يعطينا الحق تبارك وتعالى هنا الحكمة.. فيما رواه لنا عن بني إسرائيل وعن قصصهم. لأنهم سيكون لهم دور مع المسلمين في المدينة، ثم في بيت المقدس، ثم في المسجد الأقصى.. فهو يروي لنا كيف أتعبوا نبيهم وكيف عصوا ربهم. وكيف قابلوا النعمة بالمعصية والرحمة بالجحود. وإذا كان هذا موقفهم يا محمد مع الله ومع نبيهم.. فلا تطمع أن يؤمنوا لك ولا أن يدخلوا في الإسلام، مع أنهم عندهم التوراة تدعوهم إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام.. هذه الآيات تحمل أعظم تعزية للرسول الكريم. وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه عليه البلاغ فقط ولكن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمن كل أهل الأرض يهودا ونصارى وكفارا، ليس معناه أنه لم يفهم مهمته، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه، بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله في الأرض.. فيطمئنه الله ويقول له لا تعتقد أنهم سيؤمنون لك. وليس معنى عدم إيمانهم أنك لست صادقا.. فتكذيبهم لك لا ينبغي أن يؤثر فيك.. فلا تطمع يا محمد أن يؤمنوا لك.. ما هو الطمع؟.. الطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوبا لها.. والأصل في الإنسان العاقل ألا يطمع إلا في حقه.. والإنسان أحيانا يريد أن يرفه حياته ويعيش مترفا ولكن بحركة حياته كما هي. نقول له إذا أردت أن تتوسع في ترفك فلابد أن تتوسع في حركة حياتك لأنك لو أترفت معتمدا على حركة حياة غيرك.. فسيفسد ميزان حركة الحياة في الأرض، أي إن كنت تريد أن تعيش حياة متزنة فعش على قدر حركة حياتك لأنك إن فعلت غير ذلك تسرق وترتشي وتفسد. فإن كان عندك طمع فليكن فيما تقدر عليه. إذن فكلمة " أفتطمعون " هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. هؤلاء اليهود هل نقدر على أن نجعلهم يؤمنون؟ يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.. هذا أمر زائد على ما كلفت به.. لأن عليك البلاغ، وحتى لو كان محببا إلى نفسك.. فإن مقدماتهم مع الله لا تعطيك الأمل في أنك ستصل إلى النتيجة التي ترجوها.. وهذه الآية فيها تسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما سيلاقيه مع اليهود. وتعطيه الشحنة الإيمانية التي تجعله يقابل عدم إيمان هؤلاء بقوة وعزيمة.. لأنه كان يتوقعه فلا يحزن ولا تذهب نفسه حسرات، لأن الله تبارك وتعالى قد وضع في نفسه التوقع لما سيحدث منهم.. فإذا جاء تصرفهم وفق ما سيحدث.
. يكون ذلك أمرا محتملا من النفس.. والحق سبحانه وتعالى يقول: { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } [البقرة: 75] انظر إلى الأمانة والدقة.. فريق منهم ليس كلهم.. هذا هو ما استنبط منه العالم نظرية صيانة الاحتمال.. وهي عدم التعميم بحيث تقول إنهم جميعا كذا.. لا بد أن تضع احتمالا في أن شخصا ما سيؤمن أو سيشذ أو سيخالف.. هنا فريق من أهل الكتاب عرفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل.. وعندما بعث آمنوا به، وهؤلاء لم يحرفوا كلام الله. لو أن القرآن جاء بالحكم عاما لتغيرت نظرة الكافرين للإسلام.. ولقالوا لقد قال عنا هذا الدين أننا حرفنا كتاب الله ولكننا لم نحرفه ونحن ننتظر رسوله.. فكأن هذا الحكم غير دقيق.. ولابد أن شيئا ما خطأ.. لأن الله الذي نزل هذا القرآن لا يخفى عليه شيء ويعرف ما في قلوبنا جميعا.. ولكن لأن الآية الكريمة تقول إن فريقا منهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه.. الكلام بلا تعميم ومنطبق بدقة على كل حال.. والحق جل جلاله يقول: { ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [البقرة: 75].. هذه معصية مركبة سمعوا كلام الله وعقلوه وعرفوا العقوبة على المعصية ثم بعد ذلك حرفوه.. لقد قرأوه في التوراة وقرأوا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنهم يعرفونه كأبنائهم.. ثم حرفوا كلام الله وهم يعلمون.. ومعنى التحريف تغيير معنى الكلمة.. كانوا يقولون السأم عليكم بدلا من السلام عليكم.. ولم يتوقف الأمر عند التحريف بل تعداه إلى أن جاءوا بكلام من عندهم وقالوا إنه من التوراة.
[2.76]
هذه صور من صور نفاق اليهود. والناس مقسمون إلى ثلاث: مؤمنون وكافرون منافقون.. المؤمن انسجم مع نفسه ومع الكون الذي يعيش فيه.. والكافر ولا انسجم مع نفسه ولم ينسجم مع الكون، والكون يلعنه.. والمنافق لا انسجم مع نفسه ولا انسجم مع الكون، والآية تعطينا صورة من صور النفاق وكيف لا ينسجم المنافق مع نفسه ولا مع الكون.. فهو يقول ما لا يؤمن به.. وفي داخل نفسه يؤمن بما لا يقول.. والكون كله يلعنه، وفي الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار. وهذه الآية تتشابه مع آية تحدثنا عنها في أول هذه السورة.. وهي قوله تعالى:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
[البقرة: 14]. في الآية الأولى كان الدور لليهود، وكان هناك منافقون من غير اليهود وشياطينهم من اليهود.. وهنا الدور من اليهود والمنافقين من اليهود. الحق سبحانه وتعالى يقول: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [البقرة: 76] وهل الإيمان كلام؟.. الإيمان يقين في القلب وليس كلاما باللسان.. والاستدلال على الإيمان بالسلوك فلا يوجد إنسان يسلك سبيل المؤمنين نفاقا أو رياء.. يقول آمنت نفاقا ولكن سلوكه لا يكون سلوك المؤمن.. ولذلك كان سلوكهم هو الذي يفضحهم. يقول تعالى: { وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } [البقرة: 76].. وفي سورة أخرى يقول الحق:
وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ..
[آل عمران: 119]. وفي سورة المائدة يقول سبحانه:
وإذا جآءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به..
[المائدة: 61]. هنا أربع صور من صور المنافقين.. كلها فيها التظاهر بإيمان كاذب.. في الآية الأولى
Unknown page