وذلك لأن مذهب هؤلاء، هو إن مفاد الجعل وأثر الجاعل هو صيرورة الماهية موجودة، أي هذه الهيئة التركيبية، لا أن شيئا من الماهيات ولا الوجود أثره، ولا ماهية هذه الصيرورة أيضا اثره، لأنها مستغنية عن الجعل، وهذا مثل أن يقال: إن التصديق عبارة عن نحو إذعان أن زيدا قائم مثلا، فكما إن التصديق ليس بتصور المحكوم عليه، ولا تصور المحكوم به ولا تصور النسبة بل الهيئة الإذعانية على الوجه الذي يكون الموضوع متلبسا بالمحمول، فمفاد التصديق اعتقاد أن زيدا قائم، لا تصور هذا الإذعان، ولا تصور قيام زيد، لأنهما من باب التصور ولا تصور زيد قائم، لما ذكرنا، بل إدراك النسبة على أنها نسبة وعلى أنها معنى حرفي، لا على أنها معنى اسمي منسوب أو منسوب اليه.
فهكذا قولهم في كون أثر الجاعل اتصاف الماهية بالوجود، فمفاد الجعل في الخارج عندهم كمفاد التصديق في الذهن، فاندفع النقض الذي أورده عليهم عنهم، سواء كان مذهبهم صحيحا أو فاسدا.
الوجه الثاني: إن ضمير " هو " وسائر الضمائر كأنا وأنت وغيرها، ليس معانيها إلا أنحاء الوجودات، والدليل عليه أن كلمة " هو " - الذي كلامنا فيه - لو كانت موضوعة لغير الوجود الخاص فهي إما موضوعة لماهية مخصوصة، فيجب أن لا يطلق على غيرها وتتبادر هي الى الفهم عند الاطلاق بعد العلم بوضعها إياها، والواقع بخلافه؛ وإما موضوعة لجميع الماهيات بوضع واحد، فهو ظاهر البطلان، وإلا فينبغي أن يتبادر الى الذهن عند الإطلاق، وليس كذلك، وإما موضوعة لماهيات متعددة غير متناهية بأوضاع متعددة غير متناهية، وهو ظاهر البطلان أيضا، ولا انها موضوعة لماهية ما من حيث هي، وإلا لم يفهم منها ماهية مخصوصة، إذ العام لا دلالة له على الخاص، والواقع خلافه، ولا أيضا يصح أن يقال إنها موضوعة لماهية ما بشرط كونها غائبة، وإلا لزم أن لا يفهم من كلمة " هو " إلا هذا المفهوم، بل الحق ان الضمائر كلها: كهو وأنت وغيرهما، وكذا أسماء الإشارات كلها: كهذا وذلك وغيرهما، موضوعة لأنحاء الهويات الوجودية، إذ الوجود حقيقة واحدة، وله أفراد وأعداد متمايزة الأشخاص؛ يصح أن يتصورها الواضع من جهة وحدة حقيقتها المشتركة، ويضع الإسم لأفرادها الخاصة بحسب أوصافها الوجودية التي حكمها حكم أصل الوجود في وحدتها وتعددها.
وهذا معنى قولهم في أسماء الإشارة: إن الوضع فيها عام والموضوع له هو الخصوصيات؛ فعلى هذا " لا هو " لا يدل على نفي الماهية، بل على نفي الهوية.
لا يقال: الماهية مشتقة من الهوية، لأنها مأخوذة من " ما هو " وهو السؤال عما به الشيء هو هو، فيكون كلاهما مشيرا الى شيء واحد، فلا فرق بينهما بحسب جوهر اللفظ ومادته اللغوية.
قلنا: الفرق بأن " هو " عبارة عن الوجود الشخصي و " ما هو " سؤال عن طلب ذاتياته، وهي المعاني الكلية المتحدة به في مرتبة وجوده الذاتي، الصادقة عليه بحسب تلك المرتبة فيما له ماهية غير الهوية، فمدلول " هو " غير ما وقع في جواب " ما هو " ، لأنه من المطالب الكلية، فهما متغايران معنى، ولهذا افترقت الهوية عن الماهية في الواجب تعالى، وكذا في الهويات الوجودية بما هي هويات في العلم الحضوري الشهودي فافهم واغتنم.
الفصل الرابع
في الاشارة الى لمعة من لوامع علم التوحيد الخاصي
إن لنا بإعلام الله وإلهامه برهانا شريفا على هذا المطلب الشريف، الذي هو الوجهة الكبرى لأهل السلوك العلمي محكما في سماء وثاقته التي ملئت حرسا شديدا وشهبا، لا يصل إليه لمس شياطين الأوهام، ولا يمسه القاعدون منه مقاعد للسمع، إلا المطهرون من أرجاس الجاهلية المكتسبة من ظلمات الأجسام.
بيانه: أن الواجب تعالى، لما كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلقات، فليس وجوده متعلقا بشيء متوقفا على شيء، فيكون بسيط الحقيقة لا ينقسم في وجود ولا في عقل ولا في فهم، فذاته واجب الوجود من جميع الجهات، كما أنه واجب الوجود بحسب الذات، فليس فيه جهة إمكانية ولا امتناعية، وإلا لزم التركيب بوجه من الوجوه، المستدعي للإمكان. فإذا تقررت هذه المقدمة التي مفادها أن كل وجود وكل كمال وجود يجب أن يكون حاصلا لذاته، فايضا عنه، مترشحا على غيره، كما قال
Unknown page