303

وإذا كان الأمر كذلك: { فلا تحسبن الله } القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء { مخلف } إنجاز { وعده } الذي وعد به { رسله } من إهلاك عدوهم وتعذيبهم بأشد العذاب { إن الله } المتردي برداء العظمة والكبرياء { عزيز } غالب قادر على جميع مراداته ومقدوراته { ذو انتقام } [إبراهيم: 47] شديد على من أراد انتقامه وبطشه من أعدائه نصرة على أوليائه.

قله لهم يا أكمل الرسل: لا تغتروا عن إمهال الله إياكم أيها المسرفون في دنياكم؛ إذ ينتقم عنكم { يوم تبدل الأرض } وتغير تغييرا كليا، بأن دكت الجبال دكا وصارت مسوى لا عوج لها ولا أمتا، وصارت { غير الأرض } التي كانت قبل هذا { و } طويت { السموت } المحسوسة، وانتثرت الكواكب، وكورت الشمس، فصارت أيضا غير تلك السماوات، وبالجملة: تضعفت أركان العالم وتغيرت أوضاعها وأشكالها واضمحلت آثارها وتلاشت أجزاؤها، وتداخلت أرجاؤها وأقطارها { وبرزوا } أي: ظهروا وخرجوا أي: الأموات من أجداث أجسادهم بعد خلع تعيناتهم وجلباب هوياتهم { لله } المظهر لهم الظاهر فيهم { الواحد } في ذاته وصفاته وأحواله وجميع شئونه وتجلياته، المستقل في وجوده { القهار } [إبراهيم: 48] للأغيار والسوى مطلقا.

{ وترى } حينئذ { المجرمين يومئذ } الذين أجرموا بالله بإثبات الوجود لغيره وإسناد الحوادث إلى أسبابها العادية { مقرنين } مقيدين { في الأصفاد } [إبراهيم: 49] أي: سلاسل التقليدات والتقييدات وأغلال التعينات والتخمينات.

{ سرابيلهم } أي: قمائص تعيناتهم وتشخصاتهم { من قطران } أي: من غرابيب الظلمة العدمية، وهو في اللغة: دهن الأبهل والعرر، كالزفت أسود في غاية السواد، منتن نتنه في غاية الكراهة { وتغشى } أي: تستر { وجوههم } التي تلي الحق { النار } [إبراهيم: 50] أي: نار البعد والحرمان وسعير الخذلان والخسران.

وما ذلك؛ أي: انتقامهم وأخذهم إلا { ليجزى الله } الحكيم العليم المتقن في أفعاله ومأموراته ومنهياته وجميع تدبيراته { كل نفس } متعينة بتعين مخصوص { ما كسبت } وامتثلت ما أمرت به ونهيت عنه أو أعرضت { إن الله } الرقيب على عباده، المطلع لجميع أفعالهم { سريع الحساب } [إبراهيم: 51] يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه عدلا منه.

{ هذا } أي: ما ذكر من أوصاف يوم القيامة وأهوالها وأفزاعها { بلاغ } أي: تذكرة كافية وموعظة وافية { للناس } الذين نسوا طريق التوحيد وأعرضوا عنها بعروض الغفلة لهم، فليتعظوا { ولينذروا به } عن المعاصي والإجرام حتى لا يؤخذوا عليها، وليجتنبوا عن الشرك ولا يركنوا إليه { وليعلموا } عموم العباد إيمانا وإذعانا { أنما هو إله واحد } يعبد بالحق ويرجع إليه إلى أن ينكشفوا بالحقيقة الحقية { وليذكر } خصوصا { أولوا الألباب } [إبراهيم: 52] الناظرين بنور الله، الفانين به، الباقين ببقائه.

جعلنا الله ممن ذكر له فتذكر، وتحقق في مقر التوحيد وتقرر.

خاتمة السورة.

عليك أيها اللبيب المتذكر لمرتبة الأحدية التي هي ينبوع بحر الوجود أن تتذكر وتتعظ بمواعظ الكتاب الإلهي من مواعيده، وإنذاراته وحكمه وأسراره؛ لتتفطن بتطوراته وتجلياته، وشئونه في مراتب تنزلاته؛ حتى يسهل لك التقيظ من المنامات العارضة والغفلات الطارئة عليك من الإضافات الحاصلة بين الشئون والتجليات المبعدة عن صرافة الوحدة الذاتية، ويتيسر لك الوصول إلى منع جميع الأسماء والصفات، المستتبعة لأنواع الكثرات، ومرجع جميع الكائنات والفاسدات المترتبة عليها.

فاعلم أيها الطالب القاصد لسلوك طريق الهداية الموصلة إلى صفاء التوحيد الذاتي أن التوجه إليها والوقوف على أماراتها لا يتيسر إلا بعد تنبيه منبه نبيه، وإرشاد مرشد كامل خبير بصير.

Unknown page