ثم أشار سبحانه إلى سر جواز أخذ الفدية والجزية للرسل والأنبياء، ووقته وسببه فقال: { ما كان } أي: ما صح وجاز { لنبي } من الأنبياء { أن يكون له } وفي يده { أسرى } من الكفار يفديهم على المال، ويخلي سبيلهم { حتى يثخن في الأرض } أي: لا يجوز لهم أخذ الفدية إلى أن يكثر القتل وبذل الكفار، ويعز الدين ويغلب أهله إلى حيث اضطر المخالفون لتخليص نفوسهم إلى الفدية، مع أنه لا يتوقع منهم المنازعة والمخاصمة أصلا، وصاروا مهانين مقهورين، ومتى لم يصلوا إلى هذه المرتبة لم يصح أخذ الفدية، وإذا كان أمر الفدية هكذا، كيف { تريدون } أيها المؤمنون بأخذها { عرض الدنيا } ومتاعها وحطامها { والله } المصلح لأحوالكم، المدبر لأموركم { يريد } لكم { الآخرة } وثوابها بأخذها، وما يترتب عليها من اللذات الروحانية، وأنتم تقصدون أن تستلذوا بحطام الدنيا ومزخرفاتها { والله } المراقب لحالاتكم { عزيز } غالب فيما أراد لأجلكم { حكيم } [الأنفال: 67] ريد لكم ما يليق بحالكم؟!.
{ لولا كتاب } حكم وأمر ثابت نازل { من الله } المنتقم الغيور { سبق } من سابق علمه بألا يأخذ المجتهد المخطئ بخطئه { لمسكم } أصابكم ونزل عليكم { فيمآ أخذتم } وافتديتم من أسارى بدر { عذاب عظيم } [الأنفال: 68] مقدار ما فوتم من حكمة الله وأبطلتم حكمه.
" روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية يقوى بها أصحابك، وقال عمر رضي الله عنه: اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر، فإن الله أغناك من الفداء فمكني من فلان؛ لنسب له، ومكن عليا وحمرمة من أخويهما، فنلضرب أعناقهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام حيث قال: { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ، مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } " فخير أصحابه فأخذوا الفداء، فزلت.
فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني، فإن أجد بكاء بكيت و إلا تباكيت، فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه " لشجرة قريبة عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو نزل العذاب لما برئ منه غير عغمر وسعد بن معاذ ".
ومتى اجتهدتم في أخذ الفدية من الأسرى فأخذتم الفدية، وإن كان اجتهادكم خطأ { فكلوا مما غنمتم } بعد إخراج الخمس وافتديتم من الأسرى؛ إذ هي من جملة الغنيمة { حلالا } مستحلين مستبيحين { طيبا } خاليا عن وصمة الشبهة، لاجتهادكم في أخذها { واتقوا الله } من المبادرة في الأمور، واحتاطوا فيها { إن الله } المدبر لأموركم { غفور } لما صدر عنكم من المبادرة إلى الفدية { رحيم } [الأنفال: 69] أباح لكم ما أخذتم.
[8.70-71]
{ يأيها النبي } المبعوث لتكميل الخلائق { قل } على وجه العظة والتذكير بمقتضى شفقة النبوة والإرشاد { لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله } المطلع لضمائركم واستعداداتكم { في قلوبكم خيرا } إيمانا وإيقانا، واطمئنانا وعرفانا { يؤتكم خيرا ممآ أخذ منكم } من حطام الدنيا، وهي اللذات الروحانية والكشوف والمشاهدات التي لا مقدار للذات الجسمانية دونها { ويغفر لكم } ما صدر عنكم من الكفر والعصيان { والله } الهادي لعباده نحو توحيده { غفور } لذنوبهم بعدما وفقهم للإيمان والإطاعة { رحيم } [الأنفال: 70] يرحمهم بعدما رجعوا نحوه وأنابوا.
" روي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال: صلى الله عليه وسلم: " فأين الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث لي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم " ، وقال العباس: وما يدريك؟ قال صلى الله عليه وسلم: " أخبرني ربي ".
قال أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، فقال العباس رضي الله عنه: فأبدلني الله خيرا من ذلك إلى الآن عشرين عبدا، إن أدناهم ليضرب عشرين ألفا ، وأعطاني زمزم ما أ؛ب أن لي بها أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربكم "
Unknown page