Tafsir al-Uthaymeen: Al-Imran
تفسير العثيمين: آل عمران
Publisher
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Edition Number
الثالثة
Publication Year
١٤٣٥ هـ
Publisher Location
المملكة العربية السعودية
Genres
- أ -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد جلس فضيلة شيخنا محمد بن صالح العثيمين ﵀ للتدريس -بفضل الله تعالى- فترة طيبة مباركة تجاوزت خمسين عامًا، تناول فيها الشيخ مختلف علوم الشريعة واللغة العربية.
ولقد أولى ﵀ تفسير القرآن الكريم عناية خاصة، فوفّقه الله تعالى لاتباع منهج متميّز في بيان المعاني، وعرض المسائل العلمية وتأصيلها، وانتقاء القول الراجح المبني على الدليل ووجاهة التعليل، واستنباط الأحكام والفوائد من آيات القرآن الكريم.
وإنَّ من الدروس المسجلة صوتيًا لفضيلته، تفسيره سورة آل عمران، وقد كان ضمن سائر الدروس العلمية الأخرى التي عقدها ﵀ في الجامع الكبير بمدينة عنيزة، ابتداءً من شهر رجب عام ١٤٠٩ هـ وحتى شهر شوال عام ١٤١٢ هـ.
1 / 3
- ب -
وإنفاذًا للقواعد والتوجيهات التي قررها ﵀ لإخراج مؤلفاته ودروسه، أُعِدَّ تفسير هذه السورة للطباعة والنشر.
وفي هذا المقام تود "مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية" أن تخص بالشكر أولئك الذين شاركوا في إخراج هذا الكتاب، وهم من طلبة الشيخ ﵀ فجزاهم الله خيرًا وأجزل لهم المثوبة والأجر.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقًا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، خاتم النبيّين، وإمام المتقين، وسيّد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
٢٠/ ٣/ ١٤٢٦ هـ
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
• قال تعالى: ﴿الم (١) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [آل عمران: ١ - ٤].
قوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿الم﴾:
تقدَّم الكلام على ما يتعلق بالبسملة، وتقدَّم الكلام أيضًا على الحروف الهجائية التي ابتدأت بها بعض السور (^١).
وقوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾:
هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر. فـ ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ خبر المبتدأ. وجملة الخبر تسمى عند النحويين جملة صغرى؛ لأن الخبر إذا وقع جملة فهو جملة صغرى، والجملة الكبرى هي مجموع المبتدأ وجملة الخبر.
وقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ خبران آخران؛ ﴿الْحَيُّ﴾ خبر لـ ﴿اللهُ﴾ ثانٍ، ﴿الْقَيُّومُ﴾ خبر ثالث.
و﴿اللهُ﴾ عَلَمٌ على الذات المقدسة، علمٌ على الربِّ ﷿، وأصله الإله بمعنى المألوه، وحذفت الهمزة تخفيفًا كما حذفت الهمزة من (خير) و(شر) في مثل قول الرسول ﷺ: "خير
_________
(^١) ينظر تفسير سورة الفاتحة والبقرة (ص ١٦).
1 / 5
صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها" (^١)، أي: أخيرها وأشرها. وكما حذفت الهمزة من (الناس)، وأصلها أناس.
وهو أعرف المعارف على الإطلاق. ومعناه: المعبود حبًّا وتعظيمًا، فهو فِعال بمعنى مفعول، وما أكثر ما يأتي فعال بمعنى مفعول، كغِراس بمعنى مغروس، وبناء بمعنى مبني.
وقوله ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: أي لا معبود حقٌّ إلا هو. فـ (إله): اسم لَا النافية للجنس، وخبرها محذوف، تقديره: حق، وهناك آلهة باطلة ولكنها آلهة وُضِعَت عليها الأسماء بدون حق، كما قال الله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [يوسف: ٤٠]، وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٣]. وبهذا التقدير للخبر في ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، يزول الإشكال، وهو أنه كيف يُنفى الإله في مثل هذه الجملة، ويُثْبَتُ في مثل قوله: ﴿وَفَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [هود: ١٠١]؟ .
والجمع بينهما: أن تلك الآلهة باطلة، والإله في قوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ إله حق، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج: ٦٢].
وقوله: ﴿هُوَ﴾، (هو) ضمير وليس اسمًا لله تعالى، بخلاف قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩]. فلفظ ﴿اللَّهُ﴾ هنا عَلَم، وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
_________
(^١) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، رقم (٤٤٠).
1 / 6
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥]. فـ (أنا) هنا ضمير.
فعلى هذا نقول: (أنا) و(هو) في قوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا﴾ وقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ كلاهما ضمير رفع منفصل. فكما أن الذاكر لا يجعل (أنا) اسمًا لله، فلا يجوز أن يجعل (هو) اسمًا لله، وبهذا نعرف بطلان ذكر الصوفية الذين يذكرون الله بلفظ: هُوْ هُوْ. ويرون أن هذا الذكر أفضل الأذكار، وهو ذكر باطل.
وقوله: ﴿الْحَيُّ﴾: (أل) هنا للاستغراق، أي الكامل الحياة، وحياة الله ﷿ كاملة في وجودها، وكاملة في زمنها، فهو حي لا أول له، ولا نهاية له. حياته لم تُسْبَقْ بِعَدَمٍ، ولا يلحقها زوال، وهي أيضًا كاملة حال وجودها، لا يدخلها نقص بوجه من الوجوه، فهو كامل في سمعه وعلمه وقدرته وجميع صفاته، إذا رأينا الآدمي بل إذا رأينا غير الله ﷿ وجدنا أنه ناقص في حياته زمنًا ووجودًا. حياته مسبوقة بعدم، ملحوقة بزوال وفناء، وهي أيضًا ناقصة في وجودها، ليس كامل السمع ولا البصر ولا العلم ولا القدرة، فكلُّ حي سوى الله ناقص.
وقوله: ﴿الْقَيُّومُ﴾ على وزن فَيْعُول، وهو مأخوذ من القيام، ومعناه: القائم بنفسه، القائم على غيره، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحد، والقائم على غيره فكل أحد محتاج إليه.
وفي الجمع بين الاسمين الكريمين ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ استغراق لجميع ما يوصف الله به بجميع الكمالات. ففي "الحي" كمال الصفات، وفي "القيوم" كمال الأفعال، وفيهما جميعًا كمال الذات، فهو كامل الصفات والأفعال والذات.
1 / 7
وقوله تعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾:
﴿نَزَّلَ﴾: التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، ويكون بالتدريج شيئًا فشيئًا، كما قال الله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: ١٠٦]. وقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢].
فقوله: ﴿نَزَّلَ﴾ يفيد أن هذا القرآن من عند الله، وأنه نزل بالتدريج ليس مرة واحدة.
وقوله: ﴿عَلَيْكَ﴾ الضمير يعود على الرسول ﵊، وقد بيّن الله تعالى في آية أخرى أنه نزل على قلب الرسول ﷺ؛ ليكون أدل على وعيه لهذا القرآن الذي نزل عليه؛ كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤].
وأما التعبير بـ ﴿إِلَيْكَ﴾ في نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [الزمر: ٢]، فهو يفيد الغاية، يعني نهاية الإنزال إلى الرسول.
﴿الْكِتَابَ﴾ هو هذا القرآن، وهو فِعال بمعنى مفعول، فهو كتاب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [الواقعة: ٧٧ - ٧٨] أي اللوح المحفوظ، وهو كتاب في الصحف التي بأيدي الملائكة: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾ [عبس: ١٢ - ١٥]، وهو كتاب في الصحف التي بأيدينا، فهو مكتوب بأيدينا، ونقرؤه من هذه الكتب.
وقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ الباء يجوز أن تكون بمعنى أنه متلبس
1 / 8
بالحق أي مشتمل على الحق، فهو نازل بحق لا بباطل، ويحتمل أن تكون متعلقة بالتنزيل، يعني أنه نزول حقّ ليس بباطل. قال تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٠ - ٢١١] بعد: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٣]، فيكون ﴿بِالْحَقِّ﴾ يعني أنه نازل عليك نزولًا حقًا ليس بباطل، فهو لم يكذب ﵊ بهذا القرآن. ويحتمل أن يكون نازلًا بالحق يعني مشتملًا عليه ومتلبسًا به، والمعنيان صحيحان لا يتنافيان. والقاعدة: أن النص إذا دلَّ على معنيين صحيحين لا يتنافيان حُمل عليهما جميعًا.
وقوله تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾:
﴿مُصَدِّقًا﴾ حال من الكتاب، ولا يصح أن نجعلها صفة، لأنَّ مصدقًا نكرة، والكتاب معرفة، والصفة يجب أن تتبع الموصوف في التعريف والتنكير.
وقوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ يعني للذي بين يديه من الكتب السابقة، وتصديقه لما بين يديه له وجهان:
الوجه الأول: أنه صدقها لأنها أخبرت به فوقع مصدقًا لها.
الوجه الثاني: مصدقًا لما بين يديه أي حاكمًا عليها بالصدق.
فهو مصدق لما سبق من الكتب بالوجهين المذكورين؛ لأن الكتب أخبرت به فوقع، وإذا وقع صار تصديقًا لها. الوجه الثاني: أنه حكم بأنها صدق من عند الله ﷿، وهذا التصديق لما بين يديه يشمل الوجهين جميعًا. فالقرآن شاهد بأن التوراة حق، والإنجيل حق، والزبور حق، وصحف إبراهيم حق، وأن الله أنزل على كل رسول كتابًا، كذلك مصدقًا للكتب التي
1 / 9
أخبرت به، فإن الكتب السابقة أخبرت بهذا القرآن، أنه سينزل، ووصفت النبي ﷺ الذي سينزل عليه بأوصافه التي كانوا يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم.
وقوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي لما سبقه؛ لأنَّ الذي بين يديك سابق عليك، لأنه أمامك فهو متقدم عليك.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾:
قال: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ﴾ اختلاف التعبير يدل على اختلاف المعنى.
قال أهل العلم: إن التوراة والإنجيل نزلتا دفعة واحدة بدون تدريج بخلاف القرآن، فإنه نزل بالتدريج، وهذا من رحمة الله ﷿ على هذه الأمة، لأنه إذا نزل بالتدريج صارت أحكامه أيضًا بالتدريج، لكن لو نزل دفعة واحدة لزم الأمة أن تعمل به جميعًا بدون تدريج، وهذه من الآصار التي كتبت على من سبقنا، إذا نزلت عليهم الكتب مرة واحدة ألزموا بالعمل بها من حين أن تنزل فيما ألفوه وفيما لم يألفوه، بخلاف القرآن الكريم.
وقوله: ﴿التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾.
التوراة: هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى ﵊.
والإنجيل: هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى ﵊.
وهذان اسمان، قيل: إنهما غير عربيين، وقيل: بل هما عربيان، ولكن الذي يظهر أنهما ليسا بعربيين، ولكنه إذا نزل القرآن بشيء صار اللفظ الذي نزل به القرآن عربيًا بالتعريب.
1 / 10
قال تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾:
بضم اللام مبنيًا، على القاعدة المعروفة فيها وفي أخواتها: أنه إذا حذف المضاف، وَنُوي معناه بُنيت على الضم.
وقوله تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾:
﴿هُدًى﴾: مفعول لأجله متعلق بـ (نزل) و(أنزل)، أي: نزَّل عليك الكتاب هدى للناس، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، فهي مفعول من أجله، أي: من أجل هداية الناس. والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة التي يترتب عليها هداية التوفيق.
لكن الأصل في هذه الكتب أنها هداية دلالة، ولهذا قال: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ عمومًا، حتى الكفار تهديهم وتدلهم، وتبيِّن لهم الحق من الباطل، لكن قد يُوفَّقون لقبول الحق والعمل به، وقد لا يُوفَّقون.
والهدى ضد الضلال، واهتدى بمعنى سار على الطريق الصواب، وضلَّ بمعنى انحرف وتاهَ وضاع، ومنه سميت (الضالة) يعني البعير التائه الضائع.
وقوله: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ والمراد بالناس: البشر وهم بنو آدم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾:
ليس المراد بالفرقان هنا القرآن، بل المراد: أنزل ما يبيِّن به الفرق بين الحق والباطل. وإنما قلنا ذلك لأننا لو خصصناه بالقرآن لكان في ذلك تكرار مع قوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾، مع أن التوراة والإنجيل فيهما أيضًا فرقان، أي: فيهما تفريق بين الحق والباطل. إذن أنزل الفرقان الذي تضمنته هذه الكتب الثلاث وهي القرآن والتوراة والإنجيل.
1 / 11
وكلمة "الفرقان" كلمة واسعة تشمل كل ما به الفرق من جميع الوجوه بين أهل الحق وأهل الباطل، وبين النافع والضار، وبين الأنفع والنافع، وبين الأضر والضار وغير ذلك.
ولما ذكر الله ﷾ منَّتَه على عباده بإنزال هذه الكتب العظيمة قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني بعد إنزال هذه الكتب الواضحة الهادية المفرقة انقسم الناس إلى قسمين: قسم آمن، وقسم كفر. فَذَكر الله حكم الكافر، وبذكره يتبين حكم المؤمن.
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾:
كفروا: يقال: إن أصل الكفر من الستر، ويطلق على الجحود؛ لأن الجاحد ساتر، و﴿كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ أي جحدوها وأنكروها، وقلنا: إن الكفر من الستر لأن منه الكُفُرَّى. والكُفُرَّى: وعاء طلع النخل؛ لأنه يستر الطلع. فالكافر في الحقيقة ساتر، أي: جاحد للحق مخفٍ له.
﴿كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾: الآيات جمع آية. والآيات هي العلامات الدالة على وجود الله ﷿، وعلى كماله الذاتي، وعلى كماله الفعلي، والآيات نوعان:
١ - آيات كونية:
ومنها السموات والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب والإنسان، واختلاف اللغات، واختلاف الألوان، والنوم واليقظة، وأشياء كثيرة.
٢ - آيات شرعية:
وهي الوحي المنزَّل على الرسل.
1 / 12
ووجه كون الآيات الكونية آية: أنه لا يستطيع أحد أن يفعل مثل فعل الله ﷿ أبدًا. قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج: ٧٣].
ووجه كون الآيات الشرعية من آيات الله: أنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثل شرع الله في هداية الخلق وإصلاحهم أبدًا، لو اجتمع جميع مفكري العالم ليأتوا بدستور يُصلح الخلق كما يُصلحه الوحي، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨].
لكن الآيات الكونية قد يعقلها كثير من الناس؛ لأنها آيات محسوسة مشهودة، حتى الكافر تقول له: هل تستطيع أن تخلق الذباب، يقول: لا أستطيع. أما الآيات الشرعية فليس كل أحد يدركها، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (٨) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ٧ - ١٤]، فالإنسان إذا اجتمعت الذنوب على قلبه -نسأل الله أن يطهرنا وإياكم منها- صار لا يرى الحق حقًّا ولا الباطل باطلًا، عمي -والعياذ بالله- يُتلى عليه القرآن فيقول: هذه أساطير الأولين ليس كلام رب العالمين. ولهذا نقول: إن الآيات الشرعية هي التي فيها الامتحان والابتلاء، ومن ثَمَّ لم ينكر أحد ربوبية الله، كلٌّ مُقِرٌّ بأن اللهَ ربُّ العالمين، وأنه الذي خلق السموات والأرض، لكن الآيات الشرعية أُنْكِرَتْ.
1 / 13
فقريش كانوا إذا سُئلوا: مَنْ خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. لكن قالوا في القرآن: إنه كهانة وشعر وسحر وما أشبه ذلك.
وقوله: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾:
والعذاب هنا بمعنى العقوبة، والشديد: القوي. يعني العقوبة قوية -والعياذ بالله- وقد ذكر الله تعالى في القرآن، وذكر نبي الله ﷺ في السنّة أصنافًا وأنواعًا من هذا العذاب تقشعر منه الجلود، وتوجل منه القلوب. قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ [الكهف: ٢٩] إن يستغيثوا، ولا يستغيثون إلا لشدة الحر والظمأ، فإذا أغيثوا يؤتون بماء يشوي الوجوه، إذا أقبلوا به إلى أفواههم ليشربوه شوى وجوههم والعياذ بالله.
قال تعالى: ﴿بِئْسَ الشَّرَابُ﴾ [الكهف: ٢٩] هذا شرابهم.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾ [الدخان: ٤٣ - ٤٦] هذا طعامهم.
وأما لباسهم فقال تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: ٥٠].
ومقرهم: قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥٥].
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ٥٦].
ولأهل هذا العذاب الصراخ والعويل. قال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾
1 / 14
فيقال لهم توبيخًا: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر: ٣٧].
والسنّة مملوءة بذكر أصناف العقاب الذي يعاقب به هؤلاء، فهو عذاب شديد.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾:
عزيز: أي: ذو العزة، وهي ثلاثة أصناف:
١ - عزة القَدْر.
٢ - عزة القهر.
٣ - عزة الامتناع.
عزة القدر:
بمعنى أن الله ذو قَدْرٍ شريف عظيم، كما قال النبي ﵊: "السيد الله" (^١). هذه عزة القدر.
وعزة القهر:
بمعنى أنه القاهر لكل شيء، لا يُغْلَب، بل هو الغالب. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٨].
وقال الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
فالله سبحانه غالب على كل شيء.
وعزة الامتناع:
أي: أنه ﷿ يمتنع أن يناله سوء أو نقص، ومن هذا
_________
(^١) أخرجه أحمد (٤/ ٢٤ - ٢٥). والبخاري في الأدب المفرد (٢١١). وأبو داود، كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، رقم (٤٨٠٦). والنسائي في عمل اليوم والليلة (٢٤٧). قال الحافظ في الفتح (٥/ ١٧٩): ورجاله ثقات، وقد صححه غير واحد.
1 / 15
المعنى قولهم: هذه أرض عَزَاز، أي: صلبة قوية لا تؤثر فيها المعاول.
وقوله: ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾: أي صاحب انتقام، والانتقام أخذ المجرم بإجرامه. تقول: انتقمت من زيد. يعني: أخذت بحقي منه. قال الله تعالى: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [السجدة: ٢٢].
وهنا قال: "ذو انتقام" ولم يقل "ذو الانتقام". وفي الرحمة قال: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الكهف: ٥٨] ولم يقل: "ذو رحمة". وإن كان قد قال في آية أخرى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ [الرعد: ٦]؛ لأن الانتقام ليس من أوصاف الله المطلقة، وليس من أسماء الله المنتقم. فـ (المنتقم) لا يوصف الله به إلا مقيدًا؛ فيقال: المنتقم من المجرمين، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [السجدة: ٢٢]. أما ﴿ذُو انْتِقَامٍ﴾ فهي لا تعطي معنى الانتقام المطلق؛ لأن (انتقام) نكرة، فلا تعطي المعنى على الإطلاق، بل له انتقام مقيد بالمجرمين، ونحوهم.
وبهذا نعرف أن الأسماء المسرودة في الحديث الذي رواه الترمذي لا تصح عن النبي ﷺ (^١)، لأنها ذُكِرَ فيها من أسماء الله المنتقم، وهذا لا يصح، وحُذِفَ من أسماء الله ما ثبتت به الأحاديث فلم يُذكر فيها مثل: الشافي، والرب.
_________
(^١) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد، رقم (٣٥٠٧)، وقال: "غريب". وابن حبان (٢٣٨٤)، وقال ابن حزم في المحلى (٨/ ٣١): وقد جاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسمًا مضطربة لا يصح منها شيء أصلًا، فإنما تؤخذ من نص القرآن، ومما صح عن النبي ﷺ.
1 / 16
من فوائد الآيات الكريمة:
١ - إثبات ألوهية الله ﷿، لقوله: ﴿اللَّهُ﴾.
٢ - انفراده بهذه الألوهية، لقوله: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾.
٣ - إثبات اسمين من أسماء الله ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾. وقد ورد أنهما اسم الله الأعظم، لاشتمالهما على كمال الذات والصفات والأفعال.
٤ - إثبات حياته وقيوميته؛ لأنَّ كل اسم فإنه متضمن للصفة، وقد يتضمن أمرًا زائدًا وهو الحكم الذي يسمى الأثر.
٥ - أن كل شيء مفتقر إلى الله، وأن الله غني عما سواه، ووجه ذلك: أنّ كمال حياته يستلزم غناه عن كل أحد، وكمال قيوميته يستلزم افتقار كل شيء إليه، وهو كذلك. قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣].
٦ - إثبات علو الله؛ لقوله: ﴿نَزَّلَ﴾، ﴿وَأَنزَلَ﴾. والنزول لا يكون إلا من أعلى.
٧ - أن القرآن الكريم منزل؛ لقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ﴾، ومجرد كونه منزلًا لا يستلزم ألا يكون مخلوقًا؛ لأن الله قد ينزل المخلوق. قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ [ق: ٩]، وقال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الرعد: ١٧] والماء مخلوق. لكن بالنظر لكون القرآن كلامًا يستلزم ألا يكون مخلوقًا؛ لأن الكلام صفة المتكلم، وصفة الخالق غير مخلوقة.
إذن فيؤخذ أن القرآن غير مخلوق لكونه نزل من عند الله وهو كلام، والكلام صفة المتكلم، والصفة تابعة للموصوف.
٨ - فضل رسول الله ﷺ وميزته؛ لقوله: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ
1 / 17
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾، والله ﷾ قد يضيف الإنزال إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا﴾ [البقرة: ١٣٦]، وفي سورة آل عمران: ﴿قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [آل عمران: ٨٤]، لكنه أنزل إلى الرسول مباشرة وإلينا بواسطة الرسول ﷺ، وهو الذي بلغه إلينا، ومعلوم أن الأصل أشرف من الفرع.
٩ - أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على محمد ﷺ مشتمل على الحق، لقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾. فقد جاء بالحق، ونزل به. قال تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: ١٠٥]، فالحق في الأخبار الصدق، والحق في الأحكام العدل، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥].
١٠ - أن القرآن نفسه حق. يؤخذ من قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ يعني: أنه نزل نزولًا بحق ليس نزولًا كذبًا باطلًا.
١١ - فضيلة القرآن لوصفه بالحق نزولًا وتضمنًا، ولوصفه بالتصديق لما بين يديه.
١٢ - الإشارة إلى أن هذا القرآن قد أخبرت عنه الكتب السابقة.
١٣ - جواز التعبير بما يخالف الظاهر إذا دلّ عليه السياق كما في قوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، لأن الكلمة دلت على معناها في سياقها، وإن كان يخالف أصل الوضع.
١٤ - أن التوراة النازلة على موسى، والإنجيل النازل على عيسى عليهما الصلاة والسلام حق؛ لقوله: ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾.
1 / 18
١٥ - الإشارة إلى أن التوراة والإنجيل قد نسخا بالقرآن، وقد صرح بذلك في سورة المائدة. قال تعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨].
مسألة: المعروف عند السلف أن التوراة والإنجيل من كلام الله، لكن لا أذكر حتى الآن دليلًا على وصفهما بأنهما من كلام الله، إنما وصفهما الله بأنها منزَّلة، وأنها كتب، والله تعالى يقول: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥]، وجاء في الحديث: "إن الله كتب التوراة بيده" (^١). فأنا أتوقف في هذا، لكن السلف كلامهم واضح يقولون: إن التوراة والإنجيل من كلام الله. ويكفي أن نؤمن بأنها نازلة من عند الله.
١٦ - رحمة الله ﷿ بعباده، وعنايته بهم حيث كان ينزل الكتب على رسله هدى للناس.
١٧ - إثبات الحكمة لله تعالى في أحكامه الشرعية كما تثبت في أحكامه الكونية، لقوله: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾.
ومن أسماء الله تعالى الحكيم، وهو ذو الحكمة. والحكمة هي إصابة الصواب، وإن شئت فقل: وضع الشيء في موضعه، وإن شئت فقل: إتقان الشيء وإحكامه. فإذا وقع من أفعال الله أو من شرع الله ما لا نعلم له حكمة فليس ذلك إلا لقصور فهمنا، وعجزنا عن إدراك الحكمة. وإذا وقع ما نظن أنه على خلاف الحكمة فما ذاك إلا لسوء فهمنا، فالذي يظن أنه ليس له حكمة قاصر الفهم،
_________
(^١) أخرجه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى ﵉، رقم (٢٦٥٢).
1 / 19
والذي يظن أنه على خلاف الحكمة سيئ الفهم، أما سليم الفهم الذي يعطيه الله تعالى فهمًا فستتبين له الحكمة، ومع ذلك لا يمكن أن ندرك كل وجوه الحكمة؛ لأن حكمة الله ﷿ لا تدرك غايتها، والإنسان بشر ناقص، وكم من أحكام شرعية تظن أن حكمتها كذا وكذا ثم يتبين لك أن لها حِكَمًا أخرى، أو ربما يتبين لك أن هذه ليست الحكمة بل الحكمة شيء آخر، إنما يجب عليك أن تؤمن بأنه ما من حكم لله كوني أو شرعي إلا وله حكمة.
ولا يلزم على هذا أن تذهب مذهب المعتزلة في وجوب فعل الصلاح، أو وجوب فعل الأصلح، على الله لأمرين:
الأول: قد تظن أن هذا هو الأصلح، وليس الأصلح. ولنضرب لهذا مثلًا: نحن نظن أن الأصلح نزول الغيث، وخصب الأرض، فإذا امتنع المطر وأجدبت الأرض فقد يكون هذا هو المصلحة! ونحن لا نعلم.
إذن لا يمكن أن نقول: يجب على الله كذا لأنه أصلح، إذ قد يكون ما قلنا إنه الأصلح هو الأفسد! .
الثاني: إذا تحققنا أنه الأصلح فإنه يجب بمقتضى الحكمة لا بمقتضى العقل. فنحن لا نوجب على الله بعقولنا، والعقل لا يوجب على الله شيئًا، لأن العقل مخلوق ناقص، فلا يوجب على الكامل الأزلي الأبدي شيئًا، فإذا وجب فعل الأصلح فإنما الذي أوجبه على نفسه الله. قال الله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤] وقال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ [الليل: ١٢]. فأوجب على نفسه أن يهدي الناس ويدلهم، فإذا ثبت أن هذا هو الأصلح فقد وجب على الله بمقتضى حكمته وإيجابه على
1 / 20
نفسه، لا بمقتضى عقولنا وإيجابنا عليه، وبهذا ننفك عن قول المعتزلة الذين يرون أن العقل هو الذي يوجب الشيء أو الذي يمنع الشيء، أو الذي يقبح الشيء أو الذي يحسِّن الشيء. ومن ذلك مثلًا: البيان للخلق، بيان الشرائع للخلق وما يجب عليهم نحو ربهم، وما يجب عليهم نحو عباد الله، واجب على الله بمقتضى الحكمة، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ [الليل: ١٢].
١٨ - أن هداية القرآن نوعان: عامة، وخاصة. فالعامة مثل هذه الآية: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾. والخاصة مثل قوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] والفرق بينهما أن الهداية التي بمعنى الدلالة عامة؛ لقوله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥]، والهداية التي بمعنى التوفيق والاهتداء خاصة بالمتقين.
١٩ - أن الكتب كلها فرقان تتضمن الفرق بين الحق والباطل، وبين الصدق والكذب، وبين المؤمن والكافر، وبين الضار والنافع، كل ما يمكن أن يكون فيه فرق فإن الكتب تفرقه.
٢٠ - أنه يمتنع أن تجمع الكتب السماوية بين مختلفين، أو أن تفرق بين متماثلين أبدًا؛ لأن الفرقانَ هو الذي يفرق بين شيئين مختلفين. أما شيئان لا يختلفان فلا تفريق بينهما، ويتفرع على هذه الفائدة إثبات القياس؛ لأن القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة، فهو جمع بين متماثلين، وعدم الأخذ بالقياس تفريق بين متماثلين.
٢١ - أنه كلما اهتدى الإنسان للفروق كان أعظم اهتداء بالكتب المنزلة من الله؛ لأن الكتب كلها فرقان. فمثلًا: إذا كان
1 / 21
الإنسان يفرق بين الشرك الأصغر والأكبر، وبين النفاق الاعتقادي والعملي، وبين الكفر الأكبر والأصغر، وبين الحلال والحرام، كان أشد اهتداء بالكتب ممن لا يفرق.
وربما يؤخذ من هذا أيضًا الإشارة إلى أنه ينبغي الاعتناء بمعرفة الفروق بين الأشياء المتشابهة، وهذا فن أخذ به بعض أهل العلم ولاسيما في كتب الفقه، فيذكرون مثلًا: الفروق بين البيع والإجارة، بين الإجارة والجعالة، بين الرهن والضمان، بين الضمان والكفالة، بين الفرض والتطوع، وهذه من فنون العلم الشريفة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، كذلك في العقائد والتوحيد يفرق بين الشرك الأكبر والأصغر، فرجل حلف بغير الله نقول: هو مشرك. ورجل عبد صنمًا نقول -أيضًا-: هو مشرك، لكن بينهما فرق عظيم. العابد للصنم شركه أكبر، والحالف بغير الله شركه أصغر إلا أن يضاف إلى حلفه بغير الله جَعْله المحلوف به كالله تعالى في التعظيم، فحينئذ يكون شركًا أكبر لا من حيث القسم، ولكن من حيث إنه جعل رتبة المحلوف به كرتبة الخالق.
٢٢ - بيان عقوبة الكفار وهي العذاب الشديد، وذكر عقوبة الكافر تستلزم التحذير من الكفر.
٢٣ - الإشارة إلى أن الناس ينقسمون إلى قسمين:
كافر له العذاب الشديد، ومؤمن له الثواب الجزيل، لأنه إذا ذكر عقوبة الضد، فإن ضده تثبت له ضد تلك العقوبة، ولهذا لما قال رسول الله ﷺ: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في
1 / 22