرة وهي العصا واليد.
[51.39]
قوله تعالى: { فتولى بركنه }؛ أي أعرض فرعون عن الإيمان به بجمعه وجنده الذين كان يتقوى كالركن الذي يتقوى به البنيان، { وقال ساحر أو مجنون }؛ ونسب موسى إلى السحر والجنون مع ظهور حجته عليه.
[51.40]
قوله تعالى: { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم }؛ أي فعاقبناه وجموعه فطرحناهم في البحر وأغرقناهم، { وهو مليم }؛ أي وهو مستوجب الملامة؛ لأنه أتى بما يلام عليه حين أدعى الربوبية وكذب الرسل.
[51.41]
قوله تعالى: { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم }؛ أي وفي خبر قوم هود آية أيضا، حين أرسلنا عليهم الدبور والعقيم التي لا خير لهم فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، إنما هي ريح الهلاك، وكانت تلك الريح التي أهلكت بها عاد ريح الدبور، قال صلى الله عليه وسلم:
" نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ".
[51.42]
قوله تعالى: { ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم }؛ معناه: ما تترك من شيء مرت عليه من أنفسهم وأنعامهم إلا جعلته كالحطيم البالي المنسحق. ويقال: الرميم: هو الورق اليابس المتحطم مثل الهشيم الذي يسير كالهباء بأيسر ما تجري عليه.
قال قتادة: (معناه: إلا جعلته كالرميم الشجر)، وقال أبو العالية: (كالتراب المدقق)، وقال ابن عباس: (كالشيء الهالك)، وفي الحديث:
" أن تلك الريح كانت تتبع مسافريهم وما شد من متاعهم فتحمله فتلقيه في وادي صنعاء، ولم تضر غريبا ليس منهم ".
[51.43-45]
قوله تعالى: { وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين }؛ أي في خبر ثمود وإهلاكهم آية أيضا، إذ قيل لهم تمتعوا إن أطعتم الله إلى آجالكم، { فعتوا عن أمر ربهم }؛ فأعرضوا عن قبول أمر الله، فأخذهم العذاب المحرق وهم ينظرون إلى أنفسهم وإلى قومهم يحترقون في العذاب. وقيل: معناه: لما عقروا الناقة قال لهم صالح: تمتعوا ثلاثة أيام، وهو قوله { حتى حين } ، والتمتع: التلذذ بأسباب اللذة من المناظر والروائح الطيبة وأشباه ذلك.
قوله تعالى: { فأخذتهم الصاعقة }؛ يعني بعد مضي ثلاثة أيام. والصاعقة: كل عذاب مهلك، وقرأ الكسائي (الصعقة) وهي الصوت الشديد، { وهم ينظرون }؛ ذلك عيانا، { فما استطاعوا من قيام }؛ ما قدروا على النهوض من مقامهم حين غشيهم العذاب فيردوه، { وما كانوا منتصرين }؛ أي ما كانت لهم قوة يمتنعون بها منا، ولا كانوا طالبين ناصرا لهم يمنعهم من عذاب الله.
[51.46]
قوله تعالى: { وقوم نوح من قبل }؛ فيه قراءتان، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف (وقوم) بالخفض؛ أي وفي قوم نوح وهلاكهم بالطوفان آية أيضا، وقرأ الباقون بالنصب على معنى: وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود. وقيل: نصب على تقدير: واذكر قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم فرعون، { إنهم كانوا قوما فاسقين }؛ أي خارجين من طاعة الله. وقيل: انتصب قوله { وقوم نوح } على قراءة النصب عطفا على الهاء والميم في قوله
فنبذناهم في اليم
[الذاريات: 40] كأنه قال وأغرقنا فرعون وجنوده، وأغرقنا قوم نوح من قبل.
[51.47]
قوله تعالى: { والسمآء بنيناها بأييد }؛ أي بقدرة وقوة، { وإنا لموسعون }؛ في السماء على الأرض في كل جهات، ونحن نقدر على أكثر من ذلك، ولم يكن هذا جهد قوتنا، وقال الحسن: (وإنا لموسعون الرزق على من فوقها ومن تحتها).
[51.48]
قوله تعالى: { والأرض فرشناها }؛ أي بسطناها على الماء، { فنعم الماهدون }؛ الفارشون، والماهد في اللغة: هو الموظب للشيء المهيء لما يصلح الاستقرار عليه.
[51.49]
قوله تعالى: { ومن كل شيء خلقنا زوجين }؛ أي ومن كل شيء خلقنا من الحيوان ذكرا أو أنثى، { لعلكم تذكرون }؛ وقيل: المراد بالزوجين صنفين ولونين من حلو وحامض وأبيض لكي يعتبروا ويتعظوا بذلك، ويعلموا أنه ليس مع الله تعالى إله غيره.
[51.50-51]
قوله تعالى: { ففروا إلى الله }؛ أي اهربوا من عقابه إلى رحمته بالإخلاص في طاعته وترك ما يشغلكم عن أوامره. وقيل: معناه: ففروا إلى الله من ذنوبكم واهربوا من الكفر إلى الإسلام، ومن العصيان إلى الطاعة، { إني لكم منه نذير مبين }؛ أنذركم العقاب على الكفر والمعصية وأخوفكم عذاب الله بلغة تعرفونها متى تركتم الفرار إلى الله من الله، { ولا تجعلوا مع الله إلها آخر }؛ أي تصفوه بالشريك والولد، { إني لكم منه نذير مبين }؛ رسول أخوفكم لتمتنعوا أن تجعلوا مع الله إلها آخر غيره.
[51.52]
قوله تعالى: { كذلك مآ أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون }؛ أي كما نسبك قومك إلى السحر مرة والجنون أخرى، هكذا ما أتى الذين من قبل قومك من رسول دعاهم إلى الله إلا قالوا لذلك الرسول: هو { ساحر أو مجنون }.
[51.53]
يقول الله تعالى: { أتواصوا به }؛ معناه: أتواصوا بهذا القول فتوافقوا عليه وأوصى كل قوم من بعدهم أن يقولوا مثل هذا لرسولهم، هذا اللفظ لفظ الاستفهام، ومعناه: التوبيخ والإنكار. قوله تعالى: { بل هم قوم طاغون }؛ يعني أهل مكة قوم طاغون.
[51.54-55]
قوله تعالى: { فتول عنهم فمآ أنت بملوم }؛ أي أعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين، فما أنت عندنا بملوم، فأنك قد بلغت وأنذرت، { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }؛ أي وعظ أهل مكة بالقرآن، فإن العظة بالقرآن تنفع المؤمنين وتزيدهم صلاحا، يعني تنفع من علم الله أن يؤمن منهم. وقال الكلبي: (معناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك، فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
[51.56]
قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }؛ يعني: ما خلقتهم لجر منفعة ولا لدفع مضرة ولا الاستكثار بهم من قلة، وما خلقتهم إلا لآمرهم بعبادتي وأنهاهم عن معصيتي، ولو أنهم خلقوا لعبادة ربهم لما عصوا ربهم طرفة عين. وقال ابن عباس: (هذه الآية خاصة لأهل طاعة الله لأنه تعالى قال:
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
[الاعراف: 179]).
وقرأ ابن عباس: (وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون)، وقال علي بن أبي طالب: (معنى الآية: ما خلقتهم إلا لآمرهم ليعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي).
[51.57]
قوله تعالى: { مآ أريد منهم من رزق ومآ أريد أن يطعمون }؛ أي لم يكلفهم أن يرزقوا أنفسهم، ولا أحدا من خلقي، ولم أكلفهم أن يرزقوني، ولا يعينوني على عطاء الرزق لعبادي.
والمعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقي، ولا أن يرزقوا أنفسهم، وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي، ولا أن يطعموا أنفسهم، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأن الخلق عيال الله، فمن أطعم عيال أحد فقد أطعمه.
[51.58]
قوله تعالى: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }؛ معناه: إن الله هو الرزاق جميع خلقه، ذو القوة والاقتدار على جميع ما خلق، { المتين } يعني القوي. قرأ العامة (المتين) بالرفع (ذو) أو هو الله سبحانه، وقرأ الأعمش (المتين) بالخفض على نعت القوة، وكان من حقه أن يقول: المتينة، وإنما ذكره لأنه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم.
[51.59-60]
قوله تعالى: { فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون } أخبر الله تعالى بهذا أن لمشركي مكة من العذاب مثل ما لغيرهم من الأمم الكافرة. والمعنى: فإن للذين كفروا نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا نحو قوم نوح وعاد وثمود.
وأصل الذنوب الدلو المملوءة بالماء، قال ابن قتيبة: (كانوا يسقون فيكون لكل واحد ذنوب)، فجعل الذنوب مكان الحظ والنصيب، قال الشاعر:
لنا ذنوب ولكم ذنوب
فإن أبيتم فلنا القليب
وقال آخر:
لعمرك والمنايا طارقات
لكل بني أب منها ذنوب
وقوله تعالى: { فلا يستعجلون } أي لا يستعجلوني بالعذاب، فإني قد أخرتهم إلى يوم القيامة، يدل عليه قوله تعالى: { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون }؛ يعني يوم القيامة.
[52 - سورة الطور]
[52.1-2]
{ والطور * وكتاب مسطور }؛ الطور هو الجبل الذي كلم الله موسى وهو بمدين بالأرض المقدسة، واسمه زبير، وكل جبل فهو طور بالسريانية، قال أبو عبيدة: (الطور الجبل بالعربية؛ لأن الله تعالى قال:
ورفعنا فوقهم الطور
[النساء: 154]) والكتاب المسطور: هو اللوح المحفوظ المتضمن كل الأمور.
[52.3]
قوله تعالى: { في رق منشور }؛ يعني اللوح أيضا تنشره الملائكة للدراسة وليعلموا ما فيه. وقيل: الكتاب المسطور: صحائف أعمال بني آدم يوم القيامة، فيعطى كل واحد كتابه بيمينه أو بشماله، ونظيره
وإذا الصحف نشرت
[التكوير: 10] وقوله تعالى:
ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا
[الاسراء: 13].
[52.4]
قوله تعالى: { والبيت المعمور }؛ هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة، معمور لحسن الثناء وزيارة الملائكة، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، ما بينه وبين الكعبة إلى نجوم الأرض السابعة حرم يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه أبدا، لو سقط منه حجر لوقع على ظهر الكعبة. ويقال: البيت المعمور هو الكعبة، معمور بزيارة الناس إياه.
[52.5]
قوله تعالى: { والسقف المرفوع }؛ يعني السماء، قال الله تعالى:
وجعلنا السمآء سقفا محفوظا
[الأنبياء: 32] سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت.
[52.6-9]
قوله تعالى: { والبحر المسجور }؛ يعني الموقد المحمي، بمنزلة التنور المسجور، كأنه قال: والبحر المملوء بالنار الموقدة، كما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (هو بحر حار يفتح يوم القيامة في جهنم)، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو مجاهد في سبيل الله، فإن تحت البحور نار ".
وقال قتادة: (المسجور: المملوء)، وفي الحديث:
" أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نارا، فيسجرها في جهنم "
وعن ابن عباس أنه قال: (المسجور المحبوس).
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (البحر المسجور بحر فوق السماء السابعة تحت العرش، عمقه كما بين السماء السابعة إلى الأرض السابعة وهو بحر غليظ، سمي الحيوان يحيي به الله الخلائق يوم القيامة يوم البعث تمطر أربعين صباحا فينبتون به في قبورهم).
أقسم الله بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة الواضحة على وحدانية الله تعالى وعظم قدرته على أن تعذيب المشركين حق، وهو قوله تعالى: { إن عذاب ربك لواقع }؛ أي كائن في الآخرة واقع بأهله، { ما له من دافع }؛ يدفعه عنهم.
ثم بين متى يقع بهم ذلك العذاب فقال: { يوم تمور السمآء مورا } أي تدور دورانا وتضطرب وتتحرك، والمور في اللغة: الذهاب والمجيء والتردد والدوران. قيل: إنها تدور كما تدور الرحى، ويموج بعضها في بعض.
[52.10-12]
قوله تعالى: { وتسير الجبال سيرا }؛ أي تسير الجبال على وجه الأرض كما يسير السحاب في الدنيا فيستوي بالأرض. وقيل: معناه: تزول الجبال عن أماكنها وتصير هباء منثورا، { فويل يومئذ للمكذبين }؛ أي فشدة العذاب يومئذ للمذنبين، { الذين هم في خوض يلعبون }؛ يخوضون في حديث محمد بالتكذيب والاستهزاء، يلهون بذكره.
[52.13-16]
قوله تعالى: { يوم يدعون إلى نار جهنم دعا }؛ أي يدفعون إلى نار جهنم دفعا على وجوههم يحفونه، قال مقاتل: (تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى نار جهنم دفعا على وجوههم، حتى إذا دنوا منها قال لهم خزنتها: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا).
والدع: هو الدفع بشدة وعنف، تدفعهم الملائكة فيلقونهم في النار على وجه الاستخفاف، ويقولون لهم: { هذه النار التي كنتم بها تكذبون }. قرأ أبو رجاء العطاردي: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) بالتخفيف من الدعاء.
وتقول لهم ملائكة العذاب: { أفسحر هذا }؛ كما كنتم تزعمون في الدنيا وتنسبون الأنبياء عليهم السلام إلى ذلك، { أم أنتم لا تبصرون }؛ أي قد غطى على أبصاركم، وهذا على وجه التوبيخ، والمعنى: أتصدقون الآن أن عذاب الله واقع، ويقال لهم: { اصلوها }؛ أي اصلوا النار، الزموها وقاسوا شدتها، { فاصبروا }؛ على العذاب، { أو لا تصبروا سوآء عليكم }؛ الصبر والجزع، { إنما تجزون ما كنتم تعملون }؛ من الكفر والتكذيب.
[52.17-19]
قوله تعالى: { إن المتقين في جنات ونعيم * فاكهين بمآ آتاهم ربهم }؛ أي فاكهين؛ أي ذووا فاكهة كثيرة، وفكهين متعجبين ناعمين، { ووقاهم ربهم عذاب الجحيم }؛ أي ضره عنهم، يقال لهم: { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون }؛ أي كلوا أكلا هنيئا، واشربوا شربا هنيئا، مأمون العافية من التخمة والسقم.
وقيل: انتصب قوله تعالى: { هنيئا } لأنه في صفة المصدر؛ أي هنئتم هنيئا، وهو أن يكون خالصا من جميع الآفات وأسباب التنغيص.
قال زيد بن أرقم :
" جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم؛ تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون. فقال: " والذي نفسي بيده؛ إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع " قال الرجل: فإن الذي يأكل ويشرب يكون منه الغائط؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ذاك عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر له بطنه " ".
[52.20]
قوله تعالى: { متكئين على سرر مصفوفة }؛ في ذكر حالهم معناه: جالسين جلسة الملوك على سرر قد صف بعضها إلى بعض، وقوبل بعضها ببعض، { وزوجناهم بحور عين }؛ الحور: البيضاء نقية البياض من الحسن والكمال، والعين: الواسعات الأعين.
[52.21]
قوله تعالى: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان }؛ يعني أولادهم الصغار والكبار؛ لأن الكبار يتبعون الآباء بإيمانهم منهم، والصغار يتبعون الآباء بإيمان من الآباء، والولد يحكم له بالإسلام تبعا للوالد، { ألحقنا بهم ذريتهم }؛ يرفعون إليهم لتقر بهم أعينهم وإن كانوا دونهم في العمل تكرمة لآبائهم.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، والمشركين وأولادهم في النار "
وروي:
" أن خديجة بنت خويلد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هما في النار " ".
قوله تعالى: { ومآ ألتناهم من عملهم من شيء }؛ أي لم ننقص الآباء من الثواب حين ألحقنا بهم ذريتهم.
قرأ أبو عمرو (وأتبعناهم) بالألف والنون (ذرياتهم) بالألف وكسر اليائين لقوله { ألحقنا } و(ما ألتنا) لئلا يكون الكلام على نسق واحد. وقرأ الباقون (واتبعتهم) بالتاء من غير ألف.
واختلفوا في قوله (ذرياتهم) بالتاء فقرأ نافع الأول (ذريتهم) بالتاء وضمها بغير ألف، وقرأ الثاني (ذرياتهم) بالألف وكسر التاء. وقرأ ابن عامر (ذرياتهم) بالألف فيهما وكسر التاء، وقرأ الباقون بغير ألف فيهما وفتح الثانية.
قوله تعالى: { كل امرىء بما كسب رهين }؛ أي كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنا لقوله:
كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين
[المدثر: 38-39] واستثنى المؤمنين.
[52.22]
قوله تعالى: { وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون }؛ معناه: نزيدهم في كل وقت من ألوان الفاكهة، ومن كل لحم مما يشتهون من الأنعام والطيور المطبوخ والمشوي.
قوله تعالى: { يتنازعون فيها كأسا }؛ أي يتعاطون ويتناولون فيها آنية مملوءة من الخمر، هذا من يد ذاك، وذاك من يد هذا، ولا يكون الكأس في اللغة إلا إذا كان مملوءا، فإذا كان فارغا فليس بكأس.
[52.23]
قوله تعالى: { لا لغو فيها }؛ أي لا يجري بينهم كلام لغو ولا باطل، ولا تخاصم، { ولا تأثيم }؛ أي لا يكون منهم في حال شربها ما فيه إثم كما يكون في خمر الدنيا، وقال ابن قتيبة: (معناه: لا تذهب بعقولهم فيلهوا ويرفثوا كما يكون من خمر الدنيا، ولا يكون منهم ما يؤثمهم)، والمعنى: أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين.
[52.24]
قوله تعالى: { ويطوف عليهم غلمان لهم }؛ أي يطوف عليهم الخدمة بالفواكه والأشربة وصفاء { كأنهم لؤلؤ }؛ في الحسن والبياض، { مكنون }؛ مصون لا تمسه الأيدي.
قال قتادة:
" ذكر لنا: أن رجلا قال: يا نبي الله، هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: " والذي نفسي بيده؛ إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب "
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أدنى أهل الجنة من ينادي الخادم من خدمة، فيجيبه ألف يقولون كلهم: لبيك لبيك لبيك ".
[52.25]
قوله تعالى: { وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون }؛ أي أقبل بعضهم على بعض في الزيادة يتحدثون في الجنة، ويتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا، ويتساءلون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا.
[52.26-28]
قوله تعالى: { قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين }؛ معناه: إنهم يقولون إنا كنا من قبل أن ندخل الجنة خائفين في الدنيا من القيامة وأهوالها، ومن النار وعذابها بمعصية وقعت منا أو تقصير في طاعتنا، { فمن الله علينا } بالمغفرة وقبول الطاعة، { ووقانا عذاب السموم }؛ أي دفع عنا عذاب سموم جهنم، { إنا كنا من قبل ندعوه }؛ أي نوحده ونعبده في الدنيا، { إنه هو البر الرحيم }؛ أي هو اللطيف بعباده، الرحيم بهم.
والسموم: من أسماء جهنم في قول الحسن، وقال الكلبي: (عذاب النار)، وقال الزجاج: (هو لفح جهنم وحرها). ومن قرأ (إنه هو) بكسر الهمز فإنه استأنف الكلام.
[52.29]
قوله تعالى: { فذكر فمآ أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون } أي فعظ بالقرآن أهل مكة، ولا تترك وعظهم لنسبتهم إياك إلى الكهانة والجنون، فلست بحمد الله كما يقولون.
والكاهن هو المبتدع القول الذي يقول: معي تابع من الجن، والمعنى فما أنت بنعمة ربك بإنعامه عليك بالنبوة بكاهن، وهو الذي يوهم أنه يعلم الغيب ويخبر بما في غد من غير وحي؛ أي لست تقول ما تقوله كهانة ولا تنطق إلا بالوحي.
[52.30]
قوله تعالى: { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون }؛ أي بل يقولون هو شاعر ننتظر به نوائب المنون فنستريح منه، وريب المنون: حوادث الدهر وصروفه؛ أي ننتظر به حدثان الموت وحدثان الدهر، فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء.
وفي اللغة: مننت الجبل؛ أي قطعته ومننت الشيء إذا أنقضته، والموت يقطع الأجل فسمي المنون، والدهر ينقض فسمي المنون، وقد يكون المنون بمعنى المنية.
[52.31]
قوله تعالى: { قل تربصوا }؛ أي انتظروا في الموت، { فإني معكم من المتربصين }؛ أي من المنتظرين عذابكم، فعذبوا يوم بدر بالسيف. وقيل: معناه: قل تربصوا بي الدوائر، فإني معكم من المتربصين بكم.
فأهلك الله القوم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هذا القول قبل قبضه عليه السلام وكان منهم أبو جهل، وكانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر كما علموا أنه صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون.
[52.32]
قوله تعالى: { أم تأمرهم أحلامهم بهذآ }؛ معناه: أم تأمرهم عقولهم بهذا، وذلك أن قريشا كانوا يعدون في الجاهلية أهل الأحلام ويوصفون بالعقل، فأزرى الله بحلومهم حيث لم يثمر لهم معرفة الحق من الباطل. وقيل لعمرو بن العاص: (ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقول؟ فقال: تلك عقول لم يصحبها التوفيق).
وقوله تعالى: { أم هم قوم طاغون }؛ أي بل هم قوم طاغون حملهم الطغيان على تكذيبك يا محمد، وكانوا يزعمون أن محمدا كان لا يوازيهم في عقولهم وأحلامهم، فقيل لهم على وجه التعجب: أتأمرهم أحلامهم بهذا الذي يفعلونه أم طغيانهم وإفراطهم في الكفر.
[52.33-34]
قوله تعالى: { أم يقولون تقوله }؛ معناه: يقولون إن محمدا اختلق القرآن من تلقاء نفسه، والتقول: تكلف القول، لا يستعمل إلا في الكذب، بل ليس كما يقولون، { بل لا يؤمنون }؛ استكبارا. ثم ألزمهم الحجة فقال تعالى: { فليأتوا بحديث مثله }؛ أي مثل القرآن في نظمه وحسن بنائه، { إن كانوا صادقين }؛ أن محمدا تقوله في نفسه، فإن اللسان لسانهم وهم مستوون في السربة.
[52.35]
قوله تعالى: { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون }؛ معناه: أخلقوا من غير رب، وتكونوا من ذات أنفسهم؟ أم هم الخالقون فلا يسألون عن أعمالهم؟ قال ابن عباس: (معناه: أخلقوا من غير أم وأب فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة، أليسوا خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة). وقال ابن كيسان: (معناه: أخلقوا عبثا فيتركون سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، أم هم الخالقون لأنفسهم؟ فلا يجب لله عليهم أمر).
[52.36]
قوله تعالى: { أم خلقوا السماوات والأرض }؛ فيكونوا هم الخالقون، بل ليس الأمر على هذا، { بل لا يوقنون }؛ بالحق وهو توحيد الله وقدرته على البعث.
[52.37]
قوله تعالى: { أم عندهم خزآئن ربك أم هم المصيطرون }؛ معناه: أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة، فيضعونها حيث شاءوا؟ وقيل: معناه: أبأيديهم مقدورات ربك. وقال الكلبي: (معناه: خزائن المطر والرزق).
قوله: (أم هم المسيطرون) أي أم هم المسلطون على الناس، فلا يكونوا بحيث أمر ولا نهي يفعلون ما شاءوا. ويقرأ (المصيطرون) بالصاد، والأصل فيه السين، إلا أن كل سين بعدها (طاء) يجوز أن تقلب صادا. وفي هذه الآية تنبيه على عجزهم وتلبيس لسوء طريقتهم.
[52.38]
قوله تعالى: { أم لهم سلم يستمعون فيه }؛ أي لهم مصعد ومرقاة يرتقون بها إلى السماء يستمعون فيه الوحي ويعلمون أن ما هم عليه حق، { فليأت مستمعهم }؛ إن كان لهم مستمع، { بسلطان مبين }؛ بحجة ظاهرة.
[52.39]
قوله تعالى: { أم له البنات ولكم البنون }؛ هذا إنكار عليهم وتسفيه لأحلامهم، ومبالغة لتجهيلهم حيث يصفون البنات إلى الله بقولهم: بنات الله، ويضيفون البنين إلى أنفسهم.
[52.40]
قوله تعالى: { أم تسألهم أجرا }؛ معناه: أتسألهم يا محمد على ما جئتهم من الدين والشريعة أجرا؛ أي جعلا، { فهم من مغرم مثقلون }؛ أي أثقلهم ذلك الغرم الذي سألتهم، فمنعهم ذلك عن الإسلام. والمعنى: أسألتهم أجرة تثقلهم وتجدهم وتمنعهم عن الاستماع إلى ذلك.
[52.41]
قوله تعالى: { أم عندهم الغيب فهم يكتبون }؛ قال قتادة: (هذا جواب لقولهم: نتربص به ريب المنون. فقال الله تعالى: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمدا يموت قبلهم فهم يكتبون). وقيل: معناه: أعندهم علم الغيب حتى علموا أن ما يخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب باطل غير كائن.
[52.42]
قوله تعالى: { أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون }؛ أي بل يريدون بك كيدا ومكرا ليهلكوا بذلك المكر، وهو كيدهم به في دار الندوة، فالذين كفروا هم المجازون على كيدهم، ويحيق ذلك الكيد والمكر بهم، فقتلوا يوم بدر وأسروا.
[52.43]
قوله تعالى: { أم لهم إله غير الله }؛ يمنعهم من مكر الله وعذابه ويحفظهم وينصرهم، { سبحان الله عما يشركون }؛ به من آلهة، وسبحانه عن أن يكون له ولد.
و(أم) في هذه السورة في خمسة عشر موضعا، عشرة منها ليست إلا على وجه الإنكار، وفي الخمسة ما يحتمل الإنكار ويحتمل غيره.
[52.44]
قوله تعالى: { وإن يروا كسفا من السمآء ساقطا يقولوا سحاب مركوم } معناه: إن هؤلاء لا يؤمنون حتى لو رأوا قطعا من العذاب ساقطا عليهم لطغيانهم وعتوهم، يقولوا سحاب مركوم، قد ركم بعضه على بعض، فيلبسوا على أنفسهم بغاية جهلهم ما يشاهدون.
[52.45-46]
قوله تعالى: { فذرهم }؛ أي اتركهم، { حتى يلقوا }؛ يعاينوا، { يومهم الذي فيه يصعقون }؛ أي يهلكون، والصعق: الهلاك بما يصدع القلب، وقيل: المراد بالصعق ها هنا اليوم الذي فيه النفخة الأولى. قرأ الأعمش وعاصم وابن عامر (يصعقون) بضم الياء؛ أي يهلكون من أصعقهم الله إذا أهلكهم، { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون }؛ وذلك اليوم لا ينفعهم كيدهم ولا يمنعهم من العذاب مانع.
[52.47]
قوله تعالى: { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك }؛ معناه: إن لهؤلاء الكفار عذابا دون عذاب الآخرة، يعني القبر. وقيل: معناه: إن لكفار مكة عذابا في الدنيا قبل عذاب الآخرة، يعني القتل ببدر، وقال مجاهد: (الجوع والقحط)، { ولكن أكثرهم لا يعلمون }؛ ما هو نازل بهم.
[52.48-49]
قوله تعالى: { واصبر لحكم ربك }؛ أي اصبر لحكم ربك إلى أن يقع بهم العذاب، وقيل: اصبر على تبليغ الوحي والرسالة إلى أن يقضي لك ذلك ربك فيهم، { فإنك بأعيننا }؛ أي فإنك بحيث نراك ونحفظك ونرعاك، وإنهم لا يصلون إلى مكروهك.
قوله تعالى: { وسبح بحمد ربك حين تقوم }؛ يعني تقوم من النوم، كما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتبه قال:
" الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ".
وعن الربيع بن أنس: (أن المراد به القيام في الصلاة، وهو ما يقال عند تكبيرة الافتتاح " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " ).
وقيل: المراد بهذه الآية صلاة الفجر عند القيام من النوم، ويقال: المراد منه التسبيح عند القيام من كل مجلس، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كفارة المجالس كلمات جاءني جبريل بهن: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. فإن كان مجلس ذكر، كان كالطابع عليه إلى يوم القيامة، وإن كان مجلس لغو، كان كفارة لما كان قبله ".
والأقرب إلى الظاهر من هذه التأويلات: أنه صلاة الفجر؛ لأن الله تعالى عقبه بقوله: { ومن الليل فسبحه }؛ والمراد به صلاة المغرب والعشاء، وأما، { وإدبار النجوم }؛ فركعتان قبل فريضة الفجر، كما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إدبار السجود الركعتان بعد المغرب، وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ".
[53 - سورة النجم]
[53.1-4]
{ والنجم إذا هوى }؛ اختلفوا في القسم الذي في أول هذه السورة، وقال بعضهم - وهو الأظهر -: أن النجم اسم جنس أريد به النجوم كلها إذا هوت للأفول.
فائدة القسم بها ما فيها من الدلالة على وحدانية الله تعالى؛ لأنه لا يملك طلوعها وغروبها إلا الله عز وجل، فالقسم قسم بربها. وجواب القسم: { ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } يعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي ما ضل عن طريق الهدى وعن الصواب فيما يؤديه عن الله تعالى.
وعن مجاهد: (أنه أراد بالنجم الثريا إذا سقطت وغابت)، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما، قال أبو بكر الدينوري: (هي سبعة أنجم، فستة ظاهرة، وواحد منها خفي يمتحن الناس فيه أبصارهم).
وقال الضحاك: (معناه: والقرآن إذا نزل ثلاث آيات أو أربع آيات وسورة، كان أول القرآن وآخره ثلاث وعشرين سنة، أقسم الله بالقرآن إذ نزل نجوما متفرقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وذلك: أن كفار مكة قالوا: إن محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه، فأقسم الله بالقرآن ونزوله نجما بعد نجم، أن محمدا لم ينطق إلا عن وحي يوحى، وإنه لم ينطق به من هوى نفسه.
[53.5]
قوله تعالى: { علمه شديد القوى }؛ يعني جبريل عليه السلام هو شديد البنية والخلقة، ومن قوة جبريل: أنه أدخل جناحه تحت قريات قوم لوط فقلعها من الماء الأسود ورفعها إلى السماء، ثم قلبها فأقبلت تهوي من السماء إلى الأرض، وكان من شدته أيضا أنه أبصر إبليس وهو يكلم عيسى عليه السلام على بعض أعتاب الأرض المقدسة، فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وكان من شدته أيضا أنه أهلك بصيحته ثمود فأصبحوا جاثمين.
[53.6-7]
قوله تعالى: { ذو مرة فاستوى }؛ أي جبريل عليه السلام ذو قوة وشدة في خلقه. وقيل: ذو منظر حسن، قال قطرب: (يقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة). قال الشاعر:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة
عندي لكل مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله إن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله .
وقوله تعالى: { فاستوى } يعني جبريل، وقيل: المعنى: { ذو مرة } أي ذو مرور في الجو منحدر أو صاعد على السرعة. وقوله تعالى: { فاستوى } أي فانتصب واقعا على صورة الملائكة التي خلقه الله عليها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم منتصبا في السماء بعد أن كان مسرعا، فاستوى في أفق المشرق في رأي العين، كما روي في الحديث:
" أنه طبق الأفق كله بكلكله، له ستمائة جناح فيها ألوان زاهرة، وتتنافر منه الدرر "
وذلك قوله تعالى: { وهو بالأفق الأعلى }؛ يعني جانب المشرق وهو فوق جانب المغرب.
[53.8-9]
قوله تعالى: { ثم دنا فتدلى }؛ أي دنا جبريل عليه السلام بعد استوائه بالأفق الأعلى، { فكان قاب قوسين أو أدنى }؛ قال المفسرون: وذلك أن جبريل كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين، مرة في الأرض ومرة في السماء.
فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، يعني أفق المشرق، وذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه، فنزل جبريل عليه السلام في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وهو قوله { ثم دنا فتدلى } أي قرب بعد بعده وعلوه في الأفق الأعلى.
والمعنى: نزل جبريل عليه السلام بعد استوائه، فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدلى اليه بأن نكس رأسه فرآه النبي صلى الله عليه وسلم متدليا كما رآه منتصبا حتى بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قدر قاب قوسين من قسي العرب أو أدنى، معناه: وأقرب في رأي العين.
قال الزجاج: (كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين، وإنما خص القوس في الآية؛ لأن مقدارها في الأغلب لا يتفاوت بزيادة ولا نقصان). ويقال: إن المراد بالقوس هنا الذراع، وسمي الذراع قوسا لأنه تقاس به الأشياء، قال ابن مسعود: (معناه: فكان قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين ).
وأما دخول (أو) ها هنا في قوله: { أو أدنى } معناه: أو أدنى فيما تقدرون أنتم والله تعالى عالم بمقادير الأشياء، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا.
ومعنى قوله تعالى: { قاب قوسين } أي قدر قوسين، يقال (قاب قوسين) وقيب قوسين وقيد قوسين، كل بمعنى واحد. والتدلي في اللغة: هو الامتداد إلى جهة الأسفل، ومنه تدلى القبر، ومنه إدلاء الدلو وهو إرسالها في البئر.
ومن الدليل على أن المراد بشديد القوى جبريل عليه السلام، قوله تعالى:
إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين
[التكوير: 19-20]
ولقد رآه بالأفق المبين
[التكوير: 23] وهو مطلع الشمس.
[53.10]
قوله تعالى: { فأوحى إلى عبده مآ أوحى }؛ أي فأوحى جبريل عليه السلام إلى عبدالله محمد صلى الله عليه وسلم ما أمره الله أن يوحيه إليه، ويجوز أن يكون معناه: فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، قال سعيد بن جبير: (أوحي إليه:
ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضآلا فهدى...
[الضحى: 6-7] إلى قوله
ورفعنا لك ذكرك
[الإنشراح: 4]. وقيل: أوحى إليه (أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك).
[53.11]
قوله تعالى: { ما كذب الفؤاد ما رأى }؛ أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم فيما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، ومن عجائب السماوات؛ يك قبل القلب ذلك، وأيقن أن ما رآه حق، كما هو لم يشك فيه ولا أنكره ولم يعتقد عن تخيل ولا أخبر عن توهم. وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة وابن عامر: (ما كذب الفؤاد) بالتشديد؛ أي ما كذب قلب محمد ما رأى بعينه تلك الليلة، بل صدقه وحققه.
وقيل: هذا إخبار عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ربه! قال ابن عباس: (رأى محمد ربه بفؤاده ولم يره بعينه، ويكون ذلك على أن الله جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصرا حتى رأى ربه رؤية غير كاذبة كما يرى بالعين). وقال عكرمة: (إنه رأى ربه بعينه!) وكان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه .
ومذهب ابن مسعود وعائشة في هذه الآية: (أنه رأى جبريل في صورته التي خلق عليها). والفؤاد دعاء القلب، فما ارتياب الفؤاد فيما رأى الأصل وهو القلب.
[53.12]
قوله تعالى: { أفتمارونه على ما يرى }؛ من آيات الله، قرأ علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة ومسروق والنخعي وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب: (أفتمرونه) بفتح التاء من غير ألف على معنى أفتجحدونه، تقول العرب: مريت الرجل حقه إذا جحدته.
وقرأ سعيد بن جبير وطلحة وابن مصرف (أفتمرونه) بضم التاء من غير ألف؛ أي تشككونه. وقرأ الباقون (أفتمارونه) أي أفتجادلونه. وفي الحديث:
" لا تماروا في القرآن، فإن المراء فيه كفر ".
وعن الشعبي عن عبدالله بن الحارث قال: (اجتمع ابن عباس وكعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول: إن محمدا رأى ربه عز وجل مرتين، وقال ابن عباس: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم).
وقال الشعبي: (فأخبرني مسروق أنه قال لعائشة: يا أماه؛ هل رأى محمد ربه عز وجل قط؟ قالت: إنك لتقول قولا ليقف منه شعري، قال: قلت: رويدا فقرأ عليها
والنجم إذا هوى...
[النجم: 1] إلى قوله
فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 9]. فقالت: أين يذهب بك! إنما رأى جبريل في صورته، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، قال الله تعالى:
لا تدركه الأبصر
[الأنعام: 103].
وفي الرؤية قالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل، ومن حدثك أنه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب، قال الله تعالى:
إن الله عنده علم الساعة
[لقمان: 34]، ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب)، قال عبدالرزاق: (فذكرت هذا الحديث لمعمر فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس).
[53.13-14]
قوله تعالى: { ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى }؛ أي رأى محمد جبريل مرة أخرى، فسماها { نزلة أخرى } على الاستعارة، وذلك أن جبريل رآه النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلق عليها مرتين، مرة في الأرض بالأفق الأعلى، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى، ولأنه قال { نزلة أخرى } تقديره: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى.
والسدرة: هي شجرة النبق، وها هنا شجرة في السماء السابعة، قيل: إنها شجرة طوبى، وقال الكلبي: (هي شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من باطنها نهران باطنان ونهران ظاهران.
أما الباطنان ففي الجنة، وهما التسنيم والسلسبيل - وقيل: التسنيم والكوثر. وأما الظاهران فالنيل والفرات، وهي تحمل لأهل الجنة الحلي والحلل وجميع الثمار، وسميت المنتهى؛ لأنه ينتهي إليها كل ملك مقرب ونبي مرسل، لا يعلم ما وراءها إلا الله سبحانه).
وقال ابن مسعود: (سميت المنتهى؛ لأنه ينتهي إليها ما يصعد به من الأرض فيقبض فيها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض فيها). والمنتهى: موضع الانتهاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم فانتهى به إلى السدرة، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أربعة أنهار: نهر من ماء غير آسن، ونهر من لبن لم يتغير طعمه، ونهر من خمر لذة للشاربين، ونهر من عسل مصفى. وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة الواحدة منها تغطي الأمة كلها ".
وعن أسماء بنت أبي بكر؛ قالت:
" سمعت رسول الله يذكر سدرة المنتهى قال: " يسير الراكب في ظلها مائة عام "
وقال مقاتل: (هي شجرة لو أن ورقة منها وضعت في الأرض أضاءت لأهل الأرض كلهم، تحمل الحلي والحلل والثمار وجميع الألوان، وهي طوبى التي ذكرها الله في سورة الرعد).
[53.15]
قوله تعالى: { عندها جنة المأوى }؛ معناه: عند سدرة المنتهى جنة المأوى، وهي جنة يأوي إليها جبريل والملائكة، وقال مقاتل والكلبي: (جنة تأوي إليها أرواح الشهداء والصالحين).
[53.16]
قوله تعالى: { إذ يغشى السدرة ما يغشى }؛ أي يغشى السدرة من النور والبهاء والحسن والصفاء ما ليس لوصفه منتهى.
" وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يغشى السدرة فقال: " يغشاها جراد من ذهب "
وروي
" فراش من ذهب "
وعن ابن عباس: (أنه يغشاها ملائكة أمثال الغربان حتى يقعن على الشجرة). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله عز وجل "
وقيل: يغشى من جهة الله عز وجل فاستنارت.
[53.17]
قوله تعالى: { ما زاغ البصر وما طغى }؛ أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم يمينا ولا شمالا ولا طغى ولا تجاوز ما رأى، وهذا وصف أدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا، ولم يمل بصره ولم يمده أمامه إلى حيث ينتهي.
[53.18]
قوله تعالى: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى }؛ لقد رأى تلك الليلة من عجائب ربه عجيبة عظماء، وهي جبريل على صورته، وقال ابن مسعود: (رأى رفرفا من الجنة أخضر قد سد الأفق). وقيل: هي الآيات العظمى التي رآها تلك الليلة.
[53.19-20]
قوله تعالى: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } قرأ مجاهد وأبو صالح (اللات) بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. وروى السدي عن أبي صالح: (أنه كان رجلا بالطائف يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق بالزيت، فلما مات عبدوه). وقال الكلبي: (هو رجل من ثقيف يقال له صرمة بن عمر، كان يسلي السمن فيضعه على صخرة، فتأتي العرب فتلت به أسوقتهم).
" وأما العزى فقال مجاهد: (شجرة لغطفان يعبدونها) وهي التي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك. فخرجت من تحتها شيطانة عريانة ناشرة شعرها، داعية بويلها، واضعة يدها على رأسها، فقتلها خالد ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال: " تلك العزى، ولن تعبد أبدا " ".
وأما مناة فهو صنم لخزاعة، وقال الضحاك: (معناه: صنم لهذيل)، وقال: (إن مناة صنم كانت لهذيل وخزاعة يعبدونها من دون الله). وقال بعضهم: اللات والعزى، ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة.
والمعنى: أخبرونا عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها قدرة توصف بها كما يوصف الله بالقدرة والعظمة، وهي أسماء أصنام يعبدونها، وانتقوا لها اسما من أسماء الله تعالى، فقالوا: من الله اللات، ومن العزيز العزى، ومن المنان مناة بالهاء.
وقال الزجاج: (الوقف عليها بالتاء لاتباع المصحف)، وكان ابن كثير يقول: (ومنأة) بالمد والهمزة، والصحيح: قراءة العامة بالقصر، و(الثالثة) نعت لمناة، يعني الثالثة للصنمين في الذكر، والأخرى نعت لها أيضا.
[53.21-22]
قوله تعالى: { ألكم الذكر وله الأنثى }؛ هذا إنكار عليهم في أنهم كانوا يزعمون أن هذه الأصنام بنات الله، فقيل لهم: كيف جعلتم هذه الأشياء المؤنثة أولاد الله وأنتم لا ترضون لأنفسكم الإناث وتكرهونها؟ وقوله تعالى: { تلك إذا قسمة ضيزى }؛ أي قسمة جائرة غير عادلة، يقال: ضازه يضيزه إذا نقصه حقه.
[53.23]
قوله تعالى: { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم }؛ معناه: وما هذه اللات والعزى ومناة إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم الذين مضوا قبلكم، { مآ أنزل الله بها من سلطان }؛ وبرهان؛ أي لم ينزل كتابا لكم حجة بما تقولون أنها آلهة، والمعنى: ما أنزل الله بعبادتها من سلطان، { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس }؛ في قولهم: إنها آلهة، وقولهم: هذه بنات الله.
وقوله تعالى: { ولقد جآءهم من ربهم الهدى }؛ معناه: ولقد جاءهم من ربهم الكتاب والرسول والبيان أنها ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح لها، وإنما تصلح لله عز وجل. والمعنى: أنهم يعقلون ذلك بعد أن جاءهم الهدى، وذلك أبلغ في الذم.
[53.24-25]
قوله تعالى: { أم للإنسان ما تمنى }؛ أي ما اشتهى، والمراد بالإنسان الكافر، وكان الكفار يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله، ويتمنون على الله الجنة. والمعنى: أيظنون أن لهم ما يتمنون من شفاعة الأصنام، وليس كما يظنون ويتمنون، بل { فلله الآخرة والأولى }؛ لا يعطي أحدا شيئا بالتمني، وإنما يعطي بالحكمة وعلى سبيل الاستحقاق، فيزيد من فضله من يشاء. وقيل: معناه { فلله الآخرة والأولى } أن لا يملك فيهما أحد شيئا إلا بإذنه، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء.
[53.26]
قوله تعالى: { وكم من ملك في السموت لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشآء ويرضى }؛ جمع الكناية لأن المراد بقوله { وكم من ملك } الكثرة، والمعنى: لا تغني شفاعتهم أحدا إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة، ويرضى بشفاعتهم. ويقال: ويرضى المشفوع له، وهذا كقوله
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى
[الأنبياء: 28].
[53.27-28]
قوله تعالى: { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } يعني أنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. قوله تعالى: { وما لهم به من علم }؛ أي ما لهم بتلك التسمية من علم وما يستبقون أنهم إناث، { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا }؛ أي لا يقوم الظن مقام الحق، وهذا يدل على أن الظان غير عالم، وأن العبادة بالظن لا تدفع من عذاب الله شيئا.
[53.29-30]
قوله تعالى: { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا }؛ أي أعرض يا محمد عمن أعرض عن القرآن، { ولم يرد إلا الحياة الدنيا }؛ أي ولم يرد بعلمه إلا الحياة الدنيا وزينتها، وهذا مما نسخته آية القتال، وقوله تعالى: { ذلك مبلغهم من العلم }؛ أي لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات الله، وأنها تشفع لهم، فاعتمدوا ذلك وأعرضوا عن القرآن.
وقيل: معناه: أن غاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة، وهذا غاية الجهل. قوله تعالى: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله }؛ إي إنه عالم بهم، فهو يجازيهم، { وهو أعلم بمن اهتدى }؛ أي إنه عالم بالفريقين.
[53.31-32]
قوله تعالى: { ولله ما في السموت وما في الأرض }؛ إخبار عن قدرته وسعة ملكه، ليجزي في الآخرة المحسن والمسيء، معناه: { ليجزي الذين أساءوا }؛ أي أشركوا، { بما عملوا }؛ من الشرك، { ويجزي الذين أحسنوا }؛ أي وحدوا ربهم، { بالحسنى }؛ أي بالجنة.
ثم نعتهم فقال: { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش }؛ فكبائر الإثم وهو كل ذنب ختم بالنار، والفواحش، كل ذنب فيه حد. قوله تعالى: { إلا اللمم }؛ هذا استثناء منقطع ليس الكبائر والفواحش.
وقال ابن عباس: أشبه شيء باللمم ما قاله أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال:
" إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، وهو الله يدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، وزنى الشفتين التقبيل، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم ".
وفي هذا دليل أن الأشياء إذا وجدت على التعمد لم تكن من اللمم، واللمم ما يكون من الفلتات النادرة التي لا يملكها ابن آدم من نفسه؛ لأن الأمة اجتمعت على أن متعمد النظر إلى ما لا يحل فاسق.
واللمم في اللغة: هو مقاربة الشيء من غير دخول فيه، يقال: ألم بالشيء يلم إلماما إذا قاربه. وعن هذا يقال: صغائر الذنوب كالنظرة والقبلة والغمزة، وما كان دون الزنى، وقال ابن عباس: " اللمم: النظرة من غير تعمد وهو مغفور، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو الذنب).
قوله تعالى: { إن ربك واسع المغفرة }؛ أي إن رحمة ربك تسع جميع الذنوب، { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } معناه: هو أعلم بكم من أنفسكم إذ خلق أباكم آدم من التراب. والجنين: ما كنتم صغارا في أرحام أمهاتكم علم عند ذلك ما يستحصل منكم، والأجنة: جمع جنين، والمعنى: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة، { فلا تزكوا أنفسكم }؛ بما ليس فيها ولا تبرؤونها من العيوب التي فيها.
وقيل: معناه: لا تزكوا أنفسكم بما عملتم، لا يقولن رجل: عملت كذا، وتصدقت بكذا؛ ليكون أبلغ بالخضوع وأبعد من الرياء. وقيل: معناه: لا تبرؤا أنفسكم من الآثام وتمدحونها بحسن عملها، { هو أعلم بمن اتقى }؛ الشرك وآمن وأطاع وأخلص العمل.
[53.33-34]
قوله تعالى: { أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلا وأكدى }؛ يعني الوليد بن المغيرة، أعرض عن التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعطى قليلا من الحق بلسانه ثم قطع، وكان الوليد قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، فغيره بعض المشركين فترك دينه، فقال : إني خشيت من عذاب الله، فضمن الذي عاينه إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه، أن يتحمل عنه العذاب، ففعل. يعني رجع إلى الشرك وأعطاه ذلك الرجل بعض ما كان ذكر له من المال ومنعه تمامه، فأنزل الله هذه الآية: { أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلا } أي أدبر عن إيمانه وأعطى صاحبه قليلا من المال الذي وعده به { وأكدى } أي بخل بالباقي.
قال المفسرون: (أكدى) أي قطعه ولم يتم عليه، وأصله من الكدية، وهو حجر يظهر في البئر ويمنع من الحفر ويؤس من الماء، قال الكلبي: (يقال: أكدى الحافر وأجبل؛ إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل).
[53.35-37]
قوله تعالى: { أعنده علم الغيب فهو يرى }؛ أي يعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه. قوله تعالى: { أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى }؛ معناه: ألم يخبر بما كان مكتوبا في صحف، موسى؛ يعني التوراة، وما في صحف إبراهيم { الذي وفى } أي تمم وأكمل ما أمر به. وقيل: معناه: وإبراهيم الذي بلغ قومه وأدى إليهم ما أمر به.
وقيل: أكمل ما يجب لله عليه من الطاعة في كل ما أمر به وامتحن به كما في قوله تعالى:
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن
[البقرة: 124]. وقيل: معنى ذلك: أنه كان عاهد أن لا يسأل مخلوقا قط خوفا بذلك، حتى قال له جبريل في الوقت الذي أراد قومه أن يلقوه في النار: هل لك حاجة؟ أجابه: أما إليك فلا. وقيل: معناه: وفي رؤياه وقدم بذبح ابنه. وقيل: أدى الأمانة ووفى شأن المناسك.
[53.38]
قوله تعالى: { ألا تزر وازرة وزر أخرى }؛ هذا بيان لما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى، ومعناه: لا تحمل حاملة حمل أخرى؛ أي لا تعذب نفس بذنب غيرها، هذا إبطال لقول من ضمن الوليد أن يحمل عنه الإثم، وهذا عام في كل شريعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي في القتل بابنه وأخيه وأبيه وعمه وخاله، والزوج يقتل بامرأته، والسيد بعبده، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وبلغهم أن لا تزر وازرة وزر أخرى).
يقال: وزرت الشيء آزره إذا حملته، والأوزار: الأحمال، ويسمى الإثم وزرا؛ لأن الإثم يثقل صاحبه، كما قال تعالى:
ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك
[الانشراح: 2-3]. ويسمى الوزير وزيرا ليحمل ثقل الملك في قيامه بالتدبر.
[53.39]
قوله تعالى: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }؛ أي ليس له إلا جزاء ما عمل من خير وشر، وهذا عطف على قوله تعالى { ألا تزر وازرة } وهو أيضا مما في صحف موسى وإبراهيم.
[53.40-41]
وقوله تعالى: { وأن سعيه سوف يرى }؛ معناه: وإن عمله سوف يرى في الأخرى في ديوانه وميزانه، { ثم يجزاه الجزآء الأوفى }؛ لا ينقص من ثواب عمله شيء.
[53.42]
قوله تعالى: { وأن إلى ربك المنتهى }؛ أي منتهى العباد ومصيرهم، وهو مجازيهم بأعمالهم. وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال.
وعن أبي بن كعب
" عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وأن إلى ربك المنتهى } قال: " لا فكر في الرب "
والشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:
" إذا ذكر الله فانتهوا ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون، فقال: " فيم أنتم تتفكرون؟ " قالوا: نتفكر الخالق، فقال: " تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق، فإنه لا يحيط به الفكر، تفكروا في أن الله خلق السماوات سبعا والأرض سبعا ثخانة؛ كل أرض خمسمائة عام، وما بين كل أرضين خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض خمسمائة عام، وثخانة كل سماء خمسمائة عام، ما بين كل سمائين خمسمائة، وفي السماء السابعة بحر عمقه مثل ذلك كله، فيه ملك قائم لم يجاوز الماء كفيه " ".
[53.43]
قوله: { وأنه هو أضحك وأبكى }؛ أي أضحك من شاء من خلقه، وأبكى من شاء منهم، وقال الكلبي: (أضحك أهل الجنة فيها، وأبكى أهل النار فيها). وقال عطاء: (معناه: وإنه هو أفرح وأحزن). وقال الضحاك: (أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر). وقيل: أضحك الأشجار بالأثمار، وأبكى السحاب بالأمطار).
وقال ذو النون: (أضحك قلوب العارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب العاصين بظلمة نكرته ومعصيته). وقال سهل: (أضحك المطيع بالرحمة، وأبكى العاصي بالسخط). وسئل ظاهر المقدسي: أتضحك الملائكة؛ فقال: (ما ضحكت من دون العرش منذ خلق الله جهنم).
وقيل لعمر رضي الله عنه: هل كان أصحاب رسول الله يضحكون؟ قال: (نعم، والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي). وقال محمد بن علي الترمذي: (معنى الآية: هو أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا، وأضحك الكافر في الدنيا وأبكاه في الآخرة).
[53.44]
قوله تعالى: { وأنه هو أمات وأحيا }؛ أي أمات في الدنيا وأحيا في البعث للجزاء. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالنكدة والقطيعة، وأحيا المؤمن بالمغفرة، والوصلة، قال الله
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122].
[53.45-47]
قوله تعالى: { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى }؛ أي خلق الصنفين الذكر والأنثى من كل حيوان من نطفة إذا تقذف في الرحم لتقدير الولد، والمعنى: ما يقدر منه الولد. قوله تعالى: { وأن عليه النشأة الأخرى }؛ يعني بالنشأة الأخرى الخلق الثاني للبعث يوم القيامة يعيدهم أحياء.
[53.48]
قوله تعالى: { وأنه هو أغنى وأقنى }؛ قال الضحاك: (معناه: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال كالإبل والبقر والغنم). وقال الحسن وقتادة: (أغنى وأخدم).
وقال ابن عباس رضي الله عنه: (أغنى وأرضى بما أعطى). وقيل: معناه: أغنى وأفقر، وقيل: أغنى؛ أي أكثر، وأقنى أي أقل، ونظيره قوله تعالى:
يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر
[الروم: 37].
وقال الأخفش: (أقنى: أفقر وأجوع)، وقيل: أقنى بأرباح الأموال وفروعها، وأقنى بأصولها، فالأولى: مثل الذهب والفضة، يتصرف بهما ويربح عليهما، والثانية: مثل الضياع والأنعام، يستبقي الإنسان أصولها وينتفع بما يحصل له منها.
[53.49]
قوله: { وأنه هو رب الشعرى }؛ وهو كوكب خلف الجوزاء، كان يعبده أناس من خزاعة، قال الله: أنا رب الشعرى فاعبدوني، يقال للشعرى: مرزم الجوزاء. وهما شعرتان؛ أحدهما: العبور؛ والأخرى: الغميصاء، وأراد ها هنا الشعرى العبور، أعلم الله تعالى أنه رب الشعرى وخالقها، وأنه هو المعبود لا معبود سواه.
[53.50-52]
قوله تعالى : { وأنه أهلك عادا الأولى * وثمود فمآ أبقى }؛ معناه: وأنه أهلك قوم هود بريح صرصر، وهم أول عاد كانوا، وأول عاد الأخرى فاقتتلوا فيما بينهم فتفانوا بالقتل، وكانت عاد الأخرى من نسل عاد الأولى.
وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب: (عادا الأولى) مدغما، وهمز الواو نافع، وقرئ بإسكان اللام وإثبات الهمز وهي الأصل في الكلام.
قوله تعالى: { وثمود فمآ أبقى } وأهلك قوم صالح بالصيحة فما أبقى منهم أحدا. قوله تعالى: { وقوم نوح من قبل }؛ أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود، { إنهم كانوا هم أظلم وأطغى }؛ من غيرهم، لأن نوحا عليه السلام لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فما آمن منهم إلا أنفس يسيرة.
[53.53-54]
قوله تعالى: { والمؤتفكة أهوى }؛ معناه: وقرى قوم لوط الأربع رفعها جبريل إلى السماء الدنيا فأسقطها إلى الأرض. والمعنى: أهواها جبريل إلى الأرض بعد ما رفعها، وأتبعهم الله الحجارة، فذلك قوله تعالى: { فغشاها ما غشى }؛ يعني الحجارة والجزاء والنكال. وسميت المؤتفكة من قولهم: أفكته؛ أي قلبته، والمؤتفكة هي المنقلبة.
[53.55]
قوله تعالى: { فبأي آلاء ربك تتمارى }؛ أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان تتشكك وترتاب، قال ابن عباس: (يريد: فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تشكك وتكذب يا وليد) يعني الوليد بن المغيرة.
وذلك أن الله تعالى لما عدد ما فعله مما يدل على و حدانيته قال { فبأي آلاء ربك تتمارى }. فإن قيل: ما معنى ذكر النعم ها هنا وقد تقدم ذكر الإهلاك؟ قلنا: إن النعم التي عدت قبل هذه نعم علينا لما نالنا فيها من المزاجر، كيلا يسلك منا أحد مسالكها.
[53.56]
قوله تعالى: { هذا نذير من النذر الأولى }؛ يعني محمد صلى الله عليه وسلم من النذر الأولى من الرسل قبله، والمعنى: هذا الرسول نذير لكم مجراه في الإنكار مجرى من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام.
[53.57-58]
قوله تعالى: { أزفت الآزفة }؛ أي دنت القيامة واقتربت: قوله تعالى: { ليس لها من دون الله كاشفة }؛ أي ليس للقيامة إذا غشيت الخلق شدائدها أحد يكشف عنهم، وهذا قول عطاء والضحاك وقتادة وثابت ، (كاشفة) على تقدير: ليس لها نفس كاشفة، ويجوز قوله { كاشفة } مصدرا كالجاثية والعاقبة؛ أي { ليس لها من دون الله كاشفة } أي لا يكشف عنها غيره، ولا يعلم متى هو إلا هو، وهذا كقوله
لا يجليها لوقتهآ إلا هو
[الأعراف: 187].
[53.59-60]
قوله تعالى: { أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون } الخطاب لمشركي قريش، والمعنى: أفمن هذا القرآن الذي يتلى عليكم تعجبون من إنزاله على محمد تكذيبا، وتضحكون استهزاء ولا تبكون مما فيه من الوعيد والزواجر والتخويف.
[53.61]
قوله تعالى: { وأنتم سامدون }؛ أي لاهون غافلون عنه، يقال: دع عنك سمودك؛ أي لهوك، قال أمية:
ألا أيها الإنسان إنك سامد
لا تفنى ولا أنت هالك
والسمود: هو الغفلة والسهو عن الشيء، وقال الكلبي: (السامد: الجد بلسان قريش، وبلسان اليمن: اللاهي)، قال الضحاك: (سامدون: أي أشرون بطرون)، وقال مجاهد: (سامدون؛ أي مبرطمون)، والبرطمة: أن يدلي الإنسان شفته من الغضب، وفي لغة اليمن: أسمد لنا؛ أي أعن لنا.
وعن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية { أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون } بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا، فقال صلى الله عليه وسلم:
" لا يلج النار من بكى معهم من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصر على معصية الله، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم ".
[54 - سورة القمر]
[54.1-2]
{ اقتربت الساعة وانشق القمر }؛ معناه: دنت القيامة وحدث علم من أعلامها، وهو انشقاق القمر، { وإن يروا آية }؛ يعني أهل مكة علامة تدلهم على وحدانية الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، { يعرضوا }؛ أي يجحدوا، { ويقولوا سحر مستمر }؛ أي شديد قوي من المرة وهي القوة.
[54.3]
قوله تعالى: { وكذبوا واتبعوا أهوآءهم }؛ أي كذبوا الرسل وثبتوا على التكذيب وعملوا بهوى أنفسهم في عبادة الأصنام، { وكل أمر }؛ بما أخبر الله به من الأمور الماضية والمنتظرة، { مستقر }؛ أي ثابت لا تلحقه الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل.
وسبب نزول هذه الآيات، هو ما روي:
" أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية وهم في المسجد الحرام حين قال أبو جهل: واللآت والعزى! لئن أتيت آية كما أتت به الرسل قبلك لنومنن لك، فقال صلى الله عليه وسلم: " وماذا عليك لو حلفت بالله العظيم؟ " فقال: ورب هذه الكعبة لئن أتيت بآية كما أتت به الرسل قبلك لآمنا بك ".
وقال ابن عباس رضي الله عنه:
" اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فعلت تؤمنون؟ " قالوا: نعم، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، فقال صلى الله عليه وسلم: " يا فلان؛ ويا فلان؛ ويا فلان: إشهدوا " ".
وعن ابن مسعود قال:
" أشار إلى القمر فانفلق فلقتين، فكانت إحداهما فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبل حتى رأى الجبل بين فلقتي القمر، وقال: " اشهدوا " فقال أبو جهل: إن محمدا سحر القمر! ثم قال أبو جهل لأصحابه: ابعثوا بالرسل إلى البلاد فإن عاينوا من ذلك ما عاينا فهو آية، وإلا فهو سحر. فبعثوا الرسل إلى جميع البلاد، فإذا الناس يتحدثون بانشقاق القمر، فلما رجعوا إليهم وأخبروهم به قالوا: إن هذا ساحر داهي! "
[54.4]
قوله تعالى: { ولقد جآءهم من الأنبآء ما فيه مزدجر }؛ يعني أهل مكة جاءهم من أخبار الأمم المكذبة في القرآن ما فيه منتهى لهم عما هم فيه من الكفر والفسوق.
[54.5]
قوله تعالى: { حكمة بالغة }؛ بدل من (ما) والمعنى: جاءهم حكمة في نهاية الحكم والصواب. وقيل: المراد بالحكمة البالغة القرآن. قوله تعالى: { فما تغن النذر }؛ ما تغني الرسل صلوات الله عليهم عن قوم لا يتدبرون ولا يتفكرون في الآية والنذر.
[54.6]
قوله تعالى: { فتول عنهم يوم يدع الداع }؛ أي أعرض عنهم فليس عليك إجبارهم على الدين، وإنما عليك إقامة الحجة وقد بالغت فيها، وهذه الآية منسوخة بآية القتال. وهذا وقف تام، وقوله تعالى { يوم يدع الداع } ابتداء الكلام كلام.
قال مقاتل: (أراد بالداعي إسرافيل ينفخ قائما على صخرة بيت المقدس) { إلى شيء نكر }؛ أي إلى أمر فظيع لم يروا مثله فينكرونه استعظاما، وذلك قوله تعالى: { إلى شيء نكر }. وقوله تعالى: { يوم يدع الداع } منصوب على معنى واذكر.
[54.7]
قوله تعالى: { خشعا أبصرهم }؛ نصب على الحال من يخرجون، وذلك دليل على تقدم الحال على الفعل المتصرف، وكذلك يقال: راكبا جاء زيد كما يقال جاء زيد راكبا، وتقديره: ويخرجون من الأجداث خشعا أبصارهم.
قرأ أبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف: (خاشعا) بالألف، وقرأ الباقون: (خشعا) على الجمع. قال الفراء: (يجوز في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والجمع والتأنيث، يقال: مررت بشباب حسن أوجههم، وحسان أوجههم، وحسنة أوجههم). وفي قراءة عبدالله: (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب.
قوله تعالى: { يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر }؛ أي يخرجون عند النفخة من القبور فزعين لا يهتدون إلى شيء، يحول بعضهم إلى بعض مثل الجراد المنتشر. والمعنى: أنهم يخرجون فزعين لا جهة لأحد منهم فيقصدها، والجراد لا جهة له تكون أبدا مختلفة بعضها فوق بعض.
[54.8]
قوله تعالى: { مهطعين إلى الداع }؛ أي منقلبين إلى صوت إسرافيل ناظرين متحيرين مسرعين إليه، { يقول الكافرون هذا يوم عسر }؛ أي صعب شديد، قال ابن عباس: (عسر على الكافرين وسهل يسير على المؤمنين). والإهطاع: الإسراع.
[54.9]
قوله تعالى: { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا }؛ أي كذبت قبل قومك قوم نوح كما كذبك قومك، ونسبوا نوحا إلى الجنون، كما نسبك قومك إلى الجنون، { وقالوا مجنون وازدجر }؛ أي فكذبوا عبدنا نوحا وقالوا: مجنون وزجروه عن دعائهم إياهم إلى الإيمان بالشتم والوعيد، ف
قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين
[الشعراء: 116].
[54.10-11]
قوله تعالى: { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر }؛ معناه: فدعا نوح ربه أني مغلوب بينهم ومقهور، فانتقم لي ممن كذبني، ومعنى قوله تعالى { فانتصر } أي فانتقم منهم لدينك، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد ما أذن له في الدعاء.
فأجاب الله دعاءه فقال الله تعالى: { ففتحنآ أبواب السمآء بماء منهمر } أي بماء سيل منصب انصبابا شديدا لا ينقطع، متدفق مع كثرة شديدة ، قال الكلبي: (إنصب أربعين يوما). وقرئ (ففتحنا) بالتشديد على تكثير الفعل، وذكر الأبواب في الآية على معنى أن إجراء الماء كان بمنزلة جريانه كأنه فتح عنه بابا كان مانعا له.
[54.12]
قوله تعالى: { وفجرنا الأرض عيونا }؛ أي شققنا الأرض عيونا، { فالتقى المآء }؛ ماء السماء وماء الأرض؛ { على أمر قد قدر }؛ في اللوح المحفوظ وهو هلاك القوم، وقرأ الحجدري: (فالتقى الماءان).
[54.13-14]
قوله تعالى: { وحملناه على ذات ألواح ودسر }؛ معناه: وحملنا نوحا ومن آمن معه على سفينة ذات ألواح وهي خشباتها، { ودسر } يعني المسامير يشد بها الألواح واحدها دسار، والمعنى على سفينة ذات ألواح ومسامير. قوله تعالى: { تجري بأعيننا }؛ أي تجري بحفظنا، ووحينا وأمرنا حتى لا يقع فيها شيء من الماء وتتكسر ولا تغرق، وقوله تعالى: { جزآء لمن كان كفر }؛ أي فعلنا ذلك من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كفر به وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام كفره قومه وجحدوا به، وقرأ مجاهد (جزاء لمن كان كفر) بفتح الكاف والفاء، يعني كان الغرق جزاء لمن كفر بالله وكذب رسوله.
[54.15]
قوله تعالى: { ولقد تركناها آية }؛ يعني تركنا هذه الفعلة، ويقال: السفينة التي يصنعها الناس على مثال سفينة نوح عليه السلام علامة للناس ليعتبروا ويستدلوا بها على توحيد الله، { فهل من مدكر }؛ فهل من متعظ معتبر متدبر متفكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر.
[54.16]
قوله تعالى: { فكيف كان عذابي ونذر }؛ معناه: فانظر يا محمد كيف كان عقوبتي فيمن أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا، وهذا استفهام ومعناه: التعظيم لذلك العذاب، وهذا تخويف لمشركي مكة.
[54.17]
قوله تعالى: { ولقد يسرنا القرآن للذكر }؛ أي سهلناه للحفظ والقراءة والكتابة، وقال سعيد بن جبير: (ليس كتاب من كتب الله يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن)، وقوله تعالى: { فهل من مدكر }؛ أي فهل ذاكر يذكره وقارئ يقرؤه، ومعناه: الحث على قراءة القرآن ودرسه وتعلمه، ولولا تسهيل الله علينا ذلك لم يستطع أحد أن يلفظ به.
[54.18-19]
قوله تعالى: { كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنآ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا }؛ أي باردة شديدة البرد وشديدة الهبوب، { في يوم نحس مستمر }؛ أي يوم مشؤوم عليهم، دائم الشؤم، روي: أنه كان يوم الأربعاء الذي في آخر الشهر لا يدور. ويقال: معنى قوله { مستمر } استمر بهم العذاب إلى نار جهنم.
[54.20]
قوله تعالى: { تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر }؛ أي تقلع الناس من الأرض من تحت أقدامهم، ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم وتقطع أعناقهم، فتبقي أجسادهم كأنها أعجاز نخل مقطع.
ويقال في معنى { تنزع الناس } لأنهم ضربوا بأرجلهم في الأرض فغيبوها إلى قريب من ركوبهم وقالوا: قل للريح حتى يرفعنا، فجعلت الريح تدخل تحت أقدامهم وترفع كل اثنين وتضرب بأحدهما إلى الآخر في الهواء، ثم تلقيهما في الوادي، والباقون ينظرون إليهم حتى رفعتهم كلهم وصيرتهم في الأرض { كأنهم أعجاز نخل منقعر } أي ساقط، ثم رمت بالتراب عليهم، فكان يسمع أنينهم من تحت التراب.
يقال: قعر النخلة إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط، شبههم في طولهم حين صرعتهم الريح وكبتهم على وجوههم بالنخلة الساقطة على الأرض التي ليس لها رؤوس، وذلك أن الريح قلعت رؤوسهم أولا ثم كبتهم على وجوههم.
[54.21-22]
قوله تعالى: { فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }؛ إنما كرره لأنه ذكر في كل فصل نوعا من الإنذار والتعذيب، انعقد التذكير شيء شيء منه على التفصيل.
قال ابن الأنباري: (وسئل المبرد عن ألف مسألة هذه من جملتها: وهو أن السائل قال له: ما الفرق بين قوله
جآءتها ريح عاصف
[يونس: 22] وقوله تعالى:
ولسليمان الريح عاصفة
[الأنبياء: 81]، وقوله تعالى:
كأنهم أعجاز نخل منقعر
[القمر: 20] و
أعجاز نخل خاوية
[الحاقة: 7]، فقال: كل ما ورد عليك من هذا الباب فلك أن ترده إلى اللفظ تذكيرا، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا).
[54.23-24]
قوله تعالى: { كذبت ثمود بالنذر }؛ أي بالإنذار الذي جاءهم به صالح عليه السلام، { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه }؛ أي هو آدمي مثلنا وهو واحد فلا نكون له تبعا، { إنآ إذا }؛ إن فعلنا ذلك، { لفي ضلال }؛ وذهاب عن الحق، { وسعر }؛ أي وشقاء وشدة عذاب مما يلزمنا من طاعته، وقال عطاء: (معنى قوله { وسعر } أي وجنون، من قولهم: ناقة مسعورة؛ إذا كان بها جنون من النشاط، وهو من سعر النار إذا التهبت).
[54.25-26]
قوله تعالى: { أءلقي الذكر عليه من بيننا }؛ أنكروا أن يكون الوحي يأتيه، فقالوا: كيف خص من بيننا بالنبوة والوحي، { بل هو كذاب أشر }؛ فيما يقول، { أشر } أي بطر متكبر يريد أن يتكبر علينا بالنبوة، قال الله تعالى: { سيعلمون غدا }؛ حين ينزل بهم العذاب، يعني يوم القيامة، { من الكذاب الأشر }؛ أهم أم صالح؟.
[54.27]
قوله تعالى: { إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم }؛ أي إنا مخرجو الناقة من الصخرة تشديدا عليهم في التكليف، وذلك أنهم تعنتوا صالحا فسألوا أن يخرج لهم من صخرة حمراء عشراء، وقوله: { فارتقبهم }؛ أي فانتظرهم ما هم صانعون، { واصطبر }؛ على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيهم أمري.
[54.28]
قوله تعالى: { ونبئهم أن المآء قسمة بينهم } أي أخبرهم أن الماء مقسوم بين الناقة وولدها وبينهم وبين مواشيهم، يوم لهما ويوم لهم. قوله تعالى: { كل شرب محتضر }؛ أي كل منهم يحضر نوبته، فتحضر الناقة وولدها يوم نوبتهما، ويحضر القوم يوم نوبتهم. والشرب: نصيب من الماء، والشرب - بضم الشين -: فعل الشارب.
[54.29-32]
قوله تعالى: { فنادوا صاحبهم }؛ أي نادوا قدار بن سالف عاقر الناقة، { فتعاطى فعقر } وذلك أنهم لما مكثوا قسمة الماء زمانا، ثم ضاق عليهم الأمر على مواشيهم بسبب الناقة، غلب عليهم الشقاء، وتواطأ طائفة منهم على قتلها، فنادوا صاحبهم الذي كمن لهما.
وذلك أنه رماها رجل منهم يقال له: مصدع بن دهر بسهم فضربها على ساقها، فنادوا قدار بن سالف، وقالوا له: دونك الناقة قد مرت بك فاضربها، فتعاطى قدار عقر الناقة، فعقرها بأن ضرب ساقها الأخرى فسقطت على جنبها، وقطعوا لحمها وقسموه، فعاقبهم الله بصيحة فأهلكهم وهو قوله تعالى: { فكيف كان عذابي ونذر * إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر }؛ قال عطاء: (يريد صيحة جبريل عليه السلام أسمعهم الله إياها فهلكوا، وصاروا كالورق المتهشم الذي يجمعه صاحب الحضيرة إذا يبس غاية اليبس، وتحطم غاية الانحطام).
قال ابن عباس: (هو رجل يجعل الغنمة حظيرة بالشجر والشوك ليحرسها من السباع، فما سقط من ورق ذلك الشجر ويبس، وداسته الغنم وتحطم وهو الهشيم). وقال ابن زيد: (الهشيم هو الشجر البالي الذي تهشم حتى ذرته الريح، والعرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس فهو هشيم) { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }.
[54.33-35]
قوله تعالى: { كذبت قوم لوط بالنذر * إنآ أرسلنا عليهم حاصبا }؛ أي ريحا ترميهم بالحصباء، والحصباء: هي الحجارة التي هي دون ملء الكف، قال ابن عباس: (يريد ما صبوا به من السماء من الحجارة)، وقوله تعالى: { إلا آل لوط نجيناهم بسحر }؛ يعني بنتيه وزوجته المؤمنة، نجاهم الله من العذاب، { نعمة من عندنا }؛ بأن أمرهم بالخروج في وقت السحر، وكانت نجاتهم نعمة من الله عليهم، { كذلك نجزي من شكر }؛ وكذلك يجزي الله كل من عرف إنعامه وقابله بالشكر.
[54.36]
قوله تعالى: { ولقد أنذرهم بطشتنا }؛ أي خوفهم لوط عذابنا، { فتماروا بالنذر }؛ فشكوا في الإنذار؛ أي فتدافعوا بالحجاج الباطل، ويقال: جادلوه في أمر الرسالة ولم يصدقوه.
[54.37]
قوله تعالى: { ولقد راودوه عن ضيفه }؛ أي طلبوا أن يسلم إليهم أضيافه وهم الملائكة قصدا منهم إلى عملهم الخبيث، فأمر الله جبريل أن يصفق بجناحه فأعماهم فبقوا حيارى، ومعنى: { فطمسنآ أعينهم }؛ أي أعميناهم وصيرناهم كسائر الوجه لا يرى له شق، فكانوا عميانا متحيرين لا يهتدون إلى الباب، فقيل لهم: { فذوقوا عذابي ونذر }؛ يقال: فلان مطموس البصر إذا كان موضع عينيه أملس، لا أثر به للعين من الجفن والحدقة.
[54.38-40]
قوله تعالى: { ولقد صبحهم بكرة }؛ أي أتاهم العذاب صباحا، يعني أخذهم عند الصبح، { عذاب مستقر }؛ عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة، قوله تعالى: { فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }؛ قد مضى تفسيره.
[54.41-42]
قوله تعالى: { ولقد جآء آل فرعون النذر }؛ قيل: إن المراد بالنذر: موسى عليه السلام وهارون، وأسماء الجمع يطلق على الاثنين. وقيل: أراد به الآيات التي فيها الإنذار، وقيل: المواعظ: قوله تعالى: { كذبوا بئاياتنا كلها فأخذناهم }؛ أي فأخذناهم بالعذاب، { أخذ عزيز مقتدر }؛ غالب في انتقامه، متقدر قادر على إهلاكهم، والعزيز القوي الذي لا يلحقه ضعف ولا عجز، ولا يعتريه منع ولا دفع.
[54.43]
قوله تعالى: { أكفاركم خير من أولئكم }؛ معناه: أكفاركم يا أهل مكة أشد وأقوى من أولئكم الذين قصصنا ذكرهم، وهذا استفهام ومعناه الإنكار؛ أي ليسوا أقوى من قوم نوح وعاد وثمود. قوله تعالى: { أم لكم برآءة في الزبر }؛ معناه: ألكم براءة من العذاب في الكتب لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية.
[54.44]
قوله تعالى: { أم يقولون نحن جميع منتصر }؛ معناه: أم يقولون نحن جميع واحد ومتفقون على الانتصار من أعدائنا، ووحد المنتصر للفظ الجميع وهو واحد في اللفظ.
[54.45]
قال الله تعالى: { سيهزم الجمع ويولون الدبر }؛ أي سيهزم الجمع كفار مكة يوم بدر، ويولون الدبر منهزمين. ومعنى الآية: أن كفار مكة يقولون: { نحن جميع منتصر } أي جماعة لا نضام ولا نرام، ولا يصدنا أحد بسوء ولاء، ولا أحد يفرق جمعنا، وكان من حقه أن يقول: نحن جميع منتصرون؛ إلا أنه تبع رؤوس الآي. وقوله تعالى: { سيهزم الجمع } قراءة الكافة بالياء على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب بالنون وكسر الزاي (الجمع) بالنصب.
وإنما وحد الدبر لأجل رؤوس الآي، قال مقاتل: (ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر وتقدم الصف، وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فهزمهم الله تعالى).
[54.46]
قوله تعالى: { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }؛ فيه بيان ما نزل بهم من القتل والأسر ببدر لم يكن كافيا في عقوبتهم، بل القيامة موعدهم، والقيامة أعظم في الدهاء وأشد مرارة من القتل والأسر في الدنيا، وكل داهية فمعناها الأمر الشديد.
[54.47]
قوله تعالى: { إن المجرمين في ضلال وسعر }؛ أراد بالضلال الذهاب عن الصواب في الدنيا، وبالسعر عذاب النار في العقبى.
[54.48]
قوله تعالى: { يوم يسحبون في النار على وجوههم }؛ يوم تجرهم الملائكة في النار على وجوههم فيقول لهم: { ذوقوا مس سقر }؛ وسقر اسم من أسماء دركات جهنم.
قال أبو أمامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إن هذه الآية نزلت في القدرية: { إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر } ".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مجوس هذه الأمة القدرية، وهم المجرمون الذين سماهم الله { إن المجرمين في ضلال وسعر } ".
وعن هشام بن حسان قال: سمعت الحسن يقول: (والله لو أن قدريا صام حتى يصير كالجبل، ثم صلى حتى يصير كالوتر، ثم أخذ ظلما وزورا حتى ذبح بين الركن والمقام، لكبه الله عز وجل على وجهه في سقر، ثم قيل له: ذق مس سقر).
[54.49]
قوله تعالى: { إنا كل شيء خلقناه بقدر }؛ معناه: كل ما خلقنا فمقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله عز وجل قدر المقادير وتدبر التقدير قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام "
وقال عليه السلام:
" الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن "
وانتصب قوله تعالى: { كل شيء } بفعل مضمر؛ كأنه قال: إنا خلقنا كل شيء بقدر.
وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا جمع الله الناس يوم القيامة، نادى مناد يسمعه الأولون والآخرون: أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية فيقال لهم: ذوقوا مس سقر ".
[54.50]
قوله تعالى: { ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر }؛ معناه: وما أمرنا بقيام الساعة أو غير ذلك إلا كلمة واحدة لا تثنى كطرف البصر، بل هو أسرع، ومعنى اللمح: النظر بالعجلة.
[54.51]
قوله تعالى: { ولقد أهلكنآ أشياعكم }؛ معناه: ولقد أهلكنا أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم الماضية، { فهل من مدكر } ، هل من متعظ يتعظ بهم.
[54.52-53]
قوله تعالى: { وكل شيء فعلوه في الزبر }؛ ومعناه: كل شيء فعلوه وقالوا من خير أو شر؛ يعني الأشياع؛ مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يفعلوه، { وكل صغير وكبير }؛ من الذنوب والخلق والأعمال، { مستطر }؛ مكتوب على فاعله قبل أن يفعلوه، تكتبه الملائكة في ديوان ليجزيهم الله على أفعالهم.
[54.54-55]
قوله تعالى: { إن المتقين في جنات ونهر }؛ معناه: إن الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش في بساتين وأنهار جارية من الماء والخمر واللبن والعسل، قوله تعالى: { في مقعد صدق }؛ أي مجلس حسن وموضع قرار وأمن من وقوع الحوادث، { عند مليك مقتدر }؛ أي عند مليك قادر على الثواب والعقاب، قادر لا يعجزه شيء وهو الله عز وجل، ومقعد الصدق هو الجنة، مدح الله المكان بالصدق، ولا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
وإنما قال (ونهر) موحدا لأجل رؤوس الآي كقوله تعالى:
ويولون الدبر
[القمر: 45]، وقال الضحاك: (معناه: في فضاء وسعة ونور ومنه النهار، ومن ذلك نهرت الفضة إذا وسعتها)، وقرأ الأعرج وطلحة (ونهر) بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-2]
{ الرحمن * علم القرآن }؛ هذا جواب لقول كفار قريش حين قالوا: إن محمدا يقول ما يقول من تلقاء نفسه، ولم يوح إليه شيء، ومنهم من كان يقول: إنما يعلمه بشر، فرد الله عليهم مقالتهم وبين أنه هو الذي علم محمدا القرآن على لسان جبريل عليه السلام.
[55.2-4]
قوله تعالى: { خلق الإنسان * علمه البيان }؛ قيل: المراد منه آدم عليه السلام علمه الله جميع اللغات وأسماء كل شيء، وكان آدم عليه السلام يتكلم سبعمائة ألف لغة أفضلها العربية.
ويجوز أن يكون الإنسان اسم جنس بمعنى جميع الناس، { علمه البيان } وهو المنطق والكتابة والحفظ والفهم والإفهام حتى عرف الإنسان ما يقول وما يقال له.
وقيل: معنى البيان: بيان الحلال والحرام، وبيان الخير والشر، وما يأتي وما يذر. وقال أبو العالية: (يعني الكلام). الحسن (النطق والتمييز)، وقيل: الكتابة بالقلم، وقال السدي: (علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به).
[55.5]
قوله: { الشمس والقمر بحسبان }؛ معناه: أنهما يجريان على حساب مستقيم لا يختلف، يدلان على عدد الشهور والسنين والأوقات، فإن الشمس تقطع الفلك في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، والقمر يقطع الفلك في ثمانية وعشرين يوما، وستين في يومين، وفي جريمها دلالة على التوحيد.
وقيل: معناه: أنهما تحسب بهما الأوقات والآجال، ولولا الليل والنهار، والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يحسب شيئا، لو كان الدهر كله ليلا كيف يحسب تقدير الآية. والشمس والقمر يجريان بحسبان.
[55.6]
قوله تعالى: { والنجم والشجر يسجدان }؛ معناه: والنجم في السماء، والشجر في الأرض يسجدان لله تعالى. وقيل: معناه: النبات والشجر يسجدان، فإن النجم ما نبت على غير ساق، والشجر ما نبت على ساق في اللغة، كما يقال في كل ما طلع: إنه نجم، ومن ذلك نجم القرآن.
ومعنى سجودهما؛ أي يسبحوه ظلالهما كقوله
يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله
[النحل: 48]. وقيل: يسجدان لله على الحقيقة، إلا أننا لا نفقه على سجودهما كقوله تعالى:
ألم تر أن الله يسجد له من في السموت ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب
[الحج: 18].
[55.7]
قوله تعالى: { والسمآء رفعها ووضع الميزان }؛ معناه: رفع السماء فوق الأرض ليستدل على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته، وقوله تعالى { ووضع الميزان } قال مجاهد: (معناه: وأمر بالعدل)، وقال الضحاك وقتادة: يعني الميزان الذي يوزن به ليتوصل به إلى الإنصاف والانتصاف، ولولا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق).
وقال بعضهم: أنزل الله الميزان على هيئته في زمن نوح عليه السلام ولم يكن قبل ذلك. وقال بعضهم: عرف الله الناس ذلك على لسان بعض الأنبياء، وقيل: إلهام الهمهم كيف يتخذون الميزان ويزنون.
[55.8-9]
قوله تعالى: { ألا تطغوا في الميزان }؛ معناه: لئلا تميلوا وتضلوا وتجاوزوا الحد في الميزان. وقيل: معناه: لئلا تظلموا وتأخذوا الأكثر وتعطوا الأقل. وقوله تعالى: { وأقيموا الوزن بالقسط }؛ أي سووا الميزان بالعدل والإنصاف، { ولا تخسروا الميزان }؛ وقيل: معناه: أقيموا ساق الميزان بالقسط ولا تخونوا من وزنتهم له، ولا تبخسوا الوزن، وكل شيء نقصته فقد أخسرته.
[55.10]
قوله تعالى: { والأرض وضعها للأنام }؛ معناه: والأرض بسطها على الماء لجميع الخلق من الجن والإنسان، مكنها للأحياء، ويدفن فيها الموتى، تدل على وحدانية الله، وقال الشعبي: (الأنام: كل ذي روح).
[55.11]
قوله تعالى: { فيها فاكهة }؛ أي في الأرض ألوان الفاكهة، وقوله تعالى: { والنخل ذات الأكمام }؛ أي ذات الأغطية، وهي أوعية التمر، وأكمام النخلة فإغطاء ثمرها يكون في غلف ما لم يشق. ومن ذلك يقال للقلنسوة: الأكمة؛ لأنها تغطي الرأس، وقال الحسن: (أكمامها ليفها)، وقال ابن زيد: (أكمامها: طلعها قبل أن ينفتق)، والحاصل أن كل ما يستر شيئا فهو كم وكمة، ومنه كم القميص.
[55.12-13]
قوله تعالى: { والحب ذو العصف والريحان }؛ يريد جميع الحبوب مما في الأرض من الحنطة والشعير وغيرهما، وقوله تعالى { ذو العصف } أي ذو الورق الأخضر الذي يصير تبنا وتقتات به البهائم، ويسمى ورق الزرع عصفا لخفته، وعصوف الريح به مع ثبوت الحب في مكانه. وقيل: سمي عصفا لأن الريح تذهب به في وقت حاجتهم إلى تمييزهم الحب من التبن.
وقوله تعالى: { والريحان } يعني الورق في قول الأكثرين، وقال الحسن: (هو ريحانكم الذي يشم)، وقال مقاتل: (الريحان هو الورق بلغة حمير)، كأنه قال: والحب ذو العصف والورق، وقال سعيد بن جبير: (الريحان: الزرع ويكون في سنبل).
وأما الحب المذكور في الآية، فهو ما يلقى في الأرض من البذر، والريحان هو ما يخلق من الحب في سنبل رزقا للعباد، وقد يذكر الريحان بمعنى الورق كما يقول العرب: خرجنا نطلب ريحان الله؛ أي رزقه. والعصف: هو التبن، والريحان هو ثمرته. وعن ابن عباس: (الريحان هو خضرة الزرع).
قرأ العامة: (والحب ذو العصف والريحان) كل بالرفع عطفا على الفاكهة، والمعنى فيها الحب وفيها الريحان، ونصبها كلها ابن عامر على معنى خلق الإنسان وخلق هذه الأشياء.
وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما: (والريحان) بالكسر عطفا على (العصف) كأنه قال: والحب ذو العصف وذو الريحان، وهو الرزق الذي يخلق في السنبل، فالريحان رزق الناس، والعصف رزق الدواب، فذكر قوت الناس والأنعام.
ثم خاطب الجن والإنس فقال: { فبأي آلاء ربكما تكذبان }؛ وإنما قال الخطاب للجن والإنس؛ لأن تلك الأيام فيما مضى تشتمل على الجن والإنس، والمعنى: فبأي نعمة من نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة، فإنها كلها مما أنعم الله بها عليكم، من دلالته إياكم على توحيده، ومن رزقه إياكم ما به قوامكم.
وإنما خاطب الجن والإنس لأنهما مشتركان في الوعد والوعيد. وإنما كررت هذه الآية في هذه السورة تقديرا للنعمة وتأكيدا للتذكير بها على عادة العرب في الإبلاغ والاتباع.
وقال الحسين بن الفضل: (التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة). وقيل: لما عدد الله نعمة بعد نعمة، كرر هذا القول ترغيبا في الشكر، وتحذيرا من الكفر والتكذيب بنعم الله.
وهذه على وجه الحقيقة ليس بتكرار؛ لأنه ذكر كل واحد منها عقيب نعمة لم يتقدم ذكرها. وعن جابر بن عبدالله قال:
" قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: " ما لي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } إلا قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " ".
[55.14]
قوله تعالى: { خلق الإنسان من صلصال كالفخار }؛ أي خلق أصل الإنسان وهو آدم من طين يابس إذا نقر صل؛ أي صوت كالفخار وهو الخزف الذي طبخ بالنار، يسمع منه الصوت إذا نقر وإذا اصطك بعضه ببعض. والمعنى: من طين يابسة كالخزف.
[55.15-16]
قوله تعالى: { وخلق الجآن من مارج من نار }؛ معناه: وخلق أصل الجن وهو الجان أبو الجن من مارج من نار، وهو الصافي من لهب النار، لا دخان فيه. وقيل: من لهب من نار مختلط بسواد النار. وقيل: إنه لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال مجاهد: (هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأسود الذي يعلو النار إذا أوقدت، وهو من قولهم: مرج إذا اختلط). وقيل: إنه نار لا دخان لها تكون بين السماء الدنيا وبين حجاب دونهما فأديم السماء يرى من ذلك الحجاب، ومن تلك النار تكون الصواعق. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.17-18]
قوله تعالى: { رب المشرقين ورب المغربين }؛ أي مشرق الشمس في الشتاء، ومشرقها في الصيف، ومغربها في الشتاء ومغربها في الصيف، ويعني هو رب المشرقين ورب المغربين. وقيل: معناه: هو رب مشرق الشمس والقمر ومغربهما. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.19-21]
قوله تعالى: { مرج البحرين يلتقيان }؛ أي أرسل البحرين العذب والمالح بالإجراء في الأرض. ومرجت الدابة إذا أرسلتها ترعى، ويجوز أن يكون معنى مرج: خلط، ومنه المرج لاختلاط أشجاره، وقوله تعالى { يلتقيان } أي يلاقي أحدهما صاحبه، { بينهما برزخ لا يبغيان }؛ أي بينهم حاجز من قدرة الله لا يبغي العذب على المالح فيكونان عذبا، ولا يبغي المالح عليه فيكونان مالحا.
والمعنى: أن الله ذكر عظيم قدرته حيث خلا البحر من العذب والمالح يلتقيان، وجعل بينهما حاجزا من قدرته وحكمته، لا يبغي أحدهما على صاحبه، فلا الملح يبغي على العذب فيفسده ولا العذب على الملح فيخلط به. وقيل معنى قوله { لا يبغيان } أي لا يطغيان على الناس بالغرق. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.22-23]
قوله تعالى: { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }؛ فيه بيان نعم البحر، واللؤلؤ معروف وهو الكبار من جنس اللؤلؤ، والمرجان: صغاره، وإنما يخرجان من الملح دون العذب، كاللقاح للملح، إلا أنه قال { يخرج منهما } لأن ذلك لا يوجد إلا بحيث يكون العذب والملح جميعا. وقيل: المرجان: ضرب من الجوهر كالقضبان يخرج من البحر.
وقال ابن عباس: (يخلق الله اللؤلؤ والمرجان من قطر المطر، وذلك أن السماء إذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها على وجه الماء في البحر الملح، فما وقع من المطر في أفواهها نزل إلى صدرها فانعقد لؤلؤا).
وقال السدي: (المرجان الخرز الأحمر). وعن ابن مسعود: (أن المرجان حجر). وذكر إن كانت في جوفه صدفة، فأصابت قطرة بعض النواة ولم تصب بعضها، فكان حيث أصاب القطرة من النواة لؤلؤة وسائره نواة.
وسائر القراء على أن (يخرج) بضم الياء وفتح الراء، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم؛ لأنه يخرج ولا يخرج بنفسه. وقرأ (يخرج) بفتح الياء وضم الراء؛ لأنه إذا أخرج خرج.
فإن قيل: كيف قال (يخرج منهما) وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح؟ قيل: هذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما وهو يفعل دون الآخر كقوله تعالى
يمعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم
[الأنعام: 130] والرسل من الإنس دون الجن. قال الكلبي: (وكذلك قوله تعالى:
وجعل القمر فيهن نورا
[نوح: 16] وإنما هو في واحدة منها). وقيل: يخرج من ماء السماء ماء وماء البحر. و { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.24-25]
قوله تعالى: { وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام }؛ فيه بيان نعم الله تعالى بالسفن العظام التي ينتفع بها للتجارات وغيرها، المنشآت: المرفوعات الشراع، وما لم يرفع منها شراعها فلا تكون منشأة. وقيل: المنشآت هي اللواتي ابتدأ بهن في الجري، والأعلام الجبال العظام، شبه السفن في البحر بالجبال في البر.
وقرأ حمزة (المنشآت) بكسر الشين، يعني المبتدئات في السير اللاتي انساب جريهن وسيرهن { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.26]
قوله تعالى: { كل من عليها فان }؛ أي كل من على الأرض يفنى، وهذه كناية عن غير مذكور، ومعنى الآية: كل من دب ودرج على الأرض من حيوان فهو هالك، وفي هذا منع من الركون إلى الدنيا والاغترار بها. قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض. فأنزل الله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه
[القصص: 88] فأيقنت الملائكة بالهلاك).
[55.27-28]
قوله تعالى: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }؛ معناه: ويبقى ربك، والوجه يذكر على وجهين: أحدهما: بعض الشي كوجه الإنسان، والآخر: يقتضي الشيء العظيم في الذكر كما يقال: هذا وجه الرأي ووجه التدبير، ولما ثبت أن الله تعالى ليس بجسم، كان المعنى: ويبقى الله الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه.
وقوله تعالى: { ذو الجلال والإكرام } أي ذو العظمة والكبرياء واستحقاق المدح بإحسانه وإنعامه. والإكرام: إكرامه أنبياءه وأولياءه، فهو مكرمهم بلطفه مع جلاله وعظمته.
وعن معاذ بن جبل قال:
" مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يصلي وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال عليه السلام: " قد استجيب لك "
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الظوا بيا ذا الجلال والإكرام "
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.29-30]
قوله تعالى: { يسأله من في السموت والأرض }؛ أي لا يستغني عنه أهل السماء ولا أهل الأرض، قال أبو صالح: (يسأله من في السماوات الرحمة، ويسأله من في الأرض المغفرة والرزق، والكل يلجأون إليه ويسألونه حوائجهم).
وقوله تعالى: { كل يوم هو في شأن }؛ قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويعز ويذل، ويشفي مريضا، ويجيب داعيا، ويعطي سائلا، ويغفر ذنبا، ويكشف كربا إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما شاء. وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في قوله { كل يوم هو في شأن } قال:
" من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ".
وقال مجاهد: (هو من شأنه أنه يجيب دعاءنا، ويعطي سائلنا، ويشفي سقيمنا، ويغفر ذنوبنا ويتوب على قوم، ويشقي آخرين). وقيل: شأنه يخرج كل يوم وليلة ثلاثة عساكر: عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا، وعسكرا من الدنيا إلى القبور، ثم يرحلون جميعا إلى الله عز وجل.
وحكي: أن بعض الملوك سأل وزيره عن معنى هذه الآية، فاستمهله إلى الغد، ورجع الوزير إلى داره كئيبا لم يعرف ما يقول: فقال له غلام أسود من غلمانه: يا مولاي ما أصابك؟ فزجره، فقال: يا مولاي أخبرني فلعل الله يسهل لك الفرج على يدي، فأخبره بذلك، فقال: عد إلى الملك فقل له: إن لي غلاما أسود إن أذنت له فسر لك هذه الآية، ففعل ذلك. فدعا الملك الغلام فسأله عن ذلك، فقال: أيها الملك؛ شأن الله تعالى أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي مريضا ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافي مبتليا، ويذل عزيزا ويعز ذليلا. فقال له الملك: أحسنت يا غلام فرجت عني. ثم أمر الوزير فخلع ثياب الوزراء فكساها الغلام، فقال: يا مولاي هذا شأن الله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.31-32]
قوله تعالى: { سنفرغ لكم أيه الثقلان }؛ هذا وعيد من الله تعالى للخلق بالمحاسبة، كقول القائل: لأتفرغن لك وما به شغل، وهذا قول ابن عباس والضحاك، وقال الزجاج: (معناه: سنقصد لحسابكم بعد الترك والإمهال، ونأخذ في أمركم ونجزيكم على ما فعلتم بعد طول الإمهال). وهذا على وجه التهديد على ما جرت به العادات في استعمال هذا اللفظ، كما يقول الرجل: سأفرغ لغلامي، يريد سأجعل قصدي له، ولا يريد بذلك الفراغ من شغل هو فيه.
قرأ أبي (سنفرغ إليكم). وقرأ الأعمش (سيفرغ لكم) بياء مضمومة وفتح الراء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بياء مفتوحة وبضم الراء، وقرأ الباقون بنون مفتوحة وضم الراء.
قوله تعالى: { أيه الثقلان } الثقلان الجن والإنس، يدل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك، سميا ثقلين لأنهما ثقل على الأرض أحياء وأمواتا، قال الله تعالى
وأخرجت الأرض أثقالها
[الزلزلة: 2]. وقال جعفر الصادق: (سمي الجن والإنس ثقلين؛ لأنهما مثقلان بالذنوب). { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.33-34]
قوله تعالى: { يمعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموت والأرض فانفذوا }؛ في هذا بيان ضعف الخلائق عن دفع ما ينزل بهم من قضاء الله وعذابه، يقول: إن قدرتم على الخروج من نواحي السماوات والأرض فاخرجوا هربا مما ينزل بكم في الدنيا، لا تقدرون أن تخرجوا إلا بسلطان يعطيكم الله من قوة وحجة، فحيث ما كنتم شاهدتم بسلطان الله تعالى، وذلك يدلكم على وحدانية الله. وقيل: معناه: إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض فاهربوا واخرجوا. والمعنى: أنكم حيث ما كنتم أدرككم الموت، ولن تستطيعوا أن تهربوا منه.
وقوله تعالى: { لا تنفذون إلا بسلطان }؛ أي لا تنفذون إلا بملكي، أي حيث ما كنتم وحيث ما توجهتم فثم ملكي وقدرتي. وأقطار السماوات والأرض: أطرافهما ونواحيهما. وقيل في معنى هذه الآية: يأمر الله تعالى الملائكة يوم القيامة أن تحف بأقطار السماوات والأرض، ثم يقال للجن والإنس: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض هربا من الحساب والعقاب فاهربوا. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.35-36]
قوله تعالى: { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس }؛ أي يرسل على من استحق منكما بمعاصيه لهب من النار، والشواظ: اللهب الذي لا دخان فيه. وقرأ ابن كثير (شواظ) بكسر الشين وهي لغة أهل مكة، قال حسان يهجو أمية بن أبي الصلت:
هجوتك فاختضعت لها بذل
بقافية تأجج كالشواظ
قوله تعالى: { ونحاس }؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ونحاس) بالخفض عطفا على النار، وقرأ الباقون بالرفع عطفا على الشواظ. واختلفوا في معنى النحاس، قال ابن عباس: (هو الدخان) وأكثر القراءة فيه بالرفع عطفا على (شواظ)، والمعنى: يرسل عليكما شواظ، ويرسل نحاس؛ أي يرسل هذا مرة وهذا مرة، ويجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر. وقيل: النحاس هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، وقال مقاتل: (هي خمسة أنهار من صفر مذاب تجري على رؤوس أهل النار)، قوله تعالى: { فلا تنتصران }؛ أي فلا تمتنعان عن ما يراد بكما.
قوله تعالى: { فبأي آلاء ربكما تكذبان }؛ وجه إنعام الله تعالى علينا في إنزال آيات الوعيد: أنه تعالى لما حذرنا من العذاب بأبلغ أسباب التحذير حتى نتقي المعاصي خوفا من عذابه، ونرغب في الطاعات طعما في ثوابه، كان ذلك نعمة منه علينا فلذلك قال تعالى { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.37-38]
قوله تعالى: { فإذا انشقت السمآء فكانت وردة كالدهان }؛ معناه: إذا انشقت وذابت حتى صارت حمراء كلون الوردة الحمراء أو كالدهن الأحمر من نار جهنم مع عظم السماء وكبرها، فكيف بأبدانكم الضعيفة في ذلك اليوم، وهذا كما روي عن علي رضي الله عنه: أنه مر على قوم من الحدادين فقال: (أما أنتم يا معشر الحدادين أحق الناس بالاتعاظ والاعتبار، أما ترون تأثير هذه النار الضعيفة في هذا الحديد الشديد؟ فكيف تأثير تلك النار العظيمة في هذه الأبدان الضعيفة).
ويقال في تشبيه السماء بالوردة: أنها تتكون في ذلك اليوم، قال الحسن: (إن السماء أول ما تنشق تحمر ثم تصفر ثم تخضر كالفرس الورد، تكون في الربيع وردة إلى الصفرة، فإذا اشتدت كان الشتاء كانت وردة حمراء، فإذا كان الخريف كانت وردة أغبر).
وشبهها بالدهان المختلفة التي تصب بعضها على بعض، والدهن والدهان واحد، قال قتادة: (إن السماء اليوم خضراء وستكون يوم القيامة حمراء كالدهان). وقيل: إن الدهان جمع الدهن، قال عطاء: (يعني عصير الذائب)، وقال ابن جريج: (معناه: أن السماء تذوب كما يذوب الدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر نار جهنم). { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.39-45]
قوله تعالى: { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جآن }؛ يسأل سؤال استفهام؛ لأن الله تعالى يظهر على كل مجرم علامة تدل على معصيته، وعلى كل مطيع علامة على إطاعته، لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية: { فبأي آلاء ربكما تكذبان * يعرف المجرمون بسيماهم }؛ أي بعلامتهم من سواد الوجوه وزرقة الأعين، { فيؤخذ بالنواصي والأقدام }؛ فيجعل أقدامهم مغلولة إلى نواصيهم من خلف ويلقون في النار كذلك، والناصية: شعر مقدم الرأس، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
ويقال للمجرمين عندما يقذفون في النار: { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون }؛ يعني المشركين. قوله تعالى: { يطوفون بينها وبين حميم آن }؛ معناه: يطوفون بين أطباق النيران وبين ماء حار قد انتهى حره، إذا استغاثوا من الحميم من النار، جعل غياثهم الحميم الآخر، وإذا استغاثوا من الحميم جعل غياثهم النار، فيطاف بهم مرة إلى الحميم ومرة إلى النار.
يقال: آنى يأني أنا فهو آن، إذا انتهى في النضج والحرارة، قال قتادة: (طبخ منذ خلق الله السماوات والأرض). حدثنا المردوية الصانع قال: صلى بنا الإمام صلاة الصبح، فقرأ فيها سورة الرحمن ومعنا علي بن الفضيل، فلما قرأ { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } خر مغشيا عليه حتى فزعنا من الصلاة، فقلنا له بعد ذلك: يا علي أما سمعت الإمام يقول:
حور مقصورات في الخيام
[الرحمن: 72] قال: شغلني عنها { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.46-51]
قوله تعالى: { ولمن خاف مقام ربه جنتان }؛ معناه: ولمن خاف وقوفه في عرضات القيامة بين يدي الله تعالى، فترك المعصية رهبة من الله تعالى له جنتان بستانان من الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ترابهما الكافور والعنبر، وحصاهما المسك الأذفر، كل بستان منهما مسيرة مائة سنة، في وسط كل بستان دار من نور، وقال محمد بن علي الترمذي: (جنة داخل قصره لخوفه وجنة خارج قصره لتركه)، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
وفي الحديث: " أن هذه الآية نزلت في من دعته نفسه إلى المعصية، فإذا تمكن منها وقدر عليها وتذكر ما في ارتكابها من العقاب، وما في تركها من الثواب، فتركها فله جنتان " هذه صفتهما: { ذواتآ أفنان }؛ أي ذواتا أغصان، واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا. وقال الزجاح : (الأفنان: الألوان والأغصان) أي ذواتي الألوان وأصناف من الفاكهة لا يعدم فيه لون من ألوانها، واحدها فن، وجمع عطاء بين القولين فقال: (يريد في كل غصن فنون من الفاكهة)، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
وفي ذكر الأغصان بيان كثرة الأشجار، وبكثرة الأشجار تمام حال البستان، فإن البستان لا يكمل إلا بكثرة الأشجار، والأشجار لا تحسن إلا بكثرة الأغصان، { فيهما عينان تجريان }؛ أي في البساتين عينان تجريان، إحداهما: السلسبيل، والأخرى: التسنيم، تجريان في غير شق ولا أخدود. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.52-53]
قوله تعالى: { فيهما من كل فاكهة زوجان }؛ أي نوعان وصنفان، حلو وحامض، وأحمر وأصفر، ورطب ويابس. ويقال: صنفان: صنف عهدوه في الدنيا، وصنف لم يعهدوه ولا خطر في قلوبهم، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.54-55]
قوله تعالى: { متكئين على فرش بطآئنها من إستبرق }؛ أي جالسين جلسة الملوك مكرمين على فرش بطائنها من استبرق، البطانة: الصفحة مما يلي الأرض في البطانة، والاستبرق: الديباج المنسوج بالذهب.
وإنما ذكرت البطائن من استبرق لتعرف أن البطائن إذا كانت هكذا، فالظاهر لا شك أنها أشرف منها على ما عليه العادة، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (هذه البطائن؛ فما ظنكم بالظواهر). وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظواهر؟ قال: (هذا مما قال الله تعالى:
فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة: 17]). وقال ابن عباس: (وصف البطائن وترك الظواهر؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر؟).
قوله تعالى: { وجنى الجنتين دان }؛ أي ثمرهما قريب متناوله، يناوله القائم والقاعد والمضطجع، يأخذه كيف ما أراد، ويدنو إلى أفواههم حتى يناولونه بالأفواه، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.56-57]
قوله تعالى: { فيهن قاصرات الطرف }؛ أي في هاتين الجنتين وما حولهما من الجنان حور غاضات الأعين، قد قصرن أطرافهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم ولا يبغين بهم بدلا.
والطرف: جفن العين، ويجوز أن يكون معنى { فيهن قاصرات الطرف } أي في الفرش التي بطائنها من استبرق، وقال زيد: (إن المرأة من الحور العين القاصرات الطرف تقول لزوجها: وعز ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي).
قوله تعالى: { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن }؛ أي لم يفضضهن، والطمث: هو النكاح بالتدمية، وامرأة طامثة؛ أي حائض، وطمثت الجارية إذا افترعتها، والمعنى: لم يغشهن ولا يجامعهن إنس قبلهم ولا جان؛ لأنهن خلقهن في الجنة، وقيل: الطمث هو المس، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.58-59]
قوله تعالى: { كأنهن الياقوت والمرجان }؛ أي كأنهن في صفاء الياقوت وبياض المرجان، والمرجان: هو صغار اللؤلؤ وهو أشد بياضا من كباره. وعن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أن المرأة من أهل الجنة يرى بياض مخ ساقها من وراء سبعين حلة من حرير "
، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.60-61]
قوله تعالى: { هل جزآء الإحسان إلا الإحسان }؛ أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، قال ابن عباس: (هل جزاء من قال: لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة). وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحضيرة قدسي برحمتي "
{ فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.62-63]
قوله تعالى: { ومن دونهما جنتان }؛ معناه وله جنتان سوى الجنتين الأوليين، وهما دون الأوليين. قال بعضهم: أراد بالجنتين الأولين جنتين في العلو، وأراد بهذين جنتين في السفل، قال صلى الله عليه وسلم:
" هما جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما من فضة "
وقيل: معناه: { ومن دونهما جنتان } أي أقرب إلى قصره ومجالسه من الجنتين الأوليين، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.64-65]
قوله تعالى: { مدهآمتان }؛ أي خضراوان تضرب خضرتهما من الرائي إلى السواد، وذلك أحسن ما يكون في الخضرة أولاهم الأسود، يقال: ادهام الزرع إذا علاه السواد ريا. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.66-67]
قوله تعالى: { فيهما عينان نضاختان }؛ أي فوارتان بالماء من الامتلاء، تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور والخير والبركة، بخلاف العينين للأوليين، والنضخ أكثر من النضح، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.68-69]
قوله تعالى: { فيهما فاكهة ونخل ورمان }؛ أي فيهما ألوان الفاكهة. قوله تعالى: { ورمان } يستدل لأبي حنيفة أن النخل والرمان ليسا من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه، وعند أبي يوسف ومحمد هما من الفاكهة، وإن عطفهما على الفاكهة لزيادة معنى فيهما لا يوجد في سائر الفواكه، كما في قوله تعالى:
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكل
[البقرة: 98]. وروي: أن نخيل الجنة، عروقها من فضة، وجذوعها ذهب، وسقفها حلل، وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد، ليس له عجم، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.70-71]
قوله تعالى: { فيهن خيرات حسان }؛ قرأ أبو رجاء (خيرات) بالتشديد، وهما لغتان مثل هين وهين ولين ولين، وعن أم سلمة قالت:
" قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عن قوله { خيرات حسان } قال: " خيرات الأخلاق حسان الوجوه "
وقيل: خيرات فاضلات مختارات ليس بذربات ولا دفوات ولا بحرات ولا متسلطات ولا طماحات ولا طوافات في الطرق، { فبأي آلاء ربكما تكذبان }؛.
[55.72-73]
قوله تعالى: { حور مقصورات في الخيام }؛ الحور البيض الحسان البياض، والمقصورات هن المحجوبات المحبوسات والمصونات. والخيام: جمع خيمة، وهي خيمة من درة مجوفة فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب، طول الخيمة في السماء ستون ميلا، في كل زاوية أهل لا يراهم الآخرون. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.74-75]
قوله تعالى: { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جآن }؛ يعني أن صفتهن كصفة القاصرات الطرف. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.76-77]
قوله تعالى: { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان }؛ قال أبو عبيدة: (الرفرف: البسط) قاله الضحاك ومقاتل والحسن. وقال الزجاج: (الرفرف ها هنا رياض الجنة). وقيل: الرفرف الوسائد. وأما العبقري: فهو البسط من الزرابي وغيرها، وكل ما بولغ في وصفه فهو عبقري، وأصله أن عبقري اسم بلد كان يوشى فيها البسط، وكانت العرب تعتقد أن أفضل البسط ما نسج بعبقر، فأضافه الله تعالى على عادتهم. { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[55.78]
قوله تعالى: { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام }؛ أي عظمت البركة في اسم ربك، فاطلبوا البركة في كل شيء يذكر فيه اسمه، قرأ ابن عامر (ذو الجلال والإكرام).
[56 - سورة الواقعة]
[56.1]
{ إذا وقعت الواقعة }؛ قال ابن عباس: (معناه: إذا قامت القيامة)، والواقعة اسم القيامة، وقيل: معناه: إذا نزلت الصيحة وتلك النفخة الآخرة.
[56.2-3]
قوله تعالى: { ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة }؛ أي لمجيئها وظهورها كاذبة ولا رد ولا خلاف، وقوله { رافعة } أي تخفض ناسا وترفع آخرين، قال عطاء: (تخفض أقواما كانوا في الدنيا مرفعين، وترفع أقواما كانوا في الدنيا متضعين). وقيل: تخفض قوما إلى النار، وترفع آخرين إلى الجنة.
[56.4-5]
قوله تعالى: { إذا رجت الأرض رجا }؛ أي زلزلت الأرض ورجعت وتحركت حركة شديدة حتى ينهدم كل بناء على وجه الأرض. قوله: { وبست الجبال بسا }؛ أي فتت فتا فصارت كالدقيق المبسوس وهي المبلول، والبسيسة عند العرب الدقيق والسويق يلت ويتخذ زادا. قيل: إن الجبال تصير يومئذ كالدقيق أو السويق.
[56.6]
قوله تعالى: { فكانت هبآء منبثا }؛ أي صارت غبارا متفرقا كالذي يسفع من حوافر الدواب، ويحول في شعاع الشمس إذا دخل من الكوة وهو الهباء، فيقبض القابض فلا يحصل بيده، وقرأ النخعي (منبتا) بالتاء أي منقطعا.
[56.7-8]
قوله تعالى: { وكنتم أزواجا ثلاثة }؛ معناه: وكنتم يومئذ أصنافا ثلاثة، ثم فسرهم فقال الله: { فأصحاب الميمنة مآ أصحاب الميمنة }؛ يعني الذين يعطون كتبهم بأيمانهم. وقيل: هم الذين يسلك بهم ذات اليمين إلى الجنة.
[56.9]
قوله تعالى: { وأصحاب المشأمة مآ أصحاب المشأمة }؛ هم أصحاب الشؤم والتكذيب، وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بشمالهم، ويسلك بهم طريق الشمال إلى النار، ويقال لليد اليسرى الشوماء، قال الشاعر:
الشتم والشر في شوماء يديك لهم
وفي يمينك ماء المزن والضرب
ومنه الشام واليمن؛ لأن اليمن على يمين الكعبة، والشام على شمالها إذا دخلت الحجر تحت الميزاب. وقيل: هم الذين كانوا على شمال آدم عندما أخرج الذرية، وقال الله لهم:
" هؤلاء في النار ولا أبالي ".
وقوله تعالى: { مآ أصحاب الميمنة } و { مآ أصحاب المشأمة } تعجيب لشأن أصحاب الميمنة في الخير، والترغيب في طريقتهم كما يقال: فقيه أي فقيه، وتعظيم لشر أصحاب المشأمة والتحذير عن طريقتهم.
[56.10]
قوله تعالى: { والسابقون السابقون }؛ بيان للصنف الثالث ، والمعنى: والسابقون في الدنيا إلى الطاعات، هم السابقون في العقبى إلى الدرجات، وقيل: هم الذين سبقوا إلى توحيد الله والإيمان برسوله.
وقال ابن سيرين: (هم الذين صلوا إلى القبلتين، وشهدوا بدرا)، دليله قوله تعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار
[التوبة: 100]، وقال ابن عباس: (هم السابقون إلى الهجرة)، وقال علي رضي الله عنه: (هم السابقون إلى الصلوات الخمس)، وقال ابن جبير: (المسارعون إلى التوبة وإلى أعمال البر)، ونظيره
سابقوا إلى مغفرة من ربكم
[الحديد: 21]، وقال
أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون
[المؤمنون: 61].
[56.11-14]
قوله تعالى: { أولئك المقربون * في جنات النعيم }؛ أي هم المقربون إلى كرامة الله تعالى وجزيل ثوابه في أعلى الدرجات، ثم أخبر أين محلهم فقال { في جنات النعيم }. قوله تعالى: { ثلة من الأولين }؛ أي جماعة من أوائل الأمم ممن صدق بالنبيين من ولد آدم إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، { وقليل من الآخرين }؛ أي من هذه الأمة، وذلك أن الذين عاينوا جميع النبيين وصدقوا بهم أكثر ممن عاين نبينا صلى الله عليه وسلم، ألا ترى إلى قوله تعالى:
وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون
[الصافات: 147] هؤلاء سوى من آمن بجميع الأنبياء وصدقهم، والثلة في اللغة: هي القطعة، الكثرة من الناس، والجماعة الذين لا يحصى عددهم.
[56.15]
قوله تعالى: { على سرر موضونة }؛ أي على سرر منسوجة بقضبان الذهب والفضة والجواهر، قد أدخل بعضها في البعض مضاعفة. قال الأعشى:
ومن نسج داوود موضونة
تساق مع الحي عيرا فعيرا
وإنما قال { على سرر موضونة } لأنها إذا كانت على هذه الصفة، كانت أنعم وألين من السرر التي تعمل من الخشب، قال الكلبي: (طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت، فإذا جلس عليها ارتفعت). وقال الضحاك: (موضونة: أي مصفوفة)، يقال: آجر موضون إذا صف بعضه على بعض.
[56.16]
قوله تعالى: { متكئين عليها متقابلين }؛ أي جالسين عليها جلسة الملوك للراحة متقابلين، يقال بعضهم بعضا في الزيادة: إذا اشتهى أحدهم حديث صاحبه، ألقى الله في نفس الآخر مثل ذلك، وأمر كل واحد منهم بسريره فأخرج على باب منزله، ثم جلسا على سريريهما يتحدثان، يسمع كل واحد منهما حديث صاحبه وإن بعد عنه، وإذا شاؤوا سارت سريرهم إلى حيث يشاؤون.
[56.17]
قوله تعالى: { يطوف عليهم ولدان مخلدون }؛ أي يطوف عليهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيرون ولا يموتون، خلقوا للخلود وهم دائمون، ويقال: معنى { مخلدون } مقرطون مسورون من الخلدة وهي الحلي، يقال: خلد جاريته إذا أحلاها بالخلد وهو القرط.
[56.18-19]
قوله تعالى: { بأكواب وأباريق }؛ الأكواب جمع كوب، وهي الكيزان العظام المدورة الرؤوس التي لا آذان لها ولا خرطوم ولا عرى، والأباريق والأواني التي لها عرى وخراطيم، واحدها إبريق، وهو الذي يبرق من صفائه وحسنه وبريق لونه.
قوله تعالى: { وكأس من معين }؛ الكأس: الإناء الذي فيه الشراب، والمعين: الخمر الذي يجري من العيون الظاهرة لا في الأخدود، والمعنى: وكأس من خمر جارية. قوله تعالى: { لا يصدعون عنها ولا ينزفون }؛ أي لا يصيبهم من شربها صداع كما يكون في شرب خمر الدنيا، ولا تنزف عقولهم، يقال للرجل إذا سكر: نزف عقله، والنزيف هو السكران.
[56.20]
قوله تعالى: { وفاكهة مما يتخيرون }؛ معناه: ويؤتون بفاكهة مما يتخيرون ليس لها فناء ولا نوى، ظاهرها مثل باطنها، وباطنها مثل ظاهرها.
[56.21]
قوله تعالى: { ولحم طير مما يشتهون }؛ أي يؤتون بلحم طير مما يتمنون، كما روي في الحديث:
" أنهم إذا اشتهوا لحم الطير وقع بينهم مشويا، فيتناولون منه قدر الحاجة، ثم يطير كما كان "
وهذا لأن الذبح لا يكون إلا بإراقة الدم، وذلك لا يكون في الجنة.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة طيرا فيه تسعون ألف ريشة، يجيء فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة، ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لونه أبيض من الثلج وألين من الزبد وأعذب من الشهد، ليس فيه لون يشبه الآخر، ثم يطير فيذهب ".
[56.22]
قوله تعالى: { وحور عين }؛ قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي (وحور) بالخفض على معنى وينعمون بحور عين، ويجوز أن يكون خفضا على المجاورة؛ لأنه معطوف على قوله (وفاكهة ولحم طير).
والحور: البيض الحسان، والعين: الواسعة الأعين حسانها، وقرأ النخعي وأشبه العقلي (وحورا عينا) بالنصب على معنى ويزوجون حورا عينا، وبالرفع على معنى: ولهم حور عين.
[56.23]
قوله تعالى: { كأمثال اللؤلؤ المكنون }؛ معناه: أن صفاء هذه كصفاء الدر حين يخرج من صدفه قبل أن تصيبه يد أو هواء أو شمس أو غبار.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" خلق الحور العين من زعفران "
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من عبد يدخل الجنة إلا وهو مزوج ثنتين وسبعين زوجة، ليس منهن امرأة إلا ولها قبل شهي، وله ذكر لا ينثني ".
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سطع نور في الجنة، فقالوا: ما هذا؟ قالوا: ضوء ثغر حور تبسمت في وجه زوجها ".
ويروى: أن الحور إذا مشت سمع تقديس الخلاخل وتمجيد الأساور في ساعديها، إن عقد الياقوت في نحرها، في رجليها نعلان من ذهب شراكهما من اللؤلؤ يصران بالتسبيح والتحميد.
[56.24]
قوله تعالى: { جزآء بما كانوا يعملون }؛ فيه بيان أن هذه الأشياء جزاء لهم على أعمالهم الصالحة التي كانوا يعملونها في الدنيا.
[56.25-27]
قوله تعالى: { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما }؛ أي لا يسمعون في الجنة إلا قولا يسلمون فيه من اللغو والتأثيم، واللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه، التأثيم: أن يؤثم بعضهم بعضا ولا يتكلمون بما فيه إثم. قوله تعالى: { إلا قيلا سلاما سلاما }؛ أي ولكن يقولون قيلا ويسمعون قيلا سلاما يسلمون فيه من اللغو والإثم. قال عطاء: يحيي بعضهم بعضا بالسلام على أحسن الآداب وكريم الأخلاق مع كمال النعيم، ويقول لهم الملائكة: سلمكم الله تعالى من المكاره).
هذا كله نعت السابقين، ثم ذكر الصنف الثاني:
فقال تعالى: { وأصحاب اليمين مآ أصحاب اليمين }؛ وهم عامة المؤمنين دون النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ما تدري ما لهم يا محمد في الجنة من النعيم والسرور.
[56.28]
قوله تعالى: { في سدر مخضود }؛ السدر شجر مثمر مرتفع المنظر، طيب الرائحة. والمعنى: في ظلال سدر قد نزع شوكه وكثر حمله، والخضد عطف العود اللين، ولذلك قيل: لا شوكة فيه، قد خضد شوكه؛ أي قطع، ومنه الحديث:
" لا يخضد شوكها ولا يعضد شجرها ".
وقال مجاهد والضحاك ومقاتل: (معنى قوله { مخضود } أي موقر حملا)، ويقال: إن السدر شجر النبق إلا أن ثمرة تلك الشجرة لا تكون مثل شجر النبق في الدنيا ولا رائحتها تشبه رائحتها.
[56.29]
قوله تعالى: { وطلح منضود }؛ الطلح شجر الموز، وقوله { منضود } أي بتراكب الموز على أغصانها من أولها إلى آخرها، فليس لها شوك بارز، وقال الحسن: (الطلح شجر له ظل بارد طيب)، وقرأ علي رضي الله عنه (معضود) بالعين أي تحل بتراكب الرطب على أغصانها كما في قوله
لها طلع نضيد
[ق: 10].
[56.30]
قوله تعالى: { وظل ممدود }؛ أي لا تنسخه الشمس، قال الربيع: (يعني ظل العرش)، قال عمرو بن ميمون: (مسيرة سبعين ألف سنة). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، شجر الخلد، إقرأوا إن شئتم { وظل ممدود } ".
[56.31]
قوله تعالى: { ومآء مسكوب }؛ أي ماء مصبوب عليهم من ساق العرش في أوعيتهم يشربوه على ما يرون من حسنه وصفائه وطيب رائحته. وقيل: معناه: وماء مصبوب يجري دائما في غير أخدود لا ينقطع.
[56.32-33]
قوله تعالى: { وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة }؛ أي وأنواع فاكهة كثيرة، لا ينقطع عنهم في وقت من الأوقات، بخلاف فاكهة الدنيا، ولا تكون ممنوعة ببعد متناول أو شوكة تؤذي، بخلاف ما يكون في الدنيا. وقيل: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان، ولا ينقطع ثمرها إذا جنيت بل يخرج مكانها مثلها. قال صلى الله عليه وسلم:
" ما قطعت ثمرة من ثمار الجنة إلا أبدل مكانها ضعفين ".
[56.34-36]
قوله تعالى: { وفرش مرفوعة }؛ قال صلى الله عليه وسلم:
" ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، موضوعة بعضها فوق بعض، إذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت حتى يجلس، ثم ترتفع في الهواء "
قال علي رضي الله عنه: (مرفوعة على الأسرة).
وقيل: إنه أراد بالفرش ها هنا النساء المرتفعات القدر في عقولهن وحسنهن وكمالهن، رفعن بالحسن والجمال والفضل على نساء الدنيا، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: { إنآ أنشأناهن إنشآء * فجعلناهن أبكارا }؛ وقد تسمى المرأة فراشا ولباسا.
قوله تعالى: { إنآ أنشأناهن إنشآء } أي خلقناهن لأوليائنا بلا ولادة ولا تربية، بخلاف نساء الدنيا. وقيل: المراد بهذه الآية نساء أهل الدنيا يخلقن خلقا بعد خلق، كما روي في بعض الأحاديث:
" أنهن عجائزكم في الدنيا جعلن صبايا، ويلبسن من الحسن والجمال أكثر مما يلبس الحور العين؛ لأنهن عملن في الدنيا، والحور لم يعملن ".
[56.37-38]
قوله تعالى: { عربا أترابا * لأصحاب اليمين }؛ العرب: جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها اللاعبة معه أنسا به ومحبة له، قال المبرد: (هي العاشقة لزوجها الحسنة التبعل لذيذة الكلام).
قوله تعالى: { أترابا } أي مستويات في السن على ميلاد واحد، كلهن في سن ثلاث وثلاثين سنة، سنهن مثل سن أزواجهن، ومثل هذا يكون أبلغ في اللذة. قوله { لأصحاب اليمين } أي جميع الذي ذكرناه لأصحاب اليمين. وقيل: معناه: فأنشأناهن إنشاء لأصحاب اليمين.
[56.39-40]
قوله تعالى: { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } أي جماعة من أوائل الأمم، وجماعة من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وروي: أنه لما أنزل الله تعالى: { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين } بكى عمر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ينجو من قليل؟ فأنزل الله { ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين }.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" " يا ابن الخطاب؛ قد أنزل الله فيما قلت، فجعل ثلة من الأولين وثلة من الآخرين " فقال عمر رضي الله عنه: (رضينا عن ربنا وتصديق نبينا صلى الله عليه وسلم؛ من آدم إلينا ثلة، ومنا إلى يوم القيامة ثلة) "
وقال مجاهد والضحاك: (الثلتان جميعا من هذه الأمة).
[56.41-44]
قوله تعالى: { وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال }؛ يعني الذين يعطون كتبهم بشمائلهم، ما تدري يا محمد ما لهم من الهوان في العذاب من حر نار وريح حادة تدخل في مسامهم، وهو قوله تعالى: { في سموم وحميم }؛ أي في حر نار وماء حار، { وظل من يحموم }؛ أي من دخان شديد السواد لا كبرد ظل الدنيا؛ لأنه ظل دخان جهنم.
وقال ابن زيد: (اليحموم جبل في جهنم). قوله تعالى: { لا بارد ولا كريم }؛ أي لا بارد المدخل ولا كريم المنظر. وقيل: لا بارد المنزل ولا حسن المنظر.
[56.45-48]
قوله تعالى: { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين }؛ فيه بيان سبب العقوبة، معناه: إنهم كانوا في الدنيا منعمين متكبرين في ترك أمر الله، وكانوا ممتنعين من الواجب الذي عليهم طلبا للترفه، { وكانوا يصرون على الحنث العظيم }؛ أي وكانوا يقيمون على الشرك بالله. وسمي الشرك حنثا؛ لأنهم كانوا يحلفون أن الله لا يبعث من يموت، والحنث: الإثم.
وقال الشعبي: (الحنث العظيم: اليمين الغموس) وهم كانوا يحلفون بالله أنهم لا يبعثون وكذبوا في ذلك، { وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون }؛ بيان إنكارهم للبعث، وقوله تعالى: { أو آبآؤنا الأولون }؛ هذا القول منهم زيادة استبعاد واستنكار.
[56.49-50]
يقول الله تعالى: { قل إن الأولين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم }؛ أي قل لهم يا محمد: إن آباءكم ومن قبلهم وأنتم ومن بعدكم لمجموعون في قبورهم إلى يوم القيامة.
[56.51-56]
قوله تعالى: { ثم إنكم أيها الضآلون المكذبون * لأكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم }. وذلك أن الله تعالى يلقي عليهم الجوع حتى يضطرهم إلى أكل الزقوم، فيأكلون منه حتى تمتلئ بطونهم، ثم يلقي عليهم العطش فيضطرهم ذلك إلى شرب الحميم، فيشربون شرب الإبل العطاش التي يصيبها داء الهيام فلا تروى من الماء.
والهيم: الإبل العطاش التي بها الهيام لا تروى، وواحد الهيم أهيم، والأنثى هيماء، ويقال: الهيم هي الرمال التي لا يرويها ماء السماء، مأخوذ من قولهم: كثيب أهيم، وكثبان هيم. قرأ نافع وعاصم وحمزة (شرب) بضم الشين، وقرأ الباقون بفتحها، والمعنى فيها واحد مثل ضعف وضعف، { هذا نزلهم يوم الدين } أي هذا غداؤهم وشرابهم يوم الجزاء.
[56.57-59]
قوله تعالى: { نحن خلقناكم }؛ أي نحن خلقناكم أيها الكفار ولم تكونوا شيئا، { فلولا تصدقون }؛ أي فهلا تصدقون بالبعث اعتبارا بالخلقة الأولى. قوله تعالى: { أفرأيتم ما تمنون * ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون }؛ معناه: أخبروني يا أهل مكة ما تقذفونه من المني وتصبونه في أرحام النساء، أأنتم تخلقونه ولدا أم نحن نخلقه ونجعله بشرا سويا.
[56.60-61]
قوله تعالى: { نحن قدرنا بينكم الموت }؛ أي كتبناه عليكم وسوينا به بين أهل السماء والأرض على مقادير آجالهم في مكان معلوم وفي زمان معلوم، فمنكم من يموت صغيرا ومن يموت كبيرا.
قوله تعالى: { وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثلكم }؛ أي ما نحن بمغلوبين عاجزين على أن نبدل غيركم أطوع وأخشع منكم، وعلى أنه { وننشئكم في ما لا تعلمون }؛ أي في موضع لا تعلمونه وهو النار. وقيل: في صور لا تعلمونها من سواد في الوجوه وزرقة الأعين، ولو أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولا فاتنا ذلك. قرأ ابن كثير (نحن قدرنا) مخففا وهما لغتان.
[56.62]
قوله تعالى: { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون }؛ أي قد علمتم الخلقة الأولى ولم تكونوا شيئا، فخلقناكم من نطفة وعلقة ومضغة، وهلا تذكرون أني قادر على إعادتكم كما قدرت على أعدائكم.
[56.63-64]
قوله تعالى: { أفرأيتم ما تحرثون * ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون }؛ معناه: أخبروني ما تلقون من البذر في الأرض؛ أأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا أم نحن فاعلون ذلك؟.
[56.65-67]
قوله تعالى: { لو نشآء لجعلناه حطاما }؛ أي يابسا متنكسا بعد خضرته لا حب فيه فأبطلناه، { فظلتم تفكهون }؛ أي فصرتم تعجبون مما نزل بكم في زرعكم، ونادمون على ما أنفقتم فيه وتحملتم فيه من المشقة، وتقولون: { إنا لمغرمون }؛ أي طقنا غرم عظيم فهذا الزرع، وغرم الحب الذي بذرناه فذهب علنيا بغير عوض، { بل نحن محرومون }؛ أي ممنوعون من الرزق منه.
وأصل ظلتم: ظللتم فحذف اللام الأولى. والتفكه من الأضداد، يقال: تفكه؛ أي تنعم، وتفكه؛ تحزن.
[56.68-70]
قوله تعالى: { أفرأيتم المآء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن }؛ أي من السحاب، { أم نحن المنزلون }؛ عليكم منه ، { لو نشآء جعلناه أجاجا }؛ أي مرا شديدا، مرارا محرقا للحلق والكبد، لا يمكن شربه والانتفاع به، { فلولا تشكرون } ، فهلا تنكرون عذوبته. وقيل: الأجاج: شديد الملوحة مع المرارة.
[56.71-72]
قوله تعالى: { أفرأيتم النار التي تورون }؛ يعني التي تظهرونها بالزناد من الأعواد، ومعنى: تورون: تقدحون وتستخرجون من زنادكم، يقال: أوريت النار إذا قدحتها. قوله تعالى: { أأنتم أنشأتم شجرتهآ أم نحن المنشئون } أي أأنتم أنبتم شجرة النار أم نحن المنبتون لها في الأرض، وجعلناها خضراء وفيها النار.
[56.73-74]
قوله تعالى: { نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين }؛ أي نحن جعلنا النار عظة ليتعظ بها المؤمن. وقيل: جعلناها تذكرة للنار الكبرى؛ إذا رآها الرائي ذكر جهنم، فذكر الله تعالى فاستجار به منها، وترك المعصية.
وقوله تعالى: { ومتاعا للمقوين } أي وجعلناها منفعة للمسافرين الذين ينزلون في الأرض القي في المفاوز، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالأرض القوى وهي الخالية القفراء، ويقال: أرض قيء أي القفرى، قال الراجز:
قي يناصيها بلاد قي
والقي والقوى هي الأرض القفرى الخالية البعيدة من العمران، يقال: أقوت الأرض من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
ومنفعة المسافرين بالنار أكثر من منفعة المقيمين؛ لأنهم يوقدونها ليلا لتهرب منها السباع، ويهتديها الضال من الطريق، ويستضيئوا بها في ظلمة، ويصطلوا بها من البرد ويطبخون بها ويخبزوا، وضرر فقدها عليهم أشد. وقد يقال للذي فقد زاده: المقوي من أقرت الدار إذا خلت، ويقال للمقوين: مقو لخلوه من المال والغنى، مقو لقوته على ما يريد، فعلى هذا المقوي من الأضداد، والمعنى: متاعا للغني والفقير، وذلك أنه لا غنى لأحد عنها.
ولما ذكر الله سبحانه ما يدل على توحيده وما أنعم به، فقال تعالى: { فسبح باسم ربك العظيم }؛ أي برئ الله مما يقول الظالمون في وصفه ونزهه عما لا يليق به. وفي الحديث:
" لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: " اجعلوها في ركوعكم " ".
[56.75]
قوله تعالى: { فلا أقسم بمواقع النجوم }؛ معناه: فأقسم، وإنما دخلت (لا) زائدة للتوكيد، ويجوز أن يكون قوله: { فلا } ردا لما يقوله الكفار في القرآن: أنه سحر أو شعر أو كهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم في كتاب مكنون، ويعني بقوله { بمواقع النجوم } نجوم القرآن التي كانت تنزل على رسول الله متفرقا قطعا نجوما، وقيل: يعني مغارب النجوم ومساقطها، وقرأ حمزة والكسائي (موقع) على المصدر، والمصدر يصلح للواحد والجمع.
[56.76]
قوله تعالى: { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم }؛ قال الزجاج: (هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن) والضمير في (إنه) يعود على القسم ودل عليه (أقسم)، والمعنى: أن القسم بمواقع النجوم عظيم.
[56.77-78]
قوله تعالى: { إنه لقرآن كريم }؛ هذا جواب القسم، ومعناه: كثير الخير دال على أنه من عند الله لأنه لا يأتي أحد بمثله { في كتاب مكنون }؛ ها هنا هو اللوح المحفوظ مصون عن التغير والتبديل والزيادة والنقصان.
[56.79-80]
قوله تعالى: { لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين }؛ قال بعضهم: الضمير يعود إلى الكتاب المكنون، معناه: لا يمس اللوح المحفوظ إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وقال: الضمير يعود إلى القرآن، ومعناه: المصحف لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والجنابات والحيض، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا يمس القرآن إلا طاهر ".
وقيل: معنى الآية: لا يعمل به إلا الموفقون. وقيل: لا يجد حلاوته إلا المفسرون: وقيل: معناه: لا يقرؤه إلا الموحدون المطهرون من الشرك، وكان ابن عباس (ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن). وقيل: معناه: لا يجد لذته إلا من آمن به. وقيل: لا يوفق للعمل به إلا السعداء.
فظاهر الآية: لا يجوز للمحدث مس المصحف، وإن كان ظاهرها نفي، فمعناه: النهي؛ أي لا يمس المصحف إلا المطهرون من الأحداث، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء.
وذهب حكيم وداود بن علي إلى أنه يجوز للمحدث مس المصحف اذا كان مسلما، ولا يجوز ذلك للمشرك.
والدليل على أنه لا يجوز للمحدث مسه قوله عليه السلام:
" لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر "
وعليه إجماع الصحابة. وسئل علي رضي الله عنه: أيمس المحدث المصحف؟ فقال: (لا ).
[56.81]
قوله تعالى: { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون }؛ معناه: أفبهذا القرآن الذي يقرأ عليكم يا أهل مكة أنتم تكفرون وتكذبون. والمدهن والمداهن: الكذاب المنافق. وقيل: معنى تدهنون: تظهرون خلاف ما تضمرون، مأخوذ من الدهن ومداهنة العدو وملاينته ومصانعته وإظهار مسالمته خلاف ما يضمر.
[56.82]
قوله تعالى: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون }؛ أي وتجعلون شكركم أنكم تكذبون بنعمة الله عليكم، فيقولون: سقينا بنوء كذا. وذلك أنهم كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، لا ينسبون السقيا إلى الله عز وجل، فقيل لهم: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب؛ أي تجعلون بدل شكركم تكذيبكم بأنه من عند الله الرزاق.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لو حبس الله عن أمتي المطر سبع سنين ثم أنزل عليهم الماء لأصبحت طائفة منهم يقولون: مطرنا ".
وروي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر، فنزلوا فأصابهم العطش، وليس معهم ماء، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أرأيتم إن دعوت لكم إن سقيتم، فلعلكم تقولون: سقينا هذا المطر بنوء كذا؟ " فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا بحين الأنواء! فصلى ركعتين ودعا ربه عز وجل، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة، فمطروا حتى سالت الأودية وملأوا الأسقية.
فركب صلى الله عليه وسلم فمر برجل يغرف بقدح له وهو يقول: سقينا بنوء كذا، ولم يقل: هذا من رزق الله تعالى. فأنزل الله تعالى هذه الآية: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } "
أي وتجعلون شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بنعمته، وتقولون: سقينا بنوء كذا.
وعن معاوية الليثي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يصبح الناس مجدبين، فيأتيهم الله برزق من عنده، فيصبحون مشركين، يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا ".
[56.83-85]
قوله تعالى: { فلولا إذا بلغت الحلقوم }؛ معناه: وهلا إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت، { وأنتم حينئذ }؛ يا أهل الميت، { تنظرون }؛ مآل الميت، وأنتم حوله ترون نفسه تخرج ولا تقدرون على ردها، { ونحن أقرب إليه }؛ منكم، ورسلنا أقرب إليه، { منكم ولكن لا تبصرون }.
ويجوز أن يكون معناه: يعني ملك الموت وأعوانه، والمعنى: ورسلنا القابضون روحه أقرب إليه منكم، ويجوز أن يكون معناه: ونحن أقرب إليه منكم بالعلم والقدرة، نراه من غير مسافة بيننا وبينه، وأنتم لا تنظرونه إلا بمسافة.
[56.86-87]
قوله تعالى: { فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونهآ إن كنتم صادقين }؛ أي فهلا إن كنتم غير مجزيين ومحاسبين كما تزعمون تردون نفس هذا الميت إلى جسده إذا بلغت تراقيه إن كنتم صادقين في ظنكم أن لكم شيئا من القدرة، فعجزكم عن رد هذه الروح إلى الجسد دليل على أنكم مقهورون عاجزون.
والمعنى: إن كان الأمر كما يقولون إنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا إله يحاسب ويجازي، فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم، وإذا لم تقدروا على ذلك فاعلموا أن الأمر إلى غيركم وهو الله عز وجل. قوله تعالى: { ترجعونهآ } جواب عن قوله { فلولا إن كنتم غير مدينين } أجيب بجواب واحد.
[56.88-89]
قوله تعالى: { فأمآ إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنت نعيم }؛ معناه: فأما إن كان هذا المحتضر الذي بلغت نفسه الحلقوم من السابقين المقربين عند الله، فله روح وهو الروح والاستراحة، وقال مجاهد: (الروح: الفرح، وريحان يعني الرزق في الجنة). قرأ الحسن وقتادة ويعقوب: (فروح) بضم الراء، معناه: الحياة الدائمة التي لا موت فيها.
ويقال: إن الروح بنصب الراء نسيم تستريح إليه النفس، والريحان هو السموم، قال أبو العالية: (يؤتى بعض من ريحان الجنة فيشمه قبل أن يفارق الدنيا ثم تقبض روحه). وقال أبو بكر الوراق: (الروح النجاة من النار، والريحان دخول القرار).
وقال الترمذي: (الروح الراحة في القبر، والريحان دخول الجنة). وقال بسطام: (الروح السلامة، والريحان الكرامة). وقال الشعبي: (الروح معانقة الأبكار، والريحان مرافقة الأبرار).
وقيل: الروح كشف الكروب، والريحان غفران الذنوب. وقيل: الروح تخفيف الحساب، والريحان تضعيف الثواب، وقيل: الروح عفو بلا عتاب، والريحان رزق بلا حساب. وقيل: الروح لأرواحهم، والريحان لقلوبهم، وجنة النعيم لأبدانهم.
[56.90-91]
قوله تعالى: { وأمآ إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين }؛ معناه: وأما إن كان هذا المتوفى من أصحاب اليمين، يعني من عامة المؤمنين دون السابقين، فسلام لك أيها الإنسان الذي من أصحاب اليمين من عذاب الله، وسلمت عليك ملائكة الله، وسلمت مما تكره لأنك من أصحاب اليمين، وترى في الجنة ما يجب من السلام.
قوله تعالى: { فسلام لك } رفع على معنى: لك سلام؛ أي سلامة من العذاب. وقيل: معناه: فسلام عليك من أصحاب اليمين.
[56.92-94]
قوله تعالى: { وأمآ إن كان من المكذبين }؛ وأما إن كان هذا المتوفى من المكذبين بالبعث والرسالة، { الضآلين }؛ من الهدى، { فنزل من حميم }؛ أي فالحق الذي يعد له حميم جهنم، { وتصلية جحيم } ، أي أدخل نارا عظيمة.
[56.95-96]
قوله تعالى: { إن هذا لهو حق اليقين }؛ يعني ما ذكر من قصة المحتضرين، وجميع ما سبق ذكره ليقين حق اليقين لا شك فيه. قوله تعالى: { فسبح باسم ربك العظيم }؛ أي نزه الله عن السوء، والباء زائدة، والاسم بمعنى الذات والنفس، كأنه قيل: فسبح ربك العظيم.
[57 - سورة الحديد]
[57.1]
{ سبح لله ما في السموت والأرض }؛ أي خضع وصلى لله ما في السماوات من الملائكة من الخلق، ونزهوه عن السوء والأنداد، { وهو العزيز }؛ في ملكه وسلطانه، { الحكيم }؛ في أمره وقضائه.
[57.2]
قوله تعالى: { له ملك السموت والأرض }؛ أي له خزائن السماوات والأرض من المطر والنبات وغير ذلك، { يحيي }؛ للبعث، { ويميت }؛ عند انقضاء الآجال، { وهو على كل شيء }؛ من الإحياء والإماتة، { قدير } أي قادر.
[57.3]
قوله تعالى: { هو الأول والآخر والظاهر والباطن }؛ أي هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، لم يزل قديما قبل كل شيء، وهو الدائم بعد فناء كل شيء، وهو الظاهر الغالب على كل شيء، والظاهر هو القاهر، ومنه قوله
فأصبحوا ظاهرين
[الصف: 14] أي غالبين. ويقال: ظهر الأمير على بلد كذا؛ إذا غلب عليها، وهو الباطن الذي لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس. وقيل: معناه: هو الظاهر بأدلته العالم بما بطن من أمور خلقه. وقيل: الباطن المحتجب عن الأبصار، { وهو بكل شيء }؛ من الظاهر والباطن، { عليم }.
[57.4-6]
قوله تعالى: { هو الذي خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش }؛ قد تقدم تفسير ذلك.
قوله تعالى: { يعلم ما يلج في الأرض }؛ أي ما يدخل فيها فيستر، كما يعلم { وما يخرج منها }؛ فيظهر، ويعلم، { وما ينزل من السمآء } ، من ملك ورزق ومطر، { وما يعرج فيها }؛ وما يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد، { وهو معكم أين ما كنتم }؛ أي وهو أعلم بأقوالكم وأفعالكم وعزائمكم في أي موضع كنتم، فليس يخلو أحد من علم الله وقدرته أينما كان في الأرض أو في السماء أو في بر أو في بحر، { والله بما تعملون بصير }. وما بعد هذا: { له ملك السموت والأرض وإلى الله ترجع الأمور * يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور }. ظاهر المعنى.
[57.7]
قوله تعالى: { آمنوا بالله ورسوله }؛ أي صدقوا بالله بأنه خالقكم وإلهكم، وصدقوا برسوله أنه صادق فيما يؤديه إليكم، { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه }؛ في الجهاد وعلى الضعفاء، وغير ذلك من سبل الخير من الأموال التي جعلكم الله مستخلفين فيها بأن أورثكموها ممن كان قبلكم.
ويقال: إن الأموال التي في الدنيا لا تخلو إما أن تكون قد صارت إلينا فنحن خلفاؤهم فيها، أو تصير منا إلى غيرنا فهم خلفاءنا فنحفظها، قوله تعالى: { فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير }؛ أي لهم ثواب عظيم في الآخرة.
[57.8]
قوله تعالى: { وما لكم لا تؤمنون بالله }؛ هذا استفهام إنكار؛ معناه: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا بالله بعد قيام الحجة عليكم على وحدانية الله تعالى وتمام علمه وكمال ملكه، وأي عذر يمنعكم من الأيمان بالله تعالى، { والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم }؛ في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله إلا هو ولا معبود سواه. وقيل: معنى: { أخذ ميثاقكم } ركب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قرأ العامة (أخذ) بفتح الهمزة وفتح القاف، وقرأ أبو عمرو بضمها على ما لم يسم فاعله. قوله تعالى: { إن كنتم مؤمنين }؛ يعني إن كنتم مصدقين كما تزعمون.
[57.9]
قوله تعالى: { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور }؛ معناه: هو الذي ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات، يعني القرآن، ليخرجكم من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم. قوله تعالى: { وإن الله بكم لرءوف رحيم }؛ يعني حين بعث الرسول ونصب الأدلة.
[57.10]
قوله تعالى: { وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموت والأرض } معناه: أي شيء لكم في ترك الإنفاق في نصرة الإسلام ومواساة الفقراء وأنتم ميتون تاركون أموالكم، والله سبحانه يرزقكم، ويرث ما في السماوات والأرض، يميت من فيهما ويرث من عليها.
قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل }؛ معناه: لا يستوي منكم في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو من قبل فتح مكة مع من أنفق من بعد وقاتل. قال الكلبي: (نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه) قيل: هذا أنه كان أول من أنفق المال على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله، وأول من قاتل في الإسلام. وقال ابن مسعود: (أول من أظهر إسلامه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أنفق ماله قبل الفتح).
قال العلاء بن عمرو:
" بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده أبو بكر رضي الله عنه وعليه عباءة، قد خلها على صدره بخلال إذ نزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة؟ فقال: يا جبريل إنه أنفق ماله قبل الفتح علي، قال: فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر؛ هذا جبريل يقرؤك السلام من الله تعالى، ويقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ " فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال أعلى ربي أغضب؟! أنا عن ربي راض ".
وفي هذه الآية دلالة واضحة وحجة بينة على فضل أبي بكر وتقديمه على سائر الصحابة، كما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا أؤتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري).
قوله تعالى: { أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا }؛ معناه: أولئك أعظم ثوابا وأفضل درجة عند الله من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا بعده، وإنما فضل الله المنفقين والمقاتلين من قبل الفتح؛ لأن الإنفاق والقتال في ذلك الوقت كان أشد على النفس، وكانت الحاجة اليها أمس لقلة المسلمين.
ثم بين الله تعالى أن لكلا الفريقين الحسنى وهو الجنة، إلا أنهم متفاوتون في الدرجات فقال: { وكلا وعد الله الحسنى }؛ أي وكلا الفريقين وعد الله الجنة، وقرأ ابن عامر (وكل) بالرفع على الاستئناف على لغة من يقول: زيد ضربت. وقوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ أي عالم بما يعمله كل واحد منكم.
[57.11]
قوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم }؛ قد تقدم تفسيره في البقرة. قال أهل العلم: القرض الحسن أن يكون من الحلال؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وأن يكون من أحسن ما يملكه دون أن يقصد الرديء لقوله تعالى:
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون
[البقرة: 267]، وأن يتصدق وهو لحب المال ويرجو الحياة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقات فقال:
" أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وأن تضع الصدقة في الأحوج الأولى "
وأن يكتم الصدقة ما أمكن لقوله
وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم
[البقرة: 271]، وإن لا يتبع الصدقة المن والأذى لقوله تعالى
لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى
[البقرة: 264]، وأن يقصد بها وجه الله ولا يرائي بها، وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر؛ لأن الدنيا كلها قليلة، قال الله تعالى:
قل متاع الدنيا قليل
[النساء: 77] وأن يكون من أحب ماله، قال الله تعالى:
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون
[آل عمران: 92] وهذه تسعة أوصاف إذا استكملتها الصدقة كانت قرضا حسنا.
قوله تعالى: { فيضاعفه له } فيه قراءتان: من قرأ بالرفع فعلى العطف على { يقرض } أو على الاستئناف على معنى فهو يضاعفه، ومن قرأ بنصب الفاء فعلى جواب الاستفهام بالفاء، وقوله تعالى: { وله أجر كريم } الأجر الكريم الذي يقع به النفع العظيم وهو الجنة.
[57.12]
قوله تعالى: { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } معناه: اذكر يوم تراهم، ويجوز أن يكون انتصاب اليوم على معنى ولهم أجر كريم يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم على الصراط يوم القيامة، وهو دليلهم إلى الجنة.
وأراد بالنور القرآن، وقيل: نور الإيمان والطاعة، تظهر لهم فيمشون فيه، قال ابن مسعود: (يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره مثل الجبل، ومنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا نوره على إبهامه يطفيء مرة ويوقد أخرى). وقال قتادة: (المؤمن يضيء له نوره كما بين عدن وصنعاء ودون ذلك، حتى أن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه).
قوله تعالى: { وبأيمانهم } قال الضحاك ومقاتل: (وبأيمانهم كتبهم التي أعطوها، فكتبهم بأيمانهم، ونورهم بين أيديهم). وتقول لهم الملائكة: { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ يعني أنهار اللبن والخمر والعسل والماء، { خالدين فيها }؛ لا يموتون ولا يخرجون منها، { ذلك هو الفوز العظيم }.
[57.13]
قوله تعالى: { يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا }؛ أي احذروا يوم يقول المنافقون للمؤمنين المخلصين: انظرونا نضيء بنوركم فنمضي معكم على الصراط، وذلك أن المنافقين تغشاهم ظلمة حتى لا يكادون ينظرون مواضع أقدامهم، فينادون المؤمنين نقتبس من نوركم.
قرأ حمزة (أنظرونا) بقطع الألف وكسر الظاء؛ أي أمهلونا، وقال الزجاج: (معناه: انتظرونا أيضا)، وقال عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا
قال المفسرون: إذا كان يوم القيامة، أعطى الله المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، وأعطى الله المنافقين نورا كذلك خديعة لهم فيما بينهم كذلك يمشون، إذا بعث الله ريحا وظلمة فانطفأ نور المنافقين، فعند ذلك يقول المؤمنون: ربنا أتمم لنا نورنا، مخافة أن يسلب كما سلب المنافقون.
ويقول: المنافقون حينئذ للمؤمنين: انظرونا نقتبس من نوركم، فيقولون لهم: لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا، فارجعوا وراءكم فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا، فيرجعون في طلب النور فلا يجدون، فيقول لهم الملائكة: ارجعوا إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا نورا، فإن المؤمنين حملوا النور من الدنيا بإيمانهم وطاعتهم.
قوله تعالى: { فضرب بينهم بسور }؛ معناه: فيميز بين المؤمنين والمنافقين بأن يضرب بينهم بجدار كبير يقال له السور، وهو الذي يكون عليه أصحاب الأعراف، وهو حاجز بين الجنة والنار. قوله تعالى: { له باب }؛ أي للسور باب، { باطنه فيه الرحمة }؛ وهي الجنة التي فيها المؤمنون، { وظاهره }؛ أي وخارج السور، { من قبله العذاب }؛ يعني جهنم والنار.
[57.14]
قوله تعالى: { ينادونهم ألم نكن معكم }؛ معناه: أن المنافقين ينادون المؤمنين من وراء السور، ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم نناكحكم ونوارثكم ونصلي معكم في مساجدكم، { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم }؛ أي أهلكتموها بالنفاق والمعاصي والشهوات وكلها فتنة، { وتربصتم }؛ بمحمد الموت وبالمؤمنين الدوائر، وقلتم: يوشك أن يموت محمد فنستريح منه.
قوله تعالى: { وارتبتم }؛ أي شككتم في توحيد الله وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، { وغرتكم الأماني }؛ يعني: ما كانوا يتمنون من قتل محمد صلى الله عليه وسلم وهلاك المسلمين، وغرتكم أيضا الأباطيل وطول الآمال، { حتى جآء أمر الله }؛ يعني الموت والبعث، { وغركم بالله الغرور }؛ أي وغركم الشيطان بحكم الله وإمهاله عن طاعة الله.
[57.15]
قوله تعالى: { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية }؛ لا يقبل منكم بدل تفدون به أنفسكم من العذاب، { ولا من الذين كفروا }؛ ولا من الذين يظهرون الكفر، قرأ ابن عامر والحسن ويعقوب: (لا تؤخذ) بالتاء.
قوله تعالى: { مأواكم النار هي مولاكم }؛ أي أولى بكم وأحق أن تكون مسكنا لكم قد ملكت أمركم، فهي أولى بكم من كل شيء، وأنتم أولى بها، ومنه المولى لأنه أولى بعبيده من غيره، { وبئس المصير }؛ النار، قال قتادة: (ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار).
[57.16]
قوله تعالى: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق }؛ معناه: أما حان للمؤمنين الذين تكلموا بكلمة الإيمان إذا سمعوا القرآن أن تخشع قلوبهم لذكر الله وتلين وترق، قال ابن مسعود: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه إلا أربع سنين). والمعنى: يجب أن يورثهم الذكر خشوعا ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة، ولا يخشع للذكر قلبه. وقوله { وما نزل من الحق } يعني القرآن، قرأ نافع وعاصم مخففا.
قوله تعالى: { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل }؛ وهم اليهود والنصارى، وموضع { ولا يكونوا } النصب عطفا على قوله تعالى { أن تخشع } و { ولا يكونوا } ، قال الأخفش: (وإن شئت جعلته نهيا) وهذه زيادة في وعظ المؤمنين، معناه: ولا يكونوا في قساوة القلوب كالذين أعطوا التوراة والإنجيل من قبل المؤمنين، { فطال عليهم الأمد }؛ الزمان بينهم وبين أنبيائهم، { فقست قلوبهم }؛ قال ابن عباس: (مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله، فلم تلن قلوبهم عند سماع كلام الله تعالى). وقوله تعالى: { وكثير منهم فاسقون }؛ أي خارجون عن طاعة الله، وإنما قال { وكثير منهم } لأنه كان منهم من أسلم.
[57.17]
قوله تعالى: { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون }؛ تنبيه على الاستدلال بإحياء الأرض بعد موتها على البعث والنشور.
[57.18]
قوله تعالى: { إن المصدقين والمصدقات }؛ قرأ ابن كثير وعاصم بتخفيف الصاد من التصديق، تقديره: إن المؤمنين والمؤمنات، وقرأ الباقون تشديدها، يعني المصدقين من الصدقة، أدغمت التاء في الصاد، { وأقرضوا الله قرضا حسنا } بالصدقة والنفقة في سبيله، { يضاعف لهم }؛ قرأ ابن كثير وابن عامر (يضعف) بالتشديد، وقوله: { ولهم أجر كريم }؛ يعني الجنة.
[57.19]
قوله تعالى: { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون }؛ واحدهم صديق وهو الكثير الصدق، والصديقون لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم، ولم يكذبوهم ساعة.
قوله تعالى: { والشهدآء عند ربهم }؛ قال بعضهم: تمام الكلام عند قوله { الصديقون } ، ثم ابتدأ فقال: { والشهدآء عند ربهم } وخبره: { لهم أجرهم ونورهم }؛ والشهداء على هذا القول يحتمل أن المراد بهم الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون يوم القيامة لمن صدق بالتصديق وعلى من كذب بالتكذيب، ويحتمل أن المراد بهم الذين قتلوا في سبيل الله.
وقال بعضهم: وقوله { والشهدآء } عطف على الصديقين ومعنى: الشهداء على سائر المؤمنين، ففي الحديث:
" المؤمنون شهداء الله في أرضه "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" كل مؤمن شهيد "
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ أولئك أصحاب الجحيم }.
[57.20]
قوله تعالى: { اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة }؛ يعني الحياة الدنيا كاللعب واللهو في سرعة فنائها وانقضائها، ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
" الطواف بالبيت صلاة "
أي كالصلاة، ويقال: فلان يجري كالبحر في السخاء، وفلان أسد؛ أي كالأسد في الشجاعة.
وقوله تعالى { وزينة } أي منظر حسن، والمعنى: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو كلعب الصبيان، وزينة كزينة النسوان، { وتفاخر بينكم وتكاثر في الأمول والأولد } كتكاثر الدهقان.
قال علي بن أبي طالب لعمار بن ياسر: (لا تحزن على الدنيا؛ فإنها ستة أشياء: مطعوم؛ ومشروب؛ وملبوس؛ ومشموم؛ ومركوب؛ ومنكوح، فأكبر طعامها العسل وهو بزاق ذبابة، وأكبر شرابها الماء وفيه يستوي جميع الحيوانات، وأكبر ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأكبر مشمومها المسك وهو دم فأرة أو ظبية، وأكبر مركوبها الفرس وعليه يقتل الرجال، وأكبر منكوحها النساء وهو مبال في مبال).
قوله تعالى: { كمثل غيث أعجب الكفار نباته }؛ أي مثل الدنيا كمثل مطر أعجب الزراع نباته، والكفر في اللغة هو التغطية، وسمي الكافر كافرا؛ لأنه يغطي الحق بالباطل، والزارع يغطي الحب بالأرض.
والمعنى: كمثل غيث أعجب الزراع ما نبت من ذلك الغيث، { ثم يهيج فتره مصفرا }؛ أي ثم يبين فيصير مصفرا بعد خضرته وريه، { ثم يكون حطما }؛ أي متكسرا مفتتا تحت أرجل الدواب، كذلك الدنيا تزول وتفنى، كما لا يبقى هذا الزرع.
قوله تعالى: { وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضون }؛ أي عذاب شديد للكفار والمنافقين، ومغفرة من الله ورضوان للمؤمنين المطيعين، وقوله تعالى: { وما الحيوة الدنيآ إلا متع الغرور }؛ هي في سرعة فنائها ونفادها مثل متاع البيت في سرعة فنائه وفراغه وسقوطه وانكساره.
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول في صفة الدنيا: (أما ماضي فحكم، وأما ما يغني فأماني وغرور). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن، والزهد في الدنيا يريح القلب والبدن ".
[57.21]
قوله تعالى: { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض }؛ أي سابقوا إلى ما أمرتم وإلى التوبة لتنالوا مغفرة من ربكم جنة سعتها كسعة السماء والأرض. وقيل: المراد بالآية السبق إلى الجهاد والجمعة والجماعات وسائر أعمال البر، وباقي الآية ظاهر. { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم }.
[57.22]
قوله تعالى: { مآ أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتب من قبل أن نبرأهآ }؛ معناه: ما أصاب أحدا مصيبة في الأرض من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمار، { ولا في أنفسكم } من المرض والموت وفقد الأولاد، إلا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ من قبل أن نخلق الأرض. ويقال: من قبل أن نخلق النفس، ويقال: من قبل أن نقدر تلك المصيبات في اللوح المحفوظ؛ لأن خلق ذلك وتقديره على الله هين. والبرأ في اللغة هو الخلق، والبارئ: الخالق، والبرية: الخليقة. قوله: { إن ذلك على الله يسير }؛ يعني إثبات ذلك كله مع كثرته على الله هين.
[57.23]
قوله تعالى: { لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بمآ آتاكم }؛ بالصبر عند المصائب، والشكر عند النعم، لأن العاقل إذا علم الذي فاته كان مكتوبا عليه، دعاه ذلك إلى ترك الجزع، وكانت نفسه أسكن وقلبه أطيب، وإذا علم أن الذي أتاه من الدنيا كان مكتوبا له قبل أن يصير إليه، وأنه لا يبقى عليه، دعاه ذلك إلى ترك النظر.
قرأ أبو عمرو (أتاكم) بالقصر؛ أي جاءكم، واختاره أبو عبيد لقوله (فاتكم) ولم يقل: أفاتكم، وقرأ الباقون (آتاكم) بالمد؛ أي أعطاكم، واختاره أبو حاتم، وكان الحسن يقول لصاحب المال: (في ماله مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلها: يسلب عن كله ويسأل عن كله).
قوله تعالى: { والله لا يحب كل مختال فخور }؛ فيه ذم للفرح الذي يختال ويبطر بالمال والولد والولاية.
[57.24]
قوله تعالى: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل }؛ يعني الذين يمتنعون عن أداء الحقوق الواجبة في المال، ويمنعون الناس عن أداء تلك الحقوق، وهذا نعت المختال الفخور.
قوله تعالى: { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد }؛ أي من يعرض عن الإيمان وعن أداء الحقوق، فإن الله هو الغني عنه وعن إيمانه، وهو المحمود في أفعاله، قرأ نافع وابن عامر (فإن الله الغني)، وقرأ الباقون (هو الغني).
[57.25-26]
قوله تعالى: { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات }؛ أي بالآيات والحجج، { وأنزلنا معهم الكتاب }؛ الذي يتضمن الأحكام، وقوله تعالى: { والميزان } يعني العدل؛ أي أمر بالعدل، وقيل: يعني الذي يوزن به؛ أي أمرنا بالميزان، { ليقوم الناس بالقسط }؛ أي ليتعاملون بينهم بالعدل والنصفة.
وقوله تعالى: { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس }؛ قال ابن عباس: (نزل آدم من الجنة ومعه الإبرة والمطرقة والكلبتين). وقيل: المراد بإنزال الحديد أنه خلقه الله في الجبال والمعادن. وقوله تعالى { فيه بأس شديد } أي قوة شديدة، لا يلينه إلا النار. قوله تعالى: { ومنافع للناس } يعني الفؤوس والسكاكين والإبرة وآلة الحرب وآلة الدفع يعني السلاح.
قوله تعالى: { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب }؛ أي وليعلم الله من ينصر دينه وينصر رسله بهذه الأسلحة، والله سبحانه لم يزل عالما بمن ينصر ومن لا ينصر؛ لأن علم الله لا يكون حادثا، لأن المراد بهذا العلم الإظهار والتمييز. وقوله تعالى { بالغيب } معناه: ولم ير الله ولا أحكام الآخرة.
وقوله تعالى: { إن الله قوي عزيز }؛ فيه بيان أنه تعالى لم يأمر بالجهاد عن ضعف وعجز، إنما أمر به ليثيبنا عليه. وما بعد هذا: { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون }؛ ظاهر المعنى.
[57.27]
قوله تعالى: { ثم قفينا على آثارهم برسلنا }؛ أي أتبعنا الرسل على إثر نوح وإبراهيم ومن كان من الرسل من أولادهما، { وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل }؛ أي أتبعنا به وأعطيناه الإنجيل دفعة واحدة، { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه }؛ الحواريين وأتباعهم، { رأفة ورحمة }؛ يعني المودة، كانوا متوادين بعضهم لبعض كما وصف الله تعالى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى
رحمآء بينهم
[الفتح: 29].
قوله تعالى: { ورهبانية ابتدعوها }؛ ليس بعطف على ما قبله، وانتصابه بفعل مضمر يدل عليه ما بعده، كأنه قال: وابتدعوا رهبانية؛ أي جاءوا بها من قبل أنفسهم، وهو قوله تعالى: { ما كتبناها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله }؛ معناه: ما فرضناها عليهم تلك الرهبانية، بل هي غلوهم في العبادة من حمل المشاق على أنفسهم، وهي الامتناع من المطعم والمشرب والملبس والنكاح والتعبد في الجبال، ما فرضنا عليهم ذلك إلا أنهم طلبوا بها رضوان الله. وقيل: معناها: ما فرضنا عليهم إلا اتباع ما أمر الله.
قوله تعالى: { فما رعوها حق رعايتها }؛ أي قصروا فيما ألزموه أنفسهم ولم يحفظوها حق الحفظ، ويقال: إنه لما لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين بعث كانوا تاركين لطاعة الله تعالى غير مراعين لها فضيعوها وكفروا بدين عيسى بن مريم، وتهودوا وتنصروا وتركوا الترهيب.
قوله تعالى: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم }؛ وهم الذين أقاموا على دين عيسى حتى أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فآمنوا به فأعطيناهم ثوابهم، قال صلى الله عليه وسلم:
" من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتبعني فأولئك هم الهالكون "
قوله تعالى: { وكثير منهم فاسقون }؛ معناه: وكثير منهم خالفوا دين عيسى فقالوا هو ابن الله أو نحوا من هذا القول.
والرهبانية في اللغة: خصلة يظهر فيها معنى الرهبنة، وذلك إما في لبسه أو انفراده عن الجماعة للعبادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } ".
وعن عروة قال:
" دخلت امرأة عثمان بن مظعون على عائشة وهي باذة الهيبة، فسألتها: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقي عثمان بن مظعون، فقال له: " يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، فما لك في أسوة، فوالله إني لأخشاكم لله وأحفظكم لحدوده "
[57.28]
قوله تعالى: { يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله }؛ أي يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، { يؤتكم كفلين من رحمته }؛ أي يؤتكم نصيبين من ثوابه وكرامته، نصيبا لإيمانكم به اليوم ونصيبا لإيمانكم المتقدم بالأنبياء عليهم السلام.
قوله تعالى: { ويجعل لكم نورا تمشون به }؛ على الصراط، كما قال تعالى
نورهم يسعى بين أيديهم
[التحريم: 8] فهذا علامة المؤمنين في القيامة. وقيل: معناه: ويجعل لكم نورا بالإيمان في الدنيا، يعني الهدى والبينات تهتدون به إلى طاعة الله، { ويغفر لكم والله غفور }؛ لمن مات على التوبة، { رحيم }.
[57.29]
قوله تعالى: { لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله } أي ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحسدوا المؤمنين منهم أن لا يصرفوا النبوة عمن تفضل الله بها عليه إلى غيره، وأن التوفيق بتقدير الله يعطي النبوة من يشاء ممن كان أهلا لها، صالحا للقيام بها. وقيل: ليعلم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أنهم لا أجر لهم ولا نصيب لهم في فضل الله، { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء }؛ فآتى المؤمنين منهم أجرين، { والله ذو الفضل العظيم }؛ يتفضل على من يشاء من عباده المؤمنين، و(لا) في قوله { لئلا } زائدة المعنى، لأن يعلم مثل قوله:
ما منعك أن تسجد
[ص: 75].
[58 - سورة المجادلة]
[58.1]
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير }؛
" هذه الآيات نزلت في خولة بنت ثعلبة، وهي امرأة من الخزرج من بني عمرو بن عوف، وفي زوجها أوس ابن الصامت، وكان أوس بن الصامت وعبادة بن الصامت أخوين، وكانت خولة حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة في صلاتها، فنظر إلى عجزها، فلما فرغت من صلاتها راودها فأبت، فغضب عليها، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، وندم بعد ذلك على ما قال، وكان الظهار طلاقا في الجاهلية.
فمضت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عائشة تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني، وقد ندم على ذلك، فهل شيء يا رسول الله يجمعني وإياه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أراك إلا قد حرمت عليه " فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي، فقال صلى الله عليه وسلم: " حرمت عليه ". فقالت: أشكوا الله تعالى.
ثم جعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " حرمت عليه " فقالت: أشكوا إلى الله فاقتي وشدة حالي. فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعي زوجك " فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير } ".
وروي:
" أن خولة لما أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني ورق عظمي ونثرت ذا بطني جعلني عليه كأمه، ثم ندم على قوله، ولي منه صبية صغار؛ إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما عندي في أمرك شيء " فقالت: زوجي وابن عمي وأبو أولادي وأحب الناس إلي، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يخدم نفسه، فقال: صلى الله عليه وسلم: " ما أراك إلا قد حرمت عليه ".
فقالت: يا رسول الله لا تقل ذلك؛ إنه ما ذكر طلاقا وإنما قال كلمة، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما أمرت في شأنك بشيء، وإن نزل في شأنك شيء بينته لك " فهتفت وبكت وجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك شدة وجدي وما يشق علي من فراقه، ورفعت يدها إلى السماء تدعو وتتضرع.
فبينما هي كذلك، إذ تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فلما سرى عنه قال: " يا خولة قد أنزل الله فيك وفي زوجك القرآن " ثم تلا { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع } ".
معناه: قد سمع الله قول المرأة التي تسائلك وتخاصمك في أمر زوجها، وترفع إلى الله ما بها من المكروه، والله يسمع تحاوركما ومراجعتكما، إن الله سميع لمقالتكما عليم بأمرها وأمر زوجها، والتحاور: تراجع الكلام.
قوله تعال: { تجادلك في زوجها } وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما قال لها
" قد حرمت عليه "
قالت: والله ما ذكر طلاقا، فكان هذا جدالا، وقوله تعالى { وتشتكي إلى الله } وهو قولها: أشكوا إلى الله فاقتي ووحدتي وإن لي صبيانا صغارا إذا ضممتهم إليه ضاعوا، وإذ ضممتهم إلي جاعوا.
[58.2]
قوله تعالى: { الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم }؛ أي ليس هن بأمهاتهم، وما هن كأمهاتهم في الحرمة، وقرأ عاصم (ما هن أمهاتهم) بالرفع، كما يقال: ما زيد عالم. قوله تعالى: { وإنهم ليقولون }؛ معناه: وإن المظاهرين ليقولون، { منكرا من القول وزورا }؛ أي قبيحا من حيث يشبوا المرأة التي هي في غاية الإباحة بما هو في غاية الحرمة وهو ظهر الأم، والمنكر الذي هو لا يعرف في الشرع، والزور الكذب.
قوله تعالى: { وإن الله لعفو غفور }؛ أي لكثير العفو عن ذنوب عباده، كثير الغفران والستر عليهم، عفا عنهم وغفر لهم بإيجاب الكفارة عليهم.
[58.3]
قوله تعالى: { والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا }؛ اختلف المفسرون في معنى العود المذكور في الآية، فذهب أصحاب الظواهر إلى أن المراد به إعادة كلمة الظهار، وهذا قول مخالف لقول أهل العلم، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة على أوس حين ظاهر من امرأته، ولم يسأل أكرر الظهار أم لا؟.
وذهب مالك إلى أن العود هو العزم على الوطئ، قال: (وإذا عزم على وطئها بعد الظهار فعليه الكفارة، سواء أمسكها أو أبانها أو عاشت أو ماتت). وقال الشافعي: (العود ها هنا هو الإمساك على النكاح، إذا أمسكها عقيب الظهار ولم يطلقها، فعليه الكفارة ولا تسقط عنه تلك الكفارة وإن أبانها بعد ذلك.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن معنى العود هو أن يعود المقول فيه فيستبيح ما حرمه بالظهار، وقد يذكر المصدر ويراد به المقول كما قال صلى الله عليه وسلم:
" العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه "
وإنما هو عائد في الموهوب. ويقال: اللهم أنت رجاؤنا؛ أي مرجونا، وقال تعالى:
حتى يأتيك اليقين
[الحجر: 99] أي الموقن به، والعود في الشيء هو فعل ما يناقض ذلك الشيء، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض كما في قوله تعالى:
ولأصلبنكم في جذوع النخل
[طه: 71]، فيكون المعنى: ثم يعودون فيما قالوا.
والإمساك على النكاح عقيب الظهار لا يكون عودا على وجه التراخي ولا يناقض لفظ الظهار، فإن الظهار لا يوجب تحريم العقد حتى يكون إمساكها على النكاح عودا، ثم على مذهب أبي حنيفة: إذا قصد أن يستبيحها ثم أبانها سقطت الكفارة عنه.
وفي قوله تعالى: { من قبل أن يتمآسا } دليل على أن هذه الكفارة إنما شرعت لدفع الحرمة في المستقبل، وفيه دليل تحريم التقبيل واللمس قبل التكفير؛ لأن قوله تعالى: { من قبل أن يتمآسا } يتناول جميع ضروب المسيس.
وفي قوله تعالى: { من نسآئهم } دليل على أن الظهار لا يكون في الإماء إلا إذا كن زوجات؛ لأن إطلاق لفظ النساء ينصرف إلى الحرائر كما في قوله تعالى:
أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن
[النور: 31]. وفي قوله تعالى: { فتحرير رقبة } دليل على جواز إعتاق الرقبة الكافرة في الظهار؛ لأن ذكر الرقبة مطلق في الآية ، بخلاف كفارة القتل.
والأصل في الظهار أنه إذا ذكر في المرأة ما يجمعها مثل الجسد والبدن والرأس والرقبة ونحوها، والظهر والبطن والفرج والفخذ وشبهها بمحارمه كان مظاهرا. وإن قال: أنت علي كيد أمي أو رجلها، أو قال: يدك علي أو شعرك علي كظهر أمي كان باطلا.
وقال مالك: (يصح الظهار بالتشبيه بالأجنبية). وقال الشعبي: (لا يصح الظهار إلا بالأم)، وقال الشافعي: (إذا قال: يدك، أو قال: أنت علي كيد أمي، فهو ظهار). { ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير }.
[58.4]
قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا }؛ أي فمن لم يجد من المظاهرين الرقبة ولا قيمتها، فعليه أن يصوم شهرين متتابعين قبل المسيس. وهذا يقتضي أنه إذا أفطر فيهما لمرض أو غيره كان عليه استقبال الصوم أيضا، وكذا إذا قدر على الرقبة في خلال الصوم فلم يعتقها حتى عجز عنها كان عليه الاستقبال أيضا في قول أبي حنيفة ومحمد، سواء كان المسيس بالليل أو بالنهار. وقال أبو يوسف. (إذا مسها بالليل عامدا أو بالنهار ناسيا لم يستقبل).
قوله تعالى: { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا }؛ إذا عجز عن الصوم لكبر أو مرض فكفارته أن يطعم ستين مسكينا، وإن مسها المظاهر بعد ما أطعم بعض الطعام لم يستقبل الإطعام؛ لأنه ليس في ذكر الإطعام في هذه الآية من قبل أن يتماسا، إلا أنا إنما أمرناه بالإطعام قبل المسيس؛ لأنا لو لم نأمره بذلك لم يؤمن أن يمسها فقدر على العتق قبل الإطعام أو يقدر على الصوم قبل الإطعام فيحصل أو الصوم بعد المسيس، وذلك خلاف ما أوجبه الله تعالى.
قوله تعالى: { ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله }؛ أي ذلك الذي أمركم الله به لتستديموا الإيمان بالله ورسوله، وتصدقوا أن الله أمر بذلك. قوله تعالى: { وتلك حدود الله } ، أي التي شرعها الله تعالى في الظهار أحكام الله وفرائضه، { وللكافرين عذاب أليم }؛ وللجاحدين لحدود الله عذاب جهنم.
" فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم لأوس بن الصامت: " هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: فإني قليل المال، قال: " فهل تستطيع أن تصوم شهرين؟ " قال: والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تعشو عيني، قال: " فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ " قال: لا والله إلا أن تعينني يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " إني معينك بخمسة عشر صاعا وأدعو لك بالبركة " فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وروي:
" أن خولة لما ظاهر منها أوس بن الصامت، خرج فجلس في قومه، ثم رجع إليها فراودها عن نفسها، فقالت: كلا؛ والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي حتى يحكم الله في وفيك. ثم مضت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت عليه قصتها، فأنزل الله هذه الآيات.
فقال صلى الله عليه وسلم: " مريه أن يعتق رقبة " فقالت: والله ما عنده ذلك، قال: " مريه فليصم شهرين متتابعين " قالت: يا نبي الله إنه شيخ كبير ما به من صوم، قال: " مريه فليطعم ستين مسكينا " قالت: والله ما يجد ما يطعم، قال: " إنا سنعينه بعرق من تمر " - وهو مكتل سبع وثلاثين صاعا - قالت: أنا أعينه يا رسول الله بعرق آخر ".
[58.5-6]
قوله تعالى: { إن الذين يحآدون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } معناه: إن الذين يخالفون الله ورسوله في الدين، ويصيرون في حد غير الحد الذي فيه أولياء الله، أذلوا وأخزوا بالعذاب كما أذل الذين أشركوا من قبل أهل مكة، من الذين خالفوا الأنبياء صلوات الله عليهم.
والكبت في اللغة: الكب، ومنه كبت الله عدوك. وقيل: معناه: كبدوا أي ضربوا على أكبادهم، فقلبت الدال تاء.
قوله تعالى: { وقد أنزلنآ آيات بينات }؛ أي فرائض معروفة، { وللكافرين عذاب مهين }؛ أي ولمن لم يعمل بها ولم يصدق بها عذاب مهين. ثم بين ذلك العذاب فقال تعالى: { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا }؛ ويجزيهم عليه، وقوله تعالى: { أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء }؛ مما يجب لهم وعليهم، { شهيد }؛ عالم.
[58.7-8]
قوله تعالى: { ألم تر أن الله يعلم ما في السموت وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم }؛ معناه: إن الله يعلم بكل ما في السماوات وكل ما في الأرض مما ظهر للعباد،
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السمآء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين
[يونس: 61].
وقوله تعالى: { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } يعني المسار؛ ما تناجي به صاحبك من شيء إلا هو رابعهم بالعلم. يعني نجواهم معلومة عنده كما تكون معلومة عند الرابع الذي هم معهم، { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا }؛ ولا أقل من ثلاثة ولا أكثر من الخمسة إلا وهو عالم بهم وقادر عليهم في أي موضع كانوا، { ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة }؛ عند الجزاء والحساب، { إن الله بكل شيء عليم }؛ وهذه الآية نزلت في اليهود والمنافقين لما أعياهم الإسلام وظهوره وجعلوا يتناجون فيما بينهم فيوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم.
وكانوا إذا خرجت سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى هؤلاء رجالا ممن خرج لهم في السرية صديق أو قريب تناجوا فيما بينهم ليظن الرجل أنه حدث بصاحبه حادث فيحزن عليه لذلك. فلما كثر ذلك وطال شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن المناجاة دون المسلمين، فلم ينتهوا وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله:
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول }؛ معناه: ألم تر إلى هؤلاء الذين نهاهم الله عن مناجاة بعضهم بعضا دون المؤمنين في الآية التي قبل هذه، ثم عادوا إليها مغايظة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشاورون فيما بينهم بالكذب والاعتداء، ويوصي بعضهم بعضا بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، { وإذا جآءوك }؛ يا محمد، { حيوك بما لم يحيك به }؛ أي سلموا عليك بما لم يسلم به الله عليك.
" وذلك أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك! وكانت عائشة من وراء ستر فلعنتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " مهلا يا عائشة " فقالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال: " أوما سمعت كيف أجبتهم؟ " ثم قال: " إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت "
والسام هو الموت.
قوله تعالى: { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول }؛ معناه: أنهم كانوا يقولون في أنفسهم: ألا ينزل الله العذاب بنا بما نقول لنبيه إن كان نبيا كما يزعم، فلو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول، فقال الله تعالى: { حسبهم جهنم يصلونها }؛ أي كافيهم جهنم عذابا لهم يلزمونها ويقاسون حرها، { فبئس المصير }؛ أي فبئس المرجع يرجعون إليه.
[58.9]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول }؛ معناه: يا أيها الذين آمنوا إذا تجالستم للسر فيما بينكم، فلا تجالسوا وتخالفوا بالمعصية والظلم ومخالفة الرسول، ولا تكونوا كاليهود والمنافقين، { وتناجوا بالبر والتقوى }؛ أي بفعل ما أمرتم به، وترك ما نهيتم عنه، { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } ، واتقوا عذاب الله الذي إليه ترجعون في الآخرة.
[58.10]
قوله تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضآرهم شيئا إلا بإذن الله }؛ معناه: إنما النجوى الذي يفعله اليهود والمنافقون من عمل الشيطان ووساوسه ليحزن به الشيطان الذين آمنوا وأخلصوا، وليس تناجيهم يضر المؤمنين شيئا إلا بعلم الله وقضائه، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }؛ ويستعيذوا به من الشيطان. ويقرأ (ليحزن) بضم الياء وهما لغتان.
[58.11]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم }؛ قال مقاتل:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر ومنهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم.
فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ما لحقهم من ضرر القيام، فشق عليه، وقال لمن حوله لمن لم يكن من أهل بدر: " قم يا فلان وأنت يا فلان " فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر.
فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ فوالله ما عدل على هؤلاء إن قوما أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس غيرهم، فأنزل الله هذه الآية ".
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس } أي أوسعوا في المجلس { فافسحوا } أي أوسعوا على من حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب سماع كلامه؛ لتشتركوا في سماع الدين منه، وهذا أمر لهم بالتأديب كي لا يؤذي أحد جليسه بفعل الزحام، ولئلا يكون غرضهم إلا التواضع لله تعالى وللدين، وذلك أنهم كانوا قد جلسوا متضايقين حول النبي صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يتنحوا عنه في الجلوس ويتوسعوا المجلس غيرهم معهم. قوله تعالى: { يفسح الله لكم } أي يوسع مجالسكم في الجنة.
قوله تعالى: { وإذا قيل انشزوا فانشزوا }؛ معناه: وإذا قيل: انهضوا إلى صلاة أو أمر بمعروف ونودي للصلاة فانهضوا. وقيل: معناه: وإذا قيل لكم اخرجوا إلى الجهاد فاخرجوا يرفع الله درجاتكم في الجنة، ويرفع الله الذين أوتوا العلم درجات فوق درجات الذين أكرموا بالإيمان بغير علم.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء والطير في جو السماء، وفضل العالم على الذي ليس بعالم سبعون درجة، الله أعلم ما بين كل درجتين "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" فضل العالم على العابد كفضلي على سائر أمتي "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" يؤتى بالعالم يوم القيامة والعابد، فيقال للعابد: أدخل الجنة، ويحبس الفقيه فيقول: فبم حبستموني؟! فيقال له: اشفع ".
قرأ أهل المدينة والشام وعاصم (انشزوا فانشزوا) بضم الشين، وقرأ الآخرون بكسرها، وهما لغتان، ومعناهما: إذا قيل لكم: تحركوا وقوموا وارتفعوا وتوسعوا لإخوانكم فافعلوا. وقيل: معناه: إذا قيل لكم انهضوا إلى الصلاة والذكر وعمل الخير، فانشزوا ولا تقصروا.
وقوله تعالى: { يرفع الله الذين آمنوا منكم }؛ يعني يرفعهم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم من مجالسهم وتوسعهم لإخوانهم، { والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير }؛ منهم بفضل عملهم، قال صلى الله عليه وسلم:
" من جاءت منيته وهو يطلب العلم، فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة ".
[58.12-13]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر }؛ وذلك أن الأغنياء كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيشاورونه بما يريدون ويلحون عليه بالحاجات والمسائل، ويشغلون بذلك أوقاته التي كانت مستغرقة بالعبادة والإبلاغ إلى الأمة، وكان الفقراء لا يتمكنون من النبي صلى الله عليه وسلم كتمكن الأغنياء منه.
فأمر الله الناس بتقديم الصدقة على نجواهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إعظاما له وتوقيرا لمقام مناجاته، ونفعا للفقراء بتلك الصدقة، وبين أن ذلك خير لهم من الكف عن الصدقة وأصلح لقلوبهم وقلوب الفقراء، ورخص من لم يجد ما يتصدق به أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم بما شاء من غير صدقة، وهو قوله تعالى: { فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم }.
فلما علم الله ضيق صدر كثير منهم من ذلك الوجوب نسخ الله ذلك الحكم بقوله: { ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات }؛ معناه: أبخلتم يا أهل الميسرة، وثقل عليكم تقديم الصدقة، بين نجواكم مع النبي صلى الله عليه وسلم، { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم }؛ وخفف الله عنكم بإسقاط تلك الصدقة، { فأقيموا الصلاة }؛ أي داوموا عليها، يعني الصلاة المفروضة، { وآتوا الزكاة }؛ المفروضة، { وأطيعوا الله }؛ في الفرائض، { ورسوله }؛ في السنن، { والله خبير بما تعملون } من الخير والشر.
وعن علي رضي الله عنه قال: (إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي وهي آية النجوى، كان لي مثقال فبعته بعشرة دراهم، فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما، فقدمت هذه الصدقات بين يدي نجواي، ثم نسخت). قال مجاهد: (نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي كرم الله وجهه، قدم دينارا فتصدق به، فنزلت الرخصة).
[58.14-15]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم }؛ نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين كانوا يتولون اليهود وينقلون أسرار المسلمين إليهم مغايظة لهم، ولم يكونوا من المؤمنين ولا من اليهود، وكانوا يحلفون للمؤمنين بأنا مؤمنون مصدقون، وهم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم، قال الله تعالى: { ما هم منكم ولا منهم } أي ولا من اليهود، { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون }؛ أنهم كذبة.
وقال السدي ومقاتل:
" نزلت هذه الآية في عبدالله بن نبتل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ قال: " يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار، وينظر بعيني الشيطان " فدخل عبدالله بن نبتل، وكان أزرقا.
فقال صلى الله عليه وسلم: " علام سببتني أنت وأصحابك؟ " فحلف بالله ما فعل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " وقد فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه الآية): { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } "
{ أعد الله لهم عذابا شديدا }؛ أي هيأ لهم عذابا شديدا في قبورهم، { إنهم سآء ما كانوا يعملون }؛ في الدنيا من موالاة اليهود وكتمان الكفر والحلف الكاذب مع العلم به.
[58.16]
قوله تعالى: { اتخذوا أيمانهم جنة }؛ أي اتخذوا أيمانهم الكاذبة ترسا من القتل وجعلوها عدة ليدفعوا عن أنفسهم التهمة، وقرأ الحسن (إيمانهم) بكسر الألف، وقوله تعالى: { فصدوا عن سبيل الله }؛ أي صرفوا الناس عن ذكر الله وطاعته بإلقاء الشبهة عليهم في السر. وقيل: فصدوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل، { فلهم عذاب مهين }؛ يهينهم في الآخرة.
[58.17]
قوله تعالى: { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا }؛ أي لن يدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا، { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }.
[58.18]
قوله تعالى: { يوم يبعثهم الله جميعا }؛ انتصب على الظرفية من قوله
أولئك أصحاب النار
[المجادلة: 17] { فيحلفون له }؛ أي يحلفون لله يومئذ أنهم كانوا مخلصين في الدنيا، { كما يحلفون لكم ويحسبون }؛ يومئذ؛ { أنهم على شيء }؛ على صواب، { ألا إنهم هم الكاذبون }؛ عند الله في حلفهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله، فيقوم القدرية مسودة وجوههم مزرقة أعينهم، مائلة أشداقهم يسيل لعابهم، يقولون: والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا ولا اتخذنا من دونك إلها ".
قال ابن عباس: (صدقوا والله؛ أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون) ثم تلا ابن عباس هذه الآية { ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } هم والله القدريون، هم والله القدريون).
[58.19]
قوله تعالى: { استحوذ عليهم الشيطان }؛ أي غلب عليهم واستولى عليهم وحولهم، { فأنساهم ذكر الله }؛ أي شغلهم عن ذكر الله وعن طاعته حتى تركوه وصاروا إلى الخسران، { أولئك حزب الشيطان }؛ أي جنده، { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون }.
[58.20]
قوله تعالى: { إن الذين يحآدون الله ورسوله }؛ أي يخالفون الله ورسوله، { أولئك في الأذلين }؛ أي في المغلوبين المقهورين، ومن جملة من يلحقهم الذل في الدنيا والآخرة.
[58.21]
قوله تعالى: { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي }؛ أي كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وقال الحسن: (ما أمر نبي بحرب فغلب قط، وإن الرسل على نوعين: منهم من بعث بالحرب، ومنهم من بعث بغير حرب، فهو غالب بالحجة)، وقال تعالى:
وإن جندنا لهم الغالبون
[الصافات: 173]. وقوله تعالى: { إن الله قوي عزيز }؛ أي مانع حزبه من أن يذل، عزيز غالب لمن نازع أولياءه.
[58.22]
قوله تعالى: { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم }؛
" نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنه كتب إلى أهل مكة: أن محمدا يريد أن يغزوكم فاستعدوا له، فأعلم الله تعالى نبيه عليه السلام بذلك، فقال: صلى الله عليه وسلم: " ما دعاك يا حاطب إلى ما فعلت؟ " فقال: أحببت أن أتقرب إلى أهل مكة لمكان عيالي فيهم، ولم يكن على عيالي ذاب هنالك. فأنزل الله هذه الآية ".
ومعناها: لا تجد قوما يصدقون بوحدانية الله تعالى وبالعبث بعد الموت يناصحون ويطلبون مودة من خالف الله ورسوله في الدين، ولو كانوا أقاربهم في النسب، فإن البراءة واجبة من المحادين لله. وسنذكر هذه القصة أول سورة الممتحنة إن شاء الله تعالى.
أخبر الله تعالى بهذه الآية: أن إيمان المؤمنين يفسد بمودة الكفار، وإن من كان مؤمنا لا يوالي من كفر، وإن كان أباه أو ابنه أو أخاه أو أحدا من عشيرته. وعن عبدالله بن مسعود في هذه الآية أنه قال: (قتل أبو عبيدة أباه يوم أحد)، فمعنى قوله { ولو كانوا آبآءهم }.
" وقوله { أو أبنآءهم } يعني أبا بكر رضي الله عنه دعا ابنه يوما إلى البراز وقال: (دعني يا رسول الله أكر عليه) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري " ".
وقوله تعالى: { أو إخوانهم } يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير بأحد. وقوله تعالى: { أو عشيرتهم } يعني عمر رضي الله عنه قتل خالد العاصي بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وكذلك علي رضي الله عنه قتل شيبة بن ربيعة، وكذلك حمزة رضي الله عنه قتل عتبة.
قوله تعالى: { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه }؛ يعني الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله أثبت الله في قلوبهم حب الإيمان كأنه مكتوب في قلوبهم { وأيدهم بروح منه } أي قواهم بنور الإيمان حتى اهتدوا للحق وعملوا به. وقيل: المراد بالروح جبريل عليه السلام يعينهم في كثير من المواطن. وقيل: معناه: وأيدهم بنصر منه في الدنيا على عدوهم، لأنهم عادوا عشيرتهم الكفار وقاتلوهم، غضبا لله ولدينه.
وقوله تعالى: { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها }؛ ظاهر المعنى. وقوله تعالى: { رضي الله عنهم ورضوا عنه }؛ بإخلاصهم في التوحيد والطاعة، ورضوا عنه بما أعد لهم من الثواب والكرامة في الآخرة.
قوله تعالى: { أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون }؛ أي يا أهل هذه القصة جند الله وأولياؤه، ألا إن جند الله هم الفائزون بالبقاء الدائم والنعيم المقيم.
[59 - سورة الحشر]
[59.1]
{ سبح لله ما في السموت وما في الأرض وهو العزيز الحكيم }؛ ظاهر المعنى.
[59.2-4]
قوله تعالى: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر }؛ قال المفسرون:
" نزلت هذه الآية والسورة بأسرها في بني النضير واليهود، وعاهدوه أن لا يكونوا معه ولا عليه، لا يقاتلون معه ولا يقاتلونه، فكانوا على ذلك حتى كانت وقعة أحد، فأصابت المسلمين يومئذ نكبة، فنقضوا العهد، وركب كعب ابن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة، فأتوا قريشا فطلبوا إلى أبي سفيان وأصحابه فحالفوهم وعاقدوهم بين الكعبة والأستار على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلمتهم واحدة.
ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بأمرهم وقال له: " إن الله يأمرك بقتل كعب بن الأشرف " فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأخبرهم بما صنع كعب بن الأشرف وقال لهم: " إن الله أمرني بقتله، فانتدبوا إلى ذلك ".
فانتدب رهط منهم وفيهم محمد بن مسلمة، وكان أخا كعب من الرضاعة وحليفه، فانطلقوا في أول الليل إلى دار كعب، فناداه محمد بن مسلمة فاستنزله من داره، وأوهمه أنه يكلمه في حاجة، فلما نزل أخذ محمد بن مسلمة بناصيته وكبر، فخرج أصحابه وكانوا من وراء الحائط، فضربوه حتى برد مكانه، فصاحت امرأته وتصايحت اليهود، فخرجوا إليهم وقد رجع المسلمون.
فجاء المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غازيا، فتحصنوا في دورهم فوجدهم في قرية لهم يقال لها (زهوة) وهم ينوحون على كعب وكان سيدهم، فقالوا: يا محمد؛ باغية على إثر ناعية، وباكية على إثر باكية؟ قال: " نعم " قالوا: ذرنا نبكي شجوا على كعب.
وقد كان عبدالله بن أبي سلول المنافق وأصحابه أمر إلى اليهود سرا بأن لا تخرجوا من الحصن، وقاتلوا محمدا وأصحابه، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة.
فلما عجزوا عن مقاومة المسلمين وآيسوا من نصر المنافقين لهم طلبوا الصلح، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يخرجوا من مدينتهم على ما يأمرهم به، فقبلوا ذلك، فصالحهم على الجلاء، وعلى أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات من متاعهم على بعير واحد ما شاء، ولنبي الله ما بقي، ويخرجوا, إلى الشام، ففعلوا ذلك وخرجوا إلى الشام إلى أذرعات وأريحا والحيرة وخيبر.
فذلك قوله تعالى: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } "
يعني بني النضير من ديارهم التي كانت بيثرب وحصونهم.
قال ابن اسحاق: (كان إجلاء بني النضير عند مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب، وبينهما سنتان).
قوله: { لأول الحشر } معناه: هو الذي أخرج هؤلاء اليهود من منازلهم وحصونهم لأول جمع أجلوا من جزيرة العرب وهي أرض الحجاز حشروا إلى الشام، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم يومئذ: " اخرجوا " قالوا إلى أين؟ قال: " إلى المحشر " فخرجوا إلى أذرعات وأريحا من الشام. وأما ثاني الحشر فهو أن يحشر الخلائق يوم القيامة إلى أرض الشام أيضا. ويقال: إنما قال { لأول الحشر } لأن الحشر أربعة: حشر بني النضير أولا، ثم حشر خيبر، ثم أهل نجران، ثم حشر جميع أهل الكتاب من جزيرة العرب في خلافة عمر رضي الله عنه على ما روي: أنه أجلاهم منها، وقال: (عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان).
قوله تعالى: { ما ظننتم أن يخرجوا }؛ أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرج بنو النضير من منازلهم لشدة تمكنهم وقوتهم بالأموال والمنعة، وذلك أنهم كانوا أهل حصون وعقار ونخيل كثيرة وسلاح.
قوله: { وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله }؛ وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من الله؛ أي من أمر الله فيهم، { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا }؛ أي فأتاهم أمر الله من حيث لم يظنوا أن ينزل بهم ما نزل من قتل كعب ابن الأشرف وقتلهم وإجلائهم ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لم يتوهم القوم، { وقذف في قلوبهم الرعب }؛ بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، وكان ذلك أعظم شيء عليهم إذ أتاهم ما لم يظنوه.
قوله تعالى: { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين }؛ وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم، فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون يخربونها من خارج. وقيل: إنهم كانوا يهدمونها من داخل بأيديهم ليرموا المسلمين بأحجارها، ويهدمها المؤمنون ليتمكنوا من قتالهم.
قوله تعالى: { فاعتبروا يأولي الأبصار }؛ معناه: فليعتبر بما أصاب بني النضير كل من له بصر بأمر الله، ولينظر إلى عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوة، وليحذر كل قوم من الكفار مثل صنيع بني النضير. والمعنى: تدبروا وانظروا فيما صنع، نزل بهم يا أهل البيت والعقل والبصائر.
قوله تعالى: { يخربون بيوتهم } ، قرأ العامة بالتخفيف من الإخراب؛ أي يهدمونها، وقرأ الحسن وأبو عمرو (يخربون) بالتشديد من التخريب، قال أبو عمرو: وإنما اخترت التشديد؛ لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوا منازلهم فيرتحلوا عنها، ولكنهم خربوها بالنقض والهدم.
وقال بعضهم: التخريب والإخراب بمعنى، قال الزهري: (وذلك أنهم لما أيقنوا بالخروج كانوا يهدمون أعمدة بيوتهم وينتزعون الخشب والالات وينقضون السقوف وينقبون الجدارات ويقتلعون الخشب حتى الأوتاد لئلا يسكنها المسلمون حسدا وبغضاء، وكان المسلمون يخربون ما بقي من بنائهم).
وقوله تعالى: { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا }؛ معناه: لولا أن قضى الله عليهم في اللوح المحفوظ بالانتقال والخروج من أوطانهم إلى الشام وخيبر لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة، { ولهم }؛ مع ما أصابهم في الدنيا، { في الآخرة عذاب النار }؛ ولكن علم الله أن الجلاء أصلح.
وقوله تعالى: { ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله }؛ أي ذلك الجلاء والعذاب بأنهم خالفوا أولياء الله وأخذوا في شق غير شق أولياء الله ورسوله، { ومن يشآق الله }؛ ومن يخالف الله ورسوله في الدين ففعل فعل هؤلاء، { فإن الله شديد العقاب }؛ له في الدنيا والآخرة.
[59.5]
قوله تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا في حصونهم، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فقالت اليهود: ما بعث نبي إلا بالصلاح، وليس في هذا إلا إفساد المعيشة علينا وعليهم، وقالوا: يا محمد إنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخيل والأشجار؟ وهل وجدت فيما زعمت أنزل الله عليك الفساد في الأرض.
فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ووجد المسلمون في أنفسهم من ذلك مشقة، وكان بعض المسلمين يمعنون في قطع النخل، وبعضهم ينهى عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه تصديقا للذين نهوا عن قطع النخيل وتحليلا لمن قطعه، وبراءة لهم من الإثم وتصويبا للفريقين، فقال تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قآئمة على أصولها فبإذن الله } بين أن ما قطع منها قطع بإذن الله، وما ترك منها بإذن الله.
واللينة هي النخلة، قال ابن عباس وقتادة: (اللينة هي كل نخلة ما لم تكن عجوة)، وقيل: اللينة: ما خلا العجوة والبرني وجمعه ليان، وروي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع نخيلهم إلا العجوة "
قال عكرمة: (والنخل كله ليان ما خلا العجوة)، وقال سفيان: (اللينة هي كرام النخل). وقال مقاتل: (هو ضرب من النخل ثمرها شديد الصفرة يغيب فيه الضرس عند أكله، وكان من أجود ثمرهم وأعجبه إليهم)، والعرب تسمي النخل كله ليان.
قوله تعالى: { وليخزي الفاسقين }؛ معناه: وليهين الله ويذل اليهود ويخزيهم بأن يريهم أموالهم يتحكم فيها المؤمنون كيف أحبوا لأنهم نقضوا العهد.
[59.6]
قوله تعالى: { ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب }؛ معناه: وما رد الله على رسوله من غنائم بني النضير، فمما لم توجفوا عليه أنتم خيلا ولا ركابا ولكن مشيتم إليه مشيا؛ لأن ذلك كان قريبا من المدينة؛ أي لم يحصل ذلك بقتالكم، فلا شيء لكم من ذلك، { ولكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شيء قدير }؛ إنما كان ذلك بتسليط الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، والله يمكن رسله صلوات الله عليهم من أعدائه بغير قتال، والله على كل شيء من النصر والغنيمة قادر.
والضمير في قوله { أوجفتم عليه } أي على ما أفاء الله، والإيجاف الإسراع والإزعاج للسير، يقال: أوجف السير، وأوجفته أنا، والوجيف: نوع من السير فوق التقريب، ويقال: وجف الفرس والبعير يجف وجفا إذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع.
ومعنى الآية: { ومآ أفآء الله على رسوله } من مال بني النضير { فمآ أوجفتم عليه } أي فما وضعتم عليه من خيل ولا إبل ولم تنالوا فيه مشقة ولم تلقوا حربا وإنما مشيتم إليه مشيا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملا فافتتحها النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم وأخذ أموالهم.
فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم في القسمة في تلك الأموال، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فجعل أموال بني النضير خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر كانت لهم حاجة، وهم: أبو دجانة؛ وسهل بن حنيف؛ والحارث بن الصمة.
وعن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله من مال بني النضير نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله؛ لأنه مما أفاء الله على رسوله، ولم يوجف المسلمون بخيل ولا ركاب، فكان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
وأراد بهذا ما كان يحصل من غلة أراضيهم في كل سنة. وفي هذه الآية دلالة على أن كل مال من أموال أهل الشرك لم يغلب عليه المسلمون عنوة وإنما أخذ صلحا أن يوضع في بيت مال المسلمين ويصرف إلى الوجوه التي تصرف فيها الجزية والخراج؛ لأن ذلك بمنزلة أموال بني النضير.
[59.7]
قوله تعالى: { مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }؛ اختلف أهل اللغة في الفيء ما هو؟ فقال بعضهم: هو مما ملكه الله المسلمين من أموال المشركين بغير قتال أو بقتال، فالغنيمة فيء والخراج فيء.
قال بعضهم: الغنيمة اسم لما أخذه المسلمون من الكفار عنوة وقهرا، والفيء ما صالحوا عليه، فبين الله تعالى في هذه الآية حكم الفيء، فقال تعالى: { مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى } أي من غنائم قرى المدنية في قريظة وبني النضير وفدك، فإن ذلك خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم دون الغانمين، وكان أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك جائزا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفها بأمر الله تعالى إلى قرائب نفسه وفقراء قرابته ويتامى الناس عامة والمساكين عامة، يعني المحتاجين وأبناء السبيل والفقراء المهاجرين.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: أراد بقوله { مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى } الغنائم التي يأخذها المسلمون من أموال الكفار عنوة وغلبة، وكانت في بدء الإسلام لعامة الغانمين المسلمين دون الغانمين الموجفين عليها، ثم نسخ الله ذلك بقوله تعالى في سورة الأنفال
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول
[الأنفال: 41] والآية التي قبل هذه الآية في بيان حكم أموال بني النضير خاصة، وهذه الآية في بيان حكم جلب الأموال التي أصيبت بغير قتال ولم يوجف عليها بالخيل والجمال.
وقال آخرون: هما واحد، والثانية بيان قسم المال الذي ذكر الله تعالى في هذه الآية الأولى، والغنائم كانت في بدء الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ما يشاء، كما قال تعالى
قل الأنفال لله والرسول
[الأنفال: 1] ثم نسخ ذلك بقوله
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
[الأنفال: 41] الآية، فجعل أربعة أخماسها للغانمين يقسم بينهم، وأما الخمس الباقي فيقسمه على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لبني السبيل.
وقوله تعالى: { كي لا يكون دولة بين الأغنيآء منكم }؛ معناه: كي لا يكون الفيء متداولا بين الأغنياء منكم، والفرق بين الدولة والدولة بفتح الدال عبارة عن المدة من الاستيلاء والغلبة، والدولة اسم للشيء المتداول، والمعنى: كي لا يتداوله الأغنياء منكم، يكون لهذا مرة ولهذا مرة، كما يعمل في الجاهلية، وكانوا إذا أخذوا غنيمة أخذ الرئيس ربعها وهو الرباع، والأغنياء والرؤساء، وقال مقاتل: (كي لا يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم).
ثم قال: { ومآ آتاكم الرسول }؛ من الفيء والغنيمة، { فخذوه }؛ فهو حلال لكم، { وما نهاكم عنه }؛ أي عن أخذه، { فانتهوا }؛ وهذا نازل في أمر الفيء، ثم هو عام في كل ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، قال الحسن في قوله: { وما نهاكم عنه فانتهوا }: (يعني ما نهاكم عنه من الغلول). وقوله تعالى: { واتقوا الله }؛ معناه: اتقوا عذاب الله، { إن الله شديد العقاب }؛ إذا عاقب فعقوبته شديدة.
[59.8]
قوله تعالى: { للفقرآء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم }؛ معناه: كي لا يكون دولة بين الأغنياء، ولكن يكون للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، يعني أن كفار مكة أخرجوهم، { يبتغون فضلا من الله }؛ أي رزقا يأتيهم، { ورضوانا وينصرون الله ورسوله }؛ رضى ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة ينصرون الله ورسوله، { أولئك هم الصادقون }؛ في إيمانهم.
والمعنى بقوله { للفقرآء المهاجرين } بيان المحتاجين المذكورين في الآية التي قبل هذه الآية، كأنه قال: لهؤلاء الفقراء المحتاجين ما تقدم ذكره من الفيء، وكانوا نحوا من مائة رجل، وكانوا شهدوا بدرا أجمعين، ولذلك أثنى الله عليهم بقوله { يبتغون فضلا من الله ورضوانا } أي يطلبون بتلك الهجرة ثواب الله ورضوانه، وينصرون بالسيف والجهاد أولياء الله وأولياء رسوله، { أولئك هم الصادقون } في الإيمان وطلب الثواب.
[59.9]
قوله تعالى: { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم }؛ قال الكلبي: ( { والذين تبوءوا الدار } مبتدأ، وخبره { يحبون } ). وهذا ثناء على الأنصار،
" وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى المهاجرين ما قسم لهم من فيء بني النضير لم يأمن على غيرهم أن يحسدهم إذ لم يقسم لهم.
فقال للأنصار: " إن شئتم قسمتم لهم من دوركم وأموالكم، وقسمت لكم ما قسمت لهم، وإما أن يكون لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم " فقالوا: لا؛ بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في قسمهم. فأثنى الله تعالى عليهم بهذه الآية ".
والمعنى: لزموا دار الهجرة ولزموا الإيمان من قبل هجرة المهاجرين ووطنوا منازل أنفسهم، فهم يحبون من هاجر إليهم من مكة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، { ولا يجدون في صدورهم حاجة }؛ ضيقا وحسدا، { ممآ أوتوا }؛ مما أعطي المهاجرين من الغنائم.
ومعنى الآية: { والذين تبوءوا الدار } يعني المدينة، وهي دار الهجرة، وتبوأها الأنصار قبل المهاجرين. وتقدير الآية: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان؛ لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وعطف (الإيمان) على (الدار) في الظاهر لا في المعنى؛ لأن الإيمان ليس بمكان تبوء. والتقدير: وآثروا الإيمان واعتقدوا الإيمان.
قوله تعالى: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة }؛ معناه: ويؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، ولو كان بهم فقر وحاجة إلى الدار والنفقة، بين الله أن إيثارهم لم يكن عن غنى عن المال ولكن عن حاجة، فكان ذلك أعظم لأجرهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني جائع فأطعمني؟ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد أزواجه: " هل عندكن شيء؟ " فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يطعمك هذه الليلة " ثم قال: " من يضيف هذا هذه الليلة رحمه الله ؟ ".
فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، - قال في صحيح مسلم: هو أبو طلحة، وقيل: أبو أيوب، والضيف أبو هريرة - فمضى به إلى منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، قال: قومي فعلليهم عن قوتهم حتى يناموا، ثم أسرجي وأحضري الطعام، فإذا قام الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه، وتعالي نمضغ السنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع.
فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا ولم يطعموا شيئا، ثم قامت فأسرجت، فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، وجعلا يمضغان ألسنتهما، فظن الضيف أنهما يأكلان معه، فأكل الضيف حتى شبع، وباتا طويين. فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم ثم قال: " لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة فأنزل الله تعالى هذه الآية { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ".
وقال أنس رضي لله عنه: (أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوية وكان مجهودا، فقال: لعل جاري أحوج إليه مني، فبعث به إليه، ثم إن جاره قال مثل ذلك، فوجه به إلى جار له، فتداوله تسعة أنفس حتى رجع إلى الأول، فأنزل الله تعالى: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ).
ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ومعهم أرغفة قليلة لم تشبع جوعتهم، فكسروا الرغفان وأطفأوا السراج وجلسوا ليأكلوا، فلما رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد إيثارا لصاحبه على نفسه.
ويحكى عن حذيفة العدوي قال: (انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار: أي نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع آخر يقول: آه، فأشار هشام: أن انطلق به إليه، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات).
ويحكى عن أبي يزيد البسطامي قال: " ما غلبني إلا شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجا، فقال لي: يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا. قال: هكذا عندنا كلاب بلخ! فقلت: ما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا آثرنا). وسئل ذو النون عن الزهد فقال: (ثلاث: تفريق المجموع، وترك المفقود، والإيثار عند القوت).
قوله تعالى: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }؛ أي من يدفع عنه غائلة نفسه وحرص النفس حتى تطيب نفسه بذلك، فأولئك هم الناجون السعداء، الباقون في الآخرة. والشح في الآخرة: منع النفع، وأما في الدنيا فهو منع الواجب، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" برئ من الشح من أدى زكاة ماله، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة "
وقال سعيد بن جبير: (شح النفس هو أخذ الحرام ومنع الزكاة).
وجاء رجل إلى عبدالله بن مسعود فقال: لقد خفت أن لا تصيبني هذه الآية { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } والله ما أقدر أعطي شيئا أطيق منعه، فقال عبدالله: (إنما ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تأخذ مال أخيك بغير حقه).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يجتمع الشح والإيمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف مسلم قط ".
واختلف العلماء في الشح والبخل، فقال بعضهم: هما واحد، وهو منع الفضل. وقال بعضهم: بينهما فرق، والبخل أن يبخل الرجل بما في يده، والشح أن يبخل بما في أيدي الناس.
وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم أن سفكوا الدماء واستحلوا محارمهم ".
وعن أبي الهياج الأسدي قال: " كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له في ذلك، فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن، وإذا الرجل عبدالرحمن بن عوف).
ويحكى أن كسرى قال لأصحابه ذات يوم: أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال كسرى: والشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، وإن الشحيح لا يشبع أبدا.
[59.10]
قوله تعالى: { والذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان }؛ يعني التابعين وهم الذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، قال ابن عمر: (هؤلاء هم التابعين بالإحسان إلى يوم القيامة). قال ابن أبي ليلى: (الناس على ثلاثة منازل: الفقراء، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل).
ثم ذكر الله تعالى أن هؤلاء التابعين يدعون لأنفسهم وللسلف الذين سبقوهم، فقال تعالى { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنآ إنك رءوف رحيم }؛ أي لا تجعل في قلوبنا غشا وحسدا وبغضا وحقدا للمؤمنين، فكل من لم يترحم على جميع الصحابة وكان في قلبه غل لهم على أحد منهم كان خارجا من أقسام المؤمنين؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث مراتب: المهاجرين، والأنصار، والتابعين إلى يوم القيامة.
[59.11-12]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين نافقوا }؛ يعني عبدالله بن أبي وأصحابه، ومعنى { نافقوا } أي أظهروا خلاف ما أضمروا، { يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب }؛ وهم بنو قريظة وبنو النضير، سماهم إخوانهم لأنهم كفار مثلهم.
قوله تعالى: { لئن أخرجتم }؛ أي لئن أخرجتم من دياركم؛ أي لغربة { لنخرجن معكم }؛ أي لا نساكن محمدا، { ولا نطيع فيكم أحدا أبدا }؛ ولا نطيعه على قتالكم، { وإن قوتلتم لننصرنكم }؛ فإن قاتلكم محمد وأصحابه، لنعاوننكم عليه حتى تكون أيدينا يدا واحدة في المقاتلة حتى نغلبهم، وعدوهم أنهم ينصرونهم، فكذبهم الله في ذلك بقوله تعالى: { والله يشهد إنهم لكاذبون } في مقاتلتهم، وقد بان كذبهم في ما نزل ببني النضير من الجلاء وفيما أصاب بني قريظة من القتل.
ثم ذكر الله أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنصر ، فقال تعالى: { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم }؛ فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى؛ لأنهم أخرجوا من ديارهم فلم يخرج معهم المنافقون، وقوتلوا فلم ينصرونهم أظهر الله كذبهم وأبان صدق ما قال الله تعالى.
وقوله تعالى: { ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون }؛ معناه: ولئن قدر وجود نصرهم؛ لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده، قال الزجاجي: (معناه: لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار مهزومين). { ثم لا ينصرون } يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم.
[59.13]
قوله تعالى: { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله }؛ معناه: لأنتم يا معشر المسلمين أهيب في قلوب المنافقين واليهود من عذاب الله، وخوفهم منكم أشد من خوفهم الله لعلمهم بكم وصفاتكم، وجهلهم بالله وعظمته، { ذلك }؛ الخوف الذي بهم منكم دون الله، { بأنهم قوم لا يفقهون }؛ لا يعرفون الله تعالى، ولو عرفوه لعلموا أن عقوبة الله أعظم مما عساه يقع بهم من فعل المؤمنين.
وفي هذه الآية بيان أنه لا ينبغي لأحد أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله تعالى، وإن من زاد خوفه من أحد من الناس على خوفه من الله فليس بفقيه، إنما الفقيه من يخشى الله كما في آية أخرى
إنما يخشى الله من عباده العلماء
[فاطر: 28]، والفقه: العلم بمفهوم الكلام في إدراك ظاهره بمضمونه، والناس يتفاضلون في الإدراك لاختلافهم في جودة القريحة وسرعة الفطنة.
[59.14]
قوله تعالى: { لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من ورآء جدر } ومعناه: لا يقاتلونكم بنو قريظة إلا في حصون موثقة أو من خلف جدار، لما قذف الله في قلوبهم الرعب، ولا يقاتلونكم مبارزة.
قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو (أو من وراء جدار) بالألف على الواحد. ويروي بعض أهل مكة (جدر) بفتح الجيم وجزم الدال وهي لغة في الجدار، وقرأ يحيى بن وثاب (جدر) بضم الجيم وجزم الدال، وقرأ الباقون بضمهما.
قوله تعالى: { بأسهم بينهم شديد }؛ يعني بغضهم وعداوة بعضهم لبعض شديد، وبينهم مخالفة وعداوة عظيمة، { تحسبهم جميعا }؛ أي تحسبهم متفقين على أمر واحد بنيات مجتمعة إذا قاتلوا المؤمنين، { وقلوبهم شتى }؛ أي متفرقة لا يتعاونون لمعاداة بعضهم بعضا، وإن أظهروا الموافقة، والمعنى: أنهم مختلفون لا تستوي قلوبهم ولا نياتهم لأن الله خذلهم، { ذلك }؛ الاختلاف، { بأنهم قوم لا يعقلون }؛ ما فيه الحظ لهم ولا يعقلون الرشد من الغي.
[59.15]
قوله تعالى: { كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم }؛ معناه: مثل هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم وهم كفار مكة، يعني: مثلهم في ما ينزل من العقوبة كمثل مشركي مكة، وقوله تعالى: { قريبا ذاقوا وبال أمرهم } يعني القتل والأسر ببدر، وكان ذلك قبل غزوة بني النضير بستة أشهر، { ولهم عذاب أليم }؛ في الآخرة.
[59.16]
قوله تعالى: { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك }؛ أي مثل الكافرين في غرورهم لبني النضير وخلانهم، كمثل الشيطان في غروره لابن آدم إذ دعاه إلى الكفر بما زينه له من المعاصي، فلما كفر الآدمي تبرأ الشيطان منه ومن دينه في الآخرة.
ويقال: إن المراد بهذه الآية إنسان بعينه يقال له برصيصا، عبد الله تعالى في صومعة له سبعين سنة، وكان من بني إسرائيل، فعالجه إبليس فلم يقدر عليه، فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال لهم: ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال له الأبيض: أنا أكفيكه، وكان من شدة تمرد هذا الأبيض أنه اعترض النبي صلى الله عليه وسلم ليوسوس إليه، فدفعه جبريل دفعة هينة فوقع في أقصى أرض الهند.
فقال الأبيض لإبليس: أنا أزين له، فتزين بزينة الرهبان ومضى حتى أتى صومعة برصيصا، فأقبل على العبادة في أصل الصومعة فانفتل برصيصا فاذا هو يراه قائم يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان، فأقبل إليه وقال: يا هذا ما حاجتك؟ فقال: أحب أن أكون معك فأتعلم منك وأقتبس علمك، فتدعو لي وأدعو لك، فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، فإن كنت مؤمنا فسيجعل الله لك نصيبا مما أدعوه للمؤمنين والمؤمنات.
ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وقام الأبيض يصلي فلم يلتفت برصيصا إلا بعد أربعين يوما، فلما التفت بعد الأربعين رآه قائما يصلي، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وكثرة ابتهاله وتضرعه أقبل إليه، وقال: اطلب حاجتك، قال: حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك فأكون في صومعتك، فأذن له فارتفع اليه.
فأقام في صومعته حولا كاملا يتعبد، لا يفطر إلا في كل أربعين يوما يوما، ولا ينفتل إلا في كل أربعين يوما يوما، فلما رأه برصيصا ورأى شدة اجتهاده أعجبه شأنه، وتقاصرت عنده عبادة نفسه.
فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق إلى صاحب لي غيرك أشد اجتهادا منك، وإنه قد كان بلغني عنك من العبادة والاجتهاد غير الذي أرى منك، فدخل على برصيصا من كلامه ذلك أمر عظيم وكره مفارقته لما رأى من شدة اجتهاده في العبادة.
فلما ودعه قال له الأبيض: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بها، فهي خير لك مما أنت فيه، يشفى بها السقيم، ويعافى بها المبتلى والمجنون، فقال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، وإن لي في نفسي شغلا، وإني أخاف إن علم الناس بذلك شغلوني عن العبادة. فلم يزل به الأبيض حتى علمه.
وانطلق الأبيض حتى أتى إبليس وقال له: قد والله أهلكت الرجل. ثم انطلق الأبيض إلى رجل فخنقه، ثم جاء إلى أهله في صورة طبيب فقال لهم: إن بصاحبكم جنونا، فقالوا له: عالجه لنا وداوه، فقال: إني لا أقوى على جنيته! ولكن أرشدكم إلى من يدعو له فيعافى، قالوا: دلنا.
قال: انطلقوا إلى برصيصا، فإن عنده الاسم الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب، فمضوا بصاحبهم إليه، فدعا له بتلك الكلمات التي علمه إياها، الأبيض فذهب عنه الشيطان.
ثم انطلق الأبيض إلى صبية من بنات الملوك ولها ثلاثة إخوة، وكان لهم عم هو ملك بني إسرائيل، فخنقها ثم جاء إليهم في صورة طبيب، فعالجها وداواها، فلم يذهب عنها، فقال لهم: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق، ولكني أرشدكم إلى رجل يدعو لها بدعوات فتعافى، قالوا: من هو؟ قال: برصيصا. قالوا : وكيف يجيبنا ذلك إلى هذا الأمر؟ وكيف يقبلها منا؟ قال: ابنوا لها صومعة إلى جنب صومعته وتكون لزيقا بصومعته، وقولوا له: هذه أمانة عندك فاحتسب فيها.
قال: فانطلقوا بها إليه فلم يقبلها، فبنوا لها صومعة كما ذكر لهم الأبيض وتركوها فيها، وقالوا لبرصيصا: هذه أختنا وقد عرض لها عدو من أعداء الله، فهي أمانة عندك فاحتسب فيها، ثم انصرفوا. فلما انفتل برصيصا عن صلاته عاينها فرأى جمالا رائقا وحسنا فائقا فسقط في يديه، ودخل عليه أمر عظيم، فجاءها الأبيض فخنقها، فلما رأى برصيصا ذلك انفتل من صلاته ودعا بتلك الدعوات، فذهب عنها الشيطان، ثم جاء الأبيض إلى برصيصا، قال: وأين تجد مثل هذه؟ واقعها وأنت تتوب بعد ذلك ولم يزل به حتى واقعها، فأقامت معه وهو يواقعها حتى حملت وظهر حملها.
فقال له الأبيض: ويحك! إنك قد افتضحت، فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها فذهب بها ولم أطق، ففعل ذلك فقتلها ثم ذهب بها الى ناحية من الجبل ودفنها، فجاء الشيطان ليلا وهو يدفنها فجذب طرف إزارها حتى صار خارجا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته.
فجاء إخوتها يتعاهدونه وكانوا في سائر الأيام يأتون برصيصا ويتعاهدون أختهم ويوصوه بها، فأتوه في هذه المرة كعادتهم فلم يجدوها، فقالو: أين ذهبت أختنا؟ فقال برصيصا: جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه، وانصرفوا عنه وهم مكروبون.
فجاءهم الأبيض في صورة إنسان وأخبرهم بالخبر وقال لهم: هي مدفونة في موضع كذا، وأن برصيصا قد فعل بها كذا وكذا ثم قتلها ودفنها، وإن طرف إزارها خارجا من التراب. فانطلقوا فوجدوها كما قال فجمعوا لبرصيصا علماؤهم وعساكرهم وجاءوا بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعته وأنزلوه وكتفوه، وانطلقوا به إلى الملك مغلولا، فسأله عن ذلك فأقر على نفسه فصلبه الملك على خشبة.
فجاء إبليس إلى الأبيض فقال له: أي شيء صنعت في برصيصا، الآن يقتل ويكون قتله كفارة لما كان منه، وما يغني عنك ما صنعت فيه؟! فقال الأبيض: أنا أكفيك فيه، فأتاه وهو مصلوب، فقال له: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله في أمانة وضعت عندك، خنت أهلها وأنت أعبد بني إسرائيل، وما استحييت من الله، أما راقبته في دينك، فلم يزل يعيره ويوبخه.
ثم قال له: وما كفاك ما صنعت حتى أقررت على نفسك، فضحت أشياخك، فإن مت في هذه الحالة لم تفلح أبدا. قال فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أنجيك مما أنت فيه، وآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال: وما هي؟ قال: تسجد لي سجدة واحدة، قال: كيف أسجد لك وأنا مصلوب على هذه الحالة؟ قال: أكتفي منك بالإيماء، فأومأ بالسجود فكفر بذلك، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك أن صارت عاقبتك إلي أن كفرت بربك، إني بريء منك، { إني أخاف الله رب العالمين }؛ ثم ذهب عنه وتركه فقتل.
فضرب الله هذا مثلا لبني قريظة والنضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجلي بني النضير فدس إليهم المنافقون أن لا يجيبوا محمدا إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجكم خرجنا معكم، فأطاعوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في دورهم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاربهم فناصبوه الحرب يرجون نصرة المنافقين، فخذلوهم وتبرؤا منهم كما يترأ الشيطان من برصيصا وخذله.
[59.17]
قوله تعالى: { فكان عاقبتهمآ أنهما في النار خالدين فيها }؛ معناه: فكان عاقبة الشيطان والذي كفر أنهما في النار مقيمين دائمين، { وذلك جزآء الظالمين }؛ أي وذلك عاقبة الكافرين، فليحذر امرؤ أن يقع في مثل ما وقع فيه هذا الكافر، وقال مقاتل: (معنى الآية: فكان عاقبة المنافقين واليهود أن صاروا إلى النار وذلك جزاؤهم).
[59.18]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله }؛ معناه: واتقوا الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، { ولتنظر نفس ما قدمت لغد }؛ أي ليوم القيامة عملا صالحا ينجيها أم عملا سيئا يوبقها، قال الحسن: (ما زال الله يقرب الساعة حتى جعلها كغد ). { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }.
[59.19-20]
قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين نسوا الله }؛ أي تركوا حق الله وأمره حتى صار كالمنسي عندهم، { فأنساهم أنفسهم }؛ أي فخذلهم حتى لم يعملوا لله طاعة، ويقدموا خيرا لأنفسهم، قال ابن عباس: (يريد قريظة والنضير) وباقي الآيتين، { أولئك هم الفاسقون * لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفآئزون } ، ظاهر المعنى.
[59.21]
قوله تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون }؛ معناه: لو جعل في الجبل تمييز وعقل مثلكم، وعلم من القرآن كما تعلمون أنتم لرأيته يخشع ويتصدع خوفا من عذاب الله، وكبره وصلابته فأنتم مع ضعفكم وصغركم أولى بالخشوع والعمل على مقتضى الدين في تمييز الحق من الباطل.
وقيل: معناه: لو شعر الجبل مع صلابته وشدته بالقرآن لخشع تعظيما للقرآن ولصدع من خشية الله، فالإنسان أحق بهذا منه، وهذا وصف للكافر بالقسوة حين لم يلن قلبه بمواعظ القرآن الذي لو أنزل على جبل لخشع.
[59.22]
قوله تعالى: { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم }؛ قيل: إن هذه الآيات مردودة إلى أول السورة، والمعنى: هو الذي أخرج الذين كفروا وهو الله الذي تحق له العبادة، ولا يشركه في ذلك غيره، وهو العالم بكل شيء مما غاب عن العباد ومما علموه.
[59.23]
قوله تعالى: { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون }؛ القدوس: هو الظاهر عن كل عيب، المنزه عن كل ما لا يليق به. والسلام: هو الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل: هو الذي سلم العباد من ظلمه.
والمؤمن: هو الذي أمن أولياؤه عذابه. والمهيمن: هو الشهيد على عباده بأعمالهم، ومنه قوله تعالى:
ومهيمنا عليه
[المائدة: 48] أي شاهدا عليه، ويقال: هيمن يهيمن فهو مهيمن، إذا كان رقيبا على الشيء.
والعزيز: الممتنع الذي لا يغلبه شيء ولا يمنع من مراده. والجبار: هو العظيم، وجبروت الله عظمته، ويجوز أن يكون فعالا من جبر إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير. ويجوز أن يكون من جبره على كذا اذا أكرهه على ما أراد. قال السدي ومقاتل: (هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يشاء). والمتكبر: هو المستحق لصفات التعظيم وهو من الكبرياء، وإنما تذم صفة المتكبر في الناس لأنه ينزل نفسه منزلة لا يستحقها.
قوله تعالى: { هو الله الخالق البارىء المصور }؛ الخالق: هو المنشئ للأعيان. والبارئ: المقدر والمسوي لها، والبرية: الخلق، وبريت القلم إذا سويته. والمصور: الناقش كيف يشاء، يعني الممثل للمخلوقات بالعلامات المميزة والهيئات المتفرقة.
[59.24]
قوله تعالى: { له الأسمآء الحسنى يسبح له ما في السموت والأرض وهو العزيز الحكيم } ، والأسماء الحسنى هي الصفات العلى.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة الحشر، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ومن قرأ حين يصبح الثلاث آيات من آخر الحشر وكل الله به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات من ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قرأها حين يمسي كان بتلك المنزلة ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" سألت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: " عليك بآخر سورة الحشر، فأكثر قراءتها " فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه، فأعاد علي ".
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء }؛
" نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو صيفي بن هشام أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أمسلمة جئت " قالت: لا: قال: " أمهاجرة جئت؟ " قالت: لا، قال: " فما حاجتك؟ " قالت: كنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد ذهبت أموالي واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، قال: " وأين أنت من شباب أهل مكة؟ " وكانت مغنية ونائحة، قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب فكسوها وأعطوها نفقة.
فأتاها حاطب بن أبي بلتعة الأزدي حليف بني أسد، فكتب إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة، وكتب في الكتاب: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم. مع أشياء كتب بها يتنصح لهم فيها، فمضت سارة بالكتاب.
فنزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم وراءها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد، فخرجوا يعادي بهم خيلهم، فطلبوا منها الكتاب، فقالت: ما عندي كتاب، وحلفت على ذلك، ففتشوا متاعها فلم يجدوه، وقالت: إنكم لا تصدقوني حتى تفتشوا ثيابي، واصرفوا وجوهكم عني فصرفوها، فطرحت ثيابها ففتشوها فلم يجدوا شيئا، فتركوها وهموا بالرجوع.
فقال علي بن أبي طالب: إني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذبنا، وإنها هي الكاذبة فيما تقول: فسل سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا والله لأضربن عنقك وأقسم على ذلك، فلما رأت الحد أخرجته من ظفائر رأسها، فأخذوه وخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأرسل إلى حاطب فأتاه، فقال له: " يا حاطب هل تعرف هذا الكتاب؟ " قال: نعم، قال: " ما حملك على ذلك؟ " قال: والله يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ صحبتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، فلا تعجل علي يا رسول لله، إني كنت امرءا ملصقا في قريش، ولم أكن منهم، ولم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وأنا غريب فيهم، وكان أهلي بين أظهرهم، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا، فوالله ما فعلت ذلك شكا في ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، ولا ارتبت في الله منذ أسلمت، وقد علمت أن الله تعالى نزل عليهم بأسه، وإن كتابي لا يغني عنهم شيئا.
فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره وقال: " إنه قد صدق ". فقام عمر رضي لله عنه وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه قد شهد بدرا، وما يدريك أن الله تعالى قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم ".
وروي:
" أن عبدا لحاطب جاء يشتكي من حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال: " كذبت! لا يدخلها أبدا لأنه شهد بدرا والحديبية " ".
ثم أنزل الله تعالى هذه الآية يعرف بها النبي صلى الله عليه وسلم أن حاطبا مؤمن، فقال { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء } معناه: لا تتخذوا الكافرين أحباء في العون والنصرة، { تلقون إليهم }؛ أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسره، { بالمودة }؛ التي بينكم وبينهم وتخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته، { وقد كفروا بما جآءكم من الحق }؛ جحدوا بما جاءكم من الحق يعني القرآن، ومع ذلك، { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم }؛ أي يخرجون الرسول من مكة ويخرجونكم أيضا من دياركم لأجل إيمانكم بربكم.
قوله تعالى: { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغآء مرضاتي }؛ هذا شرط وجوابه متقدم عليه وهو قوله { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء }. تقديره: إن كنتم خرجتم جهادا مجاهدين في طاعتي وسنتي ومتبعين مرضاتي، فلا تتخذونهم أولياء، وقوله تعالى: { جهادا في سبيلي وابتغآء مرضاتي } منصوبان لأنهما مفعول لهما.
وقوله تعالى: { تسرون إليهم بالمودة }؛ أي تخفون مودتهم، { وأنا أعلم بمآ أخفيتم ومآ أعلنتم }؛ وأنا أعلم بما تضمرون في صدوركم، وما تظهرون بألسنتكم. قوله تعالى: { ومن يفعله منكم }؛ يعني الإسرار وإلقاء المودة إليهم، { فقد ضل سوآء السبيل }؛ أي فقد أخطأ طريق الهدى، والمعنى: ومن يفعل منكم يا معشر المؤمنين ما فعل حاطب، فقد أخطأ طريق الحق والهدى.
[60.2]
قوله تعالى: { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء }؛ معناه: إن يصادفوكم ويظفروكم في حال لا يخافونكم عليها يظهروا عداوتكم، { ويبسطوا إليكم أيديهم }؛ بالقتل والضرب، { وألسنتهم بالسوء }؛ بالشتم والطعن، { وودوا لو تكفرون }؛ ويحبون أن تكفروا بالله بعد إيمانكم كما أنهم كافرون، والمعنى: لا ينفعكم التقرب إليهم بنقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
[60.3-5]
قوله تعالى: { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم }؛ أي توادوهم بسبب الأرحام والأولاد، فإن الأرحام والأولاد لا ينفعوكم، فلا تعصوا الله ولا تخونوا رسوله لأجلهم، { يوم القيامة يفصل بينكم }؛ فيدخل أهل طاعة الله الجنة، ويدخل أهل الكفر النار، { والله بما تعملون }؛ من الخير والشر، { بصير }.
قرأ عاصم ويعقوب (يفصل بينكم) بفتح الياء وكسر الصاد مخففا، وقرأ ابن عامر والأعرج (يفصل) بضم الياء وفتح الصاد مشددا، وقرأ طلحة والنخعي (نفصل) بالنون وبضمة وكسر الصاد مشددا، وقرأ الباقون (يفصل) بضم الياء وفتح الصاد مخففا.
ثم ضرب الله لهم إبراهيم مثلا حين تبرأ من قومه فقال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه }؛ أي قد كانت لكم قدوة حسنة في إبراهيم خليل الله والذين معه من المؤمنين، { إذ قالوا لقومهم }؛ لأقاربهم من الكفار: { إنا برءآؤا منكم }؛ ومن دينكم، { ومما تعبدون من دون الله }؛ من الأصنام، { كفرنا بكم } ، تبرأنا منكم، { وبدا }؛ وظهر، { بيننا وبينكم العداوة }؛ بالفعل، { والبغضآء }؛ بالقول، { أبدا }؛ إلى الأبد، { حتى تؤمنوا بالله وحده }؛ تقروا وتصدقوا بوحدانية الله تعالى، فهلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم في إظهاره معاداة الكفار، وقطع الموالاة بينكم وبينهم كما فعله إبراهيم ومن معه.
قوله تعالى: { إلا قول إبراهيم لأبيه }؛ أي قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره، إلا في قوله لأبيه لأستغفرن لك، { لأستغفرن لك ومآ أملك لك من الله من شيء }؛ إن عصيته، نهوا أن يتأسوا بإبراهيم في هذا خاصة فيستغفروا للمشركين.
والمعنى: قد كانت لكم أسوة حسنة في صنع إبراهيم إلا في استغفاره لأبيه وهو مشرك. ثم بين الله عذره إبراهيم في سورة التوبة في استغفاره لأبيه فقال تعالى:
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه
[التوبة: 114] وكان هذا قبل إخبار الله تعالى أن لا يغفر أن يشرك به. وقول إبراهيم: { ومآ أملك لك من الله من شيء } معناه: لا أقدر على دفع شيء من عذاب الله عنك إن لم تؤمن.
وكان من دعاء إبراهيم وأصحابه: { ربنا عليك توكلنا }؛ أي وثقنا، { وإليك أنبنا }؛ أي فوضنا أمورنا وإليك رجعنا بالتوبة والطاعة، { وإليك المصير }؛ في الآخرة، { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنآ إنك أنت العزيز الحكيم }؛ أي لا تظهر الكفار علينا فيظنوا أنهم على الحق وأنا على الباطل فيفتنوا بها، هكذا قال قتادة. وعن ابن عباس أنه قال: (معناه: لا تسلطهم فيفتنونا). وقال مجاهد: (معناه: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا).
[60.6-7]
قوله تعالى: { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر }؛ معناه: لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة صالحة فيما يرجع إلى رجاء ثواب الله وحسن المنقلب في اليوم الآخر.
وهذا يقتضي وجوب الاقتداء بهم في أفعالهم، وأما الأولى فنهوا الاقتداء بهم في باب العداوة لله في أمر الدين. قوله تعالى: { لمن كان يرجو الله } بدل من قوله { لكم فيهم } وهذا كقوله تعالى
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
[آل عمران: 97]. ومعنى { يرجو الله } أي يخاف الله ويخاف الآخرة، { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد }؛ أي من يعرض عن الإيمان ويوالي الكفار فإن الله هو الغني عن خلقه، الحميد إلى أوليائه وأهل طاعته.
قال مقاتل: (فلما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار أظهروا لهم العداوة والبراءة امتثالا لأمر الله تعالى) فأنزل الله: { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم }؛ أي كونوا على رجاء وطمع في أن يجعل الله بينكم وبين الذين عاديتم من المشركين، { مودة }؛ يعني من كفار مكة.
ففعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم بعد الفتح، منهم أبو سفيان بن حرب؛ وأبو سفيان بن الحارث؛ والحارث بن هشام؛ وسهيل بن عمرو؛ وحكم بن حزام، وكانوا من رؤساء الكفار والمعادين لأهل الإسلام، فصاروا لهم أولياء وإخوانا، فخالطوهم وناكحوهم، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، فلان لهم أبو سفيان، فهذه المودة التي جعلها الله تعالى بينهم، { والله قدير }؛ على أن يجعل بينكم المودة، { والله غفور رحيم }؛ بهم بعد ما تابوا وأسلموا.
[60.8]
قوله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم } يعني أهل العهد الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال والمظاهرة، وهم خزاعة، { أن تبروهم } ، والمعنى: لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم، وهذا يدل على جواز البر بأهل الذمة وإن كانت الموالاة منقطعة.
ولذلك جوز أبو حنيفة ومحمد صرف صدقة الفطر والكفارات والنذور المطلقة إليهم، وأجمعوا على جواز صرف صدقة التطوع إليهم، وأجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكوات إليهم لقوله عليه السلام:
" أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم ".
وقوله تعالى: { أن تبروهم } في موضع خفض بدل من { الذين } كأنه قال عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم، وقوله تعالى: { وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين }؛ القسط إليهم أن نعطيهم قسطا من أموالنا على جهة البر، ويقال: أقسطت إلى الرجل اذا عاملته بالعدل، قال الزجاج: (معناه: وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد).
[60.9]
قوله تعالى: { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون }؛ يعني المحاربين من الكفار، نهى الله أن يتصدق عليهم، ونهى عن موالاتهم ومكاتباتهم. والمظاهرة: المعاونة للظهور بها على العدو بالغلبة.
[60.10-11]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءه من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرجعن على المشركين وأمر بامتحانهن، وقوله تعالى: { فامتحنوهن } وذلك أن تستحلف المهاجرة ما هاجرت لحدث أحدثته، ولا خرجت عشقا لرجل من المسلمين ولا خرجت إلا رغبة في الإسلام.
قال ابن عباس:
" صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار مكة عام الحديبية على أن من أتاه من مكة رده عليهم، ومن أتى مكة من أصحابه فهو لهم، ولم يردوه عليه، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كتابا لهم وختم عليه، فلما ختم عليه النبي صلى الله عليه وسلم جاءته سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة.
فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر وقال: يا محمد ردها علي، فإنك شرطت لنا ذلك عليك، وهذه طينة كتابنا لم تجف، فأنزل الله هذه الآية { يأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن }؛ فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم " بالله ما أخرجك إلينا إلا الحرص على الإيمان والرغبة فيه والمحبة لله ولرسوله وللإسلام " فحلفت بالله العظيم الذي لا إله إلا هو ما خرجت إلا لذلك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطى زوجها مهرها الذي أنفق عليها، فأعطوه مهرها وذلك معنى قوله: { وآتوهم مآ أنفقوا } ".
قوله تعالى: { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم، والله عالم بهن، وليس عليكم إلا علم الظاهر، والله أعلم بإيمانهن قبل الامتحان وبعده، فإن علمتموهن في الظاهر بالامتحان أنهن مؤمنات فلا تردوهن إلى أزواجهن الكفار بمكة، لا المؤمنات حل للكفار ولا الكفار يحلون للمؤمنات. وقوله تعالى: { وآتوهم مآ أنفقوا } أي أعطوا أزواج المهاجرات من الكفار ما أنفقوا عليهن من المهر.
قوله تعالى: { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن }؛ أي لا جناح عليكم أن تتزوجوهن إذا أعطيتموهن مهورهن ولو كان لهن أزواج كفار في دار الكفر؛ لأن الإسلام قد فرق بينها وبين الكافر، وهذا كله دليل أن الحرة إذا هاجرت إلينا مسلمة أو ذمية وقعت الفرقة بينهما بنفس المهاجرة، كما هو مذهب أصحابنا.
ولهذا قال أبو حنيفة: (إن المهاجرة لا عدة عليها لأن الله تعالى أباح للمسلمين التزوج بالمهاجرات من غير أن يشرط انقضاء العدة، ولو كانت الزوجية باقية بعد المهاجرة لما أمر الله برد مهورهن على أزواجهن.
وعلى هذا إذا خرج الزوج إلينا مسلما أو ذميا وقعت الفرقة بينه وبين امرأته، وأما إذا دخل الحربي إلينا بأمان، أو دخل المسلم دار الحرب بأمان، أو أسلم الزوجان في دار الحرب ثم خرج أحدهما إلينا لم يبطل نكاحهما).
قوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر }؛ معناه: أن المرأة المسلمة إذا كفرت والعياذ بالله زالت العصمة بينها وبين زوجها وانقطع النكاح بينهما. والكوافر: جمع كافرة، نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات.
قوله تعالى: { واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا }؛ معناه: واطلبوا من أهل مكة مهور النساء اللاتي يخرجن منكم إليهم مرتدات، وليسأل الكفار منكم ما أنفقوا على نسائهم اللواتي خرجن إليكم مهاجرات، { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم }؛ بمصالحكم، { حكيم }؛ فيما حكم بينكم وبينهم.
قال الزهري: (فلما نزلت هذه الآية أقر المسلمون بحكم الله فأما المشركون فأبوا أن يقروا) فأنزل الله تعالى: { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا }؛ معناه: إن ذهبت امرأة من نسائكم إلى الكفار فعاقبتم أي فضحتم.
قال الزجاج: (معناه: فكانت العقبى لكم، أي كانت الغلبة لكم حتى غنمتم)، فأعطوا أزواج الذين ذهبت نساؤهم مثل ما أنفقوا من المهور، قبل أن تقسم الغنائم، ثم اقسموا الغنائم كما أمر الله. وقوله تعالى: { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون }؛ أي اتقوه في مخالفة ما أمركم به.
[60.12]
قوله تعالى: { يأيها النبي إذا جآءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن }؛
" وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، جلس عند الصفا وإلى جنبه عمر رضي الله عنه والنساء يأتين يبايعنه صلى الله عليه وسلم وفيهن هند بنت عتبة متنكرة مع النساء خوفا أن يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل هذه الآية، فقال: صلى الله عليه وسلم: " أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا " فقالت هند: أشركنا وعبدنا الآلهة فما أغنت عنا شيئا.
فقال صلى الله عليه وسلم: " ولا تسرقن " فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح ممسك، وإني أصيب من ماله لغناه، ولا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها وقال: " إنك لهند بنت عتبة؟ " قالت: فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
فقال: " ولا تزنين " قالت: وهل تزني الحرة؟ فضحك عمر رضي الله عنه وقال: لا لعمري ما تزني الحرة، فقال: " ولا تقتلن أولادكن " فقالت هند: زيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى على ظهره، وتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ".
ومعنى الآية: { ولا يقتلن أولادهن } أي لا يدفن بناتهن أحياء كما كان العرب يفعلونه، فقال تعالى: { ولا يأتين ببهتن يفترينه بين أيديهن وأرجلهن }؛ أي لا تلحق بزوجها ولدا ليس منه، وذلك أن المرأة كانت تلتقط لقيطا فتضعه بين يديها ورجليها وتقول لزوجها: ولدت هذا الولد، فذاك البهتان والافتراء. ويقال: أراد بين الأيدي أن يوضع بين يديها ولد غيرها وبين أيديهن أن يأتين بولد حرام، وهذا كناية عن الفرج، فلما قال عليه السلام، قالت هند: والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
قوله تعالى: { ولا يعصينك في معروف }؛ أي وجميع ما تأمرهن وتنهاهن من النوح وشق الجيوب وخمش الوجوه ورنة الشيطان وغير ذلك من أصوات المعصية ومن صوت اللعب واللهو والمزامير وغير ذلك. والمعروف: كل ما كان طاعة، والمنكر: كل ما كان معصية، فلما قال صلى الله عليه وسلم: " ولا يعصينك في معروف " قالت هند: وما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقرت النسوة بما أخذ عليهن.
وقوله تعالى: { فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم }؛ معناه: إذا بايعنك على هذه الشروط فبايعهن، فقال صلى الله عليه وسلم: " قد بايعتكن " كلاما كلمهن به من غير أن مست يده يد امرأة، وكان على يد عمر رضي الله عنه ثوب يصافح به النساء.
قال القرظي: (ومعنى قوله تعالى: { ولا يعصينك في معروف } قال: المعروف الذي لا معصية فيه). وقال الربيع: (كل ما يوافق طاعة الله فهو معروف). قال مجاهد: (غير المعروف هو خلو المرأة بالرجل).
وعن سعيد بن المسيب: (أن معناه: ولا يحلقن ولا يخرقن ثوبا ولا ينتفن شعرا ولا يخمشن وجها ولا يحدثن الرجل إلا ذا رحم محرم، ولا تخلو المرأة برجل غير ذي رحم محرم ولا تسافر مع غير ذي رحم). وقال ابن عباس: (ولا يخن).
وعن مصعب بن نوح قال: (أدركت عجوزا ممن بايعن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثتني عن قوله تعالى: { ولا يعصينك في معروف } فقالت: النوح). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" النوائح يجعلن يوم القيامة صفين وتنبح كما تنبح الكلاب ".
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثا غبرا، عليها جلباب من لعنة ودرع من جرب، واضعة يدها على رأسها تقول: واويلاه، وملك يقول: آمين، ثم يكون من بعد ذلك حظها النار "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" أربع في أمتي من الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة "
وقال:
" النائحة إذا لم تتب قبل موتها بعام جاءت يوم القيامة عليها سربال من قطران ".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [لعن الله النائحة والمستمعة والحالقة والسالقة والواشمة والموشومة]. وعن عمر رضي الله عنه: (أنه سمع نائحة فضربها حتى وقع خمارها عن رأسها، فقيل: يا أمير المؤمنين إنها قد وقع خمارها، قال: إنها لا حرمة لها).
[60.13]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم }؛ ختم الله هذه السورة بمثل كما افتتحها به، حيث نهى المؤمنين عن تولي أعداء الله، وأراد بالقوم الذين غضب الله عليهم اليهود، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا اليهود.
قوله تعالى: { قد يئسوا من الآخرة }؛ لأنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبنائهم، وكانوا لا يؤمنون به، فآيسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير. وقيل: إنهم كانوا يزعمون أنه لا يكون في الآخرة أكل ولا شرب ولا نعمة، والمراد بذلك اليهود.
وقوله تعالى: { كما يئس الكفار من أصحاب القبور }؛ معناه: كما يئس المشركون الذين لا يؤمنون بالبعث من رجوع أصحاب القبور ومن أن يبعثوا. وقيل: معناه: كما يئس الكفار إذا ماتوا وصاروا في القبور من أن يكون لهم في الآخرة حظ، ويئسوا من أن يكون لهم في الآخرة نصيب.
[61 - سورة الصف]
[61.1-3]
{ سبح لله ما في السموت وما في الأرض وهو العزيز الحكيم }؛ قد تقدم تفسيره. قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال مقاتل: (وذلك أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملنا وبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه) فقال: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } فابتلوا يوم أحد بما أصابهم، فتولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى شج وجهه وكسرت رباعيته، فذمهم الله على ذلك فقال: { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }؛ أي عظم ذلك في المقت والبغض عند الله؛ أي أن الله يبغضه بغضا شديدا أن تعدوني من أنفسكم شيئا ثم لم توفوا به.
وموضع { أن تقولوا } رفع، وانتصب قوله { مقتا } على التمييز.
وذكر الكلبي: (أن المسلمين كانوا يقولون قبل فرض الجهاد: لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لفعلناه، فدلهم الله على ذلك بقوله تعالى:
هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم
[الصف: 10]، ولم يبين ما هي، فمكثوا على ذلك ما شاء الله، ثم قالوا: يا ليتنا نعلم ما هي فنسارع إليها، فأنزل الله تعالى
تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله
[الصف: 11] إلى آخر الآيات).
وقال قتادة: (كان الرجل إذا خرج إلى الجهاد ثم رجع قال: قلت وفعلت، ولم يكن فعل، فأنزل الله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } ).
[61.4]
قوله تعالى: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا }؛ يحب الذين يصفون أنفسهم عند القتال صفا { كأنهم بنيان مرصوص }؛ أي ملتزق بعضه إلى بعض، أعلم الله أنه يحب من تثبت في القتال ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص الذي قد أحكم وأتقن، ليس فيه فرجة ولا خلل.
[61.5]
قوله تعالى: { وإذ قال موسى لقومه يقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم }؛ في هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما لقي من أذى الكفار والمنافقين، وقد مر تفسير أذاهم موسى في سورة الأحزاب.
قوله تعالى: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }؛ أي بإيذائهم أمالها عن الحق وخذلها ومنعها الهدى مجازاة لهم بايذائهم، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } إلى ثوابه وجنته.
[61.6]
قوله تعالى: { وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين }؛ معناه: واذكر يا محمد لقومك قصة عيسى وعاقبة من آمن معه، وعاقبة من كفر.
قوله تعالى: { مصدقا } نصب على الحال؛ أي في حال تصديقي بالتوراة التي أوتيها موسى عليه السلام من قبلي، وفي حال تبشيري برسول من بعدي يأتي اسمه أحمد.
وذلك أن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام: يا روح الله هل من بعدنا من أمة؟ قال: نعم؛ أمة أحمد. قالوا: يا روح الله وما أمة أحمد؟ قال: حكماء علماء أبرار أتقياء؛ كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل، ويدخلهم الجنة ب لا إله إلا الله.
وفي تسمية نبينا عليه السلام أحمد قولان: أحدهما: أن الأنبياء كانوا حمادين لله تعالى، ونبينا صلى الله عليه وسلم أحمد؛ أي أكثر حمدا لله منهم، فيكون معنى أحمد المبالغة في الفاعل.
والثاني: الأنبياء كلهم محمودون، ونبينا عليه السلام أكثر مناقبا للفضائل، فيكون معناه مبالغة من المفعول، يعني إنه يحمد بما فيه من الأخلاق والمحاسن أكثر مما يحمد غيره.
قال صلى الله عليه وسلم:
" إن لي أسماء: أنا أحمد؛ وأنا محمد؛ وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي ".
[61.7-8]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفوههم والله متم نوره ولو كره الكفرون }؛ معناه: وأي ظلم من الكفرة ممن افترى على الله الكذب بأن جعل لله شريكا أو ولدا وهو يدعى إلى دين الإسلام، والله يرشده إلى دينه، ومن كان في سابق علمه أنه يموت على الكفر.
[61.9]
قوله تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون }؛ أي هو الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والدعاء إلى دين الحق ليظهره على جميع الأديان، وإن كره المشركون ذلك، فلا تقوم الساعة حتى لا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وأدوا الجزية إلى المسلمين.
وقوله تعالى قبل هذه الآية { يريدون ليطفئوا نور الله بأفوههم } يريدون ليغلبوا دين الله مع ظهوره وقوته بتكذيبهم بألسنتهم، كمن أراد إطفاء نور الشمس بأخف الأشياء وهو الريح التي يخرجها من فيه { والله متم نوره } أي هداه ومظهر دينه، وغالب أعدائه وناصر أوليائه على عدوهم من الكفار.
[61.10]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم }؛ أي هل أدلكم على طاعة تخلصكم من عذاب مؤلم. وإنما سميت الطاعة تجارة لأنه يربح عليها الجنة والثواب كما يربح على تجارة الدنيا زيادة المال.
[61.11]
قوله تعالى: { تؤمنون بالله ورسوله }؛ تفسير للتجارة المذكورة، وإنما قدم ذكر الإيمان في هذه الآية لأنه رأس الطاعات، وقوله تعالى: { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم }؛ أي وتجاهدون العدو في طاعة الله بنفقتكم وخروجكم من أنفسكم، وقد تكون الطاعات بالمال دون النفس بأن يجهز غازيا بماله، وقد تكون بالنفس دون المال بأن يجاهد بنفسه بمال غيره.
قوله تعالى: { ذلكم خير لكم }؛ أي التجارة التي دللتكم عليها خير من التجارة في الأموال، { إن كنتم تعلمون }؛ ثواب الله، لأن تلك التجارة تؤدي إلى ربح لا يزول ولا يبيد بخلاف التجارة في الأموال في أمور الدنيا.
[61.12]
قوله تعالى: { يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار }؛ إنما جزم { يغفر } على المعنى، تقديره: إن فعلتم ذلك يغفر لكم، وقال الزجاج: (هو جواب تؤمنون وتجاهدون؛ لأن معناه الأمر، كأنه قال: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا يغفر لكم).
قوله تعالى: { ومساكن طيبة }؛ المساكن الطيبة هي المنازل التي طيبها الله بالمسك والرياحين، { في جنات عدن }؛ أي في بساتين إقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به. وقوله تعالى: { ذلك الفوز العظيم }؛ أي ذلك الذي ذكرت لكم هو التجارة العظيمة، والنعيم المقيم.
[61.13]
قوله تعالى: { وأخرى تحبونها }؛ أي ذلكم خصلة أخرى في العاجلة تحبونها مع ثواب الآخرة، وهي الغنيمة والفتح، { نصر من الله }؛ على أعدائكم، { وفتح قريب }؛ أي عاجل يعني فتح مكة، وقيل: فتح عامة البلاد. وقوله تعالى: { وبشر المؤمنين }؛ أي بشرهم بهاتين النعمتين: نعمة العاجل ونعمة الآجل، ومعناه: بشر المؤمنين يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
[61.14]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله }؛ أي كونوا أنصار دين الله على أعدائه بالسيف ودوموا على ذلك، كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام.
وقرئ (أنصار الله) من غير تنوين. والأنصار: جمع ناصر، كصاحب وأصحاب، والحواريون: خلصاء الأنبياء الذين نقوا من كل عيب، ومنه الدقيق الحواري وهو المنقى.
وقوله تعالى: { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله } أي مع الله كما في قوله تعالى:
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم
[النساء: 2].
وقوله تعالى: { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طآئفة من بني إسرائيل }؛ أي صدقت جماعة منهم بعيسى، { وكفرت طآئفة }؛ وذلك أنه لما رفع عيسى عليه السلام تفرق قومه ثلاث فرق:
فرقة قالوا كان الله فارتفع، وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه الله، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه الله إليه وهم المؤمنون. فاتبع كل فريق منهم طائفة من الناس، فاقتتلوا فظهر الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث محمد صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة، فذلك قوله تعالى: { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين }؛ أي غالبين، والمعنى: فاصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى عبد الله، وكلمته وروحه والتأييد.
وعن الحسن قال: (سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية قوله تعالى: { ومساكن طيبة في جنات عدن } ، فقال أبو هريرة:
" سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوت أحمر، في كل دار سبعون بيتا من زمرد أخضر، في كل بيت سبعون سريرا وسبعون فراشا، على كل فراش امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من طعام، يعطي الله المؤمنين من القوة ما يأتي على ذلك كله " ".
[62 - سورة الجمعة]
[62.1]
{ يسبح لله ما في السموت وما في الأرض }؛ ظاهر المعنى، { الملك القدوس العزيز الحكيم }؛ القدوس: المستحق للتعظيم لتنزيه صفاته عن كل نقص، ويقال: معناه: كثير البركة.
[62.2]
قوله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم }؛ الأميون هم العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا من أهل الكتاب. وأول ما ظهرت الكتابة في العرب ظهرت في أهل الطائف، تعلموا من الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار.
وقوله تعالى { رسولا منهم } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نسبه مثل نسبهم وجنسه مثل جنسهم، { يتلوا عليهم آياته }؛ يعني القرآن، { ويزكيهم }؛ أي يطهرهم من الدنس والكفر، فيجعلهم أزكياء بما يأمرهم به من التوحيد ويدعوهم إليه من طاعة، { ويعلمهم الكتاب والحكمة }؛ أي القرآن والعلم، { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }؛ أي وقد كانوا قبل مجيئه إليهم بالقرآن لفي ظلال مبين، يعبدون الأصنام ويستقسمون بالأزلام.
[62.3]
قوله تعالى: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم }؛ معناه: وبعثه في آخرين منهم يعني الأعاجم، والنبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل من شاهده من العرب والعجم وإلى كل من يأتي منهم بعد ذلك.
وقوله تعالى { منهم } لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، والمسلمون كلهم يد واحدة وأمة واحدة وإن اختلف أجناسهم. وقوله تعالى: { لما يلحقوا بهم } في الفضل والسابقة؛ لأن التابعين لا يدركون شأن الصحابة.
[62.4]
قوله تعالى: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء }؛ يعني الإسلام والهداية إلى دينه، وقيل: النبوة والكتاب والإسلام يعطيه الله قريشا ممن يراه أهلا له به، { والله ذو الفضل العظيم }؛ على من اختصه بالنبوة والإسلام، وقيل: ذو المن العظيم على خلقه ببعث محمد صلى الله عليه وسلم.
[62.5]
قوله تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها }؛ معناه: مثل اليهود الذين أمروا بما في التوراة، ويظهروا صفة محمد ونعته فيها، ثم لم يفعلوا ما أمروا به ولم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، { كمثل الحمار يحمل أسفارا }؛ أي يحمل كتبا من العلم عظاما لا يدري ما عليه وما حمل.
والأسفار: جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شبة اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة وهي دالة على الإيمان بالحمار يحمل كتب العلم، ولا يدري ما فيه، وليس حمل التوراة من الحمل على الظهر، وإنما هو من الحمالة وهو الضمان والكفالة والقبول كما في قوله تعالى
فأبين أن يحملنها
[الأحزاب: 72] أي يقبلنها. فاليهود ضمنوا العمل بها ثم لم يفعلوا بما ضمنوا وجحدوا بعض ما حملوا، فلذلك قيل: { ثم لم يحملوها }.
قوله تعالى: { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله }؛ يعني اليهود كذبوا بالقرآن وبالتوراة حين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، { والله لا يهدي القوم الظالمين }؛ الذين ظلموا أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء.
[62.6-8]
قوله تعالى: { قل يأيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين }؛ هذا جواب لليهود في قولهم
نحن أبناء الله وأحباؤه
[المائدة: 18] وقال الله تعالى لنبيه: قل لهم: إن ادعيتم أنكم أحباء الله وأهل ولايته وأن الجنة في الآخرة لكم من دون الناس، فاسألوا الله الموت إن كنتم صادقين في مقالتكم، قولوا: اللهم أمتنا كي تصلوا إلى نعيم الآخرة وتستريحوا من تعقب الدنيا، وسيميتكم الله إن قلتم ذلك.
كما روي في الحديث:
" أنه لما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " قولوا: اللهم أمتنا، فوالذي نفسي بيده، ليس أحد منكم يقول ذلك إلا غص بريقه فمات مكانه " فكرهوا ذلك وأبوا أن يقولوا "
، وعرفوا أنه سيكون ذلك إن قالوا. فأنزل الله تعالى: { ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم }؛ أي لا يتمنون ذلك بما قدموا من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتحريف لصفته في التوراة.
قوله تعالى: { والله عليم بالظالمين }؛ إخبار عن معلوم الله فيهم، حذرهم الله بقوله: { قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم }؛ أي قل يا محمد لليهود: إن الموت الذي تفرون منه لأن تلقوه فإنه نازل بكم لا محالة عند انقضاء آجالكم، { ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون }؛ من خير أو شر.
[62.9]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع }؛ يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذا كان على عهد أبي بكر وعمر.
والنداء المشروع لهذه الصلاة الأذان الثاني يقوله المؤذن عند صعود الإمام المنبر، كما روي عن السائب بن يزيد أنه قال (ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد يؤذن إذا قعد على المنبر، ثم يقيم إذا نزل، ثم أبو بكر كذلك، ثم عمر كذلك، فلما كان في أيام عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد نداء غيره).
قوله تعالى: { فاسعوا إلى ذكر الله } يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة، والسعي: هو إجابة النداء في هذه الآية، والمبادرة إلى الجمعة، وفي قراءة ابن مسعود رضي لله عنه (فامضوا إلى ذكر الله) وكان يقول : (لو أمرت بالسعي لسعيت حتى سقط ردائي). وقيل: السعي هنا هو العمل إذا نودي للصلاة فاعملوا على المعنى إلى ذكر الله من التفرغ له والاشتغال بالطهارة والغسل والتوجه إليه بالقصد والنية.
واختلف مشائخنا: هل يجب على الإنسان الإسراع والعدو إذا خاف فوت الجمعة أم لا؟ قال بعضهم: يلزمه ذلك بظاهر النص، بخلاف السعي إلى سائر الجماعات لا يؤمر به وإن خاف الفوت. وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك، وليس السعي إلا العمل كما قال تعالى
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
[النجم: 39]. وقال صلى الله عليه وسلم:
" إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا "
، وهذا عام في جميع الصلوات.
قال بعضهم: فاسعوا إلى ذكر الله، يعني الصلاة مع الإمام، وذلك هو المراد بذكر الله. وقال بعضهم: هي الخطبة لأنها تلي النداء، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من اغتسل يوم الجمعة خرجت ذنوبه وخطاياه، فإذا راح كتب الله له بكل قدم عمل عشرين سنة، فإذا قضيت الصلاة أجيز بعمل مائتي سنة ".
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله، ولبس من صالح ثيابه، ومس من طيب بيته أو دهنه، ثم لم يفرق ما بين اثنين، غفر الله له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام بعدها ".
وعن أنس رضي الله عنه:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: " يا معشر المسلمين، إن هذا يوما جعله الله عيدا للمسلمين فاغتسلوا فيه، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك " ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ليلة أسري بي رأيت تحت العرش سبعين مدينة، كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة، يسبحون الله ويقدسونه، ويقولون في تسبيحهم: اللهم اغفر لمن شهد الجمعة، اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن يوم الجمعة وليلتها أربع وعشرون ساعة، لله تعالى في كل ساعة ستمائة ألف عتيق من النار ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لعل أحدكم يتخذ الضيعة على رأس ميل أو ميلين وثلاثة، تأتي عليه الجمعة فلا يشهدها، ثم تأتي الجمعة فلا يشهدها، ثم تأتي عليه الجمعة فلا يشهدها، فيطبع على قلبه ".
وقال صلى الله عليه وسلم في الجمعة:
" من تركها استخفافا بها أو جحودا لها، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا فلا صلاة له، ألا فلا زكاة له، ألا فلا صيام له، ألا فلا حج له، إلا أن يتوب عليه، فإن تاب، تاب الله عليه ".
قوله تعالى: { وذروا البيع } قال الحسن: (إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء ولا البيع، فمن باع تلك الساعة فقد خالف الأمر، وبيعه منعقد) لأنه نهي تنزيه لقوله تعالى: { ذلكم خير لكم }؛ وهذا على الترغيب في ترك البيع، { إن كنتم تعلمون }؛ ما هو خير لكم وأصلح.
قرأ العامة (من يوم الجمعة) بضمتين، وقرأ الأعمش بجزم الميم وهما لغتان، قال الفراء: (وفيها لغة ثالثة: جمعة بفتح الميم كما يقال: رجل ضحكة وهمزة ولمزة، وهي لغة بني عقيل).
وإنما سمي هذا اليوم جمعة لما روي عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سميت الجمعة جمعة لأن آدم جمع فيها خلقه "
وقيل: إن الله تعالى فرغ فيه من خلق المخلوقات. وقيل: تجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة. وقيل: أول من سماها جمعة كعب بن لؤي، وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة. وقيل: أول من سماها جمعة الأنصار.
[62.10]
قوله تعالى: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض }؛ أي إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض، هذا أمر إباحة، قال ابن عباس: (إن شئت فاخرج، وإن شئت فصل إلى العصر، وإن شئت فاقعد). وكذلك قوله تعالى: { وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }؛ إباحة لطلب الرزق والتجارة والبيع بعد المنع.
وعن ابن عباس قال: (لم تؤمروا في هذه الآية بطلب شيء من الدنيا، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى). وقال الحسن: ( { وابتغوا من فضل الله } يعني طلب العلم). والقول الأول أظهر.
واختلف العلماء في موضع وجوب الجمعة، وعلى من تجب، وكم يشترط له الجماعة؟ فقال أبو حنيفة: (لا تجب الجمعة إلا في مصر جامع لقوله عليه السلام:
" لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع "
ولا تصح في القرى، ولا تجب على السواد ولو قربت من المصر، إلا إذا كانت متصلة به).
وقال الشافعي: (تجب الجمعة على أهل السواد إذا سمعوا النداء من المصر، ووقت اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيتا، والأصوات هادئة والريح ساكنة).
وقال ابن عمرو وأبو هريرة وأنس: (تجب على كل من كان على عشرة أميال من المصر). وقال سعيد بن المسيب: (تجب على من كان دون المبيت). وقال الزهري: (على ستة أميال)، وقال ربيعة: (أربعة أميال)، وقال مالك: (ثلاثة أميال).
وعند الشافعي: (تجب الجمعة في كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا أحرارا بالغين، لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة، فإذا كان كذلك وجب عليهم إقامة الجمعة. وإن كان أقل من ذلك، وكان بقربها موضع تقام فيه الجمعة، فعليهم الحضور فيه للجمعة إذا كانوا بحيث يسمعون النداء). وقال مالك: (إذا كانت القرية فيها سوق ومسجد وجب عليهم إقامة الجمعة).
وأما أهل الوجوب، فتجب الجمعة على كل مسلم إلا على أربعة: عبد؛ أو مريض؛ أو مسافر؛ أو امرأة، فمن استغنى عنها بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد.
وأما العدد الذين تنعقد بهم الجمعة، فقال الحسن: (تنعقد باثنين)، وقال أبو يوسف والليث بن سعد: (بثلاثة)، وقال أبو حنيفة ومحمد وسفيان: (بأربعة)، وقال ربيعة: (باثني عشر)، وقال الشافعي: (لا تنعقد إلا بأربعين).
[62.11]
قوله تعالى: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما }؛ قال الحسن:
" أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بتجارة، وكان يقدم المدينة بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وغيره، فينزل في سوق المدينة ويضرب الطبل ليعلم الناس بقدومه، فيخرجون إليه ليبتاعوا منه.
فقدم ذات يوم جمعة - وكان قبل إسلامه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب على المنبر، فضرب الطبل فخرج الناس من المسجد، ولم يبق إلا ثمانية رهط ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم - وقيل: بقي اثنى عشر رجلا وامرأة - فقال صلى الله عليه وسلم: " لو لحق آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم نارا " فأنزل الله هذه الآية ".
وقوله تعالى { انفضوا إليها } أي تفرقوا بالخروج إليها { وتركوك قآئما } على المنبر تخطب. وفي هذا دليل على وجوب استماع الخطبة؛ لأن الله تعالى عاتبهم على ترك الاستماع، ولو لم يكن فرضا لم يعاتبوا على ذلك.
ويستدل من هذه الآية على أن من السنة أن يخطب الإمام قائما. والكناية في قوله تعالى: { إليها } راجعة إلى التجارة دون اللهو، وإنما خصت التجارة برد الضمير إليها؛ لأنها كانت أهم إليهم لأن السنة كانت سنة مجاعة وغلاء سعر.
قوله تعالى: { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة }؛ معناه: ما عند الله من ثواب الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة، { والله خير الرازقين }؛ أي ليس يفوتهم من أرزاقهم لتخلفهم عن الميرة شيء، ولا بتركهم البيع في وقت الصلاة.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1]
{ إذا جآءك المنافقون }؛ معناه: إذا جاءك يا محمد منافقوا أهل المدينة عبدالله بن أبي وأصحابه، { قالوا نشهد إنك لرسول الله } ، قالوا: نقسم إنك لرسول الله، وعلى ذلك ضميرنا واعتقادنا، { والله يعلم إنك لرسوله } ، من غير شهادة المنافقين وحلفهم { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }؛ أي والله يخبر أن المنافقين لكاذبون فيما يعتقدونه بقلوبهم وما يقولون بألسنتهم، فهم كاذبون في إخبارهم عما في ضمائرهم، فأما شهادتهم بألسنتهم أنه رسول الله فقد كانت صدقا.
[63.2]
قوله تعالى: { اتخذوا أيمانهم جنة }؛ أي سترة يدفعون بها عن أنفسهم السبي والقتل والجزية كمن أعد على نفسه جنة لدفع الجراح. قوله تعالى: { فصدوا عن سبيل الله }؛ أي منعوا الناس عن طاعة الله وامتنعوا عنها، { إنهم سآء ما كانوا يعملون }؛ في نفاقهم من الكذب والخيانة.
وفي هذه الآية دليل أن قول الرجل: أشهد، يمين؛ لأن القوم قالوا (نشهد) فجعله الله يمينا في هذه الآية، وعلى هذا أقسم وأعزم وأحلف، كلها إيمان عند أبي حنيفة وصاحبيه، والثوري والأوزاعي.
وقال مالك: (إن أراد به اليمين فهو يمين)، وقال الشافعي: (أقسم ليس بيمين وأقسم بالله يمين). وفي قراءة الحسن (اتخذوا إيمانهم) بكسر الألف، أي إنا مؤمنون، اتخذوه تقية عن القتل.
[63.3]
قوله تعالى: { ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون }؛ أي ذلك الحكم بنفاقهم، ويقال: ذلك الصد بأنهم كانوا مؤمنين في العلانية بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا عادوا إلى قومهم ثبتوا على الكفر في السر، فأورث ذلك طبعا على قلوبهم فهم لا يفقهون الإيمان والقرآن، ولا يعون ما يوعظون به.
[63.4]
قوله تعالى: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم }؛ أي في صحة أجسامهم وحسن منظرهم؛ لأنهم يكونون على صورة حسنة، وكان عبدالله بن أبي رجلا فصيحا لسنا، وكانوا إذا قالوا شيئا أصغى النبي صلى الله عليه وسلم لحسن كلامهم، ولهذا أدخلت اللام في { تسمع لقولهم } ، ويجوز أن يكون معناه: إلى قولهم.
قوله تعالى: { كأنهم خشب مسندة }؛ فيه بيان في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب المسندة إلى الجدار، لا ينتفع إلا بالنظر إليها، والخشب لا أرواح فيها ولا تعقل ولا تفهم، وكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلونه. و(المسندة) الممالة إلى الجدار، ويقرأ (خشب، وخشب) بجزم الشين، ومنها.
قوله تعالى: { يحسبون كل صيحة عليهم }؛ أي يظنون من الجبن والخوف أن كل من خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يخاطبه في أمرهم وكشف نفاقهم. ويقال: لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أن قد أتوا (فإذا نادى مناد في العسكر، وانفلتت دابة، أو أنشدت ضالة، ظنوا أنهم يرادون مما في قلوبهم من الرعب) أن يكشف الله أسرارهم.
قوله تعالى: { هم العدو }؛ ابتداء كلام، والمعنى: هم على الحقيقة العدو الأدنى إليك، { فاحذرهم }؛ يا محمد ولا تأمنهم وإن أظهروا أنهم معك، ولا تطلعهم على سرك كأنهم عيون لأعدائك من الكفار.
قوله تعالى: { قاتلهم الله أنى يؤفكون }؛ أي لعنهم الله وأخزاهم وأحلهم محل من يقاتله عدوا قاهرا له، { أنى يؤفكون } أي يصرفون من الحق إلى الباطل.
[63.5]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون }؛ أي إذا قيل لهؤلاء المنافقين بعد ما افتضحوا: هلموا إلى رسول الله يستغفر لكم ذنوبكم، عطفوا رؤوسهم استهزاء به ورغبة عن الاستغفار، ورأيتهم يصدون عن الاستغفار وعن طلب المغفرة.
ومعنى { يصدون } أي يمتنعون، ويمنعون غيرهم عن طلب المغفرة، وهم مستكبرون عن استغفار رسول الله لهم وعن قبول الحق. وذلك: أن عبدالله بن أبي لما رجع من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه، فقال له بنوا أبيه؛ إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك، قال: لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لي. ومن قرأ (لووا) بالتخفيف فهو من لوى يلوي إذا صرف الشيء وقلبه.
[63.6-8]
قوله تعالى: { سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم }؛ أي سواء عليهم الاستغفار وتركه، { لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفسقين }؛ لإبطانهم الكفر. وهذا في قوم مخصوصين علم الله أنهم لا يؤمنون فلم يستغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم، { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا }.
" وذلك: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا نزولا على الماء في غزوة بني المصطلق، إذ وقع بين غلام لعمر رضي الله عنه من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد يقود لعمر فرسه وبين غلام لعبدالله بن أبي سلول يقال له: سنان الجهني، فأقبل جهجاه يقود فرس عمر فازدحم هو وسنان على الماء فاقتتلا، فصرخ سنان: يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين. فاشتبك الناس وعلت الأصوات.
فقال عبدالله بن أبي: ما أدخلنا هؤلاء القوم في ديارنا إلا ليركبوا أعناقنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما يقول القائل: سمن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني الأعز نفسه والأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتموه لنفسكم أحللتموهم بلادكم، قاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم طعامكم ومنعتم أصحاب هذا الرجل الطعام لتفرقوا عنه ورجعوا إلى عشائرهم، وتحولوا عن بلادهم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا؛ أي يتفرقوا من حول محمد.
فسمع زيد بن أرقم كلامه، فقال: والله أنت الذليل البغيض، القليل المبغوض في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز الرحمن وعزة من المسلمين: ثم ذهب زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ترعد له أنف كثير بيثرب. فقال عمر: فإن كرهت يا رسول الله أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن معاذ أو محمد بن مسلمة أو عباد بن بشر فليقتلوه.
فقال صلى الله عليه وسلم: " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ولكن أذن بالرحيل " وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبدالله بن أبي فأتاه، فقال له: " أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني؟ " فقال: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب.
وكان عبدالله بن أبي في قومه شريفا عظيما، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا عبدالله بن أبي، لا تصدق عليه كلام صبي من غلمان الأنصار، عسى أن يكون هذا الصبي وهم في حديثه ولم يحفظ ما قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. وفشت الملامة من الأنصار لزيد وكذبوه، فقال له عمه: ما أردت يا ولد إلا أن كذبك رسول الله والناس ومقتوك. وكان زيد يساير النبي صلى الله عليه وسلم فاستحى بعد ذلك أن يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبلغ ولد عبدالله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني فأنا أحمل إليك دأبته، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتله يمشي بين الناس، فأخاف أن أقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال صلى الله عليه وسلم: " بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا ".
وكذلك جاء أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقد كنت في ساعة لم يكن يمشى فيها، فقال له: " أوما بلغك ما قال صاحبك؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " فقال أسيد: بل أنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، فوالله يا رسول الله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فهو يرى أنك سلبته ملكه.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وافى المدينة، فأنزل الله هذه الآية { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } الآية إلى قوله: { ولله خزآئن السموت والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل }؛ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد فقال: " يا زيد إن الله صدقك ".
وكان عبدالله بن أبي بقرب المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاء ابنه عبدالله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة ومنع أباه أن يدخلها، فقال له: ما لك؟ قال: ويلك! والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز ومن الأذل.
فشكا عبدالله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منع ابنه، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: " أن دعه يدخل " فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم. فلبث بعد أن دخل أياما قلائل ثم مرض ومات ".
قوله تعالى: { ولله خزآئن السموت والأرض } أي هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين لا هو؛ لأن خزائن السماوات والأرض المطر والنبات، وهما لله فلا يقدر أحد أن يعطي شيئا إلا بإذنه ولا يمنعه شيئا وبمشيئته { ولكن المنافقين لا يفقهون } إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وقال الجنيد: (خزائن السماوات الغيب، وخزائن الأرض القلوب، وهو علام الغيوب مقلب القلوب). وقال رجل لحاتم الأصم: (من أين تأكل؟ فقال: { ولله خزآئن السموت والأرض } ).
قوله تعالى: { يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة } يعني من هذه الغزوة وهي غزوة بني المصطلق حي من هذيل، { ليخرجن الأعز منها الأذل } قد ذكرنا قائل هذه المقالة وهو عبدالله بن أبي.
قيل: إن إبنه عبدالله قال له: أنت والله الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز. وكان عبدالله بن أبي يعني بالأعز نفسه، فرد الله عليه فقال: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين }؛ فعزة الله تعالى بقهره لخلقه، ولرسوله بإظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصره إياهم على أعدائهم فهم ظاهرون. وقوله تعالى: { ولكن المنافقين لا يعلمون }؛ ولو علموا ما قالوا هذه المقالة.
[63.9]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله }؛ أي لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، يعني الصلاة المفروضة، والمعنى: لا تشغلكم كثرة أموالكم وحفظها وتنميتها، ولا تربية الأولاد وإصلاح حالهم عن طاعة الله وعن الصلاة.
قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون }؛ أي ومن ينشغل بالمال والأولاد عن طاعة الله فأولئك هم المغبونون لذهاب الدنيا والآخرة عنهم، وهلاك أنفسهم التي هي رأس مالهم.
[63.10]
قوله تعالى: { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت }؛ معناه: وأنفقوا الأموال في الزكاة والجهاد وغيرهما من الحقوق الواجبة من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيعلم أنه ميت، { فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق }؛ في الدنيا؛ أي يتمنى القليل من التأخير ليتصدق به ويكون من الصالحين بالتلافي والتوبة واستئناف العمل الصالح، ولا ينفعه تمنيه عند ذلك، والمعنى: إنه يستزيد في أجله حتى يتصدق ويزكي.
قوله تعالى: { وأكن من الصالحين }؛ قيل: إن معناه وأحج، عن ابن عباس. وقوله: { وأكن من الصالحين } على قراءة من جزم عطفه على موضع { فأصدق } لأنه على معنى إن أخرجتني أصدق وأكن، ولولا الفاء لكان فأصدق مجزوم، ومن قرأ (وأكون) فهو عطف على لفظ { فأصدق }. وانتصب قوله تعالى { فأصدق } لأنه جواب التمني، فالفاء وأصله: فأتصدق.
[63.11]
قوله تعالى: { ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ }؛ أي لا يؤخرها عن الموت إذا جاء وقت إهلاكها، { والله خبير بما تعملون }؛ من الخير والشر، وبمن أخر في أجله أنه يتوب أو لا يتوب.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-2]
{ يسبح لله ما في السموت وما في الأرض }؛ قد تقدم تفسيره، وقوله: { له الملك وله الحمد }؛ أي له الملك الدائم الذي لا يزول، وله الحمد في السماوات والأرض، { وهو على كل شيء }؛ من أمور الدنيا والآخرة، { قدير }. قوله تعالى: { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير }؛ ظاهر المعنى.
[64.3-4]
قوله تعالى: { خلق السموت والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم }؛ أي صوركم في أرحام الأمهات، فجعل صوركم أحسن من صور سائر الحيوانات، { وإليه المصير }؛ في الآخرة، وباقي الآيتين، { يعلم ما في السموت والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور }؛ ظاهر المعنى.
[64.5-6]
قوله تعالى: { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم }؛ أي ألم يأتكم خبر الذين كفروا من قبلكم من الأمم الخالية كيف أذاقهم الله عقوبة تكذيبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب. جميع، { ذلك }؛ العذاب، { بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات }؛ أي بالمعجزات، { فقالوا أبشر يهدوننا }؛ فقالوا آدمي مثلنا يدعونا إلى خلاف دين آبائنا، { فكفروا }؛ بالكتب والرسل وأعرضوا عن القبول منهم، { وتولوا واستغنى الله }؛ عن إيمانهم وطاعتهم، { والله غني }؛ عن أفعال العباد، { حميد }؛ في إنعامه عليهم.
ومعنى قوله { وبال أمرهم } أصل الوبال من الثقل، يقال: أمر وبيل؛ أي ثقيل، يسمى جزاء المعصية وبالا لثقله.
[64.7-8]
قوله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا }؛ أي قال كفار مكة قولا بالظن غير يقين أنهم لا يبعثون بعد الموت، { قل }؛ لهم يا محمد: { بلى وربي لتبعثن }؛ بعد الموت، { ثم لتنبؤن بما عملتم }؛ في الدنيا { وذلك }؛ الجزاء والبعث، { على الله يسير }؛ أي سهل هين، { فآمنوا }؛ يا أهل مكة، { بالله ورسوله }؛ محمد صلى الله عليه وسلم، { والنور الذي أنزلنا }؛ يعني القرآن، { والله بما تعملون خبير }.
[64.9-10]
قوله تعالى: { يوم يجمعكم ليوم الجمع }؛ يعني يوم القيامة يجمع فيه الأولون والآخرون، { ذلك يوم التغابن }؛ يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، فلا غبن أبين منه، هؤلاء يدخلون الجنة وهؤلاء يدخلون النار. والغبن: فوت الحظ والمراد.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من مؤمن يدخل الجنة إلا وقد رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. وما من عبد كافر يدخل النار إلا وقد رأى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ".
فالمغبون من غبن أهله ومنازله من الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل كافر بتقصيره في الأحسن وتضييعه الأيام. { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم * والذين كفروا وكذبوا بآيتنآ أولئك أصحب النار خلدين فيها وبئس المصير }.
[64.11-13]
قوله تعالى: { مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله }؛ أي ما أصاب أحدا في البدن والأهل والمال إلا بعلم الله وقضائه، { ومن يؤمن بالله }؛ أي من يصدق بأن المصيبة من الله، { يهد قلبه } ، للرضا والصبر، ويقال: يوفقه للاسترجاع.
وقرأ السلمي: (يهد قلبه) على ما لم يسم فاعله، وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز والرفع في قوله (يهدئ قلبه) على معنى يسكن قلبه. { والله بكل شيء عليم * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين * الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.
[64.14]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم }؛ وذلك أن الرجل كان لا يستطيع أن يهاجر مع أزواجه وأولاده، وكان إذا أراد أن يهاجر بنفسه تعلقت به امرأته وأولاده وقالوا له: إلى من تدعنا؟ ننشدك الله أن تجلس وتدع الهجرة، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة، ينهاهم عن ذلك ويحذرهم طاعة الأزواج والأولاد في معصية الله، وذلك قوله تعالى: { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم }.
ودخول (من) هنا يدل على أنه ليس جميع الأزواج والأولاد عدوا، وإنما منهم من يحب هلاككم ليرث مالكم، وأي عدو أعدى ممن يحب موتك لمنفعة نفسه، ومنهم من يحملوكم على أن تعصوا الله بأخذ غير الواجب، ويمنع الواجب لمنفعة ترجع إليهم، ومعنى قوله تعالى { فاحذروهم } أي فاحذروا أن تطيعوهم وتدعوا الهجرة.
قوله تعالى: { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم } وذلك أن الرجل كان إذا أراد الجهاد والهجرة عرض على امرأته وقرائبه إذا أبوا عليه أقسم أن لا ينفق عليهم، فإذا عاد كف عن النفقة ليمينه، فقيل لهم: { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا } أي وإن تعفوا عنهم وتجاوزوا عن صدهم إياكم، وتغفروا ذنوبهم بعد ما رجعتم وبعد ما اجتمعتم في دار الهجرة، ولم تكافؤوهم عن سوء ما فعلوه، { فإن الله غفور رحيم } يغفر لكم كذلك كثيرا من ذنوبكم.
وقيل: معنى الآية: إن الرجل من هؤلاء إذا رأى الناس قد سبقوه إلى الهجرة وتفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وأولاده الذين يبطئونه عن الهجرة، وإن لحقوا به في الهجرة لم ينفق عليهم، فأنزل الله تعالى { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم }.
[64.15]
قوله تعالى: { إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة }؛ أي بلاء وشغل عن الآخرة، والإنسان بسبب المال والولد يقع في العظائم ويتناول الحرام إلا من عصمه الله، { والله عنده أجر عظيم }؛ إن لم يشغله ماله وولده عن طاعة الله.
وعن بريدة قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: " صدق الله عز وجل { إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة } نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر عنهما حتى قطعت حديثي ورفعتهما " ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته ".
[64.16]
قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }؛ أي اتقوا الله جهدكم وقدروا سعيكم باجتناب محارمه وأداء فرائضه وجميع طاعاته، { واسمعوا }؛ ما تؤمرون به، { وأطيعوا }؛ أمر رسوله، { وأنفقوا }؛ من أموالكم في طاعة الله يكن ذلك، { خيرا لأنفسكم }؛ لأن نفع الآخرة أعظم، ويقال: الخير ها هنا المال، كأنه قال: أنفقوا مالا من أموالكم، وهذه الآية نسخت قوله تعالى:
اتقوا الله حق تقاته
[آل عمران: 102].
وقوله تعالى: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }؛ أي من يدفع عنه بخل نفسه فأولئك هم المزكون لطلبتهم. والشح الذي في اللغة: منع الواجب، ومن الشح أن يعمد الرجل إلى مال غيره فيأكله.
[64.17-18]
قوله تعالى: { إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم }؛ معناه: إن تعطوا في الصدقة مالا عن حسبة صادقة من قلوبكم، يقبله منكم ويضاعفه لكم ويغفر لكم ذنوبكم، { والله شكور }؛ يقبل اليسير ويعطي الجزيل من الثواب، { حليم }؛ لا يعجل بالعقوبة على من بخل بالصدقة، واستحق العقوبة على ذنوبه، { عالم الغيب والشهادة }؛ أي يعلم ما تكنه صدوركم مما لا تعلمه الحفظة، ويعلم كل ما ظهر مما سقط من ورقة، وما قطر من قطر المطر، وهو، { العزيز }؛ في ملكه وسلطانه، { الحكيم }؛ في أمره وقضائه.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1]
{ يأيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون داخلون فيه؛ لأن خطاب الرئيس خطاب للأتباع، خصوصا إذا كانوا مأمورين بالاقتداء به، والمعنى: يا أيها النبي إذا أردت أنت وأمتك الطلاق، فطلقوا النساء لعدتهن، وهذا كقوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
[المائدة: 6] أي أردتم القيام.
والطلاق للعدة هو أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، لما روي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين سئل عن الطلاق: " طلقها طاهرا من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها " "
ويقال في معنى الطلاق للعدة: أن يفرق الطلاق الثلاث على أطهار العدة، فيطلقها في كل طهر لم يمسها فيه تطليقة.
والطلاق السني: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، فقد روي:
" أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى، ثم تطهر من حيضتها، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل أن يجامعها "
فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
والطلاق البدعي: أن يقع في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، وهو واقع وصاحبه آثم، وروي:
" أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء " قلت: ويحتسب لها؟ قال: " فمه؟ " ".
قوله تعالى: { وأحصوا العدة }؛ إنما أمر بإحصاء العدة لتوزيع الطلاق على الأطهار، والمعنى بذلك: أحصوا عدة المطلقات لما تريدون من رجعة أو تسريح، فإذا حاضت المعتدة حيضة وطهرت، فأراد الزوج أن يطلقها ثانية قبل أن تحيض، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى إن شاء، فتبين الثلاث وقد بقي من عدتها حيضة.
قوله تعالى: { واتقوا الله ربكم }؛ أي اتقوه في النساء إذا طلقتموهن واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، { لا تخرجوهن من بيوتهن }؛ التي طلقتموهن فيها، وهي بيوت أزواجهن، والمعنى: اتقوا الله فلا تعصوه فيما أمركم به، فلا يجوز للزوج أن يخرج المطلقة المعتدة من مسكنه الذي كان يساكنها فيه قبل الطلاق.
قوله تعالى: { ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة }؛ أي ولا يخرجن من قبل أنفسهن حتى تنقضي عدتهن، ولهذا لا يباح لها السفر في العدة، ولا يباح لها التزوج وإن أذن لها الزوج. وأما المنكوحة فيجوز لها الخروج من المنزل بإذن الزوج.
قوله تعالى: { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } أي لا يخرجن إلا أن يكون خروجهن معصية، وقال الحسن: (معناه: إلا أن يزنين فيظهر ذلك الزنا عليها بشهادة أربعة من الشهود، فيخرجن لإقامة الحدود).
وقال ابن عباس: (إلا أن يطلن بألسنتهن على أهل المنزل بإيذائهن). كما روي: أن فاطمة بنت قيس، طلقها زوجها أبو عمرو ابن حفص بن المغيرة المخزومي، وكانت تستطيل على حماتها بلسانها، فنقلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت ابن أم مكتوم، وكان ضريرا تعتد فيه).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش!! "
، وقال: عليه السلام:
" أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة!! "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا تطلقوا النساء إلا من ريبة، فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين والذواقات! "
، وعن أنس رضي لله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم:
" ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق ".
قوله تعالى: { وتلك حدود الله }؛ أي هذه أحكام الله وفرائضه في الطلاق في السنة والعدة، فلا تجاوزوها إلى ما نهى عنه، { ومن يتعد حدود الله }؛ بالمخالفة، { فقد ظلم نفسه }؛ أي فقد أضر نفسه، { لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا }؛ أي طلقوهن كما أمرتم، لا تدري أيها المخاطب لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فيوقع في قلب الزوج المحبة، فيندم في طلاقها ويريد رجعتها فلا يقدر على ذلك، ولا ينفعه الندم.
[65.2-3]
قوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } معناه: إذا قاربن انقضاء عدتهن فراجعوهن بحسن الصحبة قبل أن يغتسلن من الحيضة الثالثة، أو يتركوا مراجعتهن بإيفاء المهر ونفقة العدة حتى تنقضي عدتهن، ولا يجوز أن يكون المراد بهذه الآية حقيقة بلوغ الأجل لأنه لا رجعة بعد بلوغ الأجل الذي هو انقضاء العدة.
قوله تعالى: { وأشهدوا ذوى عدل منكم }؛ أي أشهدوا على الطلقة والرجعة ذوى عدل منكم من المسلمين، وهذا أمر استحباب احتياطا من التجاحد، كي لا يجحد الزوج الطلاق، ولا تجحد المرأة بعد مضي العدة الرجعة. ثم قال للشهود: { وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر }؛ أي ذلك الذي ذكر لكم من الأمر والنهي والطلاق والرجعة وإقامة الشهادة، يوعظ به من كان يؤمن بالله، ويصدق بالبعث بعد الموت؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بالوعظ.
قوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا }؛ أي ومن يتق الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يجعل له مخرجا من المعصية إلى الطاعة، ويقال: من الحرام والشبهات إلى الحلال. وقيل: يجعل له مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة، { ويرزقه }؛ في الآخرة من نعيم الجنة، { من حيث لا يحتسب }؛ ويقال: يرزقه في الدنيا من حيث لا يأمل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا ".
قوله تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه }؛ أي من يفوض أموره إلى الله عالما واثقا بحسن تقديره وتدبيره فهو كافيه، لا يحتاج إلى غيره. قوله تعالى: { إن الله بالغ أمره }؛ أي منفذ أمره ممضي إرادته، لا يمنع عما يريد، { قد جعل الله لكل شيء قدرا }؛ من أحكامه مقدارا وأجلا معلوما فلا عذر للعبد في تقصير يقع منه.
[65.4-5]
قوله تعالى: { واللائي يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن }؛
" وذلك أنه لما أنزل الله تعالى عدة المطلقات والمتوفى عنها زوجها في سورة البقرة، قال: أبي بن كعب: يا رسول الله إن ناسا يقولون: قد بقي من النساء ما لم يذكر فيه شيء؟ قال: " ومن هم؟ " قال: الصغار والكبار وذوات الحمل، فنزلت هذه الآية "
{ واللائي يئسن من المحيض من نسآئكم } لكبرهن { إن ارتبتم } أي إن شككتم في عدتهن، { فعدتهن } إذا طلقن بعد الدخول { ثلاثة أشهر }.
وقوله تعالى: { واللائي لم يحضن } معناه: واللاتي في حال الصغر هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، عدتهن ثلاثة أشهر. قوله تعالى: { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }؛ معناه: وذوات الأحمال عدتهن تنقضي بوضع ما في بطونهن من الحمل، مطلقة كانت الحامل أو متوفى عنها زوجها.
قوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا }؛ أي من يخش الله ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ييسر عليه أمره ويوفقه للعبادة، ويسهل عليه أمر الدنيا والآخرة. قوله تعالى: { ذلك أمر الله أنزله إليكم }؛ أي ذلك الحكم الذي قد سبق حكم الله في الطلاق والعدة والرجعة أنزله إليكم، { ومن يتق الله } بطاعته وترك معصيته، { يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا }؛ أي يستر ذنوبه عنه ويدفع عنه عقابها ويعطيه على ذلك ثوابا حسنا في الجنة.
[65.6]
قوله تعالى: { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } أي أسكنوا المطلقات حيث سكنتم من البيوت التي تجدون أن تسكنوهن فيها على قدر سعتكم وطاقتكم، فإن كان موسرا أوسع عليها في المسكن والنفقة، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. قوله تعالى: { ولا تضآروهن }؛ أي لا تضاروهن في المسكن ولا في أمر النفقة، { لتضيقوا عليهن }؛ يعني أعطوهن في المسكن ما يكفيهن لجلوسهن وطهارتهن، ومن النفقة ما يكون كفافا لهن بالمعروف، وهذا عام في المبتوتة والرجعية.
قوله تعالى: { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن }؛ يعني تجب نفقة الحامل إلى أن تضع، سواء طالت مدة الحمل أم قصرت، لأن عدتها تنقضي بوضعه، فلها النفقة إلى أن تضع حملها. ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها لأن قوله تعالى { أسكنوهن } وقوله تعالى { فأنفقوا عليهن } خطاب للأزواج وقد زال عنهم الخطاب بالموت.
قوله تعالى: { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن }؛ يعني بعد وضع الحمل إذا أرضعن لكم أولادكم فأعطوهن أجرة الرضاع، وهذا دليل بأن الأم أولى بإرضاع الولد بأجرة المثل، وأولى بالحضانة من كل أحد، وفيه دليل أن الأجرة لا تستحق بالعقد، وإنما تستحق بالفراغ من العمل؛ لأن الله تعالى أوجبها بعد الرضاع.
وقوله تعالى: { وأتمروا بينكم بمعروف }؛ أمر الرجل والمرأة أن يأتمروا في الولد بالمعروف، وهو أن ينفق الرجل بنفقة الرضاع من غير تقتير ولا إسراف، أو تقوم المرأة على ولدها في إرضاعه وتتعهده من غير تقصير. قوله تعالى: { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى }؛ معناه: وإن تضايقتم وتمانعتم فأبت الأم أن ترضع الولد، أو طلبت على ذلك أكثر من أجرة المثل، وأبى الأب أن يعطيها ما طلبت، فليطلب الأب للولد مرضعة غير الأم، إلا أنه يجب أن يكون في بيت الأم لأن الأم أحق بإمساك الولد.
[65.7]
قوله تعالى: { لينفق ذو سعة من سعته }؛ أي لينفق غني على نسائه وأولاده على قدر غناه، { ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ آتاه الله }؛ معناه: ومن ضيق عليه رزقه فلينفق مما أعطاه الله من المال، { لا يكلف الله نفسا إلا مآ آتاها }؛ من الرزق.
قوله تعالى: { سيجعل الله بعد عسر يسرا }؛ فيه تسلية للصحابة، فإن أكثرهم كانوا فقراء، فوعدهم الله اليسر بعد العسر، ففتح الله عليهم بعد ذلك وجعل يسرا بعد عسر. ويستدل من هذه الآية على أن الواصي يأمر المرأة أن تستدين على زوجها المعسر مقدار ما تستحق عليه من النفقة، لأن المعسر يرجى له اليسر.
[65.8]
قوله تعالى: { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله }؛ أي وكم من أهل بلدة عتوا من أمر ربهم ورسله؛ أي جاوزوا الحد في المعصية، { فحاسبناها حسابا شديدا }؛ فجازيناهم في الآخرة جزاء شديدا على كل صغيرة وكبيرة، { وعذبناها }؛ وعذبناهم في الدنيا، { عذابا نكرا }؛ أي عذابا خارجا عن العادة لم يعهدوا مثله.
[65.9-11]
قوله تعالى: { فذاقت وبال أمرها }؛ أي فذاقوا جزاء كفرهم، { وكان عاقبة أمرها خسرا }؛ أي هلاك النفوس وهي رأس أموالهم، { أعد الله لهم }؛ في الآخرة، { عذابا شديدا }؛ يعني الذي نزل بهم في الدنيا، { فاتقوا الله يأولي الألباب }؛ أي يا أولي العقول لا تسيروا بسيرهم فينزل بكم ما نزل بهم.
قوله تعالى: { الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا } { الذين آمنوا } نعت أولي الألباب، وقوله تعالى { قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا } أي أنزل إليكم كتابا آتاه رسولا ليؤديه إليكم. وقيل: معناه: قد أنزل الله إليكم قرآنا وأرسل رسولا، { يتلوا عليكم آيات الله مبينات }؛ يعني الرسول، { ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا }. وقوله تعالى: { قد أحسن الله له رزقا } يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
[65.12]
قوله تعالى: { الله الذي خلق سبع سموت ومن الأرض مثلهن }؛ أي سبع أرضين أيضا، وليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع غير هذه. قوله تعالى: { يتنزل الأمر بينهن } ، أي تنزل الملائكة بالتدبير من الله تعالى، ومن سماء إلى سماء، ومن السماء الى الأرض بحياة بعض وموت بعض، وغنى بعض وفقر بعض، وسلامة هذا وهلاك هذا، { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }؛ فلا يخفى عليه شيء.
[66 - سورة التحريم]
[66.1]
{ يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك }؛
" وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الأيام بين نسائه وكان له تسع نسوة، وكان لكل امرأة منهن يوم وليلة، ثم إن حفصة زارات أباها في يوم كان ذلك اليوم لعائشة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم بيت حفصة فوجد فيه جاريته مارية فأخلا بها، فلما رجعت حفصة إلى منزلها، وقفت حفصة على ذلك الباب فلم تدخل حتى خرجت مارية، ثم دخلت فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني قد رأيت من كان معك في البيت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الغيرة والكآبة في وجهها قال: " اكتمي علي، ولا تخبري عائشة بذلك " ثم قال: " هي علي حرام " يعني مارية، فأخبرت حفصة عائشة وكانتا متصافيتين، فنزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي بذلك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حفصة وقال لها: " ما الذي حملك على ذلك؟ " قالت: ومن الذي أخبرك؟ قال: " أخبرني العليم الخبير ".
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم على حفصة فطلقها تطليقة واعتزل نساءه كلهن، فمكث سبعا وعشرين ليلة ينتظر ما ينزل فيهن، فأنزل الله هذه الآيات. ومعناها: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، { تبتغي مرضات أزواجك }؛ طالبا رضى أزواجك، { والله غفور }؛ لما كان منك من التحريم، { رحيم }؛ بك حيث رخص لك الخروج منه بالكفارة، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم رقبة وعاد إلى مارية ".
وروي:
" أن حفصة رضي الله عنها استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها في يومها، فأذن لها وهو جالس في بيتها، فمضت، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها في حضنه، وكان ذلك في يوم حفصة، فلما رجعت حفصة وجدت باب بيتها مغلقا، فجلست على الباب حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي، فقال لها: " ما يبكيك؟ " قالت: إنما أذنت لي بالزيارة من أجل هذا؛ أدخلت أمتك بيتي ووقعت عليها في يومي وعلى فراشي؟ ما رأيت لي حرمة وحقا، ما قط صنعت هذا بامرأة من نسائك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " هي جاريتي فلا أحلها الله، اسكتي هي علي حرام، ألتمس بذلك رضاك، ولا تخبري بذلك امرأة منهن، وهذه أمانة عندك ".
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت حفصة على الجدار الذي كان بينها وبين عائشة، فقالت لها: ألا أبشرك يا عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم جاريته مارية، وقد أراحنا الله منها. وكانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فغضب على حفصة وقال: " ما حملك على ذلك " ، ثم طلقها تطليقة ".
وذهب بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على زينب بنت جحش شرب عندها شراب عسل تصلحه له، وكان يطول مكثه عندها، فاجتمعت عائشة وحفصة على أن يقولا له: إنا نجد معك رائحة المغافير - وهو صمغ متغير الرائحة يقع على الطرف يأكله النحل - فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له: إني أشم معك رائحة المغافير، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شرب العسل، فأنزل الله تعالى هذه الآيات. والقول الأول أظهر، ولا يمتنع أن الأمرين قد كانا، وأن هذا نزل فيهما.
[66.2]
قوله تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أي وجبت لكم كفارة أيمانكم، { والله مولاكم }؛ أي متول أموركم وهو أولى أن يؤثروا مرضاته، { وهو العليم }؛ بما فيه صلاح خلقه، { الحكيم }؛ في تدبير أمره. وإنما سميت الكفارة تحلة؛ لأنها تجب عند انحلال اليمين، قال مقاتل: (معناه: قد بين الله لكم كفارة أيمانكم في سورة المائدة، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكفر عن يمينه، ويراجع جاريته مارية).
[66.3]
قوله تعالى: { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا }؛ يعني إسراره إلى حفصة، فلما أخبرت عائشة به أطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك. قوله تعالى: { فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض }؛
" وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندما رأى الكآبة في وجهها والغيرة أسر إليها شيئين: تحريم الجارية، وقال: " أخبرك يا حفصة أن أباك وأبا بكر سيملكان أمتي بعدي " فلما أظهره الله عليه أخبر حفصة بما قالت لعائشة من تحريم الجارية، وأعرض عن ذكر خلافة أبي بكر وعمر ".
وقرأ الحسن البصري والكسائي وقتادة (عرف بعضه) بالتخفيف أي غضب على حفصة من ذلك وجاراها فطلقها، من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفن لك ما فعلت؛ أي لأجازينك عليه، فجازاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن طلقها، فلما علم عمر رضي الله عنه بذلك قال: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: راجعها فإنها صوامة قوامة، وهي إحدى نسائك في الجنة، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: (لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة، وإنما هم به، فأتاه جبريل وقال له: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة وهي من نسائك في الجنة، فلم يطلقها)، وكان سفيان الثوري يقول: (ما استقصى كريم قط، وما زال التغافل من فعل الكرام، عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ما فعلت، وأعرض عن بعض).
قوله تعالى: { فلما نبأها به }؛ أي لما أخبر حفصة بما أظهره الله عليه، { قالت }؛ له: { من أنبأك هذا }؛ أي من أخبرك أني أفشيت سرك؟ { قال نبأني العليم الخبير }.
[66.4]
قوله تعالى: { إن تتوبآ إلى الله }؛ معناه: إن تتوبا إلى الله من إظهار الغيرة وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والتعاون عليه، { فقد صغت قلوبكما }؛ أي مالت إلى الإثم وعدلت عن الحق، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم، { وإن تظاهرا عليه } أي تعاونا عليه بالإيذاء وإظهار الغيرة عليه من الجارية، { فإن الله هو مولاه }؛ يتولى حفظه ونصره ودفع الأذية عنه، { وجبريل وصالح المؤمنين }؛ أبو بكر وعمر يتوليانه وينصرانه على من عاداه، { والملائكة بعد ذلك ظهير }؛ أعوانه وأنصاره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله ما شق عليك من أمر النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام، إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت هذه الآية { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } ).
وعن ابن عباس قال: (سألت عمر رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان تظاهرا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: عائشة وحفصة).
ثم أخذ عمر رضي الله عنه يسوق الحديث قال: (كنا معشر قريش قوما نغلب نساءنا، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: فغضبت على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: وما ينكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت نعم، قلت: أفتأمن إحداكن أن يغضب الله لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟! لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسليني ما بدا لك، ولا يغرك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله منك) يعني عائشة رضي الله عنها.
قرأ أهل الكوفة (تظاهرا عليه) بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.
[66.5]
قوله تعالى: { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن }؛ هذا إيعاد وتخويف لحفصة وعائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعد النبي صلى الله عليه وسلم بخير منهن إن أحوجنه إلى مفارقتهن، و { عسى } من الله واجبة، { مسلمات مؤمنات }؛ نعت للأزواج اللاتي كان يبدله لو طلق نساءه، ومعنى { مسلمات } أي خاضعات لله بالطاعة، مسلمات لأمر الله وقضائه، أي مصدقات مؤمنات بتوحيد الله بالألسن والقلوب، { قانتات }؛ أي طائعات لله والنبي صلى الله عليه وسلم، { تائبات }؛ أي راجعات إلى ما يحبه الله، { عابدات }؛ لله متذللات لله ولرسوله، { سائحات }؛ أي صائمات، { ثيبات وأبكارا }؛ ظاهر المراد.
[66.6]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا }؛ أي يا أيها الذين آمنوا ادفعوا عن أنفسكم وأهليكم نارا، { وقودها الناس والحجارة } ، حطبها الناس والحجارة، يعني حجارة الكبريت، والمعنى: اعملوا بطاعة الله وانتهوا عن معصيته، وعلموا أولادكم وأهليكم الاجتناب عما تجب لهم به النار. وعن عمر رضي الله عنه:
" أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلنا؟ قال: " تنهوهم عما نهاهم الله عنه، وتأمروهم بما أمركم الله به " ".
قوله تعالى: { عليها ملائكة غلاظ شداد }؛ أي على النار ملائكة غلاظ الأخلاق شداد أقوياء الأخذ والعقوبة، يدفع الواحد منهم في الدفعة الواحدة سبعين ألفا في جهنم، لم يخلق الله فيهم شيئا من الرحمة، { لا يعصون الله مآ أمرهم }؛ من تعذيب أهلها، { ويفعلون ما يؤمرون }؛ من ذلك، جعل الله سرورهم في تعذيب المعذبين كما جعل سرور المؤمنين في الجنة. وجاء في الخبر:
" أن الملك منهم يكسر عظام المعذب، فيقول له: ألا ترحمني؟ فيقول له: كيف أرحمك وأرحم الراحمين لم يرحمك ".
[66.7]
قوله تعالى: { يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم }؛ أي لا تعتذروا اليوم فيما قدمتم لأنفسكم، إنه لا تقبل منكم الأعذار، { إنما تجزون ما كنتم تعملون }؛ في الدنيا، ولا تظلمون بزيادة على ما تستحقون من العذاب.
[66.8]
قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا }؛ قال ابن عباس: (التوبة النصوح: هي الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإضمار على أن لا يعود).
" وعن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: " أن يتوب التائب ثم لا يرجع في ذلك، كما لا يعود اللبن في الضرع " ".
قال ابن مسعود: (التوبة النصوح أن تكفر كل سيئة)، وقال أبو ذر: (النصوح: الصادقة) أي يتوبوا توبة صادقة، يقال: نصحته أي صدقته. وقيل: النصوح المستقيمة المتقنة التي لا يلحقها النقص والإبطال. وقال الفضيل: (التوبة النصوح: أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنه ينظر إليه)، وقال أبو بكر الوراق: (هو أن تضيق الأرض عليك بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثلاثة الذين خلفوا). وقال الدقاق: (هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات).
وقال ذو النون: (علامتها ثلاثة أشياء: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام). وقال بعضهم: هي أن يكون لصاحبها دمع مسفوح وقلب من المعاصي جموح، فإذا كان كذلك فيه توبة نصوح.
وقال فتح الموصلي: (علامتها ثلاثة: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ). وقال شقيق البلخي: (هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا يقلع من الندامة). وقال الجنيد: (هي أن ينسى ما سوى الله، ولا يذكر إلا الله).
قوله تعالى: { عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم }؛ هذا وعد من الله لأن { عسى } من الله واجبة، والصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. قوله تعالى: { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي }؛ أي يكرم الله تعالى المؤمنين بهذه الكرامة في يوم لا يسوء الله النبي ولا يخجله ولا يسوء { والذين آمنوا معه }؛ والمعنى: لا يدخلهم الله النار.
وقوله: { نورهم يسعى بين أيديهم }؛ ليدلهم في الجنة، { وبأيمانهم }؛ يعني نور كتابهم الذي يعطونه بها، { يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا }؛ أي يقولون ذلك بعد ما ذهب نور المنافقين، والمعنى: أتمم لنا نورنا على الصراط إلى أن ندخل الجنة، { واغفر لنآ }؛ ما سلف من ذنوبنا، { إنك على كل شيء قدير }؛ من إتمام النور والمغفرة، فيجيب الله دعاءهم ويفعل ذلك لهم، فيكون الصراط على المؤمنين كما بين صنعاء والمدينة، يمشي عليه بعضهم مثل البرق، وبعضهم مثل الريح، وبعضهم كعدو الفرس، وبعضهم يمشي وبعضهم يزحف، ويكون على الكافرين كحد السيف مذهبه.
[66.9]
قوله تعالى: { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين }؛ أي جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان بالزجر والوعظ حتى يسلموا، وسماهما جهادا لاشتراكها في بذل الجهد، { واغلظ عليهم }؛ أي على الفريقين بالفعل والقول، { ومأواهم جهنم وبئس المصير }؛ وبين أن مصيرهم في الآخرة إلى النار.
وقال الحسن: (كانوا أكثر من كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقون، فأمر الله أن يغلظ عليهم في إقامة الحد). وعن ابن مسعود قال: (إذا لم تقدروا أن تنكروا على الفاجر - ف - بوجوه مكفهرة).
[66.10]
قوله تعالى: { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما }؛ أي فخالفتاهما في الدين، قال ابن عباس: (ما بغت امرأة نبي قط، فأما خيانة امرأة نوح، فإنها قالت لقومه: إنه مجنون فلا تصدقوه، وأما خيانة امرأة لوط فإنها كانت تدل قومه على أضيافه، كان إذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار، وإذا نزل بالنهار أدخنت ليعلم قومه أنه قد نزل به ضيف). وقال الكلبي: (أسرتا النفاق، وأظهرتا الإيمان) ولأن الخيانة في الفراش لا يجوز أن تكون مرادة في هذه الآية؛ لأنها عيب يرجع إلى الزوج فينفر الناس عنه.
قوله تعالى: { فلم يغنيا عنهما من الله شيئا }؛ أي لم يدفعا عنهما عذاب الله، أعلم الله تعالى أن أحدا لا يجزي عن أحد شيئا، وأن الإنسان لا ينجو إلا بعمله، وقطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر الله تعالى أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعا وهو قوله تعالى: { وقيل ادخلا النار مع الداخلين }.
[66.11]
قوله تعالى: { وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة }؛ وهي آسية بنت مزاحم، كانت قد آمنت بموسى عليه السلام، فلما علم فرعون بإسلامها وتد لها أربعة أوتاد في يديها ورجليها، ومدها للعذاب وشدها على الأرض بالأوتاد، وألقى على صدرها صخرة عظيمة وألقاها في الشمس.
فكانت الملائكة تظلها بأجنحتها وأبصرت الجنة وهي كذلك فقالت: { رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } ، فاستجاب الله دعاءها وألحقها بالشهداء، ولم تجد ألما من عذاب فرعون لأنها قالت: { ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين }؛ أي الكافرين أهل دين فرعون. وليس في هذه الآية أن فرعون قتلها، وقد اختلف في ذلك، والأقرب أنه أجاب الله دعاءها فنجاها من فرعون وقومه.
وفي قوله تعالى في الآية الأولى { وقيل ادخلا النار مع الداخلين } تخويف لحفصة وعائشة، كأنه قال لعائشة وحفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح ولوط في المعصية، وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم.
[66.12]
قوله تعالى: { ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها }؛ عطف مريم على امرأة فرعون، وإحصان الفرج إعفافه وحفظه عن الحرام. قوله تعالى: { فنفخنا فيه من روحنا }؛ أي في جيب درعها، وذلك أن جبريل عليه السلام مد جيب درعها بإصبعه، ثم نفخ في جيبها فحملت، وبالكناية عن غير مذكور.
وقوله تعالى: { وصدقت بكلمات ربها }؛ والشرائع التي شرعها الله في كتبه المنزلة، وقرأ عيسى الجحدري والحسن (بكلمة ربها) على التوحيد يعنون عيسى عليه السلام. قوله تعالى: { وكتبه }؛ أي وصدقت بكتب الله تعالى وهو التوراة والإنجيل والفرقان وصحف ابراهيم وموسى وداود، وقرأ أبو عمرو ويعقوب (وكتبه) بالجمع، وتفسيره ما ذكرناه، وقرأ الباقون (وكتابه) على الواحد، والمراد به الإنجيل.
قوله تعالى: { وكانت من القانتين }؛ أي من المطيعين لله، وقال عطاء: (من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء) تقديره: وكانت من القوم القانتين، ولم يقل من القانتات؛ لأن متعبدها كان في المسجد مع العباد.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وآسية أمرأة فرعون، وإن فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم وآسية وخديجة وفاطمة ".
وعن معاذ بن جبل قال:
" دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: " أتكرهين ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهن مني السلام " قالت: يا رسول الله ومن هن؟ قال: " مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكليمة بنت عمران أخت موسى " ، فقالت: بالرفاه والبنين ".
[67 - سورة الملك]
[67.1]
{ تبارك الذي بيده الملك }؛ أي تعالى باستحقاق التعظيم الذي بيده إعطاء الملك وأخذه، يؤتي الملك من يشاء فيعزه وينزعه ممن يشاء فيذله، { وهو على كل شيء قدير }؛ من الإعزاز والإذلال.
[67.2]
قوله تعالى: { الذي خلق الموت والحياة }؛ معناه: الذي قدر الإماتة والإحياء، { ليبلوكم }؛ فيما بين الإحياء والإماتة، { أيكم أحسن عملا }؛ اللام في ليبلوكم متعلق بخلق الحياة دون خلق الموت، لأن الابتلاء في الحياة، ومعنى { ليبلوكم } أي ليعاملكم معاملة المختبر، فيجازيكم على ما ظهر منكم لا على ما يعلم منكم، ومعنى { أيكم أحسن عملا } أي أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، قال صلى الله عليه وسلم:
" أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله، وأحسنكم نظرا فيما أمر الله به ونهى عنه ".
وقال الحسن: (معناه: ليبلوكم أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها) وارتفع { أيكم } على الابتداء لأنه بتأويل ألف الاستفهام ولا يعمل فيها ما قبلها، تقديره: ليبلوكم أنتم أحسن عملا أم غيركم. قوله تعالى: { وهو العزيز الغفور }؛ أي العزيز بالنقمة لمن لا يؤمن، الغفور لمن تاب وآمن.
[67.3-4]
قوله تعالى: { الذي خلق سبع سموت طباقا }؛ أي مطبقة بعضها على بعض مثل القبة، { ما ترى }؛ أيها الرائي، { في خلق الرحمن من تفاوت } ، في مخلوقات الرحمن من تفاوت؛ أي لا ترى بعضها حكمة وبعضها عبثا، ولا ترى في السماء اضطرابا وتباينا في الخلقة، وقال مقاتل: (ما ترى ابن آدم في خلق السماوات من عيب).
وقال قتادة: (ما ترى فيها خللا ولا اختلافا)، { فارجع البصر هل ترى من فطور }؛ أي كرر النظر هل ترى في السماء من شقوق أو صدوع أو خروق، { ثم ارجع البصر كرتين }؛ أي إن لم تستدرك بالمرة الأولى، فرد البصر مرة أخرى مستقصيا، وردد البصر مرة أخرى بعد مرة، { ينقلب إليك البصر خاسئا }؛ صاغرا بمنزلة الخاسئ وهو الذليل، { وهو حسير }؛ أي كليل منقطع قد أعيى بمنزلة الحسير الذي طلب شيئا فلم يجده كما يحسر البعير.
[67.5]
قوله تعالى: { ولقد زينا السمآء الدنيا بمصبيح }؛ السماء الدنيا هي الأدنى إلينا، وهي التي يراها الناس، والمصابيح: النجوم، واحدها مصباح، سميت بذلك؛ لأنها تضيء كما يضيء المصباح، ومن ذلك الصبح والصباح وهو السراج، والنجوم لثلاث خصال: زينة، وعلامات يهتدى بها، { وجعلنها رجوما للشيطين } أي ورجوم لمن يسترق السمع من الشياطين، { وأعتدنا لهم }؛ في الآخرة، { عذاب السعير }؛ مع ما جعلنا لهم في الدنيا من الرمي بالشهب.
[67.6]
قوله تعالى: { وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير }؛ ظاهر المعنى.
[67.7]
قوله تعالى: { إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا }؛ أي صوتا قطيعا كصوت الحمار، وهو آخر ما ينهق بنفس شديد، وهو أقبح الأصوات، وإذا اشتد لهب النار سمع لها صوت شديد كأنها تطلب الوقود. قوله تعالى: { وهي تفور }؛ أي تغلي بهم كغلي المرجل. وقال مجاهد: (تفور بهم، كما يفور الماء الكثير بالحب القليل)، والفور ارتفاع الشيء بالغليان.
[67.8-11]
قوله تعالى: { تكاد تميز من الغيظ }؛ أي تكاد تنشق وتتقطع من تغيظها على أهلها لتأخذهم، والمعنى: تكاد النار ينفرق بعضها من بعض غضبا على الكفار، وانتقاما لله عز وجل منهم، { كلما ألقي فيها فوج }؛ من الكفار؛ أي جماعة، { سألهم خزنتهآ }؛ أي النار، { ألم يأتكم نذير }؛ أي رسول منذر، وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب، { قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا } ، له، { ما نزل الله من شيء }؛ مما تقول، وقلنا للرسول: { إن أنتم إلا في ضلال كبير }؛ أي خطأ عظيم. وقيل: إن قوله { إن أنتم إلا في ضلال كبير } من قول الزبانية للكفار؛ أي ما كنتم في الدنيا إلا في ضلال كبير.
وقال أهل النار معترفين بجهلهم: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل }؛ أي لو كنا نسمع الهدى من الرسل سماع من يتفكر ويعقل منهم عقل من يميز، { ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم }؛ أي أقروا بذلك، { فسحقا لأصحاب السعير }؛ أي أسحقهم الله سحقا؛ أي باعدهم من رحمته، والسحق: البعد، والمعنى: فبعدا لأصحاب النار من رحمة الله.
[67.12]
قوله تعالى: { إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير }؛ معناه: إن الذين يعملون لربهم ويتقون معصيته في سرهم، ويخافونه ولم يروه، لهم مغفرة لذنوبهم وثواب عظيم في الجنة، والخشية في الغيب أدل على الإخلاص وأبعد من النفاق.
[67.13-14]
قوله تعالى: { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور } وهذا تحذير للكفار عن الإقدام على المعاصي، يقول: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به، فإنه عليم بما في القلوب من الخير والشر.
قال ابن عباس: (كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل فيقول بعضهم لبعض: أسروا قولكم كيلا يسمع به إله محمد) قال الله هذه الآية: { ألا يعلم من خلق }؛ هذه الأشياء ما في الضمير. وقيل: معناه: ألا يعلم الله مخلوقاته، وقيل: ألا يعلم سر العبد من خلقه، { وهو اللطيف الخبير }؛ أي لطف علمه بالأشياء حتى لا تخفى عليه غوامض الأمور، الخبير بمصالح عباده.
[67.15]
قوله تعالى: { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا }؛ أي سهلة تنصرفون فيها فلا تضطرب بكم ولا تمتنع عليكم، يقال: دابة ذلول إذا كانت سهلة الركوب، والذلول لا تمتنع على صاحبها فيما يريدها. قوله تعالى: { فامشوا في مناكبها }؛ أي في أطرافها، وقيل: في جبالها وآكامها وجوانبها، { وكلوا من رزقه }؛ أي وكلوا من نباتها الذي جعله الله رزقا لكم في الأرض، { وإليه النشور }؛ أي وإلى الله المرجع في الآخرة للحساب والجزاء، والنشور هو البعث من القبور.
[67.16]
قوله تعالى: { أءمنتم من في السمآء أن يخسف بكم الأرض }؛ معناه: أأمنتم يا أهل مكة من في السماء سلطانه وقدرته وملكه أن يغيبكم في الأرض جزاء على قبح أفعالكم. وقيل: معناه: أأمنتم عقوبة من في السماء وعذاب من في السماء. وقيل: معناه: من جرت عادته أن ينزل نقمته من السماء على من يكفر به ويعصيه.
وقيل: أأمنتم من في السماء، وهو الملك الموكل بالعذاب، يعني جبريل أن يخسف بكم الأرض بأمر الله تعالى، { فإذا هي تمور }؛ أي تضطرب وتتحرك، والمعنى: أن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب، وتتحرك فتعلو بهم وهم يخسفون فيها، والأرض تمور فوقهم فتقلبهم إلى أسفل. والمور: التردد في الذهاب والمجيء؛ لأنه إذا خسف بقوم دارت الأرض فتدور بهم كما يدور الماء بمن يغرقه.
[67.17-18]
قوله تعالى: { أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصبا }؛ كما أرسل على قوم لوط، والحاصب: الريح التي ترمي بالحصباء لا دافع لها { فستعلمون }؛ في الآخرة، { كيف نذير }؛ أي إنذاري إذا عاينتم العذاب، { ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير }؛ معناه: ولقد كذب الذين من قبل أهل مكة من كفار الأمم الماضية، فكيف كان الإنكار عليهم بالعذاب.
[67.19]
قوله تعالى: { أولم يروا إلى الطير فوقهم صفت }؛ معناه: أولم يروا إلى الطير صافات فوق رؤوسهم بانبساط أجنحتها تارة وقابضاتها أخرى، معناه: صافات أجنحتها، { ويقبضن }؛ أجنحتها بعد البسط، وهذا معنى الطير؛ وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط.
قوله تعالى: { ما يمسكهن إلا الرحمن }؛ أي ما يمسكهن ويحفظهن في الهواء في الحالين؛ في حال البسط والقبض إلا الرحمن. وهذا أكبر آية دالة على قدرة الله تعالى إذ أمسكها في الهواء على ثقلها وضخم أبدانها، فمن قدر على إمساك الطير في الهواء قدر على إرسال الحاصب من السماء. قوله تعالى: { إنه بكل شيء بصير }؛ أي عالم، كما يقال: فلان بصير بالنحو وبالقرآن؛ أي عالم به.
[67.20]
قوله تعالى: { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن }؛ فيه تنبيه على أنه إن أراد الله تعذيبهم ليس لهم منعه، ولا أحد يصرف عنهم العذاب، ولفظ الجند موحد، وهذا استفهام إنكار؛ أي لا جند لكم ينصركم ويمنعكم من عذاب الله. قال ابن عباس: (معنى ينصركم: يمنعكم مني إن أردت عذابكم). قوله تعالى: { إن الكافرون إلا في غرور }؛ أي في غرور من الشيطان، يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
[67.21]
قوله تعالى: { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه }؛ معناه: هل يقدر أحد من معبودكم أن يوصل إليكم أرزاقكم إن حبس الله عنكم المطر والنبات، { بل لجوا }؛ بل لج الكافرون { في عتو ونفور }؛ أي في مجاوزة الحد في الطغيان والتباعد عن سماع الحق وقبوله، وليسوا يعتبرون ولا يتفكرون، لجوا في طغيانهم وتماديهم وتباعدهم عن الإيمان.
[67.22]
قوله تعالى: { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم }؛ معناه: أفمن يمشي ناكسا رأسه على وجهه لا يرى ما يصدمه أو يهجم عليه من حفرة، أو بئر في طريقه، فلا ينظر يمينا ولا شمالا، يمشي مشي العميان؛ وهو مثل الكافر يقول: أهدي صوب طريقا أم المؤمن الذي يمشي مستويا على طريق مستقيم، يعني الإسلام.
وإنما شبه الكافر بالمكب على وجهه؛ لأنه ضال أعمى القلب عن الهدى، وقال قتادة: (هذا في الآخرة) معناه: أفمن يمشي مكبا على النار يوم القيامة أهدى أم من يمشي على طريق الجنة؟ كما قال تعالى في الكفار
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما
[الاسراء: 97].
[67.23]
قوله تعالى: { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة }؛ أي قل لهم يا محمد: هو الذي خلقكم وخلق لكم السمع فاستمعوا إلى الحق، والأبصار فأبصروا بها الحق، والأفئدة فاعلموا بها الحق، { قليلا ما تشكرون }؛ نعم الله عليكم.
[67.24]
قوله تعالى: { قل هو الذي ذرأكم في الأرض }؛ أي هو الذي خلقكم صغارا ورباكم إلى أن صيركم كبارا، { وإليه تحشرون }؛ أي تجمعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
[67.25-26]
قوله تعالى: { ويقولون متى هذا الوعد }؛ أي هذا الحشر الذي تعدنا به، { إن كنتم صادقين }؛ أن يكون ذلك، { قل إنما العلم } بوقت الحشر، { عند الله وإنمآ أنا نذير مبين }؛ أي مخوف لكم بلغة تعرفونها.
[67.27]
قوله تعالى: { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا }؛ معناه: فلما رأوا العذاب قريبا تبين السوء في وجوههم وساءهم ذلك. وقيل: أحرقت وجوه الذين كفروا، فاسودت وعلتها الكآبة والقترة. وقيل: معنى { سيئت } قبحت وجوههم بالسواد، { وقيل }؛ لهم: { هذا }؛ العذاب، { الذي كنتم به }؛ من أجله، { تدعون }؛ الأباطيل والأكاذيب أنكم إذا متم. وكنتم ترابا وعظاما أنكم لا تبعثون. وقرأ الضحاك وقتادة ويعقوب (تدعون) مخففا؛ أي تدعون الله أن يأتيكم به، من الدعاء وهو قولهم
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك
[الأنفال: 32] الآية.
[67.28]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم }؛ وذلك أن الكفار متمنون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموت أصحابه، فقيل لهم: أرأيتم إن أصبتم مناكم فينا بالهلاك، فمن يجيركم من العذاب الذي لا بد نازل بكم، أتظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم؟ فإذا علمتم أن لا مجير لكم فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو الإيمان بالله.
[67.29]
قوله تعالى: { قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا }؛ أي هو الرحمن الذي نعبده، ونفوض أمورنا إليه، { فستعلمون }؛ في الآخرة، { من هو في ضلال مبين }؛ نحن أم أنتم.
[67.30]
قوله تعالى: { قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غورا }؛ أي غائرا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء، { فمن يأتيكم بمآء معين؛ } ظاهر يظهر من العيون إلا الله الذي به تشركون، فإذا لم تقدروا أنتم ولا آلهتكم على أن تجعلوا الماء الغائر في الأرض ظاهرا، فكيف تقدرون على أن تدفعوا عذاب الله عن أنفسكم إذا نزل بكم؟ وكيف يقدر على ذلك من اتخذتموه إلها من دون الله.
ويحكى أن متهما في دينه سمع رجلا يقرأ { قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين } فقال: الماء مع الفأس والمعول، فنام من ليلته تلك فأصبح وقد ذهب ماء عينيه وبقي أعمى إلى أن مات، والعياذ بالله من الخذلان.
[68 - سورة القلم]
[68.1-2]
{ ن والقلم وما يسطرون }؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني بقوله { ن } الحوت الذي على الأرض واسمه لوثيا، وذلك أنه لما خلق الله الأرض وفتقها، بعث الله ملكا من تحت العرش فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه وإحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب، فلم يكن لقدميه قرار، فأهبط الله من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه، فخلق الله قوة خضراء غلظها مسيرة خمسمائة سنة، فوضعها بين سنام الثور وآذانه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخاراه في البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسا، فاذا تنفس مد البحر، وإذا رد نفسه جزر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه
فتكن في صخرة
[لقمان: 16]، فم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونا، وهو الحوت العظيم فجعل الصخرة على ظهره وسائر جسده خال، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة).
وقال بعضهم: هو اسم السورة. وقيل: هو آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: (الر و حم و ن حروف الرحمن). وقال قتادة والضحاك: (النون هي الدواة)، وقال بعضهم: هو لوح من نور. وقال عطاء: (هو افتتاح اسم الله تعالى: نور، وناصر). واختلفوا القراءة فيه، فقرأ بعضهم بإظهار النون، وقرأ بعضهم بإخفائها، وقرأ ابن عباس بالكسر على إضمار حروف القسم، وقرأ عيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل.
قوله تعالى: { والقلم وما يسطرون } قال المفسرون: هو القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، قال ابن عباس: (أول ما خلق الله القلم، فقيل له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض). وقيل: لما خلق الله القلم، نظر إليه فانشق نصفين ثم قال له: إجر، قال يا رب بما أجري؟ قال: بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أول شيء خلق الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل ورزق وأجل ، فكتب ما كان وما يكون من ذلك " ".
قوله { وما يسطرون } يعني وما تكتب الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، وجواب القسم { مآ أنت بنعمة ربك بمجنون } وهو جواب لقولهم
يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون
[الحجر: 6]، فأقسم الله تعالى بالنون والقلم وبأعمال بني آدم فقال: { مآ أنت }؛ يا محمد؛ { بنعمة ربك بمجنون }؛ أي ما أنت بإنعامه عليك بالنبوة والإيمان بمجنون.
[68.3]
قوله تعالى: { وإن لك لأجرا }؛ معناه: وإن لك أجرا بصبرك على افترائهم عليك ونسبتهم إياك إلى الجنون، { غير ممنون }؛ أي غير منقوص ولا مقطوع.
[68.4]
قوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم }؛ أي على دين عظيم لم أخلق دينا أحب إلي، ولا أرضى عندي منه، يعني الإسلام، وروي عن عكرمة عن ابن عباس: (يعني القرآن) والمراد آداب القرآن كما أمر الله به نبيه عليه السلام.
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه، فقالت للسائل: (إقرأ العشر التي في أول سورة المؤمنين، فقرأها، فقالت: تلك خلقه). وقيل: لما سئلت عائشة عن خلقه، قالت: (كان خلقه القرآن، يسخط لسخطه، ويرضى لرضاه).
ويقال:
" إن جبريل عليه السلام لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال: " أتيتك يا محمد بمكارم الأخلاق: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، أدبني ربي فأحسن تأديبي ".
ويقال:
" إنه صلى الله عليه وسلم احتمل لله في البلاء إلى أن قال حين شج في وجهه: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " فأنزل الله تعالى { وإنك لعلى خلق عظيم } "
قال الجنيد: (سمى خلقه عظيما لأنه لم يكن له هم سوى الله تعالى). وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم عاشرهم بخلقه وزايلهم بقلبه، كان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق! وقيل: سمى خلقه عظيما لاحتمال مكارم الأخلاق فيه.
وقالت عائشة رضي الله عنها: (إن الرجل ليدرك بخلقه درجة قائم الليل وصائم النهار)، وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما من شيء أثقل في الميزان من خلق حسن "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن أحبكم إلى الله تعالى أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يؤلفون ويألفون. وأبغضكم إلى الله تعالى المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للعثرات ".
[68.5-6]
قوله تعالى: { فستبصر ويبصرون } ، أي ستعلم ويعلمون، يعني أهل مكة، وهذا وعيد لأهل مكة بالعذاب ببدر، يعني: سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر، { بأييكم المفتون }؛ الباء زائدة، والمعنى: أيكم المجنون الذي فتر بالجنون أأنت أم هم؟ يعني أنهم يعلمون عند العذاب أن الجنون كان لهم حين عبدوا الأصنام، وتركوا دينك.
[68.7]
قوله تعالى: { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله }؛ معناه: إن ربك يا محمد أعلم بمن سبق له الشقاء في علمه، { وهو أعلم بالمهتدين }؛ أي أعلم بمن سبقت له السعادة.
[68.8-9]
قوله تعالى: { فلا تطع المكذبين }؛ بالكتب والرسل، وهم رؤوس الكفار الذين كانوا يدعونه إلى دين آبائه. وقوله تعالى: { ودوا لو تدهن فيدهنون }؛ معناه: تمنى الكفار يا محمد أن تضايعهم فيضايعونك، وتلاينهم فيلاينونك، مأخوذ من الدهن.
وقال مجاهد: (معناه: إظهار القول باللسان بخلاف ما في القلب، كأنه شبه التليين في القول بتليين الدهن). وقال مجاهد: (معناه: ودوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالؤك). وقال الضحاك: (ودوا لو تكفر فيكفرون). وقال زيد بن أسلم: (ودوا لو تنافق وترائي فينافقون). قال ابن قتيبة: (كانوا أرادوه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدون الله مدة).
[68.10]
قوله تعالى: { ولا تطع كل حلاف مهين }؛ هذا تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم عن الركون. والحلاف: كثير الحلف بالباطل، والمهين: قيل: من المهانة؛ وهي الحقارة والضعف في الرأي والتمييز، قيل: إن المراد به الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان قد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ليرجع عن دينه، وسمي مهينا لاستخارته الحلف والكذب على الصدق، ثم كانت الآية عامة في كل من كان في طريقته. وقيل: المراد به الأسود بن عبد يغوث، وقيل: الأخنس بن شريق.
[68.11]
قوله تعالى: { هماز مشآء بنميم }؛ الهماز: المغتاب الطعان للناس، مشاء بنميم: أي يمشي بالنميمة بين الناس؛ ليفسد بينهم. وقيل: الهماز: الوقاع في الناس، العائب لهم بما ليس فيهم، ويسمى النمام: القتات، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا يدخل الجنة قتات ".
[68.12-13]
قوله تعالى: { مناع للخير }؛ أي كثير المنع للخير، وكان الوليد بن المغيرة بهذه الصفة يمنع الناس من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمنع أهله وولده والحمية عن الإسلام، يقال: المناع للخير البخيل الذي هو كثير المنع للحقوق الواجبة في المال.
قوله عز وجل: { معتد أثيم }؛ المعتدي: هو الغشوم الظلوم على عباد الله، والأثيم: الكذاب الذي هو كثير الإثم. قوله تعالى: { عتل بعد ذلك زنيم }؛ العتل: شديد الخصومة بالباطل. وقيل: الشديد الحلف، أكول شروب رحيب البطن سريح صحيح الجسم على بطنه، ويجيع عبده ويمنع رفده، ومأخوذ من العتل وهو الشدة في السحب. وقيل: شديد الخلق وأحسن الخلق. وقيل: هو الجافي القاسي اللئيم العسر الضجر. وقال الكلبي: (هو الشديد في كفره).
قوله تعالى: { بعد ذلك زنيم } أي مع ما وصفناه به زنيم، وقيل: معناه عتل مع ذلك زنيم، والزنيم: الملصق في القوم وليس منهم، والزنيم هو الدعي، قال الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه
بغي الأم ذو حسب لئيم
وعن ابن عباس في قوله تعالى { زنيم } قال: (يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها). وقال ابن عباس: (معنى قوله { زنيم } أي هو مع كفره دعي في قريش ليس منهم). قيل: إنما ادعاه أبوه إلا بعد ثماني عشرة سنة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (الزنيم الذي لا أصل له). قال ابن قتيبة: (لا نعلم أن الله وصف أحدا كما ذكره، ولا بلغ من ذكر عيوبه كما بلغ عيوب الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بالحلف والمهانة والعيب للناس والمشي بالنمائم والبخل والظلم والإثم والجفا والدعوة، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" " لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم " وقيل: يا رسول الله ما الجواظ؟ قال: " الذي جمع ومنع تدعوه لظى نزاعة للشوى " قيل: وما الجعظري؟ قال: " الفظ الغليظ " قيل: وما العتل الزنيم؟ قال: " الشديد الخلق الرحيب البطن، ظلوم للناس " ".
قال صلى الله عليه وسلم:
" " تبكي السماء من رجل أصح الله جسمه وأرحب جوفه وأعطاه الدنيا، فكان للناس ظلوما، فذلك العتل الزنيم " قال: " وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقله "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده، وأن أولاد الزناة يحشرون في يوم القيامة في صورة القردة والخنازير ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى، فإن فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله بعقاب "
، وقال عكرمة: (إذا كثر أولاد الزنا قل المطر).
[68.14]
قوله تعالى: { أن كان ذا مال وبنين }؛ معناه: لا تطعه لأنه كان ذا مال وبنين؛ أي لا تطعه لماله وبنيه، وكان ماله نحوا من سبعة آلاف مثقال من فضة، وكان له بنون عشرة، وكان يقول لهم: من أسلم منكم فلا يدخلن داري، ولا أنفعه بشيء أبدا. وقرأ ابن عامر ويعقوب (أن كان ذا مال) بالمد، وقرأ حمزة وعاصم (أأن) كان بهمزتين. وقرأ غيرهم على الخبر حين قرأ بالاستفهام، فمعناه: ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون راجعا الى ما بعده، والمعنى: لأجل أن كان ذا مال وبنين.
[68.15-16]
قوله تعالى: { إذا تتلى عليه آياتنا }؛ وهي القرآن أبى أن يقبلها و؛ { قال أساطير الأولين }؛ أي ما كتبه الأولون من أحاديثهم قد درسه محمد وأصحابه. قوله تعالى: { سنسمه على الخرطوم }؛ أي سنسمه بالسواد على الأنف، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار، والمعنى: سنعلمه بعلامة يعرفه بها جميع أهل القيامة، ويقال: سنسمه بسيماء لا تفارقه آخر الدهر؛ أي نلحق به عارا يبقى ذلك عليه أبدا، كما تعرف الشاة بسيمتها، والخرطوم: الأنف، وقال الضحاك: (سنكويه على وجهه).
[68.17-18]
قوله تعالى: { إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين }؛ معناه: إنا امتحنا أهل مكة بالجوع والقحط والقتل والسبي والهزيمة يوم بدر، كما امتحنا أهل البستان، وأراد به بستانا كان باليمن يعرف بالقيروان دون صنعاء بفرسخين، كان يطئوه أهل الطريق، قد غرسه قوم بعد عيسى عليه السلام وهم قوم بخلاء، وقيل: من بني إسرائيل، وكانوا مسلمين باليمن، ورثوا هذا البستان من أبيهم وفيه زرع ونخيل، وكان أبوهم يجعل مما فيه حظا للمسلمين عند الحصاد والصرام.
فلما مات أبوهم ورثوه وكانوا ثلاثة، قالوا: إن المال قليل والعيال كثير، فلا يسعنا أن نفعل ما كان يفعل أبونا، وإنما كان أبونا يفعل ذلك لأن المال كان كثيرا والعيال قليلا، فعزموا على حرمان المساكين، فتحالفوا بينهم يوما ليغدوا غدوة قبل خروج الناس ليقطعوا نخلهم إذا أصبحوا بسرقة من الليل من غير أن يشعر بهم المساكين، { ولا يستثنون }؛ أي ولا يقولون إن شاء الله، وذلك قوله تعالى: { إذ أقسموا ليصرمنها } أي ليقطعن ثمرها { مصبحين } أي عند طلوع الفجر قبل أن يخرج المساكين إليه { ولا يستثنون } أي ولم يقولوا إن شاء الله.
وروي أن أباهم كان يأخذ من هذا البستان قوت سنة لنفسه، وكان يتصدق بما بقي على المساكين. وقيل: إنه كان يترك لهم ما خرج من السباط الذي كان يسقط تحت النخلة إذا صرمت، فقال بنوه بعد موته: نحن جماعة وإن فعلنا ما كان يفعله أبونا ضاق عيشنا، فحلفوا ليصرمنها مصبحين لئلا يصل إلى المساكين منها شيء، ولا يستثنون.
وإنما شبه اختبار أهل مكة باختبار أهل البستان؛ لأن أبا جهل كان قال يوم بدر قبل التقاء الفئتين، والله لنأخذهم أخذا، ولم يستثن، فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه الخبر:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم سنين كسنين يوسف "
، وكان هذا الدعاء قبل وقوع الهزيمة على الكفار، فابتلاهم الله بالجوع والقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة.
[68.19-20]
قوله تعالى: { فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون }؛ وذلك أنهم لما تخافتوا تلك الليلة على أن يصرموها، سلط الله على جنتهم بالليل نارا فأحرقته وهم نائمون. ولا يكون الطائف إلا بالليل، { فأصبحت كالصريم }؛ أي كالليل المظلم سوداء محترقة. والصريمان: الليل والنهار، ولا يصرم أحدهما من الآخر، وقيل: سمي الليل صريما؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف في الأمور.
[68.21-22]
قوله تعالى: { فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين }؛ أي أصبحوا عند طلوع الفجر ينادي بعضهم بعضا: أن اغدوا إلى بستانكم وزروعكم إن كنتم قاطعين للثمار والأعناب والزروع قبل أن يعلم المساكين بنا.
[68.23-24]
قوله تعالى: { فانطلقوا وهم يتخافتون }؛ أي فتنادوا مصبحين، وخرجوا مسرعين يتخافتون؛ أي يسرون الكلام فيما بينهم ويتشاورون فيما بينهم { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين }؛ يزاحمهم على الثمرة أن لا يقطعنها أحد من المحتاجين، والمعنى: أنهم كانوا يتشاورون يقول بعضهم لبعض: { لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } ، والتخافت: هو إخفاء الحركة، والخفوت: السكوت.
[68.25]
قوله تعالى: { وغدوا على حرد قادرين }؛ أي غدوا على قصد منع الفقراء قادرين في زعمهم على إحراز ما في جنتهم من الثمار دون الفقراء، وهم لا يعلمون أنها قد احترقت ليلا وهم نائمون. وقيل: إن الحرد هو المنع والغضب والحنق على المساكين، وقيل: الحرد هو الجد، وقيل: الغلظ.
[68.26-27]
قوله تعالى: { فلما رأوها قالوا إنا لضآلون * بل نحن محرومون }؛ فلما رأوا جنتهم عند الصباح سوداء محترقة قالوا: إنا قد ضللنا الطريق وليست هذه جنتنا، فلما أمعنوا النظر عرفوها، فعلموا أنها عقوبة، فقالوا: { بل نحن محرومون } أي حرمنا ثمر جنتنا لمنعنا المساكين، وما أخطأنا الطريق إليها.
[68.28-29]
قوله تعالى: { قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون }؛ أي قال أعدلهم وأفضلهم، وقيل: أوسط الثلاثة سنا، قال لهم: ألم أقل لكم هلا تستثنون في حلفكم وقد كان قال لهم ذلك عند قسمهم.
وإنما أقيم لفظ التسبيح مقام الاستثناء؛ لأن في الاستثناء تعظيم الله، والإقرار بأن أحدا لا يقدر أن يفعل فعله إلا بمشيئة الله تعالى. ويقال: كان استثناء القوم في ذلك الزمان التسبيح. ويجوز أن يكون معنى التسبيح ها هنا: هلا تنزهون الله وتستغفرونه من سوء نياتكم؟ { قالوا }؛ عندما رأوا من قدرة الله تعالى : { سبحان ربنآ }؛ أي تنزيها لربنا وتعظيما واستغفارا له، { إنا كنا ظالمين }؛ لأنفسنا بما عزمنا عليه من الذهاب بحقوق الفقراء ومنعنا لهم.
[68.30-33]
قوله تعالى: { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون }؛ أي أقبلوا يلوم بعضهم بعضا بما كان منهم من منع المساكين، يقول كل واحد منهم لصاحبه: هذا من عملك، وأنت الذي بدأت بذلك، ثم { قالوا }؛ بأجمعهم: { يويلنا إنا كنا طاغين }؛ حين لم نصنع ما صنع أبونا من قبل. والطاغي: المتجاوز عن الحد.
ثم رجعوا إلى الله تعالى ورجوا منه العقبى، وسألوه أن يبدلهم خيرا منها فقالوا: { عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون }؛ أي نرغب إليه ونرجو منه الخلف في الدنيا، والثواب في الآخرة. قال الله تعالى: { كذلك العذاب }؛ أي هذا العذاب في الدنيا لمن منع حق الله ولمن كفر بنعمة الله، { ولعذاب الآخرة أكبر }؛ وأشد على كفار مكة، { لو كانوا يعلمون }؛ أن الذي يخوفهم الله به حق.
[68.34-36]
قوله تعالى: { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم * أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون }؛ وذلك أن عتبة بن ربيعة كان يقول: إن كان ما يقوله محمد حقا في النعيم في الآخرة لنكونن أفضل منهم في الآخرة، فضلنا عليهم في الدنيا. فأنزل الله هذه الآيات لبيان أن جنات النعيم في الآخرة خاصة للذين يتقون الشرك والفواحش.
وقوله تعالى: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } هذا استفهام معناه الإنكار والتوبيخ. وقوله تعالى: { ما لكم كيف تحكمون } إنكار عليهم أيضا لما حكموا بالسوية وبين أهل الثواب وأهل العقاب.
[68.37-38]
قوله تعالى: { أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون } أي ألكم يا أهل مكة كتاب من الله، فيه تقرأون بأن لكم في الدنيا والآخرة ما تختارون لأنفسكم. والمعنى: ألكم فيه كتاب تقرأون أن لكم في ذلك الكتاب ما تختارون.
[68.39-40]
قوله تعالى: { أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون }؛ معناه: ألكم علينا عهود وثيقة إلى يوم القيامة، بأن لكم ما تقضون لأنفسكم أن لكم من الخير والكرامة، وإنما كسرت (إن) في هاتين الآيتين لدخول اللام في خبرها.
ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام: { سلهم أيهم بذلك زعيم }؛ أي سلهم يا محمد أيهم كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين، والزعيم هو الكفيل الضامن.
[68.41]
قوله تعالى: { أم لهم شركآء فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين }؛ معناه: ألهم فيما يقولون شهداء وأعوان عليه؟ فليأتوا بشركائهم يشهدون لهم بذلك إن كانوا صادقين في مقالتهم، وأراد بالشركاء الأصنام التي أشركوها بالله تعالى.
[68.42-43]
قوله تعالى: { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } معناه: يوم يكشف عن الأمور الشدائد وهو يوم القيامة، وهذا مما كثر استعماله في كلام العرب على معنى يوم يشتد الأمر كما يشتد ما يحتاج إلى أن يكشف فيه عن ساق، ومن ذلك قولهم: قامت الحرب على ساق، وكشفت عن ساق، وإن لم يكن للحرب ساق.
وانتصب قوله { يوم يكشف } على الظرف لقوله { فليأتوا بشركآئهم } في ذلك اليوم لتنفعهم أو تشفع لهم، وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: { يوم يكشف عن ساق } فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
والخيل تعدو عند وقت الإشراق
وقامت الحرب بنا على ساق
أي يوم القيامة يوم كرب وشدة، وقال ابن قتيبة: (أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه يشمر عن ساقيه) فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة، وقال دريد بن الصمة يرثي أخاه:
كشمس الإزار خارج نصف ساقه
صبور على الجلا طلاع أنجد
يقال للأمر إذا اشتد وتفاقم وتراكب غمه وكشف عن ساقه يوم يشتد الأمر، كما يشتد ما يحتاج إليه إلى أن يكشف عن ساق.
قوله تعالى: { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } قال المفسرون: يسجد الخلق كلهم سجدة واحدة، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون، كما روي: أن أصلابهم يومئذ تصير عظما واحدا مثل صياصي البقر، يعني قرونها. ويقال: يأمر الله أهل القيامة بالسجود، فمن كان يسجد له في الدنيا قدر على السجود في الآخرة، ومن لا فلا، فيكون ذلك أمارة تمييز المؤمن من الكافر. قوله تعالى: { خشعة أبصرهم }؛ أي ذليلة، وذلك إذا عاينوا النار، وأيقنوا بالعذاب. قوله تعالى: { ترهقهم ذلة }؛ أي تغشاهم ذلة الندامة والحسرة، وتعلوهم كآبة وحزن وسواد الوجه.
قوله تعالى: { وقد كانوا يدعون إلى السجود }؛ يعني وقد كانوا يدعون بالأذان في الدنيا، ويؤمرون بالصلاة المكتوبة، { وهم سلمون }؛ أي معافون ليس في أصلابهم مثل سفافيد الحديد.
[68.44-45]
قوله تعالى: { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث }؛ أي خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، لا تشغل قلبك به، كله فأنا أكفيك أمره. قوله تعالى: { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }؛ أي كلما جددوا معصيته جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها ثم أخذناهم بغتة. قوله تعالى: { وأملي لهم إن كيدي متين }؛ قد تقدم تفسيره.
[68.46-47]
قوله تعالى: { أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون }؛ أي أتسألهم أجرا يا محمد على ما تدعوهم إليه من الإيمان جعلا فهم من الغرم الذي يلزمهم بإجابتك مثقلون فيمتنعون عن الإجابة بسببه. قوله تعالى: { أم عندهم الغيب فهم يكتبون }؛ أي أعندهم الوحي بأنك على الباطل وهم على الحق، فيكتبون ذلك الوحي ويخاصمونك به.
[68.48-50]
قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت }؛ أي اصبر يا محمد على تبليغ الوحي والرسالة، ولا تكن في الضجر والعجلة كصاحب الحوت يونس عليه السلام، والمعنى: لا تضجر فيما يلحقك من الأذية من جهلهم كما ضجر صاحب الحوت، فخرج من بين ظهرانيهم قبل أن يأذن الله له حتى التقمه الحوت، { إذ نادى }؛ فنادى وهو في بطن الحوت:
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء: 87].
قوله تعالى: { وهو مكظوم }؛ أي مملوء غما، { لولا أن تداركه نعمة من ربه }؛ بقبول توبته، { لنبذ بالعرآء وهو مذموم }؛ أي لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض، وقيل: معناه: لنبذ بالضجر وهو ملوم مذموم، ولكن قبل الله توبته، فنبذ وهو غير مذموم. قوله تعالى: { فاجتباه ربه فجعله من الصالحين }؛ أي اختار يونس لنبوته وللإسلام، فجعله من الصالحين بقبول توبته، فرد إليه الوعي وشفعه في قومه.
[68.51-52]
قوله تعالى: { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم }؛ اختلفوا في ذلك، قال بعضهم: كان عادة العرب أنهم إذا حسدوا إنسانا تجوعوا ثلاثة أيام، ثم خرجوا عليه فقالوا له: ما أحسنك؛ ما أجملك؛ ما كذا وكذا ليصيبوه بأعينهم، فتواطؤا على أن يفعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فدفع الله عنه كيدهم وشرهم. وقيل: إن العين كان في بني إسرائيل أشد، حتى أن الناقة السمينة والبقرة السمينة كانت تمر بأحدهم، فيعاينوها ثم يقول: يا جارية خذي الزنبيل والدرهم واذهبي ائتنا بلحم من هذه، فما يبرح أن تنحر من ساعتها.
قال الكلبي: (كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل، فيقول فيها ما يعجبه، فما تذهب إلا قريبا حتى تسقط لوقتها، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه ويفعل به مثل ذلك، فأجابهم إلى ذلك، فعصم الله تعالى نبيه وحفظه عنهم، وأنزل هذه الآية).
وروي أن الكفار كانوا يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصيبوه بالعين، وكانوا ينظرون إليه نظر أشد يدا بالعين، وقال الزجاج: (معنى الآية: أن الكفار كانوا من شدة بغضهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينظرون إليه نظر البغضاء)، والمعنى: تكاد الكفار بنظرهم إليك أن يصرعوك.
وقرأ نافع (ليزلقونك) بفتح الياء، يقال: زلق هو وزلقته، مثل حزنته وحزن هو، وقرأ الباقون (ليزلقونك) من أزلقه من موضعه إذا نحاه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين "
وقال:
" إن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر "
وقيل: معنى الآية: وإن يكاد الذين كفروا من شدة إبغاضهم وعداوتهم لك يسقطونك ويصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة ويزيلونك عن المقام الذي أقامك الله فيه.
قوله تعالى: { لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون }؛ أي لما أعيتهم الحيلة عن صرف الناس عنك نسبوك إلى الجنون مع علمهم بخلاف ذلك. قوله تعالى : { لما سمعوا الذكر } يعني القرآن، وذلك أنهم كانوا يكرهون القرآن أشد الكراهة، فيحدون النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين يتلوه بالبغضاء، وكانوا ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن، فقال الله تعالى: { وما هو إلا ذكر للعالمين }؛ أي ما القرآن الذي يقرؤه عليهم إلا عظة للخلائق كلهم.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-3]
{ الحاقة * ما الحآقة }؛ اسم من أسماء القيامة، سميت به حاقة لأنها حقت فلا كاذبة لها، ولأن فيها حواق الأمور وحقائقها، وفيها يحق الجزاء على الأعمال؛ أي يجب، يقال: حق عليه الشيء إذا وجب، قال الله تعالى:
لكن حقت كلمة العذاب على الكافرين
[الزمر: 71]، ولا يكون في القيامة إلا حقائق الأمور.
وقوله تعالى: { ما الحآقة } استفهام بمعنى التفخيم لشأنها، كما يقال: زيد ما هو؟ على التعظيم لشأنه، ثم زاد في التهويل فقال: { ومآ أدراك ما الحاقة }؛ أي كأنك لست تعلمها إذا لم تعاينها، ولم تر ما فيها من الأهوال.
[69.4]
قوله تعالى: { كذبت ثمود وعاد بالقارعة }؛ أي بطغيانهم وكفرهم، هذا قول ابن عباس ومجاهد، كذبوا بالقيامة فأهلكهم الله، والقارعة من أسماء القيامة، سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بالأهوال والمخافة.
[69.5]
قوله تعالى: { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية }؛ أي بطغيانهم وكفرهم، هذا قول ابن عباس ومجاهد، وقال آخرون: يعني أهلكوا بالصيحة الطاغية، وهي التي جاوزت الحد والمقدار.
[69.6]
قوله تعالى: { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية }؛ أي بريح باردة شديدة البرد جدا بالغة منتهاها في الشدة. والصرصر: شدة البرد، والصرصر: ما يتكرر فيه البرد الشديد، كما يقال: صل اللجام إذا صوت، فإذا تكرر صوته قيل: صلصل، والعاتية من قولهم: عتا النبت إذا بلغ منتهاه في الجفاف، ومن ذلك قوله تعالى:
وقد بلغت من الكبر عتيا
[مريم: 8]، وقيل: معنى عاتية عتت عن خزائنها فلم يكن لهم عليها سبيل، ولم يعرفوا كم خرج منها.
[69.7-8]
قوله تعالى: { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما }؛ أي أرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما؛ أي متتابعة لا ينقطع أوله عن آخره، كما يتابع الإنسان الكي على المقطوع الجسم دمه؛ أي يقطعه. وفي الحديث:
" إن هذه الريح التي أصابتهم كانت قطعة من زمهرير على قدر ما يخرج من حلقة الخاتم "
قال وهب: (هذه الأيام التي أرسلت الريح على عاد هي أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة، وانقطع العذاب في اليوم الثامن). وقيل: سميت أيام العجز؛ لأنها في عجز الشتاء، ولها أسامي مشهورة تعرف في كتب اللغة.
قوله تعالى: { فترى القوم فيها صرعى }؛ معناه: فترى أيها الرائي القوم في تلك الأيام والليالي صرعى؛ أي ساقطين بعضهم على بعض موتى، { كأنهم أعجاز نخل خاوية }؛ أي كأنهم أصول نخل ساقطة بالية قد نحرت وتآكلت وفسدت. والصرعى جمع صريع، نحو قتيل وقتلى. قوله تعالى: { فهل ترى لهم من باقية }؛ أي هل ترى لهم من نفس باقية قائمة، والمعنى: لم يبق منهم أحد إلا هلكته الريح.
[69.9-10]
قوله تعالى: { وجآء فرعون ومن قبله }؛ قرأ أبو عمرو والحسن والكسائي ويعقوب بكسر (قبله) بكسر القاف وفتح الباء، ومعناه: وجاءوا فرعون ومن يليه من جنوده وأتباعه وجموعه، وقرأ الباقون بفتح القاف وإسكان الباء، ومعناه: ومن تقدمه من القرون الخالية.
قوله تعالى: { والمؤتفكات بالخاطئة }؛ يعني قوم لوط انقلبت قرياتهم بأهلها حين خسف بهم جاءوا بالخطئ العظيم وهو الشرك بالله تعالى. قوله تعالى: { فعصوا رسول ربهم }؛ يعني لوطا عليه السلام وموسى عليه السلام، والمعنى: فعصوا رسل ربهم، إلا أنه وحد الرسول؛ لأنه قد يكون مصدر وأقيم مقام لفظ الجماعة، وقوله تعالى: { فأخذهم أخذة رابية }؛ أي زائدة نامية تزيد على الأخذات التي كانت فيمن قبلهم، ومنه الربوة للمكان المرتفع، ومنه الربا لما فيه من الزيادة.
[69.11]
قوله تعالى: { إنا لما طغا المآء حملناكم في الجارية }؛ معناه: لما جاوز الماء القدر وارتفع حد أيام الطوفان في زمن نوح عليه السلام حتى علا الماء على كل شيء وارتفع، حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم في السفينة الجارية التي تجري على الماء. وسمى ارتفاع الماء في ذلك اليوم طغيانا لخروجه في ذلك اليوم عن طاعة خزانه. ويقال: لا ينزل قطر من السماء إلا وعلم الملائكة محيط بها إلا في ذلك اليوم.
[69.12]
قوله تعالى: { لنجعلها لكم تذكرة }؛ أي لنجعل تلك الأخذة وتلك السفينة بما كان من إغراق قوم نوح وإنجائه والمؤمنين معه عظة يتعظ بها الخلق، فلا تفعلوا ما كان القوم يفعلونه. قوله تعالى: { وتعيهآ أذن واعية }؛ أي تسمعها وتحفظها أذن حافظة لما جاء من عند الله.
قال قتادة: (أذن سمعت وعقلت ما سمعت، وقال الفراء: (لتحفظها كل أذن) فيكون عظة لمن يأتي بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي " قال علي: فما سمعت شيئا فنسيته بعد ذلك "
وفي تفسير النقاش:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت { وتعيهآ أذن واعية } أخذ بأذن علي رضي الله عنه وقال: هي هذه ".
[69.13]
قوله تعالى: { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة }؛ قال عطاء: (يريد النفخة الأولى)، وقال الكلبي ومقاتل: (النفخة الثانية). والنافخ إسرافيل، وأكثر المفسرين على أنها النفخة الأولى التي تكون للموت.
[69.14]
قوله تعالى: { وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة }؛ أي تحملها الملائكة الموكلون بها فيضربون الأرض بالجبال والجبال بالأرض دفعة واحدة، فتصير الجبال هباء منبثا، قال الحسن: (تصير غبرة نفس وجوه الكفار). والدك: هو الكسر والدق، والمعنى: فدقتا وكسرتا كسرة واحدة لا يثني، وقيل: الدك البسط بأن يوصل بعضها إلى بعض حتى تندك، ومنه الدكان، واندك سنام البعير إذا انغرس في ظهره.
[69.15-16]
قوله تعالى: { فيومئذ وقعت الواقعة }؛ أي قامت القيامة، { وانشقت السمآء }؛ من هيبة الرحمن، { فهي يومئذ واهية }؛ أي ضعيفة جدا لا تستقل يومئذ لانتقاض بنيتها. قوله تعالى: { والملك على أرجآئهآ }؛ أي على أطرافها ونواحيها، واحدها أرجا مقصورة وتثنيته رجوان.
قال الضحاك: (إذا كان يوم القيامة، أمر الله السماء الدنيا فتشققت، وتكون الملائكة على جوانبها حتى يأمرهم الله تعالى، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن عليها كما قال تعالى
وجآء ربك والملك صفا صفا
[الفجر: 22]). والملك لفظه لفظ الواحد وأن المراد به اسم الجنس.
[69.17]
قوله تعالى: { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية }؛ قال ابن عباس: (ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اليوم تحمله أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى فكانوا ثمانية "
ومعنى الآية: ويحمل عرش ربك يوم القيامة فوق الأربعة الذين هم على الأرجاء ثمانية. وقال بعضهم: ثمانية من الملائكة على صورة الأوعال من أظلافهم إلى ركبهم كما بين السماء والأرض.
[69.18]
قوله تعالى: { يومئذ تعرضون }؛ أي تعرضون للحساب، { لا تخفى }؛ على الله؛ { منكم } ، نفس؛ { خافية }؛ ولا يخفى عليه من أعمالكم شيء. قرأ الكوفيون غير عاصم (لا يخفى) بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. وقيل: معنى قوله تعالى: { لا تخفى منكم خافية } أي لا تخفى سريرة خافية.
[69.19]
قوله تعالى: { فأما من أوتي كتبه بيمينه فيقول هآؤم اقرءوا كتبيه }؛ وهم أهل الثواب، يعطون كتابهم بأيمانهم فيقول كل واحد منهم للناس سرورا بكتابه: تعالوا اقرأوا ما في كتابيه من الثواب والكرامة، وهذا كلام من بلغ غاية السرور.
ومعنى { هآؤم اقرءوا } أي هاتوا أصحابي اقرأوا كتابيه، قال ابن السكيت: (يقال: هاء يا رجل، وهاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال) والأصل هاكم فحذفت الكاف، وأبدلت منها همزة، وألقيت حركة الكاف عليها.
وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" " أول من يعطى كتابه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس " فقيل له: فأين أبو بكر؟ فقال: " هيهات هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة "
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم:
" يا عائشة كل الناس يحاسبون يوم القيامة إلا أبا بكر، فهو في عيشة راضية مرضية ".
[69.20]
قوله تعالى: { إني ظننت أني ملاق حسابيه }؛ معناه: إني علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة، وكنت أستعد لذلك، وسمي اليقين ظنا؛ لأنه علم الغيب لا علم شهادة، ففيه طرف من الظن ولذلك قال عليه السلام:
" ليس الخبر كالمعاينة ".
[69.21]
قوله تعالى: { فهو في عيشة راضية }؛ أي في حالة من العيش مرضية برضاها بأن لقي الثواب وأمن من العقاب، ومعنى { راضية } أي مرضية، كقوله: ماء دافق .
[69.22-24]
قوله تعالى: { في جنة عالية }؛ المنازل الرفيعة البناء. وقوله تعالى: { قطوفها دانية }؛ أي ثمارها دانية ممن يتناولها، وهو جمع قطف وهو ما يقطف من الثمار، والمعنى: ثمارها قريبة ينالها القائم والقاعد والمضطجع، لا يمنعهم من تناولها شوك ولا بعد.
ويقال لهم: { كلوا واشربوا هنيئا }؛ أي كلوا واشربوا في الجنة، { بمآ أسلفتم في الأيام الخالية }؛ بما قدمتم في الأيام الماضية من الأعمال الصالحة، ويعني بالأيام الماضية أيام الدنيا. والهناء: ما لا يكون فيه أذى من بول ولا غائط، ولا يعقبه دار ولا موت.
وكان ابن عباس يقول: (بما أسلفتم في الأيام الخالية: الصوم في الأيام الحارة). كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن من أبواب الجنة بابا يدعى الريان، من دخله لا يظمأ أبدا، يدخله الصائمون، ثم يغلق عليهم فلا يدخل معهم غيرهم ".
ويقال: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا أوليائي ما نظرت إليكم في الدنيا، قد قلصت شفاهكم من العطش، وغارت أعينكم وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، فكلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
[69.25-26]
قوله تعالى: { وأما من أوتي كتبه بشماله }؛ قال ابن السائب: (تلوى يده اليسرى خلف ظهره، ثم يعطى كتابه). وقيل: ينزع من صدره إلى خلف ظهره، { فيقول يليتني لم أوت كتبيه * ولم أدر ما حسابيه }؛ قال الكلبي رحمه الله: (نزلت الآية الأولى قوله تعالى:
فأما من أوتي كتبه بيمينه
[الحاقة: 19] في أبي سلمة ابن عبد الأسد زوج أم سلمة، وكان مسلما يعطيه الملك كتابه بيمينه صحيفة منشورة يقرأ سيئاته في باطنه، ويقرأ الناس حسناته في ظاهره، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد أن قد غفر له، فيقول:
هآؤم اقرءوا كتبيه
[الحاقة: 19] ثم صارت عامة للمسلمين).
قال الكلبي: ونزلت هذه الآية الثانية في أخي أبي سلمة، وهو الأسود بن عبد الأسد وكان كافرا يعطيه الملك الذي يكتب أعماله كتابا من وراء ظهره، فيجد حسناته غير مقبولة، وسيئاته غير مغفورة، فيسود وجهه ويقول: { يليتني لم أوت كتبيه } وهو عام في كل كافر ، يتمنى الكافر يومئذ أنه لم يعط كتابه ولم يعلم ما حسابه تحسرا على ما كان منه من الكفر والقبائح.
والهاء في (كتابيه) و(حسابيه) هاء الوقف والاستراحة، ولهذا يوقف عليها كما في قوله تعالى:
ومآ أدراك ما هيه
[القارعة: 10].
[69.27]
قوله تعالى: { يليتها كانت القاضية }؛ معناه: يا ليت الموتة الأولى كانت ماضية على الدوام، قال الحسن: (يتمنون الموت حينئذ ويحبونه، وكان من أكره الأشياء إليهم في الدنيا). ويقال: إن الهاء في قوله { يليتها } كناية عن الصيحة التي أخرجته من القبر، يقول: يا ليتها قضت علي فاستريح.
[69.28]
قوله تعالى: { مآ أغنى عني ماليه }؛ يعني لم ينفعني كثرة مالي الذي جمعته في الدنيا لأوقات الشدائد والكرب لا يمكنني أن أفتدي بشيء منه، ولم أعمل منه شيئا لهذا اليوم، بل فرقته فيما لا يحل وخلفته للوارث ولم يدفع عني من عذاب الله شيئا.
[69.29-31]
قوله تعالى: { هلك عني سلطانيه }؛ أي ضلت عني حجتي حين شهدت علي جوارحي بالشرك وبجميع ما عملت في الدنيا. وقيل: معنى السلطان العز والأمر والنهي بطل منه كل ذلك، وضالا أسيرا لا يقدر على دفع العذاب عن نفسه.
يقول الله: { خذوه }؛ أي يقول الله تعالى للزبانية الموكلين بتعذيبه: خذوه؛ { فغلوه }؛ فيثبون عليه فيأخذونه ويجعلون الغل في عنقه.
يروى: " أنه يثب عليه من جهنم ألف ملك من الزبانية، فيأخذونه فينقطع في أيديهم، فلا يرى منه في أيديهم إلا الودك ثم يعاد خلقا جديدا، فيجعلون الغل في عنقه، ويجمعون أطرافه إلى الغل الذي يجعلونه في عنقه، ثم يقذفونه في الجحيم حتى يتوقد في النار " فذلك قوله تعالى: { ثم الجحيم صلوه }؛ أي أدخلوه وألزموه الجحيم.
[69.32]
قوله تعالى: { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه }؛ السلسلة: حلقة منتظمة ذرعها سبعون ذراعا، الذراع سبعون باعا، كل باع أبعد ما بين الكوفة ومكة، قال الحسن: (الله أعلم بأي ذراع هو). قال ابن أبي نجيح: (بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة).
وقوله تعالى { فاسلكوه } أي أدخلوها في دبره، وأخرجوها من فيه، وألقوا ما فضل منها في عنقه. يقال: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها، وتقول العرب: أدخلت الخاتم في إصبعي، والقلنسوة في رأسي، ومعلوم أن الإصبع هي التي تدخل في الخاتم، ولكنهم أجازوا ذلك؛ لأن معناه لا يشكل.
وفائدة السلسلة: أن النار إذا رمت بأهلها إلى أعلاها جذبتهم الزبانية بالسلاسل إلى أسفلها، قال ابن عباس: (لو وضعت حلقة من تلك السلسلة على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص، ولو جمع صديد الدنيا كله لما وزن حلقة واحدة من حلق تلك السلسلة). قال الكلبي: (معنى قوله { فاسلكوه } أي اسلكوا السلسلة فيه كما يسلك الخيط في اللؤلؤ).
[69.33-34]
قوله تعالى: { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم }؛ أي لا يصدق بتوحيد الله وعظمته، وفيه بيان أن هذا النوع من العذاب لا يكون إلا للكفار، وقوله تعالى: { ولا يحض على طعام المسكين }؛ وهذا راجع إلى منع الحقوق الواجبة في الشرع، مثل الزكاة ونحوها، وفيه دليل أن الكافر يؤاخذ بالشرعيات في الآخرة.
[69.35-36]
قوله تعالى: { فليس له اليوم ها هنا حميم }؛ أي ليس له في الآخرة قريب ينفعه ويحميه، { ولا طعام }؛ يشبعه، { إلا من غسلين }؛ وهو ماء يسيل من أجسام أهل النار من الصديد والقيح والدم، وكل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، قال ابن عباس: (لو أن قطرة من الغسلين وقعت في الأرض أفسدت على الناس معايشهم).
[69.37]
قوله تعالى: { لا يأكله إلا الخاطئون }؛ أي لا يأكله إلا من يخطئ وخطؤهم الشرك، وعن عكرمة قال: (قرأنا عند ابن عباس (لا يأكله إلا الخاطئون) فقال: مه كلنا نخطئ). والخطأ في الآية ضد الصواب لا ضد العمد. والذي ذكره الله في قوله:
ليس لهم طعام إلا من ضريع
[الغاشية: 6] لا يخالف ما في هذه الآيات، ولأن النار دركات، فمنهم من طعامه الغسلين، ومنه من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الزقوم.
[69.38-40]
قوله تعالى: { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون }؛ معناه: أقسم بما تشاهدون مما في السماء والأرض، وبما لا تشاهدون مما وراء السماء والأرض، { إنه لقول رسول كريم }؛ إن هذا القرآن لقول جبريل عليه السلام يرويه إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
والقرآن قول أقسم الله بجميع ما خلق إعظاما للقسم، وذكر في أول الآية (لا) وذلك لأنه قد يزاد في القسم كما يقال: لا والله لا أفعل كذا، ويجوز أن تكون (لا) هاهنا صلة في الكلام مولدة، وهو قول البصريين. ويجوز أن تكون لرد مقالة الكفار عليهم، وهو قول الفراء، والمعنى: ليس كما يقول المشركون أقسم بما تبصرون.
[69.41-43]
قوله تعالى: { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون }؛ أي القرآن من عند الله، وأراد بالقليل نفي إيمانهم أصلا، { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } والكاهن: هو المنجم، وقيل: هو الذي يوهم معرفة الأمور بما يزعم أن له خدما من الجن. وقوله تعالى: { تنزيل من رب العالمين }؛ معناه: ولكنه تنزيل من خالق الخلق أجمعين على محمد صلى الله عليه وسلم.
[69.44-45]
قوله تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين }؛ معناه: لو اخترع علينا محمد صلى الله عليه وسلم بعض هذا القرآن، وتكلف القول من تلقاء نفسه ما لم نقله، لأخذنا منه بقوتنا وقدرتنا عليه ثم أهلكناه، واليمين تذكر ويراد بها القوة، قال الشاعر:
إذا ما رأية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
[69.46]
قوله تعالى: { ثم لقطعنا منه الوتين }؛ وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه.
[69.47]
قوله تعالى: { فما منكم من أحد عنه حاجزين }؛ أي ليس منكم أحد يحجزنا عنه بأن يكون حائلا بينه وبين عذابنا. والمعنى: لو تكلف ذلك لعاقبناه، ثم لم تقدروا أنتم على دفع عقوبتنا.
[69.48-52]
قوله تعالى: { وإنه لتذكرة للمتقين }؛ يعني القرآن عظة لمن اتقى عقاب الله، { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين }؛ بالقرآن، { وإنه لحسرة على الكافرين }؛ في الآخرة يندمون على ترك الإيمان به، { وإنه لحق اليقين }؛ أي أصدق يقين أنه من الله تعالى لمن تدبر وانصف، { فسبح باسم ربك العظيم }؛ أي سبح الله العظيم ونزهه عما لا يليق به.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-2]
{ سأل سآئل بعذاب واقع }؛ نزلت في النضر بن الحارث حين قال
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم
[الأنفال: 32] والمعنى دعا دعاء على نفسه بعذاب، وذلك العذاب واقع لا محالة لا بد منه، ذلك العذاب عند وقوعه، { للكافرين ليس له دافع }؛ يدفعه عنهم، فقتل النضر يوم بدر صبرا وهو من الكافرين، ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير عقبة بن أبي معيط.
[70.3]
قوله تعالى: { من الله ذي المعارج }؛ أي وقوع ذلك العذاب من الله ذي الفواضل والنعم، وسميت معارج؛ لأنها على مراتب. وقيل: معناه: ذي معالي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة. وقال الكلبي: (معناه: ذي السماوات) سماها معارج؛ لأن الملائكة تعرج فيها. وقال ابن زيد: (معنى الآية على قراءة من قرأ (سال) بغير همزة؛ أي سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع).
[70.4]
قوله تعالى: { تعرج الملائكة والروح }؛ أي تصعد الملائكة والروح يعني جبريل عليه السلام { إليه }؛ أي إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سواه فيه حكم. وقوله تعالى: { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة }؛ قال عكرمة وقتادة: (يعني يوم القيامة) وعن أبي سعيد قال:
" قيل: يا رسول الله؛ ما أطول هذا اليوم - يعني يوم القيامة -! فقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " ".
وقيل: معنى الآية: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم يكون مقداره خمسين ألف سنة لعروج غيرهم، وذلك أن من أسفل الأرضين السبع إلى فوق السماوات السبع خمسين ألف سنة، هكذا روي عن مجاهد. وأما قوله
يدبر الأمر من السمآء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة
[السجدة: 5] هو ما بين سماء الدنيا إلى الأرض في الصعود خمسمائة سنة، وفي النزول خمسمائة سنة كذلك، فذلك قوله { ألف سنة } لغير الملائكة.
وقال يمان: (يعني: القيامة في يوم القيامة خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة). وفيه تقديم وتأخير؛ كأنه قال: ليس له دافع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، تعرج الملائكة والروح إليه. وقيل: معنى الآية: لو جعل الله محاسبة الخلائق إلى أحد غيره لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، وهو يفرغ منه في ساعة واحدة؛ لأنه سريع الحساب.
[70.5-10]
قوله تعالى: { فاصبر صبرا جميلا }؛ أي اصبر يا محمد على تبليغ الوحي والرسالة وعلى ما يلحقك من الأذية من الكفار، والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى. قوله تعالى: { إنهم يرونه بعيدا }؛ أي يرون العذاب بعيدا غير كائن، كما يخبر الرجل عن شيء فيقول: هذا بعيد؛ أي هذا مما لا يكون، ونحن، { ونراه قريبا }؛ أي صحيحا كائنا؛ لأن كل ما هو كائن قريب.
ثم أخبر متى يقع العذاب فقال تعالى: { يوم تكون السمآء كالمهل } أي كالصفر المذاب، وقيل: كدردي الزيت، وقال الحسن: (مثل الفضة إذا أذيبت)، { وتكون الجبال كالعهن }؛ أي كالصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف، { ولا يسأل حميم حميما }؛ أي لا يسأل قريبا عن قرائبه لاشتغال كل بنفسه من شدة الأهوال.
وقرأ البزي عن ابن كثير (ولا يسأل حميم) بضم الياء أي لا يقال لحميم: أين حميمك؟ قال الفراء: (ولست أشتهي ذلك؛ ضم الياء؛ لأنه مخالف لجماعة القراء).
[70.11-14]
قوله تعالى: { يبصرونهم }؛ أي يعرف الأقارب أقاربهم ساعة من النهار في ذلك اليوم، ثم لا تعارف بعد تلك الساعة، فيبصر الرجل حميمه بعد ذلك فلا يكلمه. والمعنى: يعرف الحميم حميمه حتى يعرفه، ومع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه.
قوله تعالى: { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه }؛ أي يتمنى الكافر أن يفدي نفسه من عذاب الله بأولاده وزوجته وأخيه. وقوله تعالى: { وفصيلته التي تؤويه }؛ أي وعشيرته الأقربين التي تضمه ويأوي إليها، وتنصره في المكاره والشدائد، ويود أيضا أن يفتدي، { ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه } ذلك الفداء من العذاب.
[70.15-16]
قوله تعالى: { كلا }؛ لا ينجيه؛ قوله تعالى: { إنها }؛ وهي من أسماء النار، سميت بهذا الاسم في قوله: { لظى }؛ أي توقد، واللظى هو اللهب الخالص. قوله تعالى: { نزاعة للشوى }؛؛ صفة النار؛ أي كثيرة النزع للأعضاء والأطراف.
والشوى : جمع الشواة؛ وهو الطرف، وسميت جلدة الرأس أيضا بهذا الاسم. وفي الحديث:
" إن النار تنزع قحف رأسه فتأكل الدماغ كله، ثم يعود كما كان، فتعود لأكله، فذلك دأبها أبدا "
وقيل: ارتفع قوله (نزاعة) على إضمار: هي نزاعة للشوى؛ تنزع اليدين والرجلين وسائر الأطراف، فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته.
[70.17-18]
قوله تعالى: { تدعوا من أدبر وتولى } أي تدعو النار من أعرض عن الإيمان وتولى عن التوحيد وأدبر عن الحق، فتقول: إلي يا مشرك؛ إلي يا منافق؛ إلي.. إلي، فإن مستقرك في، وتدعوا أيضا من { وجمع } ، المال في الدنيا، { فأوعى }؛ أي فجعله في الأوعية، لم يصل به رحما ولا أدى فريضة ولا أنفقه في طاعة الله تعالى.
[70.19-21]
قوله تعالى: { إن الإنسان خلق هلوعا }؛ أي ضجورا شحيحا شديد الحرص مع قلة الصبر، وتفسير الهلوع مع ما ذكره الله تعالى: { إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا }؛ يعني إذا أصابه الفقر والشدة جزع فلم يصبر ولم يحتسب، وإذا أصابه ما يسر به من المال والسعة منع خلق الله منه ولم يشكر.
وعن ابن عباس أنه قال: (الهلوع الذي يرضى عند الموجود، ويسخط عند المفقود). وقيل: هو الذي يكون نساء عند النعم، دعاء عند المحن، وهذا كله إخبار عما خلق الإنسان عليه من جهة الطبع، ثم نهاه عن الجزع والمنع، يستحق بذلك جزيل الثواب.
[70.22-23]
قوله تعالى: { إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دآئمون }؛ يعني: فإنهم يغلبون فرط الهلع لثقتهم بربهم، وثقتهم بمقدوراته، والمعنى: إلا المصلين الصلوات الخمس، ويدومون عليها ولا يدعونها ليلا ولا نهارا. وعن عمران بن الحصين: أن معناه: (هم الذين لا يلتفتون في صلاتهم يمينا ولا شمالا).
[70.24-25]
قوله تعالى: { والذين في أمولهم حق معلوم }؛ يعني الزكاة المفروضة؛ لأن ما لا يكون مفروضا لا يكون معلوما، وقوله تعالى: { للسآئل والمحروم }؛ السائل: الطواف الذي يسال الناس، والمحروم: الذي يحرم وجوه الاكتساب، لا يسأل ولا يعطى. وعن ابن عباس قال: (هو الذي لا تستقيم له تجارة). وقيل: هو الذي يسهم له في الغنيمة.
" وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحروم فقال: " هو الذي تحمل نخل الناس، ولا يحمل نخله، ويزكو زرع الناس، ولا يزكو زرعه، وتلبن شاء الناس ولا تلبن شاهه "
ووجه استثناء المصلين والمنفقين: أن المصلين لا يفعلون ما يفعله الهلوع؛ لأنهم يؤدون حق الله؛ فإن مداومتهم على طاعة الله تمنعهم عن أفعال الكفار.
[70.26-28]
قوله تعالى: { والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون }؛ أي خائفون حذرون، { إن عذاب ربهم غير مأمون } أي لا يؤمن وقوعه بمن يستحقه.
[70.29-31]
قوله تعالى: { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }؛ أي لا يرسلونها إلا على أزواجهم الأربع أو جواريهم، { فإنهم غير ملومين } ، أي فإنهم لا يلامون على ترك حفظ فروجهم عن هؤلاء، { فمن ابتغى ورآء ذلك }؛ أي فمن اعتدى وضل في استباحة الوطئ طريقا غير هذين الطريقين، { فأولئك هم العادون }؛ يتعدون الحلال إلى الحرام.
[70.32]
قوله: { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون }؛ معناه: والذين هم لأماناتهم التي ائتمنوا عليها في أمر الدين، والذين للعهد الذي بعث به الأنبياء إلى الخلق راعون، وكل محافظ على شيء فهو راع له، والإمام راع لرعيته. ويدخل في هذه الآية أمانات الناس فيما بينهم وعهودهم وعقودهم بينهم.
[70.33-35]
قوله تعالى: { والذين هم بشهاداتهم قائمون }؛ أي الذين يقومون بأدائها على وجهها، ولا يكتمونها وإن كانت على أنفسهم، { والذين هم على صلاتهم يحافظون }؛ أي يراعون مواقيتها وشروطها وحدودها.
والفائدة في إعادة ذكر الصلاة؛ لتعظيم أمرها وتفخيم شأنها. وقوله تعالى: { أولئك في جنات مكرمون }؛ معناه: الذين استجمعوا هذه الخصال في جنات في الآخرة مكرمين بالتحف والهدايا.
[70.36]
قوله تعالى: { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين }؛ هذه الآية في المستهزئين؛ وهم خمسة سميناهم من قبل، كانوا قد جلسوا حول النبي صلى الله عليه وسلم يستهزئون بالقرآن ويكذبون به، فقال الله تعالى: ما لهم ينظرون إليك، ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يسمعون، والمهطع: المقبل على الشيء ببصره لا يزيله، وكانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظرة العداوة غيظا وحنقا. وقيل : معنى مهطعين: مديمين النظر متطلعين نحوك، وهو نصب على الحال.
[70.37-39]
قوله تعالى: { عن اليمين وعن الشمال عزين }؛ أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا، وجماعة جماعة، وعصبة عصبة، والعزين: جماعة في تفرقة، واحدتها عزة، ونظيرها ثبة وثبين.
وكان هؤلاء الكفار يقولون: إن كان أصحاب محمد يدخلون الجنة، فإنا ندخلها قبلهم، فقال الله تعالى: { أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا }؛ لا يكون ذلك، { إنا خلقناهم مما يعلمون }؛ أي من المقاذير والأنجاس والنطف والعلق، فأي شيء لهم يدخلون به الجنة، ومن حكمنا في بني آدم أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح، فماذا يطمعهم في ذلك وهم كفار؟ وفي هذا تنبيه على أن الناس كلهم من أصل واحد، وإنما يتفاضلون بالإيمان والطاعة.
قرأ الحسن وطلحة (يدخل) بفتح الياء وضم الخاء، ومعنى: إنا خلقناهم مما يعلمون، يعني لا يستوجب أحد الجنة بكونه شريفا، فإن مادة الخلق واحدة، بل يستوجبونها بالطاعة. قال قتادة في هذه الآية: (إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله). قال بعضهم: أنى لابن آدم الكبر؛ وقد خرج من مخرج البول مرتين، ثم من بطن أمه متلوثا بالدم متلطخا ببوله وخرائه.
[70.40-42]
قوله تعالى: { فلآ أقسم برب المشرق والمغرب }؛ معناه: فأقسم برب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف، يعني مشرق كل يوم في السنة ومغربه، { إنا لقدرون * على أن نبدل خيرا منهم }؛ أي على أن نهلكهم، ونأتي بخلق أطوع لله منهم، { وما نحن بمسبوقين }؛ أي بمغلوبين بالفوت { فذرهم يخوضوا ويلعبوا }؛ أي اتركهم يا محمد يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في كفرهم، { حتى يلقوا }؛ يعاينوا، { يومهم الذي يوعدون }؛ فيه وهو يوم القيامة، فأنتقم منهم بأعمالهم، وهذا لفظه لفظ الأمر، ومعناه: الوعد. وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية القتال.
[70.43]
قوله عز وجل: { يوم يخرجون من الأجداث سراعا }؛ بيان اليوم الذي يوعدون، وهو يوم خروجهم من القبور سراعا نحو الداعي، وذلك حين يسمعون الصيحة الآخرة، { كأنهم إلى نصب يوفضون }؛ أي إلى علم منصوب لهم يسرعون ويستبقون إلى موضع الحساب.
والأجداث: جمع الجدث وهو القبر، وكذلك الحرف، والسراع: جمع سريع، والسرائع بمعنى المسرع، كالأليم بمعنى المؤلم، والإيفاض: الإسراع، يقال: وفض يوفض؛ وأوفض يوفض؛ إذا أسرع في عدوه.
[70.44]
قوله تعالى: { خشعة أبصرهم ترهقهم ذلة }؛ أي يخرجون من القبور ذليلة أبصارهم تعلوهم مذلة وسواد الوجوه، { ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون }؛ فيه العذاب على ألسنة الرسل، فلم يصدقوهم.
وقرأ زيد بن ثابت وأبو الرجاء وأبو العالية والحسن وابن عامر (إلى نصب) بضمتين ومعناه: الأصنام التي كانوا ينصبونها ويعبدونها ويذبحون تقربا إليها.
[71 - سورة نوح]
[71.1-2]
{ إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك }؛ أي خوفهم من السخط والعذاب إن لم يؤمنوا بالله، { من قبل أن يأتيهم عذاب أليم }؛ وهو الغرق بالطوفان، فأتاهم؛ { قال يقوم إني لكم نذير مبين }؛ أي رسول مخوف بلغة تعرفونها.
[71.3-4]
قوله تعالى: { أن اعبدوا الله واتقوه }؛ أي أرسلت إليكم لتعبدوا الله وتوحدوه وتأتمروا بجميع ما آمركم به، وتتقوا سخطه وعذابه، { وأطيعون } فيما أبينه لكم عن الله تعالى: { يغفر لكم }؛ جواب الأمر؛ أي افعلوا ما أمرتكم به يغفر لكم، { من ذنوبكم }؛ ويزيل عقابه عنكم.
ودخول (من) في الآية لتخصيص الذنوب من سائر الأشياء، لا لتبعيض الذنوب كما في قوله تعالى:
فاجتنبوا الرجس من الأوثان
[الحج: 30]. ويقال: معناه: نغفر لكم من الذنوب ما لا تبعة لأحد فيه ولا مظلمة.
قوله تعالى: { ويؤخركم إلى أجل مسمى }؛ أي يؤخركم بلا عذاب إلى منتهى آجالكم، فلا يصيبكم غرق ولا شيء من عذاب الاستئصال إن آمنتم. قوله تعالى: { إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر }؛ معناه: آمنوا قبل الموت تسلموا من العقوبات والشدائد، فإن أجل الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان. قوله تعالى: { لو كنتم تعلمون }؛ أي لو كنتم تصدقون ما أقول لكم.
[71.5-7]
قوله تعالى: { قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا }؛ يعني لما آيس نوح من إيمان قومه قال: رب إني دعوت قومي إلى التوحيد والطاعة ليلا سرا ونهارا علانية، { فلم يزدهم دعآئي إلا فرارا }؛ فلم يزدادوا عند دعائي إياهم إلا تباعدا عن الإيمان بالجهل الغالب عليهم، { وإني كلما دعوتهم }؛ إلى طاعتك والإيمان بك، { لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم }؛ لئلا يسمعوا صوتي، { واستغشوا ثيابهم }؛ أي غطوا بها وجوههم؛ لئلا يروني، { وأصروا }؛ على كفرهم، { واستكبروا }؛ عن قبول الحق والإيمان بك، { استكبارا }.
[71.8-12]
قوله تعالى: { ثم إني دعوتهم جهارا }؛ أي معلنا لهم بالدعاء وعلا صوتي، { ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم }؛ أي كررت الدعاء معلنا و، { إسرارا } ، وسلكت معهم في الدعوة كل مسلك ومذهب، وتلطفت لهم كل تلطف، { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا }؛ للذنوب يجمع لكم من الحظ الوافر في الآخرة، الخصيب في الدنيا والغنى، { يرسل السمآء عليكم }؛ بالمطر، { مدرارا }؛ كثير الدرور، كلما احتجتم إليه، { ويمددكم بأموال وبنين }؛ في الدنيا بساتين، { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا }؛ تجري على وجه الأرض لمنافعكم.
وذلك أن الله تعالى كان قد حبس المطر حتى لم يبق لهم دابة ولا نباتا أخضر، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال حتى لم يكن لهم ولد في مدة سبع سنين، فوعدهم نوح عليه السلام برد ذلك كله عليهم إن آمنوا.
والسنة في الاستسقاء تقديم القرب والطاعات، والاستكثار من الاستغفار كما روي عن عمر رضي الله عنه: (أنه خرج للاستسقاء، فجعل يستكثر من الاستغفار، فقيل له: ما سمعناك استسقيت وما رددت عن الاستغفار؟ فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر، ثم قرأ: { استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السمآء عليكم مدرارا } ).
وكان بكر بن عبدالله يقول: (إن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا، وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا). وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا).
[71.13-14]
قوله تعالى: { ما لكم لا ترجون لله وقارا }؛ أي ما لكم لا تخافون لله عظمة، وتفعلون ما أمركم به تعظيما له، وترجون منه بذلك الثواب، والمعنى: ما لكم لا تعلمون حق عظمته فتوحدوه وتطيعوه، وقد جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم، فقال تعالى: { وقد خلقكم أطوارا }؛ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم صبيا ثم شابا ثم شيخا، وقلبكم في ذلك حالا بعد حال، قال ابن الأنباري: (الطور: الحال).
[71.15-16]
قوله تعالى: { ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت طباقا }؛ أي مطبقة بعضها فوق بعض، { وجعل القمر فيهن نورا }؛ قال ابن عباس: (وجهه في السماء وقفاه في الأرض)، فالقمر وإن كان في السماء الدنيا، فإنما يلي السماوات منه يضيء لهم، وما يلي الأرض منه يضيء لأهل الأرض.
قوله تعالى: { وجعل الشمس سراجا }؛ أي سراجا للعالم يبصرون بها منافع دنياهم، كما أن المصباح سراج الإنسان في البيت المظلم، قال عبدالله بن عمر: (وجه الشمس والقمر إلى السماوات، وقفاهما إلى الأرض، يضيئان في السماء، كما يضيئان في الأرض).
وقيل لعبدالله بن عمر: ما بال الشمس تعلونا أياما وتبرد أياما؟ قال: (إنها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة، ولو كانت في سماء الدنيا لما قام لها شيء).
[71.17-18]
قوله تعالى: { والله أنبتكم من الأرض نباتا }؛ يعني مبتدأ خلق آدم، فهو خلق من الأرض والناس أولاده، ونباته في هذا الموضع أبلغ من إنباته، كأنه قال: أنبتكم فنبتم نباتا، والنبات ما يخرج حالا بعد حال. وقوله تعالى: { ثم يعيدكم فيها }؛ أي في الأرض بعد الموت، يعني يقبرون فيها، { ويخرجكم }؛ منها، { إخراجا }؛ عند النفخة الأخيرة للبعث.
[71.19-20]
قوله تعالى: { والله جعل لكم الأرض بساطا }؛ أي فرشها وبسطها لكم كهيئة البساط، تستقرون عليها وتنصرفون فيها، جعلها الله لكم كذلك؛ { لتسلكوا منها سبلا فجاجا }؛ طرقا بينة واسعة، قال ابن عباس: (أراد بالفجاج الطرق المختلفة) والفج: الطريق بين الجبلين.
[71.21]
قوله تعالى: { قال نوح رب إنهم عصوني }؛ أي لم يجيبوا دعوتي، { واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا }؛ أي واتبعوا السفهاء والفقراء والرؤساء والكبراء الذين لم تزدهم كثرة الأموال والأولاد إلا ضلالا في الدين وعقوبة في الآخرة. والمعنى: أن نوحا عليه السلام قال: يا رب إنهم عصوني فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه، واتبعوا رؤساءهم وكبراءهم، بسبب الكثرة والثروة، وكانوا يصرفون سفلتهم عن دين الإسلام. والولد والولد مثل القرب والقرب والعجم والعجم.
[71.22-23]
قوله تعالى : { ومكروا مكرا كبارا }؛ أي مكرا عظيما، والكبير والكبار بمعنى واحد، ومكرهم الكبير إعظام القربة على الله تعالى، وتوصية بعضهم بقولهم: { وقالوا لا تذرن آلهتكم }؛ أي لا تدعوا عبادة أصنامكم. وقيل: مكرهم الكبير: أنهم جروا سفلتهم على قتل نوح عليه السلام، قرأ ابن محيصن وعيسى (كبارا) بالتخفيف.
قوله تعالى: { ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا } ، أي لا تدعن عبادة أصنامكم، ولا تدعن عبادة ودا ولا سواعا ويغوث ويعوق ونسرا، هذه خمسة أصنام لهم كانوا يعبدونها ويقدمونها على غيرها.
فلما جاء الغرق اندفنت تلك الأصنام، وكانت مدفونة إلى أن أخرجها الشيطان لمشركي العرب، فوقع كل صنم منها في أيدي قوم، فاتخذت قضاعة ودا يعبدونها بدومة الجندل، ثم توارثوها إلى أن جاء الإسلام، وهي عندهم. وكان سواع لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف من مراد، وكان يعوق لكهلان، ونسر لخثعم، وأما اللات لثقيف، والعزى لسليم وغطفان وجشم وسعد ونضر بن بكر. ومناة لقديد، وأساف ونائلة وهبل لأهل مكة، فكان أساف حيال الحجر الأسود، ونائلة حيال الركن اليماني، وهبل في جوف الكعبة، ثمانية عشر ذراعا. قال الواقدي: (كان ود على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير). قرأ نافع (ودا) بضم الواو، وقرأ الباقون بفتحها وهما لغتان.
[71.24]
قوله تعالى: { وقد أضلوا كثيرا }؛ أي أضل الأصنام كثيرا يعني ضلوا بسببها لقوله تعالى
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
[إبراهيم: 36]، والمعنى: قد ضل كثير من الناس بهذه الأصنام، وإنما أضاف الضلال إلى الأصنام؛ لأنها كانت سبب ضلالتهم.
وقوله تعالى: { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا }؛ هذا دعاء عليهم بعذاب، أعلمه الله أنهم لا يؤمنون وهو قوله تعالى:
لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
[هود: 36]، والمعنى: لا تزدهم إلا خسرانا وهلاكا، وإنما لم يصرف (ويغوث ويعوق) لأنهما ضارعا الأفعال.
[71.25]
قوله تعالى: { مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا }؛ أي من أجل خطاياهم أغرقوا في الدنيا فأدخلوا بذلك الغرق نارا، وفي هذا دليل على عذاب القبر، لأن حرف الفاء للتعقيب، فاقتضى أنهم نقلوا عقيب الغرق إلى النار، والكافر إنما يدخل نار جهنم يوم القيامة، وخطاياهم في هذه الآية الكفر. و(ما) ها هنا صلة، والمعنى: من خطاياهم؛ أي من أجلها وسببها. قوله تعالى: { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا }؛ أي فلم يجدوا لأنفسهم من دون الله أحدا فينصرهم ولا يمنعهم من عذاب الله.
[71.26]
قوله تعالى: { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا }؛ روى قتادة أنه قال: (ما دعا نوح بهذه الآية إلا بعد أن نزل عليه أنه
لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
[هود: 36]. والديار: متخذ الدار وساكنها، فعم الله جميع أهل الأرض بالهلاك بدعائه، غير علج فإنه غير علج إلى زمان موسى عليه السلام؛ لأنه لم يتخذ ديرا ولا سكن الدار، ويقال: ما بالدار ديار؛ أي أحد.
[71.27]
قوله تعالى: { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك }؛ أي إنك إن تتركهم على وجه الأرض ولا تهلكهم يضلوا عبادك عن دينك، { ولا يلدوا إلا فاجرا }؛ أي خارجا عن طاعتك، { كفارا }؛ لنعمك، أخبر الله تعالى نوحا عليه السلام أنهم لا يلدون مؤمنا أبدا.
[71.28]
قوله تعالى: { رب اغفر لي ولوالدي }؛ يعني أباه لامك بن متوشلخ، وأمه شخماء بنت أنوش، وكانا مؤمنين، ولذلك استغفر لهما، وقوله تعالى: { ولمن دخل بيتي مؤمنا }؛ أراد ببيته هنا السفينة، وقيل: مسجده، وقيل: داره.
وقوله تعالى: { وللمؤمنين والمؤمنات }؛ عام في كل من آمن وصدق الرسل. وقوله تعالى: { ولا تزد الظالمين إلا تبارا }؛ والتبار: الهلاك والدمار، ولذلك سمي المكسور متبرا، وقد جمع نوح بين دعوتين، دعوة على الكفار، ودعوة للمؤمنين، فاستجاب الله دعاءه على الكفار فأهلكهم، ونرجو أن يستجيب دعاءه في المؤمنين.
[72 - سورة الجن]
[72.1-3]
{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا }؛ وذلك أن السماء لم تكن تحرس فيما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما، فلما بعث الله محمدا نبينا حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، فلم يبق صنم إلا خر لوجهه.
فقال إبليس للجن: لقد حدث في الأرض حدث لم يحدث مثله، ولا يكون هذا إلا عند خروج نبي، ففرق جنده في الطلب وأمرهم أن يضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وبعث تسعة نفر من أشراف جن نصيبين إلى أرض تهامة، وكان رئيسهم يسمى عمروا، فلما انتهوا إلى بطن نخلة وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بأصحابه صلاة الفجر.
فلما سمعوا القرآن رقت له قلوبهم، ودنا بعضهم من بعض حبا للقرآن حتى كادوا يتساقطون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فذلك قوله تعالى:
وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن
[الأحقاف: 29] فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى قومهم منذرين، ولم يأتوا إبليس.
وقالوا لقومهم: { إنا سمعنا قرآنا عجبا } أي بليغا ذا عجب يعجب من بلاغته وحسن نظمه، { يهدي إلى الرشد }؛ أي يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان، { فآمنا به }؛ وصدقنا به أنه من عند الله، { ولن نشرك بربنآ أحدا }؛ من بعد هذا اليوم، كما أشرك إبليس.
" فاستجاب لهم جماعة من الجن فجاءوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرأهم القرآن فآمنوا به، وقالوا: يا رسول الله إن الأرض بيننا وبينك حجل ليس لنا فيه شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: " لكم الروث وكل أرض سبخة تنزلون بها تكون مكلبة لكم، ولكم العظم، وكل عظم مررتم عليه تجدون عليه اللحم حيث يكون " ".
ثم يكره أن يستنجى بالعظم والروث. ثم انصرفت الجن عنه، فأوحى الله إليه بهذه الآيات لبيان أن الجن لما ظهر لهم الحق اتبعوه، فالإنس أولى بذلك لأنهم ولد آدم، فكان المخالف منهم ألوم.
ومعنى الآية: قل يا محمد لأهل مكة: أوحي إلي أنه استمع إلى القرآن طائفة من الجن، فلما رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا } بعد هذا اليوم؛ أي لا نتبع إبليس في الشرك، { وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا }؛ هذا من قول الجن لقومهم، معطوف على قوله { إنا سمعنا قرآنا عجبا } وإنه تعالى جد ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا، وهذا كما يقال: فلان أعظم وأجل من أن يفعل كذا وكذا، فالجد: العظمة، وقال الحسن: (معنى الجد في هذه الآية الغنى) ومنه قولهم في الدعاء:
" ولا ينفع ذا الجد منك الجد "
أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه.
[72.4]
قوله تعالى: { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا }؛ والمراد بالسفيه في هذه الآية إبليس، وقيل: من كان لا يؤمن من الجن، وسفهه أن جعل لله صاحبة وولدا. والشطط: السرف في الخروج عن الحق، وسمي القول البعيد من قولهم: شططت الدار إذا بعدت. وقيل: الشطط: الكذب والجور، وهو وصفه بالشريك والولد.
[72.5]
قوله تعالى: { وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا }؛ أي قالت الجن: إنا ظننا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكا وصاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن وتبينا الحق منه.
[72.6]
قوله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا }؛ معناه: إن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلوا بواد، أو بأرض فأمسوا هنالك، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، أرادوا بذلك سيد الجن، فيبيتون في جوار منهم يحفظونهم حتى يصبحوا، وقالت الجن: قد سدنا الجن والإنس حتى بلغ سؤددنا الإنس فزادهم تعوذ الإنس لهم رهقا؛ أي كبرا وعظمة في نفوسهم وسفها وطغيانا وظلما.
وعن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: (خرجت مع أبي إلى المدينة وآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاءنا ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك! فنادى مناديا لا نراه: يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد حتى دخل بين الغنم لم يصبه شيء، فأنزل الله تعالى على رسوله بمكة { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } ). قال ابن عباس: (يعني زادوهم بهذا التعوذ طغيانا حتى قالوا: سدنا الإنس والجن). والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم.
[72.7]
قوله تعالى: { وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا }؛ معناه : أن كفار الجن ظنوا كما ظننتم يا أهل مكة، أن لن يبعث الله رسولا، ويقال: أن لن يبعث الله أحدا من قبره بعد الموت. والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، كما أنكم أيها المشركون لا تؤمنون.
[72.8]
قالت الجن: { وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا }؛ هذا إخبار " عن " قول الجن الذين سمعوا القرآن وآمنوا به ورجعوا إلى قومهم منذرين. والمعنى: إنا صعدنا السماء وأتيناها للطلب كما كنا نسمع إلى الملائكة من قبل: فوجدناها ملئت حفظة أقوياء من الملائكة، ونيرانا مضيئة يرمون بها إلينا ويزجرونا عن الاستماع. والحرس: جمع الحارس وهو الحافظ. والشهب: جمع الشهاب، وهو الشعاع الذي يحدث من النجم ويستنير في الهواء، تسميه العامة: الكوكب المنقض.
[72.9]
قوله تعالى: { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع }؛ روي عن ابن عباس أنه قال: (لم تكن قبيلة من الجن إلا ولها من السماء مقاعد للسمع، فكان إذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيت على الصفا، فإذا سمعته الملائكة خروا لها سجدا، ثم تقول الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا: الحق وهو العلي الكبير، وإذا كان مما يكون في الأرض من عيب أو موت تكلموا به، فتسمعه الشياطين فينزلون به على أوليائهم من الإنس. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم زجروا بالنجوم) فذلك قوله تعالى: { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا }؛ أي من يحاول الاستماع الآن يجد له كوكبا قد أرصد له يرميه بناره.
[72.10]
قوله تعالى: { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا }؛ معناه: أنهم قالوا: لا ندري أنا رمينا بالشهب أن الله تعالى أراد إنزال العذاب بالناس لمعاصيهم، أو أراد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن السماء لم تحرس قط إلا لنبوة، أو لعقوبة عاجلة عامة.
[72.11]
قوله تعالى: { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك }؛ أي منا المطيعون له في أمره ونهيه، ومنا أهل المعاصي، { كنا طرآئق قددا }؛ أي كنا أهل ملك شتى مؤمنين وكافرين. وقيل: كنا جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة. والقدة: القطعة من الشيء، يقال: صار القوم قددا إذا تفرقت حالاتهم، قال الحسن: (الجن أمثالكم، منهم مرجئة وقدرية ورافضية وشيعة).
وقال الأخفش: (معنى قولهم { كنا طرآئق } أي ضروبا). وقال أبو عبيد: (أصنافا)، وقال المؤرج: (أجناسا). وقال ابن كيسان: (شيعا وفرقا لكل فرقة هوى). وقال ابن المسيب: (كنا مسلمين ويهودا ونصارى). ويقال: فلان طريقة قومه، أي سيد مطاع فيهم.
[72.12-13]
قوله تعالى: { وأنا ظننآ أن لن نعجز الله في الأرض }؛ أي إنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض إذا أراد بنا أمرا، { ولن نعجزه هربا }؛ أي إنه يدركنا حيث كنا. قوله تعالى: { وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به }؛ أي لما سمعنا القرآن آمنا به؛ وصدقنا أنه من عند الله، { فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا }؛ أي لا يخاف نقصانا من ثواب عمله، { ولا رهقا }؛ أي ولا ظلما ولا مكروها يخشاه.
[72.14-15]
قوله تعالى: { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون }؛ أي ومنا الجائرون الظالمون، قال ابن عباس: (القاسطون هم الذين جعلوا لله ندا)، فالقاسط: هو العادل عن الحق، والمقسط: هو المعدل إلى الحق، ونظيره: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا استغنى، فالأول هو الذي ذهب ماله حتى قعد على التراب، والثاني كثر ماله حتى صار كالتراب.
قوله تعالى: { فمن أسلم }؛ معناه: فمن أخلص بالتوحيد، { فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا }؛ أي العادلون عن طريقة الإسلام، فأولئك بمنزلة الحطب في النار تشتعل النار في أبدانهم، إلى هنا كلام الجن وانقطع.
[72.16]
قوله تعالى: { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقا }؛ أوحى إلى أنه لو استقام أهل مكة على طريقة الهدى، لوسعنا عليهم أرزاقهم بالمطر والنبات والماء. والغدق: الكثير، قال مقاتل: (معناه: لأسقيناهم ماء كثيرا من السماء بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين) ونظير هذا قوله تعالى:
ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركت من السمآء والأرض
[الأعراف: 96]، وقوله تعالى:
لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة: 66]، ويقال: مكان غدق بكسر الدال إذا كان كثير الندا، وعيش غدق أي واسع، والغدق بفتح الدال مصدر.
[72.17]
قوله تعالى: { لنفتنهم فيه }؛ أي لنتعبدهم بالشكر، وذهب الكلبي إلى أن معنى الآية لو استقاموا على طريقة الكفر والضلال فكانوا كفارا كلهم لأعطيناهم ماء كثيرا ووسعنا عليهم وأرغدنا عيشهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجا حتى يفتنوا بهذا فنعذبهم، قال عمر رضي الله عنه: (أين ما كان المال كانت الفتنة) ودليل هذا التأويل قوله تعالى:
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء
[الأنعام: 44]. والقول الأول أولى؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام، ولا تذكر الاستقامة إلا على الحق.
وقوله تعالى: { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا }؛ يعني من يعرض عن القرآن ندخله عذابا شاقا ذا صعد؛ أي ذا مشقة، والصعد: الشاق الشديد، ومنه قولهم: تنفس الصعداء، وفي الحديث:
" صخرة ملساء في جهنم يكلف الكافر صعودها، يجذب من لقامه بالسلاسل، ويضرب من خلفه بالمقامع، فإذا انتهى إلى أعلاها ولا يبلغه في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، فكان دأبه هذا أبدا "
ويقال: سلكت الشيء أو أسلكته بمعنى واحد وهو الإدخال. قرأ كوفي ويعقوب (يسلكه) بالياء، وقرأ مسلم بن جندب (نسلكه) بنون مضمومة وكسر اللام.
[72.18]
قوله تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا }؛ يعني هذه المساجد المغلوقة لم تبن إلا لذكر الله، فلا تدعو مع الله فيها أحدا غير الله كما تدعو النصارى في بيعهم، وكما دعا المشركون في كعبة ربهم، وعن الحسن قال: (من السنة أنه إذا دخل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا). وقيل: إن المساجد ما يسجد الإنسان عليه من جبهته ويديه وصدور قدميه، فلا تضعوا هذه الآراب في التراب لغير خالقها.
[72.19]
قوله تعالى: { وأنه لما قام عبد الله يدعوه }؛ معناه: وأنه لما قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقرأ القرآن في الصلاة ببطن نخلة بين مكة والطائف إذ أتى تسعة من الجن، { كادوا يكونون عليه لبدا }؛ أي كادوا يسقطون عليه رغبة في القرآن وتعجبا منه وحبا لاستماعه.
ومعنى (لبدا) كاد يركب بعضهم بعضا في الازدحام، وقرأ (لبدا) وهي قراءة مجاهد، فهي بمعنى الكثير من قوله
أهلكت مالا لبدا
[البلد: 6]، وقال الحسن وقتادة: (لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبدت الإنس والجن على أن يطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناوأه).
ويقال: لما قام صلى الله عليه وسلم في عبادته بمكة، كاد مشركو مكة بشدة كيدهم له أن يكونوا عليه متكاتفين بعضهم فوق بعض ليزيلوه بذلك عن دعوته إلى الله.
[72.20]
قوله تعالى: { قل إنمآ أدعو ربي ولا أشرك به أحدا }؛ أي قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة حيث قالوا له: إنك جئت بأمر عظيم فارجع عنه، فقال: { إنمآ أدعو ربي } أي أعبده وأدعوا الخلق إليه { ولا أشرك به أحدا }.
[72.21-22]
قوله تعالى: { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا }؛ أي قل لأهل مكة: لا أملك تغيير نعم الله عليكم، ولا أجبركم على العبادة، ولا يملك ضركم ورشدكم إلا الله، { قل إني لن يجيرني من الله أحد }؛ وإنما أنا عبد خاضع، إن غضب فلا مجير لي ولا ناصر، { ولن أجد من دونه ملتحدا }؛ أي مدخلا في الأرض، ولا ملجأ ألجأ إليه، ولا حوزا أقبل إليه. واشتقاق الملتحد من اللحد.
[72.23]
قوله تعالى: { إلا بلاغا من الله ورسالاته }؛ أي لا ينجيني من عذاب الله إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به، وبذلك أرجو النجاة، ونيل الكرامة. قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا }؛ معناه: ومن يعص الله ورسوله من الأمم بعد البلاغ فلم يؤمن، فإن له نار جهنم. جواب الشرط بالفاء ولذلك لا يجوز بالكسر { خالدين فيهآ } نصب على الحال.
[72.24-27]
قوله تعالى: { حتى إذا رأوا ما يوعدون }؛ ابتداء كلام، والعرب تبتدئ ب (حتى) والمعنى: إذا رأى الكفار الذين يستطيلون على النبي صلى الله عليه وسلم العذاب إما في الدنيا أو في الآخرة، { فسيعلمون }؛ عند ذلك، { من أضعف ناصرا وأقل عددا } أي من أضعف مانعا وأقل جندا، أهم أم المؤمنون؟
فلما سمعوا هذا قال النضر بن الحارث: متى هذا الوعد الذي تعدنا به؟ فأنزل الله: { قل إن أدري أقريب ما توعدون }؛ من العذاب؛ أي ما أدري أقريب هذ العذاب، { أم يجعل له ربي أمدا }؛ أي غاية وبعدا، قال عطاء: (يعني أنه لا يعلم يوم القيامة إلا الله تعالى وحده) وهو قوله تعالى: { علم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا }؛ أي لا يطلع على غيبه أحدا من خلقه، { إلا من ارتضى من رسول }؛ فإنه إذا أراد إطلاعه بالوحي على ما يشاء على الغيب، { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا }؛ أي جعل من بين يدي الرسول ومن خلفه حفظة من الملائكة ليحيطوا به، ويحفظونه، ويحفظوا الوحي من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة.
وذلك أن الله تعالى كان إذا أنزل جبريل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل ملائكة يحيطون به وبالنبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ من وجهه، كيلا يقرب منه شيطان ولا جان يذهبون به إلى كهنتهم حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من تكلم به؛ ليكون ذلك دليلا على نبوته.
[72.28]
قوله تعالى: { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم }؛ أي ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قد أبلغوا رسالات ربهم، وأن الرسالة لم تصل إلى غيره. وقيل: ليعلم الجن والإنس أنهم قد أبلغوا. وفي قراءة ابن عباس (ليعلم) بضم الياء. وهذه الآية تدل على أنه يعلم بالنجوم ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك، فهو كافر بالقرآن وبما فيه.
قوله تعالى: { وأحاط بما لديهم }؛ أي أحاط علمه بما عندهم، يعني أحاط علم الله بما عند الرسل فلم يخف عليه شيء، { وأحصى كل شيء عددا } أي علم عدد الأشياء وأوقاتها كلها مع كثرتها على تفاصيلها، لم يفته علم شيء حتى مثاقيل الذر والخردل.
[73 - سورة المزمل]
[73.1]
{ يأيها المزمل }؛ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم نودي في حال كونه ملتففا بثيابه في بعض الليل، وأمر بالقيام بالصلاة وهجران النوم، والمعنى: يا أيها المتلفف بثيابه، يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى به، وزمل غيره إذا غطاه.
قال أبو عبيدالله الجدلي: (سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى { يأيها المزمل } ما كان تزمله؟ قالت: في مرط كان طوله أربعة عشر ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة، ونصفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي. فسألتها مم كان؟ قالت: والله ما كان خزا ولا قزا ولا صوفا، كان سداه شعرا ولحمته وبرا). قال السدي: (معناه: يا أيها النائم قم فصل). قالت الحكماء: إنما خوطب بالمزمل والمدثر في أول الأمر لأنه لم يكن بلغ شيئا من الرسالة، ثم خوطب بعد ذلك: يا أيها النبي، يا أيها الرسول.
[73.2-4]
قوله تعالى: { قم اليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا }؛ أي قم للصلاة؛ أي صل أكثر الليل أو قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا، أو انقص من النصف، { أو زد عليه }؛ خيره الله تعالى في قيام الليل في هذه الساعات.
قال المفسرون: معنى قوله { نصفه أو انقص منه قليلا } أي انقص من النصف إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين، جعل له سعة في قيام الليل وخيره في هذه الساعات، قال الحسن: ((فرض الله على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وهم بمكة أن يقوموا بثلث الليل وما زاد)).
سئلت عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ((أما تقرأون هذه السورة { يأيها المزمل }؟ قالوا: بلى، قالت: فإن الله فرض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه، وأمسك الله خاتمة السورة اثنى عشر شهرا، ثم ترك التخفيف في آخر السورة بعد أن قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا، فصار قيام الليل تطوعا بعد ذلك)).
وكان قيامه فرضا قبل أن فرض " الله " الصلوات الخمس، ولا خلاف بين المسلمين في أن قيام الليل مندوب إليه مرغب فيه، قال صلى الله عليه وسلم:
" أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما ".
وروي: (أن هذه الآيات لما نزلت قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان الرجل من الصحابة لا يدري متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان، فكان يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب، حتى شق عليهم ذلك وانتفخت أقدامهم وتغيرت ألوانهم، فرحمهم الله تعالى وخفف عنهم، ونسخ بقوله
علم أن سيكون منكم مرضى
[المزمل: 20]، وكان بين أول السورة وآخرها سنة).
وقوله تعالى: { ورتل القرآن ترتيلا }؛ أي بينه بيانا واقرأه قراءة بينة. والترتيل: ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها بتبين وتثبت من غير عجلة، وكذلك الترسل. والمعنى: تفهم معانيه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه. وأما الحدر فهو الإسراع في القراءة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلا) أي ترسلا. وقال أبو حمزة: ((قلت لابن عباس: إني رجل في قراءتي وكلامي عجلة، فقال ابن عباس: لئن أقرأ البقرة وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله هدرمة)).
[73.5]
قوله تعالى: { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا }؛ ليس على ثقل الحفظ، ولكن قال الحسن: ((إنهم ليهذون هذاؤه، ولكن العمل به ثقيل)). وقال قتادة: ((ثقيل والله فرائضه وحدوده))، وقال مقاتل: ((ثقيل لما فيه من الأمر والحدود)). وقال أبو العالية: ((ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام، فلا يقدر أحد أن يؤدي جميع أوامره إلا بتكلف يثقل)).
ويقال: معناه: كلاما محكما ليس بسفساف كما يقال: هذا كلام له وزن. وقيل: إنما سمي ثقيلا لثقله في الميزان مع خفته على اللسان، وعن الحسن في قوله تعالى { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } قال: ((العمل))، وقيل: ثقيل لا يحمله إلا القلب المؤيد بالتوفيق ونفس مؤمنة بتوحيده.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: [لقد رأيته ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه، وإن جبينه لينفص عرقا]. وقالت عائشة أيضا: [إن كان ليوحى إليه وهو على راحلته فتضرب بجرانها].
[73.6]
قوله تعالى: { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ }؛ معناه: إن القيام في ساعات الليل أثقل وأشد على القائم من القيام بالنهار؛ لأن الليل إنما خلق للراحة والسكون، ففعل الطاعة فيه أشد من فعلها بالنهار، وقال ابن مسعود: ((إن ناشئة الليل قيام الليل)). وقالت عائشة: ((الناشئة القيام بعد النوم))، وعن ابن الأعرابي: ((إذا نمت من أول الليل، ثم قمت فتلك الناشئة)) ومنه ناشئة الليل.
وقيل: ناشئة الليل ساعاتها كلها، وكل ساعة منه فهي ناشئة، سميت بذلك؛ لأنها تنشئ، ومنه نشأت السحابة إذا بدت، وجمعها ناشئات، وعن حاتم بن أبي صغيرة قال: ((سألت ابن أبي مليكة عن ناشئة الليل فقال: على اللبيب سقطت، سألت ابن عباس فزعم أن الليل كله ناشئة، وسألت الزبير عنها فأخبرني مثل ذلك)).
وقال ابن جبير: ((أي ساعة قام من الليل فقد نشأ))، وقال قتادة: ((ما كان بعد العشاء فهو ناشئة)). وقال عبيد بن عمير لعائشة رضي الله عنها: ((رجل قام من أول الليل أيقال له ناشئة؟ قالت: لا؛ إنما الناشئة القيام بعد النوم)). وقال ابن كيسان: ((هي القيام من آخر الليل)). وعن ابن عباس قال: ((إذا نشأت قائما فهو ناشئة))، وعن مجاهد أنه قال: ((إذا قام الإنسان الليل كله فصلى فهو ناشئة، وما كان بعد العشاء الأخيرة فهو ناشئة)).
قوله تعالى: { هي أشد وطأ وأقوم قيلا } أي أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب اشتدت على القوم وطأة السلطان؛ إذا ثقل عليهم ما يلزمهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر ".
وقرأ أبو عمرو وابن عامر (وطئا) بكسر الواو والمد على معنى المواطأة والموافقة، ومنه قوله تعالى:
ليواطئوا عدة ما حرم الله
[التوبة: 37]، قال ابن عباس: ((يواطئ السمع القلب))، والمعنى: أن صلاة ناشئة الليل يواطئ السمع والقلب فيها أكثر مما يواطئ في ساعات النهار؛ لأن الليل أفرغ للانقطاع عن كثر ما يشغل بالنهار. ويقال: واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطأة؛ إذا وافقته عليه.
قوله تعالى: { وأقوم قيلا }؛ أي أبين قولا بالقرآن، وقيل: أستر استقامة وأطرب قراءة، وعبادة الليل أشد نشاطا وألد إخلاصا وأكثر بركة.
[73.7]
قوله تعالى: { إن لك في النهار سبحا طويلا }؛ أي إن لك في النهار تصرفا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك، وسعة لتصرفك وقضاء حوائجك، والمعنى: إن لك في النهار فراغا للنوم والتصرف في الحوائج، فصل من الليل.
والسبح: التقلب، ومنه السابح في الماء لتقلبه بيديه ورجليه. وقيل: معناه: إن لك في النهار تصرفا واشتغالا في حوائجك حيث لا تتفرغ لصلاة النفل، فخذ حظك من قيام الليل، وكان شغل النبي صلى الله عليه وسلم بالنهار ما كان عليه من تبليغ الوحي والرسالة وتعليم الناس الفرائض والسنن، وقيامه بأدائها وأمور معاشه ومعاش عياله.
[73.8]
قوله تعالى: { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا }؛ معناه: واذكر اسم ربك بالتوحيد والتعظيم. ويجوز أن يكون المراد به الذكر المشروع لافتتاح الصلاة، ويجوز أن يكون المراد به كثرة ذكر الله في الصلاة وخارج الصلاة.
قوله تعالى: { وتبتل إليه تبتيلا } أي انقطع إلى الله في العبادة، وتأميل الخير منه دون غيره. ومن هذا سميت فاطمة البتول؛ لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، والبتل في اللغة: القطع وتميز الشيء من الشيء، ومنه صدقة بتلة؛ أي منقطعة من مال صاحبها، وطلقة بتلة: قاطعة للزوجة.
وإنما قال { تبتيلا } ولم يقل تبتلا على معنى تبتل لنفسك إليه تبتيلا. وقال ابن عباس: ((معنى { وتبتل إليه تبتيلا } أي أخلص إليه إخلاصا)). وقال الحسن: ((اجتهد اجتهادا)). وقال شقيق: ((توكل عليه توكلا). وقال زيد بن أسلم: ((التبتل: رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله)).
[73.9]
قوله تعالى: { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو }؛ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو ونافع وحفص (رب المشرق) بالرفع على معنى: هو رب المشرق، وقرأ الباقون بالخفض على معنى نعت الرب في قوله { اسم ربك }. وقيل: على البدل منه، ويجوز أن تكون قراءة الرفع على الابتداء، وخبره { لا إله إلا هو }. وقوله تعالى: { فاتخذه وكيلا }؛ أي اتخذه حافظا لك، وكفيلا فيما وعدك من النصر والثواب لك ولأمتك.
[73.10]
قوله: { واصبر على ما يقولون }؛ يعني: واصبر يا محمد على ما يقوله الكفار والمنافقون من التكذيب، { واهجرهم هجرا جميلا }؛ أي لا جزع فيه؛ أي اصطبر اقتصر على إظهار الوحي من غير خصومة، وهذا قبل الأمر بالقتال.
[73.11]
قوله عز وجل: { وذرني والمكذبين أولي النعمة }؛ أي كل أمرهم إلي ولا تهتم بهم، فإني أكفيكهم. يقال: ذرني وزيدا؛ أي دعني وزيدا؛ أي لا تهتم به فإني أكافيه. وقوله تعالى: { أولي النعمة } أي ذووا النعمة ذوو الغنى وكثرة المال.
قالت عائشة رضي الله عنها: ((لما نزلت هذه الآية إلى قوله { ومهلهم قليلا }؛ لم يكن إلا يسيرا حتى وقعت وقعة بدر)). والنعمة بفتح النون التنعم، والنعمة بالكسر المال والغنى، والنعماء: قرة العين بضم النون.
[73.12-14]
قوله تعالى: { إن لدينآ أنكالا وجحيما }؛ أي إن عندنا في الآخرة لهم قيودا وأغلالا، واحدها نكل؛ وهو القيد من الحديد لا يحل. وقوله تعالى: { وطعاما ذا غصة } أي لا يسوغ في الحلق، يعني الزقوم. وقال عكرمة: ((شوك يأخذ بالحلق، لا يدخل ولا يخرج))، وقال الزجاج: ((يعني الضريع)). وقيل: طعام يأخذ بحلوقهم لخشونته وحرارته، لا ينزل فيها بل تضيق أنفاسهم عنها فيختنقون بها.
قوله تعالى: { وعذابا أليما * يوم ترجف الأرض والجبال }؛ أخبر الله تعالى أن هذا العذاب المذكور يكون في يوم ترجف الأرض والجبال؛ أي تزلزل وتحرك، وهو يوم القيامة. والراجفة: من أسماء القيامة. وقوله تعالى: { وكانت الجبال كثيبا مهيلا }؛ أي رملا سائلا، يقال: تراب مهيل ومهيول؛ أي مصبوب ومرسل. والكثيب: القطعة العظيمة من الرمل إذا حرك أسفلها انهال أعلاها.
[73.15-16]
قوله تعالى: { إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شاهدا عليكم }؛ أي بعثنا إليكم محمدا يا أهل مكة رسولا شاهدا عليكم بالتبليغ، وشهيد عليكم بأعمالكم يوم القيامة، { كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا }؛ يعني موسى عليه السلام، { فعصى فرعون الرسول }؛ أي موسى ولم يجبه إلى ما دعاه { فأخذناه أخذا وبيلا } أي عاقبنا فرعون عقوبة عظيمة، يعني الغرق الوبيل الثقيل جدا، ومنه الوبال لثقله، ويقال للمطر العظيم: الوابل، وطعام وبيل؛ أي ثقيل واخم.
[73.17]
قوله تعالى: { فكيف تتقون إن كفرتم يوما }؛ أي بأي شيء تتحصنون من عذاب يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ولم تؤمنوا برسولكم. قوله تعالى: { يجعل الولدان شيبا }؛ معناه: فكيف تتقون إن كفرتم عذاب يوم يجعل الولدان شيبا؛ أي تشيب الصغار في ذلك اليوم، وذلك حين يسمعون النداء:
" " يا آدم ابعث بعثك من ذريتك إلى النار، من كل ألف واحد إلى الجنة والباقي إلى النار، فعند ذلك يشيب الصغير " فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الواحد؟ فقال: " إني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبروا وحمدوا، فقال: " إني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبروا وحمدوا، فقال: " ما أنتم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود " ".
[73.18]
قوله تعالى: { السمآء منفطر به }؛ أي السماء منشقة بذلك اليوم، وذكر السماء؛ لأن معناها السقف كما في قوله
سقفا محفوظا
[الأنبياء: 32]. وقوله عز وجل: { كان وعده مفعولا }؛ أي كان وعد الله من البعث وأهوال يوم القيامة كائنا لا شك فيه.
[73.19]
قوله تعالى: { إن هذه تذكرة }؛ أي إن هذه السورة عظة للناس، وقيل: معناه: إن آيات القرآن موعظة، { فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا }؛ أي طريقا.
[73.20]
قوله تعالى: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي اليل ونصفه وثلثه }؛ معناه: إن ربك يا محمد يعلم إنك تقوم أقل من ثلثي الليل في بعض الليالي، وأقل من نصف الليل في بعض الليالي، وأقل من الثلث في بعضها. قوله تعالى: { وطآئفة من الذين معك }؛ يعني: المؤمنون كانوا يقومون معه.
قرأ الكوفيون وابن كثير (ونصفه وثلثه) بالنصب فيهما على معنى: ويقوم نصفه وثلثه. وقال الحسن: ((لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم قط أقل من ثلثي الليل، وإنما قال: (أدنى) في الطائفة الذين معه)) ولفظه (أدنى) تعقل منها القلة، لا يقال: عندي دون العشرة إلا والنقصان منها قليل.
قوله تعالى: { والله يقدر اليل والنهار }؛ أي يعلم مقاديرهما وساعاتهما على الحقيقة، { علم أن لن تحصوه }؛ أي علم أنكم لم تعلموا حقيقة قدرهما، يعني أنكم ما تعرفون مقادير الليل والنهار، ولذا لم تعلموا حقيقة المقدار الذي أمركم بالقيام فيه لم تطيقوه إلا بمشقة، { فتاب عليكم }؛ أي فتجاوز عنكم قيام الليل بالتخفيف عنكم، { فاقرءوا ما تيسر من القرآن }؛ في صلاة الليل.
قوله تعالى: { علم أن سيكون منكم مرضى }؛ لا يقدرون على قيام الليل بقراءة السور الطوال، { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله }؛ أي وآخرون يسافرون لطلب رزق الله فلا يطيقون ذلك، { وآخرون يقتلون في سبيل الله }؛ أي وعلم أن فيكم من يجاهد في سبيل الله، يعني يقاتل أعداء الله لا يطيقون قيام الليل، { فاقرءوا ما تيسر منه }؛ أي من القرآن في الصلاة.
قوله تعالى: { وأقيموا الصلوة }؛ أي وأقيموا الصلوات الخمس بشرائطها وما يجب من حق الله فيها، فنسخ قيام الليل بالصلوات الخمس على المؤمنين، وثبت على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قوله تعالى: { وآتوا الزكوة }؛ يعني المفروضة، { وأقرضوا الله قرضا حسنا }؛ من الصدقة سوى الزكاة من صلة الرحم، وقرى الضيف، وصدقة التطوع.
قوله تعالى: { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله }؛ أي ما تفعلوا من صدقة فريضة أو تطوع أو عمل صالح تجدوا ثوابه عند الله، { هو خيرا }؛ لكم، { وأعظم أجرا }؛ من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت.
وإنما انتصب (خيرا) لأنه المفعول الثاني، وأدخل (هو) فصل، ويسميه الكوفيون العماد، { واستغفروا الله }؛ لما مضى من الذنوب والتقصير في الطاعة، { إن الله غفور }؛ لمن استغفر، { رحيم }؛ لمن مات على التوبة.
وقد تضمنت هذه الآية معان: أحدها: أنه نسخ بها فريضة قيام الليل. الثاني: أنها تدل على لزوم فرض القراءة في الصلاة؛ لأن القراءة لا تلزم في عين الصلاة. والثالث: دلالة جواز الصلاة بقليل القراءة. والرابع: أن ترك قراءة الفاتحة في الصلاة لا تمنع جوازها إذا قرأ فيها غيرها.
فإن قيل: هذه الآية نزلت في قيام الليل وذلك منسوخ، فكيف تستدلون بها على هذه الأحكام؟ قلنا: المراد بقوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } أمر بالقراءة بعد ذكر النسخ، ثم نسخ فرض الصلاة لا يوجب نسخ شرائطها وسائر أحكامها.
فإن قيل: المراد بقوله: { فاقرءوا ما تيسر } في صلاة التطوع. قلنا: إذا ثبت وجوب ذلك وحكمه في التطوع فالفرض مثله؛ لأن أحدا لا يفرق بينهما في هذه الأحكام، وصلاة التطوع وإن لم تكن فرضا لكن إذا شرع فيها يلزمه إقامتها بجميع أركانها كما لزمه إقامتها بجميع شرائطها من الطهارة وستر العورة ونحو ذلك.
[74 - سورة المدثر]
[74.1-2]
قال مقاتل:
" ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير إلى جبل حراء، إذ سمع مناديا ينادي من فوق رأسه يقول: يا محمد، فنظر من خلفه يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فمضى على وجهه، ثم نودي الثانية، فنظر كذلك فلم ير شيئا ففزع، فمضى على وجهه، فنودي الثالثة فنظر إلى خلفه يمينا وشمالا، ثم نظر إلى السماء فنظر مثل السرير بين السماء والأرض عليه جبريل مثل النور المتوقد يتلألأ، ففزع فوقع مغشيا عليه، ثم أفاق فقام يمشي ورجلاه تصطكان.
فرجع حتى دخل على خديجة، فصب عليه ماء باردا، فقال: " دثروني دثروني " فدثروه بقطيفة حتى استدفأ؛ فلما أفاق، قال: " لقد أشفقت على نفسي " فقالت خديجة: أبشر فلا يخزيك الله أبدا، إنك لتصدق الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقوي الضعيف، وتعين على نوائب الحق.
فأتاه جبريل عليه السلام وهو مدثر بثيابه على فراشه ليلا، فقال: يا أيها المدثر بثيابه مضطجعا على فراشه قم فأنذر كفار مكة العذاب أن يوحدوا ربك، وادعهم إلى الصلاة والتوحيد "
والدثار: ما تدثرت به من الثوب الخارج. والشعار: الثوب الذي يلي الجسد.
[74.3-4]
قوله تعالى: { وربك فكبر }؛ أي صفه بالتعظيم، وعظمه مما يقوله عبدة الأوثان، ويقال: أراد به التكبير لافتتاح الصلاة. قوله تعالى: { وثيابك فطهر } أي طهر ثيابك من النجاسة لإقامة الصلاة. وقيل: معناه: طهر نفسك وخلقك عما لا يجمل بك. وقيل: معناه: وقلبك فطهر، وقد يعبر بالثوب عن القلب. وقيل: معناه: وعملك فأصلحه، قال السدي: (يقال للرجل إذا كان صالحا أنه طاهر الثياب، وإذا كان فاجرا أنه خبيث الثياب).
[74.5]
أي والإثم فاتركه ولا تقربه . وقيل: معناه: والأصنام فتباعد عنها، والرجز في اللغة: العذاب، والمعنى في هذا: فاهجر ما يؤذيك إلى عذاب الله. قرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وشيبة ويعقوب (والرجز) بضم الراء ومثله روي عن عاصم، وقرأ الباقون بكسرها، وهما لغتان.
[74.6-7]
قوله تعالى: { ولا تمنن تستكثر }؛ معناه: لا تعط شيئا من مالك لتأخذ أكثر منه، والمعنى: لا تعط مالك مصانعة لتعطى أكثر منه في الدنيا، أعط لربك. أدب الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الآداب. وقيل: معناه: لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثر عملك. وقيل: معناه: لا تعط شيئا وتعطي أكثر من ذلك، وهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لأنه كان في أعلى مكارم الأخلاق، كما حرمت عليه الصدقة، وأما غيره فليس عليه إثم في أن يهدي هدية يتوقع بها الكثير منها. قوله تعالى: { ولربك فاصبر }؛ على طاعته وفرائضه، والمعنى: لأجل ثواب ربك. وقيل: معناه: فاصبر على الأذى والتكذيب. وقيل: فاصبر على البلوى والامتحان، فإن الله يمتحن أحباءه وأصفياءه.
[74.8-10]
قوله تعالى: { فإذا نقر في الناقور }؛ أي فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية، { فذلك يومئذ يوم عسير }؛ يعني يوم النفخ في الصور يوم عسير، { على الكافرين } ، منه الأمر على الكفار، وقوله: { غير يسير }؛ بدل من يوم عسير؛ أي لا يكون هينا عليهم.
[74.11-12]
قوله تعالى: { ذرني ومن خلقت وحيدا }؛ يعني الوليد بن المغيرة المخزومي خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد؛ أي كل إلي أمر من خلقته فريدا بلا مال ولا ولد، { وجعلت له }؛ ثم أعطيته بعد ذلك، { مالا ممدودا }؛ أي كثيرا يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة، قال عطاء: (ما بين مكة إلى الطائف من الإبل والخيل المسومة وعبيد وجوار). وقيل: معنى قوله { مالا ممدودا } يأتي شيئا بعد شيء غير منقطع.
وقد اختلفوا في مبلغ ماله، قال مجاهد وسعيد بن جبير: ((مائة ألف مثقال))، وقال سفيان الثوري: ((ألف ألف مثقال))، وقال مقاتل: ((كان له بستان في الطائف لا تنقطع ثمارها شتاء ولا صيفا)).
[74.13]
أي حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه، قال سعيد بن جبير: ((كانوا ثلاثة عشر ولدا))، وقال مجاهد: ((كانوا عشرة كلهم ذكور، منهم الوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد؛ وعمارة وهاشم بن الوليد؛ والعاصي وقيس بن الوليد؛ وعبد شمس بن الوليد، فأسلم منهم ثلاثة خالد وهاشم وعمارة). وقالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.
وانتصب قوله { وحيدا } على الحال. ويجوز أن يكون صفة المخلوق على معنى خلقته وحده، ويجوز أن يكون من صفة الخالق على معنى خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد.
[74.14-16]
قوله تعالى: { ومهدت له تمهيدا }؛ أي بسطت له في العيش وطول العمر بسطا، { ثم يطمع أن أزيد }؛ معناه: ثم يطمع أن أزيد له في المال والولد، وقد كفر بي وبرسولي، { كلا } ، لا أزيده، لم يزل الوليد بعد هذا في نقصان من المال والحال حتى صار يسأل الناس ومات فقيرا. وقوله تعالى: { إنه كان لآياتنا عنيدا }؛ معناه: إنه كان لكتابنا ورسولنا معاندا، والعنيد: الذاهب عن الشيء على طريق العداوة، والجمل العنود: هو الذي يمر على جانب من القطار.
[74.17]
أي سأكلفه في النار ارتقاء الصعود، وهو جبل من صخرة ملساء في النار، يكلف الكافر أن يرتقيه حتى إذا بلغ أعلاه في أربعين عاما، كلما وضع يده عليه ذابت، وإذا رفعها عادت. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الصعود جبل من نار، يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك منه أبدا، كلما وضع يده عليها ذابت وإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت، وكلما بلغ أعلى ذلك الجبل انحدر إلى أسفله، ثم يكلف أيضا أن يصعد، فذلك دأبه أبدا يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد مسافة كل صعود أربعون سنة ".
[74.18-19]
قوله تعالى: { إنه فكر وقدر }؛ معناه: إنه فكر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في احتياله للباطل، وقدر القول فيه، وقيل: معناه: تفكر ماذا تقول في القرآن؟ وقدر القول في نفسه، وذلك أنه لما نزل قوله تعالى :
حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير
[غافر: 1-3] قام رسول الله صلى الله عليه وسلم والوليد بن المغيرة قريبا منه يستمع قراءته، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم استماعه إلى قراءته عاد إلى قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم وقال: والله لقد سمعت من محمد الآن كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة ولطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى.
ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلها، وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، ثم انطلق فقعد إلى جنبه حزينا، فقال له الوليد: ما لي أراك حزينا يا ابن أخي؟ قال: وما لي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك، يزعمون أنك زينت كلام محمد وتدخل إليه وإلى أبن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم. فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدا؟ وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل؟
ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: إن الموسم قد دنا، وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، فما أنتم قائلون لمن سألكم عنه؟ قالوا: نقول إنه مجنون؛ قال: إذا يخاطبونه فيعلمون أنه غير مجنون. فقالوا: نقول إنه شاعر؛ قال: العرب يعلمون الشعر ويعلمون أن الذي جاء به غير الشعر. فقالوا: نقول إنه كاهن؛ فقال: إن الكاهن يصيب ويخطئ ولا يقول في كهانته: إن شاء الله، وهذا يقول في كلامه: إن شاء الله، وقوله لا يشبه قول الكهنة. فقال بعضهم لبعض: قد صبأ الوليد، فإن صبأ فلم يبق واحد من قريش إلا صبأ.
فقيل له: كيف تقول أنت يا أبا المغيرة في محمد، فتفكر في نفسه ثم نظر، ثم عبس وقال: ما هو إلا ساحر ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه بسحره، ألا ترون أنه يفرق بين المرء وزوجه، فإن المرأة تكون معنا ويكون زوجها معه! فتفرقوا على هذا القول.
ومعنى الآية: إنه فكر لمحمد بتهمة يتعلق بها في تكذيبه، وقدر لينظر فيما قدره أستقيم له أن يقوله أم لا؟ قوله تعالى: { فقتل كيف قدر }؛ أي لعن وعذب على أي حال قدر من الكلام، كما يقال: لأعرفنه كيف صنع إلي على أي حالة كانت منه.
[74.20-21]
قوله تعالى: { ثم قتل كيف قدر }؛ أي ثم لعن وعوقب بعقاب آخر، كيف ذهب إلى هذا التقدير، { ثم نظر }؛ معناه: نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نظر العداوة بكراهة شديدة ليتخذ طعنا فيهم. وقيل: ثم نظر في طلب ما يدفع به القرآن ويرده.
[74.22]
أي ثم كلح في وجوه أصحابه وقبض جبهته، والبسور أشد من العبوس، والمعنى: ثم كلح بوجهه ونظر بكراهة شديدة.
[74.23-25]
قوله تعالى: { ثم أدبر واستكبر }؛ أي ثم أعرض عن قبول القرآن واتباع الرسول وتعظم من الإيمان، { فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر }؛ أي قال ما هذا القرآن إلا سحر يروى عن السحرة؛ أي يأثره محمد عن غيره، وذلك أنه كره أن يقول إن محمدا ساحر، فيغضب بنو هاشم، فقال: إنما السحر في الأعاجم، وهذا إنما يأثر السحر عن غيره، وكان يقول في القرآن: ما هو سحر ولا كهانة ولكنه سحر يؤثر عن قول البشر؛ أي يحكى بينهم. ومعنى قوله تعالى: { إن هذآ إلا قول البشر }؛ يعني أنه كلام الإنس وليس من عند الله.
[74.26-28]
قوله تعالى: { سأصليه سقر }؛ أي سأدخله وألزمه في الآخرة سقر بما فعل، واستكبر عن قبول الحق، وسقر اسم من أسماء النار، وهي معرفة مؤنثة، فلذلك لم تنصرف. قوله تعالى: { ومآ أدراك ما سقر }؛ تعظيم لأمرها، وإنما سميت بهذا الاسم لشدة إيلامها من قولهم: سقرته الشمس إذا آلمت دماغه. قوله تعالى: { لا تبقي ولا تذر }؛ أي لا تبقي لحما ولا تذر عظما، وعن مجاهد: ((لا تبقي من فيها حيا ولا تذره ميتا)).
[74.29]
أي مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال: لوحته الشمس، ولاحه السقم والحزن إذا غيره. قيل: إنها تغير الجلد حتى تدعه أسود سوادا من الليل.
[74.30-31]
قوله تعالى: { عليها تسعة عشر }؛ أي تسعة عشر من الزبانية الموكلين بتعذيب أهلها، جاء في الحديث:
" إن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كصياصي البقر، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت الرحمة من قلوبهم، يسرون بتعذيب أهل النار، يدفع أحدهم سبعين ألفا فيرميهم حيث أراد من جهنم "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" لأحدهم مثل قوة الثقلين "
وقال عمرو بن دينار: ((يدفع أحدهم بالدفعة الواحدة في جهنم مثل ربيعة ومضر)).
قال ابن عباس والضحاك: ((لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: أما لمحمد من الأعوان إلا تسعة عشر يخوفكم بهم وأنتم الدهم - يعني العدد الكثير - فتعجز كل مائة رجل منكم أن تبطش بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟!)).
وروي: أن أبا جهل قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أنتم الدهم الشجعان فتعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بخزنة جهنم؟ فقال رجل من بني جمح يقال له كلدة بن أسد: أنا أكفيكم يا أهل مكة سبعة عشر؛ أحمل عشرة منهم على ظهري، وسبعة على صدري، فاكفوني أنتم اثنين!
وروي: أنه قال: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر في النار، فنمضي ندخل الجنة! فأنزل الله تعالى قوله: { وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة }؛ أي ما جعلنا خزانها إلا ملائكة، ومن المعلوم أن الملك الواحد إذا كان كافيا لقبض أرواحهم، كان تسعة عشر ملكا أكفى، ألا ترى أن ملكا واحدا وهو ملك الموت يقبض أرواح الخلق كلهم؟ فكيف يعجز تسعة عشر ملكا عن تعذيب الناس؟!
قوله تعالى: { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا }؛ أي ما جعلنا عددهم في القلة إلا محنة لكفار مكة لجهلهم بالملائكة وتوهمهم أنهم كالبشر، والمعنى: وما جعلنا عدة هؤلاء الملائكة مع قلتهم في العدد إلا ضلالة للذين كفروا حتى قالوا ما قالوه من التكذيب، وقال كلدة بن أسد: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين.
وقوله تعالى: { ليستيقن الذين أوتوا الكتب }؛ أي ليعلم اليهود والنصارى بذلك صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم حين يجدون ما أتى به موافقا لما في التوراة والإنجيل، فإن عدد هؤلاء الخزنة في كتبهم تسعة عشر، فيعلمون أن ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم موافق لما عندهم. قوله تعالى: { ويزداد الذين ءامنوا إيمنا }؛ أي ولكي يزداد المؤمنون تصديقا على تصديقهم لتصديق أهل الكتاب لذلك.
قوله تعالى: { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتب والمؤمنون }؛ أي؛ ولئلا يشك الذين أوتوا الكتاب في أمر القرآن، ولا يشك المؤمنون بالتدبر والتفكر فيه.
قوله تعالى: { وليقول الذين في قلوبهم مرض }؛ أي شك ونفاق، والمراد بهم المنافقون، { والكفرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا }؛ يعني أهل مكة؛ أي أي شيء أراد الله بذكر عدد خزنة جهنم صفة من قلة الملائكة، يعني: أنهم لا يصدقون بهذا العدد، والمثل يكون الحديث نفسه؛ أي أن يقولون ما هذا الحديث.
قوله تعالى: { كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء }؛ أي كما أضل من أنكر عدد الخزنة، وهدى من صدق بذلك، يضل من يشاء، والمعنى يخذل الله من كان أهلا للخذلان، ويوفق من كان أهلا للهدى، { وما يعلم جنود ربك إلا هو }؛ يعني الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عددهم إلا الله.
والمعنى أن التسعة عشر هم خزنة النار من الأعوان، والجنود من الملائكة ما لا يعلم عددهم إلا الله. وقيل: معناه: وما يعلم جموع ربك يا محمد من الملائكة من عددهم، ومقادير قولهم إلا الله.
قوله تعالى: { وما هي إلا ذكرى للبشر }؛ يعني سقر؛ للصفات التي ذكرها ما هي إلا غظة للخلق وإنذار لهم بأن نار الدنيا تذكرهم نار الآخرة فيجتنبوا ما يؤديهم إليها.
[74.32-34]
هذا قسم على عظم نار سقر، معناه: حقا والقمر؛ والليل إذا جاء بعد النهار؛ والصبح إذا أضاء، إن سقر لإحدى العظائم التي هي دركات النار. والعرب تؤكد القسم بلفظ كلا كما تؤكده ب (حقا). ويقال: معناه: ورب القمر. قرأ نافع وحمزة وخلف ويعقوب وحفص: (إذ أدبر) على لفظ الإدبار؛ أي إذا انقضى وذهب، ويقال: كلاهما لغتان: دبر النهار وأدبر.
[74.35]
أي سقر لإحدى الكبر، قال مقاتل والكلبي: ((أراد بالكبر دركات جهنم؛ وهي سبعة: جهنم؛ ولظى؛ والحطمة؛ والسعير؛ وسقر؛ والجحيم؛ والهاوية)).
[74.36]
قال الزجاج: ((هو حال من قوله (قم) في أول السورة؛ أي قم نذيرا للبشر)) وهكذا روي عن عطاء عن ابن عباس، وقيل: { نذيرا } نصب على الحال؛ يعني أنها لكبيرة في حال الإنذار، وذكر النذير بلفظ التذكير فإن معنى النار العذاب، يعني أن النار نذيرا للبشر، قال الحسن: ((والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها)).
[74.37]
بدل من قوله { للبشر } ، والمعنى أنها نذير لمن شاء أن يتقدم في العبادة والإيمان والخير فينجوا منهما، أو يتأخر عن الإيمان والطاعة فيقع فيهما، والمعنى: أن الإنذار قد حصل لكل أحد ممن آمن أو كفر، قال الحسن: ((هذا وعيد لهم، كقوله تعالى:
فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر
[الكهف: 29])).
[74.38-39]
قوله تعالى: { كل نفس بما كسبت رهينة }؛ أي كل نفس مأخوذة بعملها مرهونة به، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ((مرتهنة في جهنم)) { إلا أصحاب اليمين }؛ وهم المؤمنون الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، فإن الله تعالى أعتق رقابهم من الرهن وأدخلهم الجنة.
ويقال: هم الأطفال الذين لا ذنوب لهم فإنهم غير مرتهنين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين أين هم؟ قال: " في الجنة " وسألته عن أطفال المشركين فقال: " إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار " ".
[74.40-47]
قوله تعالى: { في جنات يتسآءلون * عن المجرمين }؛ معناه: في بساتين يتساءلون عن أهل النار، يقولون لهم: { ما سلككم في سقر }؛ أي شيء أدخلكم النار وحبسكم فيها؟
فيقولون لهم: { قالوا لم نك من المصلين }؛ في دار الدنيا؛ { ولم نك نطعم المسكين }؛ في الله؛ { وكنا نخوض مع الخآئضين }؛ وكنا نخوض مع أهل الباطل في الباطل والتكذيب، { وكنا نكذب بيوم الدين } أي بيوم الحساب؛ { حتى أتانا اليقين }؛ فشاهدناه، ويجوز أن يكون اليقين ها هنا الموت الذي يعرف المرء عنده أمر الآخرة.
[74.48]
أي ما تنفعهم شفاعة الملائكة والنبيين كما ينفع الموحدين، قال الحسن: ((فما تنفعهم شفاعة ملك ولا شهيد ولا مؤمن، يشفع يومئذ النبيون؛ ثم الصديقون؛ ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم فيقول لهم:
ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين..
[المدثر: 42-44] إلى قوله تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } ))، قال ابن مسعود: ((فهؤلاء الذين يبقون في جهنم)).
[74.49-50]
قوله تعالى: { فما لهم عن التذكرة معرضين }؛ معناه: ما لأهل مكة عن القرآن الذي يقرأ عليهم معرضين؛ أي أي شيء لكفار مكة في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن، ولم يؤمنوا به مع هذه الدلالة.
ثم شبههم بالحمر الوحشية في إعراضهم عما يقرأ عليهم فقال تعالى: { كأنهم حمر مستنفرة }؛ قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء؛ أي منفرة مذعورة، وقرأ الآخرون بكسر الفاء؛ أي نافرة.
[74.51]
يعني فرت من الأسد، قال ابن عباس: ((الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت منه)) كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه، وقال الضحاك ومقاتل: ((القسورة: الرماة الذين يرصدونها، لا واحد له من لفظه)).
[74.52]
قال المفسرون: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لتصيح قريش عند رأس كل رجل هذا كتاب منشور من الله يأتيك رسوله يؤمر فيه باتباعك.
والصحف جمع صحيفة: و(منشرة) معناه: منشورة، وقيل: معناه: بل يريدون بإفراط جهلهم أن يعطى كل واحد منهم كتابا من السماء مفتوحا: هذا كتاب من فلان إلى فلان بأن محمدا رسول الله.
[74.53]
معناه: كلا لا يؤتون الصحف ولا يكون لهم ذلك، بل هم لا يخافون الآخرة حين لم يؤمنوا بها، ولو خافوا ذلك لما اقترحوا الآيات بعد قيام الدلالة.
[74.54-56]
قوله تعالى: { كلا إنه تذكرة }؛ أي حقا إن القرآن عظة من الله تعالى، { فمن شآء ذكره }؛ أي اتعظ به، { وما يذكرون إلا أن يشآء الله }؛ وما يتعظون إلا أن يشاء الله ذلك لهم، وقيل: لهم المشيئة. وقيل: إلا أن يشاء الله لهم الهدى.
قوله تعالى: { هو أهل التقوى }؛ أي هو أهل أن يتقى فلا يعصى، ولا يجعل معه إله آخر، { وأهل المغفرة }؛ يغفر لمن اتقى، قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها فإني أهل أن أغفر له، وقال قتادة: ((هو أهل أن تتقي محارمه، وأهل أن يغفر الذنوب)).
[75 - سورة القيامة]
[75.1]
معناه: أقسم بيوم القيامة، و(لا) صلة. وقال الفراء: ( { لا } رد على الذين أنكروا البعث والجنة والنار) ويدل على معنى إثبات القسم، قراءة الحسن والأعرج بغير ألف، وتقديره على هذه القراءة: لأقسمن فحذفت النون.
[75.2]
يعني بجميع أنفس الخلائق؛ لأنه ليس من نفس بارة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، قال صلى الله عليه وسلم:
" ليس يوم القيامة أحد إلا ويلوم نفسه، إن كان محسنا قال: يا ليتني أزددت، وإن كان مسيئا قال: يا ليتني لم أفعل "
ومعنى: { بالنفس اللوامة }: الملومة، وقيل: إنما سميت النفس لوامة؛ لأنها كثيرة اللوم لا صبر لها على محن الدنيا وشدائدها.
[75.3-4]
قوله تعالى: { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه }؛ يعني الكافر بالبعث؛ يقول: أيظن الكافر أن لن نجمع عظامه بعد التفرق، ولن نبعثه في الآخرة، { بلى قادرين على أن نسوي بنانه }؛ بلى بجمعها قادرين على تسوية بنانه، قال ابن عباس: ((المراد به أبو جهل، يقول الله له: أتحسب أن لن نبعثك)) { بلى قادرين على أن نسوي بنانه }؛ على ما كانت وإن قل عظامها وصغرت فنردها، ونؤلف بينها حتى نسوي البنان، ومن قدر على جمع صغار العظام كان على جمع كبارها أقدر.
وقيل: معناه: قادرين على أن نسوي بنانه وأنامله، ونجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير أو ككف الخنزير وكحافر الحمير، فلا يمكنه أن يفعل بها شيئا، ولكن مننا عليه ففرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء.
[75.5]
أي بل يريد الكافر أن يكذب بما قدامه من البعث، ويقدم الذنب ويؤخر التوبة ويكفر أبدا ما عاش، قال ابن الأنباري: ((معناه: مدة عمره وليس في نيته أن يتوب)). والمعنى: ما يجهل ابن آدم أن ربه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنه يريد أن يفجر أمامه؛ أي بمعنى قداما قداما في معاصي الله، راكبا رأسه لا يقلع ولا يتوب حتى يأتيه الموت على أشر أحواله وأسوء أعماله.
[75.6]
أي يسأل متى يوم القيامة تكذيبا به، ويقال في معنى { ليفجر أمامه } أن يعزم على الفجور في مستقبل عمره في أوقات لعله لا يعيش فيها، ولا يبلغ إليها، وأصل الفجور: الميل عن القصد، يقال للكافر: فاجر، وللمكذب بالحق: فاجر.
[75.7-10]
قوله تعالى: { فإذا برق البصر }؛ معناه: إذا حار البصر وفزع، وذلك عند رؤية جهنم، وهذا جواب لقوله تعالى
أيان يوم القيامة
[القيامة: 6] فيقول الله تعالى: { فإذا برق البصر } قرأ نافع بفتح الراء من البريق، أي يشخص البصر إلى ما يتوقع من أهوال يوم القيامة، كنظر المحتضر عند نظره إلى الملائكة. قوله: { وخسف القمر }؛ أي وذهب ضوء القمر، والخسوف ذهاب الضوء، { وجمع الشمس والقمر }؛ أي جمعا في ذهاب نورهما كالنورين القريبين، يعني كورا يوم القيامة. وقيل: إنهما يرمى بهما في النار، خلقا من النار ثم يعودان فيها. قوله تعالى: { يقول الإنسان يومئذ أين المفر }؛ معناه: يقول الكافر المكذب بيوم القيامة: أين المفر وأين المهرب من الأهوال.
[75.11]
أي حقا لا موضع يلج إليه ولا حصن ولا حرز. والوزر في اللغة: كل ما تحصنت به، والتجأت إليه، ومنه الوزير؛ لأن الناس يلتجئون إليه.
[75.12]
أي المنتهى والمرجع والمصير: وقيل: المستقر موضع الحساب. وقيل: يعني أن مستقر المؤمنين الجنة، ومستقر الكافرين النار.
[75.13]
أي بما قدم من طاعة الله، وما أخر من طاعة الله فلم يعمل به، وقيل: معناه: ينبؤ الإنسان بأول عمله وآخره. وقيل: بما قدم من أمواله، وما خلف للورثة. وقيل: بما عمل في أول عمره, وما عمل في آخر عمره.
[75.14]
يعني أن جوارحه تشهد عليه بما عمل، فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه، والمعنى: على الإنسان رقباء يشهدون عليه بعمله وإن أرخى ستوره وأغلق أبوابه، يعني بالرقباء سمعه وبصره وذكره ويديه ورجليه وجميع جوارحه. ودخول الهاء في بصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا الجوارح.
[75.15]
أي ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك، وإن اعتذر فعليه من يكذب عذره. وقيل: المعاذير جمع المعذار وهو الستر، معناه: وإن أسبل الستر؛ ليختفي بما عمل، فإن نفسه شاهدة عليه.
[75.16-17]
قوله تعالى: { لا تحرك به لسانك }؛ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تحرك بالقرآن لسانك، { لتعجل به }؛ بقراءته قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه شيء من الوحي لم يفرغ جبريل من آخره حتى تلاه النبي صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينفلت منه، فأعلمه الله بقوله: { إن علينا جمعه وقرآنه }؛ أي إن علينا حفظه في قلبك، وتأليفه على ما يأمره الله به، وأعلمه بأنه لا ينسيه إياه، كما قال تعالى
سنقرئك فلا تنسى
[الأعلى: 6] فلم ينس النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى مات.
وعن ابن عباس في معنى هذه الآية قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي مخافة أن لا يحفظ، فأنزل الله عليه الآية: { لا تحرك به لسانك لتعجل به } ). ومثله قوله
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه
[طه: 114]. قوله تعالى: { إن علينا جمعه } في صدرك { وقرآنه } أي إن جبريل يقرؤه عليك حتى تحفظه.
[75.18-19]
قوله تعالى: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه }؛ أي فإذا قرأه جبريل بأمرنا وفرغ منه، فاقرأه أنت إذا فرغ جبريل من قراءته. وقيل: معناه: فإذا جمعناه، وألقيناه فاتبع ما فيه من الحلال والحرام والأمر والنهي. قوله تعالى: { ثم إن علينا بيانه }؛ أي بيان ما أشكل عليك من معانيه، وبيان مجملاته مثل أركان الصلاة وشروطها ونصاب الزكاة ومقاديرها.
[75.20-21]
قوله تعالى: { كلا بل تحبون العاجلة }؛ معناه: كلا لا يؤمن أبو جهل وأصحابه بالقرآن وببيانه بل يحبون العاجلة ، يعني كفار مكة يحبون الدنيا ويعملون لها، { وتذرون الآخرة }؛ ويذرون العمل للآخرة، فيؤثرون الدنيا عليها، وقرأ نافع والكوفيون (تحبون) و(تذرون) بالتاء؛ أي قل لهم يا محمد: { بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة }.
[75.22-23]
قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة }؛ معناه: وجوه يوم القيامة ناعمة غضة حسنة مضيئة مسفرة مشرقة بنعيم الجنة، وهي وجوه المؤمنين كما قال تعالى
تعرف في وجوههم نضرة النعيم
[المطففين: 24] وقوله تعالى: { إلى ربها ناظرة }؛ قال الكلبي: ((تنظر إلى الله تعالى يومئذ لا تحجب عنه))، قال مقاتل: ((تنظر إلى ربها معاينة)).
قال صلى الله عليه وسلم:
" إذا دخل أهل الجنة يقول تعالى: أتريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تنضر وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ينظرون إلى الله تعالى في الجنة بلا كيف ولا تحديد، كما عرفته القلوب بلا كيف ولا تشبيه ".
وعن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أدنى أهل الجنة منزلة أن ينظر في ملكه ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، وينظر في سرره وأزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة من ينظر إلى الله يوم القيامة كل يوم نظرتين ".
[75.24-25]
قوله تعالى: { ووجوه يومئذ باسرة }؛ أي كالحة عابسة كاشرة مسودة، وهي وجوه الكفار، { تظن أن يفعل بها فاقرة }؛ أي تستيقن أن يفعل بها داهية من العذاب، والفاقرة: الداهية العظيمة والأمر الشديد الذي يكسر فقار الظهر، قال ابن زيد ((هي دخول النار)).
[75.26-27]
قوله تعالى: { كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق }؛ هذا ذكر حال من يحضره الموت ليرتدع الناس عما يؤديهم إلى العذاب، والمعنى: إذا بلغت الروح الترقوة، ويقول من يحضر الميت من أهله: هل من راق يرقيه وطبيب يداويه، يطلبون الأطباء؛ ليكشفوا عنه إما بالرقى، أو بالعلاج. وقال بعضهم: هذا من قول الملائكة؛ لأن النفس عندما تقبض يحضرها سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، وسبعة أملاك من ملائكة العذاب أعوان لملك الموت، ينظر بعضهم إلى بعض أيهم يرقى بروحه.
والتراقي : جمع ترقوة؛ وهي عظم وصل بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان عن يمين ثغرة النحر وعن شمالها كالحوضين.
[75.28-30]
قوله تعالى: { وظن أنه الفراق }؛ أي تيقن عند ذلك المريض الذي بلغت روحه تراقيه أنه الفراق من الدنيا، ومفارقة المال والأهل والولد. قوله تعالى: { والتفت الساق بالساق }؛ أي اجتمعت عليه الشدائد والتقى عليه أمر الدنيا والآخرة، وهو في شدة كرب الموت وهول المطلع وآخر شدائد الدنيا مع أول شدة الآخرة.
وقال الضحاك: ((الناس يجهزون بدنه، والملائكة يجهزون روحه)). وقال الحسن: ((معناه: والتفت ساقاه في الكفن يلف أحدهما إلى الآخر)). وقال قتادة: ((ماتت ساقاه فلم تحملاه، وقد كان عليهما جوالا)). قوله تعالى: { إلى ربك يومئذ المساق }؛ أي إليه المرجع والمنتهى في الآخرة إلى حيث يأمر الله، إما إلى عليين وإما إلى سجين.
[75.31-33]
قوله تعالى: { فلا صدق ولا صلى }؛ يعني أبا جهل يقول الله فيه: لم يصدق بالقرآن، ولم يصل لله، { ولكن كذب وتولى }؛ أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان به، ويدخل في هذا كل كافر مثله، { ثم ذهب إلى أهله يتمطى }؛ أي رجع إلى أهله يتبختر في المشي ويختال فيه، وأصله: يتمطط أي يتمدد، والمط هو المد، وتمطى الإنسان إذا قام من منامه يمتد، والمطي هو الظهر، وتمطى إذا مد مطاه.
[75.34-35]
هذا وعيد على وعيد من الله لأبي جهل، وهذه كلمة موضوعة للتهديد والوعيد، والمعنى كأنه يقول لأبي جهل: الويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار، وقيل: المعنى أولاك المكروه يا أبا جهل وقرب منك ما تكره.
[75.36]
معناه: أيظن الكافر أن يترك مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يوعظ ولا يتلى ولا يحاسب بعمله في الآخرة، والسدى: المهمل.
[75.37-38]
قوله تعالى: { ألم يك نطفة من مني يمنى }؛ معناه: ألم يك هذا الإنسان في ابتداء خلقه نطفة من مني تصب في الرحم، قرئ (تمنى) يعني النطفة، وروي (يمنى) بمعنى المني. قوله: { ثم كان علقة }؛ ثم صار دما منعقدا بعد النطفة، { فخلق فسوى }؛ فخلقه وسواه باليدين والرجلين والعينين والأذنين إلى أن بلغه هذا الحد الذي شاهد، وخلق منه الروح.
[75.39-40]
قوله: { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى }؛ أي خلق من هذه النطفة أولادا ذكورا وإناثا. قوله تعالى: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى }؛ معناه: أليس الذي خلق الإنسان من المني، ونقله من تلك الأحوال إلى هذه الحالة قادر على أن يحيي الموتى. والمعنى: من قدر على الابتداء، كان على البعث أقدر بعد الموت، دلهم الله تعالى على البعث بابتداء الخلق.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنه كان إذا ختم هذه السورة قال: " سبحانك اللهم وبلى "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إذا قرأ أحدكم { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } فليقل: اللهم بلى)).
[76 - سورة الانسان]
[76.1]
{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر }؛ أي قد أتى على آدم أربعون سنة التي مرت به وهو بصورة الإنسان قبل أن ينفخ فيه الروح، { لم يكن }؛ يذكر اسمه، ولا يدري ما يراد به، كان { شيئا }؛ ولم يكن، { مذكورا }؛ لأنه كان ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح. ومعنى الآية: قد أتى على آدم أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا، لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به.
يروي: ((أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقرأ { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } فقال عمر: ليتها تمت)) أي ليته بقي على ما كان لا يلد. وقرأ رجل عند ابن مسعود { لم يكن شيئا مذكورا } فقال: ((ليت ذلك لم يكن)). ولفظ (هل) بمعنى (قد)؛ لأنه لا يجوز على الله أن يستفهم؛ لأنه لم يزل عالما بالأشياء كلها، ولا يزال عالما.
[76.2]
قوله تعالى: { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه }؛ يعني نسل آدم خلقه الله من نطفة أمشاج؛ أي أخلاط واحدها مشيج، وهو شيئان مخلوطان، يعني اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة، أحدهما أبيض والآخر أصفر، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن نطفة المرأة. وتم الكلام، ثم قال: { فجعلناه سميعا بصيرا }؛ معناه: جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.
والأمشاج الاختلاط، يقال: مشجت هذا بهذا؛ أي خلطته به فهو ممشوج؛ أي مخلوط، وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد: ((يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم، فيكون منهما جميعا الولد، فماء الرجل أبيض غليظ يجري من الصلب، وماء المرأة أصفر رقيق يجري من الترائب، ثم يختلطان فأيهما علا ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له)). ويقال: جعل الله في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وقال الحسن: ((نعم والله خلق الإنسان من نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حلت النطفة ارتفع الحيض)).
[76.3]
قوله تعالى: { إنا هديناه السبيل }؛ أي بينا له طريق الهدى وطريق الضلالة، فمكناه من الكفر والشكر، ثم إنه يكون بعد الابتلاء: { إما شاكرا وإما كفورا }؛ أي إما موحدا طائعا، وإما مشركا كافرا، والمعنى: إما أن يختار طريق الإسلام، وإما أن يختار طريق الكفر. ومعنى (نبتليه) أي نتعبده فيظهر ما علمنا منه، ولا يقع الابتلاء إلا بعد تمام الخلقة.
[76.4]
بين الله بهذا ما أعد في الآخرة للكافرين وما أعد للمؤمنين، والمعنى: إنا هيأنا في جهنم لكل كافر سلسلة في النار طولها سبعون ذراعا، يسلك فيها وقرناؤه من الشياطين، وقوله تعالى { وأغلالا } أي أغلالا من حديد تغل بها أيديهم إلى أعناقهم من ورائهم. وقوله { وسعيرا } أي ونارا موقدة يعذبون بها.
قرأ نافع وعاصم والأعمش والكسائي وأيوب (سلاسلا) بالتنوين، وكذلك { قواريرا } ، وفيه وجهان: أحدهما: أن من العرب من يصرف جمع ما لا ينصرف. والثاني: أن هذا الجمع أشبه الآحاد؛ لأنهم قالوا صواحبات يوسف في جمع صواحب، وكذلك مواليات في جمع موالي، فإذا كان صواحب في معنى الواحد، فكذلك سلاسلا.
[76.5]
يعني بالأبرار المطيعين لله الصادقين في إيمانهم في الدنيا. وقيل: هم الذين يبرون الآباء والأمهات من المؤمنين. وقيل: هم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون بالشر. وقوله تعالى { من كأس } أي من خمر، وقوله تعالى { كان مزاجها كافورا } أي كان مزاج الخمر التي كانت في الكأس كافورا.
قال بعضهم: أراد بذلك ما يشم من ريحها من جهة طعمها، كما روي عن مجاهد أنه قال: ((يمزج شرابهم بالكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل، ليس ككافور الدنيا ولا كمسكها وزنجبيلها، ولكن وصف الله ما عنده بما عندنا لتهتدي له القلوب)). ويقال: يغير الله طعم الكافور إلى نهاية ما يشتهى، فيجتمع طيب الرائحة مع لذة الطعم.
[76.6]
قوله تعالى: { عينا }؛ منصوب على البدل من (كافورا)، ويقال في معنى (يشربون... عينا) أي من عين فوارة في أرض الجنة، وقوله تعالى: { يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }؛ يجوز أن يكون معناه: يشربها، يقال: شربت بماء كذا؛ أي شربته، ويجوز أن يكون معناه: يشرب بالجنة أو بالأرض التي بها العين، كما يقال: شربنا كذا شرابا صافيا.
قوله { عباد الله } أي أولياؤه، يفجرون تلك العين، ويسوقونها إلى حيث شاءوا لمن دونهم من أهل الجنة، بخلاف عيون الدنيا وأنهارها. والتفجير: تشقيق الأرض بجري الماء. وقيل: معنى { يفجرونها } أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم ودورهم وحيث شاءوا.
[76.7]
قوله تعالى: { يوفون بالنذر }؛ يعني الأبرار هذه صفاتهم في الدنيا، كانوا يوفون بطاعة الله من الصلاة والحج، ومعنى (النذر) في اللغة: الإيجاب، ومعنى الوفاء بالنذر إتمام العهد والوفاء به وإقامة فروض الله تعالى. قوله تعالى: { ويخافون يوما كان شره مستطيرا }؛ معناه: ويخافون من نقض العهد عذاب يوم كان شره ممتدا فاشيا. يقال: استطار الخير إذا فشا وظهر. وعن قتادة قال: ((استطاروا لله شر ذلك اليوم حتى ملئت السماوات والأرض منه)) نحو انشقاق السماء، وانتثار الكواكب، ونسف الجبال، وخسوف الشمس والقمر، وفزع الملائكة.
[76.8]
قوله تعالى: { ويطعمون الطعام على حبه }؛ أي على حب الطعام وقلته على أشد ما يكونون محتاجين إليه، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ويقال: على حب الله لطلب مرضاته، وقوله تعالى: { مسكينا ويتيما وأسيرا } فالمسكين هو الذي يسأل، وقيل: هو المتعفف الذي لا يسأل. واليتيم: الذي لا أب له من يتامى المسلمين. والأسير: الكافر المأسور في أيدي المؤمنين.
قال قتادة: ((كان أسيرهم يومئذ من المشركين، فوالله لأخوك المسلم أعظم حرمة وحقا عليك)). ويقال: الأسير العبد، ويستدل من هذه الآية على أن في إطعام أهل الجوع ثوابا جزيلا من الله تعالى، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق ".
[76.9]
قال مجاهد: ((أما والله نعم؛ لم يتكلموا بذلك ولكن علم الله ما في قلوبهم فأثنى عليهم خيرا)). والمعنى: أنهم يقولون في أنفسهم وفيما بينهم وبين ربهم: إنما نطعمكم لطلب ثوابه. وقوله { لا نريد منكم جزآء ولا شكورا } أي لا نريد منكم مكافأة ولا محمدة.
وقوله { شكورا } مصدر مثل القعود والخروج. وفي هذه الآية دليل على أن من أطعم غيره للمكافأة أو لكي يمدحه ويشكره لا يستحق بذلك الثواب، وإنما يستحقه إذا فعله خالصا لله لا يريد شيئا من الدنيا.
[76.10]
معناه: إنا نصنع ما نصنع خوفا من عذاب ربنا وطمعا في رحمته، اليوم العبوس: هو الذي تعبس فيه الوجوه من هوله فلا تنبسط، والقمطرير: الشديد الغليظ العصب، يقال: يوم قمطرير وطر إذا كان عظيم الشر طويل البلاء.
وعن ابن عباس قال: ((العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل)). وقال مجاهد: ((القمطرير: الذي يقلص الوجه ويقبض الجبهة، وما بين الأعين من شدته)). قال ابن عباس: ((يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران سحا))، قال الحسن: ((سبحان الله! ما أشد اسمه وهو أشد من اسمه)).
[76.11-12]
قوله تعالى: { فوقهم الله شر ذلك اليوم }؛ أي دفع الله عنهم شر ذلك اليوم، { ولقاهم نضرة وسرورا }؛ أي حسنا في الوجوه وسرورا في القلوب لا انقطاع له. قوله تعالى: { وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا }؛ أي جزاهم بما صبروا في الدنيا على طاعة الله، وعلى ما أصابهم من الشدائد في ذات الله جنة يسكنونها وحريرا يلبسونه في الجنة.
[76.13]
قوله تعالى: { متكئين فيها على الأرائك }؛ نصب على الحال فيها؛ أي في الجنة " متكئين " على الأرائك؛ أي على السرر في الحجال، ولا تكون أريكة إذا اجتمعا، قال مقاتل: ((الأرائك: السرر في الحجال من الدرر والياقوت، موضونة بقضبان الدر والذهب والفضة وألوان الجواهر. والحجال: شبه القباب فوق السرر))، { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا }؛ لا يصيبهم في الجنة شمس ولا زمهرير؛ أي لا يصيبهم حر الشمس ولا برد الزمهرير، البرد الشديد الذي يحرق ببرودته إحراق النار.
وروي أن هذه الآيات نزلت في علي وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة، قال ابن عباس:
" مرض الحسن والحسين، فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر عمر، فقالوا لعلي: " لو نذرت على ولديك نذرا؟ " فقال علي رضي الله عنه: إن برئ ولداي مما بهما صمت ثلاثة أيام، فقالت فاطمة كذلك، وقالت جاريتهما كذلك، فوهب الله لهما العافية.
فانطلق علي رضي الله عنه إلى سمعون اليهودي فاستقرض منه ثلاثة أصع من شعير، فطحنت الجارية صاعا، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول: "
فاطم ذات المجد واليقين
يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يشكو إلى الله ويستكين
يشكو إلينا جائع حزين
كل أمرئ بكسبه رهين
وفاعل الخيرات يستبين
موعده في جنة علين
حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين
تهوي به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين
" فأنشأت تقول: "
أمرك يا ابن عم سمع وطاعه
ما بي من لوم ولا وضاعه
غديت في الخبز له صناعه
أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذا أطعمت ذا المجاعه
أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الجنة ولي شفاعه
" فأعطوه طعامهم ولم يذوقوا ليلتهم إلا الماء. فلما كان اليوم الثاني أصبحوا صياما، فطحنت الجارية الصاع الثاني، وخبزت منه خمسة أقراص ، فصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، وإذا بيتيم قد وقف على الباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول: "
فاطم بنت السيد الكريم
بنت نبي ليس باللئيم
قد جاءنا الله بذي اليتيم
من يرحم اليوم يكن رحيم
موعده في جنة النعيم
قد حرم الخلد على اللئيم
يساق في العقبى إلى الجحيم
" فأنشأت فاطمة تقول: "
إني سأعطيه ولا أبالي
وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعا وهم أشبالي
أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال
للقاتل الويل مع الوبال
تهوي به النار إلى سفال
مقيد اليدين بالأغلال
كبولة زادت على الأكبال
" فأعطوه الطعام وباتوا على الماء، فلما كان اليوم الثالث، طحنت الجارية الصاع الثالث وصنعته خمسة أقراص، فصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فإذا بأسير قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا! أطعموني فإني أسير أطعمكم الله من موائد الجنة!! فسمعه علي فأنشأ يقول: "
فاطم يا بنت النبي أحمد
بنت نبي سيد مؤيد
هذا أسير للنبي المهتد
مكبل في غله مقيد
من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد
فأطعم من غير من أنكد
حتى تجازى بالنعيم السرمد
" فأنشأت فاطمة تقول: "
لم يبق مما جبت غير صاع
قدمته بالكف والذراع
أطعمته لله في الجياع
وما على رأسي من قناع
" فأعطوه طعامهم وباتوا لم يذوقوا إلا الماء. فلما أصبحوا اليوم الرابع، أخذ علي رضي الله عنه الحسن بيده اليمنى، والحسين بيده اليسرى، ومضى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما يرتعشان من شدة الجوع، فلما رآهما قال: " ماذا أرى بكم؟ انطلقوا بنا إلى فاطمة " فانطلقوا إليها فوجدوها في محرابها وهي قد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع، فقال: صلى الله عليه وسلم: " واغوثاه يا الله، أهل بيت محمد يموتون جوعا؟ ".
فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خذ ما أعطيت، هناك الله في أهل بيتك، فقال: " وما آخذ؟ " فقال: { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا... } إلى قوله: { وكان سعيكم مشكورا } ".
[76.14]
قوله تعالى: { ودانية عليهم ظلالها }؛ نعت للجنة؛ أي وجزاهم بما صبروا جنة دانية ظلالها؛ أي قريب ظلال أشجارها عليهم، دانت دانية؛ لأن الظلال جمع. وفي قراءة عبدالله (ودانيا عليهم).
قوله تعالى: { وذللت قطوفها تذليلا }؛ أي وسخرت وقربت ثمارها تسخيرا، لا يمنعهم عنها شوك ولا بعد، ينالها القائم والقاعد والمضطجع يتناولونها كما شاءوا، فإذا كان الرجل قائما تطاولت له الشجرة على قدر قيامه، وإن كان قاعدا ومتكئا أو مضطجعا انخضعت له على قدر ذلك. ومثله قوله تعالى:
قطوفها دانية
[الحاقة: 23].
قال مجاهد: ((أرض الجنة من فضة، وترابها من مسك، وأصول شجرها من ذهب، وورقها لؤلؤ وزبرجد، والتمر تحت ذلك، فمن أكل قائما لم يؤذه، ومن أكل قاعدا لم يؤذه، ومن أكل مضطجعا لم يؤذه)).
[76.15]
قوله تعالى: { ويطاف عليهم بآنية من فضة }؛ أي بأقداح من فضة، { وأكواب } ، أي كيزان لا عرى لها ولا خراطيم، { كانت قواريرا }؛ أي كانت تلك الأكواب من فضة، وهي في صفاء القوارير، يرى من خارجها ما في داخلها من الأشربة، قال ابن عباس: ((لو أخذت من فضة أهل الدنيا فضربتها حتى صارت مثل جناح الذباب لم يبصر ما فيها من رآها، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة وفي صفاء القوارير)).
قال الكلبي: ((إن الله جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإن أرض الجنة من فضة، فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها)). وفي قوله تعالى { قواريرا } قراءتان، من لم ينونهما فهو لا يصرف، ومن صرفهما فعلى اتباع رؤوس الآي.
[76.16]
أي قدرها الملائكة قبل مجيئهم لها تقديرا، فجاءت على ما قدروا، كما روي: ((أن المؤمن لا يحدث نفسه بشيء من شراب الجنة إلا أتاه الملك بالشراب الذي اشتهى في قدح من فضة - على صفة الفضة التي ذكرنا - على مقدار ري الشارب وشهوته من غير زيادة ولا نقصان حتى يستوفي الكمال من غير أن يتكلم به))
وألذ الشراب ما لا يكون فيه فضل ولا عجز عن الري، ويقال في معناه: إنها تكون على قدر كف الخدم، وري المخدوم ولم يثقل حملها على أحد منهم.
[76.17]
أي يسقون في الجنة بآنية مملوءة من الخمر كان مزاجها زنجبيلا لا يشبه زنجبيل الدنيا، لكن سماه الله باسمه ليعرف؛ لأن العرب تستطيب رائحة الزنجبيل في الدنيا، وأما هذا الزنجبيل المذكور في الآية فهو زنجبيل الجنة يشوق ويطرب من غير حرق ولدغ، وإنما قال ذلك؛ لأن العرب كانت تضرب المثل بالخمر الممزوجة بالزنجبيل، قال الشاعر:
كأن القرنفل والزنجبي
ل باتا بفيها وأريا مشورا
[76.18]
معناه تمزج الخمر بالزنجبيل، والزنجبيل من عين في الجنة تسمى تلك العين سلسبيلا، والمعنى: من عين فيها تسمى سلسبيلا، قال مقاتل: ((السلسبيل عين من الخمر تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان)).
[76.19]
قوله تعالى: { ويطوف عليهم ولدان مخلدون }؛ أي يطوف عليهم بالخدمة وصفاء خلقوا للخلود، ولا يتغيرون عن سنهم وشبابهم. وقيل: معنى { مخلدون } مسورون مقرطون، يقال لجماعة الحلي الخلد، { إذا رأيتهم }؛ يا محمد، { حسبتهم }؛ لصفائهم وحسن ألوانهم، { لؤلؤا منثورا }؛ أي كاللؤلؤ المنثور، فإن على البساط كان أحسن منه منظوما.
[76.20]
قوله تعالى: { وإذا رأيت ثم }؛ إذا نظرت إلى الجنة، { رأيت نعيما }؛ لا يوصف، { وملكا كبيرا }؛ أي وملكا عظيما لا يلحقه الزوال والعزل، فقال مقاتل: ((الملك الكبير استئذان الملائكة، لا يدخل رسول رب العزة من الملائكة عليهم إلا بإذنهم، ولا يدخل إلا بالهدايا من الله تعالى، والسلام من الله تعالى كما قال تعالى:
سلام قولا من رب رحيم
[يس: 58].
فإذا انتهى الملك إلى الباب قال للحاجب الذي على الباب: ائذن لي بالدخول، فيقول الحاجب: لا أستطيع أن آذن لك على ولي الله، ولكن أخبر الذي يليني، فيخبر الذي يليه فيقول الثاني كذلك، فلا يزال هكذا حتى يأتيه الخبر في سبعين بابا، فذلك هو الملك الكبير، فإذا دخل عليه الملك قال له: إن الله يقرؤك السلام، فيضع الهدية بين يديه " فيها " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم يقول له الملك: إن الله عنك راض، فهذا القول عنده أكبر من السلام والهدية والنعيم الذي هو فيه)) فذلك قوله تعالى:
ورضوان من الله أكبر
[التوبة: 72].
[76.21]
قوله تعالى: { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق }؛ قرأ قتادة ومحمد وابن سيرين ونافع وحمزة والأعمش وأيوب (عاليهم) بإسكان الياء، وهي في موضع رفع بالابتداء، والمعنى: الذي يعلوهم من الثياب، ويقال: الذي يعلوهم على حجالهم، وقرأ الباقون (عاليهم) بنصب الياء على الظرف؛ أي فوقهم، ويجوز أن يكون نصبا على الحال؛ أي يطوف على الأبرار ولدان مخلدون في هذه الحالة؛ أي في حال علو ثياب السندس عليهم.
وقوله تعالى { خضر } قرأ ابن كثير (خضر) بالخفض على نعت السندس و(إستبرق) بالرفع على نعت الثياب، وقرأ أبو عمرو وابن عامر (خضر) بالرفع على نعت الثياب، و(إستبرق) بالخفض على معنى ثياب من سندس ومن استبرق. وقرأ نافع وأيوب (خضر وإستبرق) كلاهما بالرفع عطفا للإستبرق على قوله (خضر)، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف كلاهما بالخفض.
قوله تعالى: { وحلوا أساور من فضة }؛ أي حلي أهل الجنة أساور من فضة، وفي آية أخرى
يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا
[فاطر: 33] فاقتضت " دلالة " الآيتين أن كلا منهم يحلى ثلاثة أسورة: سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ. قال بعضهم: الضمير في قوله تعالى { وحلوا } راجع إلى ال (ولدان).
وقوله تعالى: { وسقاهم ربهم شرابا طهورا }؛ أي شرابا من خمر ليس بنجس، كما كانت خمر الدنيا نجسة، وقيل: شراب من خمر لا يخالطه شيء من الفساد والقبائح ولا ينقلب إلى التغير، بل هو من عين على باب الجنة، من شرب منها نزع الله من قلبه الغل والحسد والغش، قال أبو العالية: ((معناه: أنه لا يصير بولا نجسا، ولكنه يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك)).
[76.22]
قوله تعالى: { إن هذا كان لكم جزآء }؛ أي يقال لهم هذا الثواب والكرامة كان لكم جزاء لأعمالكم في الدنيا، { وكان سعيكم مشكورا }؛ أي وكان عملكم في الدنيا مقبولا، هذا معنى الشكر؛ لأنه لا يكون لأحد على الله منة يستحق بها عليه الشكر، ولكن شكره لعباده قبول طاعاتهم ومغفرة ذنوبهم.
[76.23-24]
قوله تعالى: { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا }؛ أي إنا نحن نزلنا عليك القرآن يا محمد متفرقا آية وآيتين وثلاث آيات وسورة، وفصلناه في الإنزال ولم ينزله جملة واحدة. قوله تعالى: { فاصبر لحكم ربك }؛ أي اصبر على قضائه، على تبليغ الرسالة، { ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا }؛ أي لا تطع من مشركي مكة آثما؛ أي كذابا فاجرا ولا كفورا؛ أي كافرا بنعم الله.
ويعني بقوله { ءاثما }: عتبة بن ربيعة، ويعني بالكفور: الوليد بن المغيرة. وقيل: الآثم الوليد، والكفور عتبة بن ربيعة، كانا قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج، وكان عتبة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت هذا من أجل النساء! فلقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات، فأنا أزوجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر، فارجع عن هذا الأمر. وكان الوليد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت هذا يا محمد من أجل المال! فلقد علمت قريش بأني من أكثرهم من المال، فأنا أعطيك من المال حتى ترضى، فارجع عن هذا الأمر. فأنزل الله تعالى: { ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا }.
[76.25-26]
قوله تعالى: { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا }؛ أي صل لله تعالى صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، { ومن الليل فاسجد له }؛ أي فصل له المغرب والعشاء. قوله تعالى: { وسبحه ليلا طويلا }؛ أي صل له في الليل الطويل، يعني: التطوع بعد المكتوبة، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم كل الليل، ثم نسخ بقوله
قم اليل إلا قليلا
[المزمل: 2].
[76.27]
قوله تعالى: { إن هؤلاء يحبون العاجلة }؛ يعني كفار مكة يحبون الدار العاجلة وهي الدنيا، { ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا }؛ أي يتركون العمل للآخرة، وسمي يوم القيامة يوما ثقيلا؛ لشدة أهواله، وقد يذكر الوراء بمعنى قدام، قال الله تعالى:
وكان ورآءهم ملك
[الكهف: 79].
[76.28]
قوله تعالى: { نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم }؛ أي نحن خلقنا أهل مكة وجميع الناس، وقوينا خلقهم بعد أن خلقوا من ضعف. وقيل: شددنا مفاصلهم؛ لئلا يسترخي منها شيء؛ أي شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والعصب. وقيل: يعني موضع البول والغائط، شددناهما بحيث إذا خرج الأذى منهما ينقبضا. قوله تعالى: { وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا }؛ أي وإذا شئنا أهلكناهم، وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
[76.29-30]
قوله تعالى: { إن هذه تذكرة }؛ أي إن هذه السورة موعظة من الله، { فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا }؛ أي طريقا بالعمل الصالح. قوله تعالى: { وما تشآءون إلا أن يشآء الله إن الله كان عليما حكيما }؛ أي ما يشاءون اتخاذ السبيل إلا بمشيئة الله ذلك لكم، وقوله تعالى { إن الله كان عليما حكيما } أي عليما قبل خلقكم بمن يتخذ سبيلا ومن لا يتخذ، حكيما فيما أمركم به.
واختلفوا في تفسير هذه الآية، والصحيح: أن معناها: وما تشاءون إلا أن يشاء الله لكم أن تشاءوا، ودليل ذلك أنه لما نزل قوله تعالى:
لمن شآء منكم أن يستقيم
[التكوير: 28] قالوا: قد جعلت المشيئة لنا ولا نشاء، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فنزل { وما تشآءون إلا أن يشآء الله }.
ومن نفى المشيئة قال: إن هؤلاء مخصوصون لا يشاءون إلا أن يشاء الله أن يكرههم عليه، قال الحسن: ((ما شاءت العرب أن يبعث الله محمدا رسولا، فشاء الله ذلك وبعثه على كره منهم). وعن النضر بن شميل أنه قال: ((لا تمضي مشيئة إلا بمشيئة الله تعالى، ولا تمضي مشيئة من العبد إلا بعلم الله، فمن علم الله منه خيرا شاء الإيمان، ومن شاء الإيمان شاء الله له أن يوفقه، ومن شاء الكفر شاء الله أن يخذله)).
[76.31]
قوله تعالى: { يدخل من يشآء في رحمته }؛ أي يكرم من يشاء بدين الإسلام بتوفيقه من كان أهلا لذلك، وقوله تعالى: { والظالمين أعد لهم عذابا أليما }؛ نصب (الظالمين) على المجاورة؛ ولأن ما قبله منصوب، والمعنى: ويعذب الظالمين، أعد لهم عذابا أليما، ويعني بالظالمين مشركي مكة.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-2]
{ والمرسلات عرفا }؛ يعني الرياح أرسلت متتابعة كعرف الفرس؛ أي ورب المرسلات عرفا، وقال مقاتل: ((معناه: والملائكة التي أرسلت بالمعروف من أمر الله ونهيه)). وقوله تعالى: { فالعاصفات عصفا }؛ يعني الريح الشديدة الهبوب، فإذا وقعت الريح الشديدة في البحر صارت قاصفة.
[77.3]
يعني الرياح التي تنشر السحاب للمطر نشرا، وهي اللينة التي يرسلها الله نشرا بين يدي رحمته، وقيل: العاصفات الملائكة تعصف بأرواح الناس؛ أي تذهب بها، وقيل: الناشرات الملائكة أيضا؛ لأنها تنشر الصحائف بأمر الله.
[77.4-9]
قوله تعالى: { فالفارقات فرقا }؛ يعني الملائكة تنزل بالوحي للفرق بين الحلال والحرام، والحق والباطل. قوله تعالى: { فالملقيت ذكرا }؛ يعني الملائكة تلقي كتب الله إلى أنبيائه. قوله تعالى: { عذرا أو نذرا }؛ معناه عذرا من الله، وإنذارا لخلقه، والإعذار قطع المعذرة، والإنذار الإعلام بموضع المخافة لتبقى، ولهذا بعث الرسل وأنزل الكتب.
والمعنى بهذه الآيات: أن كفار مكة لما أنكروا البعث أقسم الله تعالى بما بين من قدرته وتدبيره الملائكة والسحاب والرياح أن قيام الساعة كائن فقال: { إنما توعدون لوقع }؛ أي إن أمر الساعة والبعث لكائن لا محالة.
ثم ذكر متى يقع فقال: قوله تعالى: { فإذا النجوم طمست }؛ أي محي نورها وسلب ضوءها وتساقطت، كما قال الله تعالى:
وإذا الكواكب انتثرت
[الانفطار: 2]. قوله تعالى: { وإذا السمآء فرجت }؛ أي شقت من هيبة الرحمن، وانفطرت بعد أن كانت سقفا محفوظا، فأول حالها الوهي ثم الانشقاق، قال الله تعالى:
وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية
[الحاقة: 16] ثم الانفتاح، قال الله
وفتحت السمآء
[النبأ: 19] ثم الانفراج حتى يتلاشى فتصير كأنها لم تكن.
[77.10-11]
قوله تعالى: { وإذا الجبال نسفت }؛ أي قلعت من أماكنها بسرعة. قوله تعالى: { وإذا الرسل أقتت }؛ أي بين مواقيتها للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم. وقيل: جمعت لوقتها، وإنما قلبت الواو همزة على قراءة غير الواو؛ لأن كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة جاز إبدالها همزة؛ ولأن العرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم: أكدت ووكدت، وأرخت الكتاب وورخت، ووسادة وإسادة.
قرأ أبو عمرو (وقتت) بالواو والتشديد على الأصل، وقرأ أبو جعفر (وقتت) بالواو والتخفيف، وقرأ عيسى وخالد بن الياس (أقتت) بالألف، وقرأ الباقون بالألف والتشديد.
[77.12-13]
قوله تعالى: { لأي يوم أجلت }؛ معناه: لأي يوم أخرت هذه الأشياء من الطمس والنسف وغيرهما. ثم بين متى ذلك فقال: { ليوم الفصل }؛ أي أخرت ليوم الفصل بين الخلائق، وهو يوم القيامة، سمي بهذا الاسم لأنه يفصل فيه بين المحق والمبطل، وبين الظالم والمظلوم.
[77.14-15]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما يوم الفصل }؛ فيه تعظيم لأمر ذلك اليوم؛ أي لم تكن تعلم يا محمد ما يوم الفصل، وما أعد الله فيه لأوليائه من الثواب، ولأعدائه من العقاب حتى أتاك خبر ذلك، قوله تعالى: { ويل يومئذ للمكذبين }؛ الويل: واد في جهنم للمكذبين بالوعيد.
[77.16-19]
قوله تعالى: { ألم نهلك الأولين }؛ معناه: ألم نهلك قوم نوح بالعذاب في الدنيا حين كذبوا نوحا؛ { ثم نتبعهم الآخرين }؛ أي ثم ألحقنا بهم قوم هود ومن بعدهم، { كذلك نفعل بالمجرمين }؛ من أمتك يا محمد، يعني كفار مكة ممن سلك طريقهم.
قرأ الأعرج ثم (نتبعهم الآخرين) بالإسكان عطفا على (نهلك)، وقرأ الكافة (نتبعهم) بالرفع على معنى ثم نحن نتبعهم، وفي قراءة ابن مسعود (سنتبعهم الآخرين)، { ويل يومئذ للمكذبين }.
[77.20-22]
قوله تعالى: { ألم نخلقكم من مآء مهين }؛ تنبيه على القدرة على الإعادة، والتحذير من التكبر؛ لأن الذي يقدر على أن يخلق من الماء الحقير بشرا على هذه الصفة، قادر على إعادة الخلق بعد الموت، والمراد بالماء المهين النطفة، وقوله تعالى: { فجعلناه في قرار مكين }؛ أي في الرحم، { إلى قدر معلوم }؛ يعني مدة الحمل على اختلاف مدد حمل الحيوانات، لا يعلم مقدار ذلك ولا الحمل إلا الله تعالى.
[77.23-24]
قوله تعالى: { فقدرنا فنعم القادرون }؛ قرأ السلمي وقتادة ونافع وأيوب بالتشديد من التقدير يعني نطفا وعلقا ومضغا وعظاما وذكرا وأنثى وقصيرا وطويلا، وقرأ الباقون مخففا، ومعناهما " في التخفيف والتشديد واحد " ويجوز أن يكون من القدرة، وقوله تعالى { فنعم القادرون } ، معناه : على هذا فنعم القادرون على الخلق، وعلى الأول فنعم القادرون لهذه المخلوقات، { ويل يومئذ للمكذبين }.
[77.25-26]
معناه: يكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، ويكفتهم أمواتا في بطونها؛ أي يجوز " أن يكون عني أنها تكفت أذاهم " في ظهرها للأحياء وبطنها للأموات. وعن مجاهد: ((معناه: تكفت الميت فلا يرى منه شيء، وتكفت الحي في بيته فلا يرى من عمله شيء، وفي كل واحد من هذين من النعمة ما لا يخفى على عاقل)).
والكفت في اللغة الضم، وسمي الوعاء كفاتا بكسر الكاف لأنه يضم الشيء، وفي هذه الآية دليل على وجوب مواراة الميت ودفنه ودفن شعره وسائر ما يزايله.
[77.27-28]
قوله تعالى: { وجعلنا فيها رواسي شامخات }؛ أي جبالا ثوابت، والشامخات الطوال العاليات المرتفعات جعلت أوتادا للأرض فسكنت بها، وكانت تمور كالسفينة لا تستقر على الماء إلا بمرساة تثقلها، { وأسقيناكم مآء فراتا }؛ أي عذبا حلوا غير ملح ولا أج، { ويل يومئذ للمكذبين }؛ بنعم الله التاركين لشكرها.
[77.29-31]
قوله تعالى: { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون }؛ معناه: ويقال لهم يوم القيامة، تقول لهم الخزنة: انطلقوا إلى العذاب الذي كنتم به تكذبون في الدنيا أنه لا يكون، { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب }؛ أي انطلقوا إلى دخان من جهنم قد سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وهو قوله { ذي ثلاث شعب } شعبة فوقهم، وشعبة عن يمينهم، وشعبة عن شمالهم. وذلك أنه يخرج لسان من نار فيحيط بهم فيحبسون إلى أن يساقوا إلى النار أفواجا أفواجا، قال إبراهيم النخعي: ((هذا الظل مقيل الكفار قبل الحساب))، والمعنى: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب فكونوا فيه إلى أن يفرغ من الحساب.
ثم وصف الله ذلك الظل فقال: { لا ظليل }؛ أي لا يظل من الحر، { ولا يغني من اللهب }؛ أي ولا يرد عنكم لهب جهنم؛ أي إنهم إذا استظلوا بذلك الظل لم يدفع عنهم من حر النار شيئا، فأما المؤمنون فيقبلون في الجنة كما قال تعالى:
أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا
[الفرقان: 24].
[77.32]
معناه: أن النار تقذف بشرر متفرق متطاير كالقصر وهو البناء العظيم كالحصن. وقيل: مثل قصور الأعراب على المياه، يعني الخيام، قال مقاتل: ((شرر النار في ذلك اليوم يكون من الكثرة عدد النجوم وورق الأشجار، لا يقع شيء منها إلا على أكتاف الرجال)). والشرر ما يتطاير من النار وينتشر في الجهات متفرقا.
قرأ علي وابن عباس (كالقصر) بفتح الصاد، أراد كأعناق النخل، وقيل: كأعناق الدواب، والقصر العنق وجمعه قصر وقصرات. وقرأ سعيد بن جبير (كالقصر) بكسر القاف وفتح الصاد وهي لغة فيه.
[77.33-34]
قوله تعالى: { كأنه جملت صفر }؛ يعني أن لون الشرر يشبه لون الجمالات الصفر، وجمالات جمع جمال، قراءة حمزة والكسائي وحفص وخلف: (جمالة) بكسر الجيم من غير ألف على جمع جمل مثل حجر وحجارة. وقرأ يعقوب (جمالة) بضم الجيم من غير ألف، أراد الأشياء العظيمة المجموعة. وقرأ ابن عباس (جمالات) بضم الجيم جمع جمالات وهي الشيء المجمل، { ويل يومئذ للمكذبين }.
وقوله { صفر } معناه سود، قال الفراء: ((الصفر سوداء الإبل، لا يرى أسود من الإبل إلا وهو مشرب صفرة)) لذلك سمت العرب سود الإبل صفرا، والأصفر الأسود، قال الأعشى:
تلك خيلي وتلك منه ركائب
هن صفر أولادها كالزبيب
أي هن سود.
[77.35]
قال المفسرون: إن في يوم القيامة مواقف، ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا يتكلمون.
وعن قتادة قال: ((جاء رجل إلى عكرمة فقال: أرأيت قول الله تعالى { هذا يوم لا ينطقون } ، وقوله تعالى:
ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون
[الزمر: 31]؟ فقال: إنها مواقف، فأما موقف منها فيتكلموا ويختصموا، ثم ختم على أفواههم فتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون)) وهذا الوقت المذكور في الآية من المواطن التي لا يتكلمون فيها.
[77.36-37]
قوله تعالى: { ولا يؤذن لهم فيعتذرون }؛ قال مقاتل: ((لا ينطقون أربعين سنة ولا يؤذن لهم فيعتذرون)) وإنما رفع (فيعتذرون) لأنه عطف على (يؤذن)، ولو قال فيعتذروا على النصب لكان حسنا كقوله تعالى:
لا يقضى عليهم فيموتوا
[فاطر: 36] ولو كان لهم عذر لم يمنعوا من الاعتذار، قال الجنيد: ((أو أي عذر لمن كفر بآيات ربه، وأعرض عن منعمه))، { ويل يومئذ للمكذبين }.
[77.38]
أي هذا يوم الفصل بين أهل الجنة والنار، جمعناكم مكذبي هذه الأمة والأولين الذين كذبوا أنبياءهم.
[77.39-40]
قوله تعالى: { فإن كان لكم كيد فكيدون }؛ أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع: إن كان لكم حيلة في دفع العذاب، فاحتالوا لأنفسكم. وقيل: معناه: إن كان لكم كيد تكيدون به أوليائي، كما كنتم تكيدونهم في الدنيا فكيدوهم، { ويل يومئذ للمكذبين }.
[77.41-47]
قوله تعالى: { إن المتقين في ظلال وعيون }؛ أي في ظلال الأشجار وقصور الدر وعيون جارية تجري بالماء والخمر واللبن والعسل، { وفواكه مما يشتهون }؛ يقال لهم: { كلوا }؛ من ثمار الجنة، { واشربوا }؛ من شرابها، { هنيئا بما كنتم تعملون }؛ أي سليما من الآفات بما كنتم تعملون الطاعات في الدنيا، { إنا كذلك نجزي المحسنين }؛ أي هكذا نجزي المحسنين على إحسانهم.
ثم يقال لكفار مكة: { ويل يومئذ للمكذبين * كلوا وتمتعوا قليلا }؛ في الدنيا إلى منتهى آجالكم، { إنكم مجرمون }؛ أي مشركون بالله، { ويل يومئذ للمكذبين }.
[77.48-50]
قوله تعالى: { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون }؛ أي إذا أمروا بالصلوات الخمس لا يصلون، { ويل يومئذ للمكذبين }؛ أي لمن كذب بالركوع، { فبأي حديث بعده يؤمنون }؛ أي إن لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه، فبأي كتاب يصدقون، ولا كتاب بعده.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-5]
{ عم يتسآءلون * عن النبإ العظيم }؛ قال المفسرون: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بتوحيد الله والبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم ويقولون: ما نرى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وما الذي أتى به، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعناها: عن أي شيء يتحدثون فيما بينهم، وهذا لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى تفخيم القصة. وأصله عن ما فأدغمت النون في الميم وحذفت الألف؛ لأن العرب إذا وضعت (عن ما) في موضع الاستفهام حذفت نونها فرقا بينهما وبين أن تكون اسما مثل قوله
فيم أنت من ذكرها
[النازعات: 43] و (علام تفعل)، بخلاف قولهم: سألت فلانا عما فعل، لا يجوز فيه حذف الألف؛ لأن معناها الذي، وكذلك إذا كانت (ما) للصلة كقوله تعالى :
عما قليل ليصبحن نادمين
[المؤمنون: 40].
قوله تعالى: { عن النبإ العظيم } أي الخبر الشريف، وهو القرآن، فإنه خبر عظيم الشأن، لأنه ينبئ عن التوحيد وتصديق الرسول، والخبر عما يجوز وما لا يجوز، وعن البعث والنشور. قوله تعالى: { الذي هم فيه مختلفون }؛ يعني أنهم اختلفوا في القرآن، فجعله بعضهم سحرا وبعضهم كهانة وبعضهم شعرا، وبعضهم أساطير الأولين.
ثم أوعد الله من كذب بالقرآن فقال تعالى: { كلا سيعلمون }؛ أي ليس الأمر على ما قالوا، سيعلمون عاقبة تكذيبهم حتى تنكشف الأمور، { ثم كلا سيعلمون } وعيد على إثر وعيد. وقيل: معنى (كلا) ارتدعوا وانزجروا، فليس الأمر على ما تظنون، وسيعلم الكفار عاقبة أمرهم، { ثم كلا سيعلمون }؛ أمر القيامة وأهوالها، وما لهم من أنواع العذاب في النار.
[78.6-7]
قوله تعالى: { ألم نجعل الأرض مهدا * والجبال أوتادا }؛ نبه سبحانه على عظيم قدرته، ولطيف حكمته؛ ليعرفوا توحيده. والمهاد: الوطاء؛ للتصرف عليه من غير كلفة، فالأرض مهاد يسيرون في مناكبها ويسكنون في مساكنها، والمهاد والمهد بمعنى واحد، والمهاد: الفراش، والجبال أوتاد للأرض؛ لأن الأرض كانت تنكفئ بأهلها على وجه الماء، فأرساها الله بالجبال الثوابت حتى لا تميد بأهلها، وكان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض.
[78.8-11]
قوله تعالى: { وخلقناكم أزواجا }؛ أي ذكرانا وإناثا، ويقال: ألوانا وأصنافا، وكلكم ترجعون إلى أب واحد، { وجعلنا نومكم سباتا }؛ أي راحة لأبدانكم، فكل من تعب من الخلق إذا نام استراح، والسبات مأخوذ من السبت وهو القطع، والسبات قطع العمل، والسبات ها هنا أن ينقطع عن الحركة، والروح في بدنه. قوله تعالى: { وجعلنا اليل لباسا }؛ سابغا بظلمته وسواده لكل شيء، { وجعلنا النهار معاشا }؛ أي ذا ضياء لطلب المعاش بالحراثة والتجارة ونحوهما.
[78.12-13]
قوله تعالى: { وبنينا فوقكم سبعا شدادا }؛ أي رفعنا فوق رؤوسكم سبع سماوات غلاظا شديدة الإتقان، قائمة بإذن الله لا تنهار ولا تتغير من طول الزمان، غلظ كل سماء خمسمائة عام، { وجعلنا سراجا وهاجا }؛ أي وقادا متلألئا مشتعلا بالنور العظيم، تنضج الأشياء بحرها، وتضيء للناس بنورها، والوهج مجمع النور والحرارة.
[78.14]
قال مجاهد ومقاتل وقتادة والكلبي: ((المعصرات الرياح؛ لأنها تعصر السحاب حتى تخرج منه المطر)). قال الأزهري: ((هي الرياح ذوات الأعاصير))، و(من) معناها الباء كأنه قال: بالمعصرات؛ ولأن الرياح تستدر المطر، وقال أبو العالية والربيع والضحاك: ((المعصرات السحاب التي ينجلب منها المطر، كالمرأة المعصورة وهي التي دنا حيضها))، قال الشاعر:
جارية بإبرقين دارها
قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
يسقط من غلمتها إزارها
تمشي الهوينا ساقطا خمارها
وقال يزيد بن أسلم: ((المعصرات: السماوات))، وقال ابن كيسان: ((المغيبات)).
والماء الثجاج: هو السيال الصباب، والثج: الصب، كما روي في الحديث:
" أفضل الحج العج والثج "
أراد بالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة الدم. وقال مجاهد: ((ثجاجا أي مدرارا)) وقال قتادة: ((متتابعا يتلو بعضه)).
[78.15-16]
قوله تعالى: { لنخرج به حبا ونباتا }؛ أي لنخرج بالمطر حبا يأكلونه ونباتا ترعاه أنعامكم. { وجنات ألفافا }؛ أي بساتين ملتفة الأشجار، واحدها لف بالكسر، وجمعه لف بالضم، وجمع الجمع ألفاف.
[78.17-18]
قوله تعالى: { إن يوم الفصل كان ميقاتا }؛ معناه: إن يوم الفصل بين الخلائق وهو يوم القيامة كان ميقاتا للأولين والآخرين أن يجتمعوا فيه، وميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب.
ثم بين متى يكون ذلك فقال تعالى: { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا } يعني نفخة البعث فيأتي كل أناس بإمامهم فوجا بعد فوج، وزمرا بعد زمر من كل مكان للحساب. والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل.
وعن معاذ بن جبل قال:
" قلت: يا رسول الله؛ أرأيت قوله تعالى: { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا }؟ قال: " يا معاذ سألت عن عظيم من الأمر " ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا معاذ يحشر الناس عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد بدل الله صورهم وغيرهم من جماعة المسلمين، فبعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون على رؤوسهم وأرجلهم فوق وجوههم يسحبون، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صم بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم يلبسون جبابا من قطران لازقة بجلودهم.
فالذين هم على صورة القردة النمامون، والذين هم على صورة الخنازير الأكالون السحت، والذين هم منكسون على رؤوسهم أكلة الربا، والعميان الجائرون في الحكم، والصم البكم هم الذين يعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم العلماء الوعاظ الذين خالف قولهم أعمالهم، والمقطعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلبون على جذوع النار السعاة إلى السلطان، والذين هم أشد نتنا من الجيف هم الذين يتنعمون باللذات والشهوات، ومنعوا حق الله من أموالهم، والذين يلبسون الجباب هم أهل الكبر والفجور والخيلاء " ".
[78.19]
أي فتحت لنزول الملائكة، فكانت ذات أبواب، قرأ أهل الكوفة (وفتحت) بالتخفيف.
[78.20]
أي سيرت على وجه الأرض فصارت كالتراب المنبث، إذا رآه الناظر يحسبه سرابا بعد شدتها وصلابتها. والسراب: الغبار المنبث في الهواء يحسبه العطشان عند وقوع الشمس أنه ماء وليس بماء.
[78.21-22]
قوله تعالى: { إن جهنم كانت مرصادا }؛ أي طريقا وممرا للعباد، ولا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار، وقال مقاتل: ((إن جهنم كانت محبسا)) معدة { للطاغين }؛ أي للكافرين، { مآبا }؛ أي مرجعا يرجعون إليه، وفي الحديث:
" أنها أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها ".
[78.23]
قرأ حمزة (لبثين فيها أحقابا)، وقرأ الباقون (لابثين) وهما بمعنى واحد؛ أي ماكثين فيها مقيمين بها.
واختلف العلماء في معنى الحقب، فروي عن عبدالله بن عمر: ((أن الحقب الواحد أربعون سنة، كل يوم منها ألف سنة))، فهذا هو الحقب الواحد، وهي أحقاب لا يعلم عددها إلا الله. وعن علي رضي الله عنه: ((أن الحقب الواحد ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهرا، كل شهر ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة)).
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" والله ما يخرج من النار من دخلها من المشركين حتى يكونوا فيها أحقابا، والحقب بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة ".
وعن الحسن: ((إن الله لم يذكر شيئا إلا وجعل لها مدة ينتهي إليها، ولم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: { لابثين فيهآ أحقابا } ، فوالله ما هي إلا إذا مضى حقب دخل آخر، ثم آخر إلى أبد الآبدين)). فليس للأحقاب عدة إلا الخلود في النار، ولكن قد ذكر أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون.
وقال مقاتل: ((الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة))، وقال: ((هذه الآية قوله تعالى: { فلن نزيدكم إلا عذابا } يعني أن العدد قد انقطع، وأن الخلود قد حصل))، وعن عبدالله بن مسعود قال: ((لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا)).
[78.24-25]
قوله تعالى: { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا }؛ أي لا يذوقون في تلك الأحقاب نوما ولا شرابا من الماء. وقيل: معناه: لا يذوقون في جهنم من شدة حرها بردا ينفعهم من حرها، ولا شرابا ينفعهم من عطشها.
وقيل: معناه: لا يذوقون في جهنم برد ريح ولا ظلا ولا شرابا باردا، { إلا حميما وغساقا }؛ أي إلا ماء حارا في غاية الحرارة، و(غساقا) وهو ما يغسق أي يسيل من صديد أهل النار، وكل ذلك يزيد في العطش.
وقال شهر بن حوشب: ((الغساق واد في النار، فيه ثلاثمائة وثلاثون شعبا، في كل شعب ثلاثمائة وثلاثون بيتا، في كل بيت أربع زوايا، في كل زاوية ثعبان كأعظم ما خلق الله، في رأس كل ثعبان سم قاتل لا يعلم قدره إلا الله تعالى)).
وعن أبي معاذ النحوي قال في قوله تعالى: { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا }: ((أن البرد النوم))، ومثله قال الكسائي وأبو عبيدة، والعرب تقول: منع البرد البرد؛ أي أذهب البرد النوم، ولأن العطشان لينام فيبرد غليله، فلذلك سمي النوم بردا، قال الشاعر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا
أي نوما.
[78.26]
انتصب على المصدر؛ أي جوزوا على وفق أعمالهم جزاء. وقيل: تقديره: جزيناهم جزاء، وقوله تعالى { وفاقا } أي وفقوا أعمالهم وفاقا كما يقول: قاتل قتالا، والمعنى: جوزوا بحسب أعمالهم، قال مقاتل: ((وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار)).
[78.27-28]
قوله تعالى: { إنهم كانوا لا يرجون حسابا }؛ أي إنهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا، والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا بأنهم يحاسبون، { وكذبوا بآياتنا كذابا }؛ أي وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تكذيبا، و(فعال) من مصادر التفعيل، قال الفراء: (هي لغة فصيحة يمانية)، يقال حرقت القميص حراقا.
[78.29-30]
قوله تعالى: { وكل شيء أحصيناه كتابا }؛ أي وكل شيء من الأعمال بيناه في اللوح المحفوظ، كقوله تعالى:
وكل شيء أحصيناه في إمام مبين
[يس: 12]. قوله تعالى: { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا }؛ أي يقال لهم: ذوقوا العذاب في النار، فلن نزيدكم إلا ألوان العذاب لونا بعد لون، وكل عذاب يأتي بعد الوقت، فهو زائد على الأول.
[78.31-32]
قوله تعالى: { إن للمتقين مفازا }؛ المتقي هو المؤمن المطيع لله، الكاف عن جميع معاصيه. والمفاز: موضع الفوز وهو الجنة، والمعنى: أن للمتقين فوزا ونجاة من النار. وقوله تعالى { حدآئق وأعنابا }؛ تفسير لذلك الفوز. والحدائق: جمع الحديقة، وكل ما أحيط به الحائط من الأشجار فهو حديقة وهو البستان الجامع. والأعناب: أنواع العنب في البستان، والمعنى: { إن للمتقين مفازا حدآئق وأعنابا } يعني أشجار الجنة وثمارها.
[78.33-34]
قوله تعالى: { وكواعب أترابا }؛ الكواعب: جمع الكاعب، وهي الجارية الناهد المفلكة الثدي، وهي التي خرج ثديها بأحسن الخروج، ولم يفطم بعد. والأتراب: اللدات المستويات في السن، ويجوز أن يكون المعنى: مثل أزواجهن في السن والصورة والقد. قوله تعالى: { وكأسا دهاقا }؛ الكأس: الإناء الذي فيه الشراب، والدهاق: الملآن المتابع، والمعنى: وكأسا ممتلئة.
[78.35]
أي لا يسمعون في مجالسهم في الجنة كلاما لا فائدة فيه، ولا يكذب بعضهم بعضا، والمعنى: لا يسمعون في الجنة إذا شربوا الخمر باطلا من الكلام، ولا يكذب بعضهم بعضا، قال ابن عباس: ((ذلك أن أهل الدنيا إذا شربوا تكلموا بالباطل، وأهل الجنة إذا شربوا لم يتكلموا عليها شيئا يكرهه الله)). وقرأ الكسائي: (ولا كذابا) بالتخفيف؛ أي لا يكذب بعضهم بعضا، والكذاب مصدر المكاذبة، وهو حسن المعنى.
[78.36]
أي جزاهم الله بهذه الأشياء من ربك وأعطاهم عطاء حسابا، وقال ابن قتيبة: ((عطاء كافيا))، يقال: أحسبت فلانا؛ أي أكثرت له وأعطيته ما يكفيه، قال الزجاج: ((في ذلك الجزاء كل ما يشتهون، ومن ذلك: حسبي كذا؛ أي كفاني)). والمعنى: جزاء من ربك عطاء كثيرا كافيا وافيا.
[78.37-38]
قوله تعالى: { رب السموت والأرض وما بينهما الرحمن }؛ قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير: (رب السماوات) برفع الباء، و(الرحمن) بالرفع أيضا على معنى: هو رب السماوات والأرض وما بينهما وهو الرحمن، وإن شئت قلت: (رب) مبتدأ و(الرحمن) خبره.
وقرأ ابن عامر ويعقوب كلاهما بالخفض على البدل من (ربك). وقرأ حمزة والكسائي وخلف (رب) بالخفض، و(الرحمن) رفعا، قال أبو عبيدة: ((وهذه القراءة أعدلها عندي؛ لأن قوله تعالى: { رب } قريب من (ربك) فيكون نعتا له. وارتفع (الرحمن) لبعده عنه، فيكون مبتدأ وما بعده خبره)).
قوله تعالى: { لا يملكون منه خطابا }؛ قال مقاتل: ((لا تقدر الخلق أن يكلموا الرب إلا بإذنه)). وقال الكلبي: ((معناه: لا يشفعون إلا بإذنه)). وقيل: لا يتجرأ أحد أن يتكلم في عرصات القيامة إلا بإذنه، ثم وصف ذلك اليوم فقال تعالى: { يوم يقوم الروح والملائكة صفا }؛ قيل: معناه: في يوم يقوم الروح.
واختلفوا في الروح، قال الشعبي والضحاك: ((هو جبريل الذي سماه الله الروح الأمين)). وقال ابن عباس: ((هو ملك من أعظم الملائكة خلقا)). وقال ابن مسعود: ((هو ملك عظيم أعظم من السماوات ومن الجبال، وأعظم من الملائكة، وهو يسبح في السماء الرابعة كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا)).
وقال مجاهد وقتادة: ((الروح خلق من خلق الله على صورة بني آدم وليسوا منهم، يقومون صفا، والملائكة صفا، هؤلاء جند، وهم جند)). وعن ابن عباس: ((أنه ملك لم يخلق الله في الملائكة أعظم منه))، فإذا كان يوم القيامة قام وحده صفا، وقامت الملائكة كلهم صفا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم. وقيل: هم خلق غير الإنس والجن يرون الملائكة، والملائكة لا يرونهم، كما أن الملائكة يروننا ونحن لا نراهم.
قوله تعالى: { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن }؛ معناه: الخلق كلهم المؤمنون لا يتكلمون إلا من أذن الله له الكلام، ولا يأذن إلا لمن إذا قال: { وقال صوابا }. وقيل: معناه: إلا من أذن له الرحمن وقال في الدنيا قولا صوابا عدلا، وهو كلمة التوحيد؛ يعني: لا إله إلا الله؛ لا إله إلا الله.
[78.39-40]
قوله تعالى: { ذلك اليوم الحق }؛ أي ذلك اليوم وصف هو الحق، { فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا }؛ أي رجعا حسنا؛ أي من شاء رجع إلى الله بطاعته.
ثم خوف الكفار فقال تعالى: { إنآ أنذرناكم عذابا قريبا }؛ أي خوفناكم من عذاب قريب كائن، يعني عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب، والخطاب لأهل مكة. ثم بين متى يكون ذلك العذاب، فقال تعالى: { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } أي يوم يرى الرجل فيه جزاء عمله في الدنيا من خير أو شر، وخص اليدين؛ لأن أكثر العمل يكون بهما.
وأما الكافر فيقول: { ويقول الكافر يليتني كنت ترابا }؛ أي ليتني لم أبعث، وليتني بقيت ترابا بعد الموت، وقال مقاتل: ((إن الله يجمع الدواب والطيور والوحوش يوما، ويقضي بين الثقلين الجن والإنس، ثم يقضي للجماء من القرناء، فإذا فرغ من ذلك، قال: من ربكم؟ فيقولون: الرحمن الرحيم، فيقول الله تعالى: أنا خلقتكم وسخرتكم لبني آدم، وكنتم لي مطيعين أيام حياتكم، فارجعوا للذي خلقتكم منه. فيصيرون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر: { يليتني كنت ترابا }.)). قال أبو هريرة: ((فيقول التراب للكافر: لا حبا ولا كرامة لك أن تكون مثلي)).
[79 - سورة النازعات]
[79.1]
أقسم الله بالملائكة إعظاما لهم، ولله أن يقسم بغيره، وليس للعباد أن يقسموا إلا به. ويجوز أن يكون القسم ها هنا برب الملائكة، كأنه قال: ورب النازعات. والنازعات: الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفار بالشدة من أجسادهم، من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظفار وأصول القدمين، ثم يردونها في جسدها حتى إذا كادت تخرج ردوها في بدنه.
قال مقاتل: ((يعني ملك الموت وأعوانه)). قال سعيد بن جبير: ((ينزعون أرواحهم فيفرقونها ثم يقذفون بها في النار)). وقال السدي : ((هي النفس التي تغرق في الصدور)). وقيل: يرى الكافر نفسه وقت النزع كأنها تغرق. وقيل: معناه: تنزع الملائكة أرواح الكفار عن أجسادهم كما يغرق النازع في القوس فيبلغ بها غاية المد، والمغرق اسم مصدر أقيم مقام الإغراق.
[79.2]
هم الملائكة ينشطون روح الكافر من قدميه إلى حلقه نشطا كما ينشط الصوف من سفود الحديد. قيل: إنهم ينشطون أرواح الكفار نشطا عظيما ويجذبونها جذبا شديدا بكرب ومشقة وغم، كنشط السفود الكثير الشعر من الصوف المتلبد، فيشتد عليهم خروج أرواحهم، يقال: نشطت يد البعير إذا نطقته بالحبل، وأنشطته إذا حللته.
[79.3]
هم الملائكة الموكلون بقبض أرواح المؤمنين، يسلونها سلا رفيقا، ثم يدعونها تستريح رويدا كالسائح بالشيء في الماء يرفق به، وقال مجاهد: ((هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد السابح لسرعته)). وقال الكلبي: ((يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء، فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع، يسلونها سلا رفيقا)). وقال قتادة: ((هي النجوم والشمس والقمر، قال الله تعالى
كل في فلك يسبحون
[الأنبياء: 33])). وقال عطاء: ((هي السفن)).
[79.4-5]
قوله تعالى: { فالسابقات سبقا }؛ هم الملائكة سبقت بني آدم بالخير والعمل الصالح والإيمان والتصديق. وقيل: يستبقون بأرواح المؤمنين إلى الجنة. قوله تعالى: { فالمدبرات أمرا }؛ يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، يدبرون أمر الله في أهل الأرض، فجبريل للوحي والتنزيل، وميكائيل للقطر والنبات، وإسرافيل للصور، وملك الموت لقبض الأرواح، وجواب هذه الأقسام محذوف، تقديره: لتبعثن للجزاء والحساب ولتحاسبن.
[79.6-7]
قوله تعالى: { يوم ترجف الراجفة }؛ يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلق، والرجفة صيحة عظيمة فيه تردد واضطراب، { تتبعها الرادفة }؛ يعني النفخة الثانية ردفت النفخة الأولى، وبينهما أربعون سنة، وسميت الثانية رادفة تشبها بالرادف من الراكب.
[79.8]
أي مضطربة قلقة لما عاينت من أهوال يوم القيامة. قيل: أراد بها قلوب الكفار. والوجيف: اضطراب القلب، وقال مجاهد: ((معنى واجفة: وجلة))، وقال السدي: ((زائلة عن أماكنها)). وقيل: غير هادئة ولا ساكنة، وقال أبو عمرو: ((مرتكضة)).
[79.9-11]
قوله تعالى: { أبصارها خاشعة }؛ أي أبصار أصحابها ذليلة خاضعة، وذلك أن المضطرب الخائف لا بد أن يكون نظره نظر الذليل الخاضع؛ لترقب ما ينزل من الأمر. ويقال: ذليلة عند معاينة النار، كقوله
خاشعين من الذل
[الشورى: 45].
قال عطاء: ((يريد أبصار من مات كافرا)) يدل عليه أنه ذكر منكري البعث، فقال: { يقولون أإنا لمردودون في الحافرة }؛ معناه: تقول الكفار وهم في الدنيا: أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء؟ كما كنا، يقال: رجع فلان في حافرته، أي رجع من حيث جاء. والحافرة عند العرب اسم لأول الشيء، وابتداء الأمر. والمعنى أنهم كانوا يستبعدون البعث، ويقولون: { أإذا كنا عظاما نخرة }؛ أنرد إلى الحياة الأولى، وتعاد فينا الروح بعد أن نصير عظاما نخرة؛ أي بالية, ومنه قولهم: رجع فلان في حافرته؛ إذا رجع في الطريق الذي جاء فيه.
وقال بعضهم: الحافرة الأرض التي تحفر فيها قبورهم، والحافرة بمعنى المحفورة كما في
عيشة راضية
[الحاقة: 21، القارعة: 7] وما وافق معناه: ومعناه: أئنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا، ونمشي على أقدامنا، وقال ابن زيد: ((الحافرة: النار))، وقيل: معناه: أنرد أحياء في قبورنا.
قوله تعالى: { أإذا كنا عظاما نخرة } قرأ أهل الكوفة (ناخرة) بالألف، وهي قراءة عمر رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير. وقرأ الباقون (نخرة) بغير ألف، والنخرة: البالية، والناخرة: المجوفة، يقال: نخر العظم ينخر فهو ناخر ونخرا إذا بلي وتفتت، وقال الأخفش: ((هما لغتان؛ أيهما قرأت فحسن)). والمعنى: أنهم أنكروا البعث، فقالوا: أنرد أحياء إذا متنا وبليت عظامنا.
[79.12-14]
قوله تعالى: { قالوا تلك إذا كرة خاسرة }؛ كانوا يقولون على جهة التكذيب: إن كان الأمر على ما يقول محمد، فتلك الرجعة خاسرة. والخاسرة: ذات الخسران؛ أي إن رددنا بعد الموت لنخسرن بما يصيبنا بعد الموت.
ثم أعلم الله سهولة البعث عليه فقال تعالى ردا عليهم: { فإنما هي زجرة واحدة }؛ يعني النفخة الأخيرة صيحة واحدة يسمعونها وهم في بطون الأرض أموات، { فإذا هم بالساهرة }؛ أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض. والساهرة: وجه الأرض وظهرها، فإنما هي نفخة واحدة وصيحة واحدة هائلة { فإذا هم بالساهرة } أي فإذا هم على ظهر الأرض بعد أن كانوا في جوفها. والعرب تسمي وجه الأرض ساهرة؛ لأن فيها نوم الجفون وسهرهم. يقال: إن المراد بالساهرة أرض بيت المقدس. ويقال: أراد به أرض الآخرة. وقيل: الساهرة: جهنم.
[79.15-16]
قوله تعالى: { هل أتاك حديث موسى }؛ أي هل جاءك - يا محمد - حديث موسى، { إذ ناداه ربه }؛ أي هل بلغك قصة موسى وخبره، وهذا استفهام بمعنى التقرير، كما يقول الرجل لغيره: هل بلغك حديث فلان، وهو يعلم أنه بلغه ذلك، ولكن يريد بهذا الكلام التحقيق.
ويجوز أن يراد بهذا الابتداء الإخبار، كأنه قال: لم يكن عندك - يا محمد - ولا عند قومك ما أعلمك الله به من حديث موسى إذ أسمعه الله نداءه، { بالواد المقدس طوى }؛ أي بالوادي المطهر الذي كلمه الله عليه، واسم ذلك الوادي (طوى). وهذا يقرأ بالتنوين وغيره، فمن نونه وصرفه؛ فلأنه مذكر سمي به مذكر، ومن لم يصرفه جعل له اسم البقعة التي هي مشتملة على ذلك الوادي.
[79.17-22]
قوله تعالى: { اذهب إلى فرعون إنه طغى }؛ أي ناداه ربه فقال له: يا موسى اذهب إلى فرعون إنه علا وتكبر وكفر وتجاوز عن الحد في المعصية، { فقل هل لك إلى أن تزكى }؛ أي تتطهر عن الشرك وتشهد أن لا إله إلا الله، وتعمل عمل الأزكياء، و؛ هل لك رغبة في أن، { وأهديك إلى ربك }؛ أي إلى معرفة ربك وعبادته وتوحيده ومعرفة صفاته، { فتخشى }؛ عقابه إن لم تطعه.
ثم بين الله لموسى أن يمضي، { فأراه الآية الكبرى }؛ حتى أراه الآية الكبرى، يعني العصا إذ كانت أكبر آية، وقال بعضهم: اليد البيضاء التي أخرجها، لها شعاع كالشمس، { فكذب وعصى }؛ أي فكذب فرعون بأنها من الله، وعصى موسى فلم يطعه، { ثم أدبر يسعى }؛ أي أدبر عن الإيمان، وأعرض عنه بعمل الفساد في الأرض، ويقال: أدبر: أسرع هاربا من الجنة.
[79.23-24]
قوله تعالى: { فحشر }؛ أي فجمع قومه وجنوده، { فنادى }؛ لما اجتمعوا، { فقال أنا ربكم الأعلى }؛ أي لا رب فوقي، وقيل: إنه جمع قومه بالشوط يستنصر بهم على إبطال أمر موسى ودفع ضرر الحية، فنادى فيهم : أعيدوا أصنامكم التي كنتم تعبدونها، وأنا رب أصنامكم الأعلى.
[79.25-27]
قوله تعالى: { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى }؛ معناه: لما بلغ في استكثاره وكفره إلى حد لا ينفع فيه الوعظ، حينئذ أخذه الله بعقوبة صار بها نكالا في الدنيا والآخرة، و
النار يعرضون عليها غدوا وعشيا
[غافر: 46] ولو تفكر هؤلاء الجهال لعلموا أنه لو كان إلها لم يحتج إليهم لدفع ضرر الحية التي يخافها.
وقيل: معنى { فأخذه الله نكال الآخرة } يعني كلمتي فرعون حين قال
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص: 38] وقوله { أنا ربكم الأعلى } وكان بينهما أربعون سنة. قال مجاهد: ((هذا معنى الآخرة والأولى، وهي الكلمة الأخيرة، وقوله تعالى
ما علمت لكم من إله غيري
[القصص: 38] هي الكلمة الأولى)) وهذا قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن: ((معنى: نكال الدنيا والآخرة، الأولى: غرقه في الدنيا، وعذابه في الآخرة بالنار)). وعن ابن عباس قال: ((قال موسى: يا رب أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول: أنا ربكم الأعلى، ويكذب بآياتك ورسلك، فأوحى الله إليه أنه كان حسن الخلق سهل الحجاب، فأحببت أن أكافئه)). قوله تعالى: { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }؛ أي إن في الذي فعل فرعون من العقوبة حين كذب عظة لمن يخشى عذاب الله. والعبرة: هي الدلالة المؤدية إلى الحق.
ثم خاطب منكري البعث فقال تعالى: { ءأنتم أشد خلقا أم السمآء }؛ الخطاب لأهل مكة، يقول أأنتم أشد خلقا، معناه: أخلقكم بعد الموت أشد عندكم أم السماء في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد، وهذا كقوله
لخلق السموت والأرض أكبر من خلق الناس
[غافر: 57]. وقوله تعالى: { بناها }؛ أي بناها مع عظمها، فكيف لا يقدر على إعادتكم مع صغر أجسامكم؟!
[79.28]
أي رفع سقف السماء فوق كل شيء بلا عمد تحتها، ولا علاقة فوقها، فسواها من الفطور والعيوب. وقيل: فسواها بلا سقوف ولا فطور.
[79.29]
أي أظلم ليلها وأظهر نهارها: والغطش: الظلمة وأصناف الليل والنهار إلى السماء؛ لأن الليل إنما يكون بغروب الشمس، والشمس منسوبة إلى السماء، فإذا غربت الشمس كان مبدأ الظلام من جانب السماء ، وذلك الضياء يظهر قبل طلوع الشمس من جانب السماء.
[79.30]
أي سطحها بعد خلق السماء، مأخوذ من الدحو وهو البسط، وذلك أن الله خلق الأرض قبل السماء مجموعة، ثم خلق السماء وشمسها وقمرها وليلها ونهارها، ثم دحا الأرض بعد ذلك " فهو " أدل على القدرة.
[79.31-33]
قوله تعالى: { أخرج منها مآءها ومرعاها }؛ أراد بالماء ماء الآبار والعيون التي تخرج من الأرض، وبالمرعى النبات مما يأكل الناس والأنعام وهو قوله تعالى: { والجبال أرساها }؛ أي أثبتها وثقل بها الأرض، فعل ذلك، { متاعا لكم ولأنعامكم }؛ أي منفعة لكم ولدوابكم لا لمنفعة نفسه، فإنه منزه عن المضار والمنافع.
[79.34-36]
قوله تعالى: { فإذا جآءت الطآمة الكبرى }؛ يعني النفخة الثانية التي فيها البعث، والطامة: الحادثة التي تطم على ما سواها؛ أي تعلو فوقه، والقيامة تطم على كل شيء فسميت الطامة. قوله تعالى: { يوم يتذكر الإنسان ما سعى }؛ أي ما عمل في الدنيا من خير أو شر، ويقرأ كتابه، { وبرزت الجحيم لمن يرى }؛ أي أظهرت لجميع الخلائق حتى يراها أهل الموقف كلهم، والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع. وقيل: إن الطامة الكبرى حين يساق أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة.
[79.37-41]
قوله تعالى: { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى }؛ معناه: فأما من جاوز الحد في معصية الله، واختار ما في الدنيا من زهرتها وزينتها على الإيمان بالله وطاعته، فإن الجحيم هي المأوى؛ أي مأواه، { وأما من خاف مقام ربه }؛ للحساب واجتنب المعاصي، { ونهى النفس عن الهوى }؛ أي المحارم التي يشتهيها، قال مقاتل: ((هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب فيتركها)) { فإن الجنة هي المأوى }.
[79.42-45]
قوله تعالى: { يسألونك عن الساعة أيان مرسها }؛ أي متى قيامها ووقوعها، يعني يوم القيامة يسألونه عن تلك لتكذيبهم بها، وقوله تعالى: { فيم أنت من ذكرها }؛ أي في أي شيء أنت من ذكر القيامة ووقتها، ولم يعرفك الله ذلك، والمعنى: لست في شيء من علمها؛ أي لا تعلمها، وقوله تعالى: { إلى ربك منتههآ * إنمآ أنت منذر من يخشها }؛ معناه: إنما أنت مخوف من يخاف قيامها؛ أي إنما ينتفع بإنذارك من يخافها.
[79.46]
قوله تعالى: { كأنهم يوم يرونها }؛ أي كأنهم يوم يرون القيامة، { لم يلبثوا }؛ في الدنيا، { إلا }؛ قدر، { عشية أو ضحها }؛ من العشيات وقدر ضحى العشية، وذلك أنهم إذا استقبلهم أمر الآخرة ذهب عنهم الكفر في مقدار مكثهم في الدنيا، ومقدار مكثهم في قبورهم لعظم ما استقبلهم من الشدائد، والمعنى: إن الذي أنكروه سيرونه حتى كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة مضت كأنها لم تكن. والضحى وقت ارتفاع النهار، والعشي: ما بعد الزوال.
[80 - سورة عبس]
[80.1-2]
وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عنده عمه العباس، وأبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وغيرهم من أشراف قريش، وقد أقبل إليهم يدعوهم إلى الإيمان، ويقرأ عليهم القرآن رجاء أن يؤمنوا فيؤمن بإيمانهم بشر كثير.
فجاء عبدالله بن أم مكتوم وهو الأعمى المذكور، فجعل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات أنزلت، ويقول: أقرئني يا رسول الله، وعلمني مما علمك الله، وهو لا يعلم شغل قلب النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدري أنه مشغول بالإقبال على غيره، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطب وجهه وعبس، وأقبل على القوم الذين يكلمهم. فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
والمعنى: عبس محمد، وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى، و(أن) في موضع نصب؛ لأنه مفعول له. والتولي عن الشيء: هو الإعراض عنه، فإنه صرف وجهه عن أن يليه.
[80.3-4]
قوله تعالى: { وما يدريك لعله يزكى }؛ معناه: ما يعلمك يا محمد لعل ابن أم مكتوم يزكى بالعمل الصالح بجوابك عن سؤاله، { أو يذكر فتنفعه الذكرى }؛ ويتعظ فتنفعه ذكراك. وقيل: معنى (يزكى): يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، أو يذكر فيتعظ بما يعلمه من مواعظ القرآن. قرأ عاصم (فتنفعه) بالنصب على جواب (لعل) بالفاء، وقرأ الباقون بالرفع عطفا على (يزكى أو يذكر).
[80.5-6]
قوله تعالى: { أما من استغنى }؛ يعني أشراف قريش، قال بعضهم: معناه: أما من استغنى بماله، وقيل: استغنى عن وعظك، أي جعل نفسه غنيا عنك، وقال ابن عباس: (معناه: استغنى عن الله وعن الإيمان، { فأنت له تصدى } لوعظه؛ أي تعرض له وتقبل عليه بوجهك وتميل اليه وتصغي إلى كلامه. يقال: فلان تصدى لفلان؛ أي يتعرض له ليراه. قرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر (تصدى) بالتشديد على معنى تتصدى، وقرأ الباقون بالتخفيف على الحذف.
[80.7-10]
قوله تعالى: { وما عليك ألا يزكى }؛ أي وما عليك ألا يؤمن ولا يهتدي، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، { وأما من جآءك يسعى }؛ لعمل الخير وهو ابن أم مكتوم جاءك يسرع في المشي إليك يلتمس منك الدين، { وهو يخشى }؛ عذاب الله، وقيل: يخشى العثور في مشيته، { فأنت عنه تلهى }؛ أي تتشاغل فتعرض بوجهك عنه، يقال: ألهيت على الشيء إلهاء إذا تشاغلت عنه، وليس من لها يلهو، ومن هذا قولهم: اذا استأثر الله بشيء فاله عنه؛ أي اتركه وأعرض عنه.
[80.11-14]
قوله تعالى: { كلا }؛ أي حاشا أن تعود إلى مثل ذلك، لا تعد إليه ولا تفعل مثله، والمعنى: أن (كلا) ها هنا كلمة ردع وزجر، أو كلا لا تفعل بعدها مثلها. وقوله تعالى: { إنها تذكرة }؛ أي إن هذه الآيات التي أنزلها الله عليك موعظة يتعظ بها عباد الله تعالى، { فمن شآء ذكره }؛ أي من شاء ألهمه وفهمه القرآن حتى يذكره ويتعظ به.
" وهذا كله تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتبين أن المحافظة على الإقبال على المؤمنين أولى من الحرص على من هو كافر رجاء أن يترك. فلما أنزلت هذه الآيات أكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم وألطفه واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما ليصلي بالناس، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رآه يقول: " مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، هل لك من حاجة؟ " ".
ولا يمتنع أن يكون إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن أم مكتوم لأنه كان يريد أن يعلم الناس طريقة حفظ الأدب في تعلم العلم. وقوله تعالى { فمن شآء ذكره } أي فمن شاء ذكر ما أنزل من الآيات، ويقال: من شاء الله له أن يتعظ اتعظ.
ثم أخبر الله تعالى بجلالة القرآن في اللوح المحفوظ عنده فقال تعالى: { في صحف مكرمة }؛ أي في كتب معظمة بما تضمنت من الحكمة، { مرفوعة }؛ القدر في السماوات، { مطهرة }؛ أي منزهة من الدنس ومن التناقض والاختلاف كما قال تعالى في آية أخرى
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
[فصلت: 42]. والصحف: جمع الصحيفة: وقيل: يعني بقوله { في صحف مكرمة } اللوح المحفوظ. قوله تعالى: { مرفوعة } يعني في السماء السابعة وقوله تعالى: { مطهرة } أي لا يمسها إلا المطهرون، وهم الملائكة.
[80.15-16]
قوله تعالى: { بأيدي سفرة }؛ يعني الكتبة من الملائكة، واحدهم سافر مثل كاتب وكتبه، وقال الفراء: ((السفرة ها هنا الملائكة الذين هم رسل الله بالوحي إلى أنبيائه، ومنه السفارة وهو السعي بين القوم)). ثم أثنى الله عليهم فقال تعالى: { كرام بررة }؛ أي كرام على ربهم مطيعين له، والكريم الذي من شأنه أن يأتي بالخير، والبررة: جمع بار، وهم الفاعلين للبر المطيعين لله.
[80.17-19]
قوله تعالى: { قتل الإنسان مآ أكفره }؛ أي لعن الكافر ما أكفره بالله وبنعمته مع كثرة إحسانه إليه، قال مقاتل: ((نزلت في عتبة بن أبي لهب، والمراد به كل كافر)). قوله { مآ أكفره } تعجيب بمعنى التوبيخ، يقال: أي شيء حمله على الكفر مع وضوح الدلائل على وحدانية الله، فتعجبوا من كفره. وأما الله تعالى فلا يجوز أن يتعجب من شيء لكونه عالما لم يزل. قوله تعالى: { من أي شيء خلقه }؛ معنى الآية: ما أشد كفره بالله، اعجبوا أنتم من كفره.
ثم بين من أمره ما كان ينبغي معه أن يعلم أن الله خالقه، فقال تعالى: { من أي شيء خلقه } ، لفظ استفهام، ومعناه: التقرير: ثم فسر ذلك فقال تعالى: { من نطفة خلقه } أي من ماء مهين حقير خلقه فصوره في رحم أمه على الاستواء باليدين والرجلين وسائر الأعضاء، { فقدره }؛ على ما يشاء من خلقه طويلا أو قصيرا؛ ذميما أو حسنا؛ ذكرا أو أنثى؛ شقيا أو سعيدا، وغير ذلك من الأوصاف.
[80.20]
قال السدي ومقاتل: ((أخرجه من الرحم وهداه إلى الخروج من بطن أمه)). قال مجاهد: ((ثم يسر له سبيل الدين، ومكنه من سلوكه)).
[80.21-22]
قوله تعالى: { ثم أماته فأقبره }؛ أي أماته عند انقضاء أجله، وجعل له قبرا يوارى فيه، أمر عباده أن يواروه، ولم يجعله ممن يلقى على الأرض كما تلقى البهائم، ثم أكرمه الله بذلك، يقال: أقبرت فلانا إذا جعلت له قبرا يدفن فيه، وقبرته إذا دفنته، والقابر الدافن. قوله تعالى: { ثم إذا شآء أنشره }؛ أي إذا شاء بعثه، وأحياه بعد الموت.
[80.23-25]
قوله تعالى: { كلا لما يقض مآ أمره }؛ أي حقا لم يقض ما أمره الله به، ولم يؤد حقه مع كمال نعمة الله عليه. ثم ذكر رزقه ليعتبر، فقال تعالى: { فلينظر الإنسان إلى طعامه }؛ أي ليتأمل الكافر في طعامه كيف خلقه الله، وقدره سببا لحياته، { أنا صببنا المآء صبا }؛ قرأ أهل الكوفة ويعقوب (أنا) بالفتح على نية تكرير الخافض، تقديره: ولينظر إلى أنا صببنا المطر من السماء صبا، وقرأ الباقون بالكسر على الابتداء، والمطر ينزل من السماء إلى السحاب صبا، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض قطرة قطرة، ليكون أقرب إلى النفع وأبعد من الضرر.
[80.26-30]
قوله تعالى: { ثم شققنا الأرض شقا }؛ أي صدعنا الأرض بالنبات، { فأنبتنا فيها حبا }؛ يعني الحبوب كلها يتغذى بها، { وعنبا }؛ أي كرما، { وقضبا }؛ للدواب، { وزيتونا }؛ هو الذي يعصر منه الزيت، وقال الحسن: ((القضب: العلف))، { ونخلا }؛ جمع نخلة، { وحدآئق غلبا }؛ الحدائق: جمع الحديقة، وهو البستان الذي أحدق بالحيطان، والغلب: الشجر العظام الغلاظ، وقيل: الغلب الملتفة بالأشجار بعضها في بعض، يقال: شجرة غلباء إذا كانت عظيمة غليظة، ورجل غلب إذا كان غليظ العنق.
[80.31]
يعني ألوان الفواكه، والأب: هو المرعى والكلأ الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الأنعام. وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الأب فقال: ((أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)).
وعن أنس رضي الله عنه أن عمر قرأ هذه الآية فقال: ((عرفنا الفاكهة فما الأب؟)) ثم قال: ((هذا لعمرو الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر أن تدري ما الأب )) ثم قالوا: اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب وما لم يبين فدعوه.
وقال الحسن: ((الأب هو الحشيش وما تأكله الدواب)). وقال قتادة: ((أما الفاكهة فلكم، وأما الأب فلأنعامكم)). وعن ابن عباس قال: ((هو ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس والأنعام)).
[80.32]
قوله تعالى: { متاعا لكم ولأنعامكم }؛ أي خلقنا هذه الأشياء متاعا لكم ولدوابكم لسد خلتكم وتتميم حاجتكم، وعن مجاهد رضي الله عنه في قوله تعالى
فلينظر الإنسان إلى طعامه
[عبس: 24]: ((يعني إلى مدخله ومخرجه)).
" وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: " ما طعامكم؟ " قال: الحب واللبن يا رسول الله، قال: " ثم يصير إلى ماذا؟ " قال: إلى ما قد علمت، قال: " فإن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم تمثيلا للدنيا " ".
وقال أبو قلابة: ((مكتوب في التوراة: يا ابن آدم انظر إلى ما بخلت به إلى ما صار)). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن معناه: فلينظر الإنسان إلى أول طعامه ثم عاقبته فليعتبر)).
[80.33-36]
قوله تعالى: { فإذا جآءت الصآخة }؛ يعني صيحة القيامة تصخ الأسماع التي تصمها لشدة الصيحة، والصاخة من أسماء القيامة، ثم بين في أي وقت تجيء فقال: { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصحبته وبنيه } لا يلتفت أحد إلى أحد منهم لعظم ما هم فيه، ومخافة إن سأله أحد منهم يحمل عنه شيئا من عقابه ويواشيه بشيء من ثوابه. وقيل: يفر منهم حذرا من مطالبتهم إياه بما بينهم من التبعات والمظالم. وقيل: لعلمه بأنهم لا ينفعونه.
وعن الحسن قال: ((أول من يفر من أبيه يوم القيامة إبراهيم، ويفر محمد صلى الله عليه وسلم من أمه، ويفر لوط عليه السلام من زوجته، ونوح من إبنه كنعان، وهابيل من أخيه قابيل) وهذا في أولي الثواب من أهل العقاب، وفي أهل العقاب فيما بينهم، وأما أهل الثواب فيما بينهم فليسوا كذلك، ولكن يسألون ربهم إلحاق ذريتهم.
[80.37]
أي شأن يشغله عن الأقرباء ويصرفه عنهم، عن عائشة رضي الله عنها قالت:
" قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا، فقلت: يا رسول الله فكيف بالعورات؟! فقال: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " ".
عن سودة أم المؤمنين قالت:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " قالت: قلت يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟! قال: " شغل الناس عن ذلك، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " ".
[80.38-42]
قوله تعالى: { وجوه يومئذ مسفرة }؛ أي مضيئة مشرقة حسنة فرحة معجبة، مسرورة بما أكرمها الله تعالى به، وهي وجوه أهل الثواب، { ضاحكة }؛ بالسرور، { مستبشرة }؛ أي فرحة بما تنال من الله من الكرامة، { ووجوه يومئذ عليها غبرة }؛ أي غبار من البلاء وسواد وكآبة، { ترهقها قترة }؛ أي يعلوها ويغشاها كسوف وسواد عند معاينة النار، والقترة: سواد كالدخان الأسود. ثم بين من أهل هذه الوجوه، قال تعالى: { أولئك هم الكفرة الفجرة }؛ أي الكفرة بالله الكذبة على الله، جمع كاذب فاجر.
[81 - سورة التكوير]
[81.1]
أي لفت كما تلف العمامة، يقال: كورت العمامة على رأسي أكورها وكورتها تكويرا إذا لففتها، وقال الكلبي ومقاتل: ((كورت أي ذهب ضوءها)). وقال مجاهد: ((اضمحلت)). وقال المفسرون: تجمع الشمس بعضها إلى بعض، ثم تلف فيرمى بها في النار، ويقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور؛ أي من التشتت بعد الألفة، ومن النقصان بعد الزيادة.
[81.2]
أي تساقطت وتناثرت، يقال: انكدر الطائر في الهواء إذا انقض، قال الكلبي وعطاء: ((تمطر السماء يومئذ نجوما، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض)) وذلك أن النجوم كالقناديل معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات الملائكة تساقطت تلك السلاسل من أيديهم فتنكدر النجوم.
[81.3]
أي تسير على وجه الأرض كما يسير السحاب، فتصير هباء منبثا.
[81.4]
العشار: هي النوق الحوامل إذا أتت عليها عشرة أشهر وبقي شهران، فهي أحسن ما يكون في الإبل وأعزها على أهلها، وليس يعطلها أهلها إلا في حالة الشدة العظيمة، واحدها عشرا وليس في القيمة عشار، ولكن هذا على وجه التمثيل حتى لو كان الرجل يومئذ عشارا لعطلها واشتغل بنفسه، ونظيره
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت
[الحج: 2]، ومعنى (عطلت) أي تركت هملا بلا راع لما جاءهم من أهوال يوم القيامة.
[81.5]
الوحوش: جمع الوحش، وهو ما يأوي إلى الفلوات، وينفر عن الناس، وقوله تعالى { حشرت } أي جمعت حتى يقتص بعضها من بعض، وقال ابن عباس: ((حشر البهائم موتها)).
[81.6]
قرأ أبو عمرو وابن كثير مخففا، وقرأ الباقون بالتشديد، ومعناه واحد؛ أي وإذا البحار ملئت وفجر بعضها في بعض، ثم صيرت بحرا واحدا. وقال بعضهم: أحميت من قولهم: سجرت التنور إذا أحميته.
والمراد بالبحار على هذا القول بحار في جهنم تملأ من الحميم لتعذيب أهل النار. وفي الحديث:
" أن الله تعالى يفني ماء هذه البحار "
كما روي أن البحار كلها تسيل حتى تبلغ إلى الثور الذي على قرنه الأرضون، فإذا بلغته فتح فاه فابتلعها كلها، فإذا وقعت المياه كلها في جوفه يبست، فلا يرى منها قطرة بعد ذاك!
[81.7]
أي ردت الأرواح إلى أجسادها، فقرنت كل روح إلى جسدها، وسئل عمر رضي الله عنه عن ذلك فقال: ((معناه: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، فذلك تزويج النفس)) ومنه قوله تعالى:
احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون
[الصافات: 22] وقرناءهم.
وقال عطاء: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكفار بالشياطين، قال الله تعالى:
ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا
[النساء: 38].
[81.8-9]
قوله تعالى: { وإذا الموءودة سئلت }؛ قال الفراء: ((سئلت الموءدة فقيل لها: { بأى ذنب قتلت } )) ومعنى سؤالها توبيخ قاتلها، لا يقول: قتلت بغير ذنب. والموءودة: المقتولة بثقل التراب الذي يطرح عليها، ومنه قوله تعالى:
ولا يؤوده حفظهما
[البقرة: 255] أي لا يثقل حفظ عليه السماوات والأرض، وكانت العرب تئد البنات من أولادها حية؛ كيلا يخطبن إليهم، ومخافة الإملاق كما قال تعالى
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق
[الإسراء: 31].
قال المفسرون: هي الموءدة المقتولة المدفونة حية، سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤودها؛ أي يثقلها حتى تموت، قالوا: وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت، فإذا أراد أن يستبقيها ألبسها جبة من صوف ترعى له الإبل والغنم، وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى بيت أقاربها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء، فإذا بلغ البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر، ثم يهيل عليها التراب حتى يسويها بالأرض.
قال قتادة: ((كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه)). ويجوز أن يكون معنى سئلت: طلبت من قاتلها لم قتلها كما تقول: سألت حقي من فلان إذا أخذته وطلبت حقك منه.
[81.10]
أراد به ديوان الحسنات والسيئات، وذلك أنه إذا مات ابن آدم طويت صحيفته على مقدار عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت وأعطي كل واحد منهم صحيفته على مراتبهم، فينبغي لكل عاقل أن يذكر حالة الطي في آخر عمره، وحالة النشر يوم القيامة، ويجتهد أن يملي صحيفته في حياته من الطاعات.
[81.11]
أي نزعت عن أماكنها فطويت كما يكشط الغطاء عن الشيء، وقال الزجاج: ((قلعت كما يقلع السقف))، ومعنى الكشط رفع الشيء عن شيء قد غطاه، كما يكشط الجلد عن الشاة. وفي قراءة ابن مسعود (قشطت) بالقاف، والمعنى واحد. ويقال: معنى الكشط أن ينزع عنها ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، يقال كشطت الحرف عن البياض إذا قلعته ومحوته.
[81.12-13]
قوله تعالى: { وإذا الجحيم سعرت }؛ أي أوقدت للكافرين والمنافقين، قرأ نافع بالتشديد؛ أي أوقدت مرة بعد مرة، وزيد في وقودها وشدة لهبها. قوله تعالى: { وإذا الجنة أزلفت }؛ أي أدنيت من المتقين وقربت لهم، ودنا دخولهم إياها، كما قال في آية أخرى
وأزلفت الجنة للمتقين
[ق: 31] ومن ذلك المزدلفة لقربها من عرفات.
[81.14]
جوابه هذه الأشياء، يقول: إذا كانت هذه الأشياء التي تكون في القيامة علمت ذلك الوقت كل نفس ما أحضرته من خير أو شر تجزى به.
[81.15-16]
قوله تعالى: { فلا أقسم بالخنس }؛ معناه أقسم برب الخنس، و(لا) في هذا الموضع مؤكدة زائدة، وقوله تعالى: { الجوار الكنس }؛ أي الجارية في الأفلاك، وتخنس في مجراها؛ أي ترجع إلى مطالعها في سيرها، ثم تستتر عند غروبها، فتغيب في المواضع التي تغيب فيها كما تكنس الظباء بأن تستتر في كناسها.
والخنس: هو التأخر، ومنه الخنس في الأنف تأخره في الوجه، يقال: رجل أخنس والمرأة خنساء، وسمي الأخنس بن شريف بهذا الاسم لتأخره عن يوم بدر عن أصحابه. ومنه الخناس وهو الشيطان؛ لأنه يغيب عن أعين الناس. والخنس: جمع خانس، وهي النجوم الخمسة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، تجري في الأفلاك وتخنس في مجراها؛ أي ترجع إلى مجراها في سيرها.
وروي: أن رجلا من خثعم جاء إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين ما الخنس؟ قال: ((ألست رجلا عربيا؟!)) قال: بلى، ولكن أكره أن أفسر القرآن على غير ما أنزل؟، فقال: ((الخنس هي النجوم الخمسة: الزهرة والمشتري وبهرام وعطارد وزحل)).
فقال: ما الكنس؟ قال: ((مستقرهن إذا انقبضن، وهن الجواري تخنس خنوس القمر، يرجعن وراءهن ولا يقدمن كما يقدم النجوم، وليس من نجم غيرهن إلا يطلع، ثم يجري حتى يقطع المجرة)). وقيل: معنى خنوسها أنها تستتر بالنهار فتخفى، وتنكس في وقت غروبها.
[81.17-21]
قوله تعالى: { والليل إذا عسعس }؛ أي إذا أقبل بظلامه، وقيل: إذا أدبر بظلامه. والعس: طلب الشيء بالليل، ومنه العسس، ويقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، وهو من الأضداد، إلا أن ما بعد هذه الآية دليل على أن المراد به أدبر، وهو قوله تعالى: { والصبح إذا تنفس }؛ أي إذا امتد ضوؤه حتى يصير نهارا بينا، ومنه تنفس الصعداء، ومنه امتداد نفس الخوف بالخروج من الأنف والفم.
ثم ذكر جواب القسم فقال:
قال تعالى: { إنه لقول رسول كريم }؛ يعني القرآن أتى به جبريل عليه السلام من عند الله وهو رسول كريم، فقرأه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: { ذي قوة عند ذي العرش مكين }؛ يعني جبريل عليه السلام ذي قوة فيما كلف وأمر به، ومن قوته أنه قلب قرى قوم لوط وهي أربع مدائن، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملهم من الأرض السفلى بقوادم جناحه، ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم قلبها بأمر الله فهوت بهم، كل هذا من غير كلفة لحقته.
قوله تعالى: { عند ذي العرش مكين } عند خالق العرش ومالكه، وحيه رفيع القدر، يقال: فلان مكين عند الأمين؛ أي ذو قدر ومنزلة. قوله تعالى: { مطاع ثم أمين }؛ أي مطاع في السماوات، يطيعه أهل السماوات بأمر الله تعالى، يقال: فرض طاعته على أهل السماء كما فرض طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض على أهل الأرض. وقوله { أمين } أي فيما يؤدي عن الله إلى أنبيائه عليهم السلام، حقيق بالأمانة فيه، لم يخن ولم يخون.
[81.22]
يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والخطاب لأهل مكة، وذلك أنهم قالوا: إن محمدا مجنون، فأقسم الله تعالى أن القرآن نزل به جبريل، وأن محمدا ليس بمجنون كما قالوه، وفي هذا بيان غاية جهل قريش حيث نسبوا أعقل خلق الله إلى الجنون. والمجنون في اللغة: هو المغطى على عقله لآفة نزلت به.
[81.23]
أي ولقد رأى محمد جبريل بالأفق الأعلى وهو مطلع الشمس الذي يجيء منه النهار، وقد تقدم في سورة النجم: أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته التي هو عليها إلا مرتين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل:
" " إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون عليها في السماء " قال: لن تقوى على ذلك، قال: " بلى " قال: أين تشاء أتخيل لك، قال: " بالأبطح " قال: لن يسعني، قال: " بمنى " قال ": لا يسعني، قال: " بعرفات " قال: فهبط جبريل بعرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه، فتحول جبريل في صورة دحية وضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة والعرش على كاهله ".
[81.24]
قال بعضهم: أراد به جبريل ليس بمتهم على تبليغ الوحي والرسالة ولا تخيل، بل هو صادق موثوق به. وقال بعضهم: أراد به النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بقوله { على الغيب } أي على الوحي، وقرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة ونافع وابن عامر (بضنين) بالضاد، وكذلك هو في مصحف أبي بن كعب، ومعناه: وما هو على الغيب ببخيل، لا يبخل عليكم، بل يعلمكم وتخبركم به، تقول العرب: ضننت بالشي بكسر النون فأنا به ضنين؛ أي بخيل، قال الشاعر:
أجود بمضنون التلاد وإنني
بسرك عمن سألني لضنين
وقرأ الباقون بالظاء، وهي قراءة ابن مسعود وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز، ومعناه: (بمتهم)، والمظنة التهمة.
[81.25-26]
قوله تعالى: { وما هو بقول شيطان رجيم }؛ هذا رد على الكفار، فإنهم كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه شيطان اسمه الري يتزيا له فيلقيه على لسانه، والرجيم: اللعين المرجوم بالشهب. أو المعنى: وما القرآن بقول شيطان رجيم. قوله تعالى: { فأين تذهبون }؛ خطاب لكفار مكة يقول: أي طريق تسلكون أبين من هذا الطريق بين لكم، ويقول: أين تذهبون بقلوبكم عن معرفة ما بين الله لكم من صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
[81.27-29]
قوله تعالى: { إن هو إلا ذكر للعالمين }؛ أي ما القرآن إلا عظة بليغة لجميع الخلق. وقوله تعالى: { لمن شآء منكم أن يستقيم }؛ أي يتمسك بطريقة الإيمان. قوله تعالى: { وما تشآءون إلا أن يشآء الله رب العالمين }؛ أعلم الله أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه تعالى، ولأنهم لا يعلمون شيئا من الخير والشر إلا بمشيئة الله.
وقد اختلفوا في تفسير هذه الآية على قولين، قال بعضهم: هذا القرآن ذكر لمن شاء الله له أن يستقيم، وما تشاءون أن تستقيموا إلا أن يشاء الله ذلك لكم. وقال بعضهم: هذا ذكر عام للعالمين، فمن شاء أن يستقيم استقام.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-3]
{ إذا السمآء انفطرت }؛ أي انشقت وانقضت. والانفطار والانصداع والانشقاق بمعنى واحد. قوله تعالى: { وإذا الكواكب انتثرت }؛ أي تساقطت على وجه الأرض، { وإذا البحار فجرت }؛ أي فتح بعضها في بعض، ورفع الحاجز بين العذب والملح.
[82.4-5]
قوله تعالى: { وإذا القبور بعثرت }؛ أي محيت فانتثرت وكشفت عن الأموات واستخرج ما فيها من الموتى، { علمت نفس ما قدمت }؛ من عمل، { وأخرت }؛ أي عند ذلك تعلم النفس ما قدمت وأخرت، هذا جواب الشرط، ويقال: ما قدمت من الطاعة والمعصية، وما أخرت من الحسنة والسيئة. ويقال: ما قدمت وأسلفت من الخطايا، وسوفت من التوبة. وقيل: ما قدمت " من " الصدقات وأخرت من التركات.
[82.6-8]
قوله تعالى: { يأيها الإنسن ما غرك بربك الكريم }؛ الخطاب في هذه الآية للكفار، والمراد بالإنسان كلدة بن أسيد، ويقال: الخطاب للكفار والعاصين، يقال له يومئذ: بم اغتررت وتشاغلت عن طاعة الله وطلب مرضاته وهو الكريم الصفوح عن العباد، { الذي خلقك فسواك }؛ خلقك في بطن أمك باليدين والرجلين وسائر الأعضاء لم يخلقها متفاوتة، ولو كان خلق إحدى رجليك أطول من الأخرى لم تكمل منفعتك.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه تلا هذه الآية فقال: { يأيها الإنسن ما غرك بربك الكريم }؟ فقال: " جهله يا رب "
وقال قتادة: ((غر الإنسان عدوه المسلط عليه)). قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال: { ما غرك بربك الكريم } ما كنت تقول؟ فقال: ((أقول: غرني ستورك المرخاة)). وقال مقاتل: ((غره عفو الله حين لم يعجل عليه بالعقوبة)). وقال السدي: ((غره رفق الله به))، وقال يحيى بن معاذ: ((لو أقامني بين يديه فقال: ما غرك بي؟ لقلت: غرني بك رفقك بي سالفا وآنفا)).
قال أهل الإشارة: إنما قال { بربك الكريم } دون سائر صفاته، كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرني كرم الكريم. وعن ابن مسعود قال: ((ما منكم من أحد إلا سيقال له يوم القيامة: { ما غرك بربك الكريم }؟ يا ابن آدم ماذا عملت؟ فيما علمت؟ ماذا أجبت المرسلين؟)). وقال أبو بكر الوراق: ((لو قال لي: { ما غرك بربك الكريم }؟ لقلت: غرني كرم الكريم)).
قوله تعالى: { فعدلك }؛ قرأ أهل الكوفة بتخفيف الدال؛ أي صرفك إلى أي صورة شاء من الحسن والقبح والطول والقصر، وقرأ الباقون بالتشديد؛ أي قوم خلقك، معتدل الخلق معتدل القامة في أحسن صورة، كما في قوله تعالى
في أحسن تقويم
[التين: 4]. قوله تعالى: { في أى صورة ما شآء ركبك } أي في شبه أب أو أم أو خال أو عم.
[82.9]
{ كلا } كلمة ردع، ومعناها لا تغتر بغير الله تعالى فتترك عبادة الله. وقيل: معناه: حقا إنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمتي عليكم، بل تكذبون بالإسلام مع هذه النعم. ويقال: أراد بالدين ها هنا يوم الحساب والجزاء.
[82.10-11]
قوله تعالى: { وإن عليكم لحافظين }؛ ابتداء إخبار من الله، معناه: وإن عليكم رقباء يحفظون أعمالكم وأفعالكم وهم الملائكة. قوله تعالى: { كراما كاتبين }؛ أي كراما على الله كاتبين يكتبون أقوالكم وأفعالكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من أحد يأوي إلى مضجعه إلا شكت أعضاؤه إلى الله تعالى مما يجني عليها الإنسان "
، وإنما قال كراما على الله ليكون أدعى إلى احترامهم وإلى الامتناع عن فعل ما يؤذيهم.
[82.12]
في الظاهر دون الباطن، يعني يعلمون ما تفعلون دون ما تعتقدون، قال ابن مسعود: ((يكتبون كل شيء حتى الأنين)) ونظيره قوله
وكل صغير وكبير مستطر
[القمر: 53].
[82.13-14]
أراد بالأبرار الصادقين في إيمانهم، وأراد بالفجار الكفار. وقيل: أراد بالأبرار عمال الإحسان من المؤمنين، وبالفجار عمال الإساءة من الفساق.
[82.15-16]
قوله تعالى: { يصلونها يوم الدين }؛ أي يدخلونها يوم الحساب والجزاء، { وما هم عنها بغآئبين }؛ إلى أن يقضي الله بإخراج من كان فيها من أهل التوحيد، وأما الكفار فلا يغيبون عنها أبدا.
[82.17-18]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما يوم الدين }؛ أي ما أعلمك يا محمد ما في ذلك اليوم من الشدائد على الكفار، { ثم مآ أدراك ما يوم الدين }؛ ثم أعلمك ما فيه من النعيم للأبرار.
[82.19]
قوله تعالى: { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا }؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الميم نعتا لقوله تعالى { يوم الدين } أو بدلا منه، وقرأ الباقون بالنصب على الظرف؛ أي في يوم، ومعناه: لا تملك نفس لنفس؛ أي لا يملك آخر لآخر نفعا ولا ضرا؛ لأن الأمر يومئذ لله، { والأمر يومئذ لله }؛ دون غيره.
[83 - سورة المطففين]
[83.1]
يعني الذين ينقصون الناس، ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن. والويل: الشدة في العذاب، وهي كلمة تستعمل لكل من وقع في الهلكة. وها هنا رفع بالابتداء وخبره { للمطففين }. والتطفيف: التنقيص في الكيل والوزن، والطفيف: الشيء القليل، وإناء طفآن إذا لم يكن ملآن.
[83.2-3]
قوله تعالى: { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } ، يعني إذا اكتالوا من الناس و(على) و(من) يتعاقبان. والمعنى: إذا أخذوا من الناس حقوقهم أخذوه على الوفاء، { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون }؛ وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصون في الكيل والوزن.
والإخسار والخسار بمعنى واحد. واطلاق لفظ المطلق لا يتناول إلا من يتفاحش منه التطفيف، بحيث لو وقع ذلك المقدار في التفاوت بين الكيلين العدلين لزاد عليه، وأما الإيفاء بين الناس فإنهم يجتهدون في استيفاء حقوقهم أن يكون ذلك أميل إلى الرجحان، كما روي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى دينه فأرجح " فقيل له في ذلك فقال: " إنا كذلك نزن " ".
[83.4-5]
معناه ألا يستيقن أولئك أنهم مبعوثون، وفيه بيان أن التطفيف ليس يفعله من يعلم أنه مبعوث للحساب ليوم عظيم وهو يوم القيامة، كأنه قال: لو علموا أنهم مبعوثون ما نقصوا في الكيل والوزن، وكان الحسن يقول: ((نزلت هذه الآية في الموحدين، وما آمن بيوم القيامة من طفف في الميزان)).
[83.6]
فيه بيان صفة ذلك اليوم، قال الكلبي: ((يقومون مقدار ثلاثمائة سنة لا يؤذن لهم فيعتذروا)). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يقوم الناس لرب العالمين حتى أن أحدهم ليغيب في رشحه إلى أنصاف أذنيه، وحتى يقول الكافر: رب أرحني ولو إلى النار ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " خمس بخمس " قالوا: يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: " ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر ".
وعن مالك بن دينار قال: ((دخلت على جار لي، وقد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار جبلين من نار، قلت: ما تقول؟! قال: يا أبا يحيى كان لي مكيالان أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر، قال: فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر، فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد علي عظما، قال: فمات في مرضه ذلك)).
وقال عكرمة: ((اشهدوا على كل كيال ووزان أنه في النار))، قيل: إن ابنك كيال أو وزان، قال: ((اشهدوا أنه في النار)). وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول له: ((اتق الله وأوف الكيل والميزان بالقسط؛ فإن المطففين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم)). ومر علي رضي الله عنه على رجل يزن الزعفران فقال: ((أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت)).
[83.7]
أي ليس الأمر على ما يظنون أنهم لا يبعثون ليوم عظيم، وقيل: إن { كلا } هاهنا كلمة ردع وزجر؛ أي ارتدعوا عن التطفيف. قوله تعالى: { إن كتاب الفجار لفي سجين } يعني الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم، قال ابن عباس: ((السجين صخرة سوداء تحت الأرض السابعة، وهي التي عليها الأرضون، مكتوب فيها عمل الفجار)). عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" سجين جب في جهنم مفتوح، والفلق جب في النار مغطى ".
[83.8-9]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما سجين }؛ تعجب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس ذلك مما تعلمه أنت ولا قومك؛ لأنكم لم تعاينوه، ثم فسره فقال: { كتاب مرقوم }؛ أي مثبت عليهم في تلك الصخرة كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحا حتى يجازون به، ومعنى الرقم على هذا القول هو الطبع في الحجر.
[83.10-13]
قوله تعالى: { ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم }؛ يعني الوليد بن المغيرة، { إذا تتلى عليه آياتنا } ، كان إذا قرئ عليه القرآن، { قال أساطير الأولين }؛ أحاديثهم وأباطيلهم التي سطروها في الكتب ، وهذه الآية عامة في كل كافر يقول مثل مقالته، والمعتدي هو المتجاوز عن الحد في المعصية، والأثيم كثير الإثم.
[83.14]
أي حاشا أن يكون القرآن أساطير الأولين، بل غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون من الكفر والمعصية، يقال: رانت الخمر على عقله إذا سكر فغلبت على عقله، ويقال في معنى الرين: إنه كثرة الذنوب كالصدى يغشى على القلب، وقال الحسن: ((هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب)). وقال مجاهد: ((هو الطبع)).
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" المؤمن إذا أخطأ خطيئة كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها، وإن لم يتب زادت حتى تعلو قلبه في الرين الذي قال الله في كتابه { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } ".
[83.15-17]
قوله تعالى: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون }؛ أي حقا إنهم عن رحمة ربهم وكرامته لممنوعون؛ { ثم إنهم لصالوا الجحيم }؛ أي أنهم مع كونهم ممنوعون عن الجنة ونعيمها، يدخلون الجحيم غير خارجين منها أبدا، { ثم يقال }؛ لهم على وجه التقريع على طريق الذم، { هذا الذي كنتم به تكذبون }؛ في الدنيا. وقيل: معناه محجوبون عن رؤية الله تعالى.
[83.18-21]
قوله تعالى: { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين }؛ أي حقا إن عمل الأبرار وهم الصادقون في إيمانهم لمكتوب في أعلى الأمكنة فوق السماء السابعة. قوله تعالى: { ومآ أدراك ما عليون }؛ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك غير معلوم وسيعرفه. قوله تعالى: { كتاب مرقوم }؛ تفسير للكتاب الذي في عليين إعظاما لذلك الكتاب وتشريفا، وفي إعظام كتاب المرء إعظاما له.
وقال قتادة: ((عليون قائمة بالعرش اليمنى))، وقال مقاتل: ((ساق العرش إليه ترفع أرواح المؤمنين)). وقيل: إن العليين جمع العلية، وهي المرتبة العالية محفوفة بالجلالة. وقال بعضهم: معناه: علو في علو مضاعف. وقوله تعالى: { يشهده المقربون }؛ أي يحضره السبعة أملاك الذين ذكرناهم.
[83.22-27]
قوله تعالى: { إن الأبرار لفي نعيم }؛ أي في نعيم دائم وهو نعيم الجنة، { على الأرآئك ينظرون }؛ أي على السرر من الدر والياقوت في القباب المضروبة ينظرون إلى نعيم الجنة. وقيل: إلى أعدائهم كيف يعذبون. قوله تعالى: { تعرف في وجوههم نضرة النعيم }؛ أي بريق النعيم ونوره ونظارته وبهجته وحسنه، { يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك }؛ أي خمر صافية خالصة من الغش بيضاء مختومة بالمسك، قال قتادة: ((تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك)). وقيل: معناه: آخر طعمه مسك.
وقرأ علقمة (خاتمه مسك) أي آخره، ويقال: معناه: أنهم إذا شربوا من ذلك الشراب انختم ذلك بطعم المسك ورائحته. ويقال: معنى المختوم ها هنا أن ذلك الشراب في الآخرة هو مختوم بالمسك بدل الطين الذي يختم بمثله الشراب في الدنيا، فهو مختوم بالمسك يوم خلقه الله تعالى لا ينفك حتى يدخل أهل الجنة الجنة، فينفك ذلك لهم تعظيما لشرابهم.
قوله تعالى: { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }؛ أي في مثل هذا النعيم فليرغب الراغبون وليجتهد المجتهدون، لا في النعيم الذي هو مكدر لسرعة الفناء. قوله تعالى: { ومزاجه من تسنيم }؛ معناه: ومزاج الرحيق من عين تنزل عليهم من ساق العرش، سميت بذلك؛ لأنها تسنم عليهم، فتنصب انصبابا من فوقهم في منازلهم، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وذلك الشراب إذا كان أعلا كان أطيب وأهنأ.
[83.28]
قوله تعالى: { عينا }؛ منصوب على الحال؛ أي في الحال التي تكون عينا لا ماء راكدا. وقيل: انتصب على تقدير يسقون عينا أو من عين. وقيل: على إضمار أعني عينا.
وقوله تعالى: { يشرب بها المقربون }؛ يشرب بها أفاضل أهل الجنة صرفا بغير مزاج، ويشربها سائر أهل الجنة بالمزاج، وقيل: إن الباء في قوله { بها } زائدة كما في قوله
تنبت بالدهن
[المؤمنون: 20]. وقيل: إن التسنيم عين تجري في الهواء في أواني أهل الجنة على مقدار مائها، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض.
[83.29-32]
قوله تعالى: { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون }؛ معناه: إن الذين أشركوا وهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل وأصحابه من مشركي مكة كانوا يضحكون من ضعفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم بلال وصهيب وعمار وسلمان، كانوا يستهزئون بهم ويعيرونهم على الإسلام، { وإذا مروا بهم }؛ أي مر بهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، { يتغامزون }؛ بالطرف طعنا عليهم.
وكانوا يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تركوا شهوتهم في الدنيا يطلبون بذلك نعيم الآخرة بزعمهم، { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين }؛ وكانوا إذا رجعوا إلى أهلهم يرجعوا فاكهين؛ أي ناعمين فرحين معجبين بما هم فيه لا يبالون بما فعلوا بالمؤمنين، { وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون } ، ويقولون إنهم ضالون باتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم.
[83.33]
أي ما أرسل الكفار ليحفظوا على المؤمنين أفعالهم، فما لهم وإياهم؟ بل أرسل المؤمنين ليحفظوا على الكفار أفعالهم، فيشهدوا عليهم يوم القيامة.
[83.34-36]
قوله تعالى: { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون }؛ معناه: يوم القيامة الذين صدقوا بتوحيد الله، ونبوة رسوله يضحكون من الكفار قصاصا وشماتة بهم كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، { على الأرآئك ينظرون }؛ أي على السرر في الحجال جالسون ينظرون إلى أهل النار كيف يعذبون.
وذلك أنه يفتح بينهم وبين الكفار باب إلى الجنة، فإذا نظر الكفار إلى ذلك الباب أقبلوا نحوه يسحبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سد عنهم، فعند ذلك يضحك المؤمنون وهم على الأرائك في الدرجات، يقول يطلعهم الله على أهل النار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، فيرونهم في النار يدورون فيها وإن جماجمهم لتغلي من حر النار، فيقول المؤمنون: { هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون }؛ أي هل جوزوا على صنيعهم واستهزائهم بنا، ويجوز أن يكون قوله تعالى: { هل ثوب الكفار } من قول الله؛ ومعناه: التحقيق، ومعنى ثوب جوزي.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-2]
{ إذا السمآء انشقت }؛ وذلك أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي وكان مسلما، جادل أخاه الأسود بن عبد الأسد في الإسلام، وكان الأسود كافرا، فأخبره أبو سلمة بالبعث، فقال له الأسود: ويحك! أترى أني مصدق أئذا كنا ترابا وعظاما أنبعث؟ فأين السماء والأرض يومئذ؟ وما حال الناس؟ فأنزل الله هذه السورة.
ومعناها: واذكر إذا السماء انشقت لنزول الملائكة وهيبة الرحمن ، { وأذنت لربها وحقت }؛ أي سمعت وأطاعت لأمر ربها بالانشقاق، وحق لها أن تطيع ربها. يقال: أذنت للشيء إذا سمعت، وأذنته إذا سمعته.
[84.3-5]
قوله تعالى: { وإذا الأرض مدت }؛ أي بسطت بسط الأديم العكاظي، فجعلت كالصحيفة الملساء، لا يبقى جبل ولا بناء ولا شجر إلا دخلت فيها، { وألقت }؛ الأرض، { ما فيها }؛ من الأموات، { وتخلت }؛ عن ذلك كما كانت من قبل، { وأذنت لربها وحقت }؛ أي سمعت وانقادت لأمر ربها، وحق لها أن تسمع وتطيع.
وجواب (إذا) في هذه السورة محذوف؛ تقديره: رأى الإنسان عند ذلك ما قدم من خير أو شر، وقيل: جوابه: فملاقيه، والمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان كدحه وهو عمله. وقيل: جوابه:
يأيها الإنسن إنك كادح إلى ربك كدحا
[الانشقاق: 6]؛ تقديره: إذا السماء انشقت لقي كل كادح ما عمله.
[84.6]
اختلفوا في الخطاب لمن هو، فروى عبدالله بن عمران:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ثم قال: " أنا ذلك الإنسان، أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأجلس جالسا في قبري، ثم يفتح لي باب إلى السماء بحيال رأسي حتى أنظر إلى عرش ربي، ثم يفتح لي باب إلى الأرض السفلى حتى أنظر إلى الثور والثرى، ثم يفتح لي باب عن يميني حتى أنظر إلى الجنة وإلى منازل أصحابي، وأن الأرض تتحرك تحتي فأقول لها: ما لك أيتها الأرض؟ فتقول: إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى، فأكون كما كنت إذ لا شيء في " ".
والمعنى على هذا القول: إنك عامل لربك عملا فملاقي ربك ترجع إليه فيجازيك. وقال بعضهم: الخطاب للمكذب بالبعث، وهو أبي بن خلف الجمحي، والمعنى: إنك عامل عملا في كفرك، فترد إلى ربك في الآخرة، فتلقى جزاء عملك.
والظاهر: أن الخطاب لجميع الناس. والكدح في اللغة هو السعي الدؤوب في العمل في الدنيا والآخرة، قال الشاعر:
فما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
والمعنى: أيها الإنسان سترى جزاء ما عملت من خير أو شر، فانظر اليوم ماذا تعمل وفيم تتعب نفسك، فلا تعمل إلا لله حتى تستريح من الكدح.
[84.7-9]
قوله تعالى: { فأما من أوتي كتبه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } أي من أعطي ديوان عمله بيمينه، فسوف يحاسب حسابا هينا. والحساب الهين: هو أن يعرف جزاء عمله، وما له من الثواب، وما يحط عنه من الوزر، وخرج ما عليه من المظالم، { وينقلب إلى أهله }؛ أي فينقلب إلى أهله من الحور العين وأقربائه من المؤمنين، { مسرورا }؛ بهم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" قلت يا رسول الله أيحاسب المؤمن؟ قال: " يا عائشة من حوسب عذب " قالت: قلت: يا رسول الله { فأما من أوتي كتبه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ، قال: " يا عائشة ليس ذلك الحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب عذب " ".
[84.10-12]
قوله تعالى: { وأما من أوتي كتبه ورآء ظهره }؛ يعني الكافر تكون يمينه مغلولة إلى عنقه، وتلوى يده اليسرى من ورائه، فيدفع إليه كتابه من ورائه، فإذا رأى إلى ما فيه من سيئاته، { فسوف يدعوا ثبورا }؛ دعا بالويل والثبور على نفسه: واويلاه؛ واثبوراه. والثبور: الهلاك. وقوله تعالى: { ويصلى سعيرا }؛ أي يدخل نارا موقدة، قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي (ويصلى) بضم الياء وتشديد اللام على وجه المبالغة؛ أي يكثر عذابه في الآخرة.
[84.13-14]
قوله تعالى: { إنه كان في أهله مسرورا }؛ أي كان مسرورا في أهله في الدنيا بمعاصي الله، وكان لا يحزنه خوف القيامة، وكان يمنعه السرور في أهله عن إقامة فرائض الله. قوله تعالى: { إنه ظن أن لن يحور }؛ معناه: إنه ظن في الدنيا أن لا يرجع إلى الله في الآخرة، فلذلك كان يركب المآثم، والمعنى: أنه ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى.
[84.15]
قوله تعالى: { بلى }؛ أي ليس كما ظن، بل يحور إلينا ويبعث؛ أي بلى ليرجعن إلى ربه بعد البعث، { إن ربه كان به بصيرا }؛ أي عالما به قبل أن يخلقه بأن مرجعه ومصيره إليه. والحور في اللغة: هو الرجوع.
[84.16]
أي أقسم برب الشفق، و(لا) هاهنا زائدة. والشفق عند أكثر أهل العلم: الحمرة التي ترى بعد سقوط الشمس، وعند أبي حنيفة هو البياض. والشفق في الأصل هو الرقة، ومنه شفيق إذا كان رقيقا، ومنه الشفقة لرقة القلب، فإذا كان هكذا فالبياض منه أولى الحمرة؛ لأن البياض أرق من الحمرة، والحمرة أكثف من البياض.
[84.17-18]
قوله تعالى: { والليل وما وسق }؛ معناه: والليل وما جمع ورد إلى مأمنه ومبيته من كان منتشرا في النهار، يقال: طعام موسوق؛ أي مجموع في الغرائر، والوسق من الطعام: ستون صاعا، قال عكرمة: ((معناه: والليل وما جمع فيه من دوابه وعقاربه وحياته وظلمته)). قوله تعالى: { والقمر إذا اتسق }؛ أي إذا اجتمع ضوءه، وتكامل واستدار في الليالي البيض، يقال: اتسقت الأمور إذا تكاملت واستوت.
[84.19]
جواب القسم، وهو خطاب لكل الناس اذا قرئت بضم الباء على الجمع، والمعنى: أيها الناس لتركبن يوم القيامة حالا بعد حال، وشدة بعد شدة، تقول العرب: وقع في بنات طبق، تريد الدواهي العظام.
ويقال: أراد بالآية تغير الأحوال من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن العلقة الى المضغة، ومن المضغة إلى الصغر، ومن الصغر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكهولة، ومن الكهولة إلى الكبر، ومن الكبر إلى الموت، ومن الموت إلى البعث، ومن البعث إلى الحساب، ومن الحساب إلى الصراط، ومن الصراط إلى موضع الجزاء، إما إلى الجنة أو إلى النار.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لتركبن) بفتح الباء، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس قال: ((يعني: يا محمد لتركبن طبقا عن طبق؛ أي سماء بعد سماء، ودرجة بعد درجة، ورتبة بعد رتبة)).
[84.20-22]
قوله تعالى: { فما لهم لا يؤمنون }؛ أي ما لهؤلاء المشركين لا يؤمنون بهذا القرآن، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله بعد ظهور الحجج والأدلة، { وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون }؛ أي يصلون لله، ولا يخضعون { بل الذين كفروا يكذبون } ، وهذا بيان وجوب سجدة التلاوة؛ لأنه ذمهم على تركها عند السماع. وظاهر الآية يقتضي وجوب السجدة عند سماع سائر القرآن، خصصنا ما عدا مواضع السجود بالإجماع، فاستعملنا في مواضع السجود، إذ لو لم يفعل ذلك لألغينا حكم الآية رأسا.
[84.23]
أي بما يضمرون في قلوبهم، والإيعاء: جعل الشيء في الوعاء، والقلوب أوعية لما يحصل فيها من معرفة أو جهالة أو عزيمة أو خير أو شر.
[84.24-25]
قوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم }؛ أي أخبرهم بعذاب وجيع، مكان البشارة للمؤمنين بالنعيم المقيم، { لا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت لهم أجر غير ممنون }؛ أي لكن المؤمنين المطيعين لهم ثواب لا يكدر عليهم بالمن، ويقال: { غير ممنون } أي لا ينقص على مر الدهور، ويقال: غير مقطوع ولا منقوص.
[85 - سورة البروج]
[85.1]
أي ذات النجوم. وقيل: ذات القصور على ما روي
" إن في السماء قصورا يسكنها خلق من خلق الله "
والأظهر: أن البروج ها هنا منازل الكواكب السبعة، سميت بروجا لارتفاعها وسعتها، وهي اثنا عشر من الحمل إلى الحوت، تسير الشمس في كل برج ثلاثين يوما وبعض يوم، ويسير القمر في كل برج يومين وثلث يوم، فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر في ليلتين.
[85.2-3]
قوله تعالى: { واليوم الموعود }؛ هو يوم القيامة، وعد أهل السماوات والأرض أن يصيروا إلى ذلك اليوم لفصل القضاء. قوله تعالى: { وشاهد ومشهود }؛ قيل: إن الشاهد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:
وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
[النساء: 41]، والمشهود يوم القيامة كما قال تعالى:
وذلك يوم مشهود
[هود: 103].
وقيل: الشاهد جميع الأنبياء كما قال تعالى:
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا
[النحل: 84] والمشهود جميع الأمم. ويقال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة كما قال صلى الله عليه وسلم:
" خير الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة "
ويقال: الشاهد يوم النحر، والمشهود يوم الجمعة.
[85.4]
هذا جواب القسم، تقديره: لقد قتل أصحاب الأخدود، والمعنى: قتلتهم النار. والأخدود: شق يشق في الأرض، جمعها أخاديد. ويجوز أن يكون معنى (قتل): لعن على الدعاء عليهم.
وقصة ذلك ما روي: أن رجلا من النصارى كان أجر نفسه من يهودي ليعمل له عملا، فرأت ابنة المستأجر النور في البيت لقراءة الأجير الإنجيل، فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه، فسأله عن ذلك فلم يجبه، فلم يزل به حتى أخبره أنه على دين عيسى، وكان ذلك قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا من بين رجل وامرأة.
فأخبر ملك اليهود واسمه يوسف بن ذي نؤاس الحميري، فخد لهم في الأرض وأوقد فيه النار، وطرح فيه النفط والقصب والقطران، وعرضهم على اليهودية، فمن أبى منهم أن يتهود دفعه في النار، ومن رجع عن دين عيسى تركه. وكان في آخرهم امرأة معها صبي رضيع، فلما رأت النار صدت، فقال لها الصبي: يا أماه قفي فما هي إلا غميضة، فصبرت فألقيت في النار، وارتفعت النار أربعين ذراعا، فأحرقت اليهود الذين كانوا حول الأخدود.
قال ابن عباس: (كانوا يطرحونهم في النار، فمن أبى منهم ضربوه بالسياط حتى ألقوهم جميعا في النار، فأدخل الله أرواحهم الجنة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار).
وعن وهب بن منبه، (أن رجلا كان على دين عيسى، فوقع في نجران فدعاهم فأجابوه، فسار إليه ذو نؤاس اليهودي بجنوده من حمير، وخيرهم بين النار واليهودية، فخد لهم الأخاديد وحرق اثنى عشر ألفا). وقال الكلبي: (كان أصحاب الأخدود سبعين ألفا).
وروي: أن اليهود لما ألقوا من كان على دين عيسى، كان معهم امرأة معها ثلاثة أولاد أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار. فأبت. فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي عن دينك، فأبت.
فأخذ ابنها الثاني فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي عن دينك، وأخذ الطفل منها ليلقيه في النار، فهمت بالرجوع عن دينها، فقال لها الطفل: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام واصبري فإنك على الحق، فألقي الطفل وأمه في النار، فذلك قوله تعالى: { قتل أصحاب الأخدود } الأخدود: هي الحفر المشقوقة في الأرض مستطيلة وجمعها أخاديد، يقال: خددت في الأرض؛ أي شققت فيها حفرة طويلة، وعن عطية قال: (خرجت عنق من النار فأحرقت الكفار عن آخرهم).
[85.5-7]
قوله تعالى: { النار ذات الوقود }؛ أي ذات الحطب والنفط. قيل: أراد بالوقود أبدان الناس، وقوله تعالى: { إذ هم عليها قعود }؛ جمع قاعد مثل شاهد وشهود، وكان الكفار قعودا على شفير الأخدود على الكراسي. قوله تعالى: { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود }؛ أي وهم على ما يفعله الجلاوزة الذين كانوا يلقون المؤمنين في النار شهود؛ أي حضور يرون ذلك منهم.
[85.8-9]
قوله تعالى: { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد }؛ فيه بيان ما لأجله قصدوا إحراق المؤمنين، ومعناه: وما طعنوا وما أنكروا عليهم شيئا إلا إيمانهم بالله المنيع بالنقمة ممن عصاه، المستحق للحمد على كل حال، والمعنى: ما علموا منهم عيبا وما وجدوا لهم جرما ولا رأوا منهم سوءا إلا من أجل أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، { الذي له ملك السماوات والأرض }؛ الذي له القدرة على أهل السماوات والأرض، { والله على كل شيء شهيد }؛ أي عالم بجزاء كل عامل بما عمل.
[85.10-11]
قوله تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات }؛ أي إن الذين أحرقوا وعذبوا المؤمنين، { ثم لم يتوبوا }؛ من ذلك، { فلهم عذاب جهنم }؛ في الآخرة، { ولهم عذاب الحريق }؛ الذي أصابهم في الدنيا، يقال: فتنت الشيء إذا أحرقته، ومنه قوله تعالى:
يوم هم على النار يفتنون
[الذاريات: 13]. وقيل: أراد بالفتنة الامتحان، وهو قولهم للمؤمنين: إن رجعتم عن الإيمان وإلا قذفناكم في النار، وهذا هو الإكراه، وهو من أعظم الفتن في باب الدين.
وفي الآية تنبيه على أن هؤلاء الكفار لو تابوا بعد الكفر والقتل لقبلت توبتهم، وفيه دليل أيضا على أن الأولى بالمكره على الكفر أن يصبر على ما خوف به، وإن أظهر كلمة الكفر كالرخصة له في ذلك، ولو صبر حتى قتل كان أعظم لأجره، لأنه تعالى أثنى على الذين قتلوا في الأخدود، وبين أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، قال الله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير }.
[85.12]
ابتداء كلام من الله، ويقال إنه جواب القسم المذكور في أول السورة، ويقال: جواب القسم محذوف؛ تقديره: والسماء ذات البروج لتبعثن يوم القيامة ولتجزون على أعمالكم. والبطش في اللغة: هو الأخذ بالعنف على سبيل القدرة والقوة، وفيه تخويف لكل من أقام على الكفر.
[85.13-16]
قوله تعالى: { إنه هو يبدىء ويعيد }؛ أي يخلق الخلق أولا من النطفة ويعيدهم بعد الموت خلقا جديدا، { وهو الغفور الودود }؛ أي هو كثير التجاوز والستر على عباده، كثير المحبة للمؤمنين بإحسانه عليهم. وقوله تعالى: { ذو العرش المجيد }؛ أي ذو التشريف. والمجيد في اللغة: هو العظيم الكريم لما يكون فيه من الخير، قرأ حمزة والكسائي وخلف (المجيد) بالخفض نعتا للعرش، وقرأ غيرهم بالرفع. قوله تعالى: { فعال لما يريد }؛ أي يفعل ما يشاء لا يدفعه دافع، ولا يمنعه مانع.
[85.17-18]
قوله تعالى: { هل أتاك حديث الجنود }؛ أي هل بلغك - يا محمد - حديث الجموع من الكفار كيف فعلوا؟ وكيف فعل الله بهم؟ وهذا استفهام بمعنى التقرير. ثم بين أولئك الجنود فقال تعالى: { فرعون وثمود }؛ وإنما خص فرعون وثمود بالذكر وهم بعض الجنود؛ لاختصاصهم بكثرة العدد والعدد.
[85.19]
قوله تعالى: { بل الذين كفروا في تكذيب }؛ معناه: بل هؤلاء المشركون في تكذيب بك وبما أنزل إليك عن ما أوجب الاعتبار بفرعون وثمود، كأنه تعالى يقول: قد ذكرنا أمثال من قبلكم من المكذبين وما حل بهم من النقمة؛ ليعتبروا ويرتدعوا، فلم يفعلوا بل هم في تكذيب.
[85.20-22]
قوله تعالى: { والله من ورآئهم محيط }؛ أي وعلم الله محيط بهم، وقدرته مشتملة عليهم، { بل }؛ هذا الذي أتى به محمد، { هو قرآن مجيد }؛ أي شريف كريم ليس كما يزعمون أنه سحر وشعر وكهانة أو أساطير الأولين، ولكنه؛ { في لوح محفوظ }؛ عند الله وهو أم الكتاب.
قرأ نافع (محفوظ) بضم الظاء، نعت القرآن، وقرأ الباقون بالخفض على نعت اللوح، فمن جعل قوله تعالى (محفوظ) للقرآن فمعناه محفوظ من الزيادة والنقصان والتبديل والتغير؛ لأنه معجز لا يقدر أحد أن يزيد فيه، وعن ابن عباس أنه قال: ((إن في صدر اللوح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ودينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدق وعبده واتبع رسوله، أدخله الجنة)).
قال: ((واللوح من درة بيضاء، طولها ما بين السماء والأرض، وعرضها ما بين المشرق والمغرب، حافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكلامه نور معقود بالعرش، وأصله في حجر ملك محفوظ من الشياطين))، وبالله التوفيق.
[86 - سورة الطارق]
[86.1]
أول السورة قسم، وجوابه
إن كل نفس لما عليها حافظ
[الطارق:4]. والطارق كل ما يأتي ليلا، يعني بذلك النجم يظهر ليلا ويخفى نهارا، وكلما جاء ليلا فهو طارق، ومنه حديث جابر:
" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا، وقال: حتى تستحد المعيبة وتمتشط الشعثة "
وقالت هند:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
تريد: إن النجم أتانا يوم أحد في شرفه وعلوه. وقال ابن الرومي:
يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوله
فرب آخر ليل أجج النارا
[86.2-3]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما الطارق }؛ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم من شأنه. قوله تعالى: { النجم الثاقب }؛ تفسير للطارق، والثاقب: وهو النير المضيء من النجوم كلها، وعن ابن عباس: (ثقوبه توقده بناره كأنه ثقب مكانا فظهر). ويقال: ثقب النار فتثقبت اذا أضأتها فأضاءت، أثقب نارك، أي أضئها، ويقال معناه: الثاقب العالي الشديد العلو، وعن علي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: (زحل يطرق من السماء السابعة بالليل إلى السماء الدنيا، ويختفي عند الصبح). وقال مجاهد: ((الثاقب: المتوهج)). وقال عطاء: ((الثاقب هو الذي ترمى به الشياطين فتحرقهم)).
[86.4]
(ما) هنا صلة كما قال تعالى:
فبما رحمة من الله
[آل عمران: 159] أي فبرحمة من الله، والمعنى: إن كل نفس لعليها حافظ من الملائكة يحفظها ويحفظ عليها عملها وأجلها، حتى إذا انتهى إلى المقادير كف عن الحفظ.
وقرأ الحسن وابن عامر وعاصم وحمزة بالتشديد، يعنون ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة هذيل، يقولون نشدتك الله لما قلت، يعنون إلا قلت، قال ابن عباس: ((هم الحفظة من الملائكة)). قال الكلبي: ((معناه حافظ من الله يحفظ قولها وفعلها)).
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه، من ذلك البصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب الرجل الذباب عن قصعة العسل، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ".
[86.5-7]
قوله تعالى: { فلينظر الإنسان مم خلق }؛ أي من أي شيء خلقه الله في رحم أمه، ثم بين ذلك فقال: { خلق من مآء دافق }؛ أي مدفوق مصبوب مهراق في رحم المرأة، يقال: سر كاتم؛ أي مكتوم. وقوله تعالى: { يخرج من بين الصلب والترآئب }؛ يعني ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الولد مخلوق منهما، فماء الرجل من صلبه، وماء المرأة من ترائبها.
والترائب: جمع التريبة وهو موضع القلادة من الصدر، وهي أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، وسئل عكرمة عن الترائب فقال: ((هذه، ووضع يده على صدره بين ثدييه)).
[86.8-9]
قوله تعالى: { إنه على رجعه لقادر }؛ أي إنه على إحياء الإنسان بعد الموت والبلى لقادر، وعن مجاهد أن معناه ((إنه على رد ذلك الماء إلى الإحليل كما كان لقادر)) كأنه يقول: إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة، ومن النطفة إلى الإحليل، ومن الإحليل إلى الصلب قادر، فكيف لا يقدر على إحيائه بعد الموت.
ثم أخبر متى يكون البعث، فقال تعالى: { يوم تبلى السرآئر }؛ أي استعدوا ليوم تظهر فيه سرائر الضمائر التي لم يطلع عليها أحد من البشر، وقيل: أراد بالسرائر الأعمال التي أسرها العباد فلم يظهروها، يظهرها الله تعالى يوم القيامة.
[86.10]
أي فما للإنسان يومئذ من قوة يدفع بها عذاب الله عن نفسه، ولا ناصر ينصره ويعينه.
[86.11-14]
أقسم الله بالسماء الراجعة في كل عام بالمطر بعد المطر على قدر الحاجة، حاجة العباد إليه، وبالأرض الصادعة عن النبات الذي هو قوت الخلائق، إن القرآن حق يفصل به بين الحق والباطل، وليس هو باللعب.
والمعنى: { والسمآء ذات الرجع } بالغيب وأرزاق العباد كل عام، لولا ذلك لهلكوا أو هلكت مواشيهم ، { والأرض ذات الصدع }؛ أي تتصدع عن النبات والأشجار والأنهار، نظيره
ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا
[عبس: 26-27] إلى آخره. قوله: { إنه لقول فصل }؛ أي إن القرآن حق وجد يفصل بين الحق والباطل، { وما هو بالهزل }؛ أي وما هو باللعب والباطل.
[86.15-17]
قوله تعالى: { إنهم يكيدون كيدا * وأكيد كيدا }؛ يعني كفار مكة يريدون الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر، وذلك أنهم تواطئوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله نبيه أنه يجازيهم جزاء كيدهم، فذلك معنى قوله تعالى { وأكيد كيدا }. قوله تعالى: { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا }؛ أي أجلهم وأنظرهم، ولا تعجل في طلب هلاكهم، فإن الذي وعدتك فيهم غير بعيد منهم.
قوله تعالى: { أمهلهم رويدا } أي أجلهم أجلا قليلا، فقتلهم الله تعالى يوم بدر، و { رويدا } كلام مبني على التصغير، ويقال: أرودية، وقد يوضع (رويد) موضع الأمر، يقال: رويد زيدا؛ أي أرود زيدا أو أصله من رادت الريح ترود رودانا؛ إذا تحركت حركة خفيفة، ويجوز أن يكون (رويدا) منصوب على المصدر، كأنه قال: أرودهم رويدا. وبالله التوفيق.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1]
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ والأمة داخلون معه في هذا الخطاب، والمعنى: صل لربك ونزهه عن كل ما لا يليق به من الصفات، وقل: سبحان ربي الأعلى. وقد يذكر الاسم ويراد به تعظيم المسمى، كما قال الشاعر:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقال قوم: معناه: نزه ربك الأعلى عما يقول فيه الملحدون ويصفه به المشركون، وجعلوا الاسم صفة. ويجوز أن يكون معناه: نزه الله عن إجرائه على غيره، وكان علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم إذا قرأ أحدهم بهذه السورة قال: ((سبحان ربي الأعلى))، والأعلى من صفات الله بمعنى العلي مثل الأكبر بمعنى الكبير، وليس هذا من علو المكان وإنما معناه القاهر القادر، فلا شيء أقدر منه.
[87.2-3]
قوله تعالى: { الذي خلق فسوى }؛ أي خلق الإنسان وكل ذي روح، فسوى خلقه باليدين والرجلين والعينين والأذنين وسائر الأعضاء ، وعدل الخلق. وقوله تعالى: { والذي قدر فهدى }؛ أي قدر الذي خلقه حسنا وذميما، وقدر عليه السعادة والشقاوة، فهدى كل مكلف من الضلال إلى الهدى، ومن الباطل إلى الصواب، ومن الغي إلى الرشاد. وقيل: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر، وبصره السبيل إما شاكرا، وإما كفورا.
وقيل: ألهم كل حيوان ما يحتاج إليه في أمر معيشته، وعرفه كيف يأتي الذكر الأنثى، وجعل الهداية في قلب الطفل حتى طلب ثدي أمه، وميزه من غيره، وهدى الفرخ لطلب الرزق، وهدى الأنعام لمراتعها. وقيل: معنى قوله { والذي قدر فهدى } أي قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، أو أقل أو أكثر، فهدى للخروج من الرحم. وقيل: قدر الأرزاق وهداهم لطلبها. وقيل: الذنوب على عباده وهداهم للتوبة. وقيل: قدر الخلق على صورهم، وعلى ما جرى لهم من الأرزاق، فهداهم إلى معرفة توحيده. قرأ الكسائي والسلمي (قدر فهدى) مخففا.
[87.4-5]
قوله تعالى: { والذي أخرج المرعى }؛ أي أنبت الكلأ الأخضر بالمطر للبهائم، ثم، { فجعله غثآء أحوى }؛ معناه: فجعل النبت بعد الخضرة هشيما يابسا باليا كالغثاء الذي يقذفه السيل على جنبات الوادي، وقوله تعالى: { أحوى } أي أسود، وقد يدخل النبت الأحوى لحاجة البهائم إليه، وقد يكون حطبا للناس، وهذا كله إخبار عن قدرة الله تعالى وإنعامه على العباد.
[87.6-7]
قوله تعالى: { سنقرئك فلا تنسى }؛ أي سيقرؤك جبريل القرآن بأمرنا فلا تنساه، فلم ينس النبي صلى الله عليه وسلم حرفا من القرآن بعد نزول هذه الآية. قوله تعالى: { إلا ما شآء الله }؛ أي إلا ما شاء الله أن تنساه، وهو ما نسخت تلاوته، فنأمرك ألا تقرأه حتى تنساه على وجه الأيام، وهذا نسيان النسخ دون التضييع.
وقيل: إلا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد ذلك. وقيل: إنما ذكر الاستثناء لتحسين النظم على عادة العرب، تذكر الاستثناء عقيب الكلام وهو كقوله تعالى
خلدين فيهآ إلا ما شآء الله
[الأنعام: 128] ربك، معلوم أن الله تعالى لم يشأ إخراج أهل الجنة من الجنة ولا إخراج أهل النار من النار، ولكن المراد به ما ذكرناه.
وقوله تعالى: { إنه يعلم الجهر وما يخفى } أي يعلم ما يقرؤه العباد من القرآن، وما يذكرونه من الذكر في سر أو جهر. وقيل: يعلم العلانية من القول والعمل، ويعلم السر وما يحدث الإنسان نفسه بعده، ويعلم إعلان الصدقة وإخفاءها.
[87.8-9]
قوله تعالى: { ونيسرك لليسرى }؛ أي نيسرك لعمل الجنة، ونوفقك للشريعة السهلة وهي الحنيفية السمحة، { فذكر إن نفعت الذكرى }؛ أي عظ بالله إن نفعت المواعظ، وليس على وجه الشرط، فإن الموعظة تنفع لا محالة.
[87.10-11]
قوله تعالى: { سيذكر من يخشى }؛ أي سيتعظ بالقرآن من يخشى عذاب الله، { ويتجنبها الأشقى }؛ أي يتجنب التذكر والعظة ويتباعد عنها الأشقى في علم الله فلا يتذكر ثوابا.
وروي أن المراد بقوله { سيذكر من يخشى }: عبدالله بن أم مكتوم، ويدخل فيه كل مؤمن، والمراد بالأشقى الذي يتجنب الموعظة الوليد بن المغيرة، ويدخل فيه كل كافر.
[87.12-13]
قوله تعالى: { الذى يصلى النار الكبرى }؛ وهي السفلى من أطباق النار، وقيل: سميت نار جهنم النار الكبرى؛ لأنها أعظم من هذه النار، كما روي في التفسير: أن نار الدنيا جزء من سبعين جزء من نار جهنم، ولقد غمست في البحر مرتين حتى لانت، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد. وروي: أن نار الدنيا تستجير أن يردها الله إلى نار جهنم. قوله تعالى: { ثم لا يموت فيها ولا يحيا }؛ أي لا يموت موتا فيستريح من عذابها، ولا يحيا حياة يجد فيها روح الحياة.
[87.14-15]
قوله تعالى: { قد أفلح من تزكى }؛ أي صار إلى البقاء الدائم والنعيم المقيم من تزكى بالإسلام والتوبة من الذنوب، والمعنى: قد أفلح من تطهر من الشرك وقال: لا إله إلا الله، وكان عمله زاكيا صالحا، وأدى زكاة ماله، { وذكر اسم ربه فصلى }؛ أي وافتتح الصلاة بذكر اسم الله، وصلى الصلوات المفروضات، وكان ابن مسعود يقول: ((رحم الله امرءا تصدق ثم صلى، ثم يقرأ هذه الآية)).
وقيل: معناه: قد أفلح من أدى زكاة الفطر ثم صلى صلاة العيد، ويستدل بهذه الآية على جواز افتتاح الصلاة بغير التكبير؛ لأنه تعالى ذكر الصلاة عقيب اسمه، إذ الفاء للتعقيب من غير تراخ، فلا فصل في الآية بين التكبير وبين سائر الأركان.
[87.16-17]
قوله تعالى: { بل تؤثرون الحياة الدنيا }؛ قرأ العامة بالتاء، كذلك قراءة ابن كعب: (بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا)، والخطاب للكفار؛ كأنه قال: بل أنتم أيها الكفار تختارون الدنيا على الآخرة، وقرأ أبو عمرو (يؤثرون) بالياء يعني الأشقياء. قوله تعالى: { والآخرة خير وأبقى }؛ أي ثواب الآخرة خير من الدنيا وما فيها وأدوم. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ما الدنيا في الآخرة " إلا " كرجل أدخل إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع ".
[87.18]
أراد به قوله تعالى
قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى
[الأعلى: 14-15] كما هو في القرآن، ويقال: مذكور في الصحف الأولى: أن الناس يؤثرون الحياة الدنيا، وأن الآخرة خير وأبقى، أراد به السورة كلها.
[87.19]
قال قتادة: ((تتابعت كتب الله تعالى أن الآخرة خير وأبقى)). ويقال: إن في صحف إبراهيم: ((ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه)).
وقال أبو ذر:
" قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ فقال: " مائة ألف نبي، وأربعة وعشرون ألف نبي " قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: " ثلاثمائة وثلاثة عشر ".
قلت: أكان آدم نبيا؟ قال: " نعم كلمة الله، وخلقه الله بيده. يا أبا ذر أربعة من الأنبياء من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك " قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: " مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحائف، وعلى شيت خمسون صحيفة، وعلى آخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وهو أول من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان " ".
[88 - سورة الغاشية]
[88.1]
أي قد أتاك حديث الغاشية، يعني القيامة تغشى كل شيء بالأهوال؛ لأنها داهية تغشى جميع الناس، وقال سعيد بن جبير: ((أراد بالغاشية نار جهنم تعم أهلها من جميع الجوانب، وتغشى وجوههم النار)).
[88.2-3]
قوله تعالى: { وجوه يومئذ خاشعة }؛ أي وجوه يوم القيامة خاشعة ذليلة، وهي وجوه الكفرة والمنافقين في الآخرة، { عاملة }؛ أي تجر في النار على وجوهها، { ناصبة }؛ أي في تعب وعناء ومشقة وبلاء من مقاسات العذاب، قال الحسن: ((لم تخشع لله في الدنيا ولم تعمل له، فأخشعها في الآخرة وأعملها وأنصبها بمعالجة الأغلال والسلاسل)). وقال قتادة: ((تكبرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار)). وقال الضحاك: ((يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار)).
والنصب: الدأب في العمل، وقال عكرمة والسدي: ((عاملة في الدنيا بمعاصي الله، ناصبة في النار يوم القيامة)). وقال سعيد بن جبير: ((هم الرهبان أصحاب الصوامع الذين يتعبون وينصبون في العبادة، ثم لا يخلصون في الآخرة من ذلك على شيء لوقوع ذلك على غير موافقة العلم)). ويقال: هم الخوارج. ويقال: المراد به كل من عمل عملا، وخلط بعمله ما يبطله من ربا أو شرك أو عجب.
[88.4-5]
قوله تعالى: { تصلى نارا حامية }؛ أي تلزم نارا قد انتهى حرها، قال ابن مسعود: ((يخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل)).
قرأ العامة (تصلى) بفتح التاء، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمها اعتبارا بقوله: { تسقى من عين آنية }؛ أي من عين متناهية في الحر، قال الحسن: ((قد انتهى طبخها منذ خلق الله السماوات والأرض إلى تلك الساعة)).
[88.6-7]
قوله تعالى: { ليس لهم طعام إلا من ضريع }؛ قال مجاهد وعكرمة وقتادة: ((وهو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، تسميه قريش الشبرق حين يكون رطبا، فإذا يبس فهو الضريع)) يصير عند اليبس كأظفار الهرة سما، لا تقربه دابة وإنما تأكله الإبل في الربيع من فوقه. وقال ابن زيد: ((أما في الدنيا فإن الضريع الشوك اليابس، وأما في الآخرة فهو شوك في النار)).
وقال الكلبي: ((الضريع لا تقربه دابة، إذا يبس لا يرعاه شيء)). وقال عطاء: ((هو شيء يطرحه البحر المالح تسميه أهل اليمن الضريع)). وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرا من النار، سماه الله ضريعا ".
وقيل: إن الله يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل ما بهم من العذاب، فيستغيثون من الجوع فيغاثون بالضريع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يسلكون الغصص في الدنيا بالماء، فيسقون فيعطشون ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا شربة هنية ولا مرية، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وسودها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله تعالى:
وسقوا مآء حميما فقطع أمعآءهم
[محمد: 15].
فلما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله قوله تعالى: { لا يسمن ولا يغني من جوع }؛ وكذبوا، فإن الإبل لا ترعاه إلا ما دام رطبا، وأما إذا يبس فلا تقربه دابة، ورطبه يسمى شبرقا لا ضريعا، والمعنى: لا يسمن من أكله ولا يسد جوعة.
[88.8-10]
قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية }؛ هذه صفة وجوه أهل الجنة يقول: وجوههم يومئذ نضرة حسنة جميلة، آثار النعمة عليها ظاهرة، وهي لعملها راضية بما أداها إليه من الثواب والكرامة، { في جنة عالية }؛ أي مرتفعة في القدر والشرف.
[88.11]
أي لا يسمع أصحاب تلك الوجوه كلمة ذات لفق ولا حلفا كاذبا ولا كلاما باطلا، وذلك لأن سماع ما لا فائدة فيه يثقل على العقلاء، ولا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم المقيم.
[88.12]
أي فيها لكل إنسان في قصره عين جارية من كل شراب يشتهيه، يجري إلى حيث يشاء على حسب إرادته ومحبته.
[88.13]
في الهواء رفيعة القدر بعضها فوق بعض، من الذهب والفضة وغير ذلك من الجواهر العظيمة، عليها من الفرش والحجال. قال صلى الله عليه وسلم:
" لو ألقي من أعلاها فراش لهوى إلى قرارها مائة خريف "
والحكمة في ذلك الارتفاع أن يرى المؤمن بجلوسه عليها جميع ما خوله الله من الملك والنعمة.
[88.14-15]
قوله تعالى: { وأكواب موضوعة }؛ الأكواب: جمع كوب، وهو الكوز الذي لا عرى له ولا خراطيم، موضوعة على حافة العين الجارية معدة لأشربتهم وهو من اللؤلؤ الرطب على ما ورد في الحديث. وقوله تعالى: { ونمارق مصفوفة }؛ هي جمع نمرقة، وهي الوسادة المنسوجة من قضبان الذهب المكللة بالدر والياقوت، قد صف بعضها إلى بعض للراحة ورفع المنزل، قال الشاعر:
كهول وشبان حسان وجوههم
على سرر مصفوفة ونمارق
[88.16]
الزرابي هي الطنافس العجيبة، واحدتها زريبة، وهي البسط العريضة، والمبثوثة الكثيرة المبسوطة المفرقة في المجالس.
[88.17]
فيه تنبيه على قدرة الله تعالى، يقول: أفلا يرون إلى الإبل مع عظمها وشدتها كيف تبرك إذا أريد ركوبها فتحمل عليها وتركب، ثم تقوم فيقودها الصغير وينخيها ويحمل عليها الحمل الثقيل وهي باركة، فتنهض بثقله دابة بحملها ((وليس ذلك في شيء من الحيوان)) إلا البعير.
وقيل: في وجه اتصال هذه الآية بما قبلها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف للمشركين سرر أهل الجنة مع علوها وارتفاعها، وأنها تنحط لصاحبها إذا أراد صعودها ثم ترتفع، استبعدوا ذلك، فذكر الله ما يزيل استبعادهم وكانوا أرباب إبل، فأراهم دلائل توحيده فيما في أيديهم.
وتكلمت الحكماء في وجه تخصيص الإبل من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل: ((لأنهم لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل " إلا " الشاذ منهم)). وقال الحسن: ((لأنها تأكل النوى، وتخرج اللبن)). وقيل: لأنها مع عظمها تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف يذهب بها كيف شاء.
وحكى الأستاذ أبو القاسم بن حبيب: أنه رأى في بعض التفاسير: أن فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت الفارة تجر الناقة وهي تتبعها حتى دخلت الجحر، فجرت الزمام فبركت، فجرته فقربت فمها من جحر الفارة، فسبحان الذي قدرها وسخرها وذللها.
وقال أبو عمر: ((الإبل هي السحاب، وهي أليق بما بعد من ذكر السماء والجبال)) إلا أن هذا غير معروف في اللغة، وإنما يقولون للسحاب: الإبل بتشديد اللام.
[88.18-20]
قوله تعالى: { وإلى السمآء كيف رفعت }؛ في الهواء فوق كل شيء لا تنالها الأيدي، بلا عماد تحتها ولا علاقة فوقها، { وإلى الجبال كيف نصبت }؛ فجعلها مرساة مثبتة لا تزلزل، وفجر في أعلاها العيون لمنافع الناس، { وإلى الأرض كيف سطحت }؛ أي بسطت على وجه الماء. فالذي فعل هذه الأشياء قادر على أن يخلق نعيم الجنة بالصفات التي ذكرها.
قال أنس بن مالك: ((صليت خلف علي بن أبي طالب ، فقرأ: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت * و... نصبت * و... سطحت) برفع التاء))، وقرأ الحسن بالتشديد.
[88.21-22]
قوله تعالى: { فذكر إنمآ أنت مذكر }؛ أي عظهم يا محمد بالقرآن، إنما أنت واعظ مبلغ { لست عليهم بمصيطر }؛ أي بمسلط تجبرهم على الإيمان، وتمنعهم عن الكفر، وهذا كان من قبل آية القتل فنسخ بها، وتسيطر الرجل إذا تسلط.
[88.23-24]
أي لكن من أعرض عن الإيمان وثبت على كفره فكله إلى الله تعالى لست له بمذكر؛ لأنه لا يقبل منك، وسيعذبه الله في الآخرة بأعظم النيران، وإنما قال ذلك لأن من المعذبين من هو أشد عذابا من غيره.
[88.25-26]
قوله تعالى: { إن إلينآ إيابهم }؛ أي طب نفسا يا محمد وإن عاندوا وجحدوا، فإن إلينا مرجعهم؛ أي إلينا مرجعهم وجزاؤهم، والإياب: الرجوع والمعاد، { ثم إن علينا حسابهم }؛ وإخراج ما لهم وعليهم حتى يظهر مقدار ما يستحقون من العذاب.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-2]
أقسم الله برب الفجر، والفجر: هو الصبح الذي يطلع في آخر الليل، وهو دلالة على نعم الله تعالى وعلى توحيده، وفي ذكره حث على الشكر، وترغيب في إقامة صلاة الفجر. وقوله تعالى: { وليال عشر } هن عشر ذي الحجة، شرفها الله تعالى، لتسارع الناس فيها إلى الخيرات والطاعات. وعن ابن عباس: ((يعني العشر الأواخر من شهر رمضان)). وقيل: العشر الأول من المحرم.
[89.3]
الشفع: هو يوم النحر، يشفع بما قبله من الأيام من الشهر. والوتر: يوم عرفة أوتر بما قبله من أيام الشهر. وعن الحسن وقتادة: ((أن هذا قسم بالخلق كلهم، فإنهم شفع ووتر)). وقال مقاتل: ((الشفع آدم وحواء، والوتر هو الله تعالى)). وقال مجاهد ومسروق: ((هو الخلق كله))، قال الله تعالى:
ومن كل شيء خلقنا زوجين
[الذاريات: 49] الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة؛ والسعادة؛ والهدى والضلال؛ والليل والنهار؛ والسماء والأرض؛ والبر والبحر؛ والشمس والقمر؛ والجن والإنس. والوتر هو الله عز وجل الواحد الأحد الفرد.
وقيل: الشفع: صلاة الفجر، والوتر: صلاة المغرب. وقيل: الشفع: درجات الجنات؛ لأنها ثمان، والوتر: دركات النار؛ لأنها سبع، كأنه أقسم بالجنة والنار. وقيل : الشفع: صفات المخلوقين من العز والذل؛ والقدرة والعجز؛ والقوة والضعف؛ والعلم والجهل؛ والبصر والعمى، والوتر: انفراد صفات الله تعالى؛ عز بلا ذل؛ وقدرة بلا عجز؛ وقوة بلا ضعف؛ وعلم بلا جهل؛ وحياة بلا موت.
قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف (والوتر) بكسر الواو، واختاره أبو عبيد؛ لأنه أكثر في الكلام وأنشأ، ومنه وتر الصلاة، ولم يسمع شيء من الكلام، الوتر بالفتح، وقرأ الباقون بالفتح وهي لغة أهل الحجاز.
[89.4]
قسم برب الليل إذا يسر بمضيه وانقضائه إلى طلوع الفجر. ويقال: إنه أقسم بليلة المزدلفة اذ أسري فيها، وعلى هذا قال بعضهم: إن المراد بالفجر يوم عرفة.
ووجه حذف الياء من (يسر) أنها رأس آية، ورؤوس الآي كالفواصل من العشر. قرأ نافع وأبو عمرو بالياء في الوصل، وقرأ ابن عامر وعاصم بحذفها وصلا ووقفا، وقرأ ابن كثير ويعقوب بالياء في الحالتين.
[89.5]
لفظه لفظ استفهام بمعنى التقرير، يقول: بعد هذا الذي عقل قسم، والحجر: هو العقل، وجواب القسم
إن ربك لبالمرصاد
[الفجر: 14].
[89.6-8]
قوله تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بعاد }؛ ألم تعلم كيف صنع ربك بعاد وكيف أهلكهم، { إرم ذات العماد } ، وأما إرم فهو صفة لعاد، وهي عادان: عاد الأولى وهي إرم، وعاد الآخرة. ولم يصرف إرم؛ لأنها اسم للقبيلة، وكان إرم أبا عادين فنسبوا إلى أبيهم. وقيل: إن إرم كانت قبيلة من عاد وكان فيهم الملك، { التي لم يخلق مثلها في البلاد }.
قوله تعالى: { ذات العماد } أي القامات الطوال والقوى الشدائد، يقال رجل معمد ورجل عمدان إذا كان طويلا قويا، قال ابن عباس: ((كانت قامة الرجل منهم أربعمائة ذراع، لم يخلق مثلهم في زمانهم قوة وخلقا)). ويقال: إنه اسم مدينة ذات العماد والذهب والفضة، بناها شداد بن عاد. والقول الأول أقرب إلى ظاهر الآية؛ لأن الغرض بهذه الآية زجر الكفار، وكان الله بين بإهلاكهم مع قوتهم أنه على إهلاك هؤلاء الكفار أقدر.
وقصة مدينة إرم ذات العماد ما روى وهب بن منبه عن عبدالله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له شردت . فبينما هو في صحارى عدن، إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات، عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال.
فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله، فلم ير خارجا ولا داخلا، فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب الحصن، فلما خلف الحصن وراءه إذ هو ببابين عظيمين وخشبهما من أطيب عود، والبابان مرصعان بالياقوت الأبيض والأحمر، ففتح أحدهما فإذا هو بمدينة فيها قصور، كل قصر تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، وفوق كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت، ومصاريع تلك الغرف من أطيب عود مرصعة بالياقوت الأبيض والأحمر، والغرف مفروشة كلها باللؤلؤ والمسك والزعفران.
ثم نظر في الأزقة فإذا في كل زقاق شجر مثمر، وتحت الأشجار أنهار مطردة ماؤها في مجاري من فضة. فقال الرجل: هذه هي الجنة التي وصفها الله تعالى في كتابه، فحمل معه من لؤلؤها ومسكها وزعفرانها؛ ورجع إلى اليمن وأعلم الناس بأمره.
فبلغ معاوية فأحضره وسأل كعب الأحبار: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم، قال أخبرني من بناها؟ قال: بناها شداد بن عاد، واسم المدينة إرم ذات العماد، وهي التي لم يخلق مثلها في البلاد. قال معاوية: فحدثني بحديثها.
قال: يا معاوية إن رجلا من عاد الأولى كان له إبنان: شداد وشديد، كان قد قهر البلاد وأخذها عنوة، وليس هو من قوم هود، وإنما عاد هو من ذريته، فأقام شداد وشديد ما شاء الله أن يقيما، ثم مات شديد وبقي شداد، فملك وحده وتدانت له ملوك الأرض، وكان ولعا بقراءة الكتب.
فلما مر فيها بذكر الجنة، دعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى، فأمر ببناء هذه المدينة المذكورة، فأمر على صنعتها مائة أمير، مع كل أمير ألف من الأعوان، وكتب إلى كل ملك في الدنيا أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر، وكانت تحت يده مائتان وستون ملكا.
قال معاوية: كم أقام في مدة بنائها؟ قال: أقاموا ثلاثمائة سنة في بنائها وعمارتها. قال: فكم كان عمر شداد؟ قال: سبعمائة سنة، وإنما سماها الله ذات العماد؛ لأجل الأعمدة التي تحتها من الزبرجد والياقوت.
قال كعب: فلما فرغوا من بنائها أعلموا شدادا بذلك فقال لهم: انطلقوا واجعلوا فيها حصنا واجعلوا حوله ألف قصر، عند كل قصر ألف علم حتى أجعل في كل قصر وزيرا من وزرائي. فرجعوا فعملوا تلك القصور والأعلام والحصون، ثم أتوه فأخبروه بفراغ ذلك، فأمر الوزراء أن يتهيأوا بالنقلة إليها، وأمر جنده ونساءه وخدمه أن يتجهزوا، فأقاموا في جهازهم عشر سنين.
ثم سار الملك بجيش لا يحصي عددهم إلا الله، فلما صار إليها، ليسكنها وبلغ إلى أن صار بينه وبينها مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم جميعا هو وجنوده ووزراؤه صيحة عظيمة من السماء فهلكوا ولم يبق منهم أحد، ولم يدخل شداد ولا أحد من قومه تلك المدينة، ولم يقدر أحد على دخولها إلى يوم القيامة، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك ولا يبلغها أحد غيره أبدا.
قال معاوية: فهل تقدر أن تصفه يا أبا إسحاق؟ قال: نعم؛ هو رجل أحمر قصير، على حاجبه خال وعلى عنقه خال، يخرج في طلب إبل له فيقع على تلك المدينة، فيدخلها ويحمل شيئا مما فيها، وكان الرجل حينئذ مختفيا عند معاوية، فقام ليذهب، فالتفت كعب التفاتة فرآه، فقال: هو هذا يا أمير المؤمنين. فقال له معاوية: لقد فضلك الله يا كعب على غيرك من العلماء. فقال: يا أمير المؤمنين ما خلق الله شيئا في الدنيا إلا وقد فسره في التوراة لعبده موسى عليه السلام.
[89.9]
معناه: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب ذات العماد، { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد } وهم قوم صالح، كانوا يقطعون الصخر، وينحتون من الجبال بيوتا آمنين بقرب المدينة التي كانوا نازلين فيها، ومعنى قوله { بالواد } القرى. قال أهل التفسير: أول من جاب الصخر؛ أي قطع الصخور، ونحت الجبال والرخام ثمود.
[89.10]
عطفا على ثمود. واختلفوا في معنى { ذى الأوتاد } قال بعضهم: معناه: ذو الجنود والجموع. وقال بعضهم: ذو الملك الثابت، وجنوده الذين كانوا يشدون أمره، سموا أوتادا؛ لأن قوامه بهم. ويقال: معناه: أنه كان إذا غضب على أحد مده على الأرض، ووتد على رجليه ويديه ورأسه على الأرض بأربعة أوتاد حتى يموت ممدا كما فعل بأمر امرأته آسية.
[89.11-13]
قوله تعالى: { الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد }؛ الذين أفرطوا في الظلم والفساد والكفر والقتل بغير حق، { فصب عليهم ربك سوط عذاب }؛ أي صب عليهم لونا من العذاب. وقيل: وجع عذاب. وقيل: هذا على الاستعارة؛ لأن السوط عند العرب غاية العذاب، يقال ساطه يسوطه سوطا؛ إذا خلطه، والسوط مما يخلط الدم واللحم.
[89.14]
أي بحيث يرى ويسمع، وقال مقاتل: ((يجعل رصدا من الملائكة يرصد الناس على الصراط معهم الكلاليب)). وقال الضحاك: ((بمرصد لأهل الظلم والمعصية)). وقال عطاء: ((معناه: إن ربك لا يفوته أحد، وإنه لا محيص عنه، وهو عالم بهم وإليه المصير)).
[89.15-16]
قوله تعالى: { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه }؛ معناه: فأما الإنسان الذي لا يعرف نعمة عليه عند سعة الرزق وتضييقه، { فيقول ربي أكرمن }؛ فيقول عند السعة: ربي أكرمني بالمال والسعة، { وأمآ إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن }؛ ويقول عند ضيق الرزق عليه إذا كان رزقه على مقدار البلغة ربي أهانني بالفقر، وضيق المعيشة، وأذلني بذلك، ولم يشكر الله على ما أعطاه من سلامة الجوارح.
[89.17]
أي حاشا أن يكون إكرام الله لعباده مقصورا على توسعة النعم عليه، وأن تكون إهانة الله لعباده مقصورة على تضييق الرزق عليهم، بل يوسع الله تعالى النعم على من يشاء على ما تقتضيه الحكمة. قال الحسن: ((أكذبهم جميعا؛ يقول: ما بالغنى أكرمت، ولا بالفقر أهنت)).
وقوله { كلا بل لا تكرمون اليتيم } معناه: لا يعرفون حق اليتيم بالعطية والصدقة، ولا يحفظون ماله عليه، وفي هذا بيان أن إهانة الله إنما تكون بالمعصية لا بما توهم الكافر. وروي أن هذه الآيات نزلت في أمية بن خلف، كان في حجره يتيم كان لا يحسن إليه ولا يعرف حقه.
ومعنى (كلا) رد عليه؛ أي لم أبتليه بالغنى لكرامته علي، ولم أبتليه بالفقر لهوانه علي، والفقر والغنى من تقديري وقضائي، فلا أكرم من أكرمته بالغنى، ولا أهين من أهنته بالفقر، ولكني أكرم من أكرمته بطاعتي، وأهين من أهنته بمعصيتي. قيل: معناه: أهنت من أهنت من أجل أنه لم يكرم اليتيم، قال صلى الله عليه وسلم:
" أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة "
وقال:
" كافل اليتيم كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتر "
و
" من مسح على رأس يتيم تعطفا عليه، كتب الله له بكل شعرة مرت عليها يده عشر حسنات "
وقال عيسى عليه السلام: ((الفقر مشقة في الدنيا مسرة في الآخرة، والغنى مسرة في الدنيا مشقة في الآخرة)).
قرأ ابن عامر (فقدر عليه رزقه) بتشديد الدال، وهما لغتان، وكان أبو عمرو يقول: ((قدر بمعنى قتر، وقدر هو أن يعطيه ما يكفيه)).
[89.18]
أي لا يحثون الناس على الصدقة على المساكين، قال عمران بن الحصين:
" ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا وحث على الصدقة ونهى عن المسألة ".
واختلف القراء في هذه الآية، فقرأ أبو عمرو (يكرمون) وما بعده بالياء كلها، وقرأ الباقون بالتاء، وقرأ أهل الكوفة (تحاضون) بالألف وفتح التاء؛ أي يحض بعضهم على ذلك والتحاض: الحث، وروي عن الكسائي (تحاضون) بضم التاء.
[89.19]
أي تأكلون الميراث أكلا شديدا؛ أي تلمون بجميعه من قولهم: لممت ما على الخوان؛ إذا أكلته أجمع، قال الحسن: (هو أن يأكل الرجل نصيب نفسه ونصيب صاحبه من الميراث))، ويقال: أراد أكل ميراث اليتيم بغير حق؛ لأنه هو الذي سبق ذكره، ويقال: المراد أن يصرف ما ورثه من نصيب نفسه إلى الباطل.
وفائدة تخصيص الميراث التنبيه به على حكم غيره؛ لأنه إذا منع عن الأكل أحل أمواله بالباطل، ففي أكل غير ذلك أولى، ويقال معنى { أكلا لما } أي يأكل نصيبه ونصيب غيره، قال بكر بن عبدالله: ((اللم: الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وميراث غيره)).
وقال ابن زيد: ((اللم: الذي يأكل كل شيء يجده ولا يسأل عنه أحلال هو أم حرام؟ ويأكل الذي له ولغيره، وذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان)). وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من قطع ميراثا فرضه الله، قطع الله ميراثه من الجنة ".
[89.20]
أي حبا كثيرا شديدا، لا تنفقونه في سبيل الله، تحرصون عليه في الدنيا، وتعدلون عن أمر الآخرة.
[89.21]
معناه: كلا ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، فلا تفعلوا ذلك، وانزجروا عنه وارتدعوا، و { كلا } كلمة ردع وزجر، ثم أوعدهم فقال تعالى { إذا دكت الأرض } أي ستذكرون وتندمون إذا زلزلت الأرض، قصرت بعضها ببعض حتى استوت الأرض، وصارت كالصخرة الملساء، وتكسر كل شيء على ظهرها.
[89.22]
أي وجاء أمر ربك بالمجازاة والمحاسبة، والملائكة صفوف صفا بعد صف عند حساب الناس، يشاهدون ما يجري عليهم، ويقال: إن الملائكة يصفون صفا واحدا حول الجن والإنس يحيطون بهم.
[89.23]
قوله تعالى: { وجيء يومئذ بجهنم }؛ جاء في التفسير: أنها تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام، على كل زمام سبعين ألف ملك، لها تغيظ وزفير، ويكشف عنها غطاؤها حتى يراها العباد، قال الله تعالى:
وبرزت الجحيم لمن يرى
[النازعات: 36].
قوله تعالى: { يومئذ يتذكر الإنسان }؛ أي يتحسر ويندم على ما فاته لما رأى النار والعذاب، { وأنى له الذكرى }؛ أي ومن أين له في ذلك الوقت توبة تنفعه، أو عظة تنجيه.
[89.24-26]
قوله تعالى: { يقول يليتني قدمت لحياتي }؛ أي يا ليتني عملت في حياتي الفانية لحياتي الباقية، { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه أحد }؛ قراءة العامة بكسر الذال، و(يوثق) بكسر الثاء، معناه: لا يعذب كعذاب الله أحد، ولا يوثق كوثاقه أحد.
وقرأ الكسائي ويعقوب بفتح الذال والثاء، ومعناه: لا يعذب عذاب الكفار الذي لم يقدموا لحياتهم أحد، ولا يوثق مثل وثاقه أحد. قيل: إن هذا الإنسان المعذب أمية بن خلف الجمحي.
[89.27-30]
قوله تعالى: { يأيتها النفس المطمئنة }؛ المراد بها نفس المؤمن، يقول لها الملائكة عند قبضها، وإذا أعطيت كتابها بيمينها التي أيقنت بأن الله ربها، وعرفت توحيدها خالقها فاطمأنت بالإيمان وعملت للآخرة، وصدقت بثواب الله، { ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي }؛ ارجعي إلى ما أعد الله لك من نعيم الجنة، راضية عن الله بالثواب، مرضية عنده بالإيمان والعمل الصالح، فادخلي في جملة عبادي الصالحين، وادخلي جنتي التي أعدت لك.
وقال مجاهد: ((معناه: يا أيتها النفس المنيبة التي أيقنت أن الله خالقها، المطمئنة إلى ما وعد الله، المصدقة بما قال، الراضية بقضاء الله الذي قد علمت بأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها). وقيل: معناه: المطمئنة بذكر الله المتوكلة على الله، الواثقة بما ضمن لها من الرزق.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال:
" إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله ملكين معهما تحفة من الجنة، فيقال لنفسه: أيتها النفس المطمئنة، أخرجي إلى روح وريحان، ورب عنك راض. فتخرج كأطيب ريح المسك. فتشيعها الملائكة في السماء، فيقولون: قد جاء من الأرض روح طيبة، فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك إلا صلى عليها، وتقول الملائكة: ربنا هذا عبدك فلان، كان يعبدك ولا يشرك بك شيئا. فيقول الله: يا ميكائيل اذهب بهذه النفس، فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة.
ثم يأمر بأن يوسع عليه في قبره سبعين ذراعا عرضه، وسبعين ذراعا طوله، ويجعل له فيه نورا كالشمس، وكان كالعروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، فيقوم من نومه كأنه لم يشبع منه ".
وعن جعفر عن سعيد قال:
" قرأ رجل عند رسول الله { يأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية } ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أحسن هذا يا رسول الله؟ فقال: " يا أبا بكر إن الملك سيقوله لك " ".
[90 - سورة البلد]
[90.1-2]
{ لا أقسم بهذا البلد }؛ يعني مكة، أقسم الله بها إعظاما لها، وحرف (لا) زائدة. قوله تعالى: { وأنت حل بهذا البلد }؛ أي وأنت - يا محمد - حل بمكة، يعني: وأنت مقيم فيها، وقيل: أنت حلال فيها، تصنع ما تريد من القتل والأسر، يعني: وأنت حلال لك أن تتصرف فيها، وذلك أن الله تعالى أحل لنبيه عليه السلام مكة يوم الفتح حتى قاتل، وقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما.
[90.3-4]
قوله تعالى: { ووالد وما ولد }؛ فهذا قسم بآدم وذريته، وجواب القسم: { لقد خلقنا الإنسان في كبد }؛ أي في شدة من حين ينفخ فيه الروح إلى أن يصل إلى الآخرة، ليعلم أن الدنيا دار كد ومشقة، والجنة دار الراحة والنعمة. والمكابدة في اللغة: هو أن يكابد الإنسان أمر المعاش والمعاد، قال الحسن: ((تكاد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، لا تلقى ابن آدم إلا يكابد أمر الدنيا في مشقة)).
[90.5]
كناية عن الإنسان، وقد جاء في التفسير: أنه نزل في أبي الأشد بن كلدة الجمحي، كان قويا شديدا يضع الأديم العكاظي فيقف عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فيجتمع عليه عشرة أقوياء ويجرون الأديم، فكان ينقطع الأديم ولا تزول قدماه عن مكانهما.
والمعنى: يظن هذا الكافر بشدته وقوته أن لن يقدر عليه أحد؛ أي على أخذه وعقوبته أحد، وأن لن يبعث، والله قادر عليه، فيقال: إنه لما نزل ذلك حصر بطنه وانحصر بوله فكان يتمرغ في التراب ويقول: قتلني رب محمد.
[90.6-7]
قوله تعالى: { يقول أهلكت مالا لبدا }؛ يعني هذا الكافر المذكور يقول: أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمد وأصحابه فلم ينفعني ذلك. واللبد: كل ما لبد بعضه على بعض. قوله تعالى: { أيحسب أن لم يره أحد }؛ معناه: أيظن أنه لم يحص عليه ما أنفق، وأنه لا يسأل عنه من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟.
[90.8-9]
ذكر الله منته عليه فقال: ألم نجعل له عينين يبصر بهما، ولسانا يتكلم به، وشفتين يستعين بهما على الكلام.
[90.10]
أي وبينا له وعرفناه الخير والشر، ليسلك طريق الخير، ويجتنب طريق الشر، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنه قرأ { وهديناه النجدين } وقال: " أيها الناس إنهما نجدان: نجد الخير، ونجد الشر " ".
وقيل: معنى { وهديناه النجدين }: ألهمناه مص الثديين، والثديان هما النجدان، وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك، ورواية عن ابن عباس.
[90.11-12]
قوله تعالى: { فلا اقتحم العقبة }؛ معناه: فلا جاد بماله بإنفاقه في طاعة الله، وهلا دخل في عمل البر، وانفق ماله في فك الرقاب وإطعام الجياع ليجاوز العقبة، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد والضحاك والكلبي: ((يعني بالعقبة الصراط، يضرب على جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا، بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناج سالم، وناج مخدوش، ومكردس في النار منكوس.
ومن الناس من يمر عليه كالبرق، ومنهم من يمر عليه كالريح، ومنهم كالفارس، ومنهم كالرجل يعدو، ومنهم كالرجل يمشي، ومنهم من يزحف ومنهم الزالق. واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء)).
وقال قتادة: ((هذا مثل ضربه الله تعالى، يقال: إن المعتق والمطعم يقاحم نفسه وشيطانه مثل من يتكلف صعوده))، قال ابن زيد: ((معنى الآية: فهلا سلكت الطريق الذي فيها النجاة)).
ثم بين ما هي، قوله تعالى: { ومآ أدراك ما العقبة }؛ تعظيم لشأن العقبة، تقول: ما أعلمك يا محمد بأي شيء تجاوز عقبة الصراط، قال سفيان بن عيينة: ((كل شيء قال الله فيه: { ومآ أدراك } فإنه أخبر به، وما قال فيه: (وما يدريك) فإنه لم يخبره)).
[90.13]
من قرأ بضم الكاف فمعناه: اقتحامها فك رقبة من رق أو شر أو ظلم ظالم أو من سلطان جائر. والاقتحام: الدخول في الشيء على الشدة.
[90.14-16]
قوله تعالى: { أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة }؛ منك، { أو مسكينا ذا متربة }؛ لاصقا بالتراب من الجهد والفاقة، ويقال: إن المتربة شدة الحاجة إذا افتقر. ومن قرأ (فك) بالنصب (أو أطعم) فمعناه: أفلا فك الرقبة وهلا أطعم في يوم ذي مسغبة.
وعن البراء بن عازب قال:
" جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، فقال: " لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة: فك الرقبة وأعتق النسمة " قال: أوليسا سواء يا رسول الله؟! قال: " عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفكها أن تعين في ثمنها، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير " ".
[90.17]
معناه: إن أفعال القرب إنما تنفعه إذا كان مع ذلك من الذين آمنوا. وحرف (ثم) ها هنا للترادف في الإخبار، لا للترادف في المحال، كأنه قال: وكان مؤمنا قبل ذلك من الذين يتواصون بالصبر. ويجوز أن يكون معناه: فعل ذلك ثم ثبت على الإيمان إلى أن يلقى الله تعالى.
وقوله تعالى: { وتواصوا بالصبر } أي وصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصيه، { وتواصوا بالمرحمة } أي وأوصى بعضهم بعضا بالتراحم على الناس واليتامى والمساكين والضعيف والمظلوم، وفي الحديث:
" من لم يرحم الناس لم يرحمه الله ".
[90.18]
معناه: أولئك الذين اجتمعت فيهم هذه الخصال هم أصحاب اليمن والبركة، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة.
[90.19-20]
قوله تعالى: { والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة }؛ أي هم أصحاب الشؤم على أنفسهم، وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال " إلى " النار. قوله تعالى: { عليهم نار مؤصدة }؛ أي مطبقة أبوابها عليهم مسدودة، من قولك: أوصدت الباب وأوصدته إذا أطبقته، ومنه سمي الباب الوصيد.
قال صلى الله عليه وسلم:
" من قرأ سورة البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة ".
[91 - سورة الشمس]
[91.1-2]
{ والشمس وضحاها }؛ أقسم الله سبحانه بالشمس ونحوها مما ذكره من أول السورة لما فيها من دلائل وحدانية الله تعالى فقال { والشمس وضحاها } أراد بالضحى ارتفاعها، قال مجاهد: ((معناه: والشمس وضوئها)) { والقمر إذا تلاها }؛ أي إذا تبع الشمس وطلع بعد غروبها، وذلك في أول ليلة الهلال إذا سقطت الشمس ريء الهلال، وكذلك في نصف الشهر إذا غربت الشمس يتبعها القمر في الطلوع من المشرق، وأخذ موضعها وصار خلفها.
[91.3-4]
قوله تعالى: { والنهار إذا جلاها }؛ أي إذا بين الشمس، وذلك أن الشمس إنما تضيء وتتبين إذا انبسط النهار، وأما في حال طلوعها فهي تطلع لا نور لها، ثم يضحيها الله تعالى. ويجوز أن يكون معناه: إذا جلا ظلمة الليل أو جلا الدنيا، فيكون هذا كناية عن غير مذكور، وقوله: { والليل إذا يغشاها }؛ أي إذا يغشى الشمس فيذهب بنورها، وتظلم الدنيا عند غروبها.
[91.5-6]
قوله تعالى: { والسمآء وما بناها }؛ أي والسماء وما بناها؛ وهو تأليفها الذي نشاهده في سعتها، وارتفاع سمكها، وقرارها بغير عمد. و(ما) مع الفعل بتأويل المصدر، ويجوز أن يكون معناه: والسماء والذي بناها كما يقال: سبحان من سبحت له وسبحان من سبح الرعد بحمده.
والمعنى { والسمآء وما بناها } أي ومن خلقها، وهو الله تعالى كما قال تعالى
فانكحوا ما طاب لكم
[النساء: 3]
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم
[النساء: 22] وعلى هذا قوله تعالى: { والأرض وما طحاها }؛ معناه على القول الأول: والأرض وطحوها وهو بسطها على وجه الماء، وعلى القول الثاني والأرض ومن طحاها.
[91.7-8]
معناه على القول الأول: والأنفس كلها وتسويتها باليدين والرجلين والعينين والأذنين وغير ذلك من الحواس، وما ألهمها الله من طريق فجورها لتتركه، وطريق تقواها لتلزمه، فعرفت ذلك بأدلة الله، وعلى القول الثاني: ونفس ومن سواها، فبين لها ما تأتي، وما تبقي، وخذلها للفجور.
[91.9-10]
قوله تعالى: { قد أفلح من زكاها }؛ جواب القسم، يقول: قد فاز ونجا من طهر نفسه بالإيمان والطاعة فصار زاكيا طاهرا بنعيم الجنة، { وقد خاب من دساها }؛ أي وقد خسر من دس نفسه؛ أي أهملها في الكفر والمعاصي.
ويقال: معناه: قد أفلح من زكى الله نفسه؛ أي أصلحها الله وطهرها من الذنوب ووفقها للتقوى، وقد خاب وخسر من دساها، دسا الله نفسه أي شهرها وأخذلها وأحملها وأخفى محملها حتى عملت بالفجور وركبت المعاصي. وقيل: معنى (دساها) أغواها وأضلها وأثمها وأفجرها. وقال ابن عباس: ((أهلكها)).
والأصل في جواب القسم أن يقال: (لقد أفلح) باللام، وإنما حذفت؛ لأن الكلام إذا طال صار طوله عوضا من اللام.
[91.11]
أي كذبت قوم صالح الرسل بطغيانهم، والطغوى مصدر كالفتوى والدعوى، والمعنى: كذبت ثمود بطغيانها وعدوانها.
[91.12]
أي حين قام أشقاها لعقر الناقة، وصار هو السبب لهلاك الكل. قيل: إنه كان أشقاهم رجل يقال له مصدع، وهو الذي ابتدأ عقرها، وقال الكلبي: ((كانا اثنين مصدع وقدار)). والمعنى إذ انبعث أشقاها، وإنما ذكرها بلفظ التأنيث؛ لأن الهاء راجعة إلى القبيلة، وقيل: المراد بقوله { أشقاها } قدار بن سالف، وكان رجلا أشقر أزرق قصيرا ملتزق الخلق، واسم أمه قديدة.
[91.13]
أي قال لهم صالح عليه السلام: احذروا ناقة الله التي هي الآية الدالة على توحيده أن تصيبوها بمكروه فتؤخذوا بذلك، واحذروا سقياها؛ أي شربها ونوبتها؛ أي لا تزاحموها في يومها. هذا نصب كما يقال: الأسد الأسد.
[91.14]
قوله تعالى: { فكذبوه فعقروها }؛ أي فكذبوا صالحا فيما قال لهم: إنكم إن أصبتموها بسوء أخذكم عذاب يوم عظيم، فعقروها وقتلوها. قوله تعالى: { فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها }؛ أي فأطبق عليهم بالصيحة، وأرجف بهم الأرض، ودمر عليهم، يقال: دمدمت على الميت إذا أطبقت عليه القبر.
قال ابن الأنباري: ((أصل الدمدمة: الغضب)) والمعنى: غضب عليهم ربهم فسوى عليهم العقوبة، فلم ينفلت منهم صغير ولا كبير. ويجوز أن يكون معناه: فسواها؛ أي سوى الأرض عليهم حتى لم ير لهم أثر.
[91.15]
أي ولا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. وقيل: إن قوله تعالى { ولا يخاف } راجع إلى رسولهم صالح عليه السلام، كان لا يخاف عند التدمير من عاقبة أمرهم. وقيل: هو راجع إلى قوله تعالى
إذ انبعث أشقاها
[الشمس: 12] كأنه قال: قام لعقرها وهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه جهلا منه.
[92 - سورة الليل]
[92.1-3]
{ والليل إذا يغشى }؛ أقسم الله بالليل إذا يغشى الأفق، ويعم الأشياء كلها بالظلام، { والنهار إذا تجلى }؛ أي أضاء، وأنار، وذهب بظلمة الليل، { وما خلق الذكر والأنثى }؛ وأقسم بخلقه الذكر والأنثى لإبقاء النسل، وقيل: معناه: ومن خلق الذكر والأنثى.
[92.4]
أقسم الله بهذه الأشياء لما فيها من دلائل وحدانية الله على أن أعمال العباد في الدنيا مختلفة، منهم من يريد الدنيا فيجعل سعيه لها، ويعمل في هلاك رقبته، ومنهم من يريد الآخرة ويجعل سعيه لها، ويعمل في فكاك رقبته، وشتان ما بين العملين.
[92.5-7]
قوله تعالى: { فأما من أعطى واتقى }؛ بين الله اختلاف سعيهم بقوله: فأما من أعطى الحقوق من ماله، واتقى المعاصي واجتنب المحارم، { وصدق بالحسنى }؛ أي أيقن بالخلف في الدنيا، والثواب في الآخرة، وقيل: معناه: وصدق بالجنة، { فسنيسره لليسرى }؛ فسنوفقه للعود إلى الطاعة مرة بعد أخرى لتسهل عليه طريق الجنة. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ما من يوم غربت شمسه إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا "
وقال الضحاك: ((معنى قوله تعالى: { وصدق بالحسنى } ب: لا إله إلا الله)). وقيل: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه.
[92.8-10]
قوله تعالى: { وأما من بخل واستغنى }؛ أي بخل بماله، ومنع ما يلزمه من حقوق الله، واستغنى عن ربه، ولم يرغب في ثوابه، فعمل عمل من يستغني عن الله، { وكذب بالحسنى }؛ وكذب بثواب المصدقين في الجنة، وكذب بالتوحيد والنبوة، { فسنيسره للعسرى }؛ أي يخذله بمعاصيه ومصيره النار، والمراد به أبو جهل، ويدخل فيه كل من عمل مثل عمله.
[92.11]
أي ما ينفع هذا الكافر الذي بخل بماله كثرة ماله بعد موته إذا هوى وسقط في هوى النار، لم يؤد منه فريضة، ولا وصل منه رحما. وقال مجاهد: ((معنى { إذا تردى }: إذا مات))، وقال قتادة: ((إذا هوى في جهنم)).
[92.12-13]
قوله تعالى: { إن علينا للهدى }؛ أي أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة، وأن نبين الحق من الباطل، وقال الفراء: ((معناه: من سلك الهدى فعلى الله سبيله لقوله تعالى
وعلى الله قصد السبيل
[النحل: 9])) { وإن لنا للآخرة والأولى }؛ معناه: وإن لنا للآخرة، فنعطي منها ما شئنا على ما توجبه الحكمة لمن كان أهلا لذلك، وإن لنا للأولى وهي الدنيا، فنعطي منها من نشاء.
[92.14]
أي خوفتكم يا أهل مكة إن لم تؤمنوا بالقرآن نارا تتوقد وتتوهج. ولا يجوز أن يكون هذا بمعنى الماضي؟ لأنه لو كان ماضيا لقيل: تلظت.
[92.15-16]
قوله تعالى: { لا يصلاهآ إلا الأشقى }؛ أي لا يدخلها ولا يلزمها إلا الأشقى في علم الله تعالى، { الذي كذب وتولى }؛ وهو الكافر الذي كذب بتوحيد الله تعالى والقرآن، وأعرض عن الإيمان.
[92.17-21]
قوله تعالى: { وسيجنبها الأتقى }؛ أي سيباعد عنها التقي، { الذى يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى }؛ أي لم يفعل مجازاة لبر أسدي إليه ولا لمثابة الدنيا، ولكن أعطى ما أعطى لطلب ثواب الله ورضاه، ولسوف يعطيه الله في الآخرة من الثواب حتى يرضى.
قيل: إن قوله { وسيجنبها الأتقى } إلى آخر السورة نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه: ((أن أبا بكر رضي الله عنه أعتق سبعة، كلهم كانوا يعذبون في الله تعالى، وهم: بلال؛ وعامر بن فهيرة شهد بدرا وأحدا وقتل يوم بئر معونة شهيدا. وأم عميس وزنيرة، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! فقالت: كذبوا وثبتها الله، فرد الله بصرها. وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، ومر بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لترك الإسلام وهو يومئذ مشرك، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
فأما بلال فكان لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وهو بلال بن رباح، وكان اسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.
فمر به أبو بكر يوما وهم يصنعون به ذلك، فقال لأمية بن خلف: (ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟) فقال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى. فقال أبو بكر: (عندي غلام أسود أجلد منه، وأقوى على دينك أعطيكه به). قال: قد قبلت، قال: (هو لك). فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه. فقالوا: لو أبيت أن تشتريه إلا بأوقية لما منعناك. فقال أبو بكر: (ولو أبيتم إلا بمائة أوقية لأخذته).
وأما النهدية وابنتها فكانتا لامرأة من بني عبد الدار، مر بهما أبو بكر وهما يطحنان، وسيدتهما تقول: والله لا أعتقكما أبدا، فقال لها أبو بكر: (يا أم فلان خل عنهما)، فقالت: بل أنت خل عنهما، أنت أفسدتهما، فقال: (بكم هما؟) قالت: بكذا وكذا، قال: (أخذتهما بذلك وهما حرتان لله تعالى) ثم قال لهما : (قوما واربعا لها طحينها)، قالتا: ألا نفرغ من طحينها ونرده إليها؟ قال: (ذلك إليكما إن شئتما).
فقال أبو قحافة لأبي بكر: (يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك أعتقت رجالا جلادا يمنعونك ويقومون دونك؟) فقال أبو بكر: (يا أبه إني إنما أريد الله)، فنزل فيه قوله تعالى: { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى.
.. }؛ إلى قوله: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } إلى آخر السورة)).
وعن سعيد بن المسيب قال: ((بلغني أن أمية بن خلف الجمحي قال لأبي بكر حين طلب منه أن يعطيه بلالا قال له: لا أبيعه منك إلا بغلامك منطاس، وكان مشركا، فراوده أبو بكر على الإسلام فأبى، وكان لمنطاس عشرة آلاف دينارا ومواش وجوار.
فراوده أبو بكر على الإسلام، ويكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر، فلما قال له أمية ذلك باعه منه، فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } )) { إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى }؛ بثواب الله في العقبى عوضا عما فعل في الدنيا.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-3]
قال ابن عباس وقتادة:
" لما سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، قال لهم: " سأخبركم غدا " ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه وأبطأ عنه جبريل خمس عشرة ليلة لتركه الاستثناء، فقال المشركون والمنافقون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه فأنزل الله هذه السورة تكذيبا لهم، وأقسم ببياض النهار وسواد الليل أنه سبحانه لم يودعه ولم يقله ".
وفيه إضمار تقديره: ورب الضحى وهو النهار كله، وقال بعضهم: ساعة ارتفاع الشمس على ما هو المعهود من الكلام. وقوله تعالى { والليل إذا سجى } أي إذا أظلم، واشتد ظلامه حتى يستر الأشياء كلها بالظلام، ومنه قولهم: فلان يسجى بثوبه؛ أي مغطى، ومنه قولهم: سجى قبر المرأة. وقيل: معناه: إذا سكنت الأشياء فيه، ومن ذلك: بحر ساج؛ أي ساكن، ويقال: بلد ساجية إذا كان أهلها في سكون، وكذلك طريق ساج؛ أي آمن، قال الشاعر:
أنا ابن عم الليل وابن خاله
إذا سجى دخلت في سرباله
قوله تعالى: { ما ودعك ربك وما قلى } أي ما تركك منذ اختارك، ولا بغضك منذ أحبك، وهذا جواب القسم.
[93.4]
أي لثواب الآخرة مما أعده الله لك فيها من الكرامة والمقام المحمود خير لك من الدنيا التي هي مشوبة بالأحزان والزوال.
[93.5]
معناه: سيعطيك خالقك في الآخرة من الشفاعة، وثواب الطاعة حتى ترضى. ويجوز أن يكون هذا وعدا له من الله بالنصرة والتمكين وكثرة المؤمنين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((رضى محمد أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار)). وقيل: الشفاعة في جميع المؤمنين، وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عز وجل: أرضيت يا محمد؟ فأقول: رضيت ".
وعن جعفر بن محمد قال:
" دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فلما أبصرها كذلك دمعت عيناه، فقال: " يا بنتاه تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله علي { ولسوف يعطيك ربك فترضى } " "
وعن ابن عباس: قال: ((يعطيه الله في الجنة ألف قصر من اللؤلؤ ترابه المسك، في كل قصر من كل ما يشتهى على أحسن الصفات)).
[93.6]
عدد عليه نعمه الموصولة إليه من صغره إلى كبره، والمعنى: ألم يجدك يتيما عن أبيك فضمك إلى أبي طالب، ورباك في حجره، وفضلك على أولاده، وقد كان أبوه مات وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن سنتين، ومات جده وهو ابن ثماني سنين.
[93.7]
أي ضالا عن علم النبوة، وأحكام الشريعة غافلا عنها، فهداك إليها، دليله قوله تعالى:
وإن كنت من قبله لمن الغافلين
[يوسف: 3]، وقوله تعالى:
ما كنت تدري ما الكتاب
[الشورى: 52]. ولا يجوز أن يقال في معناه: إنه عليه السلام كان على دين قومه، فهداه الله؛ لأنه تعالى لا يختار للرسالة من كفر.
وقيل: معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضل في صغره عن قومه في شعاب مكة، فوجده أبو لهب فرده على جده. وقيل: معناه: وجدك ضائعا بين قوم ضوال لا يعرفون حرمتك، فهداهم الله تعالى إلى معرفة قدرك.
[93.8]
أي ووجدك فقيرا فأغناك بمال خديجة والغنائم، وذلك أنها كانت تبذل مالها للنبي صلى الله عليه وسلم. والعيلة في اللغة: الفقر، يقال: عال الرجل إذا كثر عياله وافتقر، قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه
وما يدري الغني متى يعيل
وحذف الكاف من قوله تعالى (فآوى، فأغنى، فهدى) لمشاكلة رؤوس الآي؛ ولأن المعنى معروف، قال مقاتل:
" وكل فصل من هذه الفصول قراءة جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " بلى يا رب " ثم قال: " يمن علي ربي وهو أهل المن، يمن علي ربي وهو أهل المن " ".
وعنه صلى الله عليه وسلم قال:
" سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها قط، قلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت لداود الجبال يسبحن، وأعطيت سليمان كذا وكذا.
فقال الله تعالى: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أشرح لك صدرك؟ قلت بلى يا رب، قال: ألم أرفع لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي؟ قلت بلى يا رب، قال: ألم أؤتك ما لم أوت نبيا قبلك خواتيم سورة البقرة؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم اتخذك حبيبا كما اتخذت إبراهيم خليلا؟ قلت: بلى يا رب ".
[93.9]
وهذا حث للنبي صلى الله عليه وسلم على محاسن الأخلاق ليقتدي به الناس، ويجدوا في سلوك طريقته. ومعنى قهر اليتيم: أن يقهره على ماله، وأن يظلمه بقول أو فعل. وفي قراءة ابن مسعود (فلا تكهر) بالكاف، ومعناه: الزجر والاتعاظ. وتخصيص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله. وفي الحديث:
" اتقوا ظلم من لا ناصر له غير الله ".
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من ضم يتيما فكان في مؤنته ونفقته كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة "
وقال صلى الله عليه وسلم:
" إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أعلم، فيقول: يا ملائكتي أشهدكم أن كل من أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة "
قال: ((فكان عمر إذا رأى يتيما مسح على رأسه وأعطاه شيئا)).
[93.10]
وهو الزجر بالصياح في الوجه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه بوقار ولين أو ببذل يسير أو برد جميل، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان، ينظرون كيف صنعكم فيما خولكم الله "
و
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى يباح أن يرد الفقير؟ فقال: " إذا رددته ثلاثا تلطفا فلا يذهب، فلا بأس أن تزبره " ".
وكان الحسن يقول: ((أراد بالسائل في هذه الآية سائل العلم لا ترده خائبا)). وقال يحيى بن آدم في هذه الآية قال: ((إذا جاءك طالب العلم فلا تنهره)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يمنعن أحدكم السائل أن يعطيه إذا سأل، وإن رأى في يديه قلبين من ذهب "
وعن إبراهيم بن أدهم قال: ((نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة، يجيء السائل إلى باب أحدكم فيقول: هل توجهون إلى أهليكم شيئا)).
[93.11]
أي حدث الناس بما أنعم الله عليك من النبوة والإسلام، وذلك أن من شكر النعم التحدث تعظيما للمنعم. ويقال: إن الشكر على مراتب، فالمرتبة الأولى: أن تعلم أن النعمة من الله، والثانية: أن تؤدي عليها حقوق الله، والثالثة: أن تعترف بذلك وتخبر الناس بها، والرابعة: الاستظهار بها على معصية الله.
وفي الحديث:
" إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه "
، وقال صلى الله عليه وسلم:
" من أعطي خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض الله معاديا لنعمة الله "
قال صلى الله عليه وسلم:
" من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعمة شكر ".
[94 - سورة الشرح]
[94.1-4]
{ ألم نشرح لك صدرك }؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم شق بطنه من عند صدره إلى أسفل بطنه فاستخرج منه قلبه فغسل في طشت من ذهب بماء زمزم، ثم ملئ إيمانا وحكمة وأعيد مكانه، قال: وهذا معنى شرح الصدر. ويقال: إن شرح الصدر، وترحيبه وتليينه؛ لاحتمال الأذى والصبر على المكاره، والطمأنينة بالإيمان وشرائعه. وقيل: معناه: ألم نلين لك قلبك ونوسعه بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة.
قوله تعالى: { ووضعنا عنك وزرك }؛ أي حططنا عنك ذنبك، كما قال تعالى في آية أخرى
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح: 2] وقوله تعالى: { الذي أنقض ظهرك }؛ أي أثقل ظهرك، { ورفعنا لك ذكرك }؛ أي شرفناك وعظمنا قدرك بما أوجبناه على خلقنا من التصديق بنبوتك. وقيل: معناه: قرنا ذكرك بذكرنا، فلا يذكر الله إلا وتذكر معه في كلمة الشهادة والأذان والخطبة وغير ذلك.
[94.5-6]
معناه إن مع الشدة التي أنت فيها من جهاد " هؤلاء " المشركين رجاء أن يظفرك الله عليهم حتى ينقادوا للحق طوعا وكرها، { إن مع العسر يسرا } لتأكيد الوعد وتعظيم الرخاء. وقيل: معناه: فإن مع العسر يسرا في الدنيا، إن مع العسر يسرا في الآخرة.
وقيل: إن هذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما كانوا فيه من الشدة والفقر، يقول: إن مع الشدة رخاء وسعة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال لأصحابه:
" أبشروا فقد آتاكم الله اليسر، لن يغلب عسر يسرين ".
وإنما قال ذلك؛ لأن العسر معرفة، و(يسرا) نكرة، والمعرفة إذا أعيدت كان الثاني هو الأول، والنكرة إذا أعيدت كان الثاني غير الأول، واليسر الأول هو اليسر في الدنيا يعقب العسر، واليسر الثاني هو اليسر في الآخرة بالثواب، يقول الرجل لصاحبه: إذا اكتسبت درهما فأنفق درهما، يريد بالثاني غير الأول، فإذا فقال: إذا اكتسبت درهما فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول.
وعن ابن مسعود قال: ((والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين)).
[94.7-8]
قوله تعالى: { فإذا فرغت فانصب }؛ أي إذا فرغت من أمور الدنيا فانصب لما أمرت به من الإبلاغ والعبادة. وعن الحسن أنه قال: ((فإذا فرغت من الجهاد فانصب للعبادة)) أي اتعب لها. وعن عمران بن الحصين أنه قال: ((إذا فرغت من الصلاة فاتعب للدعاء، وسله حاجتك، وارغب إليه)). وقوله { فانصب } من النصب والدؤب في العمل. وقوله تعالى: { وإلى ربك فارغب }؛ أي ارفع حوائجك إلى ربك، ولا ترفعها إلى أحد من خلقه.
[95 - سورة التين]
[95.1]
هذا قسم برب التين والزيتون، وجوابه
لقد خلقنا الإنسان
[التين: 4]. وسئل ابن عباس عن التين والزيتون فقال: ((هو تينكم هذا)).
وفي تخصيص التين من بين سائر الفواكه أنه ثمر شجرة مثل الخبيص على مقدار اللقمة، ظاهره مثل باطنه، وباطنه مثل ظاهره، لا يخالطه قشر، ولا نوى على صفة ثمار الجنة. والزيتون ثمر شجرة يعصر منها الزيت بما فيه من الطيب، وإصلاح الغداء في أكثر الأطعمة مع الاصطباح به والادهان به. وعن قتادة قال: ((التين هو دمشق، والزيتون هو بيت المقدس))، وقال القتيبي: ((هما جبلان بالشام، يقال لهما طور تينا وطور زينا؛ لأنهما ينبتانهما)).
[95.2]
هو الجبل بمدين الذي كلم الله تعالى بها موسى عليه السلام، وسينين وسيناء من أسماء ذلك الجبل، وعن السدي أنه قال: ((معنى سينين الشجر)).
ويقال: معناه: المبارك. وعن عكرمة: ((أن معناه الجبل في الشتاء؛ لأنه كثير النبات والأشجار)).
[95.3]
يعني مكة؛ لأن أهلها في أمن من الغارة، وكانوا إذا سافروا لم يتعرض لهم لحرمة الحرم، والصيد في الحرم آمن، ومن قتل قتيلا، ثم لجأ إلى الحرم لم يقتص منه في الحرم.
[95.4]
أي في أحسن صورة واعتدال على أحسن صورة وهيئة، وعلى كمال في العقل والفهم، وذلك أن الله خلق كل شيء منكبا على وجهه إلا الإنسان. وقيل: خلقنا الإنسان مديد القامة يتناول ما يأكله بيده.
[95.5-6]
قوله تعالى: { ثم رددناه أسفل سافلين }؛ أي رددناه إلى أرذل العمر، وإلى حال الهرم وفقد العقل بعد الشباب والقوة. وقال بعضهم: معناه: رددناه إلى أسفل دركات النار في أقبح صورة.
ثم استثنى المؤمنين المطيعين، فإنهم لا يردون إلى أسفل سافلين، ويجوز أن يكون هذا استثناء منقطعا بمعنى لكن، { إلا الذين ءامنوا وعملوا الصلحت }؛ أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم، { فلهم أجر غير ممنون }؛ أي ثواب غير مقطوع؛ أي لا ينقطع ثوابهم بموتهم.
وفي الحديث:
" إن المؤمن إذا عمل في حال شبابه وقوته، ثم مرض أو هرم، كتب الله له حسناته، كما كان يعمل في حال شبابه وقوته، لا ينقص منه شيء ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا مات المؤمن فدفن في قبره قال ملكان: يا رب قد مات عبدك فلان، فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فنسبحك، فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحونني، فيقولون: يا رب فأين تأمرنا؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فسبحاني وكبراني واحمداني وهللاني، واكتبا ثواب ذلك لعبدي حتى أبعثه من قبره ".
[95.7]
أي ما يحملك على التكذيب أيها الكافر بعد هذا البيان من الله تعالى بمجازاة الله في الآخرة. وقيل: معناه: ما يكذبك أيها الإنسان بعد الصورة الحسنة والشباب، ثم الهرم والموت والحساب، أفلا تعتبر بحالك لتعلم أن الذي خلقك قادر على أن يبعثك.
[95.8]
أي أليس الله بأفضل الفاضلين وأعدل العادلين، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ السورة قال:
" بلى يا رب أنت أحكم الحاكمين، وأنا على ذلك من الشاهدين ".
[96 - سورة العلق]
[96.1]
قالت عائشة رضي الله عنها:
" أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتعبد فيه حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه جبريل فقال له: اقرأ، فقال: " ما أنا بقارئ " قال: " فأخذني فغطني حتى أخذ مني الجهد ثم أرسلني، فقال لي: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية كذلك ثم أرسلني، فقال لي: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال لي: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق }. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة فقال: " زملوني زملوني " ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فأخبر خديجة بالخبر وقال: " خشيت على نفسي ".
فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية، وكان شيخا كبيرا قد ضعف بصره، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة بن نوفل: يا ابن أخي ماذا رأيت؟ فأخبره بما رأى، فقال ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى، فيا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: " أومخرجي هم؟! " قال: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم إن ورقة لم يدرك وقت الدعوة أن توفي ".
واختلفوا في الباء في قوله { باسم ربك } قال بعضهم: هي زائدة؛ وتقديره: اقرأ اسم ربك، كما يقال: قرأت بسورة كذا. وقال بعضهم: افتح القراءة بسم الله. وقيل: معناه: اقرأ القرآن بعون الله وتوفيقه. وقوله تعالى { الذي خلق } أي خلقك. وقيل: خلق الأشياء كلها.
[96.2]
قال بعضهم: أراد به آدم، خلقه من طين يعلق باليد. وقال بعضهم: الإنسان هذا اسم جنس، والعلق جمع العلقة، وهي الدم الخاثر المنعقد الذي يضرب إلى السواد.
[96.3]
أي اقرأ القرآن في صلاتك وتبليغك إلى الناس وربك الأعظم الذي يعطي من النعم ما لا يقدر على مثله غيره. ويجوز أن يكون الإكرام هاهنا أنه تعالى يعينه على حفظ القرآن وتبليغه، ويثيبه على ذلك جزيل الثواب. وقيل: الأكرم الحليم على جهل العباد، فلا يعجل عليهم بالعقوبة.
[96.4]
أي الذي علم الملائكة ما في اللوح المحفوظ، وأضيف إلى القلم؛ لأنه هو الذي كتب ما في اللوح. وقيل: معناه: الذي علم الناس علم الكتابة بالقلم، وهو نعمة عظيمة، ولولا القلم لضاعت الحقوق ودرست العلوم واختلت أمور المعايش.
[96.5]
أي علم آدم الأسماء كلها. وقيل: علم جميع الناس بالقلم من أمر دينهم ما لم يعلموا من قبل. وقيل: الإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه
وعلمك ما لم تكن تعلم
[النساء: 113].
[96.6-7]
قوله تعالى: { كلا إن الإنسان ليطغى }؛ أي حقا إن الإنسان الذي خلقه الله من علق وتمم نعمته عليه ليطغى بأنعم الله، ويتكبر على توحيده، ومعنى { ليطغى } ليتجاوز حده، فيستكبر على ربه، { أن رآه استغنى } ، أن رأى نفسه مستغنيا بكثرة ماله. روي:
" أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: " أعوذ بك من فقر ينسي، ومن غنى يطغي " ".
[96.8]
فيه تخويف بالرجعة إلى الآخرة للحساب؛ أي إن إلى ربك المرجع في الآخرة.
[96.9-10]
نزلت في أبي جهل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حين فرضت عليه، وكان يؤذيه، ويعبث به حتى يشغله عن الصلاة، وكان يهدد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: إذا رأيت محمدا يصلي توطأت عنقه، وهذه الآية متروكة الجواب، معناه: أرأيت يا محمد الذي ينهى عن الصلاة لا تراه يفلح.
[96.11-12]
قوله تعالى: { أرأيت إن كان على الهدى }؛ معناه: أرأيت أيها الناهي إن كان المنهي عن الصلاة على الهدى، { أو أمر } ، الخلق، { بالتقوى } ، أكنت تنهاه وتعاديه على ذلك. وقيل: معناه: أرأيت - يا محمد - إن كان الناهي على الهدى، أو أمر بالتقوى، أليس كان خيرا له.
[96.13-14]
قوله تعالى: { أرأيت إن كذب وتولى }؛ معناه: أخبرني يا محمد إن كذب أبو جهل بالقرآن، وتولى عن الإيمان؛ أي أعرض عنه، { ألم يعلم بأن الله يرى }؛ ألم يعلم أبو جهل أن الله يرى صنعه.
[96.15]
قسم من الله تعالى: لئن لم يمتنع أبو جهل عن مقالته وصنعه لنأخذن بمقدم شعر رأسه، ولنأمرن بجذبه إلى النار، والسفع في اللغة: هو الجذب الشديد، والعرب لا تأنف من شيء أنفها من ذكر الناصية. وقيل: معنى السفع الإحراق، واللفح نظيره، والمعنى: لنحرقن موضع ناصيته، وقال الحسن: ((معناه: لنجمعن ناصيته وقدميه)) كما قال تعالى
فيؤخذ بالنواصي والأقدام
[الرحمن: 41].
[96.16]
إبدال الاقدام النكرة من المعرفة، والمراد بالناصية هاهنا صاحب الناصية كاذب خاطئ، يأكل رزق الله، ويعبد غيره.
[96.17-18]
قال ابن عباس:
" لما قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم أنهك عن الصلاة، انتهره النبي صلى الله عليه وسلم وأغلظ له وتهدده، فقال أبو جهل: أتهددني وأنا أكبر أهل الوادي، والله لأملأن عليك الوادي خيلا جردا ورجالا مردا "
، فأنزل الله تعالى { فليدع ناديه * سندع الزبانية } أي فليدع قومه وعشائره ليعاونوه، سندع الزبانية ليأخذوه.
والنادي في اللغة: المجلس، والمراد بالمجلس هاهنا أهل المجلس. والزبانية: هم الملائكة الموكلون بتعذيب أهل النار، واحدهم زبن، والزبن الدفع، يقال: زبنت الناقة الحالبة إذا ركضته برجلها، قال صلى الله عليه وسلم:
" لو نادى ناديه لأخذته الزبانية عيانا ".
[96.19]
هذا قسم من الله، ويجوز أن يكون معناه: ليس كما يقول أبو جهل، لا تطعه فيما يأمرك به من ترك الصلاة، وصل لله واقترب إلى رحمته بالسجود على رغم من ينهاك عنه.
روي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد هذه السورة، فأتاه أبو جهل ليؤذيه على عادته، فوجده يقرأ هذه السورة، فخاف وانصرف. فقيل له: أخفته؟! وما الذي منعك أن تفعل به ما هممت به؟ قال: وجدت عنده حارسا يحرسه، وسمعته يهددني بالزبانية، أما الحارس فهو فحل أهوى إلي أراد أن يأكلني، والله ما أدري ما زبانيته فهربت ".
[97 - سورة القدر]
[97.1]
معناه: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، والهاء في قوله { أنزلناه } كناية عن المضمر المذكور في السورة التي قبل هذه السورة، وهو القرآن، فإنه تقدم في أولها { اقرأ }؛ أي اقرأ القرآن. ويجوز أن يكون معناه: إنا أنزلنا جبريل بهذا القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان.
وذلك أن القرآن أنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا إلى الكتبة، ثم أنزل بعد ذلك نجوما في عشرين سنة - وقيل: ثلاث وعشرين -. وسميت هذه الليلة ليلة القدر؛ لأنها ليلة الحكم والقضاء، يقدر الله فيها كل شيء يكون في السنة إلى السنة، ومعنى تقديره: أن يأمر الملائكة أن يكتبوه ويقرأوه .
[97.2-3]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما ليلة القدر }؛ تعجب وتعظيم لحرمتها؛ أي ما أعلمك يا محمد ما شرف هذه الليلة لولا أن الله أعلمك بذلك، { ليلة القدر خير من ألف شهر }؛ أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر، وعلى هذا قالوا: إن من صلى فيها ركعتين كان له ثواب من صلى ليالي ألف شهر ركعتين، بل ثواب هاتين الركعتين أكثر من ثواب تلك الصلاة كلها.
وسبب نزول هذه السورة:
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوما لأصحابه: " أن أربعة من بني إسرائيل وهم: أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع بن نون عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه فيها طرفة عين " ، فتعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فأتى جبريل فقال له: عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله فيها طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيرا منه، ثم قرأ { إنا أنزلناه في ليلة القدر... } إلى آخرها، وقال: هذا أفضل مما عجبت منه أنت وأمتك، فسرت الصحابة بذلك ".
وروي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك عجبا شديدا، وتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مثله في أمته، فأعطاه الله ليلة القدر.
واختلفوا في وقتها؛ فقال بعضهم: كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت، والصحيح: أنها لم ترفع وأنها إلى يوم القيامة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل: له: هل رفعت ليلة القدر؟ فقال: " بل هي إلى يوم القيامة "
عن عبدالله بن حسن قال: قلت لأبي هريرة رضي الله عنه: زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال: ((كذب من قال)) قلت: أهي كل شهر رمضان؟ قال: ((نعم)).
وقال بعضهم: هي في ليالي السنة كلها، وأن من علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع شيء من ذلك إلى مضي سنة من يوم حلفه. والجمهور من العلماء: أنها في شهر رمضان في كل عام. وسئل الحسن عن ليلة القدر فقال: ((والله الذي لا إله إلا هو؛ إنها في كل رمضان)).
واختلفوا في أي ليلة هي، فقال أبو رزين العقيلي: ((هي أول ليلة في شهر رمضان))، وقال الحسن: ((هي ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحة وقعة بدر)).
والصحيح: أنها في العشر الأواخر من رمضان، وقال أبو سعيد الخدري: ((هي ليلة إحدى وعشرين))، وعن أبي بن كعب قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" تحروا ليلة القدر من كل سبع وعشرين من رمضان ".
وروي أن عمر قال لابن عباس: ((أخبرني برأيك في ليلة القدر. فقال: إن الله وتر يحب الوتر، السماوات سبع؛ والأرضون سبع؛ والطواف سبع؛ والرمي للجمار سبع، فلا أراها إلا في سبع وعشرين من رمضان)).
قال: ((وعدد حروف سورة القدر إلى قوله تعالى { سلام } هي سبع وعشرون، فيجب أن تكون ليلة سبع وعشرين))، وأراد بالحرف الكلمة، فقال له عمر: ((وافق رأيي رأيك. ثم ضرب على منكبه فقال: ما أنت بأقل القوم علما)).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: " من كان متحريا فليتحرها في ليلة سبع وعشرين "
وعن أبي بن كعب قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني وإلا فصمتا: " أن ليلة القدر سبع وعشرين " ".
وقال أبو بكر الوراق: ((إنه قسم كلمات هذه السورة على عدد ليالي رمضان، فلما بلغ إلى السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي)). وقال بعضهم: هي ليلة إحدى وعشرين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ليلة القدر ليلة السابع والعشرين أو التاسع والعشرين، وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى "
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" في الليلة من علامتها أنها ليلة سمحة لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع ".
وقال بعضهم: إن من علامتها أن ماء البحر فيها يكون عذبا سلسا!
" وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إذا أدركت ليلة القدر فما أقول؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني " ".
[97.4]
قوله تعالى: { تنزل الملائكة والروح فيها }؛ أي تنزل ملائكة السماوات السبع إلى السماء الدنيا وجبريل معهم، { بإذن ربهم من كل أمر }؛ أمرهم الله به في تلك الليلة.
وقد يقام حرف من مقام الباء، كما في قوله تعالى:
يحفظونه من أمر الله
[الرعد: 11] معناه: أي بأمر الله، فكذلك معنى { من كل أمر } أي بكل أمر قدره الله تعالى في تلك الليلة إلى مثلها من السنة القابلة. ويقال: إن الملائكة ينزلون إلى الدنيا في تلك الليلة، ويسلمون على المؤمنين على كل قائم وراكع وساجد إلى طلوع الفجر.
قرأ طلحة بن مصرف (تنزل الملائكة) مخففا. والمراد بالروح جبريل في قول أكثر المفسرين، وقال مقاتل: ((الروح طائفة من الملائكة، لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة، ينزلون من غروب الشمس إلى طلوع الفجر)). وقيل: هو ملك عظيم.
[97.5]
قوله تعالى: { سلام هي }؛ تمام الكلام عند قوله تعالى { من كل أمر } ، ثم ابتدأ فقال: { سلام هي } أي ليلة القدر، سلامة هي؛ أي خير كلها ليس فيها شر، قال الضحاك: ((لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، فأما الليالي غيرها فيقضي فيهن البلاء والسلامة)). قال مجاهد: ((هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شرا ولا أذى)). وقال الشعبي: ((هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر)).
وفي قراءة ابن عباس (من كل أمر سلام) معناه: من كل ملك سلام على المؤمنين في هذه الليلة، وقيل: على هذه القراءة أيضا أن (من) بمعنى (على)؛ تقديره: على كل امرئ من المسلمين سلام من الملائكة، ونظيره قوله تعالى:
ونصرناه من القوم
[الأنبياء: 77] أي على القوم.
قوله تعالى: { حتى مطلع الفجر }؛ أي إلى مطلع الفجر، و(حتى) حرف غاية، قرأ الأعمش والكسائي وخلف (مطلع) بكسر اللام، وقرأ الباقون بفتحها وهو الاختيار؛ لأن المطلع بفتح اللام بمعنى الطلوع، يقال: طلعت الشمس طلوعا ومطلعا، وأما المطلع بكسر اللام، فإنه موضع الطلوع، ولا معنى للاسم ها هنا.
والحكمة في إخفاء ليلة القدر على العباد: أنهم لو عرفوها لقصدوها بالعبادة، وأهملوا في سائر الليالي، وإذا لم يعرفوها بعينها عبدوا الله في جميع ليالي شهر رمضان رجاء أن يدركوها.
[98 - سورة البينة]
[98.1-3]
{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب }؛ وهم اليهود والنصارى، { والمشركين }؛ وهم عبدة الأوثان، { منفكين }؛ أي منتهين عن كفرهم وشركهم، وقيل: لم يكونوا زائلين، { حتى تأتيهم البينة }؛ الواضحة، وهي محمد صلى الله عليه وسلم أتاهم بالقرآن، فبين ضلالتهم وجهالتهم ثم دعاهم.
ثم فسر البينة فقال: { رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة }؛ من الباطل والتناقض، { فيها كتب قيمة }؛ أي مستقيمة عادلة، ومعنى قوله تعالى { رسول من الله } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { يتلوا صحفا مطهرة } أي يقرأ عليهم ما تضمنته الصحف المطهرة من المكتوب، سميت مطهرة؛ لأنها مطهرة من الباطل والتناقض، ولا يمسها إلا المطهرون من الأنجاس وهم الملائكة، وأراد بها الصحف التي في أيديهم كما قال
بأيدي سفرة * كرام بررة
[عبس: 15-16]، في تلك الصحف { كتب قيمة } أي مستقيمة في جهة الصواب، لا تؤدي إلى اعوجاج، ولا تدل إلا على الحق؟
[98.4-5]
قوله تعالى: { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة }؛ فيه تقريع لليهود والنصارى، فإنهم ما اختلفوا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن والمعجزات، { ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله }؛ أي ما أمر هؤلاء الذين سبق ذكرهم من اليهود والمشركين في جميع كتب الله إلا أن يعبدوا الله، { مخلصين له الدين }؛ في دينهم؛ { حنفآء }؛ مائلين عن كل دين سوى الإسلام؛ وأن؛ { ويقيموا الصلاة }؛ بحقوقها في مواقيتها، وأن؛ { ويؤتوا }؛ يعطوا؛ { الزكاة }؛ المفروضة، { وذلك دين }؛ الله { القيمة }؛ أي المستقيمة.
[98.6]
أي شر خليقة، ومنه برئ الله، والبرئة بالهمز هم الخليقة، ومنه برأ الله الخلق، ومنه البارئ بمعنى الخالق، ومن قرأ بغير الهمز كأنه ترك الهمز على وجه التخفيف.
[98.7-8]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية }؛ أي خير الخليقة، { جزآؤهم عند ربهم جنات عدن }؛ أي بساتين إقامة، { تجرى من تحتها الأنهار }؛ الأربعة، { خالدين فيهآ أبدا رضى الله عنهم }؛ بإيمانهم، { ورضوا عنه }؛ بالثواب الذي أكرمهم الله به، { ذلك لمن خشي ربه }؛ بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1]
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قيام الساعة متى يكون، فأنزلت هذه السورة لبيان أشراطها وصفاتها. والزلزلة هي الحركة الشديدة، ونظير هذا قوله تعالى:
إذا رجت الأرض رجا
[الواقعة: 4]، وذلك أن الأرض تحرك يومئذ حركة شديدة حتى يتقطع جميع ما فيها من بناء وجبل وشجر، حتى يدخل فيها كل ما على وجهها.
[99.2]
أي لفظت الأرض عند ذلك ما فيها من الأموات والأموال، قال الله تعالى:
وألقت ما فيها وتخلت
[الانشقاق: 4]. وفائدة إلقاء الكنوز وإظهارها أن تتحسر عليها نفوس الذين كنزوها، وأن يعذبوا بها، كما قال الله تعالى:
يوم يحمى عليها في نار جهنم
[التوبة: 35].
[99.3-5]
قوله تعالى: { وقال الإنسان ما لها }؛ الإنسان هاهنا اسم جنس أريد به الذين يخرجون من جوفها، يقول كل منهم ما للأرض وما حالها؟ ولأي شيء زلزالها؟ قوله تعالى: { يومئذ تحدث أخبارها }؛ أي يومئذ تخبر الأرض بما عمل على ظهرها من خير، أو شر عبرة للمتفكر فيها، تقول في المؤمن: صلى علي وحج وصام، فيفرح المؤمن، وتقول في الكافر: أشرك علي وسرق وزنا وشرب الخمر، فيحزن، وذلك الإخبار بأن الله ألهمها وأنطقها، كما أنطق الله الجوارح. قوله تعالى: { بأن ربك أوحى لها }؛ أي أذن لها وأمرها.
[99.6]
قوله تعالى: { يومئذ يصدر الناس أشتاتا }؛ أي يصدرون من قبورهم متفرقين إلى أرض المحشر فرقا فرقا أهل كل دين على حدة، فيسار بهم إلى موضع الحساب. قوله تعالى: { ليروا أعمالهم }؛ من كتبهم التي تسجل أعمالهم فيها. وقيل: يرجعون من موضع الحساب متفرقين ليروا جزاء أعمالهم، فريق في الجنة وفريق في السعير.
[99.7-8]
اختلفوا في مثقال الذرة، قال بعضهم: هو ما يقع في الكون من شعاع الشمس من الهباء، وقال بعضهم: هي النملة الحمراء الصغيرة ، وذلك أن قوما كانوا لا يرون أنهم يؤجرون على قليل من الخير، ولا يعاقبون على قليل من الشر، فأنزل الله هذه، وحثهم على كل خير قل أو كثر، وحذرهم من كل شر قل أو كثر، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ".
[100 - سورة العاديات]
[100.1]
أقسم الله تعالى بالخيول العاديات في سبيله إكراما للغزاة، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه، وليس لنا أن نقسم إلا به. والضبح حمحمة الخيل، وما يسمع من أصوات أنفاسها إذا عدت.
وعن علي رضي الله عنه: ((أن المراد بالعاديات الذاهبة إلى العدو، يوم بدر قال: ولم يكن معدا يومئذ إلا فرس واحد ركبها المقداد)). وانتصب قوله { ضبحا } على المصدر تقديره: والعاديات تضبح ضبحا.
[100.2]
أي فالمظهرات بسنابكها النار بوطئها بنعالها للحجارة، وبضربها الحصى بعضها ببعض كنار القادح، والقدح والإيراء بمعنى واحد، وتقديره: فالقادحات قدحا.
[100.3]
يعني الخيل تغير عند الصبح في سبيل الله، أضاف الإغارة إليها وأراد بذلك ركابها، وذلك أنهم كانوا يسيرون إلى العدو ليلا ويأتوهم صبحا.
[100.4-5]
قوله تعالى: { فأثرن به نقعا }؛ أي هجمت بالمكان الذي انتهت إليه غبارا. وإنما لم يذكر المكان؛ لأن في الكلام دليلا عليه، وذلك أن إثارة الغبار لا يكون إلا بمكان. قوله تعالى: { فوسطن به جمعا }؛ أي دخلن في ذلك المكان في وسط جمع المشركين للإغارة.
[100.6]
هذا جواب القسم هاهنا، والإنسان عبارة عن جنس الناس، وقيل: المراد به الكافر، والكنود هو الكافر، الذي
" يمنع رفده، ويأكل وحده، ويجلد عبده "
وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الكلبي: ((الكنود بلسان معد: العاص))، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة: الكفور، وبلسان بني مالك: البخيل. وقال الحسن: ((يعد المصائب، وينسى النعم)) وقال عطاء: ((الكنود الذي لا خير فيه)). والأرض الكنود الذي لا تنبت ثانيا، وقيل: هو الحقود الحسود.
[100.7]
معناه: إن الله على صنع هذا الكنود وكفرانه لنعمه لشهيد يحصي عليه أعماله. وقيل: معناه: إن الإنسان على نفسه لشهيد، يشهد بذلك حاله في بخله، وإعراضه عما يجب عليه، فالهاء على هذا القول راجعة للإنسان.
[100.8]
الضمير عائد على الإنسان، معناه: إن الإنسان في حقه، ويقال في معناه: وإنه لحبه المال لبخيل، ويقال: رجل شديد إذا كان بخيلا.
قال ابن زيد: ((سمي المال خيرا وعسى أن يكون خبيثا وحراما، ولكن الناس يعدونه خيرا، وسمى المال خيرا، وسمى الجهاد سوء، فقال
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء
[آل عمران: 174])) أي فقال وليس هو عند الله سوء ولكن يسمونه سوء. ومعنى الآية شأنه من أجل حب المال الشديد بخيل، ويقال للبخيل: شديد ومتشدد، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الرجال ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
والفاحش البخيل، قال الله تعالى:
ويأمركم بالفحشآء
[البقرة: 268] أي بالبخل.
[100.9-11]
قوله تعالى: { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور }؛ معناه: أفلا يعلم هذا الإنسان إذا بعث الموتى من قبورهم، { وحصل ما في الصدور }؛ أي وأظهر ما في صدورهم من الخير والشر والسخاء والبخل، { إن ربهم بهم يومئذ لخبير }؛ أي عالم يعلم ما أسروه وما أعلنوه، ويجازيهم على أعمالهم.
ولولا دخول اللام في جواب (إن) لجاءت مفتوحة لوقوع العلم عليها، ولكن لما دخلت اللام كسرت (إن) على عادة العرب، كما في قوله تعالى:
نشهد إنك لرسول الله
[المنافقون: 1].
ويحكى: أن الحجاج غلط في قراءة هذه السورة فقال: (أن ربهم) بالفتح، واستدرك الغلط من جهة العربية وحذف اللام فقال: (خبير) فالتفت الحسن إلى أصحابه وقال: ((ألا تنظرون إلى عدو الله يغير كتاب الله ليقوم لسانه!)).
[101 - سورة القارعة]
[101.1-3]
{ القارعة }؛ القارعة من أسماء القيامة، سميت بذلك، لأنها تقرع القلوب بالأهوال والأفزاع. والمعنى: ستأتيك القارعة، ويقال: إن القارعة هي الصيحة العظيمة، وقوله تعالى: { ما القارعة }؛ تفخيم لأمر القيامة، { ومآ أدراك ما القارعة } ، تقديره: القارعة ما هي؟ وأي شيء هي؟ وما أعلمك ما هي لو لم أعلمك؟ وهذا كما يقال: وأي فقيه؟.
[101.4]
معناه: يوم يموج الناس بعضهم في بعض حين يخرجون من قبورهم، كالجراد الكثير المتفرق الذي يدخل بعضه في بعض، ويركب بعضه بعضا يعني الغوغاء، وهي صغار الجراد، نظيره قوله تعالى:
يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر
[القمر: 7] وسمي الجراد فراشا؛ لأنه يتفرش حين يتفرق، ويقال الفراش ما يطير حول السراج من البق ونحوه، وإنما شبه الناس يومئذ بالفراش؛ لأنهم يذهبون في ذلك اليوم على وجوههم لا يدرون من أين يجيئون، ولا أين يذهبون.
[101.5]
معناه: تصير في ذلك اليوم بعد القوة والشدة كالصوف، والمنفوش: المندوف، وذلك أوهى ما يكون من الصوف.
[101.6-7]
قوله تعالى: { فأما من ثقلت موازينه }؛ يعني بالطاعات والحسنات، { فهو في عيشة راضية }؛ أي ذات رضى يرضاها الله، وقيل: معنى { راضية } أي مرضية.
[101.8-9]
أي خفت من الأعمال الصالحة فمسكنه ومأواه الهاوية، يأوي إليها، كما يأوي الولد إلى أمه. وقيل: يهوي على أم رأسه في النار دركة من دركات النار.
واختلفوا في كيفية وزن الأعمال، فقال بعضهم: توزن صحائف الحسنات في كفة، وصحائف السيئات في كفة. وقال بعضهم: يخلق الله من الحسنات نورا يكون علامة للحسنات، فتوضع في كفة الحسنات، ويخلق من السيئات ظلمة تكون علامة للسيئات، فتوضع في كفة السيئات.
واختلفوا فيمن يزن الميزان، قال بعضهم: يتولاه ملك من الملائكة موكل بالموازين. وقال بعضهم: يتولاه جبريل فيقف بين الكفتين ويزن الأعمال، فمن رجحت حسناته على سيئاته نادى بصوت يسمعه أهل الموقف: الآن فلان بن فلان، سعد سعادة لا شقاء بعدها أبدا، ومن رجحت سيئاته على حسناته نادى الملك بصوت يسمعه أهل الموقف: الآن فلان بن فلان، شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا.
[101.10-11]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما هيه }؛ أي ما أعلمك - يا محمد - ما الهاوية لو لم أعلمك؟ وهذه الهاء تسمى هاء السكت. وقوله تعالى: { نار حامية }؛ تفسير للهاوية؛ ومعناه: نار قد تناهت حرارتها منتهاها.
ويروى: ((أن الفضيل بن عياض كان كلما افتتح هذه السورة قطعته العبرة من شدة الهول، ففارق الدنيا وما ختمها)).
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-4]
{ ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر }؛ أي شغلتكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم حتى متم ودفنتم في المقابر قبل أن تتوبوا، ويقال لمن مات: زار حفرته، وتوسد لحده. هذا خطاب لمن حرص على الدنيا وجمع أموالها وهو يريد التكاثر والتفاخر بها.
وقيل: إن هذه السورة نزلت في حيين من قريش؛ أحدهما: بنو عبد مناف، والآخر: بنو سهم، فعدوا أيهم أكثر، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم: إنما أهلكنا البغي في الجاهلية، فعدوا أمواتنا وأمواتكم وأحياءنا وأحياءكم، فتعادوا فكثرهم بنو سهم، فأنزل الله هذه السورة تهديدا لهم. والمعنى: شغلكم التفاخر بالأنساب والمناقب عن توحيد الله حتى عددتم الموتى في المقابر.
ثم زاد في وعيدهم فقال: { كلا سوف تعلمون }؛ أي حقا سوف تعلمون ماذا تلقون من العذاب عند الموت وفي القبر، { ثم كلا سوف تعلمون }؛ أي ثم حقا سوف تعلمون ماذا تلقون في الآخرة من عذابها، ولا بد أن يكون المراد بهذا الثاني غير المراد الأول، وكيف يكون هذا تكرارا، وقد دخل بينهما حرف (ثم) التي هي للتراخي.
[102.5]
قال بعضهم: جواب هذا محذوف؛ أي حقا لو علمتم ماذا ينزل بكم في الآخرة علم اليقين لما تفاخرتم في الدنيا، وما ألهاكم التكاثر.
[102.6-8]
قوله تعالى: { لترون الجحيم }؛ أي لترون الجحيم في الموقف إن متم على هذا، { ثم لترونها عين اليقين }؛ معاينة، إذا دخلتموها، وتشاهدون في الآخرة كل ما شككتم فيه في الدنيا، { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }؛ ثم لتسألن يوم القيامة عن اشتغالكم بنعيم الدنيا حتى تركتم ما لزمكم من الفرائض.
واختلفوا في هذا السؤال، قال بعضهم: هو سؤال توبيخ وتقريع للكفار في النار، يقال للكافر وهو في النار: أين ذهب تفاخرك وملكك ومملكتك وعددك، ويؤيد هذا ما روي:
" أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلة أكلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري من لحم وخبز شعير وماء عذب وبسر قد ذنب، فقال: يا نبي الله أتخاف علينا أن يكون علينا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " إن ذلك للكفار، ثم ثلاث لا يسأل الله العبد عنهم يوم القيامة: ما يواري به عورته، وما يقيم به صلبه، وما يكنه من الحر والبرد. وهو مسؤول بعد ذلك عن كل نعمة " ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" ما أنعم الله على عبد من نعمة صغيرة أو كبيرة فقال عليها: الحمد لله، إلا أعطي خيرا مما أخذ ".
وعن أنس قال:
" جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: من يستطيع أن يؤدي شكر ما أنعم الله عليه؟ قال: " من علم أن تلك النعمة من قبل الله فقد أدى شكرها " ".
وسئل ابن مسعود عن النعيم المذكور في هذه الآية فقال: ((الأمن والصحة))، وسئل علي رضي الله عنه عن ذلك فقال: ((خبز الشعير، والماء القراح)). ويقال: إنه بارد الشراب، وظل المساكن، وشبع البطون. ويقال: يسأل عن الماء البارد في شدة الحر، وعن الماء الحار في شدة البرد.
وهذا كله محمول على ما إذا تشاغل بشيء من هذه المباحات، فترك بها واجبا عليه، وأما إذا لم يكن ذلك، فإنه لا يسأل عنها ولا يحاسب عليها.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" النعيم الماء البارد والرطب "
وقال عبدالله ابن عمر: ((هو الماء البارد في الصيف)). وفي الخبر المأثور:
" أن أول ما يسأل الله العبد يوم القيامة أن يقول له: " ألم نصح لك جسمك؟ ألم أروك من الماء البارد؟ " ".
وقال صلى الله عليه وسلم:
" " إذا شرب أحدكم الماء، فليشرب أبرد ما يقدر عليه " قيل: ولم؟ قال: " لأنه أطفأ للمرء، وأنفع للعلة، وأبعث للشكر "
وقال أبو حاتم: ((الماء البارد يستخرج الحمد من وسط القلب)).
وقال رجل للحسن: إن لنا جارا لا يأكل الفالوذج ويقول: ما أقوم بشكره، فقال: ((ما أجهل جاركم هذا! إن نعمة الله بالماء البارد أكثر من نعمة تجتمع عليها الحلواء)).
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من أكل خبز البر وشرب الماء البارد وكان له ظل، فذاك النعيم الذي يسأل عنه ".
وعن ابن عباس قال:
" لما نزلت { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قالت الصحابة: يا رسول الله وأي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا الشعير؟! فأوحى الله إليه: " أن قل لهم: أليس تجدون النعال وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النعيم " ".
وعن أنس قال:
" جاء رجل فقال: يا رسول الله هل علي من النعمة شيء؟ قال: " نعم؛ التنعل، والظل، والماء البارد " ".
وقيل: يسأل الله العباد يوم القيامة عن خمس: شبع البطون، وبارد الشراب، ولذة النوم، وظل المساكن، واعتدال الخلق. وعن إبراهيم النخعي: ((من أكل فسمى، وفرغ فحمد الله تعالى، لم يسأل عن نعيم ذلك الطعام)).
وقال ابن عباس: ((النعيم صحة الأبدان والاستماع والإبصار، ويسأل الله العباد فيما استمعوه، وهو قوله تعالى:
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا
[الإسراء: 36])).
وقيل: إن من نعمة الله على عباده الأكل والشراب، وتسهيل خروج الأخبثين، قال بكر بن عبدالله: ((يا لها من نعمة! يأكل متلذذا ويخرج ذلك سهلا)).
[103 - سورة العصر]
[103.1]
معناه: والدهر، أقسم الله بالدهر في تردده وتقلبه لما فيه من الدلالة على وحدانية الله، ويجوز أن يكون المراد به: ورب العصر، وقال بعضهم: المراد بالعصر العشي، وفائدة ذكره: ما فيه من الدلالة على توحيد الله من إقبال الليل، وإدبار النهار، وذهاب سلطان الشمس.
[103.2]
هذا جواب القسم، والإنسان ها هنا جنس أراد به جميع الناس، ولذلك استثنى منهم المؤمنين المطيعين. وقيل: المراد بالإنسان ها هنا الكافر بخسره نفسه وماله وأهله ومنزله وخدمه في الجنة، ويرثه المؤمن.
ويقال: معنى الخسر ها هنا نقصان العمر، كل إنسان رأس ماله " العمر " ، والمؤمن وإن كان ينقص من عمره الذي هو رأس ماله، فإنه يربح عليه بالطاعة فلا يعد ذلك خسرانا؛ لأنه لا يتوصل إلى الربح إلا بإخراج رأس المال من يده، فمعنى الخسران لا يتحقق إلا في الكافر.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من استوى يوماه فهو مغبون، وإن كان يومه خيرا من أمسه فهو مغبوط، ومن كان يومه شرا من أمسه فهو ملعون، ومن لم يكن في الزيادة فهو في النقصان، ومن كان في النقصان فالموت خير له من الحياة ".
[103.3]
فهؤلاء هم الذين يتمسكون بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب، والنجاة من العقاب، فإنهم لا يقصرون على طاعة أنفسهم بل يحثون غيرهم على الطاعة ليقتدى بهم وليكونوا سببا في طاعة غيرهم. وقوله تعالى: { وتواصوا بالحق } أي أوصى بعضهم بعضا باتباع القرآن، وطاعة الله، { وتواصوا بالصبر } على الشدائد في ذات الله.
وعن أبي بن كعب قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { والعصر } فقلت: يا رسول الله ما تفسيرها؟ فقال: " أقسم ربك بآخر النهار { إن الإنسان } وهو أبو جهل { لفى خسر } ، { إلا الذين آمنوا } يعني أبا بكر الصديق { وعملوا الصالحات } يعني عمر بن الخطاب، { وتواصوا بالحق } يعني عثمان بن عفان، { وتواصوا بالصبر } يعني علي بن أبي طالب " رضوان الله عليهم أجمعين.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1]
قال ابن عباس: ((نزلت في الأخنس ابن شريق، كان يهمز الناس ويلمزهم مقبلين ومدبرين)). وقال مقاتل: ((نزلت في الوليد بن المغيرة)). وحرف (كل) يقتضي أن هذا الوعيد لكل كافر يغتاب الناس ويعيبهم. والويل كلمة تقولها العرب في كل من وقع في هلكة، ويقال: إنه واد في جهنم مملوء من القيح والصديد مما يسيل من أهل النار.
والهمزة: الطاعن على غيره بغير حق بالسفه والجهل، واللمزة: المغتاب المعياب، وعن أبي العالية قال: ((الهمزة: الذي يلمز من خلف، واللمز: هو العيب، قال الله تعالى:
ولا تلمزوا أنفسكم
[الحجرات: 11] أي لا يعيبن بعضكم على بعض)). وقال ابن عباس: ((الهمزة اللمزة: هم المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة)).
وقيل: الهمزة: الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة: الطعان عليهم. وقيل: اللمزة: الذي يكرم الناس بلسانه ويهمزهم بعينه، وقال ابن كيسان: ((الهمزة: الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير برأسه، ويومئ بعينيه، ويرمز بحاجبه)).
[104.2]
قرأ ابن كثير وأبو عامر ونافع وعاصم (جمع) بتخفيف الميم، وقرأ غيرهم بالتشديد، ومعنى الآية: الذي جمع مالا كثيرا من الحرام وعدده لنوائب دهره. وقيل: عده وأحصاه وأحرزه، وقرأ الحسن (وعدده) بالتخفيف؛ أي جمعه وعدده؛ أي وخدمه واتباعه، تقول العرب : جمعت الشيء إذا كان متفرقا، وجمعت الشيء بالتشديد إذا أكثرت الجمع منه.
[104.3]
معناه: يحسب هذا الكافر الطاعن اللعان أن كثرة ماله تخلده وتبقيه؟ أي يعمل عمل من يظن أن ماله يبقيه؟
[104.4]
قوله تعالى: { كلا }؛ أي حاشا أن يخلد أحد في الدنيا. ويجوز أن يكون معناه: حقا؛ { لينبذن في الحطمة }؛ أي ليطرحن فيها، وقرأ الحسن (لينبذان) أي ليطرحان هو وماله. والحطمة: اسم دركة من دركات النار، سميت بذلك؛ لأنها كثيرة الحطم للكفار، وأصل الحطم الكسر، يقال: رجل حطمة إذا كان كثير الأكل.
[104.5-7]
قوله تعالى: { ومآ أدراك ما الحطمة }؛ تفخيم لشأنها، وقوله تعالى: { نار الله الموقدة }؛ أي لا تخمد أبدا، وقوله تعالى: { التي تطلع على الأفئدة }؛ أي تشرف على القلوب، تأكل كل شيء من الجلود واللحوم والعظام والعروق حتى يبلغ إحراقها إلى القلوب.
[104.8-9]
قوله تعالى: { إنها عليهم مؤصدة }؛ أي إن الحطمة عليهم؛ أي على الكفار مطبقة الأبواب مغلقة لا تدخل فيها روح، ولا يخرج منها غمها. قوله تعالى: { في عمد ممددة }؛ قرأ أهل الكوفة (عمد) بضمتين، وقرأ غيرهم بالنصب، واختاره أبو عبيد لقوله تعالى
رفع السماوات بغير عمد ترونها
[الرعد: 2]، والعمد والعمد جمع عمود، قال الفراء: ((هو جمع عماد، وهو الاسطوانة))، والمعنى: تمد أيديهم وأرجلهم إلى عمد ممدودة في النار، وتجعل في أعناقهم السلاسل؛ ليكون ذلك زيادة في تعذيبهم.
[105 - سورة الفيل]
[105.1]
وذلك أن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر، ثم نزلوا بحضرة بيت، وكان ذلك البيت مصلى للنجاشي وقومه من النصارى، فأججوا نارا استعملوها لبعض ما احتاجوا إليه، ثم رحلوا ولم يطفئوا تلك النار، وكان ذلك في يوم عاصف، فهاجت الريح فاحترق البيت الذي كان مصلى للنجاشي، وكانوا يعظمون ذلك البيت كتعظيم العرب الكعبة، فقصدوا بذلك السبب مكة عازمين على تحريق بيت الله تعالى، ويستبيحوا أهل مكة.
فبعث النجاشي أبرهة، فخرج أبرهة في سائر الحبشة، وخرج معه بالفيل، فسمعت بذلك العرب، فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة، فخرج إليه ملك من ملوك حمير يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من العرب إلى حرب أبرهة وجهاده، فأجابه من أجابه فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ ذو نفر أسيرا، فلما أراد أبرهة أن يقتله قال له ذو نفر: لا تقتلني فإني عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه من القتل وحبسه معه في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما.
ثم مضى أبرهة على وجهه للذي يريد، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ نفيل أسيرا وأتي به إلى أبرهة، فلما هم بقتله قال له: لا تقتلني فإني دليلك في أرض العرب، فخلى سبيله، وخرج معه يدله. حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود الثقفي في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيها الملك؛ إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ليس لنا عندك خلاف، وليس بيننا هذا الذي تريد هدمه - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم، واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيمهم الكعبة.
قال ابن اسحاق: فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، فهنالك رجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم بالمغمس، فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود، على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل يمامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم أن يقاتلوه، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، وقل له: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فقال له ما أمره أبرهة، فقال له عبد المطلب: ما لنا به من طاقة ولا نريد حربه، ولكن هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن لم يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له حناطة: انطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب حتى أتى المعسكر، فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في مجلسه، فقال: يا ذا نفر، هل عندك من غنى فيما نزل بنا، فقال: وما غنى رجل أسير بيد ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا، ما عندي من غنى في شيء إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه وأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك الملك، ويكلمه بما يدنيك إليه، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، فقال: افعل.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحش في رؤوس الجبال، وقد أخذ له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه واشفع له عنده بما استطعت. فكلم أنيس أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو رجل يطعم الناس بالسهل، والوحش في رؤوس الجبال، فأذن له حتى يدخل عليك فيكلمك في حاجته.
فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب من أوسم الناس وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له اذكر حاجتك، فقال له: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أخذها. فلما قال له ذلك، قال له أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أخذتها لك، وتترك شيئا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلم تكلمني فيه.
قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعكه. قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك. فرد أبرهة على عبد المطلب إبله، فأخذها ورجع إلى قومه، فأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب خوفا من معرة الجيش إذا دخل.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهم إن العبد يم
نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك
عمدوا حماك بجهلهم جهلا
وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعب
تنا فأمر ما بدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت.
فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال: ابرك محمودا أو ارجع راشدا من حيث أتيت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوه في رأسه بالطبرزين وهو الكلاب ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا فقام يهرول، ووجهوه نحو الشام فغط مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه نحو مكة فبرك، فجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منهم ثلاثة أحجار يحملها، حجرا في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب
والأشرم المغلوب ليس الغالب
وكان أبرهة أشرم من ضربة ضربه إياها إرياط بحربة على جبهته، فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفتيه، فكان يسمى الأشرم من حينئذ.
قال ابن اسحاق: فجعل عسكر أبرهة يتساقطون من الحجارة بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة منها تبعتها مدة تمث قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعد الله على قريش من النعم عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم، فقال تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل... } إلى آخرها.
[105.2]
معناه: ألم يجعل مكرهم في بطلان حيث لم ينتفعوا به.
[105.3]
قوله تعالى: { وأرسل عليهم }؛ من البحر؛ { طيرا أبابيل }؛ أي كثيرة يتبع بعضها بعضا، وقيل: أقاطيع كالإبل المؤبلة، والأبابيل: جماعة في تفرقة، زمرة لا واحد لها عند أبي عبيدة والفراء، ويقال: واحدها أبول كما يقال عجول وعجاجيل، ويجوز أن يكون واحدها إبيل، كما يقال: إكليل وأكاليل.
[105.4]
أي بحجارة من طين مطبوخ خالصة، كما يطبخ الآجر. وقيل: السجيل الشديد، كأنه قال: من شديد عذابه، وعن أبي صالح قال: ((رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيز من تلك الحجارة سود مخططة بخطوط حمر على قدر بعر الغنم، كأنها جزع ظفاري)).
[105.5]
أي جعلهم كورق الزرع الذي وقع فيه الدود فخرقه، وكان ابن عباس يقول في صفة الطير الأبابيل: ((لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف ككف الكلاب، وكان إذا وقع الحجر على رأس الإنسان منهم خرج من دبره)).
واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقال الكلبي: ((كان قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة)). وروي: أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أكثر العلماء، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان)).
[106 - سورة قريش]
[106.1-2]
{ لإيلاف قريش }؛ اختلفوا في هذه اللام المذكورة، قال بعضهم: هي لام كي أي " متعلق ب "
فجعلهم كعصف مأكول
[الفيل: 5] أو ليؤلف قريشا.
ثم فسر الإيلاف فقال تعالى: { إيلافهم رحلة الشتآء والصيف }؛ أي ليؤلفهم رحلة الشتاء ورحلة الصيف. وإنما قال ذلك لأنهم لما خافوا من أبرهة، فتفرقوا في البلاد، فمن الله عليهم فقهر عدوهم.
وكانت مكة بلدا لم يكن فيها زرع ولا شجر؛ ولا رطب، وكان معاش أهلها ما ينقل إليها، فأهلك الله عدوهم ليأتلفوا؛ لأن تأليف رحلة الشتاء والصيف في التجارة، ولولا تجارتهم في هاتين الرحلتين لاضطروا إلى الخروج والتفرق في البوادي، فأراد الله أن يكثروا بمكة إلى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم منهم نبيا إليهم وإلى غيرهم.
وكان بعضهم يعد السورتين سورة واحدة، وقال سفيان بن عيينة: ((كان لنا إمام لا يفصل بينهما ويقرأهما معا)). وقال عمرو بن ميمون: ((صليت خلف عمر ابن الخطاب رضي الله عنه صلاة المغرب، فقرأ في الركعة الأولى
والتين
[التين: 1]، وفي الثانية
ألم تر كيف
[الفيل: 1] و { لإيلاف قريش }. والمعنى: أن هلاك أصحاب الفيل كان سببا لبقاء إيلاف قريش، ونظام حالهم.
وقريش هم ولد النضر بن كنانة، فمن ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده فليس بقرشي. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إن الله اصطفى بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم "
وسموا قريشا من التقريش؛ وهو التكسب والتقلب والجمع والطلب، وكانوا قوما تجارا على المال.
قوله تعالى: { إيلافهم رحلة الشتآء والصيف } بدل من الإيلاف الأول. واختلفوا في انتصاب (رحلة)، فقيل: انتصب على المصدر؛ أي ارتحالهم رحلة، وإن شئت نصبته بوقوع (إيلافهم) عليه، وإن شئت على الظرف.
واختلفوا في تفسير رحلة الشتاء والصيف، فروي عن ابن عباس قال: ((كانوا يشتون بمكة، فأمرهم الله تعالى أن يقيموا بالحرم، ويعبدوا رب هذا البيت)). وقيل: كانت لهم في السنة رحلتان: إحداهما في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ولا شجر، وإنما كان قريش يعيشون بتجارتهم ورحلتهم، وكان لا يتعرض له أحد بسوء، وكانت الناس تقول: سكان حرم الله، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكة مقام، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف.
[106.3-4]
الذي سبب أرزاقهم وأمنهم من خوف العدو ومن خوف الطريق. ويقال: أراد بالإطعام: أن أهل مكة كانوا أصابتهم سنون كسني يوسف بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة، فأزال الله عنهم الجوع وأمنهم بعد ارتفاع ذلك من الجذام الذي يبتلى به ذلك الوقت أهل البلد التي وراء مكة. وقيل: معناه: لا يتعرض لهم أحد في الجاهلية.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-3]
قال مقاتل والكلبي: ((نزلت في العاص بن وائل السهمي))، معناه: أرأيت أعلمت يا محمد الذي كذب بالبعث والحساب والجزاء.
وكان العاص بن وائل أول من أنكر إظهار البعث، وكان في حجره يتيم ظلمه ومنعه حقه وأكل ميراثه، وكان لا يطعم المسكين بنفسه، ولا يأمر غيره بالإطعام. وهذه السورة فيها تهديد له ولكل من يعمل عمله. قوله تعالى { يدع اليتيم } الدع: هو الدفع على وجهه العنيف.
[107.4-6]
قوله تعالى: { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون }؛ أراد بذلك المنافقين الذين يسهون في صلاتهم عن ذكر الله من حيث لا يقصدون عبادته والتقرب إليه، ولذلك قال تعالى: { الذين هم يرآءون }؛ إذا رآهم المخلصون صلوا معهم رياء، وإذا لم يروهم لم يصلوا. وفي هذا بيان أنه ليس المراد في الآية سهو نسيان.
وعن الحسن أنه قال: ((يسهون عن ميقاتها حتى تفوت))، وقال مجاهد: ((يسهون عنها، ويلهون ولا يفكرون فيها))، وعن أنس قال: ((الحمد لله الذي لم يجعل السهو ها هنا في صلاتهم، وإنما جعل السهو عن صلاتهم)). وعن عطاء بن دينار أنه قال: ((الحمد لله الذي قال: { عن صلاتهم ساهون } ولم يقل: في صلاتهم ساهون)). وقيل: الساهي عنها هو الذي إذا صلاها؛ صلاها رياء، وإذا فاتته لم يندم.
[107.7]
روي عن ابن مسعود وابن عباس ((ما يبذله الجيران بعضهم لبعض مثل الفأس والمسحاة والقدر والدلو وأشباه ذلك)). وقيل: الماعون: ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" قلت: يا رسول الله ما الذي لا يحل منعه؟ قال: " الماء والنار والملح " قلت: يا رسول الله؛ هذا الماء فما بال النار والملح؟ قال: " يا حميراء من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بذلك النار. ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب بذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق ستين رقبة، ومن سقى شربة حيث لا يوجد الماء فكأنما أحيا نفسا " ".
وعن علي رضي الله عنه: ((أن الماعون الزكاة المفروضة)).
[108 - سورة الكوثر]
[108.1]
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والكوثر في اللغة: الخير الكثير، وهو فوعل من الكثرة كنوفل من النفل. واختلفوا في الكوثر في هذه السورة، قال ابن مسعود: ((أريد به القرآن))، وقال الحسن: ((النبوة ورفعة الذكر والنصر على الأعداء)).
وعن أنس وأبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" رأيت ليلة أسري بي نهرا في الجنة، حافتاه اللؤلؤ - وقيل: من الزبرجد، وقيل: من الذهب - ومجراه على الدر والياقوت، وطينه أطيب من المسك الأذفر، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه لا يظمأ بعدها أبدا ".
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((الكوثر نهر في الجنة، من أدخل إصبعيه في أذنيه سمع خرير ذلك النهر)).
والكوثر يصب في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفة الحوض: حصاؤه الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، والدر والمرجان، وحمأته المسك الأذفر، وترابه الكافور، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، يخرج من أصل سدرة المنتهى، عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، وحوله من الآنية والأباريق عدد نجوم السماء، لا يشرب منه أحد فيظمأ بعده أبدا.
[108.2]
أي فاشكر الله على هذه النعمة العظيمة بالصلاة والنحر، قال ابن عباس: ((إنه أراد بذلك صلاة العيد، ثم نحر البدن يوم الأضحى)). وقيل: أراد بذلك صلاة الفجر في يوم النحر. وقيل: أراد بذلك جميع الصلوات المكتوبة.
[108.3]
أي مبغضك هو الأبتر الذي لا عقب له ولا خير له في الدنيا والآخرة، ونزل ذلك في العاص بن وائل السهمي، كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم على باب المسجد الحرام بعد موت عبدالله بن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم قيل للعاص: من هذا الذي كنت معه قائما تكلمه؟ قال: هذا الأبتر محمد. يريد أنه ليس له ابن يخلفه ويقوم مقامه، فأنزل الله هذه السورة إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابا للخبيث، يقول: سنميته عن أهله وماله فلا يذكر بخير أبدا، وأما أنت يا محمد فقد جعلت ذكرك مع ذكري فلا ينقطع ذكرك أبدا، والشانئ من الشنئان وهو البغض.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-5]
{ قل يأيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون }؛
" نزلت في رهط من المشركين من قريش، منهم الحارث بن قيس السهمي؛ والعاص بن وائل؛ والوليد بن المغيرة؛ والأسود بن عبد يغوث؛ والأسود بن عبد المطلب؛ وأمية بن خلف، قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا، ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فقال: " معاذ الله أن أشرك به غيره " قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك ".
فأنزل الله تعالى هذه السورة { قل يأيها الكافرون } أي قل لهم: يا أيها الكافرون توحيد الله، ليست في حالتي هذه بعابد ما تعبدون من الأصنام، { ولا أنتم عابدون مآ أعبد }؛ أي ولا أنتم عابدون إلهي بجهلكم الإخلاص في عبادة الله، { ولا أنآ عابد }؛ فيما استقبل، { ما عبدتم }؛ من الأصنام، { ولا أنتم عابدون }؛ فيما تستقبلون، { مآ أعبد }؛ إلهي الذي أعبده.
وفي هذه القصة أنزل الله تعالى
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون
[الزمر: 64]، فلما نزلت هذه السورة غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه ملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأها عليهم، فآيسوا منه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه.
وأما تكرار الكلام فمعناه: لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنتم عابدون ما أعبد في الحال، ولا أنتم عابدون ما أعبد في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال، ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال، وهذا خطاب لمن سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون.
وقال بعضهم: نزل القرآن بلغة العرب، ومن مذهب العرب التكرار في الكلام على وجه التأكيد حتما للإطماع، كما أن من مذهب الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز، ومثل هذا كثير في الكلام والأشعار، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال:
" إن بني مخزوم استأذنوني في أن ينكحوا عليا فتياتهم، فلا آذن، فلا آذن، إن فاطمة بضعة مني، يسوءني ما يسوءها، ويسرني ما يسرها ".
وكذلك قال الشاعر:
يا علقمه يا علقمه يا علقمه
خير تميم كلها وأكرمه
وقال:
أخيركم نعمة كانت
لكم كم وكم
[109.6]
قرأ نافع (ولي) بالتحريك، ومعناه: لكم جزاؤكم على عبادة الأوثان، ولي جزائي على عبادة الرحمن.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف.
[110 - سورة النصر]
[110.1-2]
{ إذا جآء نصر الله والفتح }؛ قال ابن عباس: ((نزلت هذه السورة في الحديبية))، ومعناه: إذا جاء نصر الله على الأعداء من قريش وغيرهم، وجاء فتح مكة، { ورأيت }؛ يا محمد، { الناس يدخلون في دين الله }؛ الإسلام، { أفواجا }؛ جماعات جماعات بعد أن كانوا في ابتداء الإسلام واحدا واحدا واثنين اثنين.
[110.3]
قوله تعالى: { فسبح بحمد ربك }؛ أي صل له مع شكرك إياه على إنعامه عليك، { واستغفره }؛ لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات، { إنه كان توابا }؛ أي متجاوزا على المستغفرين.
" فلما نزلت هذه السورة جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر التسبيح، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه السورة سنتين، وكان كثيرا ما يقول: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك " فقيل له في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: " قد جعلت لي علامة في أمتي، إذا رأيتها قلتها " ".
وكان الحسن يقول: ((اختموا أعمالكم بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرب أجله أمر بكثرة التسبيح والاستغفار)).
[111 - سورة المسد]
[111.1]
روي عن ابن عباس أنه قال:
" " لما " نزل قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى: " يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش فقال صلى الله عليه وسلم: " يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل قد أظلتكم أكنتم تصدقونني؟ " قالوا: نعم، قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله تعالى: { تبت يدآ أبي لهب وتب } ".
والتبات: الخسران الذي يؤدي إلى الهلاك، والمعنى: خسرت يداه من كل خير. وأضافه إلى اليدين؛ لأن العمل أكثر ما يجري على اليدين.
ومعنى قوله { وتب } أي وخسر هو بنفسه خسرانا لا يفلح بعده أبدا، واختلفوا في المعنى الذي ذكره الله بالكنية، قال بعضهم: إنما ذكره بها؛ لأنه كان اسمه عبد العزى فلذلك ذكر بالكنية. وقال بعضهم كان مشهورا بهذه الكنية. وقال بعضهم: كانت وجنتاه حمراوين.
[111.2]
أي لا تنفعه كثرة ماله في الآخرة ولا ينفعه ما أعد من الكيد والحيل. وقيل: معناه: ما أغنى عنه ماله وولده، سمي الولد كسبا؛ لأن ولد الرجل من كسبه، قال صلى الله عليه وسلم:
" إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه ".
[111.3]
أي سيدخل أبو لهب نارا لا يسكن لهبها ولا يطفأ جمرها، قرأ أبو رجاء (سيصلى) بالتشديد وضم الياء.
[111.4]
اسمها أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، يصليها الله معه، وكانت عوراء، وقوله تعالى: { حمالة الحطب } أي نقالة للكذب، قال ابن عباس: ((إنها كانت تمشي بالنميمة))، تقول العرب: فلان يحطب على فلان؛ أي ينم عليه.
وقال الضحاك: ((كانت تأتي بالشوك والفضلات، فتطرحها بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم، وكانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، فعيرها الله تعالى بالاحتطاب)).
وهو ما تحمله من الشوك. قراءة العامة (حمالة) بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ، ويجوز أن يكون نعتا وخبر المبتدأ (في جيدها)، ومن نصب (حمالة) فعلى الذم والشتم، كقوله تعالى
ملعونين
[الأحزاب: 61] والمعنى: أعني حمالة الحطب، وفي قراءة عبد الله (ومريته حمالة الحطب)، وقراءة أبي قلابة (وامرأته حاملة الحطب) على وزن فاعلة.
[111.5]
أي في عنقها حبل في الآخرة له ثقل الحديد، وحرارة النار، وخشونة الليف، وقال ابن عباس: ((معناه: في عنقها سلسلة ذرعها سبعون ذراعا من حديد، لو وضعت منها حلقة على جبل لذاب، كما يذوب الرصاص، تدخل في فيها، وتخرج من دبرها، ويلوى سائر باقيها في عنقها، وذلك لأنها كانت لها قلادة فاخرة وكانت تقول: لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم)).
ويقال: إنها اختنقت في الدنيا بحبل من ليف خنقها الله به فأهلكها، ويجعل في الآخرة في عنقها جبل من نار تساق به إلى النار.
والمسد في اللغة: الفتل، والممسود: المفتول. وقيل: المسد: الحديدة التي تدور عليها البكرة تجعل في عنقها سلسلة، وتجعل السلسلة في تلك الحديدة، فهي تجتذب بها في النار وتختلف بها في النار، كما تختلف بالدلو في البئر على البكرة، يشهرها الله بهذه العلامة في جهنم، ترفع مرة، وتخفض أخرى مع سائر أنواع العقوبات.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1]
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه السورة فروي عن ابن عباس: ((أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك الذي تدعونا إليه)). وعن مقاتل: ((أن عامر بن الطفيل العامري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنعت لنا ربك من ذهب هو أم من فضة أم من نحاس أم من حديد أم من صفر، فإن آلهتنا من هذه الأشياء؟! قال: بين لنا أيأكل ويشرب؟! وكيف هو؟ فشق على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه السورة)).
وعن سعيد بن جبير: ((أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم إنك أخبرتنا أن الله خلق السماء من دخان وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم من طين، فأخبرنا عن ربك مم خلقه؟!)). وروي أنهم قالوا: إن هذا الخلق خلق الله فمن خلقه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعل لحمه يربو عليه وحتى هم أن يباسطهم، فأوحى إليه جبريل: أن اسكن، وأنزل الله عليه هذه السورة.
وقال ابن كيسان: ((قالت اليهود: صف لنا ربك، فإنه قد نزل نعته في التوراة، فما طوله وما عرضه؟ فارتعد النبي صلى الله عليه وسلم ووضع إصبعيه في أذنيه وفاضت عيناه، فجعل أبو بكر رضي الله عنه يمسح الدموع عن وجنتيه، فأنزل الله هذه السورة جوابا لهم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا)).
والمعنى: قل لهم يا محمد: الذي سألتم عن تبيين نسبه هو الله، وهذا الاسم معروف عند جميع أهل الأديان والملل، كما قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله
[الزخرف: 87]. والأحد والواحد في اللغة بمعنى واحد، وقال ثعلب: ((واحد وأحد وفرد سواء)).
[112.2]
معناه: هو الله الذي يصمد إليه في الحوائج وإليه المفزع في الشدائد، تقول العرب: صمدت إلى فلان أصمد صمدا بسكون الميم إذا قصدته، والمصمود: المقصود.
وعن ابن عباس: (أن الصمد السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والجبار الذي قد كمل في جبروته، والغني الذي قد كمل في غناه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، فهو الله الذي له هذه الصفات كلها لا تنبغي إلا له)).
وقال قتادة: ((الصمد: الباقي بعد فناء خلقه))، وقيل: هو الدائم، وقال السدي: ((الصمد المقصود إليه في الرغائب، المستعان به عند المصائب))، والعرب تسمي السيد الصمد، قال الشاعر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وعن أبي بن كعب قال: ((الصمد الذي لم يلد ولم يولد؛ لأنه لا شيء يلد إلا سيورث، وليس شيء يولد إلا سيموت، والله سبحانه لا يورث ولا يموت)).
وكتب أهل البصرة إلى الحسن بن علي يسألوه عن معنى الصمد، فكتب إليهم: ((بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد؛ فلا تخوضوا في القرآن بغير علم، فإن الله جل ذكره قد فسر الصمد فقال: { لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد } )).
وعن محمد بن الحنفية قال: ((الصمد الغني عن غيره ))، وعن زيد بن علي قال: ((الصمد الذي أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون)).
[112.3]
أي لم يلد أحدا فيرث ملكه، ولم يولد عن أحد فيرث عنه الملك، والحاصل من هذا يرجع إلى نفي الحدث والحاجة عن الله تعالى؛ لأنه لو كان مولودا لكان محدثا، ولو كان له ولد لكان محتاجا، لأن أحدا لا يستولد إلا لحاجته إلى الولد والاستمتاع، والله تعالى منزه عن هذه الصفات كما قال تعالى:
بديع السموت والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
[الأنعام: 101].
[112.4]
تقديره: ولم يكن أحد كفؤا له؛ أي ليس كمثله شيء، و " في " قوله تعالى { كفوا } ثلاث قراءات، قرأ حمزة ويعقوب وخلف ساكنة الفاء مهموزة، ومثله مروي عن أبي عمرو ونافع، وقرأ حفص عن عاصم كفوا مثقلة غير مهموزة، وقرأ الباقون كفؤا مهموزة مضموم الفاء، والكفؤ والكفاء والكفى واحد، وهو المثل والنظير، تعالى الله عن المثل والنظير.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-2]
قال الكلبي: هذه السورة والتي بعدها أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم حين سحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، وذلك أن رجلا من اليهود يقال له: لبيد بن أعصم، سحر النبي صلى الله عليه وسلم واشتد شكواه حتى تخوف عليه.
" فبينا النبي صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان؛ أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للثاني، أي شيء به؟ قال: سحر، قال: من فعل به؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي، قال: فأين جعله؟ قال: في بئر لبني زريق، وجعله في صخرة في كوبة، قال: فما دواؤه؟ قال: نبعث إلى تلك البئر فينزح ماؤها، ثم تقلع الصخرة فتستخرج الكوبة من تحتها فيها إحدى عشرة عقدة. وإنما قال ذلك؛ لكي يفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقد فهم ما قالا.
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر في نفر من أصحابه إلى تلك البئر، فانتهى إليها عمار، وقد تغير ماؤها كهيئة الحناء من ذلك السحر، فنزحوا ذلك الماء حتى بدت الصخرة فإذا تحتها كوبة، فأخذوها وإذا في الكوبة وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأحرقت وأنزلت المعوذتان إحدى عشرة آية فحلت كل آية عقدة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما، وكان صلى الله عليه وسلم يعوذ بهما الحسن والحسين، فكان لبيد بعد ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فما رأى في وجه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك قط ولا ذاكره إياه ".
وفي بعض الروايات:
" أن بنات لبيد بن أعصم اللواتي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب بذلك لبيد فجعله في وعاء الطلع - أعني كوزي النخل - وجعله في بئر تحت صخرة، فلما أطلع الله نبيه على ذلك بعث أبا بكر وعمر حتى أخرجاه. وقيل: بعث عليا في استخراجه، فأنزل الله هاتين السورتين ".
والفلق على قول الكلبي وقتادة: ((الصبح عند بيانه وظهوره))، وعن ابن عباس: ((أن الفلق الخلق يخرجون من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم كما ينفلق الحب من النبات)). وهذا القول أعم من الأول وأقرب إلى تعظيم الله تعالى، لأن الفلق كلمة جامعة من لطائف القرآن، والله تعالى فالق الإصباح وفالق الحب والنوى، وفالق البحر لموسى.
ومعنى السورة: قل يا محمد: امتنع واعتصم واستعذ برب الفلق من شر كل ذي شر من الجن والإنس والسباع والحيات والعقارب وغيرها، وعن كعب الأحبار أنه قال: ((الفلق بيت في النار لو فتح بابه صاح جميع أهل النار من شدته)). قال السدي: ((الفلق بئر في جهنم)).
[113.3]
الغاسق: هو الليل إذا اشتدت ظلمته، ووقوب الليل دخوله في الظلام، هكذا عن قتادة، وأصل الغسق: الجريان بالضرر من قولهم: غسقت القرحة إذا جرى صديدها، والغاسق صديد أهل النار، والغاسق كل هاجم بالضرر كائنا ما كان، وسمي الليل غاسقا؛ لأنه تخرج فيه السباع من آجامها، والهوام من مكانها.
وإنما أضيف الشر إلى الليل؛ لأن الإنسان يحذر في أوقات الليل من الشر ما لا يحذر مثله بالنهار، كأنه قال تعالى: ومن شر ما في الغاسق، كما يقال: أعوذ بالله من هذا البلد إذ كثر فيه الظلم والفساد.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: ((الغاسق هو الظالم، ووقوبه دخوله على الظلم)). ويقال: الغاسق سقوط الثريا؛ لأن الطواعين والأسقام تكثر عند سقوطها، وترتفع عند طلوعها.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
" أراني رسول الله صلى الله عليه وسلم القمر فقال: " تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " "
أي إذا كسف واسود.
[113.4]
أي من شر السواحر ينفثن؛ أي يسحرن في عقد السحر، وهن الجماعات السواحر، وذلك أنهن إذا أردن الإضرار بإنسان نفثن عليه ورقينه بكلام فيه كفر وشرك وتعظيم الكواكب من الأدوية الضارة والسموم القاتلة بالاحتيال، ثم يزعمن إذا ظهر الضر عليه أن ذلك من رقاهن.
وإذا أردن نفع إنسان نفثن عليه، واحتلن أن يسقينه شيئا من الأدوية النافعة، ثم إذا اتفق للعليل خفة الوجع أوهمن أنهن اللواتي نفعنه من النفع والرقى، والنفث هو أن يلقي الإنسان بعض ريقه على من يعوذه، يقال: نفث ينفث، وتفل يتفل بمعنى واحد.
[113.5]
معناه: إن الحاسد يستعظم نعمة صاحبه ويريد زوالها، فيحمله ذلك على الظلم والبغي والاحتيال بكل ما يقدر عليه لإزالة تلك النعمة عنه. والحسد في اللغة بمعنى زوال النعمة عن صاحبها لما يدخل على النفس من المشقة بها.
ويقال: معناه: التلهف على جود الله تعالى، وهذا هو الحسد المذموم، وأما إذا تمنى لنفسه نعمة من الله تعالى مثل نعمة صاحبه من غير أن يتمنى زوالها عنه، فذلك يكون غبطة، ولا يكون حسدا.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهذه الآية: استعاذة من شر عين الحاسد، واستدل على ذلك بما روي:
" أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة أن تسترقى من العين "
، ويستحب للعائن عند إعجابه بما يراه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، كما روى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من رأى شيئا يعجبه فقال : الله الله! ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره شيء ".
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" العين حق، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا ".
وإنما ختمت السورة بالحسد، ليعلم أنه أخس من الأشياء التي قبله، وهو أخس الطبائع.
[114 - سورة الناس]
[114.1-5]
{ قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس }؛ أي قل يا محمد: امتنع واعتصم بخالق الخلق المقتدر عليهم، المالك لنفعهم وضرهم وحياتهم وموتهم، المستحق للعبادة الذي إليه مفزعهم وملجأهم، من شر الشيطان ذي الوسواس المستقر المختفي عن أعين الناس، { الذى يوسوس في صدور الناس }؛ الذي يصل بوسوسته إلى صدور الناس، كما جاء في الحديث:
" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتعوذوا بالله منه ".
قال قتادة: ((إن الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صورة الإنسان، جاثم على قلب ابن آدم، إذا غفل العبد عن ذكر الله وسوس، وإذا ذكر الله خنس)). وروي: أن عيسى عليه السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، فجلى له فإذا رأسه رأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإن لم يذكر ربه وضع رأسه على ثمرة قلبه وحدثه.
[114.6]
قيل: ذلك عائد على الوسواس، كأنه قال: شر الوسواس الذي هو من الجنة، والوسواس الذي هو من الناس. ويقال: معناه: من شر كل مارد من الجن والإنس. وقيل: إن قوله تعالى { من الجنة والناس } عائد على لفظ الناس المذكور في قوله تعالى: { في صدور الناس }؛ لأن اسم الناس يصلح للإنس والجن، كما قال تعالى
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن
[الجن: 6] فجعلهم رجالا، والشيطان يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الإنس، ودليل هذا قوله تعالى في أول السورة { قل أعوذ برب الناس } أراد به رب الإنس والجن جميعا.
Unknown page