{ وينذر } أيضا أشد إنذار بأسوأ عذاب ووبال { الذين قالوا } من فرط إسرافهم في الشرك والجحود وهم اليهود والنصارى: { اتخذ الله } الواحد الأحد الصمد، المنزه عن الأهل والولد { ولدا } [الكهف: 4] حيث قال اليهود، عزير ابن الله، والنصارى: المسيح ابن الله.
مع أنه { ما لهم به } بالله باتخاذه ولدا { من علم } يقين أو ظن متعلق به وبمعناه، وبما يترتب عليه من النقص المنافي لوجوب الوجود؛ إذ اتخاذه إنما هو للإخلاف والمظاهرة والتزيين، وكلاهما محالان على الله لا يليقان بجنابه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا { ولا لآبائهم } يعني: وإن ادعوا في إثبات الولد لله تقليد الآباء والأسلاف، فليس لهم أيضا علم بنقصه وعدم لياقته بجناب الحق المنزل المقدس في ذاته عن أمارات النقصان وعلامات الإمكان.
وبالجملة: { كبرت } أي: جلت وعظمت في الكفر وسوء الأدب مع الله { كلمة } أي: مقالتهم هذه مع أنها { تخرج من أفواههم } هفوة بلا علم وتأمل، بل { إن يقولون } أي: ما يقولون ويقصدون بقولهم هذا { إلا كذبا } [الكهف: 5] وافتراء يفترونه على الله، وينسبونه إلى كتابهم ظلما وزورا.
وبعدما كان حالهم في الافتراء والمراء على هذا المنوال، وشدة غيظهم وشكيمتهم مع الله على هذا المثال: { فلعلك } يا أكمل الرسل بمحبتك ومودتك إيمانهم وانقيادهم، وبرجائك وتحننك إلى بيعتهم ومتابعتهم { باخع نفسك } أي: قاتلها ومهلكها { على آثارهم } عندما انصرفوا عنك وذهبوا { إن لم يؤمنوا } أي: إن هم لم يؤمنوا ولم يصدقوا { بهذا الحديث } اي: القرآن { أسفا } [الكهف: 6] يعني: أهلكت نفسك بكثرة التأسف والتحزن على ذهابهم وانصرافهم عنك، وعدم إيمانهم وانقيادهم بك، وإن بعثك وحداك إلى إيمانهم واتباعهم غناهم ورئاستهم وترفههم وجاههم وثروتهم وسيادتهم بين الناس، فاعلم أنه لا اعتداد لها ولا اعتبار بما يترتب عليها.
{ إنا جعلنا ما على الأرض } من الأصول الثلاثة التي هي الحيوان والنبات والمعدن، وما يتفرع عليها من أنواع اللذات والشهوات الجسمية الوهمية { زينة لها } أو زخرفة عليها { لنبلوهم } ونختبرهم أي: أرباب التكاليف والتدابير، المجبولين على فطرة المعرفة والتوحيد { أيهم أحسن عملا } [الكهف: 7] وأتم رشدا وعقلا في الإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها والاجتناب عن لذاتها الوهمية التي هي على التقضي والانصرام، وشهواتها المورثة لأنواع الحزن والآلام وأمانيها، المستلزمة لأصناف الجرائم والآثام، مع أن الضروري منها كن حجرة، ولبس خرقة، وسد جوعة، وباقيها حطام ليس لها دوام، مورثة لآثام وآلام.
{ و } متى علمت أن ما في الأرض ليس إلا زينة وزخرفة ستفنى وتفوت عن قريب، فاعلم يقينا { إنا } بشدة حولنا وقوتنا، وكمال قدرتنا وسطوتنا { لجاعلون } أي: مصيرون مبدلون جميع { ما عليها } من الذخائر والزخارف { صعيدا } ترابا مرتفعة أملس { جرزا } [الكهف: 8] خالية منقطعة من النبات بحيث لا تنبت أصلا.
[18.9-16]
أعجبت واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيدا جرزا؟ { أم حسبت } وشككت { أن أصحاب الكهف } أي: قصتهم وشأنهم. والكهف هو: الغار الواسع في الجبل. { والرقيم } هو اسم الجبل الذي فيه الغار، أو اسم الوادي الذي فيه، أو اسم قريتهم، أو كلبهم، أو لوح رصاصي أو حجري، رقم أو رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف، أو أصحاب الرقيم قوم آخرون على اختلاف الأقوال والروايات.
وبالجملة: { كانوا من آياتنا } الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا { عجبا } [الكهف: 9] أي: آية يتعجب منها الناس، ويستبعدون وقوعها مع أنه لا شك في وقوعها؛ إذ بلغت من التواتر حدا لا يتوهم فيها الكذب قطعا؛ إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة وقوتنا الشاملة سهل يسير.
ولو رفعت أيها المعتبر المتأمل الإلف والعادة عن البين، وطرحت تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين، لكان ظهور كل ذرة من ذرائر العالم في التعجب والاستعباد وكمال الغرابة البداعة مثل هذا، بل أغرب وأعجب من هذا، فلك أن تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشأنك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر رأيك وفهمك ويكل إدراكك، وبالجملة: استغرقت في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك.
Unknown page