[12.15-18]
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب } ، قيل: هو بئر بين مصر ومدين، وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرية، أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه؟ فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا أخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم وقالوا له: ادع للشمس والقمر والإحدى عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى الصخرة فقام عليها وهو يبكي، وأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان يأتيه بالطعام، وروي أن ابراهيم (عليه السلام) حين ألقي جرد من ثيابه فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في عنق يوسف فجاءه جبريل فألبسه إياه { وأوحينا اليه } ، قيل: أوحي إليه في الصغر كما أوحي إلى عيسى (عليهما السلام) { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } إنك يوسف لعلو شأنك وذلك أنهم حين دخلوا عليه عرفهم وهم له منكرون { وجاؤوا أباهم عشاء يبكون } روي أنه لما سمع أصواتهم فزع وقال لهم: ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما بالكم وأين يوسف؟ { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق { ولو كنا صادقين وجاؤوا على قميصه بدم كذب } روي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها وزل عنهم أن يمزقوه، وروي أن يعقوب (عليه السلام) لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: والله ما أكله ذئب أكل ابني ولم يمزق قميصه؟! قيل: كان في قميص يوسف (عليه السلام) ثلاث آيات كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا، ودليلا على براءة يوسف (عليه السلام) حين قد من دبر { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } معناه لا تشكوا فيه إلى الخلق { والله المستعان على ما تصفون }.
[12.19-22]
{ وجاءت سيارة } أي رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك من بعد ثلاثة أيام من حين ألقي يوسف في الجب { فأرسلوا واردهم } رجل يقال له مالك بن ذعر { فأدلى دلوه } أي أرسله فتعلق يوسف (عليه السلام) في الحبل فلما خرج إذ هو بغلام أحسن ما يكون فقال المدني: يا بشراي { هذا غلام } ، وقيل: نظروا في البئر فرأوه، فقالوا: هذا غلام { وأسروه بضاعة } ، قيل: أخفاه المدني ومن معه من التجار لئلا يسألون الشركة فيه لرخص ثمنه، وقيل: أسروه يعني أخوته أخفوا أنهم أخوته وقالوا: هذا غلام لنا، وقيل: أسر بعض التجار عن بعض، وروي أن يهوذا أتى بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته فطلبوه فوجدوه معهم فقالوا: هذا عبدنا أبق منا، فقال مالك بن ذعر: أنا أشتريه { وشروه } أي باعوه، قيل: أخوته، وقيل: السيارة هم الذين باعوه { بثمن بخس دراهم معدودة } عشرين درهما، وقيل: اثني وعشرين درهما { وكانوا } ، قيل: الذين باعوه { فيه من الزاهدين } ، قيل: في الثمن، وقيل: في يوسف (عليه السلام) { وقال الذي اشتراه من مصر } ، قيل: قطفير، وقيل: أطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة وأقام يوسف مع العزير ثلاث عشرة سنة { لامرأته } واسمها راعيل وهي التي تسمى زليخا { أكرمي مثواه } أعظمي منزلته { عسى أن ينفعنا } أي يكفينا أمورنا إذا بلغ وعلم الأمور، وقيل: نبيعه بثمن صالح { أو نتخذه ولدا } وكان قطفير لا يأتي النساء وكانت امرأته حسينة ناعمة، وقيل: إن مالك بن ذعر أنه لما ابتاعه قال له: من أنت؟ قال: أنا يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم، فقال: إنا لله وإنا اليه راجعون إنك إذا ابن ساداتنا، وقال له: ادع الله ييسر لي ولدا، فدعى الله يوسف (عليه السلام) فولدت له امرأته أربعة وعشرين رجلا في اثني عشر بطنا { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } ، قيل: علم الغيب معجزة له، وقيل: عواقب الأمور، وقيل: تأويل الرؤيا { والله غالب على أمره } أي قادر لا يعجزه شيء على أمره أي تدابيره، وقيل: غالب على أمر يوسف (عليه السلام) يحفظه ويحوطه ويدبر أمره ولا يكله إلى أحد غيره { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ما الله صانع بيوسف وما يؤول اليه حاله { ولما بلغ أشده } ، قيل: منتهى شبابه، قيل: ثماني عشر إلى ثلاثين سنة إلى أربعين سنة.
[12.23-29]
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } وهي امرأة العزيز { وغلقت الأبواب } ، قيل: كانت سبعة أبواب، { وقالت هيت لك } أي هلم لك، وقيل: يعني تعال { قال معاذ الله } استجير به وأعتصم { إنه ربي } رفع محلي وأحسن إلي وجعلني نبيا فلا أعصيه، وقيل: أراد العزيز هو مالكي حين قال لامرأته أكرمي مثواه { ولقد همت به وهم بها } قال الحسن: همها أخبث الهم وأما همه فما قام عليه طبع الرجال من شهوة النساء، ولم يكن منه عزم على المعصية، وقيل: هم بضربها وجعل يدفعها عن نفسه، كما يقال: هممت بفلان أي بضربه وإيقاع مكروه منه، ومعنى { لولا أن رأى برهان ربه } أي لولا أن رأى برهان ربه لضربها ولو ضربها لأهلكه أهلها، وكانت تدعي عليه المراودة على القبيح وأنه ضربها لامتناعها، فأراه الله البرهان ليمتنع من الضرب، فأما البرهان الذي رآه فقد اختلف فيه على أقوال: أولها حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما في الزنا من العقاب، وقيل: هو ما أتاه الله سبحانه من آداب أنبيائه في العفاف وصيانة النفس عن الأرجاس، وقيل: هي النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وقيل: كان في البيت صنم فسترته بأن ألقت عليه ثوبا فقالت استحيي منه فقال يوسف: تستحي من الصنم وأنا أستحي من الواحد القهار، وقيل: رأى العزيز، وقيل: رأى جبريل (عليه السلام)، وقيل: رأى يعقوب، روى ذلك جار الله في الحاكم والله أعلم { إنه من عبادنا المخلصين } قرئ بفتح اللام وكسرها { واستبقا الباب } أي وتسابقا إلى الباب فأسرع يريد الباب وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج فنظر يوسف وإذا الأبواب قد انفتحت فأدركته { وقدت قميصه من دبر } اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق حين هرب منها { وألفيا سيدها لدا الباب } يعني وصادفها سيدها أي بعلها وهو قطفير تقول المرأة لبعلها سيدي { قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم } بالسياط ولما أعزت عليه وعرضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه { قال هي راودتني عن نفسي } ولولا ذلك لكتم عليها { وشهد شاهد من أهلها } ، قيل: كان ابن عم لها وكان حكيما يرجع اليه الملك ويستشيره، وقيل: كان ابن خال لها تكلم في المهد، فقال تعالى: { فلما رأى قميصه قد من دبر } يعني قطفير وعلم براءة يوسف (عليه السلام) وصدقه، قوله تعالى: { قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } الخطاب لها ولأمتها وإنما استعظم كيد النساء وإن كان في الرجال، إلا أن النساء ألطف كيدا وأنفذ حيلة { يوسف أعرض عن هذا } الأمر واكتمه ولا تحدث به { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } من جملة القوم المعتدين وكانوا يعبدون الله تعالى مع الأصنام.
[12.30-35]
{ وقال نسوة } جماعة من النساء وكن خمسا { امرأة العزيز } يريد قطفير والعزيز الملك بلسان العرب { تراود فتاها } غلامها { عن نفسه قد شغفها حبا } وصل إلى الفؤاد وهو حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب { إنا لنراها في ضلال مبين } يعني في خطأ وبعد عن طريق الصواب { فلما سمعت } راعيل { بمكرهن } بقولهن { أرسلت إليهن } ، قيل: أرادت إبلاغ عذرها، وقيل: أرادت إيقاعهن فيما وقعت فيه، قال وهب: اتخذت مائدة ودعت أربعين امرأة منهن { وأعتدت } أي أعدت { لهن متكئا } أي مجلسا وما يتكأ عليه من النمارق والوسائد { وآتت كل واحدة منهن سكينا } لقطع الفواكه { وقالت اخرج عليهن } وكانت أجلسته غير مجلسهن فأمرته بالخروج إما للخدمة أو للسلام { فلما رأينه أكبرنه } أي عظمنه وكان (عليه السلام) كالقمر ليلة البدر { وقطعن أيديهن } بتلك السكاكين وهن يحسبن أنها الأترج والفواكه، وقيل: جرحن أيديهن، وقيل: ما أحسسن إلا بالدم { وقلن حاش لله } أي برأه الله سبحانه من كل سوء أن يكون هذا بشرا { إن هذا إلا ملك كريم } { قالت } يعني امرأة العزيز قالت: { فذلكن الذي لمتنني فيه } أي في حبي إياه ثم إنها أقرت على نفسها واعترفت ببراءة يوسف فقالت: { ولقد راودته عن نفسه } أي أردت منه الفاحشة { فاستعصم } أي امتنع بالله وسأله العصمة { ولئن لم يفعل ما آمره } أي إن لم يطعني فيما دعوته إليه { ليسجنن وليكونا من الصاغرين } وذلك إنهن زين له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار فالتجأ إلى ربه { قال رب } نزول { السجن أحب إلي } من ركوب المعصية قال جار الله: فإن قلت نزول السجن مشقة على النفس شديدة وما دعته اليه لذة عظيمة فكيف كانت أحب إليه وأثر عنده، قلت: نظر إلى حسن الصبر في احتمالها لوجه الله وفي قبح المعصية { وإلا تصرف عني } أي تصرف عني بإلطافك وصنعك { كيدهن } أي حيلتهن وهو إظهار المحاسن والتزين بالزينة { أصب اليهن } أميل اليهن لأنهن راودنه وقلن له : أطع مولاتك { وأكن من الجاهلين } من الذين لا يعملون بما يعلمون { فاستجاب له ربه } يعني فعل له ما شاءه وأجابه { فصرف عنه كيدهن } حيلتهن { إنه هو السميع العليم } { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } أي عاينوا، قيل: أراد العلامات والمعنى بدا لهم أي أظهر لهم رأي { ليسجننه } وذلك أنها قالت لزوجها: إن هذا العبد فضحني ولا أقدر على الاعتذار فإما أن تحبسه، أو تأمرني بحبسه، أو تأذن لي بحبسه { حتى حين } أي إلى وقت، قيل: سبع سنين، وقيل: عشر.
[12.36-42]
قوله تعالى: { ودخل معه السجن فتيان } وفيه إضمار رأي دخل يوسف السجن ودخل معه فتيان { قال أحدهما إني أراني } يعني في المنام { أعصر خمرا } يعني عنبا { نبئنا بتأويله } أي أخبرنا تأويله وما يؤل اليه أمر هذه الرؤيا { إنا نراك من المحسنين } من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، وروي أنه كان إذا مرض رجل منهم أدام عليه، وإذا ضاق أوسع عليه، وإذا احتاج جمع له، قوله تعالى: { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } وهو الاخبار بالغيب ويقول اليوم: { يأتيكما } طعام من صفته كيت وكيت فيجدونه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصا الى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض لهما الايمان ويزينه ويقبح لهما الشرك بالله { ذلكما مما علمني ربي } يعني ذلك التأويل والاخبار بالغيب { مما علمني ربي } أوحى إلي { إني تركت } أي رغبت وليس المعنى أنه كان معطاه فتركه { واتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب } الآية يعني { ذلك } التوحيد { من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي على الرسل وعلى المرسل إليهم لا ينهوهم عليه وأرشدوهم اليه ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، قوله تعالى: { يا صاحبي السجن } سماهما بذلك لأنهما في السجن { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } يعني عبادة واحد حي قادر أم عبادة أحجار وخشب لا تقدر ولا تحيي والقهار القادر الذي لا يمتنع عليه شيء { ما تعبدون من دونه } خطاب لهما ولمن كان على دينهما من أهل مصر { إلا أسماء سميتموها } يعني أنتم سميتم ما لم تستحق الإلهية آلهة، وتسميتكم الأوثان آلهة لا تصح وهذه التسمية صدرت منكم ومن آبائكم ولا حقيقة لها { ما أنزل الله بها من سلطان } أي حجة { إن الحكم إلا لله } أي الحكم على العباد في الأمر والنهي وقد أمركم { أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك } يعني التوحيد والعدل وعبادة الله لا غيره { الدين القيم } المستقيم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } لجهلهم ثم عبر رؤياهما فقال: { يا صاحبي السجن اما أحدكما فيسقي ربه خمرا } ، قيل: للساقي تقف في السجن ثلاثة أيام ثم يخرجك الملك وتعود إلى ما كنت عليه، ومعنى ربه أي مالكه وسيده لأنه كان عبده، قوله تعالى: { وأما الآخر } وهو صاحب الطعام { فيصلب فتأكل الطير من رأسه } ، وقيل: الذي أخبره بالصلب قال: ما رأيت شيئا قال يوسف: { قضي الأمر } وروي أنهما قالا ما رأينا شيئا فقال يوسف (عليه السلام): { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } يعني فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته، نزل بكما ما قلت، وقيل: وقع الأمر، وإنما قاله عن وحي { وقال للذي ظن أنه ناج منهما } الظان هو يوسف (عليه السلام)، وقيل: الظن يرجع الى الناجي، ومعنى ناج أي يتخلص من السجن { اذكرني عند ربك } أي اذكر صفتي عند الملك وقص عليه قصتي لعله يرحمني { فأنساه الشيطان ذكر ربه } يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر الله في تلك الحال فاستغاث بالمخلوف، وقيل: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك فلم يذكره { فلبث في السجن } أي مكث وبقي فيه { بضع سنين } ، قيل: اثني عشر سنة، وقيل: سبع سنين، وقيل: قبلها خمس وبعدها سبع سنين، وعن الحسن: أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس، ثم بين تعالى أنه لما قرب الفرج ليوسف (عليه السلام) رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هائلة.
Unknown page