فيتحولون لتحوله في الأحكام والآثار، وآخر صورة يتحول إليها في الحكم في عباده صورة الرضا. فيتحول الحق في صورة النعيم، فإن الرحيم والمعافي أول من رحم ويعفو وينعم على نفسه بإزالة ما كان فيه من الحرج والكرب والغضب على من أغضبه، ثم سرى ذلك في المغضوب عليه، فمن فهم هذا فقد أمن من غضبه، ولم يأمن من مكر الله، ومن لم يفهم، فسيعلم ويفهم، فإن المآل إليه.
هذا نظر البالغين من الرجال بنور الرياضة والمجاهدة الى مقام الولاية والمحبة والأحوال، وأما الذي وردت به الأخبار، وأعطاه الايمان والعلم، إنما هي أحوال تظهر ومقامات تتشخص ومعان تتجسد، ليعلم الله عباده معنى الإسم الإلهي الظاهر، وهو ما بدا من هذا كله، والإسم الإلهي الباطن، وهو هويته، وقد تسمى لنا بهما.
وأما قوله:
وإن منكم إلا واردها
[مريم:71]. فإن الطريق الى الجنة عليها، فلا بد من الورود.
ولما تقررت هذه المكاشفات فنقول: لما خلق الله العرش وجعله محل استواء الرحمة الوجودية، وأحدية كلمة الايجادية التي هي قول " كن " ، وخلق الكرسي وانقسمت فيه الكلمة إلى أمرين: أمر وخلق ليخلق من كل شيء زوجين. وظهرت الشفعية من الكرسي بالفعل، وكانت قبله بالقوة، وبحسب الوهم، إذ كل ممكن زوج تركيبي كما قالته الحكماء، وهما جهتا الإمكان والوجوب، أو الماهية والوجود، أو الفقر والمحبة، باختلاف العبارات، ليعلم أن الحق مستأثر بالأحدية وإن الموجد الأول وإن كان واحد العين فله حكم نسبة إلى ما ظهر عنه، فهذا أصل شفعية العالم، فتدلت إلى الكرسي القدمان حتى انقسمت فيه الكلمة الروحانية، لأنه الثاني بعد العرش في الصورة، والشكل فيه حصل شكلان في جسم العالم الطبيعي، فتدلت اليه القدمان، فاستقرت كل قدم في مكان، فسمي المكان الواحد جنة والآخر جهنما.
وليس بعدهما مكان تنتقل اليه هاتان القدمان، وهما لا يستمدان إلا من الأصل الذي ظهرتا منه وهو الرحمن، فلا يعطيان إلا الرحمة، فإن النهاية ترجع الى البداية بالحكمة، غير أن بين البداية والنهاية طريقا، وإلا لم يكن بدؤ ولا نهاية، والسفر مظنة التعب والشقاء واللغوب. فهذا سبب ظهور ما ظهر في العالم دنيا وآخرة، وبرزخا، من الشقاء، وعند انتهاء الاستقرار يلقي عصى التسيار، وتقع الراحة في دار القرار والبوار.
ولأحد أن يقول: فكان ينبغي عند الحلول في الدار الواحدة المسماة نارا أن توجد الراحة وليس الأمر كذلك.
فيقال له: صدقت، ولكن فاتك النظر التمام، وذلك ان المسافرين على نوعين: مسافر يكون سفره مما هو فيه مترفها، من كونه محبوبا مخدوما، حاصلا له جميع أغراضه في محفة محمولة على أعناق الرجال، محفوظا عن تغير الأهواء، فهذا مثله في الوصول الى المنزل، مثل أهل الجنة في الجنة.
ومسافر يقطع الطريق على قدميه، قليل الزاد، ضعيف المؤنة، إذا وصل إلى المنزل بقيت معه بقية التعب والمشقة زمانا، حتى تذهب عنه، ثم يجد الراحة، فهذا مثل من يتعذب ويشقى في النار التي هي منزله، ثم تعمه الراحة التي وسعت كل شيء.
Unknown page