ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى
[النجم: 8-9]، وسمع كلاما لا من جنس الأصوات والحروف.
كذلك { آتينآ موسى الكتاب } تأييدا له، وتنفيذا لأمرنا إلى أن خصصناه بتكليمنا إياه، وكرمناه بأنواع الكرامات { وجعلناه هدى لبني إسرائيل } أي: هاديا لهم، يهديهم إلى توحيدنا، وتقديس ذاتنا عن الأشباه والأنداد، وأمرناهم فيه { ألا تتخذوا } أيها المتحيرون في الأمور والوقائع { من دوني وكيلا } [الإسراء: 2] أي: شريكا لي، وكفؤا تتكلون إليه في أموركم غيري؛ إذ ليس في الوجود سواي، فعليكم أن تتخذوني وكيلا، وتفوضوا أموركم كلها إلي؛ إذ لا معبود لكم غيري.
{ ذرية من حملنا } بمقتضى جودنا { مع نوح } حين استولى الطرفان على وجه الأرض، فهلك من عليها إلا من آمن لنوح، ودخل معه في السفينة، فأنجيناه أصالة، ومع معه تبعا { إنه } يعني: نوحا { كان عبدا شكورا } [الإسراء: 3] مبالغا في أداء الشكر، مواظبا عليه وجه الخضوع والخشوع، فلكم أن تقتفوا أثر أسلافكم الذين هم أصحاب سفينة نوح عليه السلام، وهم مؤمنون مصدقون له، ولكم أن تؤمنوا بمن أرسل إليكم لإصلاح أحوالكم، وتصدقوا كتابه.
{ وقضينآ إلى بني إسرائيل } أي: أوحينا إليهم { في الكتاب } المنزل عليهم على وجه الإيذان والإعلام تنبيها وتذكيرا، والله { لتفسدن } أنتم { في الأرض مرتين } مرة بمخالفة أحكام التوراة، وقتل شعياء، ومرة بقتل يحيى وزكريا، وقصد قتل عيسى. عليهم السلام. والكل من أعظم الجرائم عند الله { و } مع ذلك { لتعلن } وتستكبرون عتوا وعنادا على الأنبياء استهانة واستخفافا، وسخرية واستهزاء { علوا كبيرا } [الإسراء: 4] بحيث لا تبالونهم، ولا تعدونهم من العقلاء؛ لذلك تسفهونهم تارة، وتكذبونهم أخرى.
فاعلموا أيها المسرفون أنا ننتقم منكم في النشأة الأولى لكل جريمة صدرت عنكم من الجريمتين العظيمتين { فإذا جآء وعد } انتقام { أولاهما } أي: أولى الجريمتين { بعثنا } وسلطنا { عليكم } حين أردنا الانتقام، والأخذ عليها { عبادا لنآ } منتفعين عنكم من قبلنا { أولي بأس شديد } وشوكة عظيمة، وصولة قوية، وإذا دخلوا عليكم { فجاسوا } أي: تجسسوا وترددوا لطلبكم { خلال الديار } ووسطها للتقل والاستئصال { وكان } ما ذكر من الانتقام { وعدا } من الله { مفعولا } [الإسراء: 5] حقا عليه إنجازه وإيقاعه، وذلك حين استولى بختنصر عليهم، فقتل كبارهم، وسبى صغارهم، ونهب أموالهم، وخرب بلدانهم، وحرق التوراة، وخرب الأقصى.
{ ثم } بعدما ضعفناكم وأخذناكم { رددنا لكم الكرة } الدولة والغلبة والصولة { عليهم } أي: على أعدائكم { وأمددناكم بأموال } عظام { وبنين } معاونين ناصرين { وجعلناكم } في الكرة الثانية { أكثر نفيرا } [الإسراء: 6] من الكثرة الأولى؛ أي: أكثر عسكرا وجنودا منها.
وبالجملة: { إن أحسنتم } لبني نوعكم خالصا لوجه الله، وآمنتم لتزكية نفوسكم { أحسنتم لأنفسكم } إذ فوائد الإيمان والإحسان عائدة إليكم { وإن أسأتم } لهؤلاء، وكفرتم بالله وبرسوله { فلها } أي: وبال إساءتكم عليها؛ إذ الله في ذاته غني عن إحسان المحسن، وإساءة المسيء { فإذا جآء وعد الآخرة } أي: وقت انتقام الجريمة الأخيرة، بعثنا عليكم أيضا عبادا لنا أولي بأس شديد، وبسطة قوية، وبطش شديد: طيطوس الرومي.
وقيل: ملك الفرس اسمه: جودرز، وقيل: حردوس، وإنما بعثناهم عليكم { ليسوءوا وجوهكم } ليسوءوا معكم، بحيث ظهرت آثار إساءتهم من وجوهكم { وليدخلوا المسجد } وخربوه { كما دخلوه } وخربوه { أول مرة } من استيلاء بختنصر، وأحرقوا الكتب، كما أحرقوا { وليتبروا } وليهلكوا { ما علوا } وقدروا عليه وغلبا { تتبيرا } [الإسراء: 7] هلاكا كليا، بحيث لا ينجو منهم أحد.
قيل: دخل صاحب الجيش، فذبح قرابينهم، فوجد فيه دما يغلي، فسألهم عنه: فالوا: دم قربان لم يقبل منا، فقال: ما هو إلا كذب، فقتل ألوفا منهم عليه، ثم قال: إن لم تصدقوني، ولم تبينوا لي دم من هو هذا، ما تركت منك أحدا؟ فلما اضطروا قالوا: إنه دم يحيى النبي عليه السلام قتلناه ظلما، فقال: لمثل هذا ينتقم الله منكم؟! ثم قال ملتفتا إلى الدم: يا يحيى، قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، فأسكن من الغلي قبل ألا أبقي أحدا منهم، فسكن، ولم يقتل بعد هذا.
Unknown page