المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد حمد الله الذي جاء بالأشياء معرفة وعلمًا، وجعل الإحسان في جواب طاعته حتمًا، وخلق الإنسان وعلَّمه البيان، فوفر له منه حظًا وقسمًا، والصلاة والسلام على نبيه الذي هو أفصح من نطق بالضاد، وأدقُّ فهمًا، القائل: إنَّ من البيان لسِحرًا وإنَّ من الشعر لحُكمًا ﷺ وآله وصحبه صلاة يعود لهم بها حَرب الأيام سِلمًا، ويكشف عن وجه الدهر ظُلَمًا وظُلْمًا.
وبعد فإنَّ الأدب لم يزل على قديم الوقت محبوبًا، وصاحبه على تباين الأحوال مقرَّبًا مطلوبًا، وكان من أعظم آداب العرب الشعرُ، الذي هو ديوان بيانهم وجامع إحسانهم ومقيِّد ذكر أيامهم وأنسابهم وحافظ أُصولهم وأحسابهم، يعطرون بأرجه مجالس أنسهم ويعرفون به مزيّة يومهم على أمسهم، ولهذا قال الطائي:
وإن العُلى ما لم يُرَ الشعر سنها ... لكالأرض غُفْلًا ليس فيها معالمُ
ولولا خِلالٌ سنَّها الشعْرُ ما درى ... بغاةُ الندى من أين تُؤتى المكارمُ
مَن رفعه الشعر ارتفع، ومن وضعه الشعر اتَّضع، يُبنى بالبيت من الشعر شرف الوضيع ويُهدم بالبيت الهجاء مجد الرفيع.
قال الزبرقان بن بدر كان سيد قومه غير مدافع هجاه الحطيئة بقوله:
دعِ المكارم لا تَرْحلْ لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطاعِمُ الكاسي
فهدم شرفه وضعضع مجده فاستعدى عليه عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وأنشده الشهر، فقال: لا أرى موضع هجاءٍ، فأحضر حسان بن ثابت وسأله، فقال: يا أمير المؤمنين ما يسُرّني أن يلحقني ما لحقه ولي حُمر النّعم، فحبسَ الحطيئة فكتب إليه من محبسه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شَجَرُ
أُلْقيتُ كالمَيْتِ في سِجنٍ لمَظْلَمةٍ ... فاغفرْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
أنت الإمامُ الذي من بعدِ صاحبهِ ... ألقتْ إليكَ مقاليدَ النهى البَشَرُ
لم يُؤْثِروكَ بها إذْ قدَّموكَ لها ... لكنْ لأَنْفُسهم كانتْ بِكَ الإثَرُ
فبكى وعفا عنه واشترى منه أعراض المسلمين بدراهم وتقلَّد الزبرقان عارَه على الأبد وأخنى على شرفه الذي أخنى على لُبَد.
وكان بنو أنف الناقة يُعيَّرون بهذا الاسم، وكان سببه أنهم نحروا ناقةً وفرَّقوا لحمها وبقي أنفها، فجاء سائلٌ فأعطوه أنفَها فسمّوا أنف الناقة على سبيل التعيير لهم فلمَّا مدحهم الحطيئة بقوله ذلك:
قومٌ هم الأنْفُ والأذنابُ غيْرهُمُ ... ومن يُسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا
عاد ذلك الهجاء مديحًا وانقلب ذلك الذم حمدًا صريحًا وصار من أحبّ الأسماء والألقاب إليهم. ولما قال النُّميري:
يا صاحِبيّ دنا الرّواح فسِيرا ... غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهجاءِ جريرا
دعا جرير بعض أصحابه، وقال: اكتب عنِّي:
أقلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا ... وقولي إنْ أصبتُ لقد أصابا
قال كاتبه: فكتبت وهو يفكر فأخذتني سِنَةٌ فصاح ووثب فكاد رأسه يُصيب السقف، وقال: اكتب، فوالله أخريتُه ولن يُفلح بعدها أبدًا:
فغُضّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كلابا
وكنتَ متى نزلتَ بدارِ قوْمٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عابا
فما أفلح النميري بعدها وخرج هاربًا إلى البادية فما اجتاز بحيٍّ من أحياء العرب إلا وقد سبقه الهجاء إليه، ولمَّا ورد حيّ قومه قالوا: بئسما جئتنا به، ومن هذه الأبيات يهجو أُمَّ النميري:
لها وَضَحٌ بجانب اسْكتيها ... كعنفقةِ الفرزْدَقِ حينَ شابا
قال ابن الفرزدق: كنت مع أبي في مربد البصرة وجرير ينشد هذه الأبيات فلما انتهى إلى قوله: لها وَضَحٌ، غطَّى أبي وجهه وولَّى، فأنشد جرير: كعنفقة الفرزدق البيت فقال أبي: قاتلك الله، والله إني عرفت أنه لا يقول غيرها ولقد غطَّيت وجهي فما أغناني.
وممن ارتفع بالشعر محلُّه، وسار به فضلُه، وعلا به قدرُه، وشاع به ذكره، وسَمَت به مكانُه، وعظُم شأنُه، عَرابة الأوسي، الذي قيل فيه:
رأيتُ عَرابةَ الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيراتِ مُنْقَطِعَ القَرينِ
إذا بلّغتِني وحملتِ رَحْلي ... عَرابةَ فاشْرقي بدمِ الوَتينِ
1 / 1