وهذا مثال يتكرر آلاف المرات، في آلاف الصور، كلما عرض للمرء مثل هذا الموقف فوقف أمام لذة محرمة تدعوه نفسه إلى غشيانها، وكان في قلبه إيمان، يدفع عقله إلى منعه منها، وعلى مقدار ما يكون من انتصار العقل، تكون قوة هذا الايمان.
وليس معنى هذا أن ينتصر العقل دائما، وألاّ يقارب المسلم المعاصي ابدا، فالاسلام دين الفطرة، دين الواقع، والواقع ان الله خلق خلقًا للطاعة الخالصة، ولمحض العبادة، هم (الملائكة)، ولم يجعلنا الله ملائكة، وخلق خلقا شأنهم المعصية والكفر هم (الشياطين)، ولم يجعلنا كالشياطين، وخلق خلقا لم يعطهم عقولًا ولكن غرائز، فلا يكلفون ولا يسألون، وهم (البهائم والوحوش)، ولم يجعلنا الله وحوشا ولا بهائم.
بين يدي الكتاب
فما نحن إذن؟ ما الإنسان؟
الانسان مخلوق متميز، فيه شيء من الملائكة وشيء من الشياطين، وشيء من البهائم والوحوش، فاذا استغرق في العبادة، وصفا قلبه إلى الله عند المناجاة، وذاق حلاوة الايمان في لحظات التجلي، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الملكية، فأشبه الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فاذا جحد خالقه، وأنكر ربه، فكفر به، أو أشرك معه في عبادته غيره، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الشيطانية.
واذا عصف به الغضب، فأوتر أعصابه، وألهب دمه، وشد عضلاته، فلم يعد له امنية الا ان يتمكن من خصمه فيعضه بأسنانه، وينشب فيه أظافره، ويطبق على عنقه بأصابعه، فيخنقه خنقًا ثم يدعسه دعسا، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الوحشية، فلم يبق بينه وبين النمر والفهد كبير فرق. واذا عضه الجوع، وبرّح به العطش، وانحصرت آماله، في رغيف يملأ معدته، وكأس تبل صداه أو تملكته الشهوة، وسيطرت على نفسه (الرغبة الجنسية) فغلا بها دمه، واشتعلت بها عروقه، وامتلأ ذهنه بخيالات الشبق
1 / 18