Tafkir Farida Islamiyya
التفكير فريضة إسلامية
Genres
فالتعمق في طلب الأسرار صفة مشتركة بين الصوفية وفلاسفة التفكير الذين يغوصون على الحقائق البعيدة، وعلماء النفس الذين ينقبون عن ودائع الوعي الباطن، وغرائب السريرة الإنسانية.
ولبس الصوف إن دل على التخشن والزهد في الدنيا لم يكن خاصة مميزة للصوفية؛ لأن أناسا من أقطاب الصوفية أخذوا نصيبهم من الدنيا وافيا، وفهموا أن الزاهد من لا تملكه الدنيا وإن ملكها، أو كما قال مسروق: «الزاهد من لا يملكه مع الله سبب.» ولا ضير عليه أن يملك الأسباب.
والاشتغال بالحكمة الدينية عمل يعمله حكماء الصوفية، وهم طائفة من أهل التصوف مع طوائفهم الكثيرة التي تسلك مسلكهم، ولا تحسب من حكمائهم؛ بل ربما وجد من علمائهم من يكتب في المعاملات، وقد ذكرهم الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي فقال في كتاب «التعرف» بعد تسمية بعضهم: «هؤلاء هم الأعلام المذكورون المشهورون المشهود لهم بالفضل، الذين جمعوا علوم المواريث إلى علوم الاكتساب. سمعوا الحديث، وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن، تشهد بذلك كتبهم ومصنفاتهم، ولم نذكر المتأخرين وأهل العصر وإن لم يكونوا بدون من ذكرنا علما؛ لأن الشهود يغني عن الخبر عنهم.»
فالصوفية قد يخلعون الصوف، وقد يعيشون بين الناس ولا ينقطعون للخدمة الدينية، وقد يكتبون في الحكمة الإلهية، أو يكتبون في المعاملات والمكاسب، أو لا يشتغلون بالكتابة، ولكنهم إذا غربت عنهم صفة واحدة - هي صفاء القلب لله - لم يحسبوا من الصوفية ، ولم يسلكوا أنفسهم في عداد أهل التصوف بسمة أخرى من سماتهم المشهورة.
إن المزية الصوفية الخاصة هي مزية الإيمان بالله على الحب لا على الطمع في الثواب، أو على الخوف من الحساب والعقاب، ومثلهم في ذلك مثل الفرد المثالي في بيئته الاجتماعية؛ فإن الناس عامة يقنعون بواجبهم الاجتماعي الذي لا يجاوز الحذر من مخالفة القانون، والأمل في خيرات المجتمع، ولكن الفرد المثالي يخدم البيئة الاجتماعية بباعث من الغيرة التي لا تنظر إلى الجزاء؛ بل تعمل وتثابر على عملها مع سوء الجزاء، أو مع اليقين من العقاب.
وكذلك الصلة بين الصوفي وربه إنما هي صلة قائمة على المحبة لا على مجرد الطاعة لأوامره، والخوف من نواهيه؛ فإن المحب يعطي من عنده فوق ما يؤمر به، ولا ينتظر الطلب ليستجيب إليه، وكلهم يقول مع رابعة العدوية: «اللهم إن كنت تعلم أنني أعبدك طمعا في جنتك؛ فاحرمني نعيم جنتك، وإن كنت تعلم أنني أعبدك رهبة من نارك؛ فعذبني بنارك.»
وكل من نظم منهم شعرا عبر بكلمة الحب عن هذه الصلة الإلهية، كما قال ابن عربي:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
أو كما قال ذو النون:
Unknown page