[2.72-74]
{ و } كيف تفعلونه وأنتم تعلمون أن سبب نزوله تفضيحكم وإظهار ما كتمتم في نفوسكم { إذ قتلتم نفسا } بغير حق { فادارأتم } وتدافعتم { فيها } أي: في شأنها بأن أسقط كل منكم قتلها عن ذمته وسترتم أمرها وهدرتم دمه { والله } المحيط بسرائركم وضمائركم { مخرج } مظهر { ما كنتم تكتمون } [البقرة: 72] في نفوسكم.
{ فقلنا } لكم بعد تدارئكم وتدافعكم وذبحكم البقرة المأمورة { اضربوه } أي: المقتول { ببعضها } أي: ببعض البقرة أي بعض كان، فضربوه فحيي بإذن الله، فأخبر بقاتله، ففضحوا وارتفعت المدارأة { كذلك } أي: مثل إحياء هذه المقتول بلا سبب تقتضيه عقولكم وترتضيه نفوسكم { يحيي الله } القادر على ما يشاء جميع { الموتى } في يوم الحشر والجزاء بلا أسباب ووسائل اقتضتها عقول العقلاء؛ إذ عنده الإبداء عين الإعادة والإعادة عين الإبداء، بل الكل في مشيئته على السواء { ويريكم } ظهوره من { آياته } الدالة على تحقيق وقوعه { لعلكم تعقلون } [البقرة: 73] رجاء أن تتفكروا ووتفطنوا منها إليه وتؤمنوا بجميع المعتقدات الشرعية الدنيوية والأخروية.
وصدقوها على وجه التعبد والانقياد وبلا مراء ومجادلة مع من أوتي بها من الرسل والأنبياء، ولا يتيسر لكم هذه المرتبة إلا بعد ذبحكم بقرة النفس الأمارة المسلطة بالوقة التامة عليكم، المتلونة بالألوان المسرة لنفوسكم وطباعكم، المسلمة الممتنعة من التكاليف الشرعية من الأوامر والنواهي، وضربكم بها على النفس المطمئنة المقهورة المقتولة ظلما لتصير حية بالحياة الأبدية، باقية بالبقاء السرمدي، فتخبركم وتذكركم عن صنائع أمارتكم الظالمة المتجاوزة عن الحدود، خلصنا الله من شرورها.
{ ثم قست } بالقساوة الأصلية { قلوبكم } المتكبرة المتحجرة الصلبة البليدة { من بعد ذلك } الإحياء الملين للقلوب الخائفة الوجلة عن خشية الله، وإذا لم تلن قلوبكم ولم يؤثر فيها { فهي } في الصلابة والقساوة { كالحجارة } التي لا تقبل النقر والأثر أصلا { أو أشد قسوة } أي: بل قلوبكم أشد صلابة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتأثر بالخير وقلوبك لا تتأثر أصلا { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } ويتأثر منها، وقلوبكم لا تتأثر بأنهار المعارف المتشعبة عن بحر الذات الجارية على جداول ألسنة الأنبياء صلوات الله عليهم { وإن منها لما يشقق } يتأثر بالشقوق في نفسها بتخليل بحر الدهور ومن مؤثر خارجي وإذا تشقق { فيخرج منه المآء } ويدخل فيه الماء، وقلوبكم لا تتأثر لا بنفسها ولا بالمؤثر الخارجي { وإن منها لما يهبط } ينزل من أعلى الجبل { من خشية الله } الناشئة عن ظهور الآيات مثل المطر الهاطل والريح العاصف والزلزلة القالعة وغير ذلك من الآيات الظاهرة في الآفاق، لا تتأثر بالآيات الباهرة النازلة عليكم ترغيبا وترهيبا.
هذا تقريع وتوبيخ لهم على أبلغ وجه وآكده، وحث على المؤمنين وتحذير لهم من ربكم أمثالها بأنهم مع قابليتهم على التأثر لا يقبلون الأثر النافع لهم في الدارين، والحجارة مع صلابتها وعدم قابليتها تتأثر فهم أسوأ حالا وأشد قساوة وصلابة منها، ومع ذلك يخادعون الله في الأمر بالستر والإخفاء، ويظنون غفلته { وما الله } المظهر لهم، المحيط بجميع مخايلهم وحيلهم { بغافل عما تعملون } [البقرة: 74] ولو طرفة ولمحة وخطرة.
ثم لما ذكر سبحانه امتنانه على بني إسرائيل وإنعامه إياهم بأنواع النعم، وذكر أيضا ظلمهم وعداونهم وكفرانهم نعمه، أراد أن ينبه على المؤمنين المحمديين المتمنين إيمان اليهود وانقيادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤاخاتهم مع المؤمنين بأن متمناكم وملتمسكم محال.
[2.75-77]
{ أ } لم تسعموا قصتهم، ولم تعرفوا خيانتهم ودناءتهم وزلتهم المضروبة عليهم وسوء معاملتهم مع نبيهم المبعوث عليهم { فتطمعون } وترجون { أن يؤمنوا لكم } أي: بنبيكم، ويصادقوا ويحاقوا ويتلوا معكم كلام الله مع علمكم بحالهم { و } لم تسعموا أنه { قد كان فريق منهم } من أسلافهم قوم { يسمعون كلام الله } النازل لهم، وفيه وصف نبينا صلى الله عليه وسلم فيضطربون ويستقلون بعثته { ثم } لما قرب عهده صلى الله عليه وسلم وظهر أمره، واستشعروا من أمارته أنه هو النبي الموعود في كتابهم { يحرفونه } أي: الكتاب، حسدا وعنادا ويغيرونه مكابرة { من بعد ما عقلوه } جزموه وحققوه أنه هو { وهم } أيضا { يعلمون } [البقرة: 75] مكابرتهم ومعاندتهم ويجزمونه في نفوسهم بحقيته، ويقولون في خلواتهم: إنا وإن كان النبي الموعود لكن لا نؤمن له؛ لأنه من العرب لا منا.
{ و } منهم من آمن وصدق ظاهرا لمصلحة دنيوية وهو على خباثته الأصلية ودنائته الجبلية، بل أخبث منها بحيث { إذا لقوا الذين آمنوا } وأخلصوا في إيمانهم { قالوا آمنا } برسولكم الذي هو الرسول الموعود في التوراة يقينا، وصدقنا جمع ما جاء به من عند ربه { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } أي: المنافقين مع المصرين { قالوا } أي : كل من الفريقين للآخر عند المشاورة وبث الشكوى: أترون أمر هذا الرجل كيف يعلو ويرتقي وما هو إلا النبي المؤيد الموعود في كتابنا؟ أي شيء تعلمون يا معاشر اليهود؟ { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } في كتابكم من وصفه { ليحآجوكم به } ويغلبوا عليكم ويتقربوا { عند ربكم } فالعار كل العار، أم تحرفون الكتاب ولا تسلمونه غيرة وحمية؟ { أفلا تعقلون } [البقرة: 76] تتفكرون وتتأملون أيها المتيدنون بدين الآباء في أمر هذا الرجل؟ هكذا جرى حالتهم دائما بأن قالوا بأمثال هذه الهذيانات إلى أن تتفرقوا.
Unknown page