Tafsir
معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي
Investigator
حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر - عثمان جمعة ضميرية - سليمان مسلم الحرش
Publisher
دار طيبة للنشر والتوزيع
Edition Number
الرابعة
Publication Year
١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ بَرَاءَةَ سُلَيْمَانَ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْمَعُونَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ وَغَيْرِهِ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ وَيَخْلِطُونَ بِمَا يَسْمَعُونَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كِذْبَةً وَيُخْبِرُونَهُمْ بِهَا [فَكُتِبَ ذَلِكَ] (١) وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ وَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ وَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ وَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ وَدَفَنَةُ الْكُتُبِ، وَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، تَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ فَأَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزٍ لَا تَأْكُلُونَهُ أَبَدًا قَالُوا: نَعَمْ فَذَهَبَ مَعَهُمْ فَأَرَاهُمُ الْمَكَانَ الَّذِي تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَحَفَرُوا فَأَقَامَ نَاحِيَةً فَقَالُوا لَهُ: ادْنُ وَقَالَ: لَا أَحْضُرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَاقْتُلُونِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَدْنُو مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ، فَحَفَرُوا وَأَخْرَجُوا تِلْكَ الْكُتُبَ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ لَعَنَهُ اللَّهُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يَضْبِطُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالطَّيْرَ بِهَذَا، ثُمَّ طَارَ الشَّيْطَانُ عَنْهُمْ، وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، وَأَخَذُوا تِلْكَ الْكُتُبَ (وَاسْتَعْمَلُوهَا) (٢) فَلِذَلِكَ أَكْثَرَ مَا يُوجَدُ السِّحْرُ فِي الْيَهُودِ، فَلَمَّا جَاءَ مُحَمَّدٌ ﷺ بَرَّأَ اللَّهُ تَعَالَى سُلَيْمَانَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْزَلَ فِي عُذْرِ سُلَيْمَانَ: ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾ بِالسِّحْرِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ سُلَيْمَانُ كَافِرًا بِالسِّحْرِ وَيَعْمَلُ بِهِ ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵁ وَالْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ، "لَكِنْ" خَفِيفَةَ النُّونِ "وَالشَّيَاطِينُ" رَفْعٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ وَلَكِنَّ مُشَدَّدَةَ النُّونِ "وَالشَّيَاطِينَ" نَصْبٌ وَكَذَلِكَ "وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ" (١٧-الْأَنْفَالِ) وَمَعْنَى لَكِنْ: نَفْيُ الْخَبَرِ الْمَاضِي وَإِثْبَاتُ الْمُسْتَقْبَلِ.
﴿يُعَلِّمُونَ النَّاسَ﴾ قِيلَ: مَعْنَى السِّحْرِ الْعِلْمُ وَالْحِذْقُ بِالشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ" (٤٩-الزُّخْرُفِ) أَيِ الْعَالِمُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ السِّحْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّمْوِيهِ وَالتَّخْيِيلِ، وَالسِّحْرُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ كُفْرٌ، حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ﵁ أَنَّهُ قَالَ: السِّحْرُ يُخَيِّلُ وَيُمْرِضُ وَقَدْ يَقْتُلُ، حَتَّى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَ بِهِ فَهُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، يَتَلَقَّاهُ السَّاحِرُ مِنْهُ بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ، فَإِذَا تَلَقَّاهُ مِنْهُ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ فَيَجْعَلُ الْآدَمِيَّ عَلَى صُورَةِ الْحِمَارِ وَيَجْعَلُ الْحِمَارَ عَلَى صُورَةِ الْكَلْبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ تَخْيِيلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى" (٦٦-طه) لَكِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْأَبْدَانِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، وَلِلْكَلَامِ تَأْثِيرٌ فِي الطِّبَاعِ وَالنُّفُوسِ وَقَدْ يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُ فَيَحْمَى وَيَغْضَبُ وَرُبَّمَا يُحَمُّ مِنْهُ،
(١) وفي (ب) فاكتتب الناس ذلك. (٢) ساقطة من (ب) .
1 / 128