Tafkir Cilmi
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Genres
المقدمة
الدراسة الأولى
الدراسة الثانية
الدراسة الثالثة
الدراسة الرابعة
الدراسة الخامسة
المقدمة
الدراسة الأولى
الدراسة الثانية
الدراسة الثالثة
Unknown page
الدراسة الرابعة
الدراسة الخامسة
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
تأليف
محمود محمد علي
المقدمة
ما زلت أومن، بل ربما أكثر من أي وقت مضى، بأن التفكير العلمي هو كما قال أستاذنا الدكتور فؤاد زكريا ليس هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة، هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلا، وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وإن تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.
1
أما التفكير العلمي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكل حادث سببا وإن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء.
Unknown page
2
والتفكير العلمي يعتمد على منهجية أساسها الموضوعية التي تعني تجرد الباحث عن أهوائه وميوله الذاتية وأغراضه الشخصية، والإذعان للحق والحقيقة، وإسلامنا الحنيف يدعو صراحة إلى هذا البعد الأساسي المنهجي، من حيث ينهى عن اتباع الأهواء والميول والظنون التي لا تغني من الحق شيئا، بل إنه ينعى على من يخضع لهذه المؤثرات جميعا، ويتبدى لنا ذلك في قوله تعالى:
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا (الفرقان: 43، 44)، ويقول سبحانه:
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس (النجم: 23)، ويقول عز وجل:
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا (يونس: 36)، فهذه الآيات وغيرها كثير، صريحة الدلالة على دعوة الإسلام إلى ضرورة الالتزام بالحق والتثبت باليقين، والتجرد من الميول والأهواء والنزعات الشخصية سواء في مجال الاعتقاد أو الفكر أو السلوك الفردي.
3
وإذ يضع القرآن هذه القواعد والضوابط، فإنه يحث ويؤكد على طلب العلم والمعرفة والسعي الجاد في تحصيلها بكل ما أوتي الإنسان من وسائل وقدرات. ويظهر ذلك في قوله تعالى:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (يونس: 50)، وأظهر من ذلك قوله:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل: 3). والمقصود بأهل الذكر كل متخصص في مجاله أيا ما كان هذا المجال، بل إن أول آية نزلت في القرآن تتضمن أمرا بالتعلم، وهي قوله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 1-4). ويدعو إلى الاستزادة، لا من المال أو الجاه أو إشباع الشهوات والغرائز، وإنما الاستزادة من العلم، في قوله تعالى:
Unknown page
وقل رب زدني علما (طه: 114).
4
وعلاوة على ذلك فإن القرآن يصرح بأن العالم أرفع درجة وأعلى منزلة من الجاهل الذي يصفه بالعمى، وهو يثير القضية في استفهام إنكاري له مغزاه؛ حيث يقول تعالى:
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9)، طبعا لا يستويان. ثم يعلن حقيقة الأمر في قوله تعالى:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة: 11). ويظهر الفرق بين العالم والجاهل؛ حيث يقول سبحانه:
أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب (الرعد: 19)، وكذلك في قوله تعالى:
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط (آل عمران: 18)، وفي هذه الآية قرن الله تعالى العلماء به وبملائكته في شهادة التوحيد، فوضعهم في أسمى مكانة إيمانية.
هذا وقد قد بلغت عناية القرآن بالعلم إلى حد أن قرر أن الإنسان المؤمن الحق، الذي يخشى الله حق الخشية، ويقدر جلال الألوهية حق قدرها، إنما هو العالم الحق، وذلك في قوله تعالى:
إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر: 28)، وقوله:
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (العنكبوت: 43). وإلى جانب ذلك، هناك آيات كثيرة تشير إلى العلماء. وإن الآيات القرآنية، والآيات الكونية التي يمتلئ بها الكون في آفاقه وظواهره، إنما يفهمها أو يطالب العلماء والباحثين بفهمها والعلم بحقائقها ودلالاتها.
Unknown page
موضوعنا إذن هو التفكير العلمي وهو يمثل موضوع الساعة في العالم العربي؛ ولذلك فقد انتقينا بعض القضايا والإشكاليات، والتي تدخل في صميم إطار التفكير العلمي، وتدور الدراسة الأولى حول «الدراسة الأولى: التفكير العلمي عند العرب في ضوء الرؤية الاستشراقية». في حين جاءت الدراسة الثانية بعنوان «التفكير وإشكالية التجارب الحاسمة بين التأييد والتفنيد (دراسة تحليلية-نقدية في فلسفة العلم المعاصرة)». أما الدراسة الثالثة فتدور حول «التفكير العلمي في ضوء إشكالية الفروض المساعدة ومكانتها في ميثودولوجيا برامج الأبحاث عند إمري لاكاتوش». وأما الدراسة الرابعة «التفكير العلمي وإشكالية حروب العلم في ضوء خدعة آلان سوكال». وأخيرا جاءت الدراسة الخامسة بعنوان «التفكير العلمي وميكانيكا الكوانتم في ضوء مبدأ اللايقين عند هيزنبرج».
والله ولي التوفيق.
أ. د. محمود محمد علي محمد
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة
كلية الآداب، جامعة أسيوط
الدراسة الأولى
التفكير العلمي عند العرب في ضوء الرؤية الاستشراقية
تمهيد
تعد قضية الاستشراق ظاهرة علمية وثقافية غربية ذات تاريخ طويل، يرجع لدى بعض الدارسين إلى ألف سنة؛ فهو من حيث الزمان نتاج امتداد زمني قديم، ثم هو من حيث المكان الجغرافي ذو جذور ممتدة في بلاد غربية كثيرة، بحيث يمكن القول بأن كل الدول الغربية - تقريبا - قد أسهمت فيه، وإن تكن بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا وألمانيا في العصر الحديث هي صاحبة الجهد الأكبر فيه، سواء على مستوى المحتوى الحضاري والثقافي للشرق الذي اهتم به المستشرقون، أو على مستوى تنوع الجهود العلمية النظرية والعملية التي بذلها هؤلاء لتحقيق غايات متعددة. على أن قسما كبيرا من هذه الجهود قد انصب لأسباب متنوعة على دراسة الشرق العربي الإسلامي في علومه وديانته وآدابه وفلسفاته. وهو ما يجعلنا مطالبين - أكثر من غيرنا - بدراسة الحركة الاستشراقية وتقويمها، والتركيز على بيان إيجابياتها وسلبياتها حتى نسهم في تنوير وتوعية عقول شبابنا من الباحثين والدارسين، ومعاونتهم في فهم محتوى وتوجهات هذه الحركة، ليفيدوا من إيجابياتها ويكونوا على دراية وإحاطة بسلبياتها؛ ومن ثم يكونوا في مأمن من التأثر بهذه السلبيات علما وثقافة ومنهجا وسلوكا.
1
Unknown page
لقد تناول المستشرقون التراث العربي والإسلامي بالكشف والجمع والصون، والتقويم والفهرسة، لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى حيث دراسة هذا التراث وتحقيقه ونشره وترجمته والتنظير له والتصنيف فيه، في منشئه ومصادره وتأثره وتطوره وأثره ومقارنته بغيره، مستعينين في ذلك كله بما أنشئوه من المعاهد والمراكز البحثية والمؤسسات العلمية الجامعية والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتى بلغوا فيه منذ مئات السنين، وفي شتى البلدان وبسائر اللغات، مبلغا عظيما من العمق والشمول والطرافة. وأصبح إنتاجهم العلمي يكون أحد الروافد الرئيسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لتراثنا وثقافتنا العلمية والفلسفية والقومية.
2
وكان للعلم العربي نصيب وافر من هذه الجهود الاستشراقية على تنوعها سواء فيما يختص بالكشف عن كنوز تراثه وصيانته وطبعه ونشره وترجمته، أو فيما يتعلق بدراسته وتقييمه ونقده ومعالجة قضاياه ومشكلاته والترجمة لأعلامه. ولم تقصر هذه الجهود على مجال واحد من مجالات العلم العربي، وإنما شملت جميع مجالاته تقريبا؛ الطب، والفلك، والميكانيكا، والرياضيات، والزراعة، والملاحة والبيطرة ... إلخ. ولولا هذه الجهود الاستشراقية - على ما فيها من سلبيات - لظلت معرفتنا بتراثنا العلمي محدودة في أضيق نطاق.
ولهذا السبب حظي الاستشراق والمستشرقون باهتمام كبير من علمائنا ومفكرينا المعاصرين، ولكن اهتماماتهم انصبت إما على تفنيد آراء المستشرقين في تحقيق هذا التراث وفهرسته ونشره، ولكن بحثنا هذا يركز على جانب واحد من آراء المستشرقين في الفكر العربي، وهو «الرؤية الاستشراقية للعلم العربي بين الأصالة والتبعية».
وطريقتنا في هذا البحث نقوم باستعراض بعض الآراء الأساسية للمستشرقين فيما يتصل بظاهرة العلم العربي، ثم نعقب على ذلك بما نستخلصه من المواقف الاستشراقية إزاء العلم العربي.
ونحن بادئ ذي بدء لا ندخل على المستشرقين هنا دخول المنكر المعاند الباحث عن المثالب، وإنما ندخل عليهم دخول الباحث الذي يتوخى الوصول إلى الحقيقة، وهذا سيجعلنا نتعرف على ما للمستشرقين من إيجابيات تذكر لهم وما لهم من سلبيات تسجل عليهم.
والمحاور الأساسية لهذا البحث تدور على النحو التالي: (1)
موقف المستشرقين من إشكالية وجود علم عربي. (2)
تفنيد رأي المستشرقين القائلين بأن العلم العربي مجرد نقل واقتباس عن علوم اليونان. (3)
موقف العلماء العرب المعاصرين من الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي.
Unknown page
وسوف نعالج هذه المحاور بشيء من التفصيل فيما يلي:
أولا: موقف المستشرقين من وجود علم عربي
لا شك في أن التقدم العلمي الذي عرفته الحضارة العربية-الإسلامية في عصر ازدهارها يعد بحق مثلا رائعا من أمثلة التفاعل الخصب بين الحضارات؛ فنقطة البداية في هذا العلم كان ذلك التفتح الفكري الذي ألهم علماء العرب - تحت رعاية الخلفاء المسلمين في العصر العباسي بوجه خاص - أن ينقلوا كل ما أتيح لهم من علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة تعد من أروع الأعمال التي تحققت حتى ذلك الحين.
وهكذا عرف العرب والمسلمون علوم اليونان والفرس والهنود، ولم يترددوا في استخدام كل الذخيرة الضخمة من المعلومات العلمية التي كدستها البشرية حتى ذلك الحين من أجل تلبية حاجات المجتمع الذي كان ينمو ويزداد تعقدا يوما بعد يوم.
ولقد أسهم في هذه الحركة العلمية النشطة علماء من أصل عربي، وآخرون ينتمون إلى مختلف البلاد التي أصبحت تدين بالإسلام، ولكن الجميع كانوا يكتبون ويفكرون بالعربية، وكان الجو الذي يشيع في كتاباتهم إسلاميا بحتا، وكانوا ينظرون إلى أنفسهم مهما بعدت بلادهم في أقصى أطراف آسيا الوسطى أو الأندلس على أنهم ينتمون قلبا وروحا إلى تلك الحضارة التي انبعثت إشعاعاتها الأولى في قلب الجزيرة العربية.
3
ولقد خلف لنا العلماء العرب تراثا علميا لا حصر له، فلما أن ظهرت حركة الاستشراق وقويت منذ مطلع القرن التاسع عشر متوجهة بتياراتها ورجالها نحو هذا التراث العربي-الإسلامي، فقد قال المستشرقون ما وجدوا في هذا التراث من ثراء وتنوع، فانكبوا عليه يدرسونه ويحللونه ويشرحونه ويصنفونه ويكشفون غوامضه، ويجلون واضحه وينشرون مخطوطاته.
وإذا كان معظم المستشرقين قد عنوا بنشر تراثنا العلمي العربي وتحقيقه وفهرسته، فلا شك أنهم بهذا قدموا لنا خدمة جليلة؛ حيث قدموا هذا التراث العلمي الخصيب، والذي لولاهم ما كان لنا أن نقف عليه بمثل هذه الصورة، دون ذلك الجهد. يقول أستاذنا المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور: «ولولا قيض الله لفلاسفة الإسلام جماعة من المستشرقين وقفوا عليه بعض بحوثهم ودراساتهم لأصبحنا اليوم ونحن لا نعلم من أمرهم شيئا يذكر».
4
ولم تقف جهود المستشرقين عند حد الطبع والنشر، بل حاولوا أن يكشفوا معالم الحياة العلمية والعقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلا، فكتبوا عن العلم والعلماء يشرحون الآراء والمذاهب أو يترجمون للأشخاص والمدارس، وقد يقصرون بحثهم على بعض الأشخاص والنظريات والألفاظ والمصطلحات.
Unknown page
5
ولقد وصل بهم التخصص درجة أضحى معها كل مستشرق معروفا بالناحية التي تفرغ لها، ومن ذا الذي يذكر مثلا «روسكا»
6
ولا يذكر معه الكيمياء العربية، أو «نلينو»
7
ولا يذكر معه الفلك، أو «ماكس مايرهوف»
8
ولا يذكر معه الطب، أو «فرانز روزنتال».
9
ولا يذكر معه مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي؟
Unknown page
ويطول بنا السرد لو تتبعنا هؤلاء المستشرقين على اختلاف اختصاصاتهم وتعدد جنسياتهم. ونكتفي بما قرره أحد أساتذتنا المعاصرين: «بأن الربع الأول من القرن العشرين شهد حركة استشراق نشيطة كل النشاط، وكان للدراسات العقلية والعلمية فيها نصيب ملحوظ».
10
بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها على العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدى، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتى مجالات العلم العربي، مع أنهم - أي المستشرقين - كانوا أول الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة.
لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية؛ ومن ثم قرروا لعلماء العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان.
إننا هنا نود أن نشير إلى موقف المستشرقين من ظاهرة ما يسمى ب «العلم العربي»، وفي هذا نقول: لقد انقسم المستشرقون بإزاء هذه الظاهرة إلى فريقين رئيسين: (أ) أما الفريق الأول
فقد رأى أن ما يسمى بالعلم العربي ما هو إلا مجرد نقل واقتباس عن اليونان والهند وغيرهما من الأمم، فإذا ما عثر على أمر طريف في هذا العلم، فلا بد أن يكون له في العلوم القديمة أصل.
وأصحاب هذا الرأي يمثله كثير من المستشرقين من أمثال: «رينان»، «سيرسل ألقود»، «دي بور»، وغيرهم.
فنجد المستشرق الفرنسي «رينان» يقول: «كثيرا ما يردد القول عن العلم العربي والفلسفة العربية، وفعلا أن العرب كانوا أساتذتنا فيهما طيلة قرن أو قرنين من العصر الوسيط، ولكننا ما لجأنا إلى ذلك، إلا ريثما نحصل على الأصل اليوناني، فهذا العلم العربي، وهذه الفلسفة العربية لم يكونا إلا نقلا حقيرا للعلم والفلسفة اليونانية. ومتى تركزت اليونانية الحقة أصبحت هذه النقول الداهشة عديمة الجدوى، ولأمر ما شن عليها علماء اللغة في عصر النهضة حربا صليبية شعواء ... هذا إلى أننا إذا تمعنا في كل هذه الآثار، نجد أن العلم العربي لا شيء فيه، وأن صفحة من روجر بيكون لتحوي من التفكير العلمي الحق أضعاف ما في هذا العلم غير الأصيل بأكمله، فهو دون شك حلقة محترمة من حلقات التراث، إلا أنه لا يشتمل على شيء وافر من الطرافة».
11
وفي نفس هذا الاتجاه يسير المستشرق الألماني «دي بور»، حيث يقول: «أخذ العرب عناصر فلسفتهم الطبيعية من مؤلفات إقليدس وبطليموس وأبقراط وجالينوس، ومن بعض كتب أرسطو؛ أخذوها إلى جانب هذا من كتب كثيرة ترجع إلى المذهبين الفيثاغوري الجديد والأفلاطوني الجديد ...» وينتهي «دي بور» إلى أن «العلم العربي» غير أصيل في حد ذاته.
Unknown page
12
إلا أن هناك مستشرقين آخرين، يرون أن العلم العربي ليس مأخوذا فقط عن اليونان، بل هو من إنتاج الفرس. ومن هؤلاء المستشرق الفرنسي «سيريل ألقود» الذي يقول: «إن ما عرف بالعلم العربي ما هو إلا إنتاج الفرس.» وسيستشهد «ألقود» على ذلك ب «براون»
Brown
في كتابه عن «تاريخ الفرس» الذي يقول فيه: «إذا حذفنا من علوم العرب ما كان من إنتاج الفرس حذفنا منها أجل ما حوت من مادة.»
13
صدرت هذه الأحكام القاسية على تراثنا العلمي العربي، والغريب أن هؤلاء المستشرقين، قد اعتمدوا في آرائهم تلك، كما يذكر المستشرق «مارتن بلسنر»، على ما أكده ابن خلدون من أن العرب الخلص لعبوا دورا صغيرا فحسب في التطور الأساسي للعلوم عند المسلمين، وأن معظم الفضل في ذلك ينبغي أن ينسب إلى الفرس والنصارى واليهود. وهذا ما ورد في مقدمة ابن خلدون: الفصل الحادي والعشرون «في أن العرب أبعد الناس عن الصنائع»، وأيضا في قوله: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم.»
14
كما يتبنى المستشرق الفرنسي (أ. ف. قويتي) آراء ابن خلدون ويجعل منه عبقرية غربية فيقول: «ومما يلوح للأعين من أول ذلك ينبغي أن ينسب إلى الفرس والنصارى واليهود.» ويستشهد على صحة رأيه في نظره بأن ابن خلدون كان له اهتمام كبير بروح النقد؛ أي إن هذا الشرقي كان يتصور التاريخ تصورا غربيا: «أليس في الإمكان أن نوقن أنه قد بلغت نفحة من نهضتنا الغربية إلى روح ابن خلدون الشرقية؟»
15
وإذا كان بعض هؤلاء المستشرقين قد تمكنوا أن يتبنوا رأيا لرجل فكر عربي مسلم مثل «ابن خلدون»، وأن يؤولوا ظاهرة بما يتلاءم مع نزعتهم العنصرية المستهجنة للجنس العربي، فقد أخطئوا خطأ فادحا؛ فابن خلدون ليس مستهجنا للجنس العربي مستخفا بقدرته على الإنتاج العلمي، وما كان يقصده ابن خلدون بلفظ العرب هم طائفة «الأعراب» أهل البدو الرحل، الظعن ل «ارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم»، المتقلبون في الأرض، فيقول بالحرف الواحد: «وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق.»
Unknown page
16
وإلى هذا المعنى تفطن المستشرق الفرنسي «دي روسلان»؛ إذ درس بدقة معجم المصطلحات التي استخدمها «ابن خلدون»، وضبط مدلولات ألفاظها، فذكر أن ابن خلدون إنما قصد بالبدو والرحل «الأعراب من سكان البادية، الذين يقيمون في الخيام».
17
وهذا يعتبر وضعا اجتماعيا ظرفيا فرضته الحياة البدوية في زمن الأزمة، وهذا الوضع لا يفيد أن أفراده بفطرتهم الأولى، قاصرون علما وعملا، بل إن ابن خلدون يصرح بكل وضوح، ردا على من يعتقد ذلك الذي «ظن أن البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك؛ فإنا نجد في أهل البدو من هو أعلى رتبة في الفهم والكمال في عقله وفطرته».
18
كما يرد على من «يظن من رحالة أهل المغرب أن أهل المشرق أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى، وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب، ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية، يتشيعون لذلك، ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك».
19
ومن هنا يتضح لنا أن ابن خلدون كان يحارب الجمود والتخلف، وأنه لا وجود لعرق متفوق ولا لعرق وضيع ف «الكل له مزية، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالسعي والعمل الصالح.»
20 (ب) وأما الفريق الثاني
وقد كانوا أكثر إنصافا؛ حيث أقروا بأن هناك علما عربيا، وإن ظل في إطاره العام يونانيا، فإنه قد أعاد النظر إلى العلم اليوناني من جديد، وبحث فيه بروح تقديمه وفيه قدر لا بأس به من الاستقلال والإبداع والابتكار. وخير من يمثل هذا الفريق من المستشرقين هو المستشرق الإيطالي «ألدو مييلي
Unknown page
Aldo Mieli » في كتابة «العلم عند العرب وأثره في تطوير العلم العالمي»، حيث أكد بأن القسم الأكبر من العلماء العرب كانوا من الوثنيين والمسيحيين واليهود والفرس، وهذا العلم العربي وإن كان قد تأثر إلى حد كبير بالعلم اليوناني والهندي والإيراني، إلا أن فيه جانبا عظيما من الابتكار والإبداع، وفي هذا يقول: «ولكن ينبغي ألا تظن أن العرب لم يضيفوا شيئا جديدا إلى العلم الذي كانوا أوصياء عليه، بل على النقيض من ذلك، وإذا كانت خطوات التنمية والإنضاج التي خطوها في هذا السبيل كثيرا ما ضاعت وتفرقت في الحشد الكبير من الكتب التي تركوها، فليست تلك الخطوات أقل أصالة وأبعد عن الواقع من أجل ذلك. وليس لأحد أن يقول - كما يقرر ذلك بعض المؤلفين - إن دور العرب ينحصر ببساطة في المزج والنقل لمعارف الأقدمين التي لولاهم لذهبت أدراج الرياح؛ الأمر الذي هو في ذاته عنوان فخر عظيم وشرف لا يستهان به.»
21
وينتهي ألدو مييلي إلى أن هناك علما عربيا، وإن كانت التسمية بالعلم العربي، مع كونها ليست دقيقة على الإطلاق، هي برغم ذلك أحسن العناوين التي يمكن إطلاقها على العلم الذي ازدهر من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر الميلادي، في البلدان التي سادها الإسلام، والذي ظهر في الآثار العلمية وأنواع الإنتاج العلمي والأدبي.
22
ثم يناقش ألدو مييلي قضية أثارها كثير من زملائه المستشرقين حول هل هناك علم عربي أم علم إسلامي؟
ويرى ألدو مييلي أن التسمية بالعلم الإسلامي غير دقيقة على الإطلاق، وحجته في هذا أن كثيرا من المسيحيين واليهود والزرادشتيين والوثنيين قد قاموا بقسط وافر في إنضاج ذلك العلم. ثم يستطرد فيقول بأنه ليس من العدالة بحال أن نفصل الكتب التي ألفت في نفس المحيط بالسريانية أو الفارسية أو العبرية؛ فهي جميعا تؤلف وحدة من حيث روحها - ومن حيث التأثير المتبادل بينها بوجه عام - هذا التقسيم الصناعي المحض في كتب الآداب العربية والفارسية والعبرية ... إلخ.
23
كما يذكر أن بعض سميه من المستشرقين يريد أن يفهم هذا التقسيم، بمعنى أن مؤلفي تلك التواريخ يعنون بقوالب الكتب التي يدرسونها في اللغات المختلفة أكثر من عنايتهم بالروح والجو الحقيقيين لهذه الكتب. بيد أنه حتى في هذا المجال يجد القارئ الحصيف مثل هذا التقسيم متعنتا وغير طبيعي.
24
ويوضح ألدو مييلي هذا بوضوح فيقول: «إننا إذا رغبنا الدقة في استعماله ينبغي أن نقتصر على العلم الذي يتعلق فقط بالشعوب التابعة للدين الإسلامي. وعلى ذلك نستطيع أن نتحدث عن قانون إسلامي؛ لأن هذا يعترف بالقرآن والحديث أساسا له، كما يطبق فقط على المؤمنين الحقيقيين، على حين أن الأشخاص التابعين لعقائد أخرى يخضعون لقوانينهم الخاصة (الدينية بوجه عام)، بل نستطيع أيضا أن نتحدث عن علم إسلامي، ولكن بمعنى يختلف عن المعتاد، حين نفهم من لفظ «علم» ذلك المعنى الواسع المدى له عند العرب، ناظرين إلى العلوم الإسلامية بوجه خاص؛ أي الفقه وعلم الكلام الإسلامي ... إلخ. وعلى نقيض ذلك ينبغي أن يخرج من هذا المعنى تماما ما نسميه اليوم علما بوجه خاص؛ أي الرياضيات والطبيعة وعلم الأحياء ... إلخ.»
Unknown page
25
وعن سبب اختياره تسمية «العلم العربي» بدلا من «العلم الإسلامي»، يعطينا ألدو مييلي ثلاثة مبررات على ذلك:
المبرر الأول:
أن القسم الأعظم من الآثار المتعلقة بالعلم العربي مكتوب باللغة العربية؛ فإن الإيرانيين بعد سقوط الدولة الساسانية اتخذوا العربية لغة لهم - دون استثناء تقريبا - في جميع كتاباتهم العلمية والأدبية، ولا نرى كثرة استعمال الفارسية إلا بعد ذلك منذ نشأت اللغة الفارسية الحديثة ونظم الفردوسي شعره العظيم. بيد أن استعمال الفارسية الحديثة ظهر أيضا بادئ ذي بدء في الآثار الشعرية والأدبية الخاصة فحسب. أما الموضوعات الدينية والفلسفية والعلمية فقد احتفظت العربية فيها بسلطانها الكامل على وجه التقريب إلى زمن متأخر جدا، ولم يتخذ الإيرانيون عادة استعمال الفارسية في كتبهم العلمية إلا نحو نهاية العصر الذي ندرسه.
المبرر الثاني:
كان المسيحيون السريان - مع كثرة استعمالهم اللغة العربية - يستخدمون اللغة السريانية في كتبهم أيضا في جميع الأزمنة، ولكن من الواضح الجلي أننا لا نستطيع أن ننظر في شخص واحد كابن العبري، أو إلى شخصين اثنين، بأن نبحث كتبه العربية في مكان وكتبه السريانية في مكان آخر.
المبرر الثالث:
ومثل ذلك يمكن أن يقال إلى اليهود في استعمالهم العبرية؛ فإن العلماء العظام منهم، مثل إسحاق الإسرائيلي وموسى بن ميمون كتبوا جميع كتبهم تقريبا بالعربية، ولكن كتبهم هذه سرعان ما ترجمت إلى العبرية. وهناك آخرون كتبوا باللغتين على التناوب، وفي نهاية العصر الذي نحن بصدده نلاحظ عند يهود الأندلس غلبة ظاهرة اللغة العبرية، بل نشاهد أيضا عندهم الميل إلى تعريف شعوب غربي أوروبا بالكتب العلمية العظيمة المؤلفة باللغة العربية، وذلك بواسطة ترجماتها العبرية، فمن الجلي أن جميع هذه الكتب التي كتبت بالعبرية يمكن عدها منفصلة عن جملة العلم العربي في دراسة تاريخية جادة.
26
ويختم ألدو مييلي كلامه في ذلك فيقول: «ومفهوم أننا نتحدث في هذا الكتاب عن العلم العربي بوجه خاص»؛ أي بالمعنى الذي ذكرناه أخيرا «ولكن تجنبا لكل التباس ينبغي أن نوضح بصراحة أنه في كل موضع نستعمل فيه لفظ «عربي» دون تحديد خاص (مهما كان المعنى المقصود مبهما أو مختلفا فيه) فنحن نفهم من لفظ «عربي» وحده كل ما كان خاضعا للتأثير المباشر أو غير المباشر للمحيط الذي أوجده الفتح الإسلامي، وما حققه الخلفاء في الدول العربية، أو حققته الدول التي بقيت إسلامية بعد استقلالها.»
Unknown page
27
من هنا يتضح لنا أن حديث ألدو مييلي عن العلم العربي يعني تلك الجهود التي بذلها الباحثون في العالم الإسلامي في مجال الدراسات العلمية (سواء كانت دراسات طبيعية أو رياضية) وما تمخضت عنه تلك الجهود من أعمال في هذا المجال سواء كانت هذه الأعمال في صورة مؤلفات أو مترجمات أو شروح أو هوامش تدور حول مسائل علمية، والباحثون في العالم الإسلامي هنا هم كل من ساهم في حقل العلم أيا كانت صورة هذه المساهمة.
وقد ساير كثير من المستشرقين والباحثين ألدو مييلي في تسمية العلم الذي ساد البلدان الإسلامية من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الميلادي ب «العلم العربي»، فنجد مثلا «نلينو» يعرف العلم العربي بأنه يطلق على «جميع الأمم والشعوب القاطنة في الممالك الإسلامية والمستخدمة للغة العربية في أكثر تآليفها العلمية».
28
ويذكر «مارتن بلسنر» أن المستشرق الألماني «برجشتريسر».
29
يعتبر أن اللغة العربية أداة العلم الرئيسية، وقد قامت في المشرق بالدور الذي قامت به اللغة اللاتينية في المغرب. وقد قام بإنجاز مقنع أن اللغة العربية قدمت منذ البداية الأداة الكافية للتعبير العلمي الدقيق. ولم تحتل العربية هذه المكانة الرفيعة بذاتها، ولكن الموقع المركزي للعربية بوصفها لغة الدين الإسلامي والإرادة، هو الذي أدى إلى تطويعها لتلائم المتطلبات العلمية. وهذا النجاح الذي حققته عملية تطويع اللغة العربية، إنما كان إلى حد كبير نتيجة لجهد متعمد مقصود لذاته، والدليل على ذلك أن الأعمال العلمية العربية يمكن أن تفهم جيدا دون الحاجة إلى معرفة عميقة بالشعر القديم أو النثر (أي دون حاجة إلى معرفة تامة عميقة باللغة العربية)، ناهيك عن أعمال النثر الفني التي كتبت في العصور المتأخرة، على الرغم من أن النحو والصرف وقدرا كبيرا من المقررات في اللغة العربية لم يطرأ عليها سوى تغير طفيف منذ أقدم العصور.
30
ويحلل الدكتور «جلال موسى» نظرة المستشرقين للعلم العربي فيذكر بأنها نظرة تدخل في تسمية العرب أمما أخرى من المشاركين في لغة كتب العلم وفي كونهم تبعة الدولة الإسلامية، فكان الاصطلاح «عربي» نسبة إلى لغة الكتب لا إلى الأمة التي هي إسلامية، فانتسب إلى اللغة.
ثم يستطرد فيقول: «فإن قيل: استعمال لفظ المسلمين أصح وأصوب من لفظة العرب، وبذلك يكون العلم إسلاميا لا عربيا. قلنا: إن ذلك غير صحيح لسببين:
Unknown page
الأول:
أن لفظ المسلمين يخرج النصارى واليهود والصابئة وغيرهم ممن كان لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية.
الثاني:
أن لفظ المسلمين يستلزم البحث عما صنفه أهل الإسلام بلغات غير العربية.
31
ونحن نؤيد هذا الرأي ونوافق عليه؛ لأن العلم العربي هو العلم الذي كتبت مادته باللغة العربية وأسهم في تقديمه أقوام عاشوا في البلاد العربية أو تدين لسلطان العرب (سواء كانوا عربا أو عجما أو مسلمين أو مسيحيين أو يهودا أو صابئة) ارتبطوا بمصير واحد وجمعوا تراثا مشتركا وتذوق جميعهم العربية، حتى قال قائلهم: «لأن أهجى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية.»
32
إنني مع المؤمنين القائلين بأن العلم لا ينتسب لجنس من الأجناس، بل للغة التي بها حرر وبواسطتها نشر. إن العلم العربي نتاج مجتمع ظهر للعيان بعد الفتح الإسلامي كانت له دار الإسلام وطنا مشتركا، والعربية لغة، وامتزجت فيه الثقافات وانصهر على اليونان بحكمة فارس والهند بتعاليم الإسلام، فأنجب أمة وسطا جمعت بين النظر والعمل - بين العلم والتطبيق - فقال قائلهم: «إذا أضاف المرء إلى العلم والعمل، فقد نال الأمل، ورحل إلى زحل، وسما إلى السماء، ولحق بالملأ الأعلى.»
33
ومن ناحية أخرى يجب أن نعترف بأن هناك «علما عربيا» له منهجه وموضوعه، واشتهر بآراء ونظريات، وقام على أمره كثير من المتكلمين والفلاسفة والعلماء، ووضعت فيه بحوث ومؤلفات تعد من بين المؤلفات العلمية الهامة في تاريخ العلم قديمه وحديثه، واعتبرت ثروة بشرية أفادت منها ثقافات مختلفة، أخذ هذا العلم وأعطى، وأخذ عن العلم الإغريقي وعن بعض البحوث العلمية في فارس والهند، وأضاف إليها ما أضاف وأضحى علما عربيا خالصا، أعطى الثقافات المعاصرة له من سريانية وعبرية ولاتينية، وهو جدير بأن يجند كثير من المستشرقين حياتهم لدراسة هذا العلم في أصوله ومصادره، في نشأته ومراحل نموه، في مدارسه وكبار رجاله، وأن يتابعوا أثره، وكيف أفاد الغرب منه في دفع عجلة التقدم والتطور الذي هو عليه الآن.
Unknown page
ويكفينا ما قالته المستشرقة الألمانية «زيغريد هونكه»، في مقدمة كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»: ولهذا صممت على كتابة المؤلف، وأردت أن أكرم العبقرية العربية، وأن أتيح لمواطني فرصة العودة إلى تكريمها، كما أردت أن أقدم للعرب الشكر على فضلهم الذي حرمهم من سماعه تعصب ديني أعمى أو جهل أحمق.»
34
ثم تشيد زيغريد هونكه بفضل العرب في تطوير علم الفلك، وتفسر اهتمام المسلمين بهذا العلم فتقول: «والواقع أنه لا الرومان ولا الهنود هم الذين ساهموا في تطوير علم الفلك، وإنما كان من دواعي فخر العرب أن يفعلوا ذلك وحدهم ... وكان لعلم الفلك عند المسلمين معنى «ديني» عميق؛ فالنجوم ومدارها، والشمس وعظمتها، والقمر وسيره لبرهان ساطع على عظمة الله وقدرته، الخالق الذي جاء باسمه النبي العربي مبشرا بأنه خالق السموات والأرض، وجاعل الظلمات والنور؛ لذلك وكما قال أبو عبد الله محمد بن جابر البتاني، فإن «علم النجوم هو علم يتوجب على كل أمرئ أن يعلمه، كما يجب على المؤمن أن يسلم بأمور الدين وقوانينه؛ لأن علم الفلك يوصل إلى برهان وحدانية الله، وإلى معرفة عظمته الهائلة وحكمته السامية وقوته الكبرى».»
35
وفي الكيمياء، تشيد هونكه باكتشافات العرب العلمية في هذا المجال وبمنهجيتهم في البحث، وسبقهم إلى وضع طرق التجربة والمراقبة المنظمة وأثر ذلك في علم الكيمياء الحديث. وفي ذلك تقول: «كان الفكر الإغريقي يهتم بتفسير المعرفة الحسية بواسطة التأمل الفلسفي، فأوجد الكيمياء النظرية والفلسفة الطبيعية. أما العرب فكانوا أول من أوجد طرق المراقبة والتجربة المنظمة في ضوء الشروط التي كان بإمكانهم في كل حين أن يعيدوها وينوعوها ويراقبوها، فخلقوا بذلك علم الكيمياء التجريبي في مفهومه العلمي، وأوصلوه إلى قمة رفيعة أصبحت بموجبها اكتشافات علمي الكيمياء العضوية والكيمياء غير العضوية الحديثين من الضرورات الماسة لإرجاع الكيمياء التجريبية إلى المستوى الذي أوصلها إليه العرب».
36
ثانيا: تفنيد رأي المستشرقين القائلين بأن العلم العربي مجرد نقل واقتباس عن علوم اليونان
إذا كان بعض المستشرقين قد رأى أن العالم العربي هو مجرد امتداد للعلم اليوناني، فلم يكتفوا بهذا، بل أكدوا أن ما قام به العرب في مجال العلم كان يدور في ذلك الإطار الذي حدده اليونانيون قبل ذلك بفترة لا تقل عن ألف عام، بل لقد تجاوزت حدود الموضوعية حين ذهبوا بأن المرحلة الإسلامية من العلم، إنما كانت همزة الوصل بين الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، وأن فضل العرب والمسلمين ينحصر على التراث العلمي اليوناني ونقله بأمانة إلى أوروبا لتبدأ به نهضتها الحديثة.
وأصحاب هذا الرأي هم بعض المستشرقين أمثال رينان ودي بور وجولد وماكس هورتن ومن تابعهم في هذه المقالة، ورغم اختلاف بعضهم عن بعض فيما يسوقه من مبررات تؤيد رأيه، فإنهم جميعا ينكرون أن يكون للعلم العربي شيء من الجدة والأصالة، وأن يكون لعلماء العرب شيء من التجديد والإضافة والابتكار، بل إن بعضهم قد بلغ حدا من التطرف فقال: «إن ما يدعى بالحضارة العربية لا وجود له ألبتة كظاهرة مبررة للعبقرية العربية، فهذه الحضارة إنما أنشأتها شعوب أخرى كانت لهم مدنيات قائمة قبل أن تستبعد قهرا من قبل الإسلام، فاستمرت خصالها القومية في نمو برغم ما صب عليها الفاتح من ألوان الاضطهاد، ولم يسهم العنصر العربي إلا بمقدار هزيل لا يذكر؛ فالكندي مثلا، وقد كان له صيت عظيم في القرون الوسطى ولقب بالفيلسوف، لم يكن سوى يهودي من الشام اعتنق الإسلام. وما كتبه العلماء العرب في مجال الرياضيات والهندسة والطب والفلسفة وغيرها، ليس إلا مجرد نقل واقتباس من أرسطو وشراحه، وكثيرا ما نسب استنباط علم الجبر إليهم، والواقع أنهم لم يكونوا إلا نسخة عملوا على نقل رسائل «ديوفانطس» الإسكندراني الذي كان حيا في القرن الرابع للميلاد، وفي الطب أيضا لا نجد طرافة ولا ابتكارا، ورسائل أبي القاسم (الزهراوي) وابن زهر وابن البيطار - وثلاثتهم من أصل إسباني - نسخ مطابقة بعض المطابقة للأصل؛ أعني لمؤلفات جالينوس وأطباء الإسكندرية، وقد تم نقلها عن طريق السريانية.»
37
Unknown page
ويمكن أن نفند رأي هؤلاء المستشرقين فنقول: نحن لا ننكر أن العلم العربي قد تأثر بالعلم اليوناني، وأن معظم العلماء والفلاسفة العرب أخذوا عن أرسطو معظم آرائه، وأنهم أعجبوا بإقليدس وجالينوس وأرشميدس، وتابعوهم في نواح عدة. ولو لم يكرر الكلام لنفد. ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه ويقتفي أثر من تقدموه؟
إننا نعترف بأن ظاهرة التأثير والتأثر بين الحضارات المتعاقبة، بحيث تؤثر الحضارة السابقة في الحضارة اللاحقة حقيقة لا شك فيها، إلا أنه يجب أن نميز بأن هذا التأثير تتعدد إبعاده وتختلف مجالاته؛ فتارة يكون التأثير من جانب السابق في اللاحق تأثيرا قويا عميقا، وعلى درجة من الشمول تكاد تذهب باستقلالية المتأثر وهويته العلمية؛ ومن ثم تظهر العلاقة بين الطرفين في صورة علاقة تابع بمتبوع ومقلد بمبدع. وتارة يكون التأثير ضعيفا في درجته محدودا في مجاله بحيث يظل كل من الطرفين، المؤثر والمتأثر، محتفظا بفردانيته واستقلال نظرته وفكره؛ ومن ثم تتوارى معدلات التأثير فلا تكاد تظهر.
38
ولا يختفي على أحد أن العلم اليوناني قد تأسس أصلا وأساسا على ما أخذه علماء اليونان من علوم الشرق القديم في مصر وبابل وآشور. ويبدو هذا التأثير واضحا لدى طاليس وفيثاغورس وأفلاطون وجالينوس بصفة خاصة. ولا يستطيع أحد أن يدعي أن هؤلاء اليونان رغم تأثرهم بالعلم الشرقي كانوا مجرد نقلة ومقلدين لما كان لدى الشرقيين القدماء من هذه العلوم.
ثم إننا نتساءل إذا كان العلماء العرب قد استقوا معظم مادتهم العلمية من التراث اليوناني، فهل وقفوا عند حد التأثر؟ أم تجاوزوه إلى حيث قدموا بعض عناصر الابتكار والإضافة والتجديد؟
للإجابة على هذا السؤال، نقول: إننا نجد مؤشرات علمية واضحة عند العلماء العرب تدل على الأصالة والإبداع والجدة والابتكار، فهناك مؤشرات نجدها عند ابن سيناء وأبي بكر الرازي في مجال الطب، وأبو القاسم الزهراوي وابن زهر وابن النفيس في مجال علم الجراحة، وابن الهيثم في مجال علم المناظر، وجابر بن حيان في مجال علم الكيمياء، وابن يونس في مجال علم الفلك، وابن بيطار في مجال علم الصيدلية، وثابت بن قرة في مجال على التفاضل والتكامل، والخوارزمي في مجال علم الجبر ... وهلم جرا.
إلا أن هذه المؤشرات رغم أصالتها فلم تبلغ الحد الذي بلغته على يد العلماء اليونانيين، بل هي دونها مستوى؛ لأنها تمخضت عن ذا الينبوع فأخرجت منه الجديد الذي لم يكن من قبل، فكان عملها جديدا بهذه الدلالة؛ لأنه سينتهي فيما بعد إلى أن يكون هذا الجديد مصدرا لبعض نزعات العلم الأوروبي الحديث. وتلك هبة تغافل عنها المستشرقون وانحسرت أفكارهم دونها ناقصة من اعتراف بجميل أو إنصاف لحق.
ونحن لا نتنكر في هذا السبيل لتأثيرات العلم اليوناني في العلم العربي، ولكننا نجد في العلم العربي جوانب جديدة يتميز ابتكارها بالكيف لا بالكم، والإضافة الحقة تمثلت في عمليتين متتاليتين؛ تحليلية من جهة، وتركيبية من جهة أخرى، تعتمد على عناصر قبلية للتجربة الجديدة في الفكر؛ ففي التحليل نتوصل إلى العناصر الأساسية في الموقف أو التجربة، فنقدم شيئا جديدا في الرؤية التي نريد والصورة التي نقصد. وفي التركيب حال أخرى تعتمد على التدرج من البسيط إلى ما هو أكثر، ومن الأحكام النسبية إلى أحكام أشد عموما وأبعد ضرورة.
وقد تختلف هذه التجربة حدة وشدة باختلاف صانعيها، ولكنها في صميم طبيعتها لا تخرج عن صفة الإبداعية
Creative
Unknown page
التي قصدنا، أو بمعنى آخر أن الأصالة؛ أية أصالة تتفق في مدلولها نوعا وتختلف كيفا، بمعنى أن الأصالة هي تحقيق نحو من التجريد في عملية التأثير الفكري، من حيث إنها في صدرها الأخير تجديد جاء على غير مثال.
39
ولا ندعي في حديثنا هذا أن العلم العربي جاء على غير مثال؛ ففي ذلك مبالغة لا نريدها له ولا نضيفها إليه؛ لأنها تفتقر في صدقها إلى معايير التحقيق العلمي الدقيق، بل نعني الجانب النقدي لهذا العلم فيما أضافوه أو حذفوه من العلم اليوناني.
إن أحد الأمثلة المهمة للتدليل على بروز الجانب النقدي في العلم هو انتشار ما يمكن أن نطلق عليه حركة الشك أو كتب الشكوك؛ فكثير من علماء العرب نقدوا العلم اليوناني وشككوا بنتائجه بشكل علمي. وكانت هذه خطوة مهمة للانطلاق نحو معرفة جديدة؛ فلقد كان تقديس علوم السابقين هو أحد معوقات التطور العلمي، سواء في الحضارة العربية الإسلامية أم في أوروبا في العصر الوسيط؛ حيث سيطر أرسطو على حركة الفكر والعلم. وكانت مرحلة إزالة التقديس عن المنهج الأرسطي القديم فاتحة لتطوير المعرفة الجديدة وتقدمها.
40
فهذا ثابت بن قرة الحراني يكتب كتابا في إصلاح المقالة الأولى من كتاب أبلوينوس في قطع النسب المحدودة،
41
والكندي يكتب كتبا عديدة في هذا المجال مثل رسالة في إصلاح كتب إقليدس، رسالة في إصلاح المقالة الرابعة عشرة والخامسة عشرة في كتاب إقليدس، رسالة في تصحيح قول أبسقلاس في المطالع،
42
ويكتب محمد بن زكريا الرازي كتاب الشكوك على جالينوس، كتاب في الشكوك على برقليس.
Unknown page
43
وهذا ابن مفلح في الأندلس يكتب كتابا بعنوان «كتاب الهيئة»: إصلاح المجسطي يحاول فيه إصلاح نظام بطليموس، ثم يأتي بعده البتروجي فيكتب كتابا بالعنوان نفسه وبالموضوع عينه، ويكتب ابن الهيثم في كتابه الموسوم «الشكوك على «بطليموس» قائلا: «إن حسن الظن بالعلماء السابقين مغروس في طبائع البشر، وإنه كثيرا ما يقود الباحث إلى الضلال، ويعوق قدراته على كشف مغالطتهم، وانطلاقه إلى معرفة الجديد من الحقائق، وما عصم الله العلماء في شيء من العلوم ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق من الأمور.» فطالب الحق عند ابن الهيثم ليس من يستقي حقائقه من المتقدمين، ويسترسل مع طبعه في حسن الظن بتراثهم، بل عليه أن يشك في إعجابه بهم، ويتوقف عن الأخذ عنهم، مستندا إلى الحجة والبرهان، وليس معتمدا على إنسان تتسم طبيعته بالخلل والنقصان، وعليه أن يخاصم من يقرأ لهم، ويمعن النظر فيما قالوه، حتى تتكشف له أخطاؤهم، ويتوصل إلى حقائق الأمور.
ومن دلالات هذا عند «ابن الهيثم» أنه يقول عن «بطليموس» إنه «الرجل المشهور بالفضيلة، والمتقن في المعاني الرياضية، المشار إليه في العلوم الحقيقية»، وإنه وجد في كتبه «علوما كثيرة ومعاني غريزة، كثيرة الفوائد عظيمة المنافع» ومع ذلك فإن «ابن الهيثم» حين وقف منها موقف من يخاصم صاحبها مع إنصاف الحق منه، وجد فيها مواضع متشابهة، وألفاظا، ومعاني متناقضة».
ويمضي قائلا: «فرأينا في الإمساك عليه هضما للحق وتعديا عليه، وظلما لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه، ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها، وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدي إلى حقائقها.»
44
أما العالم عبد اللطيف البغدادي (ت629ه) فإنه يؤكد على أن عظمة جالينوس وتمكنه من الطب لا يعنيان علينا تكذيب حواسنا وعقولنا عندما تتناقض مع ما يقوله جالينوس؛ ولذلك فإن علينا ألا نسلم بما يقوله الأقدمون تسليما أعمى مهما بلغ هؤلاء من رجاجة العقل ومن تمكن؛ فإن جالينوس «وإن كان في الدرجة العليا من التحفيظ فيما يباشره ويحكيه إلا أن الحس أصدق منه».
ويسوق البغدادي مثالا أثبتت فيه مشاهدته كذب جالينوس في مسألة «عظم الفك الأسفل» فيقول: «... إن الكل قد أطبقوا (أجمعوا) على أنه (عظم الفك الأسفل) عظمان بمفصل وثيق عند الحنك. وقولنا الكل نعني به هنا جالينوس وحده (وشراحه)؛ فإنه هو من باشر التشريح بنفسه، وجعله دأبه ونصب عينيه، وصنف فيه عدة كتب معظمها موجود لدينا، والباقي لم يخرج إلى لسان العرب. والذي شاهدناه، من هذا العضو أنه عظم واحد، ليس فيه مفصل ولا درز أصلا، واعتبرناه (فحصناه) ما شاء الله من المرات في أشخاص كثيرة تزيد على ألفي جمجمة بأصناف من الاعتبارات، فلم نجده إلا عظما واحدا من كل وجه، ثم إننا استعنا بجماعة متفرقة اعتبروه (فحصوه) بحضرتنا، فلم يزيدوا على ما شاهدناه منه وحكيناه، وكذلك في أشياء أخرى غير هذه. ولئن مكنتنا المقادير بالمساعدة وضعناه مقالة في ذلك نحكي بها ما شاهدناه وما علمناه من كتب جالينوس، ثم إني اعتبرت العظم أيضا بمقابر بوصير القديمة (في مصر) فوجدته على ما حكيت، ليس فيه مفصل ولا درز، ومن شأن الدروز الخفيفة والمفاصل الوثيقة إذا تقادم الزمان أن تظهر وتتفرق. وهذا الفك الأسفل لا يوجد في جميع أحواله إلا قطعة واحدة.»
45
أما «البيروني» والذي يسميه المستشرقون العرب، فهو الآخر يشكك في معارف السابقين، ومن قوله في مقدمة «القانون المسعودي»: «ولم أسلك فيه مسلك من تقدمني من أفاضل المجتهدين ... وإنما فعلت ما هو واجب على كل إنسان أن يعمله في صناعته من تقبل اجتهاد من تقدم بالمنة، وتصحيح خلل إن عثر عليه بلا حشمة، وخاصة فيما يمتنع إدراك صميم الحقيقة فيه من مقادير الحركات، وتخليد ما يلوح له فيها تذكرة لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده، وقرنت بكل عمل في كل باب من علله، وذكرت ما توليت من عمله، ما يبعد به المتأمل عن تفكيري فيه، ويفتح له باب الاستصواب لما أصبحت فيه، أو الإصلاح لما زللت عنه أو سهوت في حسابه.»
وهكذا أبان البيروني في هذا النص أنه لم يقلد أحدا من سابقيه، وأنه صحح ما وقع فيه أسلافه من أخطاء، ودعا قراءه إلى مناقشة ما أورد، وتصحيح ما يحتمل أن يكون قد أخطأ فيه.
Unknown page
46
ويكتب ابن البيطار، أشهر صيادلة مصر، مؤكدا ضرورة تغليب منهج البحث العلمي والحسي على أخبار القدماء ونظرياتهم، فيقول في كتابه «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية»: «فما صح عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت عندي بالخبر لا بالخبر ادخرته كنزا سريا، وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه - سوى الله - غنيا، وما كان مخالفا ... نبذته ظهريا، وهجرته مليا، وقلت لناقله أو قائله لقد جئت شيئا فريا ...»
47
وهكذا، فإن العلماء العرب لم يكونوا مجرد شارحين ناقلين مكررين لعلوم اليونان، بل إنهم ترجموا هذه الكتب ودرسوها وتمثلوا ونقدوا نتائجها وأصلحوا ما يمكن إصلاحه، وأقاموا معرفة جديدة بما يتفق مع إمكانيتهم وحاجتهم ومستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي لعصرهم الذي عاشوا فيه.
ولقد عبر المستشرق «جون برنال»
Ghon Bernal
عن هذه الحقيقة بالقول: «إن العلم الإسلامي لم ينقل العلم الإغريقي نقلا حرفيا، بل أعاده إلى الحياة من جديد بعد هضمه ومزجه بالثقافة الإسلامية؛ أي إنه مر بنفس العملية التي مر بها تراث الشرق القديم عندما هضمه وتمثله الفلاسفة اليونانيون الأوائل.»
48
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة نود فيها تفنيد بعض آراء المستشرقين في مسألة انعدام الجانب الحسي التجريبي في العلم العربي، فهذا هو المستشرق الألماني «فرانز روزنتال» يذكر بأن هناك مستشرقين عللوا تأخر البحث العلمي عند المسلمين نتيجة انعدام الجانب الحسي التجريبي، وفي هذا يقول: «إن المرء لا يتمالك أن يرى التناقض الظاهر في الآراء السالفة التي استشهدنا بها. وليس من العسير أيضا أن نجد باحثا يأخذ بوجهات نظر معاكسة تماما لتلك، فيبرهن لك بيسر أن أروع إبداع قام به الباحثون المسلمون كان في حقل التفكير النظري، وأن الباحث المسلم لم يأبه بالملاحظة والتجربة، بل اعتبرهما أمورا ثانوية، وأنهما أحيانا تفقدان فقدانا يثير العجب. كذلك يستطيع المرء أن يدلل لك أن الباحث المسلم لم يكن رجلا نفعيا ماديا، بل كان كثيرا ما يمعن في المغامرات الفكرية دون أن يكون في ذهنه غاية معينة يسعى إليها، أو رغبة في نفع أو كسب.»
49
Unknown page