جوهان كاسبر والد جيتي.
تعلم اللاتينية والإيطالية والفرنسية في طفولته الأولى، وكان أبوه يتولى تعليمه في معظم الأحوال لأنه درس علوم الحقوق وحصل فيها على لقب الدكتوراه، وكان يؤلف في الإيطالية وله رحلة مكتوبة بها.
ولما بلغ جيتي السابعة نشبت حرب السنوات السبع بين النمسا وبروسيا؛ فكانت أمه في جانب «ماري تريزا» وكان أبوه في جانب «فردريك» الكبير، أما هو فكان - هذه المرة - في جانب أبيه.
ثم احتلت فرنكفورت فرقة فرنسية تساعد النمسا على بروسيا، واحتل قائدها «ثوران» منزل جيتي فغنم الطفل الصغير من هذا الاحتلال فائدة لا تنسى؛ لأن ثوران كان ضابطا مثقفا يحب مجالسة الأدباء ورجال الفنون، ويجمع الصور النفيسة ليرسل بها إلى بلاده، ولأنه أذن لجيتي أن يشهد المسرح الفرنسي الذي كان يرافق الجيش في احتلاله حيث شاء أن يشهده، وتلك مزية يفرح بها الطفل من غراره مطبوع على حب الفنون.
كاترينا إليصابات والدة جيتي.
وأخذ يتعلم الرياضة والموسيقى والتصوير واللغة الإنجليزية وهو في الثانية عشرة، فاخترع قصة يعيش أبطالها في ممالك مختلفة ويكتب كل منهم إلى صاحبه بلغة بلده، ليحذق هذه اللغات ويفتن في أساليبها. وأدت به قراءة التوراة إلى درس العبرية فنظم الشعر في قصة يوسف وإخوته، وكان يملي ما ينظمه أو يكتبه على زميل له من صنائع أهله، فتعود الإملاء عادة لزمته طول حياته. ثم برح بيت أبيه إلى جامعة ليبزج ليدرس فيها الشريعة وما إليها وهو في السادسة عشرة، فبقي زمنا يدرس الشريعة ويزور المتاحف ويمارس التصوير ويلهو أحيانا ويجرب الهوى والهجر والغيرة والإسراف كلما اتفق له ذلك، حتى ضني جسمه وأصيب بنزيف أوشك أن يقضي على حياته ... وعاد إلى بيت أهله بعد سنوات ثلاث وقد تداعى جسده وتداعى يقينه، فلبث فيه أشهرا بين الموت والحياة. وهنا سنحت له فرصة الفراغ لدرس الكيمياء القديمة والسحر والطلاسم مع بعض الأطباء، فقرأ فيها ما شاء وخرج منها كما خرج من جميع مباحثه بمتعة الفنان وتأمل الفيلسوف، ثم قصد «ستراسبورج» في هذه المرة ليستأنف دراسته في جامعتها، وكانت المدينة فرنسية في الحياة العامة وأساليب المعيشة، فتزود من حياتها وعلومها وصاحب طلاب الطب والعلوم الطبيعية فحضر معهم دروس الطب وطبقات الأرض وما إليها، وشاهد هناك الكنيسة الكبرى فحببت إليه الفن القوطي القديم بعد نفور وسوء ظن، وكان لهذه الكنيسة أثر بليغ في تقديره للعبقرية الألمانية وتوقيره لآداب وطنه.
ثم أتم دروس الجامعة وهو في الثانية والعشرين، وراح يتدرب على المحاماة في «فتزلار» ويحب كدأبه أينما كان وأنى كان! فالتقى بالفتاة «شارلوت بف» وأحبها ووصف حبه إياها في قصة «آلام الفتى فرتر» مع شيء من التحوير يقصد به المداراة وصرف الأنظار، فاشتهرت القصة وذاع اسم مؤلفها بين العلية والمتأدبين وسائر الطبقات، وفي طليعتهم «كارل أوغست» أمير «فيمار» الفتى المحب للفنون والآداب. فلما كان هذا الأمير يعبر «فرنكفورت» في طريقه إلى باريس أواخر سنة 1774 استقدم جيتي إليه ودعاه إلى عاصمته، ثم تكررت الدعوة فلباها جيتي وهو لا يقدر البقاء الطويل في تلك العاصمة. وكان من أسباب تلبيته حادث غرام يريد أن يفلت منه ونفور من صناعة المحاماة يحسن له هجرها ولو إلى حين، فقد بدأ فيها بداءة مضحكة ولم يمح النجاح اليسير الذي أصابه فيها نفوره الأول منها، وقد أشار إلى هذا النفور في رواية «فوست» أثناء الكلام عن العلوم والدراسات. •••
كان الأمير ربيب الأدباء نشأ على دأب أهله مشجعا للآداب الألمانية، وكان فتى كريم النفس عارم الفتوة لا يفتأ بين صيد وطرد ومبيت في الخلاء ودعابة ومجون، وكان له مذهب في الحب كمذهب جيتي لولا أنه جامح وثاب، وجيتي لا يطيق الصبر الطويل على الجماح والوثوب. ومن غرائبه في هذا الباب أنه أمر بأن تجمع له مكتبة تضم أشتات ما كتب الكاتبون قديما وحديثا عن الحب بجميع ضروبه وأشكاله، ومن دلائل نبله في شبابه وكهولته أن أناسا وشوا عنده بالفيلسوف «فيخت» واعترضوا على توظيفه بجامعة «يينا» لنزعته الثورية الظاهرة، فوضعوا بين يديه كتابا من كتبه ليقرأه ويعدل عن توظيفه ... فلما قرأ الكتاب أمر بتوظيف الفيلسوف.
عرف كل من الأمير والشاعر صاحبه معرفة البصير الناقد والصديق الشاكر للفضائل المتسامح في العيوب، فتوثقت بينهما الصداقة ودامت مدى الحياة، وفي عاصمة هذه «الإمارة الصغيرة» تولى الشاعر مناصب الوزارة العالية وتقلب في أعمال شتى، منها ما هو متصل بثقافته كالتعليم والتمثيل ومنها ما هو بمعزل عنها كالزراعة والمعادن والحرب، فسوى بينها في العناية وأخلص لها جميعها إخلاصه للشعر والقصة. ووالاه الأمير برعايته خلال ذلك كله فلم يبخل عليه بشيء يتوق إليه. فلما أحب أن يزور إيطاليا تركه يقيم فيها نحو عشرين شهرا ووظيفته جارية وأجره غير ممنون، وقد نفعته هذه الرحلة فيما أقنعته برفضه وفيما أقنعته بأخذه، فقد عدل عن طلب التفوق في التصوير ونفذ إلى صميم الفن القديم.
جيتي وأمير فيمار.
Unknown page