Tacam Fi Calam Qadim
الطعام في العالم القديم
Genres
شكل 3-2: يظهر على إفريز معبد بارثينون عدد من الماشية يسير نحو المذبح، ويبدو بعضه حرونا. وتصور الماشية على هذا الأثر الإمبراطوري العظيم لإظهار تقوى أهالي أثينا وقدرتهم على تقديم قرابين مرتفعة الثمن إلى إلهة المدينة. وكان اللحم يوزع على جميع المواطنين المشاركين بعد تقديم الحيوانات كقرابين إلى الإلهة أثينا. (حقوق الطبع والنشر محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.)
كان عيد ديونيسيا يعبر أيضا عن البنية الديمقراطية للمدينة، وقد نقل تمثال ديونيسوس من الحدود الشمالية لإقليم أتيكا إلى قلب المدينة، في السوق؛ ومن هناك، انتقل إلى معبد ديونيسوس الذي يقع جنوبي قلعة أكروبوليس. وهنا - وذلك بحسب ما قاله أريستوفان على الأقل (في مسرحية «الضفادع» 16-18) - كان الإله يشاهد المسرحيات التراجيدية والكوميدية في المسرح. وأعلق في الفصل التاسع على طقوس تقديم القرابين وتوظيف الاحتفالات التي كان يشهدها الإله وبقية المشاهدين في سياق المسرحيات نفسها. وفي المدينة، كانت تقام طقوس جماعية لتقديم القرابين، ويخبرنا ديموسثينيس أن الشوارع كانت تعبق بدخان القرابين (خطبة «ضد ميدياس» 51-54). تشير النقوش، التي تسجل عمليات بيع جلود الماشية في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى تقديم ما بين 106 و274 رأسا من الماشية كقرابين في عام 333 (مشروع النقوش الإغريقية (2، 1496، 80)، سابو وسلاتر 1994: 113، روزيفاش 1994). وهذه من طقوس تقديم القرابين الكبرى في منطقة ليس بوسعها تربية الماشية بسهولة. ومن الممكن أن نضاهي ذلك بحدث تقديم القرابين المكون من مائة رأس من الماشية في أوليمبيا - وهو تجمع عالمي من كل الولايات الإغريقية - للحكم على ما كانت تحاول أن تفعله مدينة أثينا. وبينما كانت المدينة تقدم هذه الماشية إلى ديونيسوس، كان المواطنون يتأملون ثقافة عادات تناول الطعام والشراب لديهم أثناء عرضها أمامهم على المسرح. وأكدت المدينة أيضا على قوتها بحرصها على أن تعرض أمام جميع الحاضرين في المسرح الكنز الذي قدمه حلفاء الإمبراطورية واليتامى من أبناء جنود أثينا الذين قتلوا في المعارك. وكان هذا العيد يتيح للمدينة فرصة استعراض قوتها العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى الطقوس الدرامية والدينية التي تصور مكانتها بين غيرها.
كان العيد الأساسي في إسبرطة وغيرها من المدن الإغريقية القديمة هو عيد كارنيا (بيركرت 1985: 234-236). وكما هي الحال في عيد ثيسموفوريا، كانت الأنشطة الرسمية العادية (بما في ذلك العمليات العسكرية) تتوقف أثناء هذا العيد. يخبرنا ديميتريوس من سكبسيس (في «نظام معركة طروادة»، الجزء الأول، الذي يستشهد به أثينايوس) أن تسع جماعات تناولت مأدبة مكونة من لحوم القرابين في تسعة أبنية تشبه الخيام تسمى «سقائف»، وذلك «على غرار أسلوب حياتهم العسكري». وكانت هذه المأدبة الشعائرية تمثل البنية العسكرية، وكانت مصحوبة برقصات يشارك فيها الفتيان والفتيات، وسباق ركض مميز يشارك فيه الراكضون بعناقيد العنب أو من يطلق عليهم باليونانية «ستافيلودروموي». وفسر بعض الباحثين (كما أشار بيركرت) هذا السباق بأنه تصوير شعائري لمطاردة ضحية (سواء أكانت حيوانا أم إلها) في طقوس حصاد معينة.
وكانت تقام أعياد للنساء على وجه الخصوص، وهذه الأعياد تخدم أغراض هذه الدراسة للغاية؛ لأنها تظهر النساء وهن يتجمعن في جماعات لتناول الطعام وأداء غير ذلك من الأنشطة بعيدا عن وحدة الأسرة التي كثيرا ما ينحصرن فيها، حسبما تروي الروايات القديمة. وثمة ثلاثة أعياد جديرة بالذكر في هذا الصدد، وهي «ثيسموفوريا» وكان يحتفل به منذ تاريخ قديم في عدد من المدن الإغريقية، و«أدونيا» وهو عيد وفد إلى اليونان من الشرق الأدنى، وأجريونيا وهو عيد من الأعياد التي تحتفل بديونيسوس. وكان العيد الأول يقام تكريما للإلهتين ديميتر وبيرسيفوني، وكان يحمي خصوبة النساء وكذلك خصوبة محاصيل الحبوب، وكان يجمع بين عناصر الخصوبة والجدب، وبين تناول الطعام والصيام بطرق مدهشة تصور تلك العناصر المركبة التي كثيرا ما تظهر في الأعياد الإغريقية والرومانية. كانت النساء يغادرن منازلهن ويقتسمن الخيام بعضهن مع بعض على تل بنيكس (في حال وجودهن في مدينة أثينا)، وهو التل الذي كان ينعقد فيه بطبيعة الحال مجلس المواطنين الذي يقتصر على الرجال، ولكن كان يوقف نشاطه أثناء العيد.
في اليوم الأول من العيد، كانت النساء - فيما يبدو - يتجهن إلى إحدى الحفر، ويجمعن منها البقايا المتعفنة لخنازير سبق إلقاؤها هناك في عيد سابق، وكانت هذه البقايا ترتبط بالأرض، وحسبما يذكر في أحد المصادر كانت تنثر فوق الحقول كسماد لمحاصيل الحبوب. وكانت النساء يصنعن كذلك نماذج من العجين على هيئة ثعابين وأعضاء ذكرية. وفي اليوم الثاني، كانت النساء يجلسن على أغصان شجرة كف مريم وهن صائمات، وكانت هاتان العادتان من صور وسائل منع الحمل الطبيعية. وفي اليوم الثالث، كانت هذه الجوانب السلبية تتحول إلى احتفالات إيجابية ينصب فيها الاهتمام على الخنازير المشوية. يعلق بيركرت (1985: 242-246) باستفاضة على عيد ثيسموفوريا وعلاقته بأسطورة ديميتر وبيرسيفوني، التي يرد أشهر سرد لها في قصيدة هوميروس «ترنيمة إلى ديميتر». وترتبط الخنازير على وجه التحديد بإلهتي الخصوبة هاتين في شعائر وطقوس أخرى أيضا (فضلا عن كونها أكثر الحيوانات التي تقدم كقرابين).
ولشعائر عيد ثيسموفوريا عدة عناصر مفيدة؛ أولا: هذا النمط القائم على الصيام في أحد الأعياد، الذي يعقبه تناول الأطعمة الفاخرة، يتكرر في هياكينثيا في إسبرطة، وفيه يأتي تكريم ذكرى موت البطل في البداية بالامتناع عن أكل الخبز أو الكعكات، وعدم ارتداء الأكاليل، والامتناع عن إنشاد الأغاني. وفي اليوم الأخير، يقدمون الكثير من الحيوانات كقرابين، ويقيمون المآدب في منازلهم لمعارفهم وعبيدهم (بوليكراتيس «عن إسبرطة»، الذي استشهد به أثينايوس). وثانيا: إن الصيام في عيد ثيسموفوريا من العادات الإغريقية الرومانية المتبعة، وكان صياما عن تناول أطعمة معينة ويستمر لفترة محددة. وقد ربط عدة معلقين بين الصيام واليهود؛ مما يطرح نقطة لافتة؛ كان اليهود يصومون حقا، وكان صيامهم يتسم بنمط مميز ومنظم، فلم يكن يعرض حياتهم للخطر، على عكس الصيام المفرط الذي كان يتبعه بعض الزاهدين من المسيحيين الأوائل (جريم 1996). ثالثا: طقوس تقديم القرابين التي تقتصر على النساء موجودة في أماكن أخرى؛ إذ ترد - مثلا - في قصة عن تيجيا يرويها باوسانياس: «كانت النساء يقدمن بأنفسهن قربانا احتفالا بالنصر، دون معاونة الرجال، ولم يكن يقتسمن أي كمية من لحم القربان مع الرجال.» رابعا: يقدم ديتيان (1994 (1977)) تفسيرا لافتا لعيد ثيسموفوريا؛ إذ يقارن هذا العيد المتعلق بالحمل والإنجاب (والعناصر المرتبطة به مثل الخنازير المتعفنة والعناصر الرطبة المأخوذة من الأرض) بعيد أدونيا، وهو عيد للمحظيات والعشاق تكريما لأدونيس رفيق أفروديت. وكانوا يحتفلون بعيد أدونيا في المنازل؛ إذ كانوا يستحضرون الحياة الجميلة - والقصيرة على الرغم من ذلك - التي عاشها أدونيس في الأسطورة، وذلك بممارسة شعيرة «حدائق أدونيس». كانت توضع الأصص فوق أسطح المنازل، وكانت تحتوي على نباتات وأعشاب وتوابل «نشطة» من شأنها أن تنبت بسرعة، لكنها تعيش لمدة قصيرة ثم تموت بفعل الحرارة مثل الإله أدونيس الطيب الذكر الذي لم يعش سوى فترة قصيرة حسبما تروي الأسطورة. وتأتي هذه النباتات على النقيض من الحبوب التي توضع في الأرض وتنمو ببطء على مدى فترة زمنية طويلة. ويساعد هذا التناقض اللافت على تناول العلاقة بين كل من النساء والإنجاب والحيز الاجتماعي والنباتات في الثقافة الإغريقية من منظور مفاهيمي واضح للغاية؛ مما يعد انتصارا للفكر البنيوي. (ثمة بضع حالات مناقضة لذلك؛ إذ تحضر على سبيل المثال إحدى المواطنات الشابات عيد أدونيا - وذلك في مسرحية «فتاة ساموس» من تأليف ميناندر - وتصبح حاملا.) ويوضح ديتيان كيف كان الناس يحتفلون بالنباتات الأدنى شأنا (من اللحم والحبوب والنبيذ) في الأساطير والديانة الإغريقية، ويتحدث في فصول أخرى عن صمغ المر والتوابل والخس.
يصف بلوتارخ العيد النسائي أجريونيا؛ إذ كان يحتفل به المواطنون في مدينته خايرونيا في مقاطعة بيوتيا («حديث المائدة» 8) كالآتي: «تبحث النساء عن ديونيسوس وكأنه هرب منهن، ثم يكففن عن ذلك ويقلن إنه لاذ بربات الإلهام واختبأ عندهن، ثم بعد برهة، حين يفرغن من تناول طعامهن، يختبر بعضهن بعضا بالأحاجي والألغاز.» ويشرح بلوتارخ هذه الشعيرة كما يأتي: «حين نحتسي الشراب لا بد أن نتبادل حديثا يتخلله التأمل وشيء من التثقيف، ونلاحظ أنه حين يتخلل احتساء الخمر حديث من هذا النوع، فإن العنصر الجامح والجنوني يتوارى؛ إذ تكبح جماحه ربات الإلهام والفن بعطفهن وحبهن للخير» (ترجمه إلى الإنجليزية: مينار وساندباك وهيلمبولد). ويشمل عيد أجريونيا ثلاث سمات مترابطة ومهمة لهذا الكتاب؛ أولا: هذه الشعيرة واحدة من بين عدد من الشعائر التي يشهدها عيد ديونيسيا، ففي هذا العيد يخرج إله الخصوبة العربيد النساء من منازلهن التي يحصرهن المجتمع فيها لغرض الإنجاب وإعداد الطعام وحياكة الملابس. ويدفع بهن إلى التلال حيث يأمر عالم الطبيعة (حسبما جاء في روايات أخرى) بإنتاج الحليب والعسل فيما يشبه المعجزة بدلا من المحاصيل الزراعية الأساسية. ثانيا: تحتفل نساء بيوتيا بإقامة مأدبة بعد انتهاء مطاردتهن للإله؛ وهذا دليل على مشاركة النساء في المآدب، يمكن إضافته إلى الدليل الوارد في الفصل الثاني. ثالثا: يفسر بلوتارخ تلك الشعيرة بأنها تشبيه للسلوك المتبع في جلسة الشراب. ومن الممكن أن نضيف أننا نجد هنا أيضا دليلا على ممارسة النساء لألعاب كان يعتقد أنها ألعاب مصاحبة لجلسات الشراب. وقد يجعلنا مؤلفون مثل أثينايوس نظن أن من كن يلعبن تلك الألعاب المصاحبة لجلسات الشراب هن المحظيات فقط. ولم تكن هذه الألعاب فقط ألعابا مصاحبة لجلسات الشراب، بل كانت جزءا من أي عيد، وتأتي كمثال على الجمع بين طقوس الاحتفال الديني وما قد نراه من المنظور الحديث كمناسبة دنيوية لتناول الطعام والشراب.
ونرى أيضا هذا الجمع بين ما هو ديني وما هو دنيوي في تناول الطعام الفاخر في عيد ديونيسيا الريفي في أتيكا، وهو عيد يحتفل به الناس في المنزل وفي الأماكن العامة أيضا (راجع ما ذكر سابقا في هذا الفصل). ومن الممكن أن نذكر أيضا أن أحاديث بلوتارخ عقب العشاء التي سجلها في كتابه «حديث المائدة» (ويقترب عددها الإجمالي من المائة) تتزامن أحيانا مع الأعياد، وتتزامن أحيانا أخرى مع مناسبات مميزة مثل وصول صديق أو عودة بلوتارخ نفسه إلى منزله، وأحيانا من دون تحديد. ويدور أحد الأحاديث في كورنث أثناء ألعاب مضيق كورنث، ويدور حديث آخر أثناء عيد أنثيستيريا الذي يحتفل بافتتاح الموسم الجديد لقطاف العنب (3، 7). ولا يفرق بين الأطعمة التي تؤكل في الأعياد والأطعمة التي تؤكل فيما عدا هذا من أيام إلا ربط الحديث بعنصر من عناصر العيد.
وكان الدين يعزز هياكل السلطة التي تقوم عليها المدن القديمة من نواح عدة، ويتضح ذلك في هذه الأعياد وغيرها من الشعائر. وكانت هذه الهياكل تتخذ صورا شتى. كان البشر خاضعين لسلطان الآلهة، ولكنهم كانوا يفهمون ذلك السلطان فهما قاصرا؛ إذ كانت الآلهة تقدم وسائل البقاء، ولكنها كانت تنتظر التكريم في المقابل؛ ومن ثم، ظهر نظام معقد لتقديم القرابين، كان البشر في ظله يقدمون باكورة الحصاد والحيوانات وغيرها من القرابين إلى الآلهة. جرت العادة على أن تقديم حياة حيوان هو أغلى قربان يمكن تقديمه؛ ففي إطار المجتمع البشري، كانت المدن تنظم مناسبات تقديم القرابين والشعائر المعقدة التي تقام في الأعياد بهدف المحافظة على نظمها الاجتماعية والسياسية؛ فكان بوسع الأفراد تقديم القرابين نيابة عن أنفسهم أو عن أسرهم، وكان بوسع الجماعات من الناس التجمع لتكريم إله أو بطل محلي، وكان يجوز أن تتولى مدينة بأكملها تقديم قربان، أو أن تتولى ذلك مجموعة من المدن، بل يجوز للبلدان الإغريقية بأكملها المشاركة في عيد ديني عالمي مثل الأسرار الشعائرية في إلفسينا أو الألعاب الأولمبية.
وكانت الأعياد ومناسبات تقديم القرابين في المدن ذات الحكم الذاتي تعبر عن هياكلها السياسية بدقة. إبان الحكم الديمقراطي لمدينة أثينا، يخبرنا مصدر معارض - وهو كاتب كان يظن أنه زينوفون أو «نصير حكم الأقلية المتقدم في السن» الذي كان يمارس الكتابة في أواخر القرن الخامس - أن أهالي المدينة نظموا الأعياد ومناسبات تقديم القرابين بحيث يتمكن الناس العاديون من الاستمتاع بها بسهولة مثل الطبقة الغنية تماما. ويكتب (2، 9):
Unknown page