Irshad Caql Salim
تفسير أبي السعود
Publisher
دار إحياء التراث العربي
Publisher Location
بيروت
البقرة (٨٥)
في التوراة وقوله تعالى
﴿لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم﴾ كما قبله إخبارٌ في معنى النهي غُيِّر السبكُ إليه لما ذَكر من نُكتة المبالغة والمرادُ به النهيُ الشديدُ عن تعرُّض بعض بنى أسرئيل لبعضٍ بالقتل والإجلاءِ والتعبيرُ عن ذلك بسفك دماءِ أنفسِهم وإخراجِها من ديارهم بناءً على جَرَيان كلِّ واحدٍ منهم مجرى أنفسِهم لما بينهم من الاتصال القويِّ نسَبًا ودينًا للمبالغة في في الحمل على مراعاة حقوقِ الميثاق بتصوير المنهيِّ عنه بصورةٍ تكرَهها كلُّ نفس وتنفر عنه كلُّ طبيعةٍ فضميرُ أنفسَكم للمخاطبين حتمًا إذ به يتحقق تنزيلُ المخْرِجين منزلتَهم كما أن ضميرَ ديارِكم للمخرَجين قطعًا إذ المحذورُ إنما هو إخراجُهم من ديارهم لا من ديار المخاطَبين من حيث إنهم مخاطَبون كما يفصحُ عنه ما سيأتِي من قولِه تعالى ﴿مِن ديارهم﴾ وإنما الخطابُ ههنا باعتبار تنزيلِ ديارِهم منزلةَ ديارِ المخاطَبين بناءً على تنزيل أنفسِهم منزلتَهم لتأكيد المبالغةِ وتشديدِ التشنيع وأما ضميرُ دماءَكم فمحتمل لوجهين مفاد الأول كون كون المسفوك دماء ادعايئة للمخاطَبين حقيقةً ومَفادُ الثاني كونُه دماءً حقيقيةً للمخاطبين ادعاءً وهما متقاربان في إفادة المبالغةِ فتدَّبرْ وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تباشروا ما يؤديّ إلى قتل أنفسِكم قِصاصًا أو ما يبيح سفكَ دمائِكم وإخراجَكم من دياركم أو لا تفعلُوا ما يُرديكم ويصرِفُكم عن الحياة الأبدية فإنه القتلُ في الحقيقة ولا تقترفوا ما تُحْرَمون به عن الجنة التي هي دارُكم فإنه الجلاءُ الحقيقيُّ فممَّا لا يساعده سياقُ النظمِ الكريم بل هو نصٌّ فيما قلناه كما ستقف عليه
﴿ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ﴾ أي بالميثاق وبوجوب المحافظةَ عليه
﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ توكيدٌ للإقرار كقولك أقرَّ فلانٌ شاهدًا على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافِكم بهذا الميثاق
﴿ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء﴾ خطابٌ خاص في الحاضرين فيه توبيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق به والشهداة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبرُه ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفات المنزل منزلةَ اختلافِ الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية فإنَّ قولَه ﷿
﴿تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ الخ بيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمنًا كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أسير اليه وقرئ تُقتّلون بالتشديد للتكثير
﴿وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم﴾ الضمير إما للمخاطبين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبين وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدورُ فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه ولا يظهر كمالُ قباحةِ
1 / 124