175

Tafkir Cilmi

التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر

Genres

76

ولذلك استبعد أينشتين المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل؛ ففي خطاب وجهه إلى ماكس بورن في 30 ديسمبر سنة 1947م يقول: «إنني بالطبع أرى أن التفسير الإحصائي يقوم على جانب كبير من الصدق، ولكنني لا أستطيع أن أومن به إيمانا جديا؛ ذلك لأن النظرية غير متماسكة مع المبدأ القائل بأن الفيزياء ينبغي أن تمثل حقيقة واقعة في المكان والزمان بدون تأثيرات خيالية عبر المسافات ... إنني مقتنع اقتناعا مطلقا بأن المرء سوف يصل في نهاية الأمر إلى نظرية تكون فيها الموضوعات المرتبطة بقوانين ليست احتمالات وإنما وقائع متصورة.»

77

ويذهب بعض الباحثين إلى أن استبعاد أينشتين للمنهج الاحتمالي كان خاطئا إلى حد ما؛ حيث إن القوانين الاحتمالية في فيزياء الكم والميكانيكا الموجية كما يؤكد بعض الباحثين، هي قوانين محققة تحقيقا تجريبيا، وتكشف كشفا صادقا عن طبيعة الظواهر التي تنطبق عليها. إن دخول المنهج الإحصائي ليس معناه إدخال الشك والعوامل الذاتية في مجال ينبغي أن يكون موضوعيا بشكل حاسم، وإنما يدل على سقوط التصور الزائف المحدود للموضوعية في مفهومها التقليدي؛ فتحديد الموضوعية بحدود موضع الجزيء الفرد وسرعته، تحديد جامد؛ إذ إن الموضوعية ليست صفة التفرد، وإنما صفة الترابط والتداخل، والتعدد والتشابك؛ ولهذا تميزت الفيزياء الحديثة بوجه عام، بموضوعيتها لاحتفاظ موضوعات بحثها ونتائجها بهذه الصفات. والاحتمال هو التعبير الدقيق الكامل عن هذه الصفات من ترابط وتداخل وتعدد وقابلية للتغير والاستقلال. وهي الصفات التي واجهتنا في حركة الغازات واتجاه المحدود

entropy

وحركة الإلكترون وموضع الجسيم في موجة الاحتمال. هي صفات فيزيائية أصيلة، يعبر عنها حساب الاحتمالات تعبيرا دقيقا. والقياس الاحتمالي بشكل عام ليس تحديدا متعسفا للموضوعات المدروسة، وإنما استيعاب لها وامتلاء بحقيقتها وطواعية لإمكانياتها.»

78

ولقد عارض هيزنبرج وبقوة دعوة أينشتين في أن مبدأ اللايقين ناتج عن عمليات موضوعية خالصة؛ فأداة القياس أداة فيزيائية مركبة من عناصر فيزيائية تقوم بينها وبين الوقائع الفيزيائية ظواهر موضوعية دقيقة غاية الدقة هي التي يحددها تحديدا دقيقا مبدأ اللايقين أو عدم التحديد؛ فنجد هيزنبرج يعقد فصلا في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، بعنوان «نقد تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، والاقتراحات المضادة له»؛ حيث ذكر أن النقد الذي ظهر في العديد من أبحاث أينشتين (وغيره) يركز على قضية ما إذا كان تفسير كوبنهاجن يسمح بوصف متفرد موضوعي للحقائق الفيزيائية. ويمكن أن نعرض حججهم الجوهرية فيما يلي: إن البرنامج الرياضي لنظرية الكم يبدو وصفا كاملا كافيا لإحصائيات الظواهر الذرية. لكن حتى لو كانت تقاريره أن احتمالات الوقائع الذرية صحيحة تماما، فإن هذا التفسير لا يصف ما يحدث واقعيا وصفا مستقلا عن الملاحظات أو بين الملاحظات. لكن شيئا ما لا بد أن يحدث، هذا أمر لا يمكن الشك فيه. وهذا الشيء لا يلزم أن يوصف بصيغة الإلكترونات أو الموجات أو كمات الضوء. ومهمة الفيزياء لا تتم دون أن نصفه بشكل أو بآخر. لا يمكن أن نقر بأنه يشير إلى فعل الملاحظة وحده. لا بد للفيزيائي أن يسلم أنه في علمه إنما يدرس عالما لم يصنعه هو، عالما سيوجد دون تغير يذكر في غير وجوده. وعلى هذا فإن تفسير كوبنهاجن لا يقدم أي تفهم حقيقي للظواهر الذرية يسهل مرة أخرى أن نرى أن ما يتطلبه هذا النقد هو الأنطولوجيا المادية القديمة ، ولكن، ما ستكون الإجابة من وجهة نظر تفسير كوبنهاجن؟

79

ويستطرد «هيزنبرج»: «يمكن القول إن الفيزياء جزء من العلم؛ ومن ثم فإنها تهدف إلى وصف وتفهم الطبيعة. وأي صورة للتفهم - علمية كانت أو غير علمية - إنها تعتمد على لغتنا، على تبادل الأفكار. إن كل وصف للظواهر، للتجارب ونتائجها، يرتكز على اللغة كسبيل أوحد للاتصال. وكلمات هذه اللغة تمثل مفاهيم الحياة اليومية، وهي مفاهيم هذبت في اللغة العلمية للفيزياء إلى صورة مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية. هذه المفاهيم هي الأدوات الوحيدة لاتصال لا يشوبه غموض حول الوقائع، حول إقامة التجارب وحول نتائجها. وعلى هذا فإذا ما سئل الفيزيائي أن يقدم وصفا لما يحدث واقعيا في تجاربه، فإن كلمات «وصفا» و«يحدث» و«واقعيا» لا تشير إلا إلى مفاهيم الحياة اليومية أو الفيزياء الكلاسيكية، فإذا ما تخلى الفيزيائي عن هذا الأساس، فقد وسيلة الاتصال غير الغامض، فلا يستطع المضي في عمله. وعلى هذا فإن أي تقرير عما قد «حدث واقعيا» هو تقرير صيغ في لغة المفاهيم الكلاسيكية وهو بطبيعته ناقص بالنسبة لتفاصيل الوقائع الذرية، بسبب الثرموديناميكية والعلاقات اللامحققية. إن سؤالنا «أن نصف ما يحدث» (في عملية الكم النظرية) بين ملاحظتين متعاقبتين هو - بصفته - تناقض؛ لأن كلمة الوصف إنما تعني استخدام المفاهيم الكلاسيكية، بينما لا يمكن تطبيق هذه المفاهيم على الفضاء بين الملاحظات، هي لا تطبق إلا عند مواقع الملاحظة.»

Unknown page