واليوم يحتفل الجرمان بذكرى وفاته فتشترك الحكومة والشعب في تقديس هذه الذكرى وتتحد الأحزاب في هذا الغرض على اختلاف أغراضها. وتشتغل الصحف بحديثه حتى التي لا علاقة لها بالشعر والأدب، فصحف الأسنان تكتب عن أسنان جيتي! وصحف السباق تكتب عن جيتي وركوب الخيل! وصحف الأزياء تكتب عن ملابس جيتي وأزياء عصره.
وقبل ثلاث سنوات احتفل الألمان كذلك بذكرى مرور قرن كامل على تمثيل رواية فوست للمرة الأولى، وقبل ثلاث عشرة سنة احتفلوا إلى جانب رفاته بإنشاء دستورهم الجديد، وفي سنة 1849 احتفلوا بمرور قرن كامل على ميلاده، وهذا غير الاحتفالات المتفرقة التي يحييها أنصار أدبه ودارسوه، وغير الكتب والتراجم والشروح والتعليقات التي تعد بالمئات.
وقد اشتركت أمم أوروبا في الاحتفال بالذكرى الأخيرة فتوافد مندوبو الدول إلى فيمار وخطب الخطباء في الجامعات وصدرت مجلات كثيرة في فرنسا وإيطاليا وممالك الشمال ليس فيها من الغلاف إلى الغلاف إلا الكلام عنه وعن تراجمه وآرائه وآثاره، ولا تزال الصحف الأوروبية تكتب وتستكتب عنه ما يكفي لتأليف مكتبة كبيرة، بل لقد شوهد بين الأكاليل التي وضعت عند قبره إكليل من الرأس طفري مكتوب عليه: «إلى الشاعر العظيم.» ويلي ذلك هذا التوقيع البسيط: «الحبشة».
تمثال جيتي وشيلر في فيمار.
ذلك تقدير لم يظفر به من الأدباء إلا أفراد معدودون، ومع هذا لا نريد أن نعلق قيمة جيتي ولا غيره على أمثال هذه الاحتفالات، فكثيرا ما يظفر الأدباء الصغار بأمثالها في الحياة وبعد الممات، وكثيرا ما تراد بها نوافل الأديب وحواشيه دون جواهره وحقائقه. واحتفالات جيتي في الواقع من هذا القبيل لا فرق بين ما جرى منها في ألمانيا وما جرى في البلاد الأجنبية، فكلها قد تعزى إلى أسباب غير أسباب الأدب المحض والثقافة الخالصة، والإلمام بهذه الأسباب مفيد للتمييز بين تقدير الحقيقة وتقدير الظواهر والمناسبات.
فاحسب قبل كل شيء حساب المنصب الكبير والعمر الطويل، فإن المنصب الكبير قد سوغ للناس منه ما لا يسيغونه من سواه، والعمر الطويل قد ثبت قدميه في الميدان وأتاح له الوقت لاستدراك نقصه وتكثير مؤلفاته وإبراز مناقبه، ولو مات في سن الشباب لذهبت آفة التفكك والاقتضاب بقليل ما كتب، لأنه أشتات لم يعرف الناس قيمتها إلا بالإضافة إلى ما بعدها.
واحسب حساب المصادفة والاتفاق بين الزمن الذي علا فيه نجمه والزمن الذي علا فيه نجم الأمم الجرمانية وتهيأت فيه بواعث الوحدة السياسية والاعتزاز بالقومية، فنظر الألمان في ذلك الزمن إلى علم أدبي يأوون إليه فلم يجدوا أمامهم غير شاعرهم الكبير لرسوخ قدمه واشتهاره في غير وطنه، فأصبح التشيع له عصبية وطنية على قلة إعداد جيتي في حياته بتلك العصبية.
واحسب حساب المآرب السياسية في «دستور فيمار» وذكرى فوست وهذه الذكرى الأخيرة التي يحتفلون بها اليوم، فكأنما أراد الألمان أن يذكروا العالم بديونهم الأدبية عليه في الوقت الذي أرهقتهم فيه ديون الحرب وحاولت السياسة أن تقطع ما بينهم وبين الشعوب، ومتى ذكرت شعوب العالم أن الألمان هم أمة جيتي وشيلر وهيني ولسنغ وبيتهوفن وأقطاب الأدب والفن والثقافة ففي ذلك إنصاف لهم يتعذر معه الإرهاق والإعنات.
أما الأمم الأجنبية فما ظنك بها لو كان جيتي قد ناضلها في سبيل العصبية الألمانية كما ناضلها بعض الألمان الغيورين؟ لقد كان تقديرها إياه يختلف لا محالة بعض الاختلاف.
فضمور العصبية الألمانية في كتب جيتي كان أحد الأسباب التي قربت بينه وبين الفرنسيين والطليان والإنجليز، كما قربت بينه وبين الاشتراكيين في الأمم الجرمانية والأجنبية على السواء، ويضاف إلى ذلك إعجابه بثقافة الفرنسيين واعترافه بفضلهم وكثرة مؤلفاتهم في مكتبته المحفوظة إلى يومنا هذا وتورعه عن خصومتهم حتى في إبان الحرب بين بلاده وبلادهم، ثم يضاف إليه التغني بإيطاليا وفتنة آثارها وجمال مناظرها والحنين إلى أدب الجنوب وإيثاره في بعض نواحيه على أدب الشمال، ثم يضاف إليه تعظيم جيتي لشكسبير وثنائه على بيرون وستيرن وجولد سمث وجمهرة الأدباء الإنجليز.
Unknown page