Tacam Fi Calam Qadim
الطعام في العالم القديم
Genres
شكل 4-2: تظهر نماذج لشخصيات تحضر الطعام وتطهوه في أنحاء من البلدان الإغريقية، مثل بيوتيا ورودس. ويضاهي هذا الشخص من بيوتيا الذي يراقب الفرن ما ورد في الحكايات الأدبية، والفرن نفسه يظهر في أماكن أخرى من السجلات الأثرية (راجع سباركس 1962).
يناقش كامبوريزي أيضا سلق الحبوب مع الحليب لصناعة البولنتا أو العصيدة، والذرة هي نوع الحبوب المستخدم عادة في إيطاليا المعاصرة، ولكن من بين الحبوب الأخرى التي ذكرها كامبوريزي الدخن والشعير والبيقة والحنطة السوداء والشوفان والعلس والبنيك. وكانت هذه الأطعمة - التي تصنع بسلق الدقيق في الماء أو الحليب - تستخدم بكثرة في اليونان على وجه التحديد، وكانت تصنع منها «العصيدة»؛ مثل أنواع العصيدة المجففة التي كانت يضاف إليها الحساء الكثيف، أو أنواع الخبز غير المختمر المطهو في الموقد. يقدم جالينوس أدلة قوية على وجود هذه العادة في آسيا الصغرى، وكان يستخدم فيها دقيق القمح وكذلك - كما سنرى بعد قليل - دقيق البلوط.
يناقش جالينوس في عدة مواضع في أول جزأين من كتابه «عن قوى الأطعمة» سلسلة هرمية من الحبوب وغيرها من الأطعمة النباتية، وذلك من وجهة نظر المستهلكين. وهو لا يقدم مثل هذه المناقشة بخصوص الأطعمة من الحيوانات والأسماك، ربما - في رأيي - لأن هذه الأطعمة كانت تشغل مكانة أقل أهمية عن الغذاء الأساسي للسواد الأعظم من السكان. يأتي القمح في المرتبة الأولى في رأي جالينوس، والقمح هو نوع الحبوب المفضل لأصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة، وينقله الريفيون إلى المدن لأنه يباع هناك بسعر أعلى، بينما يأكلون هم أنواعا أخرى من الحبوب الأدنى. ثم تأتي بعد ذلك حبوب مثل الشعير وأنواع القمح الأدنى وحبوب البيقة وحبوب البيقة العلقي، وفي هذه المرحلة يصبح الطعام مناسبا للحيوانات فقط. (الكلمة المهمة هنا هي «فقط»؛ لأن الكثير من الأطعمة كانت تزرع لتكون أطعمة للبشر أو للحيوانات، وذلك بحسب الظروف. وفي العالم الحديث، يستخدم الشعير والذرة هذا الاستخدام المزدوج.) وتتحكم الجغرافيا والعوامل الاجتماعية والثقافية والطبية في تفضيل نوع معين من الحبوب؛ فهل سيستطيع المصارع الروماني القتال إذا تغذى على طعام يحتوي على سعرات حرارية أقل من اللازم؟ يتطلب العمال المشتغلون بالأعمال اليدوية قدرا أكبر من الطاقة مقارنة بما يحتاج إليه المواطنون من أصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة، ولكن ممن تتسم حياتهم بنشاط أقل. فهل لا بد أن تأتي هذه الطاقة من فئة الحبوب «الأفضل»؟ يذكر هيرودوت أن الفرس كانوا يرون النظام الغذائي الإغريقي رديئا لأنه لم يكن يولي اهتماما للكعكات؛ ومن هذا المنطلق، يفضل تحضير الحبوب بالعسل والمكسرات وغيرها من الإضافات المميزة للكعكات.
ومع ذلك، فإن أهم ما في الأمر هو تناول ما يكفي من السعرات الحرارية يوميا. يذكر جالينوس عددا من الحالات تحدث فيها مجاعة وتفرض على الناس اختيار أنواع من الحبوب تختلف عن النمط العادي أو المستحسن. وفي الموضع 2، 38، يناقش جالينوس النباتات البرية في نص ترجمه إلى الإنجليزية باول، وفيه يقول:
يتناول الريفيون بانتظام فواكه برية مثل الكمثرى والتوت الأسود وثمار البلوط و«الميمايكايلا» (كما تسمى ثمرة شجرة الفراولة أو الفريز)، ولكنهم لا يتناولون ثمار الأشجار والشجيرات الأخرى إلا نادرا. ومع ذلك، ذات مرة حين اجتاحت المجاعة أرضنا، وكانت لدينا وفرة من محاصيل ثمار البلوط والمشملة، لجأ الريفيون لأكلها بدلا من الحبوب على مدى الشتاء بأكمله وحتى أوائل الربيع؛ إذ كانوا قد خزنوها في حفر في وقت سابق. وقبل ذلك، كانت هذه الثمار تستخدم كطعام للخنازير، ولكنهم في هذه المرة كفوا عن تربية الخنازير في الشتاء كما اعتادوا من قبل، وفي بداية الشتاء كانوا يذبحون الخنازير أولا ويأكلونها؛ وبعد ذلك كانوا يفتحون الحفر ويخرجون منها الثمار، ثم يحضرونها بطرق تحضير متنوعة، ثم يأكلونها. وأحيانا كانوا يغطونها بالرماد الساخن ويخبزونها في درجة حرارة متوسطة، وذلك بعد سلقها. وكانوا أحيانا يصنعون منها حساء، بعد طحنها ودقها حتى تنعم، وكانوا أحيانا ينقعونها فقط في الماء ويضيفون إليها بعض النكهات، وأحيانا كانوا يضيفون إليها العسل أو يسلقونها مع الحليب. والمواد الغذائية التي توفرها هذه الثمار وفيرة على نحو لا يضاهى بأي أطعمة جئنا على ذكرها في هذا الكتاب حتى الآن؛ إذ إن ثمار البلوط ذات قيمة غذائية شأنها شأن الكثير من الأطعمة المصنوعة من الحبوب، ويقولون إن البشر قديما كانوا يقتاتون عليها فقط، وكان الأركاديون يعتمدون عليها لمدة طويلة للغاية، مع أن جميع الإغريق في العصر الحالي يستخدمون الحبوب. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
إن تعليقات جالينوس رائعة حقا؛ إذ يتفق مع فهمه لاستراتيجيات التخزين التي كان يتبعها الريفيون كل من جالانت (1991) وجارنسي (1999: 40-41). كما أن المعلومات التي يقدمها جالينوس عن أكل ثمار البلوط تتفق تماما مع مايسون (1995)، ولمايسون دراسات تتناول عادة أكل ثمار البلوط في أكثر من ثقافة، وتثبت دراساتها تلك تعليقات جالينوس عن ثمار البلوط من حيث كونها طعاما للحيوانات وقيمتها الغذائية وطرق الطهي والطعم (المرارة التي يسببها وجود حمض التنيك). ويأتي ما ذكره جالينوس متفقا أيضا مع النتائج التي توصلت إليها عن نسبة عادة أكل ثمار البلوط إلى البدائيين وإلى سكان القرى المجاورة (ولكن ليس إلى المجتمع الذي ينتمي إليه الشاهد نفسه). والمصداقية مهمة؛ نظرا لأنه قد يشتبه في أن جالينوس كان يكن رأيا متعاليا وغير ودي عن الريفيين، وأن رأيه ليس له أدنى علاقة بحياتهم اليومية على المدى الطويل؛ وهذه هي الحال قطعا فيما يتعلق بمعظم النصوص القديمة، التقنية منها والأدبية.
يتبع جالينوس التقاليد الطبية، ويضع القمح والشعير في صدارة قائمة المواد المغذية للإنسان. وكان الطب - بصفته جزءا من العالم المتحضر - يتقبل تفوق الحبوب كطعام للسكان على الأشجار التي تطرح ثمار البلوط أو الكستناء، وكان الأطباء يرون أن تلك الأطعمة لم تكن أغذية أساسية إلا في مناطق معينة، وفي أزمنة نقص الطعام. ويؤدي تناول الأغذية الأساسية بالطبع إلى مناقشة كل فئات السكان، وليس فقط الطبقات الراقية الثرية ممن كانوا يحظون بغذاء يحتوي على نسبة بروتينات مرتفعة. إن شهادة جالينوس - نظرا لقيمتها (وأعتقد أن قيمتها كبيرة) - تولي اهتماما كبيرا للسواد الأعظم من السكان؛ فهو يشهد مثلا على انتقال ثمار البلوط من فئة الاستخدام المعتاد (كطعام للحيوانات) إلى فئة الاستخدام الطارئ (كطعام للبشر) في حالة الاضطرار، وذلك عند حدوث مجاعة. كانت الخنازير تؤكل منذ القدم (كما يأتي في الفصل الخامس)، وكانت ثمار البلوط تؤكل «بدلا من الحبوب طوال الشتاء وحتى أوائل الربيع». وسنرى حالات أخرى يذكرها جالينوس عن تضرر غذاء الريفيين الأساسي المكون من الحبوب، خصوصا إبان فصل الربيع في بلدان البحر المتوسط؛ ومن ثم، كان الريفيون كثيرا ما يضطرون للجوء إلى الأطعمة التي تندرج في فئة الخيارات الأدنى؛ وهذه هي الأطعمة التي كانت مقبولة فيما مضى، ولكن لم تعد مقبولة في الوقت الحاضر، والأطعمة التي كانت عادة ما تستعمل كطعام للحيوانات. يعبر السلم الهرمي للأطعمة عن المكانة الاجتماعية، فالقمح يستهلك في المدن، ثم يتراجع النمط الاستهلاكي للسكان بتناول الشعير والدخن في حالة الاضطرار. ولكن قد تلجأ سلطات المدينة إلى استيراد القمح من الخارج قبل الوصول إلى تلك المرحلة. وثمار البلوط مثال مفرط من حيث التنظيم «الاجتماعي» للنظام الغذائي البشري؛ يقول جالينوس (وتؤيده في ذلك مايسون 1995، بالمصادفة) إن ثمار البلوط تتفوق «من الناحية الغذائية» على كل الأطعمة الأخرى (بما فيها الأطعمة التي يأكلها هؤلاء الريفيون عادة، مثل شجرة الفراولة أو الفريز)، فيما عدا ثمار الكستناء. (يمكننا أن نقارن ذلك ببحث جالينوس المعنون ب «عن النظام الغذائي المستخدم في تخفيف الأخلاط»، ويأتي فيه أن الأطعمة البرية والجبلية تفضل - من الناحية الطبية - على الأطعمة الدسمة التي تأتي من الحقول الزراعية .) وبخصوص انتقال الطاقة، فالأنفع للبشر أن يأكلوا النباتات بدلا من أن يطعموا النباتات للحيوانات ثم يأكلوا الحيوانات بعد ذلك؛ وهذه كلها من العوامل التي اعتمد عليها الريفيون في البقاء على قيد الحياة. واضطر الريفيون القدماء لاتباع هذا السلم الهرمي من الأطعمة لمرات أكثر مما كانوا يرغبون؛ ويكاد يكون من المؤكد أن كمية اللحوم والأسماك التي كانوا يأكلونها كانت أقل مما كانوا يرغبون (نظرا لأنها من الأطعمة المرتبطة بعلو الشأن والمكانة الاجتماعية الرفيعة). ولكن هذه الخيارات لم تكن دائما - أو بالضرورة - مضرة بالصحة.
يصف كامبوريزي (1993: 98) عادة مشابهة في نجاد إيطاليا؛ إذ يصف استخدام ثمار الكستناء البرية والمزروعة واستهلاك ثمار الكستناء التي تؤكل طازجة أو مشوية أو مسلوقة، وتطهى في الرماد أو في الفرن، وذلك بناء على مصدر من القرن الثامن عشر. وكان من الممكن أيضا تجفيف ثمار الكستناء وطحنها لتتحول إلى دقيق ثم صناعة كعكات منها. ويزعم المصدر الذي اعتمد عليه كامبوريزي - وهو سافيريو مانيتي من منطقة توسكانيا - أن أشد الريفيين فقرا في مناطق بيستويا وفي مقاطعة كاسنتينو يأكلون منتجات الكستناء فقط باعتبارها غذاءهم الأساسي. وكانت مناطق النجاد في فرنسا أيضا تشهد اعتمادا مشابها على ثمار الكستناء - مثل منطقة ليموزان - حتى وقت قريب.
يذكر جالينوس المجاعة بصفتها حافزا يفرض أكل ثمار البلوط، أما مانيتي فيذكر أن أكل ثمار الكستناء (وهي من المكسرات الرديئة في رأي جالينوس) كان عادة منتشرة بين الريفيين الفقراء. توضح هذه القيود الغذائية الفجوة الواسعة بين أطعمة الطبقات الراقية الغنية في المدن - ممن كان بوسعهم اختيار نوع الخبز المصنوع من القمح الذي يفضلونه - وبين الغذاء المضر الذي اعتمد عليه سكان الريف الفقراء. وكان سكان الريف حتما أشد تأثرا بالعوامل الموسمية مقارنة بسكان المدن. يتحدث جالينوس أكثر من مرة عن أزمات نقص الطعام التي تفشت بين سكان الريف الآسيويين في الأشهر العجاف إبان فصل الربيع في بلدان البحر المتوسط (راجع الفصل الثاني). وقدم كامبوريزي تقييما مروعا أيضا عن غذاء العمال الزراعيين في منطقة فيرارا (1993: 81): «لم يكن الطعام يتسم يوميا بأي قدر من التنوع تقريبا؛ فلم يكن الطعام رديئا فقط، بل كان يسبب الضعف والكآبة، وكان يتكرر برتابة شهرا بعد شهر. وكان عدم وجود الخبز تعوضه على استحياء البولنتا الأرخص ثمنا؛ وكان الخبز يعود للظهور في الصيف حين كانت الطاقة الإضافية التي تتطلبها أعمال الحقل الشاقة تحتم تناول الخبز لقيمته الغنية بالسعرات الحرارية. وفي ذلك الموسم، كان غذاء الريفيين يتحسن ويظهر الخبز وحساء المينسترا على المائدة، مع أن حساء المينسترا كان يتكون من نفس مزيج المكرونة والفول وشيء من التوابل. وكانت الأطعمة، مثل التونة المحفوظة في الزيت، والجبن، والبطيخ الذي يؤكل مع الخبز، تحل جزئيا محل الماء العكر المتاح في النجاد، وتحل محل النبيذ الذي لم يكن متوافرا غالبا. وحتى في غياب الدليل المستند إلى الموائد العامرة بالأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية، من الواضح أن هذا النظام الغذائي كان يفتقر إلى التوزان الغذائي لا سيما شتاء ... وكان الشتاء فصلا طويلا يكثر فيه الجوع والفقر وأعباء الديون، وكان الريفيون والعمال بنظام الأجر اليومي من الفقراء يصبحون في نهايته منهكين وفي حالة نفسية وبدنية مريعة.»
وهذه النتيجة المتشائمة التي توصل إليها مؤلف يشيد بالأنماط القديمة لتحضير الطعام، مفضلا إياها على الإنتاج الكبير والضخم الذي يميز إيطاليا الحديثة؛ تشبه ما قالته باحثة أخرى متحمسة أيضا للعادات القديمة للمطبخ البحر متوسطي. تصف بايشنس جراي الشتاء على جزيرة إغريقية فتقول (1986: 189): «في جزيرة ناكسوس، كان السكان يعتمدون على نظام غذائي محدود إبان الشتاء، فتعرض الجميع لآلام فظيعة في الكبد، ولم يكن سببها فقط رتابة النظام الغذائي، بل أيضا الماء المتعكر والرياح الشمالية الرهيبة.» ويقدم جالينوس مثالا للضرر الذي لحق بصحة النساء بسبب أكل النباتات البرية في الربيع (استشهدنا به في الفصل الثاني).
Unknown page