فالعقل اذن لا يستطيع أن يحكم، ولا يصح حكمه الا في الأمور المادية المحدودة. أما (ما وراء المادة)، أي عالم الغيب (الميتافيزيك)، فلا حكم للعقل عليه. وهذا الذي أثبته (كانْت) في كتابه، وقاله علماؤنا من قبل، موجود في كتاب شرح المواقف للسيد، ورسالة (المقصد الاسني) للغزالي (١) وسائر كتب علم الكلام.
قواعد العقائد
القاعدة السادسة - الإستعاذة بقوة وراء الكائنات
ان الناس جميعا، المؤمن منهم والكافر، والناشئ في صوامع العبادة، والمتربي في مخادع الفسوق، اذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعا، ولم يجدوا لها دفعا، لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات، قوة لا يرونها ولكنهم يشعرون بأرواحهم وقلوبهم، وكل عصب من أعصابهم بوجودها، وبعظمتها وجلالها. يقع هذا الكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم، وعجز الطبيب. كلهم يعودون إلى ربهم، ويقبلون على عبادته. فهل سألتم أنفسكم، ما السبب في هذا وأمثاله؟ لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى الله؟ نذكر جميعا (٢) أيام الحرب الماضية، والتي قبلها، كيف كان الناس يقبلون على الدين، ويلجؤون إلى الله. الرؤساء والقواد يؤمّون المعابد، ويدعون الجنود إلى الصلاة.
_________
(١) بقيت هذه الرسالة (المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى) في مكتبتي أكثر من ثلاثين سنة، لم أجد دافعًا إلى قراءتها، ثم أخذتها فوجدت فيها شيئا عجيبًا من عبقرية الغزالي. فهو يتكلم عن الاسم والمسمى والصلة بينها ويربط بين أسماء الله وسلوك المسلم بأسلوب جديد وطريقة مبتكرة. وهذا شأن الغزالي في كل موضوع يكتب فيه وإن كان في كتابه العظيم (الاحياء) كثير من الصوفيات المخالفة للسنة، وكان فيه كثير من الأحاديث التي لا أصل لها، وكان أثره في نفس قارئه العزلة والخمول، والبعد عن روح المغامرة والجهاد. مع انه ألف في عهد الحروب الصليبية، التي وجب فيها الجهاد على الرجال والنساء، كما هو واجب الآن، لاخراج الكافر من أرض المسلمين التي يحتلها. وأنا أقول بأن الغزالي أعظم مفكر اسلامي، ولكنه ليس بمعصوم - والانصاف العلمي يستوجب ذكر عيوبه المعدودة - وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
(٢) أعني الكهول والشيوخ الذين أدركوا الحرب الأخيرة: سنة (١٩٣٩ م)، ومن قبلها الحرب الأولى: (١٩١٤ م)، وقد أدركتهما وقلت ما قلت عنهما، عن مشاهدة وعيان.
1 / 45