. وبعد ذلك جاءت القرون المتقدمة فاستطعنا أن نستخدم آلات حديثة متطورة تقوم بعملية الحرث والبذر. ولكن الحقيقة الثابتة التي لم تتغير منذ بداية الكون ولن تتغير حتى نهايته.. هي أن مهمة الانسان أن يحرث ويضع البذرة في الأرض ويسقيها.. أما نمو الزرع نفسه فلا دخل للإنسان فيه، وكذلك الثمر الذي ينتجه لا عمل للإنسان فيه. ولقد نبهنا الله تبارك وتعالى إلى هذه الحقيقة حتى لا نغتر بحركتنا في الحياة ونقول إننا نحن الذين نزرع .. واقرأ قول الحق جل جلاله في سورة الواقعة:
أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشآء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون
[الواقعة: 63-67]. وهكذا ظلت مهمة الفلاحة في الأرض مقصورة على الحرث والسقي والبذر، وحينما تلقى الحبة في الأرض يخلق الله في داخلها الغذاء الذي يكفيها حتى تستطيع أن تأخذ غذاءها من الأرض، وإذا جئت بحبة وبللتها تجد أنها قد نبت لها ساق وجذور.. من أين جاء هذا النمو؟. من تكوين الحبة نفسها، والله تبارك وتعالى قد قدر في كل حبة من الغذاء ما يكفيها حتى تستطيع أن تتغذى من الأرض.. وعلى قدر كمية الغذاء المطلوبة يكون حجم الحبة.. وحين تضعها في الأرض فإنها تبدأ أولا بأن تغذي نفسها.. بحيث ينبت لها ساق وجذور وورقتان تتنفس منهما.. كل هذا لا دخل لك فيه ولا عمل لك فيه.. وتبدأ الحبة تأخذ غذاءها من الأرض والهواء، لتنمو حتى تصبح شجرة كبيرة تنتج الثمر من نوع البذرة نفسه. ومن هنا جاءت كلمة المفلحون.. ليعطينا الحق جل جلاله من الأمور المادية المشهودة ما يعين عقولنا المحدودة على فهم الغيب.. فيشبه التكليف وجزاءه في الآخرة بالبذور والفلاحة.. أولا لأنك حين ترمي بذرة في الأرض تعطيك بذورا كثيرة. واقرأ قول الله سبحانه وتعالى:
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم
[البقرة: 261]. وإذا كانت الأرض وهي المخلوقة من الله تهبك أضعاف أضعاف ما أعطيتها.. فكيف بالخالق؟.. وكم يضاعف لك من الثواب في الطاعة؟.. هذا هو السبب في أن الحق تبارك وتعالى يقول: { وأولئك هم المفلحون } [البقرة: 5].. حتى يلفتنا بمادة الفلاحة.. وهي شيء موجود نراه ونشهده كل يوم. وكما أن التكليف يأخذ منك أشياء ليضاعفها لك.. كذلك الأرض أخذت منك حبة ولم تعطك مثل ما أخذت، بل أعطتك بالحبة سبعمائة حبة.. وهكذا نستطيع أن نصل بشيء مشهود يفصل لنا شيئا غيبيا.
[2.6]
وبعد أن تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين وصفاتهم، وجزائهم في الآخرة وما ينتظرهم من خير كبير.. أراد أن يعطينا تبارك وتعالى الصورة المقابلة وهم الكافرون.. وبين لنا أن الإيمان جاء ليهيمن على الجميع، يحقق لهم الخير في الدنيا والآخرة.. فلابد أن يكون هناك شر يحاربه الإيمان، ولولا وجود هذا الشر.. أكان هناك ضرورة للإيمان.. إن الإنسان المؤمن يقي نفسه ومجتمعه وعالمه من شرور يأتي بها الكفر. والكافرون قسمان: قسم كفر بالله أولا ثم استمع إلى كلام الله، واستقبله بفطرته السليمة فاستجاب وآمن.. وصنف آخر مستفيد من الكفر ومن الطغيان ومن الظلم ومن أكل حقوق الناس وغير ذلك، وهذا الصنف يعرف أن الإيمان إذا جاء فإنه سيسلبه جاها دنيويا ومكاسب يحققها ظلما وعدوانا. إذن: الذين يقفون أمام الإيمان هم المستفيدون من الكفر، ولكن ماذا عن الذين كانوا كفارا واستقبلوا دين الله استقبالا صحيحا. هؤلاء قد تتفتح قلوبهم فيؤمنون. والكفر معناه الستر.. ومعنى كفر أي ستر.. وكفر بالله أي ستر وجود الله جل جلاله، والذي يستر لابد أن يستر موجودا، لأن الستر طارئ على الوجود.. والأصل في الكون هو الإيمان بالله.. وجاء الكفار يحاولون ستر وجود الله. فكأن الأصل هو الإيمان ثم طرأت الغفلة على الناس فستروا وجود الله سبحانه وتعالى.. ليبقوا على سلطانهم أو سيطرتهم أو استغلالهم او استعلائهم على غيرهم من البشر. ولفظ الكفر في ذاته يدل على أن الإيمان سبق ثم بعد ذلك جاء الكفر.. كيف؟. سجود الملائكة وتعليم الأسماء أمر مشهدي بالنسبة لآدم.. والكفر ساعتها لم يكن موجودا.. وكان المفروض أن آدم بعد أن نزل إلى الأرض واستقر فيها.. يلقن أبناءه منهج عبادة الله لأنه نزل ومعه المنهج في افعل ولا تفعل وكان على أبناء آدم أن يلقنوا أبناءهم المنهج وهكذا.. لأن الخلق الأول وهو آدم الذي خلقه الله بيديه.. ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة.. وعلمه الأسماء كلها. ولكن بمرور الزمن جاءت الغفلة في أن الإيمان يقيد حركة الناس في الكون.. فبدأ كل من يريد أن يخضع حياته لشهوة بلا قيود يتخذ طريق الكفر.. والعاقل حين يسمع كلمة كفر.. يجب عليه أن يتنبه إلى أن معناها ستر لموجود واجب الوجود.. فكيف يكفر الإنسان ويشارك في ستر ما هو موجود.. لذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
[البقرة: 29]. وهكذا يأتي هذا السؤال.. ولا يستطيع الكافر له جوابا!! لأن الله هو الذي خلقه وأوجده.. ولا يستطيع أحد منا أن يدعي أنه خلق نفسه أو خلق غيره، فالوجود بالذات دليل على قضية الإيمان، ولذلك يسألهم الحق تبارك وتعالى كيف تكفرون بالله وتسترون وجود من خلقكم؟. والخلق قضية محسومة لله سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يدعيها.. فلا يمكن أن يدعي أحد أنه خلق نفسه.. قضية أنك موجود توجب الإيمان بالله سبحانه وتعالى الذي أوجدك.. إنه عين الاستدلال على الله، وإذا نظر الإنسان حوله فوجد كل ما في الكون مسخرا لخدمته والأشياء تستجيب له فظن بمرور الزمن أن له سيطرة على هذا الكون.. ولذلك عاش وفي ذهنه قوة الأسباب.. يأخذ الأسباب وهو فاعلها فيجدها قد أعطته واستجابت له.. ولم يلتفت إلى خالق الأسباب الذي خلق لها قوانينها فجعلها تستجيب للإنسان، وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى ذلك في قوله جل جلاله:
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى
Unknown page