Themes ، وإن المؤلف يجعل لهذه الموضوعات اللحنية نظاما معينا، ويجري عليها تنوعات واستطرادات عديدة؛ تبعا لما تمليه قريحته، وهو في كل ذلك يعالج الموضوع الأساسي واستطراداته تبعا لترتيب ونسق جرى عليه العرف الموسيقي، وإن تكن التغيرات الجزئية فيه ممكنة في جميع الأحوال. والبحث في الصورة أو القالب الموسيقي، هو تحليل للترتيب الذي يسير عليه المؤلف الموسيقي في صياغته لموضوعاته اللحنية الرئيسية، وفي نقلاته بينها وبين ما ينسجه حولها من استطرادات، بحيث يكفل لعمله الفني تنوعا حيا، ويضمن له في نفس الوقت وحدة شاملة. •••
والبحث في عناصر اللغة الموسيقية يؤدي بنا إلى تحليل الطريقة التي تتداول بها هذه اللغة. ولطريقة التداول هذه أهمية خاصة بالنسبة إلى الفن الموسيقي؛ ففي الفنون الأخرى ينقل العمل الفني من خالقه إلى متلقيه مباشرة، أما في الموسيقى، فالعلاقة ليست ثنائية مباشرة، بل هي علاقة ثلاثية؛ يتوسط فيها القائم بالأداة - سواء أكان عازفا أم مغنيا - بين المؤلف وبين المستمع؛ لهذا كان علينا أن نقف قليلا عند دور كل من أطراف هذه العلاقة الثلاثية في نقل لغة الموسيقى.
فالمؤلف يسجل نواتج خلقه الفني بالتدوين. ولا جدال في أن الموسيقى - شأنها شأن أية لغة أخرى - أفادت من التدوين فائدة عظمى؛ فهو قد أعان على حفظ المؤلفات الموسيقية دون أن يتناولها التحريف أو التشويه الذي تتعرض له لو نقلت بالسماع وحده. ولا شك أن رموز التدوين الموسيقي قد ازدادت دقة وثراء على الدوام، حتى أصبحت في العهود الأخيرة قادرة على تسجيل كل تفاصيل القطعة وألوانها، وأصبح من الممكن - إذا كان الأداء دقيقا - أن تؤدى القطعة على النحو الذي أراده مؤلفها تماما، دون أي إرشاد من المؤلف ذاته. ولم يكن الحال كذلك قديما، حين كانت المدونات الموسيقية تخلو من بعض العناصر التي تترك لتقدير القائم بالأداء. وبفضل التدوين أيضا أمكن أن تحدث هذه التطورات المتعددة في الموسيقى، التي ازدادت بها عمقا على الدوام؛ إذ إن التدوين يحمي المؤلف من تلقائية الارتجال وسطحيته، ويمكنه من صقل المادة الموسيقية الموجودة لديه وتهذيبها على أكمل وجه ممكن، فضلا عن إضافة أبعاد جديدة إليها تزيدها عمقا وثراء.
وبهذه المدونات يبدأ عمل القائم بالأداء؛ فمهمته هي أن يكون وسيطا، ينقل معاني المؤلف وأحاسيسه، كما سطرها في مدوناته إلى السامعين. وأوضح وأبسط الشروط التي ينبغي توافرها في الأداء، هو الدقة والأمانة. ولكن هذا الشرط يثير إشكالا ليس من اليسير حله. فإلى أي مدى يجب أن يذهب القائم بالأداء في دقته وأمانته؟ تختلف الآراء في الإجابة عن هذا السؤال؛ فهناك رأي يحتم على القائم بالأداء أن يجرد نفسه من كل ميل شخصي، وأن يحرص على النقل الدقيق وحده. على أن هذا الرأي يعاب عليه أنه يجعل القائم بالأداء سلبيا تماما، فيكون أشبه بالآلة التي خلت من تصرف واع؛ لهذا ينادي الكثيرون بأن يتصرف القائم بالأداء تبعا لفهمه وتذوقه الخاص، مع عدم إخلاله بالأصل الذي ينقله. والواقع أن عظماء العازفين والمغنين، تظهر شخصيتهم بكل وضوح في أدائهم، فتسمع اللحن الواحد منطبعا بطابع من يقوم بأدائه، وقد يكون هذا الطابع شخصيا إلى حد بعيد. وأذكر أنني كلما سمعت «كونشرتو» يقوم بالدور المنفرد فيه عازف الكمان العظيم «چوزيف زيجيتي
Joseph Szigeti » وجدت الأداء متأثرا بأسلوب الفنان الشخصي، الذي تدركه الأذن الخبيرة لأول وهلة، ويختلف عن كل ما عداه من طرق الأداء الأخرى، بحيث تبدو القطعة وقد اكتسبت روحا جديدة كل الجدة، كل هذا دون أدنى إخلال بالأصل. وتلك في الحق هي صفة الأداء البارع؛ أن يكتسب شخصية القائم به، ويتشرب بروحه، دون أن يصحب ذلك أي تحريف لما يسجله المؤلف في مدوناته.
أما دور المستمع، فهو تلقي تلك المعاني والأحاسيس التي سجلها المؤلف، ونقلها إليه القائم بالأداء. وإني لأذهب إلى أن الاستماع فن قائم بذاته، يقتضي تدريبا طويلا قبل أن يصل الإنسان إلى ممارسته على النحو الصحيح؛ ذلك لأن للاستماع درجات ومراحل متفاوتة ؛ ففي أول مراحله لا يكون المرء قادرا إلا على استيعاب الموسيقى الخفيفة، ذات الإيقاع الواضح، كالموسيقى الراقصة بأنواعها. ولما كانت هذه الموسيقى لا تتصف بالعمق، ولا توحي بالمهابة والوقار؛ فإن الاستماع إليها يكون عادة مصحوبا بأداء أفعال أخرى؛ كالكلام مثلا، فمن المحال أن تربى عادة الاستماع المركز في هذه المرحلة. وفي مرحلة تالية تبدأ ملكة الاستماع تكتسب مزيدا من الخبرة، ويكون في وسع المرء أن يتذوق مقطوعات أكثر عمقا، ولكنه لا يستطيع أن يهضمها كلها، أو أن يدرك معنى الأجزاء المعقدة فيها؛ لهذا نرى المستمع في هذه المرحلة يضيق في كثير من الأحيان بأجزاء معينة في المقطوعات التي يستمع إليها، وقد يبرح مكانه دون أن يكمل الاستماع! وأذكر - من تجربتي الشخصية - أنني كنت في هذه المرحلة أعجز عن التذوق الكامل للقطع الغربية التي تعزف على «البيانو» أو التي تغنى بالصوت البشري؛ ذلك لأن ضربات البيانو في الموسيقى الغربية، لا تملأ الفراغ الزمني بين كل علامة موسيقية وأخرى، بل تترك ذلك للرنين الصوتي الذي تحدثه الضربة الأولى، فكان من الصعب ملء هذا الفراغ بالنسبة إلى الأذن التي اعتادت سماع طريقة العزف الشرقية، وكانت القطعة تبدو مجموعة من الأصوات المنفصلة التي يعجز الذهن عن إيجاد الوحدة بينها. كذلك كانت الحركات الصوتية التي يتميز بها الغناء العربي تخفي الاتجاه الرئيسي للحن، فيصبح المرء عاجزا عن متابعته. وخلال الصعوبات التي يواجهها المرء في هذه المرحلة، نراه يلجأ في كثير من الأحيان إلى التشبيهات الشعرية؛ ليغلف بها اللحن، ويستعين بها على فهمه. على أن المثابرة على السماع كفيلة بأن تجعل المرء يتغلب على هذه العقبات، فيمكنه التمتع بكل أنواع التأليف والأداء. وفي المرحلة الأخيرة يكتسب المرء القدرة على التذوق الفني الكامل للموسيقى، بحيث يستطيع عندئذ أن يكشف موضوعاتها الرئيسية، ويدرك ما طرأ عليها من تنوعات واستطرادات، ولا يكتفي بالسطح اللحني الظاهر للقطعة، بل ينفذ إلى التيارات الخلفية والاتجاهات الخفية فيها، ويدرك الوحدة الكامنة وراء هذه الكثرة المعقدة من الأصوات. وهذه هي مرحلة الاستماع الكامل، الذي لا يتطرق إليه ملل، ولا تفوته جزئية من الجزئيات. وهي بلا شك تقتضي قدرا هائلا من التركيز، غير أن الخبرة والمران كفيلان بأن يجعلا هذا التركيز أمرا غير شاق، وبأن يمكنا المرء من زيادة درجة انتباهه دون أن يفقده ذلك لذة التمتع الجمالي بالأنغام.
وهكذا تتفاوت درجات الاستماع تبعا لخبرة المستمع ومدى عمق تجاربه وطول مدة مرانه، وينتهي به الأمر إلى أن يتفرغ خلال الاستماع إلى تفهم الموسيقى بكل تفاصيلها. ولعله قد اتضح لنا السبب الذي قلنا من أجله: إن الاستماع إلى الموسيقى فن قائم بذاته؛ ذلك لأنه في مرحلته العليا ليس عملا سلبيا كما يعني الكثيرون بكلمة الاستماع، وإنما هو عمل إيجابي بكل معاني الكلمة، يقتضي انتباها وتركيزا لا يكتسبان إلا بعد مران طويل الأمد، ويقتضي تدخل الذهن الواعي، إلى جانب الإحساس الانفعالي، أي: إنه عمل يشترك فيه العقل مع الحساسية، ويقتضي بجانب التذوق الوجداني، تفكيرا وتحليلا ومقارنة.
المعنى في الموسيقى
ارتبط معنى الفن طويلا بفكرة اللذة أو السرور، فقيل إن هدف كل أنواع الفنون هو أن يبعث في الإنسان شعورا باللذة، أو يجلب له السرور. وليس في هذا التحديد العام ذاته ما يثير إشكالا، وإنما تثار الإشكالات إذا كنا بصدد توضيح المقصود باللذة أو السرور؛ ذلك لأن البعض يفهمون اللذة بمعنى سلبي، فتكون حالة يتقبل فيها الإنسان مؤثرا خارجيا وينفعل له في استرخاء، دون أن يبدي من النشاط إلا الحد الأدنى، اللازم للإدراك البسيط وحده. ومثل هذا الفهم لمعنى اللذة الفنية يلقى اعتراضات عديدة في كل مجالات الفنون، وحسبنا هنا أن نشير منها إلى الاعتراضات التي توجه إليه في مجال الموسيقى.
فاللذة السلبية في مجال الموسيقى هي ما يسمى بالطرب، وهي كلمة ثار حولها جدال طويل في صحفنا المصرية في الآونة الأخيرة، ولكن الذي لا شك فيه أن طابع التأثير والانفعال السلبي هو الغالب عليها. فغاية ما يؤدي إليه الطرب - إذا اتخذ هدفا للتأثير الموسيقي - هو أن يبعث في الإنسان انفعالا؛ إما أن يكون هادئا يلطف أعصابه ويدفع عنه متاعب الحياة، وإما أن يكون عنيفا ينسيه مشاكله الواقعية، ويشغل أعصابه عن الاهتمام بالأمور الجدية في الحياة. والحق أن الكثيرين يعتقدون أن هذه هي الوظيفة الحقيقية للموسيقى، وأن مهمتها ترفيهية فحسب.
Unknown page