{ وقال لهم نبيهم } بإلالهام لله ووحيه { إن الله } المدبر لأموركم { قد بعث لكم طالوت } من المرتجلات العجمية { ملكا } يولي أموركم ويقاتلك مع عدوكم { قالوا } مستكبرين مستنكرين: { أنى } من أين { يكون له الملك علينا } وهو من سفلة الناس، كيف يستأهل هذا المنصب؟ { ونحن أحق بالملك منه و } الحال أنه { } لم يؤت سعة من المال حتى يقوى به، وإنما استحقروه؛ لأنه كان فقيرا راعيا أو سقاء أو دباغا، وكان من أولاد بنيامينن، ولم يكن في أولاده النبوة والملك، إنما كانت النبوة في أولاد لاوي والملك في أولاد يهوذا، وكان فيهم من أسباطهما خلق عظيم.
{ قال } لهم نبيهم: { إن الله } المعز لأذلة عباده { اصطفاه } واختاره للملك { عليكم } مع فقره وسقوط نسبه { و } بعدما اختاره { زاده بسطة } حيطة وشمولا { في العلم } المتعلق لتبدير المملكة { و } قوة عظيمة في { الجسم } لمقاومة العدو ومدافعته { والله } المدبر لمصالح عباده { يؤتي ملكه من يشآء } من عباده على مقتضى علمه منهم وحكمته من غير التفات إلى فقرهم ونسبهم { والله } الحكيم العليم { واسع } في فضله وإحسانه { عليم } [البقرة: 247] في حكمه وعدله، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، بلا سسبق علل وأغراض.
[2.248-249]
{ و } بعدما آيسوا من تغيير قضاء الله وتبديل رضاه، أتوا يطلبون الدليل والعلامات على ملكه { قال لهم نبيهم } بوحي الله وإلهامه أياه: { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الذي { فيه سكينة } أي: فيه ما يوجب سكينتكم وطمأنينتكم وقراركم على الحرب؛ إذ هو صندوق التوراة المنزل { من ربكم } لإصلاح أموركم { و } أيضا من آية ملكه أن يأتيكم { بقية مما ترك آل موسى وآل هارون } قيل: هي رخامة الألواح وعصا موسى وعمامة هارون، وكان أنبياء بني إسرائيل يتوارثون إلى أن { تحمله الملائكة } بأمر الله وتوصله إلى طالوت { إن في ذلك } المذكور { لآية لكم } على ملكية طالوت { إن كنتم مؤمنين } [البقرة: 248] بالله وبما جاء من عنده على أنبيائه، وبعدما آتاه الله الملك والعلامات الدالة عليه تجهز بتوفيق الله، وخرج نحو العدو.
روي أنه قال وقت خروجه: لا يخرج معي إلا الشباب الخالي عن الحيل ، الفارغ عن الأمل، النشيط للأجل، الفرحان للمقاتلة والشهادة.
{ فلما فصل طالوت بالجنود } وكان في شدة الحر والعبور على مفازة لا ماء فيها، ناجى مع الله كل من جنوده في نفسه أن يظهر عليهم نهرا في تلكل المفازة؛ خوفا من شدة العطش، ألهم الله مناجاتهم إلى قلب طالوت { قال } لهم { إن الله } القادر على ما يشاء { مبتليكم } ومجربكم في هذه المفازة { بنهر } عظيم { فمن شرب منه فليس مني } أي: ليس من أتباعي وأعواني وظهيري { ومن لم يطعمه } ولم يذقه { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } لا لتسكين العطش، بل لشكر نعمة الله وإنجاز وعده وتعديد إحسانه وفضله، ولما وصلوا إليه { فشربوا منه } من النهر { إلا قليلا منهم } معدودين، قيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: ألف.
وإياك أيها المبتلى بنهر الدنيا في فضاء الوجود أن تشرب منها خوفا من عطش حرارة العشق المفني للعاشق والعشق في المعشوق الحقيقي بالمرة، حتى لا يخرج عن زمرة المحبين المحترفين بنيران المحبة إلى أن خلصوا عن هوياتهم بالكلية، وأن يطعم ويذوق من مستلذاتها ومشتهاتها حتى لا يحرم من مرتبة أولي النهى واليقين، الفائزين بجنة اللقاء وروضة التسليم { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا } أي: بعضهم لبعض خفية: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لقوتهمه وشوكتهم { قال الذين يظنون } بربهم ظنا حسنا، بل يعلمون يقينا { أنهم } بعد انخلاعهم عن ملابس الإمكان { ملاقوا الله } بلا سترة الثنوية وحجاب الهوية: { كم من فئة قليلة } من العقل والنهى { غلبت فئة كثيرة } من جنود النفس والهوى { بإذن الله } بتوفيقه وتيسيره { والله } المختبر لعباده { مع الصابرين } [البقرة: 249] لبلواه ينصرهم على من يعاديهم بحوله وقوته، وما النصر إلا من عند الله.
[2.250-252]
{ ولما برزوا } ظهروا { لجالوت وجنوده } ودنوا منهم { قالوا } متوجهين إلى ربهم متضرعين له مستمدين منه: { ربنآ أفرغ } أفض { علينا صبرا } نصبر به عند نزول بلائك { وثبت أقدامنا } فيه رضاء لقضائك { وانصرنا } لتنفيذ حكمك وإمضائك { على القوم الكافرين } [البقرة: 250] لآلائك ونعمائك، إنك أنت العزيز الحكيم.
{ فهزموهم } كسروهم وهزموهم { بإذن الله } بعونه ونصره { وقتل داود جالوت } قيل: كان أيضا أشعيا في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم، وكان صغيرا يرعى الغنم، فأوحى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء، وقد كلمته في الطريق ثلاثة أحجار، وقالت له: إنك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته، ورماه بها، فقتله، ثم زوجه طالوت بنته { و } بعد ذلك { آتاه الله الملك } أي: ملك بني إسرائيل، ولم يجتمعوا قبل داود على ملك { و } آتاه { الحكمة } أي: دعوة الخلق إلى طريق الحق بالحكمة المؤتاة له من قبل ربه { وعلمه مما يشآء } من العلوم والحكمة والمعجزات وخوارق العادات بالجملة { ولولا دفع الله } الرقيب الحفيظ لحدوده بين عباده { الناس بعضهم ببعض } أي: ظلم بعض الظالمين بتقوية بعض المظلومين ونصره عليهم { لفسدت الأرض } التي هي منشأ الهون والفساد ومعدن الظلم والعناد { ولكن الله } المصلح لأحوال العباد { ذو فضل } كثير { على العالمين } [البقرة: 251] ليعتدل ويتمكن كل من ساكنيها على ما خلقهم الله لأجله بلا مزاحمة بعضهم بعضا ظلما وزورا.
Unknown page