ولأبدأ بأن أقول: إن ظاهر الأمور يوحي بشيء كهذا الذي يقولونه؛ أعني أن معظم المستمعين المصريين، والشرقيين عامة، لا يتذوقون الموسيقى الغربية الراقية، بل لا يستسيغونها على الإطلاق، ويحكمون على أرفع سيمفونياتها بأنها «ضجيج» وعلى أجمل أغنياتها بأنها «صراخ». هذا حق، وتلك بالفعل ظاهرة ماثلة في الواقع الشرقي بوجه عام. ولكن هل يعني ذلك أن تلك الموسيقى غريبة تماما عن آذان المستمع الشرقي، وأنها لغة لا يفهمها إلا الناطقون بها وحدهم، يستغلق فهمها على غيرهم، وليس لها من تأثير إلا عليهم؟ تلك بلا شك فكرة باطلة، على الرغم من عدم استساغة الأغلبية العظمى من الشرقيين للموسيقى الغربية.
وقبل أن أوضح سبب بطلان هذه الفكرة، أود أن أمهد لذلك بالكلام عن ظاهرة أخرى، مستمدة من واقعنا الشرقي ذاته؛ فنفس هذا الواقع، الذي لا يهضم الموسيقى الغربية الراقية، قد استطاع أن يستسيغ موسيقى غربية خالصة، هي الموسيقى الراقصة! والمتتبع للأغاني التي تشيع اليوم في بلادنا، وتلقى أكبر قدر من الرواج بين المستمعين، وبخاصة الأجيال الجديدة منهم، يجد طابع الموسيقى الغربية الراقصة غالبا عليها.
وصحيح أن هذه الموسيقى تختلف عن الموسيقى الغربية الكلاسيكية اختلافا بينا، غير أنها أيضا تختلف عن الصور التقليدية للموسيقى الشرقية اختلافا أعظم. ومجرد كون الجمهور الشرقي قد استساغ هذا اللون الذي يختلف عن اللون الشرقي القديم كل الاختلاف، وأبدى إعجابه به، وردده في غدوه ورواحه، هو في ذاته دليل واقعي ملموس على أن اللغة الموسيقية، رغم قوميتها، تستطيع أن تعبر حواجز القومية وتؤثر في الجميع. وليس من المستبعد، والحال هذه، أن يأتي اليوم الذي يفهم فيه الجمهور الشرقي موسيقى الغرب الكلاسيكية ويحسن تذوقها.
وإذن فالسبب الحقيقي ليس هو الطابع القومي، وإلا لظلت الموسيقى محصورة في حدودها القديمة لا تتعداها، وإنما السبب الحقيقي افتقار إلى الخبرة فحسب، ولنضرب لذلك مثلا؛ فمن المعروف أن ذوي الثقافة القاصرة يجدون متعة كبرى في الروايات البوليسية ذات الأفكار السطحية، ولا يستطيعون مطلقا أن يستسيغوا المؤلفات أو الدراسات الأدبية العميقة. ولكن هل يعني ذلك أن مثل هذه الدراسات تنتمي إلى عالم غير عالمهم، وأنها ستظل إلى الأبد غريبة عنهم؟ لا شك أن في هذا مغالطة واضحة، وأن في وسع أي شخص محدود الثقافة أن يهضم أعمق الدراسات إذا لجأ إلى حل بسيط، هو أن يعمق ثقافته، وعندئذ سيجد متعة كبرى في فهم الكتابات العميقة، ويدرك مدى قصور تجربته القديمة. والحال كذلك في الموسيقى؛ فمشكلتنا بإزاء أرقى أنواع الموسيقى الغربية ليست مشكلة طابع قومي يمنعنا من فهمها، وإنما هي مشكلة افتقار إلى الخبرة والتجربة، ولو توافر هذا الشرط لأمكننا أن نستمتع بكل أنواع الموسيقى، دون أن يكون لقوميتنا أدنى تأثير. أما القائلون بأن الشرق شرق والغرب عرب، وبأن طريقتهم في التأليف ستظل إلى الأبد غريبة علينا، فما أشبههم بمرب يرى أبناءه مدمنين على القراءة السطحية، فلا يحاول نصحهم بتعمق ثقافتهم، بل يتركهم وشأنهم، مكتفيا بالقول: إن ذلك هو نوع الثقافة الذي يلائم طبيعتهم، وهذا بلا شك حل رجعي للمشكلة؛ ولذا وصفت فئة دعاة القومية بأنها فئة رجعية محافظة.
فالموسيقى إذن لغة تتخطى حاجز القومية. وليس هناك أدنى تعارض بين هذا القول، وبين القول الآخر الذي يبدو مضادا له، والقائل: إن لكل أمة أو مجتمع طابعه الخاص في موسيقاه؛ ذلك لأن القوة الدافعة إلى التأليف الموسيقي تكون دائما مرتبطة بالواقع الذي يعيش فيه الفرد، أي: بظروف علاقاته بمجتمعه، فيصطبغ إنتاجه الفني ضرورة بطابع بيئته الاجتماعية، ولكن ليس معنى ذلك أن هذا الإنتاج يقتصر تأثيره على هذه البيئة وحدها، وإنما هو يتجاوز النطاق القومي، ويصبح ذا تأثير شامل، إذا كان فنا أمينا مخلصا. وكم من الأعمال الأدبية الرائعة تصطبغ حوادثها بصبغة محلية، تستمد من ظروف المجتمع الخاص الذي كان يحيا فيه مؤلفها، ولكنها مع ذلك تذيع وتصبح أدبا عالميا، له تأثيره البالغ في نفوس أفراد ينتمون إلى مختلف القوميات والبيئات! فوجود الطابع القومي أو المحلي للموسيقى لا يجعلها إذن لغة منطوية على ذاتها، وليس هناك ما يحول دون فهم كل إنسان لها، إذا بلغ المستوى الثقافي الكافي.
وأما الرأي الآخر، الذي يبدو متعارضا مع دعوتنا إلى اقتباس الأساليب الغربية، فيتقدم به مفكرون تقدميون، ينادون بدعوة مشابهة في ظاهرها للدعوة السابقة، ولكنها في مرماها وجوهرها مناقضة لها، تلك هي دعوة الرجوع إلى الفن الشعبي. ونقول: إن هذه الدعوة مشابهة في ظاهرها لما يدعو إليه المحافظون من تمسك بالقالب الشرقي القديم بوصفه هو القالب «القومي»؛ فالفن الشعبي بدوره فن مصطبغ بالصبغة المحلية، نابع من ظروف مجتمع بعينه. ولكن جوهر الدعوة إلى التمسك بالفن الشعبي تناقض الفكرة القومية؛ إذ إنها لا تبنى على اعتقاد راسخ بأن إنتاج شعب معين لا يفهم إلا في الدائرة التي نتج خلالها، بل إنها تنطوي على إيمان بأن أي فن شعبي، مهما كانت صبغته محلية، يمكن أن ينقل ويفهم ويقدر على نطاق أوسع كثيرا من نطاقه المحلي؛ فالفنون، مع كونها شعبية، هي في حقيقة الأمر عالمية، أو إنسانية؛ فالفن الذي يخلقه شعب معين، ويصبغه بصبغته، قادر على التأثير في كل الشعوب الأخرى. ولا جدال في أن هذه النظرة إلى الفنون الشعبية أصدق من نظرة المحافظين، الذين يبالغون في تقدير أهمية «الطابع القومي».
والحق أن التعارض بين ما ندعو إليه من دراسة للأساليب الغربية، وبين الداعين إلى الرجوع إلى الفن الشعبي، ليس تعارضا شديدا، بل إن ما نرمي إليه هو في حقيقة الأمر محاولة لتصحيح معنى الرجوع إلى الفن الشعبي في مجال الموسيقى؛ ذلك لأن دعاة فكرة الفن الشعبي يبلغ بهم التحمس حدا يجعلهم في بعض الأحيان يخطئون فهم الفكرة ذاتها؛ فالفن الشعبي تنعكس عليه دائما مختلف الأحداث التي مر بها الشعب، فيكون سجلا صادقا يصور تاريخ الشعب في تطوراته وتقلباته. والذي لا شك فيه أن تاريخنا الشعبي الطويل كان في معظم فتراته تاريخ الظلم والاضطهاد اللذين ظل شعبنا يعانيهما حتى الأمس القريب. حقا إن الكفاح ضد هذا الاضطهاد لم ينقطع، غير أن تعاقب مظاهر الاستبداد واحدا بعد الآخر لم يترك للشعب فرصة في ممارسة تجربة الحرية والتغني بها في فنونه. وانعكس ذلك على أوضح صورة ممكنة في موسيقانا الشعبية، فأصبحت زاخرة بمعاني الذل والخضوع، وانعكست المعاني على الألحان فإذا بها حزينة باكية، لا تقبل على الحياة بقدر ما تندب حظها فيها.
ولست أرمي من ذلك إلى نقد فننا الشعبي في ذاته؛ إذ إن هذا الفن كان أمينا في تصويره للأحوال التي مر بها شعبنا خلال تاريخه الطويل. ولكني فقط أرمي إلى أن تكون نظرتنا إلى الفن الشعبي - في مجال الموسيقى - نظرة نقدية فاحصة. فإلى هؤلاء الذين يعتقدون بأن الخلاص من ضيق الأفق الذي تعانيه الموسيقى المصرية في وقتنا الحالي لا يكون إلا بالرجوع إلى الأنغام الشعبية، إلى هؤلاء أتوجه بأسئلتي هذه؛ آملا أن يجيبوا عنها إجابة صريحة أمينة: أليس الفن الشعبي - دائما - سجلا لمختلف الأحداث التي مر بها الشعب؟ وهل كانت الأحداث التي مر بها شعبنا إلا سلسلة متصلة من الاضطهادات، يمارسها الطغاة من المحتلين الأجانب، أو المستبدين من الإقطاعيين والمستغلين؟! إذن فقد كان من الضروري أن تنعكس هذه الظروف على فننا الشعبي عامة، وعلى موسيقانا الشعبية بوجه خاص، فأصبحت أنغام هذه الموسيقى نواحا وبكاء، حتى حينما لا يستدعي الحال مثل هذا الحزن.
والحق أن الاضطهاد الطويل الذي مررنا به - والذي ينبغي أن نعترف به في صراحة - يدفعنا إلى أن نكون حذرين أشد الحذر كلما رجعنا إلى فننا الشعبي. ففي الموسيقى الشعبية - الريفية منها والمدنية - ينعكس بوضوح خداع المستغلين والمستعمرين، وتزيف الأهداف الحقيقية التي كان ينبغي أن يسعى إليها الشعب، فيحل النواح والبكاء محل الدعوة إلى النضال والإقبال على الحياة، ويبدو كأن المشكلة الكبرى للمواطن المصري الذي لم يكن يجد قوت يومه، هي الغرام وهجران الحبيب! وتسود فلسفة تواكلية زائفة تؤمن بالقدر و«المكتوب»، وتثبط الهمم وتقعدها عن الكفاح ضد الظالمين. وهكذا أصبح الفن الموسيقي الشعبي يعكس كل عوامل الظلم ومظاهر التزييف التي فرضت على شعبنا. حقا إن الرغبة في المقاومة لم تخمد، وإن بعض الأعمال قد ظلت تحمل طابع الكفاح، ولكن هذه لا تقارن بالأعمال التي تعكس ما فرض على الشعب، أو ما انزلق فيه رغما عنه، من أهداف زائفة.
وإذن فعلينا دائما - قبل أن نساير الدعوة إلى الاسترشاد بالفن الشعبي في الموسيقى - أن نسائل أنفسنا: ما هي الأحوال التي كان يعكسها هذا الفن في بلادنا؟ وعندئذ، سوف ندرك أننا ينبغي أن نكون حذرين أشد الحذر في استرشادنا بهذا الفن، وأن ظروف بلادنا قد تكون مختلفة عن غيرها من البلدان التي استطاعت أن تحقق نهضة موسيقية باستيحاء ألحانها الشعبية. وسوف ندرك أيضا أن إنسان المستقبل الذي نود أن نكونه لا بد أن يتخذ لنفسه أهدافا سليمة، مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي تغنت بها معظم الألحان الشعبية في عهود الظلم والاضطهاد الماضية.
Unknown page