329

وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين؛ إذ هم يعادونه عداوة شديدة، ويخاصمون معه مخاصمة مستمرة { إنما سلطانه } واستيلاؤه { على الذين يتولونه } ويحبونه ويقبلون قوله، ويسمعون غوايته، ويطيعون أمره { والذين هم به } أي: بسبب إغوائه وإغرائه ووسوسته { مشركون } [النحل: 100] بالله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد.

ثم قال سبحانه: { و } من كمال قدرتنا، ووفور حكمتنا: نسخ بعض الآيات وتبديلها بالنسبة إلى بعض الأعصار والأزمان، فإنا { إذا بدلنآ آية } ناسخة { مكان آية } منسوخة لحكمة ظهرت علينا، ومصلحة لاحت لدينا، فلا بد ألا نسأل عن نسخنا وتبديلنا، بل عن جميع أفعالنا مطلقا، ولا يسند فعلنا إلى غيرنا مطلقا { و } كيف يسند فعله سبحانه لغيره؛ إذ { الله } المطلع لجميع ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود { أعلم بما ينزل } بحسب الأوقات والأزمان، فله نسخ ما ثبت، وإثبات ما نسخ { قالوا } أي: المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة، وإثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين: { إنمآ أنت مفتر } أي: ما أنت أيها المدعي للرسالة والوحي إلا مفتر كذاب، قلت بقول من تلقاء نفسك، ثم ظهر لك ما فيه، بلدت بأخرى على مقتضى أهوائك وأمانيك، ونسبته إلى ربك افتراء ومرا، مع أنك أخبرت أن ربك يقول:

ما يبدل القول لدي

[ق: 29]، كل ذلك؛ أي: النسخ والتبديل، والإنزال من عندنا لحكمة ظهرت علينا { بل أكثرهم لا يعلمون } [النحل: 101] حكمة النسخ والتبديل في الأحكام، فينكرونها.

{ قل } لهم يا أكمل الرسل، ما أنا مفتر في هذا النسخ والتبديل، بل { نزله } أي: القرآن { روح القدس } أي: جبرائيل عليه السلام علي هكذا، وهو منزه عن جميع النقائض، فكيف عن الافتراء، وأوصاني أنه منزل { من ربك } الذي رباك بأنواع التربية، وأيدك بهذا الكلام المعجز ملتبسا { بالحق } والصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد، وإنما أنزله { ليثبت } ويقرر { الذين آمنوا } تثبيتا وتقريرا في مرتبة اليقين العلمي { وهدى } أي: هداية ورشدا للعارفين المتحققين في مرتبة اليقين العيني { وبشرى } أي: بشارة وتمكينا لأهل الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي، كل ذلك { للمسلمين } [النحل: 102] المسلمين أمورهم كلها إلى الله طوعا ورغبة.

ثم أخبر سبحانه عن مطاعن المشركين بالقرآن والرسول، فقال: { ولقد نعلم أنهم } لا يسلمون نزول القرآن منا وحيا وإلهاما، ويكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك إنزاله إلينا، بل { يقولون } ما هو إلا مفتر { إنما يعلمه } هذا { بشر } أي: عبد رومي، أو رجل من العجم، أو رجال أخر على ما قالوا، وكيف يقولون وينسبون أولئك المكابرون المعاندون هذا إلى القرآن؛ إذ { لسان الذي يلحدون } أي: يميلون وينسبون { إليه } عنادا { أعجمي } معلق غير بين، وأنت عربي لا تفهم لغتهم { وهذا لسان عربي } فصيح { مبين } [النحل: 103] واضح بليغ في أعلى مراتب البلاغة، بحيث عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع كمال تحديهم، ومع ظهور إعجازه واعتراف الكل بأنه معجز، لم يقبلوا حقيته، ولم يصدقوا أنه كلام الله.

{ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } الدالة على وحدة ذاته، وكمال أوصافه وأسمائه، طبع الله على قلوبهم وختمها، بحيث { لا يهديهم الله } المضل المذل إلى حقية كتابه ورسوله الذي أنزل إليه، بل { ولهم عذاب أليم } [النحل: 104] في النشأة الأولى والأخرى، ثم قلب سبحانه ما فتروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاده عليه، فقال: { إنما يفتري الكذب } على الله بنسبة كلامه إلى غيره { الذين لا يؤمنون } ولا يصدقون { بآيات الله } الدالة على كمال توحيده { وأولئك } المفترون المسرفون { هم الكاذبون } [النحل: 105] المقصورون على الكذب والافتراء والمراء من شدة قسوتهم، وخبث باطنهم.

{ من كفر بالله } المستحق للإيمان والعبودية، سيما ارتد { من بعد إيمانه } أي: بعدما آمن له - العياذ بالله - فقد استحق غضب الله وقهره { إلا من أكره } على الكفر، وهدد بالقتل وأنواع العقوبات حين العجز، فأجرى كلمة الكفر على لسانه { وقلبه مطمئن بالإيمان } متمكن فيه، راسخ غير متزلزل، بلا مطابقة وموافقة بلسانه، فهو باق على إيمانه، ولا غضب عليه، بل له الأجر الجزيل؛ لأن العبرة في الإيمان والكفر بالقلب، لأنهما فعلان له أصالة { ولكن } من المغضوبين { من شرح } وملأ { بالكفر صدرا } اعتقادا أو رضاء مستحسنا له، مستطيبا إياه { فعليهم غضب } وقهر نازل { من الله } المنتقم الغيور { ولهم } في النشأة الأخرى { عذاب عظيم } [النحل: 106] لعظم جرمهم الذي هو الارتداد، العياذ بالله.

[16.107-114]

وما { ذلك } أي: تحسينهم الكفر، واستطابتهم به إلا { بأنهم استحبوا } واستطابوا { الحياة الدنيا } أي: الحياة الصورية المستعارة الزائلة { على } حياة { الآخرة } التي هي الحياة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلا { و } أيضا بسبب { أن الله } المطلع على استعدادات عباده { لا يهدي } إلى الإيمان والتحيد { القوم الكافرين } [النحل: 107] المجبولين على الكفر والعناد بحسب أصل فطرتهم واستعداداتهم.

Unknown page