Tafsir Al-Shaarawi

Al-Shaarawi d. 1418 AH
60

Tafsir Al-Shaarawi

تفسير الشعراوي

Genres

وجاءت الغفلة إلى القلوب بمرور الوقت، فنقضوا العهد واتخذوا آلهة من دون الله.. إذن: أول صفات الفاسقين أنهم نقضوا عهد الله، والذي ينقض عهدا مع بشر، فسلوكه هذا لا يقبله الحق سبحانه وتعالى حتى مع الكفار وغير المؤمنين. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين

[التوبة: 4]. وهكذا نرى أن الحق تبارك وتعالى حين أعلن براءته وبراءة رسوله صلى الله عليه وسلم وبراءة المؤمنين من كل كافر مشرك في قضية إيمانية كبرى، حرم الله فيها على الكفار والمنافقين أن يقتربوا من بيته الحرام في مكة، احترم جل جلاله العهد، حتى مع المشركين، وطلب من المؤمنين أن يوفوا به. فإذا كان هذا هو المسلك الإيماني مع كل كافر ومشرك إن كنت قد عاهدته عهدا فأوف به إلى مدته. فكيف بالمشركين وقد عاهدوا الخالق الأعظم، ثم ينقضون عهده الموثق، إنهم قد خانوا منهج الله وعهده، وإذا لم يكن لهم عهد مع الله سبحانه وتعالى، فهل يكون لهم عهد مع خلق الله؟! إذن: فالفاسقون أول صفاتهم أنه لا عهد لهم مع خالقهم، ولا عهد لهم مع الناس، ولذلك لا نأمن لهم أبدا. ثم تأتي بعد ذلك الصفة الثانية للفاسقين في قوله تعالى: { ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل.. } [البقرة: 27] وما أمر الله به أن يوصل هو صلة الرحم. فقد أمرنا الله تعالى بأن نصل أرحامنا، فنحن كلنا أولاد آدم. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع

" كلكم لآدم وآدم من تراب ".

وهكذا نرى أن هناك روابط إنسانية يلفتنا الله سبحانه وتعالى إليها. وهذه الروابط تبدأ بالأسرة ثم تتسع لتشمل القرية أو الحي، ثم تتسع لتشمل الدولة والمجتمع، ثم تتسع لتشمل المؤمنين جميعا، ثم تتسع لتشمل العالم كله. هذه هي الإخوة الإنسانية التي يريد الحق تبارك وتعالى أن يلفتنا إليها. ولكن اللفتة هنا لا تقتصر على الناحية الإنسانية، بل تسجل أن ما فعلوا معصية، ومخالفة لأمر الله تعالى. فالله أمر بأن نصل الرحم، وجاء هؤلاء وخالفوا وعصوا ما أمر الله به، وقطعوا هذه الصلة. إذن: فالمسألة فيها مخالفة لمنهج، وعصيان لأمر من أوامر الله سبحانه وتعالى. فصلة الرحم توجد نوعا من التكافل الاجتماعي بين البشر. فإذا حدث لشخص مصيبة.. أسرع أقاربه يقفون معه في محنته، ويحاول كل منهم أن يخفف عنه. هذا التلاحم بين الأسرة يجعلها قوية في مواجهة الأحداث، ولا يحس واحد منها بالضياع في هذا الكون، لأنه متماسك مع أسرته، متماسك مع حيه أو قريته، وهكذا يختفي الحقد من المجتمع، ويختفي التفكك الأسري.

ولعلنا إذا نظرنا إلي المجتمعات الغربية التي يعتريها تفكك الأسرة، نجد أن كل واحد منهم قد ضل طريقه وانحرف لأنه أحس بالضياع، فانحرف إلى المخدرات أو إلى الخمر أو إلى الزنا وغير ذلك من الرذائل التي نراها. جيل ضائع. من الذي أضاعه؟ عدم صلة الرحم. وإذا تحدثنا عن الانحرافات التي نراها بين الشباب اليوم فلا نلوم الشباب، ولكن نلوم الآباء والأمهات الذين تركوا أولادهم وبناتهم وأهدروا صلة الرحم. فشب جيل يعاني من عقد نفسية لا حدود لها، إن الابن الذي يفقد جو الأسرة، يفقد ميزان حياته. والله سبحانه وتعالى يريد المؤمنين متضامنين متحابين خالين من كل العقد التي تحطم الحياة. إذن فعدم صلة الرحم تضيع أجيالا بأكملها. ونأتي بعد ذلك إلي الصفة الثالثة من صفات الفاسقين بقوله تعالى: { ويفسدون في الأرض.. } [البقرة: 27]. نقول: كل ما في الكون مخلوق على نظام دقيق:

والذي قدر فهدى

[الأعلى: 3] أي: كل شيء له هدى لابد أن يتبعه. ولكن الإنسان جاء في مجال الاختيار وأفسد قضية الصلاح في الكون. ومن رحمة الله أنه جعل في كونه خلقا يعمل مقهورا، ليضبط حركة الكون الأعلى. فالشمس والنجوم والأرض وكل الكون ما عدا الإنس والجن، يسير وفق نظام دقيق. لماذا؟ لأنه يسير بلا اختيار له. والحق جل جلاله أخبرنا بأنه لكي يعتدل ميزان حياتنا، فلنحكم أنفسنا بمنهج الله. كما أن الكون المقهور محكوم بمنهج الله. فليس معنى الاختيار الإنساني أن نبتعد عن منهج الله. لأن الله له صفة القهر. فهو يستطيع أن يخلقنا مقهورين، ولكنه أعطانا الاختيار حتى نأتيه عن حب. وليس عن قهر. فأنت تحب الشهوات ولكنك تحب الله أكثر.. فتقيد نفسك بمنهج الله. إذن: فالاختيار لم يعط لنا لنفسد في الأرض. ولكنه أعطي لنا، لنأتي الله سبحانه وتعالى طائعين ولسنا مقهورين. ولذلك فكل منا مختار في أن يؤمن أو لا يؤمن، وهذا الاختيار يثبت محبوبية الله سبحانه وتعالى في قلوبنا، ولكن الإنسان بدلا من أن يأخذ الاختيار ليأتي الله عن حب، فينال الجزاء الأعظم، أخذه ليفسد في الأرض. والفساد أن تنقل مجال " افعل، ولا تفعل ". فتضع هذه مكان هذه، فينقلب الميزان أي: أنك - فيما قال الله فيه " افعل ". لا تفعل، وفيما قال: " لا تفعل " ، تفعل. فتكون قد جعلت ميزان حياتك معكوسا، لماذا؟ لأننا غير محكومين بقاعدة كلية تنظم حياة الناس. فكل واحد سيضع قاعدة له، وكل واحد لن يفعل، ما عليه، فيحدث تصادم في الحياة، وكل فساد يشكل قبحا في الوجود، فهب أنك تسير في الطريق، وترى عمارة مبنية حديثا قد تسربت المياه من مواسيرها. عندما ترى ذلك تتأذى لأن هناك قبحا في الوجود، في عدم أمانة إنسان في عمله.

إذن: فحين يفسد عامل واحد، بعدم الإخلاص في عمله، يفقد الكون نعمة يحبها الله في أن ترى الشيء الجميل. فتقول: الله. فكل إنسان غير أمين في عمله يفسد في الكون، وكل إنسان غير أمين في خلقه يفسد في الكون، ويعتدي على حرمات الآخرين وأموالهم، وهذا يجعل الكون قبيحا، فلا يوجد إنسان يأمن على عرضه وماله. لقد أراد المعتدي أن يحقق ما ينفع به نفسه عاجلا، ولكنه أحدث فسادا في الكون، كذلك عندما يغش التاجر الناس، وعندما يكتسب الإنسان المال بالنهب والسرقة، فيفتح الله عليه أسوأ مصارف المال في الوجود، فهو أخذ الحسرة بالفساد في الأرض. والفساد في الأرض أن تخرج الشيء عن حد اعتداله، فتسرف في شهواتك وتسرف في أطماعك، وتسرف في عقابك للناس، وتسرف باعتدائك على حقوق الغير. والفساد في الأرض، أن يوجد منهج مطبق غير منهج الله. إن غياب منهج الله معناه أن يصبح كل منا عبد أهوائه، وإذا صارت الأمور حسب أهواء الناس جاءت لهم حركة الحياة بالشقاء والشر بدلا من السعادة والأمن. إن ما نراه اليوم من شكوى الناس علامة على الفساد. لأن معناها: أن الناس تعاني ولا أحد يتحرك ليرفع أسباب هذه الشكوى. ولن يستقيم أمر هذا الوجود، ويتخلص من الفساد إلا إذا حكمنا منهج لا هوى له، والذي لا هوى له هو خالق البشر واضع ميزان الكون. وأول مظاهر الفساد أن يوكل الأمر إلى غير أهله. لأنه إذا أعطي الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

" إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ".

Unknown page