355

أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور.

اذكر يا أكمل الرسل قصة أصحاب الكهف وقت { إذ أوى } أي: التجأ ورجع { الفتية } الخمسة أو السبعة أو الثمانية من أشراف الروم ورؤسائهم، دعاهم ملكهم دقيانوس إلى الشرك، وهم موحدون في أفسهم، فأبوا وهربوا منه { إلى الكهف } ملتجئين { فقالوا } مناجين مستغيثين من الله: { ربنآ } يا من ربانا بأنواع اللطف الكرم وفقنا بشرف توحيدك وتقديسك { آتنا } بفظلك وجودك { من لدنك } لا بسبب أعمالنا ومتقضياتها { رحمة } تنجينا عن يد عدونا وعذابه، وعن وبال ما دعانا إليه من الكفر والعصيان { وهيىء لنا } أسباب معاشنا حين كنا فارين من العدو وملتجئين إليك، مستعيذين بكنفك وجورك ووفق علينا { من أمرنا } الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم { رشدا } [الكهف: 10] أي: هداية توصلنا إلى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوف وخطر، فاستجبنا لهم مناجاتهم وأعطيناهم حاجاتههم.

وبعدما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين { فضربنا } وختمنا { على آذانهم } حين كانوا راقدين { في الكهف } حجابا غليظا يمنعهم سماع الأصوات ملطقا وأنمناهم على هذا الوجه { سنين عددا } [الكهف: 11] بلا طعام ولا شراب ولا شيء من أسباب المعاش، وهم أحياء في صور الأموات، منقطعين عن لوازم الحياة مطلقا سوى الأنفاس تجيء وتذهب.

{ ثم بعثناهم } وأيقظناهم من منامهم بعث الموتى للحشر { لنعلم } أي: نجرب ونميز { أي الحزبين } المختلفين بعدما اختلفوا في مدة لبثهم { أحصى } أي: أضبط وأحفظ { لما لبثوا } من المدة { أمدا } [الكهف: 12] يعني: أيهم أحفظ ضبطا لمدة رقودهم في الكهف، فكلا الفريقين.

أي: اليهود والنصارى. لا يعلمان مدة لبثهم حقاا مطابا للواقع.

بل: { نحن نقص } من مقا مفضلنا وجودنا { عليك } يا أكمل الرسل { نبأهم } أي: خبر مدة لبثهم ملتبسا { بالحق } الثابت الصحيح المطابق للواقع { إنهم فتية } أي: شبان من أرباب الفتوة والمروءة، وفقوا من عند الله بالعقل الكامل والرشد التام إلى أن { آمنوا } وأذعنوا { بربهم } أي: بتوحيد مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم إلى دلائل توحيده { وزدناهم } من لدنا بعدما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال أوصافنا { هدى } [الكهف: 13] وزيادة رشد تفضلا وامتنانا.

{ و } ثبتناهم في الهداية والتوحيد بأن { ربطنا على قلوبهم } محبة الإيمان والعرفان، واذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قاموا } بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم إلى الشرك والكفر على رءوس الملأ، وبعدما سمعةا منه دعوته { فقالوا } بلا مبالاة له ولسطوته وشوكته: { ربنا } الذي أظهرنا من كتم العدم، وأوجدنا في فضاء الوجود { رب السموت والأرض } أي: هو رب العلويات والسفليات الغيب والشهادة والظاهر والباطن، أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركة مشير ومظاهرة ظهير، هو مستحق للألوهية والربوبية { لن ندعوا } ونعبد { من دونه إلها } باطلا؛ ذ لا مستحق لعبادة إلا هو، والله لئن دعوتنا إلها سواه { لقد قلنا إذا شططا } [الكهف: 14] أي: قولا ذا بعد عن الحق والتحقيق بمراحل، وصرنا حينئذ مغمورين في الشرك والكفر وأنواع الضلال والطغيان، عصمنا الله منها.

ثم قالوا على وجه التعريض والتسفيه: { هؤلاء } الضالون عن منهج الرشاد ومسلك السداد { قومنا اتخذوا } من غوايتهم وضلالهم { من دونه } سبجانه { آلهة } باطلة أي: أصناما وأوثانا يعبدونها لعبادة الله { لولا } أي: هلا { يأتون عليهم بسلطان بين } أي: بحجة واضحة وبينة لائحة ومعجزة باهرة، صادرة من قبلهم دالة على لياقتهم الألوهية والربوبية، فإن لم يأتوا فهم حينئذ مفترون على الله بإثبات الشريك له { فمن أظلم } وأطغى وأضل { ممن افترى على الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية بإثبات الشريك له، سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة { كذبا } [الكهف: 15] مخالفا للواقع، بلا مستند عقلي أو نقلي، بل ظلما وزورا.

{ و } بعدما جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى، قال بعض الفتية لبعضهم: قد وجب علينا الآن الاعتزال منهم { إذ اعتزلتموهم } وهجرتموهم { وما يعبدون } أي: معبوداتهم من الأصنام والأوثان التي يعتقدونها آلهة شركاء مع الله يعبدونها كعبادته { إلا الله } الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة، وأخلصتم العبادة له سبحانه بلا خوف منه ودهشة، كان أولى وأليق بحالكم.

وبالجملة: اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم، فاعتزلوهم منهم وخرجوا من أظهرهم { فأووا } وانصرفوا { إلى الكهف } المعهود، ملتجئين إلى ربكم من خوف عدوكم، متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم { ينشر لكم ربكم } سبحانه ويبسط عليكم { من } سعة { رحمته } وجوده ما تعيشون وتبقون بسبب أن تعلق مشيئته بإبقائكم { و } بعدما التجأتم إلى الله، وتوكلتم عليه، مفوضين أمروكم كلها إليه { ويهيئ لكم } ويسهل عليكم { من أمركم } الذي اخترتم لرضا الله ورعاية جنابه { مرفقا } [الكهف: 16] أي: ما ترفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية يدل ما فوتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية.

Unknown page