وأما في النشأة الأخرى { أولئك } القاصرون المقصرون هم { الذين ليس لهم في الآخرة } أي: لم يبق لهم مما يترتب على أعمالهم فيها { إلا النار } إذ حسناتهم تفوى إليهم في النشأة الأولى ولم يبق لهم إلا توفية السيئات، وليس توفية السيئات إلا بالنار وما يترتب عليها من العذاب والآلام { و } بالجملة: { حبط } وضاع واضمحل { ما صنعوا فيها } أي: في النشأة الأولى من الخيرات والمبرات بإرادتهم الأمور الدنيوية لأجلها { و } صار بعدم إصلاحهم وعكس مرادهم { باطل } فساد مقتضى { ما كانوا يعملون } [هود: 16] من الصالحات فيها، وإن ظهر على صورة الصالحات.
[11.17-19]
{ أفمن كان على بينة من ربه } أي: تظنون وتحسبون أن من انكشف له برهان واضح وكشف صريح وشهود محقق من قبل ربه، وتحقق بمقام التوحيد، وبسريان وحدة الذات في جميع الكائنات والفاسدات { و } مع ذلك ش { يتلوه } يطرأ عليه ويجري على لسانه { شاهد } ناطق بتصديقه نازل { منه } أي: من عند ربه؛ امتنانا له وتفضلا عليه، يريد ويقصد من أفعاله وأعماله الصادرة عنه ظاهرا مثل ما أراد أولئك المحجوبون المستورون عن الحق، وإحاطته وشموله واستقلاله في الآثار الظاهرة في الآفاق كلا وحاشا
هل يستوي الذين يعلمون
[الزمر: 9] وما يتذكر إلا أولوا الألباب.
{ و } كيف ينكرون شهادة القرآن على تصديق خير الأنام؛ إذ { من قبله } أي: من قبل القرآن جاء { كتاب موسى } من قبل مصدقا له في دعواه وصار من عموم حكمه { إماما } أي: قدروة لقاطبة الأنام { ورحمة } شاملة للخواص والعوام؛ لإهدائهم إلى دار السلام { أولئك } أي: أهل التوراة، وهم الذين يؤمنون بها ويمتثلون بما فيها { يؤمنون به } أي: بحقية القرآن لكونه مذكورا في التوراة المنزل عليه { ومن يكفر به } أي: القرآن وبحقيته { من الأحزاب } المتحزبين مع المحرفين للتوراة، المنحرفين عن جادة الإيمان { فالنار موعده } لا بد أن يرد عليها على مقتضى العدل الإلهي { فلا تك } يا أكمل الرسل { في مرية } شك وارتياب { منه } أي: من ورودهم عليها إنجازا لوعده { إنه الحق } النازل { من ربك } لا بد أن يتحقق وقوعه { ولكن أكثر الناس } لانهماكهم في الغفلة وغلظ حجابهم عن الله { لا يؤمنون } [هود: 17] بحقيته وحقية وعده وإنجازه الموعود؛ لذلك حرفوا ما جاء من عنده في كتابه، وزادوا عليه ما لم يجيء منه.
{ ومن أظلم } على الله { ممن افترى على الله كذبا } عمدا، وحرف كتابه بتنقيص شيء منه أو زيادة عليه { أولئك } المحرفون المجترئون على الله بتبديل آياته { يعرضون } في يوم العرض الأكبر { على ربهم } ويسألون عما فعلوا بكتاب الله، فينكرون ويستنزهون أنفسهم عنه { ويقول الأشهاد } من أعضائهم وجوارحهم إلزاما لهم: { هؤلاء } المسرفون المعاندون { الذين كذبوا على ربهم } وحرفوا كتابه افتراء ومراء، ظلما وعدوانا، وبعد إشهاد هؤلاء الأشهاد، نودي من وراء سرادقات العز والجلال، تفضيحا لهم وتخذيلا على رءوس الأشهاد: { ألا لعنة الله } وطرده وإبعاده من سعة رحمته { على الظالمين } [هود: 18] المجاوزين عن مقتضى حكمه وحكمته عنادا ومكابرة.
وهم { الذين يصدون } ويصرفون عباد الله { عن سبيل الله } الذي هو الشرع المنزل من عنده على أنبيائه ورسله بالعدالة والتقويم { ويبغونها عوجا } أي: يريدون أن يحدثوا فيها عوجا وانحرافا؛ ليصرفوا ويرتدوا منها أهلها بعد إيمانهم بها وانقيادهم إليها فاستحقوا العذاب والنكال الأخروي { و } الحال أنه { هم بالآخرة } المعدة للجزاء والانتقام { هم كافرون } [هود: 19] منكرون لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم.
[11.20-24]
{ أولئك } البعداء المسرفون المتفرون على الله، المفرطون في تحريف كتابه { لم يكونوا } من أهل الإعجاز حتى صاروا { معجزين في الأرض } كل من تحدى معهم ويعارضهم { وما كان لهم من دون الله من أوليآء } حتى ينصروهم ويحفظوهم عن عذا الله إياهم إن تعلق إرادته بتعذيبهم في الدنيا، وإنما أمهلهم وأخر عذابهم إلى يوم الجزاء؛ ليقترفوا من موجباته وأسبابه أكثر مما كانوا عليه، وحتى يدوم وبالها لأجلهم، بل { يضاعف لهم العذاب } لأنهم بسبب أعراضهم عن الحق { ما كانوا يستطيعون السمع } لأن في آذانهم وقرا عن استماعه { وما كانوا يبصرون } [هود: 20] لتعاميهم عن أبصار آثاره ودلائله.
Unknown page