[البقرة:148]. فقوله: { ولكل وجهة هو موليها } إشارة إلى الحركة الغريزية الشوقية المفطورة عليها جميع المكونات، وقوله: { فاستبقوا الخيرات } إشارة إلى هذه الحركة الإرادية للإنسان، التي بها يقع الاستباق للخيرات، وسرعة الانسياق إلى الدار الآخرة، والالتحاق بملكوت ربنا الأعلى.
ولقائل أن يقول: إذا كان الكل متوجه إلى الله تعالى توجها غريزيا نحو الفطرة الأخروية والكمال الوجودي والفعلية، فأين الشقاوة للكفار وأهل المعاصي إذا كان الجميع من أحباء الله، المفطورة على طاعة الحق، والتقرب منه، فيلزم كون الناس كلهم سعداء مقربين؟
فنقول: اعلم أن هذا التوجه الغريزي للأشياء كلها نحو مسبب الأسباب، لا ينافي شقاوة الأشقياء وعذاب الكفار والمنافقين والعاصين، فإن السعادة شيء، والقرب من الله يرفع الوسائط شيء آخر، وكذا يجب أن يعلم أن الفعلية الوجودية وقوة التجوهر الحاصلة للنفوس الإنسانية من جهة انسلاخها من هذا البدن، وخروجها من القوة إلى الفعل، وحدة بصرها بسبب رفع الغواشي المادية، لا تنافي الشقاوة الأخروية، بل تؤكدها، فإن غمور النفس بهذا البدن الكثيف، يوجب لها حالة كالخدر والسكر لها، لأجل تلك الحالة، لا يمكنها إدراك الأمور الأخروية من المثوبات واللذات التي تكون للسعداء، والعقوبات والآلام التي تكون للأشقياء.
فإذا خرجت من غشاوة الدنيا، وزال عنها سكر الطبيعة وتخديرها، وحان وقت أن يقع بصرها إلى ذاتها، فإن كانت من جملة الأشقياء المردودين، واطلعت على ما اكتسبته من النقائص والآفات، تتألم بها أشد الآلام، وخروجها من القوة إلى الفعل، ووجود القوة الدراكة فيها، وزوال مانع الإدراك عنها، يوجبان أن تطلع على صحيفة ذاتها وما كسبته من السعادة أو الشقاوة، فتلتذ غاية التلذذ أو تتألم غاية التألم.
فقد ظهر أن فعلية الوجود وتأكده في الجملة، لا ينافيان الشقاوة بإدراك الآلام الحاصلة من الكفر والمعاصي، وكذا الرجوع الإضطراري إلى الحضرة الإلهية لا ينافي الشقاوة والعذاب، فإن أنوار النفوس الإنسانية، إنما هبطت كالكواكب الى هذا القالب الفاني مدة هذا الكون الجسماني وغربت فيه، وستطلع عند خراب القالب، وانقطاع عمره، وبوار نشأته من مغربها إلى مشرقها الأصلي، وخالقها وباريها، إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة.
والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهية، والمظلمة أيضا راجعة إلى الحضرة، إذ المرجع والمصير للكل إليه كما مر، إلا انها ناكسة الرؤوس عن جهة أعلى عليين الى جهة أسفل سافلين، منقلبة الوجود الى الدنيا ولذاتها وطيباتها التي هي بعينها منشأ آلام الآخرة وخبثياتها.
أو لا ترى النبات في نموه ونشوئه يتقارب الى عالم السماء والضياء، إلا انه منكوس الرأس، متوجه نحو السفل، ولذلك قال تعالى:
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم
[السجدة:12] فبين ان نفوس الأشقياء أيضا عند ربهم، إلا انهم منكوسون منحوسون، قد انقلبت وجوههم الى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق الى جهة تحت، وذلك حكم الله وقضاؤه فيمن حرمه توفيقه ولم يهد له سلوك صراطه المستقيم، نعوذ بالله من الضلال، والعدول عن منهج أهل الكمال.
فإن قلت: إذا كان الكل مفطورا على حبه تعالى وطلبه والتشوق إليه، فما سبب تفاوت هذه النفوس الإنسانية في الهداية والضلال، والطاعة والمعصية؟
Unknown page