Tacam Fi Calam Qadim
الطعام في العالم القديم
Genres
واللحم من موضوعات البحث المهمة على وجه التحديد؛ وذلك لعدة أسباب؛ فاللحم مصدره حيوانات ذات إحساس ووعي (وهو موضوع نناقشه باستفاضة في الفصل السابع). وللحم أهمية دينية كبيرة، وهو ما ناقشناه في الفصل الثالث. ويرتبط اللحم في الكثير من الثقافات بالمكانة الاجتماعية، ويرتبط تحديدا بالرجال. وهو نادر في بلدان البحر المتوسط بالمقارنة مع بلدان شمال أوروبا وقارة أمريكا الشمالية. وكانت الأسماك - كما سنرى - ترتبط بعادات تناول الطعام الفاخر في الكثير من النصوص القديمة، ولكن اللحم كان أيضا من الأطعمة الفاخرة لدى معظم الناس، وإن كان طعاما فاخرا تجيزه الشعائر الدينية. وكان اللحم رمزا للسلطان والثراء. ومن الملاحظ أن المدن الإغريقية، مثل أثينا، ذات الطبيعة الجغرافية الجافة والصخرية نسبيا لم تكن مناسبة لإنتاج الماشية، ومع ذلك كان المواطنون في القرنين الخامس والرابع يذبحون مئات الرءوس من الماشية في احتفالات المدينة لاستعراض ما يتمتع به نظام الحكم الديمقراطي من ثراء وسلطان. كانت الماشية تستورد من مناطق مناسبة لتربية الحيوانات، وتعكس اثنتان منها - يوبيا وبيوتيا - ارتباطا بالماشية يتضح من الاسمين. وبالمثل، كان معروفا عن أبطال هوميروس أكل اللحم البقري المشوي طوال مدة حصار طروادة الذي دام عشر سنوات، وكانوا يستمدون القوة من هذا الغذاء الغني بالبروتين والمرتفع الثمن الذي كان نادرا ما يتحصل عليه خارج الشعر الملحمي. وكان المواطنون الأغنياء في مقدونيا يقدمون عدة أطباق من اللحم في الوجبة الواحدة، كما في حفل زفاف كارانيوس الذي ورد وصف له في الفصل الثاني. وفي روما، كثيرا ما تذكر أطباق اللحم في أوصاف المآدب؛ ومن الممكن أن نقارن بين أطباق اللحم الكثيرة التي قدمها البطل الهزلي تريمالكيو في نص بيترونيوس - مثلا - وبين الأدلة الأثرية المأخوذة من الموقع الأثري سكولا بريكونوم في روما التي تشهد على وجود إنتاج كبير من اللحوم (بارنيش 1987). ربما ينبغي وصف إيطاليا بأنها كانت بمنزلة تكساس العالم القديم، ويصفها المؤرخ الإغريقي القديم هيلانيكوس هكذا إلى حد ما (الشذرة 111) في اشتقاقه للاسم «إيطاليا» (وكان الاسم يشير إلى منطقة في القرن الخامس قبل الميلاد أكثر محدودية من إيطاليا كما نتصورها حاليا) من الكلمة الإيطاليقية/اللاتينية «فيتولوس»، ومعناها «عجل»، ويذكر فارو هذا الاشتقاق أيضا في كتابه «عن الزراعة». يبدو أن اللحم كان من العناصر المهمة في غذاء الجيش الروماني (ديفيز 1971)، ومن اللافت للنظر ظهور المزيد من اللحوم أيضا في الأوصاف المثالية لعادات تناول الطعام البسيطة، التي كان من المتصور أن الناس كانوا يتبعونها في عصور سابقة، ويأتي فيها أن الريفي القوي البنية إبان عصر الجمهورية في روما كان يقتات على طعام بسيط يشمل لحم الخنزير المقدد وغيره من أنواع لحم الخنزير المحفوظ. وعلى النقيض من ذلك، كثيرا ما تصف التصورات المثالية الإغريقية عن الماضي وعن الحياة الريفية النقية أسلوب حياة نباتيا. ويقدم كتاب أفلاطون «الجمهورية» مثالا على هذا النوع.
شكل 5-1: كان الجمل يؤكل في مصر - مع أنه من الدواب المخصصة لحمل الأغراض - وفي أجزاء من الإمبراطورية الفارسية. وهو من حيوانات الأضاحي في الإسلام، ولكنه محرم على اليهود في كتاب سفر التثنية. ويرفض جالينوس لحم الجمال، وذلك فيما يبدو حين ذكره وهو يشير إلى مساحة تمتد في أنحاء إمبراطورية تضم الشرق الأوسط، ولكن في الوقت نفسه وهو يفرق بين ما هو صالح للأكل وما يؤكل فعليا في وسط إيطاليا واليونان وغرب آسيا الصغرى. ومن الممكن أن نقارن بين هذا ودراسة جالينوس للدولفين الذي يأتي في معظم الفكر القديم بصفته الحيوان الثديي البحري الأكثر توددا إلى البشر (ولذلك ربما لا يأكله إلا الشعوب التي تعيش في أماكن بعيدة)، ولكن يدرجه جالينوس ضمن الأسماك المناسبة للتمليح. (الصورة من مجموعة صور هاردينج كينج
EUL MS11 ، وهي إهداء من مكتبة جامعة إكستر (المجموعات المميزة).)
ومن الصعب قياس مدى انتشار عادة أكل اللحوم، ومن الممكن أن نكون على يقين بأن السواد الأعظم من السكان لم يأكلوا اللحم كثيرا، وأنهم كانوا يأكلونه على الأرجح في المناسبات الدينية، وأن الحيوان الذي كانوا يأكلونه هو الخنزير غالبا نظرا لأنه كان سريع التكاثر نسبيا ورخيصا إلى حد ما. وفي دراسة بليغة عن تربية حيوانات المزارع، يستنتج جيمسون (1988) أن أكثر حيوانات القرابين شيوعا كان الخنزير، وأن الخنزير الرضيع كان هو الأكثر انتشارا من تلك الفئة، وأن كمية اللحم المتاحة للفرد كانت قليلة عند مقارنتها بالولايات المتحدة أو غرب أوروبا. ويستقي جيمسون الدليل الذي يقدمه من اليونان في العصر الكلاسيكي القديم والعصور الرومانية. أما بخصوص إيطاليا، فيدعي فارو أن «كل الناس هنا» كانوا يربون خنزيرا في إيطاليا في نهاية عصر الجمهورية، ولم يوضح بدقة مدى ما يشمله قوله «الناس هنا» من مستويات السلم الاجتماعي. ولا يوجد ما يدل على أن الخنازير التي كان يربيها الناس في الربيع والصيف كانت تذبح في أواخر الصيف، وهو نمط منتشر من أنماط تربية الخنازير في أوروبا في عصور لاحقة. وربما كان هذا هو ما يفعلونه، وربما يدعم ذلك الإشارات الأدبية الرومانية إلى قطع لحم الخنزير المدخن المحفوظ، المعلقة في العوارض الخشبية للأسقف المائلة في المنازل الإيطالية. ولكن من الجائز أيضا أن الخنازير في البلدان الإغريقية الرومانية كانت مخصصة عادة للمناسبات الدينية، وكانت تذبح في أوقات أخرى من العام. ومن المؤكد أن أعدادا كبيرة من الخنازير كانت تذبح في المدن الإغريقية في احتفالات خصوبة معينة، وخصوصا احتفالات الإلهة ديميتر؛ مثل الأسرار الشعائرية في إلفسينا واحتفال ثيسموفوريا. يعلق جيمسون (1988) على التزامن الواضح بين المواعيد الأساسية لذبح الخنازير على مدار العام وبين الاحتفالات الكبرى، ويبدو أن المناسبات الدينية تتزامن مع الدورة السنوية لاختيار الحيوانات المراد استبعادها من القطيع.
شكل 5-2: أحد الأبطال - ربما هرقل - مضطجعا على أريكة بجوار مائدة من اللحم المعلق بشرائط بطرف المائدة. والصورة مرسومة على وعاء مزج، وكان الرسامون يصورون الآلهة وأنصاف الآلهة في وضع تناول الطعام الذي يتخذه نظراؤهم من البشر، وكذلك الموتى. وكانت صور الآلهة أيضا من وسائل المساعدة لتناول الطعام فيما بين من يأكلون ويشربون. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من متحف المجموعات الأثرية الوطنية ومتحف جليبتوتيك في ميونخ.)
يقدم جالينوس دليلا على نموذج لتربية الخنازير يختلف عن ذلك النموذج الأوروبي؛ ففي مناقشة عن ثمار البلوط («عن قوى الأطعمة» 2، 38) - سبق أن استشهدنا بها في الفصل الرابع - يذكر أن المجاعة دفعت أهالي الريف (في موطنه ميسيا في آسيا الصغرى) للتخلي عن عادة تربية الخنازير خلال الشتاء، وكانوا يضطرون لذبحها وأكلها في الخريف. ويذكر بلينوس أيضا («التاريخ الطبيعي» 8، 205) ميلاد الخنازير في شهر «بروما»، وذلك في منتصف الشتاء.
تناولنا في الفصل الثالث الأهمية الدينية لتقديم قرابين من اللحوم، ويظهر اللحم هنا أيضا بسبب دوره كمكمل غذائي للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، وبصفته طعاما له مكانة تفوق بكثير الدور الذي يسهم به في النظام الغذائي ككل (راجع فيدز 1991). وهو من البروتينات المصنفة من الدرجة الأولى؛ ولذلك فهو من المكملات المستحسنة للغاية، ولكنه لا يتاح بكميات كبيرة إلا للموسرين، وذلك في مناخ بلدان البحر المتوسط. وكانت أي مدينة ذات حكم ذاتي مثل أثينا تستطيع استعراض قوة مواردها بذبح مئات الرءوس من الماشية في عدد من الاحتفالات، وكذلك كان يفعل الحكام الهلنستيون والأباطرة الرومان. وكان عدد الحيوانات في إيطاليا يفوق على الأرجح عدد الحيوانات في البر الرئيسي لليونان. ومن الصعب تقدير مدى تأثير هذا على عامة الناس، وقطعا لم يكن توزيع اللحوم مدرجا في العطايا التي يمنحها الأباطرة إلا بحلول القرن الثالث الميلادي. وأهم النتائج التي ربما ينبغي أن نستنتجها من ذلك أن إيطاليا شهدت استهلاك كميات أكبر نسبيا من اللحوم (ولكنها لم تكن كميات هائلة)، وكان معظم استهلاك اللحوم من نصيب الأغنياء. ومما يدل على ندرة اللحوم عموما الأوصاف المناقضة التي تصور السلتيين على أنهم قوم يكثرون من أكل اللحوم في الأنحاء الشمالية من أوروبا.
ويدل إدراج لحم الخنازير في قوانين الإنفاق على أهميته في التباهي عند الأغنياء. يخبرنا بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» 8، 209) أن منتجات الخنازير كانت توفر قدرا كبيرا من التنوع في «الغانيا» أو دار تناول الطعام، وهو ما يربطه بالطبقات الفقيرة. ولكنه ينتقل بعدئذ للحديث عن مأدبة العشاء الرسمية أو «سينا»: «لذا، توجد صفحات من القوانين التي يصدرها الرقباء، وأطعمة محظور تقديمها في المآدب الرسمية («سيناي»)، وهي: المعدة والبنكرياس والخصية والرحم وأنصاف رأس الخنزير.» ونجد أن الأوصاف الأدبية للمآدب مثل مأدبة عشاء تريمالكيو في كتاب بيترونيوس ترتبط بالإسراف فيما يبدو؛ إذ يظهر لحم الخنزير ومنتجاته في مجموعة من الأطباق؛ ففي هذا الكتاب، نرى أمامنا وصفا للعبد المحرر الغني السوقي الذي يقيم مأدبة لضيوفه الفقراء تتضمن كميات وفيرة من لحم الخنزير. وتدل هذه المأدبة على ثرائه، ولكنها قد تدل أيضا على سوقيته؛ إذ إنه لا يقدم في مأدبته - فيما يبدو - إلا النذر اليسير من الأسماك، وكانت الأسماك في أماكن أخرى من الثقافة الرومانية من الأطعمة التي يتناولها علية القوم. كانت الأسماك تميز المطلعين على أنماط تناول الطعام الأجنبية عن المواطنين العاديين في الجمهورية ممن كانوا يقتاتون على القمح الثنائي الحبة ولحم الخنزير المقدد (كما جاء في قصيدة «الأعياد» 6 للشاعر أوفيد، التي استشهدنا بها في الفصل الثالث). من الوارد أن تأكيد تريمالكيو على لحم الخنزير لا يدل على التباهي الأنيق بقدر ما هو علامة على أصوله الوضيعة.
ويظهر اللحم دوما في مآدب العشاء الفاخرة في العصور القديمة، وتظهر الأسماك المرتفعة الثمن أيضا في أماكن معينة، وتحديدا في أثينا. ولكن اللحم يحتفظ بمكانته المرموقة، فهو القربان الأكبر الذي بوسع إنسان أو جماعة تقديمه إلى معبود ما، وهو طعام الأبطال في ملحمة «الإلياذة»، وهو طعام هرقل كذلك. ولعل هرقل - نصف الإله الشره ذاك - هو المكافئ الإلهي لميلو، ذلك الرياضي الذي يهوى أكل اللحوم (راجع الفصلين الأول والثاني). تذكر الشذرة 6 للشاعر الهزلي يوبولوس أن هرقل يعبر عن ازدرائه للخضراوات ولأي شيء خلاف اللحم قائلا:
سواء أكان هذا الطعام ساخنا أم مقرمشا أم في منزلة بين الاثنين، فإنه أهم لأي رجل من الاستيلاء على طروادة. أما أنا، فلم آت هنا لأتناول الكرنب أو السيلفيوم أو أطباقا مرة مدنسة أو بصليات. بل أنا معتاد دائما على تناول ما أعده طعاما حقيقيا يحسن الصحة ويمنح القوة البدنية الكاملة، وهو اللحم البقري مسلوقا وغير مقطع بكميات كبيرة، بالإضافة إلى حصة وفيرة من الأقدام والخطم وثلاث شرائح من لحم خنزير صغير مرشوشة بالملح. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
Unknown page