التصوف وَكتاب التعرف
يَقُول الْعَلامَة الصُّوفِي أَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي الْقلب الصُّوفِي قد رأى الله وكل شَيْء يرى الله لَا يَمُوت فَمن رأى الله فقد خلد
وكل كلمة خطها الصوفيه كَانَت خالده كالقلب الصُّوفِي خالدة لَا تَمُوت لِأَنَّهَا ارتبطت بِاللَّه واستهدفت رِضَاهُ واقتست من هداه وأشرقت بحبه وأضاءت بنوره
ومادة التصوف سَوَاء أَكَانَت أَخْلَاقًا أَو معرفه أَو سلوكا أَو تعبيرا عَن مُشَاهدَة اَوْ تصويرا لمناجاه أَو تذوقا لتجليات أَو تحليقا حول أشرافات فَهِيَ مَادَّة موصله بِاللَّه قَائِمَة بِهِ وَله فانية فِيهِ سُبْحَانَهُ
وَلِهَذَا آمن الصوفيه بِأَنَّهُم أحباب الله وأصفياؤه وأولياؤه وصفوه عبَادَة وحراس ينابيعه وآياته
كَمَا آمنُوا بِأَن أَعْمَالهم وحركاتهم ومعارفهم وأذواقهم ومقاماتهم كلهَا هبات الله وفيض عطاياه
إِن مَوْلَاهُم سُبْحَانَهُ هُوَ مربيهم ومعلمهم وهاديهم ومرشدهم إِنَّه الحبيب الْقَرِيب الْمُجيب الْآخِذ بنواصيهم إِلَى وَجهه الْكَرِيم
1 / 3
قيل لمعروف الْكَرْخِي أخبرنَا عَن الْمحبَّة أى شئ هِيَ قَالَ يَا أخي لَيست الْمحبَّة من تَعْلِيم النَّاس الْمحبَّة من تَعْلِيم الحبيب
وَبِهَذَا الارتباط المشتعل بالوجد وَالْحب وملهمات الْأنس والقرب أصبح الصُّوفِي أَيْنَمَا تولى فثم وَجه الله لايرى سواهُ
وكل شئ فِي الْوُجُود مرآه يرى فِيهَا الصُّوفِي وَجه الله وآياته وَقدرته وَرَحمته يَقُول ذُو النُّون فِي مناجاته
إلهي مَا أصغيت الى صَوت حَيَوَان وَلَا إِلَى حفيف شجر وَلَا خرير مَاء وَلَا ترنم طَائِر وَلَا تنغم طل وَلَا دوى ريح وَلَا قعقعة رعد إِلَّا وَجدتهَا شاهدة بوحدانيتك داله على أَنه لَيْسَ كمثله شئ
وَمن هُنَا لم تَتَحَدَّث طائفه من النَّاس عَن الْحبّ الإلهي وَعَن الفناء فِي الله كَمَا تحدث الصوفيه
والفناء الصُّوفِي فَوق سموهُ الإيماني مَذْهَب فِي التربية والأخلاق لَا يماثله مَذْهَب آخر من مَذَاهِب التربية والأخلاق
وعَلى ضوء علم النَّفس الحَدِيث وعَلى هدى الْمذَاهب العلمية التربوية يجب أَن نَنْظُر إِلَى الفناء الصُّوفِي على أَنه مَنْهَج للكمال والتسامي لَا يطاوله غَيره وَلَا يُغني عَنهُ سواهُ
إِنَّه إفناء المشاعر والرغبات الأرضية فِي شئ أكبر وَأعظم من الْمثل الْأَعْلَى المصطلح عله خلقيا وتربويا
إِنَّه إفناء هوى النفوص وشهواتها وعواطفها وكل مَا تحب فِيمَا يُحِبهُ الله ويريده وَيَأْمُر بِهِ ليعيش الصُّوفِي متخلقا بِخلق الله أَو كَمَا يَقُول الإِمَام الْجُنَيْد فَتكون
1 / 4
كل حركاته فِي موافقه الْحق دون مخالفاته فَيكون فانيا عَن المخالفات بَاقِيا فِي الموافقات
إِنَّه إِذن استبدال خلق بشري بِخلق رباني وَذَلِكَ ارْتِفَاع بالبشرية لَا نعرفه وَلَا تعرفه الدُّنْيَا لغير الصُّوفِيَّة الإسلامية ٢
فالفناء الصُّوفِي لَيْسَ فنَاء جَسَد فِي جَسَد وَلَا فنَاء روح فِي روح إِنَّه فنَاء إِرَادَة فِي إِرَادَة وفناء أَخْلَاق فِي اخلاق وصفات فِي صفيات أَو كَمَا يَقُول الصُّوفِيَّة فانيا عَن أَوْصَافه بَاقِيا بأوصاف الْحق
إِنَّه لتصعيد للكمال تصعيد تخفق أجنحته فِي أفق قدسي علوى ثمَّ تخفق صاعدة صاعدة حَتَّى تنَال شرف التخلق بأخلاق الصِّفَات الإلهية
وَهَذَا الفناء هُوَ الَّذِي عبر عَنهُ الحَدِيث النبوى تخلقوا بأخلاق الله وصوره الحَدِيث الْقُدسِي
كنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ وبصره الَّذِي يبصر بِهِ
وَبِهَذَا الفناء يحس الصُّوفِي إحساس ذوق ووجدان وقلب وروح بِإِذن الله سُبْحَانَهُ مَعَه وَفِي ضَمِيره وحركاته وكلماته
يَقُول الْعَلامَة الكلاباذي وَمن فنَاء الحظوظ حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود قَالَ مَا علمت أَن فِي أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ من يُرِيد الدُّنْيَا حَتَّى قَالَ الله تَعَالَى ﴿مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة﴾ فَكَانَ عبد الله فِي هَذَا الْمقَام فانيا عَن إِرَادَة الدُّنْيَا
لقد فنى الصوفيه فِي حب مَوْلَاهُم وتخلقوا باخلاقه وتأدبوا بآدابه وتربوا فِي محاربيه وعاشوا فِي ذكره ومناجاته فعلمهم وطهرهم وزكاهم واصطفاهم واجتباهم وأحبهم ورضى عَنْهُم فَفتح لقُلُوبِهِمْ ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض يُرِيهم عجائب كَونه وبدائع قدرته وبدائع قدرته
1 / 5
وأسرار خليقته وأفاض عَلَيْهِم هداياه وعطاياه علوما وأذواقا أَو كَمَا يَقُول الصوفيه أَخَذْتُم علمكُم مَيتا عَن ميت وأخذنا علمنَا من الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت
وَمن هَذَا الفناء جَاءَهُم الخلود وَبِهَذَا التخلق أَصْبحُوا ائمة يهْدُونَ إِلَى الله بأَمْره ويقفون حراسا على آيَاته ومشاهده مبشرين بكلماته متحدثين عَن حضراته داعين إِلَى محبته ومناجاته مترنمين فِي آفاقه وجدا وشوقا بتسبيحه وَذكره
يَقُول الْعَلامَة الإِمَام الكلاباذي واصفا لمقاماتهم وأحوالهم سبقت لَهُم من الله الْحسنى وألزمهم كلمة التَّقْوَى وعزف بنفوسهم عَن الدُّنْيَا صدقت مجاهداتهم فنالوا عُلُوم الدراسة وخلصت علها معاملاتهم فمنحوا عُلُوم الوراثه وصفت سرائرهم فأكرموا بِصدق الفراسة ثبتَتْ أَقْدَامهم وزكت أفهامهم أنارت أعلامهم فَهموا عَن الله وَسَارُوا إِلَى الله وأعرضوا عَمَّا سوى الله خرقت الْحجب أنوارهم وجالت حول الْعَرْش أسرارهم وجلت عِنْد ذِي الْعَرْش أخطارهم وعميت عَمَّا دون الْعَرْش ابصارهم فهم أجسام روحانيون وَفِي الارض سماويون وَمَعَ الْخلق ربانيون سكُوت نظار غيب حضار مُلُوك تَحت أطمار أنزاع قبائل وَأَصْحَاب فَضَائِل وأنوار دَلَائِل آذانهم واعيه وأسرارهم صَافِيَة ونعوتهم خافيه صفوية صوفيه نورية صَفيه ودائع الله بَين خليقته وصفوته فِي بريته ووصاياه لنَبيه وخباياه عِنْد صَفيه هم فِي حَيَاته أهل صفته وَبعد وَفَاته خِيَار أمته لم يزل يَدْعُو الأول الثَّانِي وَالسَّابِق التَّالِي بِلِسَان فعله أغناه ذَلِك عَن قَوْله
تِلْكَ لمحة عَن التصوف والصوفيه الَّذين رَأَتْ قُلُوبهم الله فَلم تمت قُلُوبهم بعد الْمُشَاهدَة بل خلدت تنبض بالحب وتقتات بِالذكر وتنعم بِالْهدى وَالرِّضَا وَترسل الشعاع الَّذِي ينير طَرِيق السالكين الى رَبهم
1 / 6
وخلد مَعَ الْقلب الحى الطَّاهِر كل مَا صدر عَنهُ من كلم حى طَاهِر طيب مُرْتَبِط بِاللَّه مَوْصُول بِهِ
وَإِن من أخلد مَا كتب عَن التصوف والصوفية لكتاب التعرف لمَذْهَب أهل التصوف للْإِمَام الْعَالم الْعَارِف تَاج الْإِسْلَام أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق البخارى الكلاباذي المتوفي سنة ٣٨٠ هـ ٩٩٠ م
وَهُوَ من أقدم وأدق وأنقى وأصفى مَا كتب عَن هَذَا الْعلم وَرِجَاله
كتبه الْعَارِف الكلاباذي فِي الْعَصْر الذَّهَبِيّ للتصوف فِي أَوَائِل الْقرن الرَّابِع لِلْهِجْرَةِ الْقرن الَّذِي بلغ فِيهِ التصوف كَمَاله العلمي والفني واستكمل فِيهِ التصوف علومه ومناهجه وآدابه وسلوكه ومقاماته
وَجَاء كتاب الكلاباذي صُورَة كَامِلَة لعصره الذَّهَبِيّ بل صُورَة للتصوف فِي أَعلَى ذراه وأنقى موارده وَأهْدى معارجه
وَالْكتاب بعد هَذَا صُورَة ورسالة يقوم على مَنْهَج وغايه فِي دقة وَأَمَانَة وبراعة علمية وكفاءة فنية يزينه ويجليه اسلوب عبقرى فِيهِ إشراق ومرونة لَا يعرف الحشو والتطرف وَلَا البهرج الْمُتَكَلف بل يقْصد إِلَى غَايَته بأرشق الْكَلِمَات وأحلاها وأعلاها فِي غير إِسْرَاف أَو تَطْوِيل أَو خُرُوج عَن الهدف والمنهج
وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْكتاب مَعَ قله صفحاته موسوعة علمية صوفية كبرى يُغني عَن غَيره من الموسوعات الْكُبْرَى وَلَا يُغني غَيره عَنهُ حَتَّى قَالَ عُلَمَاء التصوف القدامى لَوْلَا التعرف لما عرف التصوف
والكلاباذي لَيْسَ مؤرخا فِي هَذَا الْكتاب فَحسب بل هُوَ عَالم عَارِف ذائق يُدْلِي بِرَأْيهِ وحجته ثمَّ هُوَ معاصر وصديق للثقات الْأَئِمَّة الَّذين اضاءوا آفَاق التصوف
1 / 7
فِي عصره الذَّهَبِيّ وَلِهَذَا يَقُول فِي كِتَابه وَهُوَ يعرض لأحاديث الصفوة الاعلام سمعنَا أَو قَالَ لنا
ويحدثنا الكلاباذي عَن منهجه فِي كِتَابه فَيَقُول
فدعاني ذَلِك إِلَى أَن رسمت فِي كتابي هَذَا وصف طريقتهم وَبَيَان نحلتهم وسيرتهم من القَوْل فِي التَّوْحِيد وَالصِّفَات وَسَائِر مَا يتَّصل بِهِ مِمَّا وَقعت فِيهِ الشُّبْهَة عِنْد من لم يعرف مذاهبهم وَلم يخْدم مشايخهم وكشفت بِلِسَان الْعلم مَا أمكن كشفه ووصفت بِظَاهِر الْبَيَان مَا صلح وَصفه ليفهمه من يفهم إشاراتهم ويدركه من لم يدْرك عباراتهم وينتفي عَنْهُم خرص المتخرصين وَسُوء تَأْوِيل الْجَاهِلين وَيكون بَيَانا لمن أَرَادَ سلوك طَرِيقه مفتقرا إِلَى الله تَعَالَى فِي بُلُوغ تَحْقِيقه بعد أَن تصفحت كتب الجذاق فِيهِ وتتبعت حكايات المتحققين لَهُ بعد الْعشْرَة لَهُم وَالسُّؤَال عَنْهُم
ثمَّ لَا يَكْتَفِي الكلاباذي فِي كِتَابه بِهَذَا إِن لَهُ لشخصيته وَعلمه واستنباطه واجتهاده وَإنَّهُ ليسخر كل ملكاته ليقدم لنا الْمعرفَة الصُّوفِيَّة فِي صُورَة كَامِلَة من تَحْصِيله وتصويره
وَهُوَ مَنْهَج فِي التَّأْلِيف قل نَظِيره فِي قدامى المؤرخين يَقُول الكلاباذي هَذَا مَا تحققناه وَصَحَّ عندنَا من مَذَاهِب الْقَوْم من أقاويلهم فِي كتبهمْ مِمَّن ذكرنَا اسماءهم ابْتِدَاء مَا سمعناه من الثِّقَات مِمَّن عرف أصولهم وَتحقّق مذاهبهم وَالَّذِي فهمناه من رموزهم وإشاراتهم فِي ضمن كَلَامهم قَالَ وَلَيْسَ كل ذَلِك مسطورا لَهُم على حسب مَا حكيناه وَأكْثر مَا ذكرنَا من الْعِلَل والاحتجاج فَمن كلامنا عبارَة عَمَّا حصلناه من كتبهمْ ورسائلهم
1 / 8
وَمن تدبر كَلَامهم وتفحص كتبهمْ علم صِحَة مَا حكيناه وَلَوْلَا أَنا كرهنا الإطالة لَكنا نذْكر مَكَان ماحكيناه من كَلَامهم فِي كتبهمْ نصا وَدلَالَة إِذْ لَيْسَ كل ذَلِك مرسوما فِي الْكتب على التَّصْرِيح
وَكتاب التعرف لَيْسَ كتابا من كتب الطَّبَقَات وَلَيْسَ موسوعة تحمع اشتاتا من المعارف لَا ترابط بَينهَا إِنَّه مَادَّة الْعلم الصُّوفِي وجوهره مَعَ الدَّلِيل والتحليل والبرهان الَّذِي لَا يرقى اله شكّ وَلَا يشوبه غموض
فَإِذا تحدث الكلاباذي عَن المقامات مثلا رَاح فِي علم وذوق يحللها ويجليها ويكشف عَن أسرارها ومعانيها وَيقدم لَهَا الدَّلِيل تلو الدَّلِيل من الْكتاب وَالسّنة والمنطق الإسلامي
يَقُول الكلاباذي فِي حَدِيثه عَن المقامات ثمَّ لكل مقَام بَدْء وَنِهَايَة وَبَينهمَا أَحْوَال متفاوته وَلكُل مقَام علم وَإِلَى كل حَال إِشَارَة وَمَعَ كل مقَام إِثْبَات وَنفي وَلَيْسَ كل مَا نفي فِي مقَام كَانَ منفيا فِيمَا قبله وَلَا كل مَا أثبت فِيهِ كَانَ مثبتا فِيمَا دونه
وَهُوَ كَمَا روى عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ
لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ
فنفي إِيمَان الْأَمَانَة لَا إِيمَان العقد والمخاطبون أدركوا ذَلِك إِذْ كَانُوا قد حلوا مقَام الْأَمَانَة أَو جاوزوه إِلَى مَا فَوْقه وَكَانَ ﵇ مشرفا على أَحْوَالهم فَصرحَ لَهُم
فَأَما من لم يشرف على أَحْوَال السامعين وَعبر عَن مقَام فنفى فِيهِ واثبت جَازَ ان يكون فِي السامعين من لم يصل ذَلِك الْمقَام وَكَانَ الَّذِي نَفَاهُ الْقَائِل مثبتا فِيهِ فِي
1 / 9
مقَام السَّامع فَيَسْبق إِلَى وهم السَّامع أَنه نفى مَا أثْبته الْعلم فخطأ قَائِله أَو بدعه وَرُبمَا كفره
فَلَمَّا كَانَ الْأَمر كَذَلِك اصطلحت هَذِه الطَّائِفَة على أَلْفَاظ فِي علومها تعارفوها بَينهم ورمزوا بهَا فادركه صَاحبه وخفي على السَّامع الَّذِي لم يحل مقَامه فإمَّا أَن يحسن ظَنّه بالقائل فيقبله وَيرجع إِلَى نَفسه فَيحكم عَلَيْهَا بقصور فهمه عَنهُ أَو يسوء طنه بِهِ فيهوس قَائِله وينسبه إِلَى الهذيان وَهَذَا أسلم لَهُ من رد حق وإنكاره
ذَلِك هُوَ منطق الكلاباذي فِي عرضه العلمي وتحليله الصُّوفِي وَهَذَا منهجه فِي سَائِر مَا يتَنَاوَل فِي كِتَابه من دقائق وَلِهَذَا كَانَ كِتَابه صُورَة صَادِقَة لاسمه التعرف لمَذْهَب أهل التصوف
وَلَقَد وقفنا طَويلا عِنْد هَذِه التَّسْمِيَة وأخذنا نتساءل أهذه التَّسْمِيَة دقيقة لقد أثارت فِي قوه انتباهنا إِلَيْهَا ككل وأثارت فِي عنف انتباهنا إِلَى كل كلمة من كلماتها
إِن الْمُؤلف قَالَ التعرف وَلم يقل دراسة أَو بحث اَوْ شرح وَقَالَ مَذْهَب بِصِيغَة الْمُفْرد وَلم يقل مَذَاهِب وَقَالَ اهل التصوف وَلم يقل الصُّوفِيَّة مثلا وَكَانَ من الْمُمكن أَن تكون التَّسْمِيَة هَكَذَا دراسة مَذَاهِب الصُّوفِيَّة
هَل الْتزم الْمُؤلف الدقة فِي هَذَا العنوان وتروى فِي كَلِمَاته
إِن الْمُؤلف من أَعْلَام الصُّوفِيَّة فَإِذا عبر عَن التصوف فَإِنَّمَا يعبر عَن شُعُور وذوق إِنَّه يعبر عَن تجربة مر بهَا فَلَا يُمكن إِلَّا أَن يكون دَقِيقًا
ثمَّ هُوَ فَقِيه حَنَفِيّ وَمن خَصَائِص فُقَهَاء الأحناف الْمنطق الدَّقِيق وَالِاسْتِدْلَال الْعقلِيّ
1 / 10
والمؤلف إِذن جمع بَين الشُّعُور الذوقي والإتقان المنطقي وَكتابه إِذن إِنَّمَا صدر عَن تجربة وَعَن منطق وَيظْهر ذَلِك بوضوح فِي كل صفحة من صفحات الْكتاب
وَلَكِن أيظهر ذَلِك فِي العنوان أَيْضا الْوَاقِع أننا بعد ان أطلنا التفكير فِي العنوان دهشنا لدقته الدقيقة وإحكامه الْمُحكم
إِن أَمر التصوف فِي الْوَاقِع لَيْسَ أَمر جدل أَو بحث اَوْ أَخذ ورد وَإِنَّمَا هُوَ تعرف
وَالْقِيَاس فِيهِ والمنطق وَالِاسْتِدْلَال والبحث والدراسة والأسلوب العلمي يصب ظَاهرا مِنْهُ وشكلا أَو رسما وَرُبمَا كَانَت حِجَابا أَو ظلمَة تبعد الدارس عَن النُّور بدل أَن تغمره بلألائه
وَمن الْمُؤَكّد أَن الَّذين لَا يعلمُونَ إِلَّا ظَاهرا من الْأَمر هم عَن الْحَقِيقَة محجوبون
والتصوف تجربة والتجربة شُعُور والشعور لَيْسَ منطقا وَلَا برهانا إِنَّمَا هُوَ تعرف
وحينما دخل الْمنطق والبرهان فِي التصوف وَكَانَ أوضح مثل لذَلِك دراسات المستشرقين وَمن لف لفهم من الشرقيين أفسد ذَلِك التصوف لِأَنَّهُ حول النبع المتدفق إِلَى ركود آسن وحول السناء المتلألئ إِلَى طلمة حالكة وأرجع فضل الله وَنعمته إِلَى مرض من الْأَمْرَاض يعالج بالمادة ويشفي بالعقاقير
إِن التصوف لَيْسَ علما وَإِذا تدخل الْعلم فِيهِ أفْسدهُ كإفساد الْعلم المزيف للدّين حينما تدخل فِي الْوَحْي والنبوة والألوهية ونقول الْعلم المزيني لِأَن الْعلم
1 / 11
الصَّحِيح لَا يتَعَدَّى حُدُوده وللعلم الصَّحِيح دائراته وَهِي التجربة المادية الَّتِي لَا يتعداها
والتصوف تجربة روحية وَلَيْسَ للمادة شَأْن بِالروحِ فَلَيْسَ للْعلم بِالْمَعْنَى الحَدِيث إِذن شَأْن بالتصوف
إِن الْعلم أَرض ومادة وحس والتصوف سَمَاء وروح وذوق وَأمر التصوف فِي النِّهَايَة تعرف لَا دراسة أَو جدل أَو علم
وَإِذا مَا وصلنا إِلَى هَذِه النتيجة الَّتِي هِيَ فِي رَأينَا صَحِيحَة كل الصِّحَّة فَإِن معنى ذَلِك أَن من لَا يشْعر بالشعور الصُّوفِي فَإِنَّهُ لَا يتعرف عَلَيْهِ كَمَا أَن من لم يسْلك طَرِيقا معينا بِالذَّاتِ وَلَو مرّة وَاحِدَة فَإِنَّهُ لَا يتعرف على مَا فِيهِ من ظلّ ظَلِيل أَو زهور ناضرات
وقديما قَالُوا من ذاق عرف وبالتالي فَإِن من لم يذقْ لَا يعرف وَكتاب الْمُؤلف إِذن لَيْسَ إِلَّا محاولة للتعبير بالألفاظ عَن الشُّعُور المتدفق الْفَيَّاض وَهَذَا التَّعْبِير لَا يفهمهُ حق فهمه إِلَّا من شعر بِهِ وَمعنى فهمه لَهُ أَنه تعرف عله وفهمه إِذن إِنَّمَا هُوَ تعرف فَحسب
والمؤلف يَقُول مَذْهَب وَفِي النَّاس من يرى أَن التصوف مَذَاهِب وَفرق وَطَوَائِف وَلَكِن هَذَا التفكير المنحرف تأتى إِلَى الْقَائِلين بِهِ من نظرتهم إِلَى علم الْكَلَام وَإِلَى الفلسفة فَفِي علم الْكَلَام أشاعرة ومعتزلة ومشتبهة وَفِي الفلسفة أرسطيون وإفلاطونيون وديكارتيون
وَأمر الطوائف وَالْفرق يتَجَاوَز علم الْكَلَام والفلسفة إِلَى الاقتصاد وَعلم النَّفس وَعلم الِاجْتِمَاع والنفوس مهيأة لقبُول فكرة الطوائف فِي جَمِيع الْعُلُوم النظرية
1 / 12
وَلَقَد خلط الكاتبون بَين هَذِه الدراسات والتصوف فزعموا أَن فِي التصوف مَذَاهِب وفرقا وَطَوَائِف
وَلَو أنعموا النّظر لعرفوا أَن التصوف تجربة روحية وَلَيْسَ نظرا عقليا وَذَا كَانَ النّظر الْعقلِيّ يفرق الناظرين إِلَى طوائف وَفرق فَإِن التجربة لَا يخْتَلف فِيهَا اثْنَان وَإِذا كَانَت الفلسفة لِأَنَّهَا نظر عَقْلِي مَذَاهِب مُتعَدِّدَة فَإِن التصوف وَهُوَ تجربة مَذْهَب وَاحِد لَا تعدد فِيهِ وَلَا اخْتِلَاف
وكما أَنه لَا يستساغ الْخلطَة بَين الْوَسَائِل والغايات فِي أَي ميدان من الميادين فَإِنَّهُ لَا يستساغ الْخَلْط بَين طرق التصوف وَهِي وَسَائِل وَبَين الْغَايَة وَهِي التصوف نَفسه
فطرق التصوف مُتعَدِّدَة مُخْتَلفَة وَبَعضهَا أوفق من بعض وَبَعضهَا أسْرع من غَيرهَا وَلكنهَا على اختلافها وتعددها تُؤدِّي إِلَى هذف وَاحِد وَغَايَة وَاحِدَة
التصوف إِذن مَذْهَب بِصِيغَة الْمُفْرد لَا مَذَاهِب بِصِيغَة الْجمع وتعبير الْمُؤلف اذا مُسْتَقِيم كل الاسْتقَامَة
وَيَقُول الْمُؤلف أهل التصوف وللتصوف حَقِيقَة أَهله وذووه أما أَهله وذووه فهم هَؤُلَاءِ الَّذين وهبهم الله حسا مرهفا وذكاء حادا وفطرة روحانية وصفاء يكَاد يكون فِي صفاء الْمَلَائِكَة وطبيعة تكَاد تكون مخلوقة من النُّور
وَالنَّاس معادن والطبائع مُخْتَلفَة فَمِنْهَا مَا يرقى إِلَى الطبيعة الملائكية وَكَأَنَّهُ فِي طَبِيعَته قبس خَالص من نور الله وَمِنْهَا مَا يسفل ويسفل إِلَى أَن يصبح أَو يكَاد فِي مستوى السَّائِمَة
1 / 13
وَلَقَد صور رَسُول الله ﷺ طبائع النَّاس فِي تقبل النُّور الإلهي فَقَالَ
إِن مثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمثل غيث أصَاب أَرضًا فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَة طيبَة قبلت المَاء فأنبتت الْكلأ والعشب الْكثير وَكَانَ مِنْهَا أجادب امسكت المَاء فنفع الله تَعَالَى بهَا النَّاس فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسقوا وزرعوا وَأصَاب طَائِفَة مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قيعان لَا تمسك مَاء وَلَا تنْبت كلأ فَذَلِك مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى ونفعه مَا بَعَثَنِي الله تَعَالَى بِهِ فَعلم وَعلم وَمثل من لم يرفع بذلك وَلم يقبل هدى الله الَّذِي أرْسلت بِهِ
وَفِي الْقُرْآن صور رائعة للطبائع الْمُخْتَلفَة وَالْآيَة الْآتِيَة تصور تِلْكَ الطبائع يَقُول الله تَعَالَى لرَسُوله الْكَرِيم ﴿واصبر نَفسك مَعَ الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه وَلَا تعد عَيْنَاك عَنْهُم تُرِيدُ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا تُطِع من أَغْفَلنَا قلبه عَن ذكرنَا وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ أمره فرطا﴾ وَمن أروع الصُّور القرآنية للَّذين نزلت طبائعهم إِلَى مستوى السَّائِمَة قَوْله تَعَالَى ﴿واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا وَلكنه أخلد إِلَى الأَرْض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث ذَلِك مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا فاقصص الْقَصَص لَعَلَّهُم يتفكرون﴾
وَاخْتِلَاف الطبائع مسالة بديهية وَمَا دَامَ التصوف نورا وهداية فَإِن لَهُ أَهله وَذَوِيهِ الَّذين اصْطفى الله واجتبى
التعرف لمَذْهَب أهل التصوف إِنَّه عنوان هادف كَمَا أَنه كتاب هادف
1 / 14
وَلِهَذَا حرصنا كل الْحِرْص على أَن نقدمه مصححا محققا إِلَى الْعَالم الإسلامي بعد أَن راجعناه على نسختين خطيتين ليَكُون قبسا من نور وَقَبضه من شُعَاع وفيضا من علم وأخلاق وطهر وَصُورَة من مَنْهَج رسم الطَّرِيق الصاعد للْعَالم الإسلامي فِي ماضيه الْمشرق الْعَظِيم ويرسم الطَّرِيق الصاعد للْعَالم الإسلامي فِي حاضره أَو فجره الَّذِي تتراءى انواره فِي الْآفَاق مبشرة بغد يسامق ماضيه فِي الْإِشْرَاق والعزة وَالْقُوَّة
1 / 15
لجنة نشر الْأُصُول الصُّوفِيَّة وَكتاب التعرف
إِن الْمَدِينَة العالمية الْحَاضِرَة إِنَّمَا هِيَ مَدَنِيَّة الْمَادَّة وَإِن أدنى نظرة فِيهَا ترى بوضوح أَن الرّوح المادية مسيطرة طاغية حَتَّى لقد حددت دَائِرَة الْعلم فِيهَا بدائرة مادية واتجه الْبَحْث نتيجة لذَلِك إِلَى الْمَادَّة على الْخُصُوص ومنذ أَن أرسى بيكون قَوَاعِد الاستقراء والملاحظة والتجربة اتجه الباحثون إِلَى اتِّخَاذ ذَلِك وَحده منهجا للبحث عَن الْحَقِيقَة وحينما نشا ملاحدة الْقرن الثَّامِن عشر وَالتَّاسِع عشر موهوا على النَّاس فصوروا لَهُم الدائرة المادية على أَنَّهَا الدائرة الثَّابِتَة الَّتِي تتكشف فِيهَا الْحَقَائِق أما مَا عدا هَذِه الدائرة مِمَّا وَرَاء الطبيعة وَمن الْغَيْب فَإِنَّهَا زيف كلهَا وسراب خداع
وَقَامَ فِي الغرب كَمَا قَامَ فِي الشرق أفذاذ مصلحون ينادون بِأَن طغيان الرّوح المادية يتنافى مَعَ الانسانية وَمَعَ الْأَخْلَاق وَمَعَ الدّين أى دين كَانَ وَلَكِن صرخاتهم تلاشت أَمَام الغرائز الجامحة والشهوات الملحة والأهواء الغلابة وسادت الرّوح المادية فِي الحضارة الراهنة وَكَانَ من نتيجة ذَلِك الْحَرْب الْكُبْرَى الأولى وَالْحَرب الْكُبْرَى الثَّانِيَة اللَّتَان لم تدعا قطرا من الأقطار أَو إقليما من الأقاليم إِلَّا ونثرتا فِيهِ الشَّقَاء الوانا شقاء الْفقر أَو شقاء الْمَوْت والهلاك والدمار
واذا سادت الرّوح المادية أَصبَحت الأهداف والغايات مادية اصبحت استعمارا وامتصاص دِمَاء وسيطرة بِالْقُوَّةِ واغتصابا بل أَصبَحت سلبا ونهبا واستعباد دولة لدولة وإلقاء بِكُل المعايير الأخلاقية والإنسانية إِلَى موطئ الْأَقْدَام
وكل ذَلِك فِي الْوَاقِع هُوَ الحضارة الحالية بل إِن الْوَاقِع أدهى من ذَلِك وأفظع وَأي قلم يُمكنهُ أَن يصور مأساة هيروشيما وناجازاكي الَّتِي تولى كبرها وباء بإثمها من يَزْعمُونَ أَنهم حَملَة مشعل حضارة الْقرن الْعشْرين
1 / 16
وَأي قلم يُمكنهُ أَن يصور نتائج مخترعات الدمار الَّتِي تتبارى الشعوب فِيهَا وتتنافس وتنفق عَلَيْهَا آلَاف الملايين يجمعونها من كدح الْعمَّال وتعبهم المضني لينفقوها فِي هَلَاك الْعَالم وتدمير الإنسانية
القنبلة الذُّرِّيَّة القنبلة الهدروجينية الكوبالت أشعة الْمَوْت حَرْب الميكروبات حَرْب الغازات
وَمَعَ كل هَذِه الْوَسَائِل التدميرية العالمية تَأتي وَسَائِل أَشد فتكا بِالروحِ الإنساني والقيم الأخلاقية والمباديء الإيمانية
تَأتي الْمذَاهب الإلحادية الْفَاجِرَة والفلسفات الوجودية الداعرة والشهوات المسعورة السافرة
إِنَّهَا المدنية الْحَاضِرَة إِنَّهَا الحضارة الراهنة حضارة الشَّيْطَان الَّتِي خلا لَهَا وَجه الْعَالم أَو أوشك
وَنحن ابناء الْقُرْآن لنا حضارة عريقة وَلنَا رِسَالَة إنسانية عالمية هِيَ رِسَالَة الرّوح وَالْإِيمَان والأخلاق والأخوة الإنسانية
حضارة لَا تخضع للغرائز وَلَا تسلم قيادها للشهوات وَلَا تسْجد للشَّيْطَان وَلَا تتبع خطواته فِي الْإِفْسَاد والاستعباد والتدمير
وَإِنَّهَا لتسمو على هَذَا كُله لِأَن هدفها الأول والأخير إِيجَاد الْإِنْسَان الْفَاضِل وَالظفر برضوان الله وحبه
وَإِنَّهَا لرسالة يجب أَن يتكاتف الْمُؤْمِنُونَ على الْقيام بهَا وَفتح الْآفَاق لأنوارها وكشف الْحجب عَن روحها
يجب أَن نضئ مصابيحها وَأَن نبرز مناهجها وأهدافها وَأَن نقدم زَادهَا الروحي والخلقي والإيماني للنَّاس كَافَّة ليجدوا فِيهِ نجاتهم وعصمتهم مِمَّا يعده رسل الْجَاهِلِيَّة الشيطانية من تدمير وإفساد
1 / 17
وَإِن فِي تِلْكَ الحركات العلمية والإصلاحية الحركات الْحَيَّة الْفتية الَّتِي تمشي على وَجه الْحَيَاة فِي الْعَالم الإسلامي لبشرى لمن يرجون أَيَّام الله ويرتقبون عودة الحضارة الإيمانية إِلَى الْحَيَاة
وَفِي سَبِيل الحضارة الإيمانية الربانية وَبَين يَديهَا نطلق تِلْكَ الأشعة الصُّوفِيَّة الَّتِي تعمق الاتجاه الروحي فِي النُّفُوس القلقة وَتثبت الْإِيمَان وتنميه فِي الْقُلُوب الحائرة
وَفِي سَبِيل عَالم أسمى وإنسانية أهْدى ورضوان من الله أكبر قمنا بنشر سلسلة الْأُصُول الصُّوفِيَّة الْكُبْرَى الَّتِي تضم روائع التراث الروحي الإسلامي
وَمِمَّا يبْعَث الْغِبْطَة والأمل فِي قُلُوبنَا أَن الْكثير من الْكتب الَّتِي نشرناها وَالَّتِي نَحن بسبيل نشرها قد ترْجم تَرْجَمَة صَحِيحَة إِلَى اللُّغَات العالمية
وَنحن نرجو أَن يكون انتشارها فِي الشرق والغرب مَعًا أساسا لقبس من النُّور وَالْهِدَايَة نَدْعُو الله أَن يكْتب لَهُ النمو والانتشار حَتَّى يتم ضوؤه ويعم نوره فَيكون طَلِيعَة بعث جَدِيد لحضارة جَدِيدَة أقوم قيلا وَأهْدى سَبِيلا
وَنحن كَمَا يرى الْقَارئ كعهدنا لم نحاول أَن نظهر تعالما زائفا يحشد الْكثير من الهوامش الَّتِي لَا ضَرُورَة لَهَا
وَإِنَّمَا كَانَ هدفنا أَن ننشر النَّص صَحِيحا محققا محررا وَأَن نيسره للقارئ الْعَرَبِيّ كَمَا نيسر تَرْجَمته للقارئ الغربي
عبد الْحَلِيم مَحْمُود طه عبد الْبَاقِي سرُور
1 / 18
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
التعرف لمَذْهَب أهل التصوف
الْحَمد الله المحتجب بكبريائه عَن دَرك الْعُيُون المتعزز بجلاله وجبروته عَن لواحق الظنون المتفرد بِذَاتِهِ عَن شبه ذَوَات المخلوقين المتنزه بصفاته عَن صِفَات الْمُحدثين الْقَدِيم الَّذِي لم يزل وَالْبَاقِي الَّذِي لَا يزَال المتعالي عَن الْأَشْبَاه والأضداد والأشكال الدَّال لخلقه على وحدانيته باعلامه وآياته المتعرف إِلَى اوليائه بأسمائه ونعوته وَصِفَاته المقرب أسرارهم مِنْهُ والعاطف بقلوبهم عَلَيْهِ الْمقبل عَلَيْهِم بِلُطْفِهِ الجاذب لَهُم إِلَيْهِ بعطفه طهر عَن أدناس النُّفُوس أسرارهم وَأجل عَن مُوَافقَة الرسوم اقدارهم اصْطفى من شَاءَ مِنْهُم لرسالته وانتخب من أَرَادَ لوحيه وسفارته انْزِلْ عَلَيْهِم كتبا أَمر فِيهَا وَنهى ووعد من أطَاع وأوعد من عصى أبان فَضلهمْ على جَمِيع الْبشر وَرفع درجاتهم أَن يبلغهَا قدر ذِي خطر ختمهم بِمُحَمد عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأمر بِالْإِيمَان بِهِ وَالْإِسْلَام فدينه خير الْأَدْيَان وَأمته خير الْأُمَم لَا نسخ لشريعته وَلَا أمة بعد أمته حعل فيهم صفوة وأخيارا ونجباء وأبرارا سبقت لَهُم من الله الْحسنى وألزمهم كلمة التَّقْوَى وعزف بنفوسهم عَن الدُّنْيَا صدقت مجاهداتهم فنالوا عُلُوم الدراسة وخلصت عَلَيْهَا معاملاتهم فمنحوا عُلُوم الوراثة وصفت سرائرهم فأكرموا بِصدق الفراسة ثبتَتْ أَقْدَامهم وزكت أفهامهم وأنارت أعلامهم فَهموا عَن الله وَسَارُوا إِلَى الله وأعرضوا عَمَّا سوى الله خرقت الْحجب أنوارهم وجالت حول الْعَرْش أسرارهم وجلت عِنْد ذِي الْعَرْش أخطارهم وعميت عَمَّا دون الْعَرْش ابصارهم فهم أجسام روحانيون وَفِي الأَرْض سماويون وَمَعَ الْخلق بانيون سكُوت نظار غيب حضار مُلُوك تَحت أطمار انزاع قبائل
1 / 19
وَأَصْحَاب فَضَائِل وأنوار دَلَائِل آذانهم وَاعِيَة وأسرارهم صَافِيَة ونعوتهم خافية صفوية صوفية نورية صَفِيَّة ودائع الله بَين خليقته وصفوته فِي بريته ووصاياه لنَبيه وخباياه عِنْد صَفيه هم فِي حَيَاته أهل صفته وَبعد وَفَاته خِيَار أمته لم يزل يَدْعُو الأول الثَّانِي وَالسَّابِق التَّالِي بِلِسَان فعله أعناه ذَلِك عَن قَوْله
حَتَّى قل الرغب وفتر الطّلب فَصَارَ الْحَال أجوبة ومسائل وكتبا ورسائل فالمعاني لأربابها قريبَة والصدور لفهمها رحيبة
إِلَى أَن ذهب الْمَعْنى وبقى الِاسْم وَغَابَتْ الْحَقِيقَة وَحصل الرَّسْم فَصَارَ التَّحْقِيق حلية والتصديق زِينَة وادعاه من لم يعرفهُ وتحلى بِهِ من لم يصفه وَأنْكرهُ بِفِعْلِهِ من أقرّ بِهِ بِلِسَانِهِ وكتمه بصدقه من أظهره ببيانه وَأدْخل فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَنسب إِلَيْهِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَجعل حَقه بَاطِلا وسمى عالمه جَاهِلا وَانْفَرَدَ المتحقق فِيهِ ضنا بِهِ وَسكت الواصف لَهُ غيرَة عَلَيْهِ فنفرت الْقُلُوب مِنْهُ وانصرفت النَّفس عَنهُ فَذهب الْعلم وَأَهله وَالْبَيَان وَفعله فَصَارَ الْجُهَّال عُلَمَاء وَالْعُلَمَاء أذلاء
فدعاني ذَلِك إِلَى أَن رسمت فِي كتابي هَذَا وصف طريقتهم وَبَيَان نحلتهم وسيرتهم من القَوْل فِي التَّوْحِيد وَالصِّفَات وَسَائِر مَا يتَّصل بِهِ مِمَّا وَقعت فِيهِ الشُّبْهَة عِنْد من لم يعرف مذاهبهم وَلم يخْدم مشايخهم وكشفت بِلِسَان الْعلم مَا أمكن كشفه ووصفت بِظَاهِر الْبَيَان مَا صلح وَصفه ليفهمه من لم يفهم إشاراتهم ويدركه من لم يدْرك عباراتهم وينتفي عَنْهُم خرص المتخرصين وَسُوء تَأْوِيل الْجَاهِلين وَيكون بَيَانا لمن أَرَادَ سلوك طَرِيقه مفتقرا إِلَى الله تَعَالَى فِي بُلُوغ تَحْقِيقه بعد أَن تصفحت كتب الحذاق فِيهِ وتتبعت حكايات المتحققين لَهُ بعد الْعشْرَة لَهُم وَالسُّؤَال عَنْهُم
وسميته بِكِتَاب التعرف لمَذْهَب أهل التصوف إِخْبَارًا عَن الْغَرَض بِمَا فِيهِ بِمَا فِيهِ
1 / 20
وَبِاللَّهِ أستعين وَعَلِيهِ أتوكل وعَلى نبيه أُصَلِّي وَبِه أتوسل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
الْبَاب الأول
قَوْلهم فِي الصُّوفِيَّة لم سميت الصُّوفِيَّة صوفية
قَالَت طَائِفَة إِنَّمَا سميت الصُّوفِيَّة صوفية لصفاء أسرارها ونقاء اثارها
وَقَالَ بشر بن الْحَارِث الصُّوفِي من صفا قلبه لله
وَقَالَ بَعضهم الصوفى من صفت لله مُعَامَلَته فصفت لَهُ من الله ﷿ كرامته
وَقَالَ قوم إِنَّمَا سموا صوفية لأَنهم فِي الصَّفّ الأول بَين يَدي الله جلّ وَعز بارتفاع هممهم إِلَيْهِ وإقبالهم بقلوبهم عَلَيْهِ ووقوفهم بسرائرهم بَين يَدَيْهِ
وَقَالَ قوم إِنَّمَا سموا صوفية لقرب أوصافهم من أَوْصَاف أهل الصّفة الَّذين كَانُوا كَانُوا على عهد رَسُول الله ﷺ
وَقَالَ قوم إِنَّمَا سموا صوفية للبسهم الصُّوف
وَأما من نسبهم إِلَى الصّفة وَالصُّوف فَإِنَّهُ عبر عَن ظَاهر أَحْوَالهم وَذَلِكَ أَنهم قوم قد تركُوا الدُّنْيَا فَخَرجُوا عَن الأوطان وهجروا الاخدان وساحوا فِي الْبِلَاد وأجاعوا الأكباد وأعروا الأجساد لم يَأْخُذُوا من الذنيا إِلَّا مَالا يجوز تَركه من ستر عَورَة وسد جوعة
فلخروجهم عَن الأوطان سموا غرباء
ولكثرة أسفارهم سموا سياحين
وَمن سياحتهم فِي البراري وإيوائهم إِلَى الكهوف عِنْد الضرورات سماهم بعض أهل الديار شكفتية والشكفت بلغتهم الْغَار والكهف
1 / 21
وَأهل الشَّام سموهم جوعية لأَنهم إِنَّمَا ينالون من الطَّعَام قدر مَا يُقيم الصلب للضَّرُورَة كَمَا قَالَ النَّبِي ﷺ بِحَسب ابْن آدم أكلات يقمن صلبه
وَقَالَ السرى السقطى ووصفهم فَقَالَ أكلهم اكل المرضى ونومهم نوم الغرقى وَكَلَامهم كَلَام الخرقى وَمن تخليهم عَن الْأَمْلَاك سموا فُقَرَاء قيل لبَعْضهِم من الصُّوفِي قَالَ الَّذِي لَا يملك وَلَا يملك يعْنى لَا يسترقه الطمع وَقَالَ آخر هُوَ الَّذِي لَا يملك شَيْئا وَإِن ملكه بذله
وَمن لبسهم وزيهم سموا صوفية لأَنهم لم يلبسوا لحظوظ النَّفس مالان مَسّه وَحسن منظره وَإِنَّمَا لبسوا لستر الْعَوْرَة فتجزوا بالخشن من الشّعْر والغليظ من الصُّوف
ثمَّ هَذِه كلهَا أَحْوَال أهل الصّفة الَّذين كَانُوا على عهد رَسُول الله ﷺ فَإِنَّهُم كَانُوا غرباء فُقَرَاء مُهَاجِرين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ ووصفهم ابو هُرَيْرَة وفضالة بن عبيد فَقَالَا يخرون من الْجُوع حَتَّى تحسبهم الْأَعْرَاب مجانين وَكَانَ لباسهم الصُّوف حَتَّى إِن كَانَ بَعضهم يعرق فِيهِ فيوجد مِنْهُ ريح الضَّأْن إِذا أَصَابَهُ الْمَطَر هَذَا وصف بَعضهم لَهُم حَتَّى قَالَ عُيَيْنَة بن حصن للنَّبِي ﷺ إِنَّه ليؤدينى ريح هَؤُلَاءِ أما يُؤْذِيك ريحهم
ثمَّ الصُّوف لِبَاس الْأَنْبِيَاء وزى الْأَوْلِيَاء
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن النَّبِي ﷺ إِنَّه مر بالصخرة من الروحاء سَبْعُونَ نَبيا حُفَاة عَلَيْهِم العباء يأمون الْبَيْت الْعَتِيق وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ كَانَ عِيسَى علية السَّلَام يلبس الشّعْر وَيَأْكُل من الشَّجَرَة ويبيت حَيْثُ أَمْسَى وَقَالَ أَبُو مُوسَى كَانَ النَّبِي ﷺ يلبس الصُّوف ويركب
1 / 22