تمهيد
المخطط الزمني
مقدمة الفصل الأول
1 - لمحة عامة عن الطعام في العصور القديمة
مقدمة الفصل الثاني
2 - الإطار الاجتماعي لعادات تناول الطعام
مقدمة الفصل الثالث
3 - الطعام والدين في العصور القديمة
مقدمة الفصل الرابع
4 - الأطعمة الأساسية: الحبوب والبقوليات
مقدمة الفصل الخامس
5 - اللحوم والأسماك
مقدمة الفصل السادس
6 - النبيذ وعادات شرب الخمر
مقدمة الفصل السابع
7 - الطعام في الفكر القديم
مقدمة الفصل الثامن
8 - الآراء الطبية المتعلقة بالطعام
مقدمة الفصل التاسع
9 - الطعام في الأدب
بعض وصفات الطعام
مراجع
مصادر الصور
تمهيد
المخطط الزمني
مقدمة الفصل الأول
1 - لمحة عامة عن الطعام في العصور القديمة
مقدمة الفصل الثاني
2 - الإطار الاجتماعي لعادات تناول الطعام
مقدمة الفصل الثالث
3 - الطعام والدين في العصور القديمة
مقدمة الفصل الرابع
4 - الأطعمة الأساسية: الحبوب والبقوليات
مقدمة الفصل الخامس
5 - اللحوم والأسماك
مقدمة الفصل السادس
6 - النبيذ وعادات شرب الخمر
مقدمة الفصل السابع
7 - الطعام في الفكر القديم
مقدمة الفصل الثامن
8 - الآراء الطبية المتعلقة بالطعام
مقدمة الفصل التاسع
9 - الطعام في الأدب
بعض وصفات الطعام
مراجع
مصادر الصور
الطعام في العالم القديم
الطعام في العالم القديم
تأليف
جون إم ويلكنز وشون هيل
ترجمة
إيمان جمال الدين الفرماوي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
تمهيد
ورث العالم الحديث الكثير من صور الطعام وأنماط تناول الطعام التي كانت سائدة في العصور القديمة، وربما يكون من بينها حفلات العربدة التي كان يقيمها الأباطرة الرومان، والنباتات التي كانت تنتشر في أنحاء الإمبراطورية، وكتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس، واستخدام الأطعمة في النصوص الكوميدية والساخرة. ومن نواح أخرى، فإن الطعام الذي كان الإغريق والرومان يتناولونه في الأحوال العادية غير معروف لنا غالبا. سيحاول هذا الكتاب إحياء الطعام نفسه، وأيضا الأجواء والأماكن التي كان الناس يتناولونه فيها؛ على سبيل المثال: غرف الطعام التي كانت مشيدة بجوار المعابد الإغريقية، والهياكل التي كانت تذبح فيها الحيوانات.
يستعرض الكتاب النظام الغذائي لملايين الإغريق والرومان ممن لم يكونوا من الصفوة الرومانية المدللة التي تحدث عنها المؤرخ الروماني سيوتونيوس في كتبه. ويتضح من المقارنات وجود درجة مدهشة من التشابه بين العادات الإغريقية والرومانية .
علاوة على ذلك، تتناول هذه الدراسة أيضا أنواعا معينة من الأطعمة؛ ومن أمثلة ذلك اللحم، وهو الطعام الذي يحظى بالمنزلة العليا. فاللحم من المنتجات الطبيعية، وتربية الحيوانات للحصول على لحومها من الأنماط غير الناجحة نسبيا في تربية الحيوانات؛ لأن الطاقة النباتية الموجودة في العلف (مثل الشعير) لا تنتقل إلى من يأكلها من البشر إلا على نحو جزئي فقط؛ ولذلك، كان الكثير من الناس يرون أن الحيوانات من دلائل الثراء، وكان المواطنون الأغنياء - فضلا عن الآلهة - يتوقعون الاستفادة من لحوم الحيوانات. وكان الإغريق يتعجبون من الفرس الأثرياء الذين كانوا يطهون الحيوانات الكبيرة الحجم - مثل الجمال والثيران - بأكملها دون تقطيعها. وكان الأبطال الذين ورد ذكرهم في الأعمال الأدبية لهوميروس يستمتعون بأكل لحم البقر. وكانت طقوس تقديم القرابين الواسعة النطاق من سمات الحياة في المدن القديمة ذات الحكم الذاتي، ووصولا إلى شعائر الحج في مكة. ينعكس الدور المهم للحيوانات في الأساطير والدين؛ إذ إنها تسهم في تعزيز شعور بالهوية والانتماء لجماعة ما. ومن الممكن أن نقارن بين بعض الشعوب الأصلية في أمريكا ممن كانوا يؤمنون بأن الآلهة هي التي تطعم قطيع الجاموس؛ فمكان الجاموس هو السهول وليس الحظائر - الغارقة في الفضلات - التي أدخلها المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا. كانت البنية الاجتماعية للعالم القديم بنية أبوية؛ ولهذا السبب كان الرجال يتناولون على الأرجح كمية لحم أكبر مما تتناولها النساء، وهو وضع يتشابه إلى حد ما مع اليهودية والمسيحية والإسلام.
كانت الحضارة ترتبط لدى الإغريق والرومان - شأنهم شأن علماء الأنثروبولوجيا في العصر الحديث - بالزراعة والتكنولوجيا. فضلا عن اللحم، قدم مجال الزراعة وتربية الحيوانات نشاط زراعة الحبوب، وغالبا ما يقال لنا إن الإغريق كانوا يأكلون «مازا» أو عصيدة الشعير بدلا من الخبز. ربما تبدو العصيدة غذاء أساسيا غير محبب، لكن هذا الكتاب سيحاول وضع تصورات لأصناف الطعام التي يمكن إعدادها بمنتجات الحبوب؛ فلنتأمل تنوع استخدامات الأرز (في الأصناف الحلوة والمالحة)، والقمح (في الخبز والبرغل والمكرونة)، والذرة في العالم الحديث. والحبوب هي بذور صلبة يجب نزع قشرتها عادة قبل دخولها إلى الجهاز الهضمي للإنسان، وذلك النوع من التحضير وطحن الحبوب عملية صعبة ويستغرق وقتا طويلا. في العصور القديمة، كانت النساء يقمن بهذا العمل على الأرجح أكثر من الرجال - وذلك نظرا للطابع الأبوي للبنية الاجتماعية - إلا إذا كان في وسع الأسرة تحمل تكلفة إعالة عبيد أو شراء منتجات خبز جاهزة.
بدأ دخول الحبوب والكثير من الحيوانات والنباتات التي يأكلها البشر تدريجيا إلى البلاد المطلة على البحر المتوسط على مدى ألف عام، إن لم تكن متوافرة أصلا في المنطقة. وصل القمح والشعير في فترة مبكرة، ووصل الدجاج قبل القرن الخامس قبل الميلاد، ثم وصل الخوخ والمشمش في فترة متأخرة عن ذلك، ووصل الأرز في فترة التأثر بالحضارة العربية (بعد عام 700 ميلاديا)، أما الذرة فقد وصلت بعد كولومبس. وفي العالم القديم، كان لأنواع الطعام الوافدة حديثا تأثير مستمر.
كان للإغريق والرومان اتصال كبير مع الشعوب الآسيوية والأفريقية في كل الفترات، وأخذوا الكثير عن جيرانهم الشرقيين على وجه التحديد. وتزامن شعور بالقلق مع دخول أصناف الطعام الحديثة هذه نقلا عن الفرس والمصريين، على سبيل المثال. ويذكر بلوتارخ هذا الموضوع في كتابه «حياة الإسكندر الأكبر»؛ إذ ذكر بلوتارخ أن ذلك الملك المحارب المقدوني الشاب - الذي أدت فتوحاته التي وصلت حتى الهند إلى زيادة الاتصال ببلاد كانت تنتج حيوانات ونباتات وتوابل غير معروفة - كان لديه تحفظات بشأن «وسائل الترف»؛ وهذا موضوع معقد، كما سنناقشه لاحقا. يخبرنا بلوتارخ (22) أن الإسكندر الأكبر كان معتدلا في تناول الطعام، وكان يتجنب إلحاح أمه عليه لتناول المزيد من الكعكات والاستمتاع بالطعام الذي يحضره الخبازون والطهاة. وكان الإسكندر يصرح بأن أفضل الطهاة هو تمشية مسائية وفطور خفيف. وكان اعتدال شهية الإسكندر يتناسب مع الصورة الإيجابية لفاتح العالم التي كان بلوتارخ يحاول جاهدا أن يرسمها، نقلا عن تراث تاريخي يزخر بقصص تتحدث عن إفراط الإسكندر في احتساء الخمر وانغماسه في المتع الجسدية. ولا بد من تقديم نبذة عن الكعكات والطهاة وضبط الشهية.
إن الكعكات في العالم القديم ربما تأتي في صورة قرابين صغيرة مكونة من الدقيق والعسل وتقدم للآلهة، أو منتجات بسيطة كان ينصح بها السياسي الروماني المناصر للتقشف كاتو الأكبر، أو أهم جزء من الوجبة، وذلك بحسب وجهة نظر وردت عن الفرس في كتاب هيرودوت (1، 133). وكان للكعكات أشكال شتى ومجموعة متنوعة من الدلالات الثقافية، كما هي الحال في العالم الحديث. (قارن - على سبيل المثال - بين كعكة العلف الحيواني، وكعكة أعياد الميلاد ومحتويات فطيرة محلاة ومحشوة على الطريقة الفرنسية.) غالبا ما كان الخبازون والطهاة في المطابخ القديمة من العمالة المتواضعة الحال، ولكن كان يرتبط وجودهم بطقوس تناول الطعام ذات المستوى الراقي. ويربط ليفي بينهم وبين وسائل الترف الجديدة التي طرأت على روما في القرن الثاني قبل الميلاد، بينما يربط أفلاطون بينهم وبين وسائل الترف المجلوبة التي دخلت أثينا في القرن الرابع. كان القادة العسكريون يستعينون بالطهاة أيضا عند خروجهم في حملات، وخصوصا الفرس في عام 480 قبل الميلاد (هيرودوت 9، 82)؛ فكان هؤلاء الحرفيون المهرة المتخصصون في شئون الطهي والمطبخ موظفين يعملون في أماكن حارة تتصاعد فيها الأبخرة والدخان، وكانوا في الوقت نفسه متعهدي تقديم الطعام المترف.
وكثيرا ما نجد المصادر القديمة تغلب عليها مناقشة مخاطر الترف التي تتضاعف في جموح انطلاقا من الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل المسكن والملبس والطعام. لطالما كان أفلاطون أحد عوامل التأثير القوية للغاية في هذا الجانب من الفكر الغربي، ومن الآثار التي تركها وأثرت في الفلسفة لاحقا وفي المسيحية نظرته للفرد، التي هي أقرب إلى الازدواجية منها إلى الشمولية؛ فمن وجهة نظر المؤمن بمذهب الازدواجية، يجب إحكام السيطرة على الجسد حتى يتسنى للعقل والروح التركيز على الشئون الأكثر أهمية بدلا من التركيز على النشوة العابرة التي تأتي بالطعام والمتعة الجنسية. وأقر أفلاطون نفسه بدور الطعام والخمر في العادات الاجتماعية والدينية، كما يشهد بذلك كتاباه «حوار المأدبة» و«القوانين». وفي كتاب «طيمايوس» قدم نموذجا للجسد وللعالم، وأصبح الكتاب من الأعمال المهمة التي تأثر بها علماء الطب الذين جاءوا لاحقا مثل جالينوس.
للطب دور مهم في هذا الكتاب؛ إذ يحتوي على نظريات قديمة عن التغذية ونظريات عن أثر الطب في الثقافة. يعزز الفكر الطبي الرأي القائل بأن الطعام كانت له أهمية ثقافية لدى القدماء تضاهي دوره في الثقافة الصينية؛ وهذا الرأي الشامل يختلف عن الآراء المتعلقة بأهمية الطعام من منظور فن تذوق الطعام و«أسلوب الطهي المميز في بلد ما»، مثل أسلوب الطهي الفرنسي الذي ظهر على مدى القرنين الماضيين. في دراستنا هذه عن الطعام في الثقافتين الإغريقية والرومانية نعتمد على كتابات جالينوس وبلينوس وأثينايوس، وهم من المؤلفين القدماء البارزين، ومن الممكن أن نطلق على كل منهم لقب مؤلف «موسوعي» من حيث المجال والمنهج. رجعنا مرارا إلى نوع من الموسوعات الحديثة المختلفة بعض الشيء، وهي بالتحديد موسوعة «عن الطعام والطهي» من تأليف هارولد ماكجي، و«لاروس جاسترونوميك»، و«دليل أكسفورد للطعام».
المخطط الزمني
الفترات
العصر البرونزي
3500-1100
العصر العتيق
600-480
العصر الكلاسيكي
480-323
العصر الهلنستي
323-31 قبل الميلاد
الإمبراطورية الرومانية
27 قبل الميلاد-330 ميلاديا
التواريخ
قبل الميلاد
753
التاريخ التقريبي لتأسيس روما
750-700
التاريخ التقريبي للمراحل النهائية من تأليف قصائد هوميروس
أواخر القرن السابع
آشور بانيبال ملكا للآشوريين
550
الملك كورش الأكبر يهزم الميديين ويرسخ القوة الفارسية
490-480
الفتوحات الفارسية لليونان، معارك ماراثون وثيرموبيلاي وسالاميس
454-404
إمبراطورية أثينا (429)-347
فترة حياة أفلاطون
384-322
فترة حياة أرسطو
336
الإسكندر الأكبر يصبح ملكا لمقدونيا
334-323
حملة الإسكندر الأكبر على بلاد فارس
167
الرومان يهزمون مقدونيا
146
الرومان يدمرون كورنث وقرطاج
133
مدينة بيرجاموم تئول إلى الرومان
31
أوكتافيان يهزم مارك أنطونيو والقوات المصرية
27
أوكتافيان يلقب باسم أغسطس (أول إمبراطور روماني)
ميلاديا
23-79
فترة حياة بلينوس الأكبر (50)-(120)
فترة حياة بلوتارخ
129-(216)
فترة حياة جالينوس
80-161
ماركوس أوريليوس إمبراطورا (200)
أثينايوس يؤلف كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» (ملحوظة: الأرقام الموضوعة بين قوسين تعني أن رقم العام تقريبي ليس أكيدا.)
خريطة 1: خريطة البحر المتوسط.
مقدمة الفصل الأول
إن الحديث عن أطعمة العصور الماضية من الموضوعات الجذابة والمثيرة للاهتمام؛ إذ إن تجربة تناول الأطباق نفسها وشم الروائح نفسها التي من الممكن أن تكون جزءا من الحياة في حقبة أخرى من التاريخ؛ ربما تكون الطريقة الأقرب لفهم نمط الحياة اليومية ونسيجها، ومعايشة تجربة الحضور الفعلي في تلك العصور بدلا من أي تمرين أكاديمي يعتمد على استحضار فترات القوة والضعف في الحياة السياسية والحربية.
الأمر لا يتعلق بطهي وصفات تقترب من الوصفات الأصلية وإحياء أطباق معينة اعتمادا على ولائم موثقة جيدا، بل إنه أمر يتناول دراسة أذواق وميول ذلك العصر والأفكار المسبقة والأفكار المزيفة التي كان يؤمن بها الناس بخصوص الطعام، وعادات تناول الطعام، وتأثير ذلك على أنواع الأطعمة التي كان يتناولها الأغنياء والفقراء، سواء أكانت الأطعمة المخصصة للمناسبات الفخمة أم المستخدمة كطعام يومي.
ليست ثمة استفادة تذكر من دراسة الأنظمة الغذائية للشعوب التي كانت على شفا مجاعة؛ إذ إنهم كانوا يأكلون ما يتيسر لهم، وكانوا يستخدمون كل ما هو صالح للأكل من النباتات أو الحيوانات الموجودة حولهم. ومن الأمور الأكثر إثارة للاهتمام الخيارات التي كان يتخذها من يتمتعون بالقدرة على تلبية التفضيلات المتنوعة.
من المفترض - من الناحية النظرية - أن تكون هذه التفضيلات مباشرة وغير متغيرة إلى حد ما على مدى القرون. وهي من الناحية التطبيقية معقدة وتأتي كرد فعل للكثير من الضغوط الاجتماعية والطبية، وهذه الضغوط متغيرة فعلا؛ فالأفكار المعاصرة فيما يخص مخاطر النظام الغذائي الكثير الدسم والرغبة في النحافة تتعارض تماما مع الأفكار التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب، حين كان الناس يرون أن الطفل الرضيع ذا الجسم الممتلئ هو طفل يتمتع بصحة وافرة ويبعث على الفرحة، أكثر من أن يكون مثارا للقلق خشية احتمال إصابته بالسمنة في المستقبل.
نحن نختار مما هو متوافر لدينا؛ لذلك سيوضح أي فحص موجز لما يفترض أنه كان متوافرا اختلافات كبرى بين الحاضر والماضي. ونظرا لأن التغيرات الموسمية كان لها تأثير كبير للغاية على اللحوم، وكذلك على الفواكه والخضراوات، فإن أساليب التخزين كانت تتسم بالصرامة، وغالبا ما تغير في طبيعة المادة المخزنة عن طريق التمليح والتقديد، وبالطبع كانت الحفر العميقة في الأرض هي أقرب وسائل التبريد شبها إلى أجهزة التبريد.
أكبر العوائق التي تحول دون فهم الأطباق التي ربما كانت متوافرة حينئذ هي الأفكار المسبقة عن «النظام الغذائي في البلاد المطلة على البحر المتوسط»، التي ترسخت بقوة في الوعي؛ فالأسماك والحبوب - على سبيل المثال - من الأطباق التي لا بأس بها، ولكن الكثير من الأنواع التي نظن أنها جزء من هذا المصطلح تنتمي لفترة ما بعد اكتشافات كولومبس؛ لذلك، كان غذاء تلك البلاد يخلو - من بين مواد أخرى - من الطماطم والفلفل والذرة اللازمة لصنع العصيدة والفلفل الحار. وكانت للقمح أصناف متنوعة، وكلها كانت باهظة الثمن للغاية، حتى إنها لم تكن في متناول الطبقات الفقيرة؛ مما كان يضطرها إلى الاعتماد على الدخن والشعير كأغذية أساسية. وكانت تستخدم أنواع القمح الأقل جودة مثل القمح الثنائي الحبة والعلس في صنع رقائق مسطحة غير مختمرة تشبه المكرونة، وكان الطلب كبيرا على الأنواع الأجود مثل القمح الصلب - الذي يصنع منه أفضل أنواع الخبز - وكانت تزرع وتستورد بكميات كبيرة من كل أنحاء الإمبراطورية إبان العصر الروماني.
إن المدة الزمنية التي يتناولها هذا العمل كبيرة - تشمل عصر هوميروس حتى أوائل العصر المسيحي - لذلك يجب أن نأخذ في اعتبارنا التغيرات التي حدثت، ليس فقط من حيث مدى توافر المواد الغذائية، بل من حيث الآراء الدينية والرخاء النسبي أيضا، بل حتى الأزياء السائدة إبان هذه الفترة. ولا بد أيضا من دراسة مصادر العمل وتقييمها تحريا للدقة في هذا السياق. كان الكتاب نتاج عصرهم، بكل الأفكار المسبقة والآراء المتحيزة التي كانت سائدة آنذاك، ومن أمثالهم كاتب القرن الثاني الميلادي أثينايوس الذي أسهم إسهاما مهما في الكتابة المتعلقة بالطعام، ولكن كتاباته تلك اندثرت الآن بالكامل، ولم يصلنا منها شيء. فأي تحليل أو تعليق يتعلق بالطعام وعادات تناول الطعام قبل ذلك الحين، كان سيتأثر بهذه المؤثرات؛ على سبيل المثال: تتسم الإشارات المتعلقة بالكاتب والذواقة أركستراتوس - الذي عاش وألف في القرن الرابع قبل الميلاد - بمسحة من السخرية لأن آراءه المتشددة عن الطعام والطهي - فضلا عن الإيقاع الذي كان يكتب به - لم يعد اعتناقها من الفطنة في شيء؛ فعند تأمل كتاب يتناول الطعام والتوجهات في عصر الملكة إليزابيث الأولى أو عصر الملك جيمس الأول كتبه مؤلفه من وجهة نظر الحاضر؛ ستتضح الفجوة الزمنية.
من الممكن تنفيذ وصفات فعلية اعتمادا على بعض النصوص، ولكن ليس الكثير منها؛ فمن غير المرجح أن الطهاة كانوا من هواة قراءة كتب الطهي واقتنائها، هذا إن كانوا يجيدون القراءة أصلا. توجد بعض الوصفات القابلة للتنفيذ بالطبع؛ فمثلا نجد شرحا واضحا لعجينة «تراكتا» من تأليف بلينوس، ونجد بعض الوصفات اللافتة التي وضعها كاتو في بحثه المعنون ب «عن الزراعة» - وهو بحث عن الزراعة ألفه في عام 160 قبل الميلاد تقريبا - ومن هذه الوصفات وصفة لحلوى البودنج تحضر بالدقيق والجبن والبيض والعسل. ومع ذلك، يتوجب علينا في معظم الأحوال أن نعتمد على أوصاف الطعام التي يقدمها من تناولوه، وليس على أوصاف يقدمها من يتوقعون منا أن نطهوه.
ثمة معضلة معينة تنشأ من جراء ذلك. إذا أعددنا طبقا بنفس طريقة إعداده تماما منذ ما يزيد عن ألفي عام، فقد يطغى عدم اعتيادنا على الطعم والقوام على قدرتنا على الحكم على فروق النكهة، التي كان من الممكن أن تكون واضحة لأي شخص من تلك الفترة، مثل تقديم الكاري لشخص لم يسبق له تذوق الطعام الهندي قط، وأن نتوقع منه أن يلحظ الاختلافات الدقيقة في التوابل بدلا من أن يصدمه طعم الفلفل الحار فحسب. إذا أعدنا تحضير الأطباق طبقا لطريقة إعدادها الأصلية، فسنضطر لإحياء القدرة على استساغة طعمها والتوقعات التي كانت سائدة في ذلك العصر كذلك.
من ناحية أخرى، هل إذا خففنا من حدة التوابل والنكهة حتى تتضح السمة المميزة للطعام، نكون بذلك قد أضعفنا من موثوقية جهودنا؟ لقد أصبحنا الآن نعرف طرائق الطهي التايلاندي والفيتنامي، ونجد أن الكثير من المكونات المستخدمة فيهما تشبه المكونات المستخدمة في طرائق الطهي في البلدان المطلة على البحر المتوسط في الفترة التي نتناولها. كانت صلصة التغميس المنتشرة في العالم، والمعروفة باسم «جاروم»، تحضر بنفس طريقة تحضير الصلصة الفيتنامية «نام بلا» (صلصة السمك) تقريبا - ويعتمد تحضيرها على تخمير الأسماك الصغيرة - وجدير بالذكر أن النتائج شهية للغاية؛ فهذه الصلصة ليست كريهة الرائحة على الإطلاق كما توحي فكرة السمك النتن.
وما ينشأ من ذلك هو الولع بالنكهات الفاسدة في الأطعمة التي على غرار صلصة الجاروم أو الجبن بعد تقديمها مع مزيج من النكهات الحلوة مثل العسل والفواكه المجففة. وفي الواقع، لا يختلف ذلك اختلافا ملحوظا عن استخدام صوص الفواكه مع لحوم الطيور، أو البسكويت الحلو والنبيذ اللاذع مع الجبن الأزرق. كما كانت تستخدم التوابل اللاذعة مثل الحلتيت والأعشاب المرة مثل الزوفاء التي من المفترض أنها أعشاب طبية حاليا؛ وذلك لأن من المحتمل أنها كانت تضفي نكهة أفضل على أطباق عصيدة الحبوب، ولولاها لصارت بلا طعم.
ولم يكن للمطاعم بصورتها المعروفة وجود آنذاك؛ كانت ثمة فنادق صغيرة لإطعام المسافرين وإيوائهم بالطبع، ولكن الطقوس الرصينة لتناول الطعام كانت تقتصر على المنازل الخاصة التي يعمل فيها طهاة وخدم، بينما كانت الوجبات المخصصة للموظفين - وهي عماد العمالة الزراعية وطعام الباعة الجائلين - حكرا على فقراء المدن.
كانت هذه الجماعات المتنوعة تضم أوجه تشابه فيما بينها من حيث النكهات المرجوة والأفكار الثقافية المشتركة المتعلقة بالطعام والنظام الغذائي، وكانت سلوكيات التكبر والغرور تترافق مع طقس تناول الطعام لدى الأغنياء آنذاك كما هي الحال في الوقت الحاضر. ولعل الأفكار المبنية على الجهل والإيمان بالمعتقدات الخرافية، فيما يخص شئون الطعام التي تبدو مثيرة للضحك الآن، تنبئنا على نحو مزعج بأن أفكارنا الحالية عن الطعام ستثير سخرية الأجيال القادمة عند تناول الطعام.
الفصل الأول
لمحة عامة عن الطعام في العصور القديمة
يتألف هذا الفصل التقديمي من أربعة أجزاء. نبدأ بعرض الإطار التاريخي الشامل أولا، ثم نعرض الأدلة واقتراحاتنا لتفسيرها، ثم نلخص العناصر الأساسية للنظام الغذائي. ويتناول القسم الأخير الكيفية التي تغلغل بها الطعام وعادات تناول الطعام في الثقافة الإغريقية الرومانية إلى درجة لافتة. (1) الإطار التاريخي
يتناول هذا الكتاب فترة زمنية طويلة - تمتد تقريبا من عام 750 قبل الميلاد وحتى عام 200 ميلاديا - ويركز على ثقافات اليونان وروما. في تلك الفترة، تحولت اليونان إلى مجموعة كبيرة من المدن ذات الحكم الذاتي التي تحكمها حكومات قائمة على حكم الأقلية وأنشئت المستعمرات في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط. وكان للمدن ذات الحكم الذاتي أنماط متنوعة - من بينها بضع ديمقراطيات - وظلت في معظمها مستقلة حتى بزوغ نجم مملكة مقدونيا في القرن الرابع قبل الميلاد. هيمن الإسكندر الأكبر وخلفاؤه آنذاك على البلدان الإغريقية (التي تشمل الآن آسيا الصغرى وسوريا ومصر فضلا عن جنوبي إيطاليا) في سلسلة من السلالات الحاكمة، واستولى الرومان عليها كلها بحلول نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وفي الفترة نفسها، كان الرومان عاكفين على تنمية قوتهم بوصفهم أحد الشعوب الإيطالية القديمة، وأخذوا يتقبلون وجود القرطاجيين، ووجود المدن الإغريقية في صقلية وجنوبي إيطاليا، فضلا عن تقبلهم كل المؤثرات التي كان جيرانهم هؤلاء يمارسونها عليهم. وفي عهد أول إمبراطور روماني - وهو أغسطس - صارت للرومان إمبراطورية عالمية كان الكثير من سكانها في الشرق يتحدثون اللغتين اليونانية واللاتينية. وشهد هذان النظامان - الإغريقي والروماني - قدرا كبيرا من التبادل الثقافي فيما بينهما. يعتمد هذا الكتاب على ثلاثة مؤلفين على وجه الخصوص، حاولوا فهم هذا الانصهار الثقافي فيما يخص الطعام؛ وهم بلوتارخ الخيروني (وخصوصا كتابه «سيمبوتيكا» أو «حديث المائدة»)، وأثينايوس النقراطيسي (وكتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي»)، وجالينوس البيرجامومي (وخصوصا بحثه المعنون ب «عن قوى الأطعمة»)، وكان الثلاثة جميعا مؤلفين إغريقيين كتبوا في ظل سلطة روما في القرن الثاني أو في أوائل القرن الثالث الميلادي. وتتسم كتاباتهم عن الطعام وعادات تناول الطعام والطب والدين والتنوع المحلي بأنها متنوعة ومحفزة على التفكير.
لا يقتصر هذا الكتاب على البلدان الأصلية لكل من «الإغريق» و«الرومان»، بل يأخذ في الاعتبار منطقة واسعة تمتد من البحر الأسود وسوريا حتى إسبانيا، ومن سهوب روسيا حتى بحر شمال أفريقيا وصحاريها. سينصب الاهتمام الأساسي للكتاب على السواحل، ولكن الكثيرين في هذه المنطقة لم يكونوا يعيشون بالقرب من البحر؛ إذ كان من بينهم ساكنو مناطق جبلية ومزارعون وكثيرون ممن لم يعتادوا السفر. وكان الرومان فعلا يرون أنفسهم شعبا مكونا من مزارعين بسطاء لم يتعرضوا لمؤثرات من الخارج؛ لذا، يصف أوفيد في قصيدته «الأعياد» - على سبيل المثال - الإلهة كارنا بأنها تكره السفر بحرا، وتكره كذلك الطيور والأسماك المجلوبة من بقاع بعيدة، وتفضل بدلا منها الأكلات الرومانية التقليدية مثل الفول ولحم الخنزير المقدد والقمح الثنائي الحبة (6، 169-186). ولكن من نواح كثيرة، كانت التجارة والسفر من العوامل المهمة في تاريخ عادات تناول الطعام في العصور القديمة، وكانت الأطعمة، وربما الاختراعات التكنولوجية، تميل إلى الاتجاه غربا. فضلا عن ذلك، تأثر الإغريق والرومان بالثقافات الأخرى، وكان من الأمثلة اللافتة على نحو خاص العادة الآشورية المتمثلة في الاتكاء عند تناول الطعام، وهي من العادات التي جلبها الإغريق والإتروريون والرومان بدءا من القرنين السابع والسادس قبل الميلاد إلى ما بعد ذلك. وتأتي مناقشة أكثر تفصيلا حول هذا التطور المهم في الفصل الثاني.
شكل 1-1: كان الأترج - وهو نبات هندي - النبات المندرج ضمن عائلة الحمضيات الذي كان معروفا بالطبع لدى الإغريق والرومان. لهذه الفاكهة الكبيرة الحجم والكثيرة اللب، التي لا تبدو للوهلة الأولى شهية كالليمون، رائحة فواحة. ويقول جالينوس إن الناس كانوا يأكلونها مع الخل وصلصة السمك، وأشار أيضا إلى خواصها الدوائية المعقدة، وكان الناس يعتقدون أيضا أنها ترياق يشفي أنواعا معينة من السموم. راجع دالبي (2003). (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
كان من العوامل المهمة أيضا تنقل الناس من مكان لآخر، وكان الطعام وغيره من السلع يروج لها تجاريا على نطاق واسع؛ وذلك لسد النقص المحلي وتلبية طلبات الصفوة المحليين من السلع المميزة، وكذلك لأسباب أخرى. وأصبح للسفر علاقة وثيقة بالطعام. ونلاحظ هذا أولا في أعمال هوميروس؛ حيث يسافر أوديسيوس بطل ملحمة «الأوديسا» في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط، ويلتقي بأقوام لم يكونوا يأكلون الحبوب والزيتون أو يشربون الخمر الذي يشربه. وفيما بعد، أصبحت الكتابات التي تتناول جلسات الشراب والخمور وغيرها من المنتجات المستوردة من الكثير من الأماكن؛ مدونة ومشهورة. وفي روما، أدى تأثير التوسع إلى رد فعل سياسي وأدبي قوي، اعتبارا من عصر كاتو الأكبر فصاعدا (أواخر القرن الثالث/أوائل القرن الثاني قبل الميلاد). وأعرب كاتو وغيره عن قلقهم حيال تأثير الواردات وجودة الأطعمة والسلع الأجنبية وجاذبيتها، وما لاحظوه من إهمال للتقاليد الرومانية. وسنناقش الظاهرة الأخيرة على وجه التحديد في الفصلين السابع والتاسع. مع ذلك، فإن هذا التقليد الروماني يفيد في إلقاء الضوء على تأثير الأطعمة الأجنبية وأهميتها، وربما تكون مخاوف كاتو في القرن الثاني قد عكست ضغوطا جديدة، ولكن الاهتمام بالواردات الأجنبية - المادية والفكرية، كما يظهر من كتاباته - كان كبيرا وظل هكذا على مدى عقود. (2) الأدلة والتفسير
بوسع علم الآثار أن يسهم إسهاما كبيرا لنتمكن من فهم هذه التطورات. كشف تحليل بقايا النباتات والحيوانات والأسماك كثيرا من المعلومات عن توزيع الحيوانات والنباتات التي كانت تؤكل وأنواعها، ومنحنا فكرة عن التوزيع التجاري للنباتات والحبوب والأسماك وكل أدوات المائدة (رينفرو 1973، لوس 2000). وكشف التحليل أيضا الكثير عن تكنولوجيا الغذاء (كورتيس 2001)، وطرق تحضير وتخزين مجموعة كبيرة من الأطعمة (سباركس 1962، فوربس وفوكسهول 1995). وينطبق الشيء نفسه على أواني الطعام، وخصوصا الفضيات والأواني الخزفية المزدانة بالرسوم (فيكرز وجل 1994)، وعلى التصميم المعماري لغرفة الطعام، بما في ذلك المباني واللوحات المعلقة على الجدران وأنواع الأرضيات. وتتسم جداريات الفسيفساء بصفة خاصة بأنها تحتفظ بحالتها جيدة (دنبابين 1999 و2003).
ويأتي صنف آخر من الأدلة من تحليل العظام البشرية والبقايا العالقة في أواني الطهي وأوعية الطعام (جارنسي 1999). ونجد مثالا لذلك في دراسات أجريت حديثا تتناول الأدلة الواردة من الحضارة المينوية في كريت، وتكشف عن نوعية النظام الغذائي في أواخر الحقبة المينوية الثالثة (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) لمجموعة من السكان يزيد عددهم عن 350 شخصا من البالغين والأطفال مدفونين في المقبرة الموجودة في أرمينوي، جنوبي ريثيمنو (تزيداكيس ومارتلو 2002). ولا توجد أدلة على وجود مأكولات بحرية (مع أن الأواني الفخارية المعاصرة تحفل بصور للأحياء البحرية)، ومع ذلك توحي البقايا بوجود «كمية كبيرة من البروتين الحيواني» (سواء أكان من الحليب أم اللحم) والبروتين النباتي. فضلا عن ذلك، اكتشف الباحثون أن الفارق ضئيل بين الأنظمة الغذائية لكل من الأغنياء والفقراء ، كما يظهر في الرواسب الكيميائية الموجودة في العظام؛ ولكن يوجد دليل على أن الرجال كانوا يأكلون قدرا أكبر من البروتين الحيواني مقارنة بالنساء. ومن بين الأمراض المعدية التي اكتشفت التهاب العظام والنخاع، والحمى المالطية (حمى البحر المتوسط؛ تنتقل إلى البشر من حليب الماعز المصابة)، والسل (ينتقل من حليب البقر المصابة)، والأمراض الناتجة عن أسباب غذائية مثل ترقق العظام والأسقربوط والكساح وفقر الدم الناتج عن نقص الحديد. وكشفت عينة أصغر من أنسجة العظام أخذت من دائرة المقابر (أ) في موكناي عما يشير إلى تناول الأطعمة البحرية بقدر ما، وكان الرجال يتناولونها أكثر من النساء. ومع ذلك، لم يدل التحليل الكيميائي للعظام المأخوذة من دائرة المقابر (ب) في موكناي على وجود قدر ضئيل جدا من البروتينات البحرية أو عدم وجودها على الإطلاق. أما فيما يخص المشروبات الكحولية، فيبدو أنهم كانوا يحتسون النبيذ والجعة، وتؤكد هذه النتائج بعض الأدلة التي سبق أن خطرت على ذهن جارنسي (1999)، وهي تتضمن أيضا معلومات معينة في مجالات أخرى. وتيسر على الإغريق - فيما يبدو - احتساء الحليب والجعة، مع أن الكثير من النصوص تربط بين هذه المشروبات وبين الشعوب الأجنبية. سأعود إلى هذا الدليل لاحقا.
تستكمل الأدلة الأثرية بعدد كبير من المصادر الأدبية والتقنية؛ فالنص المكتوب ملمح من ملامح الثقافة الإغريقية والرومانية، ولا نجده في الكثير من ثقافات الطعام الأخرى وصولا إلى العصر الحديث. وللطعام دور بارز في أنواع شتى من النصوص، ابتداء من كتابات هوميروس وهيرودوت وما بعد ذلك. وكان الإغريق هم أول شعب في أوروبا يقدم كتب الطهي (في القرن الرابع قبل الميلاد)، وأصدر الإغريق والرومان نصوصا تركز على وجه التحديد على طقوس تناول الطعام والشراب. والفكاهة والهجاء هما أفضل مثالين لذلك (جاورز 1993 بخصوص روما، وويلكنز 2000 بخصوص اليونان).
من الملاحظ وجود تفاوت هائل بين الكثير من المصادر الأدبية والسواد الأعظم من السكان. ونناقش طبيعة المصادر الأدبية بمزيد من التفصيل في الفصل التاسع. حتى في الأعمال الأدبية التي توجه اهتمامها فعلا إلى الفئات الأفقر من المجتمع، غالبا ما تميل في اهتمامها هذا إلى إضفاء صبغة مثالية عليهم في خطاب يتناول نقد حياة المدينة أكثر مما يتناول الفقراء في حد ذاتهم. وتأتي شخصية سيميلوس في قصيدة «ذا مورتيوم» («غداء الفلاح» بترجمة كيني الصادرة عام 1984)، وكذلك شخصية الصياد الفقير الواردة في «الخطبة اليوبية 7» من تأليف المؤلف الروماني ديو كريسوستوم؛ كمثالين على التصوير المثالي للريفيين في الأعمال الأدبية.
ونجد صورة أدق للطعام في الاقتصاد الريفي (وإن كان ذلك لا يشمل وصفا للقرويين) فيما يكتبه الكتاب المتخصصون في الزراعة. يكتب كاتو وفي ذهنه المستثمرون الأغنياء، ولكنه يدرج قدرا كبيرا من التفاصيل العملية التي لا تمت بصلة لهذا الموضوع الأساسي. ويكتب فارو وفي ذهنه زوجته، ومن الواضح أن دائرة اهتمامه أشمل من دائرة اهتمام كاتو. أما كولميلا، فيجمع بين قدر كبير من التفاصيل العملية ودواعي القلق الأخلاقية المعتادة لتلك الفترة. ويتسم كل هؤلاء الكتاب بمعرفة جغرافية شاملة. يهتم كاتو بإقليم كامبانيا ولكنه ملم بقدر كبير من المعلومات عن اليونان، بينما يهتم فارو وكولميلا بأجزاء كبيرة من إيطاليا والبلاد المجاورة لها؛ ويتناقض كل هذا مع قصيدة «الأعمال والأيام» للشاعر هسيود - وهو شاعر إغريقي قديم اعتاد الكتابة باستخدام التفعيلة السداسية - الذي كان يكتب في إطار تراثي من أدب الحكمة عن السنة الزراعية. وتعتمد القصيدة أساسا - على الرغم من كل تفاصيلها - على إطار أخلاقي من قيم التدبير والاجتهاد في العمل والاهتمام بالبيئة المحلية، وكل ذلك يتناقض مع التجارة الخارجية. ويعبر كل من فارو وكولميلا أيضا عن التراث الأخلاقي، ولكن بدرجة أقل (3، 6، 6). وهكذا يصف فارو الطاووس، في سياق حديثه عن طيور التسمين المستوردة: «يقال إن كوينتوس هورتينسيوس هو أول من قدم هذه الطيور في حفل العشاء الذي أقيم احتفالا بتقلده منصب الإيديل (وهو منصب يتولى حامله صيانة مباني المدينة وتنظيم المهرجانات الشعبية العامة). وامتدح الفكرة الرجال الذين يميلون إلى الترف أكثر من الرجال المتقشفين الحريصين على الاستقامة.»
وكانت هناك أيضا نصوص تقنية تتناول الكثير من المجالات الأخرى المتعلقة بالطعام، فظهرت نصوص طبية من القرن الخامس قبل الميلاد - ومن أرسطو وثيوفراستوس في القرن الرابع قبل الميلاد وبعد ذلك - ونصوص عن علم الحيوان وعلم النبات؛ وساعدت هذه النصوص في وضع الإنسان في سياقه في العالم الطبيعي. وكانت هناك نصوص تتعلق بالمدن المختلفة في البلدان الإغريقية الرومانية، وكانت ثمة أعمال عن الزراعة وكتب رحلات ودراسات مسحية جغرافية، وشهدت الفترة «الهلنستية» (القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد) والفترة الرومانية تأليف أعمال موسوعية ناقشت ولخصت كل هذه المعلومات. ويأتي كتاب «التاريخ الطبيعي» من تأليف بلينوس كمثال مهم، والأمر نفسه ينطبق على أعمال بلوتارخ وجالينوس وأثينايوس الذين سبق ذكرهم. وكانت كل هذه الموسوعات تحتوي على آراء أيديولوجية عن كل من تاريخ الطعام وعادات تناول الطعام المعاصرة في تلك الفترات.
ومن الشخصيات ذات الأهمية الخاصة لهذا الكتاب المؤلفان الإغريقيان اللذان عاشا في ظل الإمبراطورية الرومانية في القرنين الثاني والثالث؛ جالينوس وأثينايوس. وكان الأول كاتبا متخصصا في الشئون الطبية، وله اهتمامات فلسفية وثقافية كبيرة، أما الثاني فيصعب تعريفه ولكنه كان كاتبا متخصصا في تأليف الموسوعات المتخصصة في الطعام، وكان فريدا من نوعه في هذا المجال. ولا يتبع أثينايوس دائما الترتيب الأبجدي مثل موسوعتي «لاروس جاسترونوميك» و«دليل أكسفورد للطعام»، بل كان يكتب بحسب ترتيب الأطباق المقدمة في الوجبة، ويكثر من اقتباس الأدلة قدر الإمكان، وهو ما يجعل من الصعب على القارئ الحديث فهم كتاباته؛ ومع ذلك فإن الأسباب التي دعته إلى ذلك الخيار تكشف عن معلومات مهمة.
كل من أثينايوس وجالينوس كانا يكتبان في عصر يعقب العصر الذي عاش فيه هوميروس بنحو ألف عام، وقدم كل منهما فكرة ثقافية عن فترة الألف عام هذه، وفي الوقت نفسه عرضا ملخصا مبهرا لطريقة تفاعل الثقافتين الإغريقية والرومانية على مدى فترة تمتد لأربعة قرون وتزيد. وتوضح أعمالهما كذلك كيف صمد التنوع المحلي في ظل نظام إمبراطوري، وأيضا في فترة نشأت فيها عوامل تأثير مهمة أدت إلى التغيير. وسنتمكن بمساعدتهما من تتبع الاختلافات والمؤثرات فيما بين الثقافتين وداخل كل منهما.
ولا ننوي اكتشاف التطور التدريجي الذي مرت به هاتان الثقافتان حتى تحولتا إلى ثقافتين مسيحيتين؛ إذ تتوافر نصوص قيمة كثيرة قدمها مؤلفون أمثال كليمنت السكندري وفيلون السكندري وآباء الكنيسة مثل ترتليان، وقد استخدمت فيرونيكا جريم هذه المواد للكشف عن طرق الصوم المختلفة في التعاليم الوثنية واليهودية والمسيحية في العصور القديمة المتأخرة. وأحدث مؤلف نتحدث عنه في هذا الكتاب هو الكاتب فرفريوس المتبع لمذهب الأفلاطونية الحديثة، والذي يستعرض كتابه «عن التقشف» - الذي ألفه في القرن الثالث الميلادي - الحجج المؤيدة والمعارضة للامتناع عن تناول اللحوم. وهو من النصوص الأساسية في تاريخ مذهب النباتية، ولكنه أيضا - شأنه شأن أثينايوس - مخزون من الفكر القديم الذي يتناول عادات تناول الطعام في الثقافة الإغريقية.
مع ذلك، فإن جالينوس وأثينايوس يسهمان الإسهام الأكبر في هذه الدراسة؛ فكل منهما ألف أعمالا مفصلة عن نواح تتعلق بالطعام والتغذية إبان أواخر القرن الثاني الميلادي؛ ومن ثم، فقد اختلف عن التيار السائد في التأليف خلال هذه الفترة؛ إذ كان المؤلفون يتناولون الماضي أكثر من أي وقت مضى، ويناقشون الإرث الثقافي الهائل لليونان والسبيل إلى نشره وتداوله. وتفيدنا الآراء العظيمة التي قدماها عن الطعام وعادات تناول الطعام في التعرف على هيئة العالم في عصرهما وفي العصور السابقة لعصرهما، وتكشف تلك الآراء عن حجم الكتابات التقنية التي ألفت عن الطعام: أبحاث عن علم النبات والخضراوات والأسماك المملحة، وكئوس الشراب وجلساته، والأكاليل، والنظام الغذائي، وعلم العقاقير، وكثير من المجالات الأخرى. وعلاوة على ذلك، يساعدنا هذان المؤلفان في تعريف ما قد تعنيه كلمة «طعام» في الثقافة الإغريقية الرومانية. وتتضح - على سبيل المثال - من إدراج أثينايوس للأحاجي والموسيقى في كتاباته، نوعية الأنشطة الوثيقة الصلة بدراسة من هذا النوع. كما أنهما يتمتعان بإلمام ملحوظ بالمناطق الموجودة خارج أثينا وروما، وهذا مهم؛ إذ أسهمت هاتان المدينتان العظيمتان إسهاما كبيرا في مجال الطعام والثقافة، وفي الوقت نفسه كانت كل منهما فريدة في حجمها وتأثيرها.
بطبيعة الحال، كان لكل من جالينوس وأثينايوس أهداف مختلفة. يحدد جالينوس الطبيب (في كتابه «عن قوى الأطعمة») الأطعمة الأساسية في النظام الغذائي، والكثير منها يثير دهشة القراء في العصر الحديث؛ فالأطعمة الأساسية تضم - فضلا عن الحبوب والفواكه المتوقع وجودها - الكثير من أنواع الحشائش المرة المذاق والنباتات البرية والحيوانات الغريبة. أما أثينايوس، فيعتمد في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» على الكتابات التي تتناول جلسات الشراب التي كانت موجهة للطبقة الراقية الإغريقية المرفهة. ويسرد هو أيضا الكثير من أنواع الأطعمة المختلفة والمدهشة، ويقتبس من الكثير من المؤلفين ممن كتبوا عن هذا الموضوع. ويهتم أثينايوس على وجه التحديد بهوميروس وأفلاطون والشعراء الهزليين وقصص الملوك المعاصرين للحقبة الهلنستية ممن جاءوا بعد الإسكندر الأكبر. ولكن جالينوس أحيانا يعتمد هو الآخر على هوميروس وأفلاطون والمسرحيات الكوميدية، فهؤلاء المؤلفون كانوا جزءا من العالم الذهني للفرد المثقف في تلك الفترة، وكان جالينوس يولي أهمية للإشارات التي كانوا يدرجونها في كتبهم إلى الأطعمة. وعلى العكس من ذلك، يصور أثينايوس جالينوس باعتباره أحد العلماء شبه الخياليين الجالسين في مأدبة، ويقتبس اقتباسات غزيرة من الأبحاث الهلنستية التي تتحدث عن النظام الغذائي والتغذية التي ألفها مؤلفون مثل ديوكليس الكاريستوسي ومنيستيوس الأثيني وديفيليوس السيفنوسي. ونناقش التغذية بالتفصيل في الفصل الثامن. ولا بد أن نضيف إلى هذه الدرر الأدبية عادات تناول الطعام التي يتبعها الحاضرون في مأدبة أثينايوس؛ فمعظمهم من الإغريق، ويستشهدون بمؤلفين معظمهم من الإغريق، ومع ذلك يشربون النبيذ من بداية المأدبة، وذلك سيرا على عادة الرومان. ويبدو أنهم قد مزجوا بين عادات تناول الطعام الإغريقية والرومانية، وتأتي مناقشة آثار هذا المزج على بنية كل من المآدب الإغريقية والرومانية في الفصل الثاني.
ويورد هذان المؤلفان أسماء مئات الأطعمة، من مئات المدن والمناطق، ويوضحان تنوع عادات تناول الطعام في الإمبراطورية الرومانية إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين. ولا يقتصر اهتمامهما على روما أو أثينا فحسب، كما ورد سابقا؛ إذ يحكي أثينايوس عن مدن من البر الرئيسي لليونان، وعن السلتيين والمصريين ومدن آسيا الصغرى وسوريا؛ ويحكي جالينوس عن مقدونيا وبيثنيا وآسيا الصغرى والإسكندرية وإيطاليا، ويقدم جالينوس أيضا أقوى دليل وصل إلينا من نص أدبي عما كان يتناوله الفقراء والريفيون؛ فالنظام الغذائي الذي ذكره هو النظام الغذائي المعتاد لكل الناس، وليس فقط للطبقات المرفهة، وشهادته في هذا الشأن مفيدة للغاية، وسنناقشها في الفصل الرابع.
يتناول جالينوس وأثينايوس كذلك سمات ثقافية عامة في مناقشاتهما عن الأطعمة؛ إذ ظهر طلب على المزيد من الأطعمة، وكذلك على الأطعمة الجديدة الواردة من خارج البلاد؛ وظهرت طرق جديدة لإعداد هذه الأطعمة ولإعداد الأطعمة المعروفة أيضا. وكانت هذه الأطعمة الجديدة وطرق إعدادها - فضلا عما بها من متعة ورقي - محل منافسة فيما بين الطبقات الراقية في المدن. وعلى عكس هذه العوامل الملحة الداعية إلى التجديد، كثيرا ما كان البعض أيضا يفصح عن تفضيل الأطعمة البسيطة المعتمدة على الزراعة المحلية، وذلك كما ذكر آنفا عند الحديث عن أوفيد. والكاتب المتخصص في الشئون التقنية ليس حصينا من هذه الافتراضات الثقافية؛ فعلى سبيل المثال، يوضح جالينوس الفارق بينه وبين الطهاة في كتابه «عن قوى الأطعمة» (2، 51)، قائلا: «نحن الأطباء نهدف من الأطعمة إلى الفوائد النابعة منها، وليس المتعة. ولكن ما دام الطعم غير المستساغ لبعض الأطعمة يؤدي إلى حد كبير إلى سوء الهضم، فمن الأفضل في هذا الشأن أن تصبح طيبة المذاق إلى حد ما. ولكن يرى الطهاة أن المذاق الطيب غالبا ما يتحقق باستخدام البهارات الضارة، وهكذا يتلازم مع تلك البهارات سوء الهضم بدلا من الهضم الجيد» (ترجمه إلى الإنجليزية: باول). وسنرى في الفصل السابع أن ما قاله جالينوس يذكرنا بالفارق المؤثر الذي وضعه أفلاطون قبل ذلك بستمائة عام بين الطبيب المفيد والطاهي ذي المظهر البراق. ولكن الطبيب والطاهي ليسا طرفي نقيض؛ فالطاهي يهدف أساسا إلى إسعاد الذائقة، ومع ذلك ليس بوسع الطبيب أن يتجاهل إسعاد الأذواق، ما دام الطعام غير المستساغ عادة ما يكون ضارا بالجهاز الهضمي.
تلتقي اهتمامات المؤلفين في رغبتهما في التسمية والتعريف والتصنيف، وينطبق هذا على المصطلحات: ما النبات الذي يشير إليه المصطلح س؟ ما المصطلح اللاتيني المكافئ له؟ هل تغير الاسم على مدى القرون؟ متى بدأ استخدام المصطلح؟ وبذل كل من المؤلفين قصارى جهده لاكتشاف ما كتبه الخبراء السابقون عن طعام ما، واكتشفا في النهاية وجود حالات خلط في التسمية واستخدام المصطلحات. ويمكننا أن نضرب مثلا بما ذكره أثينايوس عن الكرز (كيرازيا). ويستشهد بعدة شخصيات إغريقية موثوق فيها، من بينهم ثيوفراستوس والعالم النحوي البيثاني أسكليبيديس من ميرليا. يعارض لارنسيس - المضيف - الرأي القائل بأن الجنرال الروماني لوكولوس كان أول من يستورد هذه الشجرة إلى إيطاليا من مدينة كيراسوس في بنطس. ويتذكر متحدث آخر أن المؤلف المتخصص في الشئون الطبية ديفيليوس من سيفنوس ذكر الكرز في أحد الأعمال الصادرة في القرن الثالث قبل الميلاد.
يبدو هذا لأول وهلة على أنه خلاف متحذلق قائم على استعراض المعلومات، تتفوق فيه الادعاءات الإغريقية والرومانية على الأولوية التاريخية. يستشهد أثينايوس بمصادره، مما يتيح لنا أن نضع تواريخ على المعلومات. وفي أواخر القرن الرابع، وصف ثيوفراستوس نباتا بشيء من التفصيل، يسميه أثينايوس الكرز، ويسمي محرر كتاب أثينايوس - تشارلز جوليك - النبات الذي وصفه ثيوفراستوس بأنه توت الزعرور البري. والمصدر الموثوق فيه التالي الذي استشهد به أثينايوس - وهو أسكليبيديس من ميرليا في بيثنيا - يصف شجرة قطلب وذلك في رأي أثينايوس. وكان يكتب في القرن الأول قبل الميلاد، في الفترة نفسها تقريبا التي شهدت الحملات العسكرية التي شنها الجنرال الروماني لوكولوس في منطقة بنطس (البحر الأسود). وكان ديفيليوس من سيفنوس - وهو المصدر الموثوق فيه الأخير - يكتب في قصر ليسيماخوس في غربي آسيا الصغرى في القرن الثالث قبل الميلاد. وهكذا لدينا تواريخ تدعم الدليل، ولدينا كذلك الموقع. يصف ثيوفراستوس شجيرة ربما يكون موقعها في إقليم أتيكا، وربما لا تكون شجيرة الكرز. كان هناك في عصر ديفيليوس نوع من الكرز الأصلي من بنطس في ميليتوس. ولكن هل هي شجيرة كرز فعلا؟ يصف أسكليبيديس بوضوح نوعا مختلفا، موجودا في بيثانيا. ولوكولوس هو المسئول عن الانتقال الكبير للكرز من منطقة بنطس إلى إيطاليا وروما. وتشهد هذه الفقرة على الاهتمام بالكرز وعلى وجود نقاش ظل يدور حول الكرز على مدى عدة قرون، ولكنه في حد ذاته يطرح الكثير من المشاكل بعدد المشاكل التي يحلها؛ فليس من الواضح أي نوع بالتحديد هو الذي يوصف في كل نص، وليس من الواضح كذلك أي نبات (نباتات) هو الذي يصفه المصطلح «كيراسوس» والأنواع القريبة منه بدقة. فضلا عن ذلك، قد يتغير المصطلح من مدينة لأخرى. وآنذاك، ربما كانت تسمية الأطعمة مسألة خاضعة للاختلاف بين منطقة وأخرى، والمطالبات الأيديولوجية، والعوامل الملحة الأيديولوجية كالتي يعبر عنها لارنسيس؛ وهذه العوامل لا تساعد على الدقة العلمية. يوضح هذا المثال اتساع رقعة العالم القديم بكل ما فيه من آلاف المدن على مدى قرون طويلة؛ فكيف لنا أن نفهم أي لمحة من جوهره؟ لا يتسنى ذلك إلا بتناول شامل مدعوم بأمثلة محددة، ولكن منهج أثينايوس - الذي يقوم على الجمع بين عدد من النصوص - يفيدنا باعتباره مبدأ عاما. متى يكتسب الطعام مكانة راسخة؟ ما الأمور التي تؤخذ كأدلة؟ من الذي يطرح الأسئلة؟
وهكذا يتشاجر كل من لارنسيس ودافنيوس حول هذا الأمر حتى يتبين أن أحدهما على صواب. ما الذي يمكن أن نفعله بدورنا إذا تأملنا - مثلا - الطيور الداجنة؛ أي الدجاج؟ يمكننا أن نلجأ إلى علم الآثار وبقايا الحيوانات، ويمكننا فحص النصوص، ولكن النصوص تمنحنا أدلة مبهمة للغاية؛ فمن الأسلم ألا نعلن موقفنا بخصوص كمية الدجاج التي كانت تستهلك في أثينا في عصر أريستوفان - حيث ما زال يعتقد أنها «الطيور الفارسية» - أو في إيطاليا في عصر الإمبراطور أغسطس. بدلا من ذلك، يمكننا أن نلاحظ زيادة استهلاكه والاعتياد عليه على مر الزمن واستخدامه كقربان، وإدراجه كطائر ضمن طيور أخرى. ويشير جالينوس إلى أنه كان الطائر الوحيد المخصص للاستهلاك الآدمي، ولكن لم يصل مستوى استهلاكه إلى المستوى الحالي.
شكل 1-2: كان الدجاج أو الطيور الداجنة - شأنها شأن نبات الأترج - تستورد من آسيا، وكان الدجاج (وبيضه) يؤكل كطائر ضمن طيور أخرى، وعلى الرغم من انتشاره لم يكن يحظى قط بالأهمية التي يحظى بها حاليا في النظام الغذائي. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
لعل المصطلحات من المشكلات المزمنة التي لا تنتهي، ويرد الكثير من الأمثلة الأخرى في كتابات أثينايوس وجالينوس التي لا يكون واضحا لهما فيها أي نوع من النباتات أو الحيوانات محل نقاش. وإذا كانت الحال هكذا إليهما، فلن يختلف كذلك بالنسبة إلينا. يحاول جالينوس إرساء مبدأ عام في مناقشته للثدييات الصغيرة الإيطالية («عن قوى الأطعمة» 3، 1، ترجمه إلى الإنجليزية: باول). يقول جالينوس إنه عند تخصيص حيوان غير معروف للأكل، فمن الأفضل أن يقارنه الطبيب بحيوان مشابه معروف له؛ «لن أكون بحاجة بعد الآن مطلقا إلى كتابة عبارات مطولة لمناقشة كل الحيوانات المحلية في كل البلدان، مثل الحيوان الصغير الموجود في إسبانيا الذي يشبه الأرنب البري، الذي يسمونه أيضا «أرنبا»؛ والحيوان الموجود في لوكانيا في إيطاليا الذي يقع في مرتبة بين الدب والخنزير؛ وكذلك الحيوان الذي يؤكل في المنطقة نفسها من إيطاليا وفي أماكن كثيرة غيرها، الذي يقع في مرتبة وسطى بين ما يسمى الإيليون وفأر الحقل.» يسمي جالينوس حيوانا جديدا (الأرنب) وحيوانا محليا؛ فالطبيب الوافد حديثا إلى منطقة ما يكون بحاجة إلى وجود إطار مرجعي لتسمية حيوان ما وحيوان آخر مشابه له لاستخدامه في المقارنة، حتى يتمكن من وصف الطعام كعلاج بثقة.
من الواضح أن المصطلحات كانت من المشكلات التي واجهت جالينوس وأثينايوس، وما زالت تقلقنا حاليا؛ فما زال تصنيف الأسماك وأنواع معينة من النباتات غير متفق عليه. وفي الوقت نفسه، نجد أن المجموعة الهائلة من الإحالات إلى كل هذا القدر من الأطعمة كما يرد في كتابات جالينوس وأثينايوس - بالإضافة إلى القوائم الواردة في كتاب بلينوس «التاريخ الطبيعي» - تندرج ضمن المصادر الكبرى. وهي تشهد على اهتمام كبير بالأطعمة المحلية في إيطاليا واليونان، وعلى ملاحظة الإضافات الوافدة الجديدة مثل الأرنب من إسبانيا. ولا بد أن ننظر إلى الإضافات الجديدة باعتبارها عملية مستمرة، تتحرك عادة - على عكس الأرنب - من الشرق إلى الغرب. وصلت النباتات المستنبتة في فترة مبكرة (إذا كانت التكنولوجيا قد جرى استيرادها من الشرق الأدنى ولم تنشأ محليا في الكثير من المواقع)، ومن بين هذه النباتات الزيتون والعنب والحبوب . ووصلت الطيور الداجنة في فترة متأخرة للغاية؛ إذ انتقلت ببطء من غابات تايلاند إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط، وبدأ ظهور طائر التدرج. ووصل الخوخ والمشمش إلى روما في عهد الإمبراطور أغسطس على ما يبدو. ومن غير الواضح متى وصل الليمون إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط. وكان نبات الأترج موجودا بالتأكيد في العصور القديمة، أما الليمون فربما لم يكن موجودا، ومن المؤكد أن الليمون والبرتقال والباذنجان والأرز جاءت كلها إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط بفعل التأثير العربي بعد عام 700، وربما قبل ذلك. وأخذت أهم مراكز القوة والتجارة تجتذب الأطعمة الجديدة إليها، تماما مثلما أصبحت القصور الملكية الأوروبية في القرن السادس عشر مهتمة بأطعمة الأمريكتين مثل الشوكولاتة والطماطم والبطاطس (راجع مثلا: كو وكو 1996). فالقصور الملكية - كما سنرى - كانت عوامل مهمة في التحفيز على الابتكار، وكانت تتنافس في التفاخر، وكانت أيضا تسعى للحصول على أفضل أنواع الترياق لإبطال مفعول السموم، وربما اتضح أن أحد المكونات المميزة لإعداد ترياق ما يصلح ليكون إضافة ظريفة إلى النظام الغذائي.
وستكون المقارنات من هذا النوع بين العالم القديم والفترات التاريخية اللاحقة، وبالطبع القرن الحادي والعشرين، من السمات المهمة في هذا الكتاب.
للطعام عدة أدوار مهمة في الثقافة الغربية الحديثة؛ فالزراعة والشركات العالمية ومجال الإعلان والبنية الاجتماعية - فضلا عن التاريخ الطويل - كلها عوامل تسهم في ترسيخ الطعام والأفكار المتعلقة به في ثقافتنا؛ ففي بريطانيا والولايات المتحدة في العصر الحديث، نجد أن فصل المستهلك عن المعروض من المنتجات الزراعية ظاهرة واضحة أكثر مما عليه الحال في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا. وبالمثل، نجد أن الإنتاج والتوزيع الصناعيين عن طريق الأسواق المركزية الكبرى (السوبر ماركت) في بريطانيا والولايات المتحدة من الظواهر الملحوظة للغاية، شأنهما شأن المؤثرات الخارجية الآتية من الهند والصين وإيطاليا على سبيل المثال.
كانت مجتمعات الإغريق والرومان تشبه في كثير من النواحي مجتمعات ما قبل العصر الحديث من حيث المعاناة من المرض وأزمات نقص الطعام المتكررة (خاصة في الربيع)؛ فعلى سبيل المثال: كانت أزمات نقص الطعام مألوفة في بريطانيا حتى القرن العشرين، وكانت فرنسا تجاهد لإطعام سكانها حتى القرن التاسع عشر، على الرغم من كل تقدمها الحديث وثراء أسواقها التي كانت تقام أسبوعيا في طول البلاد وعرضها، من أصغر القرى حتى شوارع باريس. نكبت فرنسا في القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر ب «أزمات وفيات» متقطعة بسبب الجوع والمجاعة؛ حيث شهدت ارتفاعا متزايدا في عدد الوفيات في جهات متفرقة من البلاد بواقع ثلاثة أضعاف وستة أضعاف، بل عشرة أضعاف أيضا. في شمال فرنسا وشمال شرق فرنسا، على وجه التحديد، كان سعر الحبوب بمنزلة مقياس للتغيرات الديموغرافية؛ إذ تسبب ارتفاع الأسعار الناجم عن تردي مواسم الحصاد في زيادة ارتفاع عدد الوفيات فيما سمي ب «قباب» الوفيات ... كان الريفيون يتضورون جوعا بأعداد غفيرة في السنوات الأخيرة من حكم لويس الرابع عشر (جونز 2002: 151). سنطلع على تقارير كتبها جالينوس عن أزمات نقص الطعام في الريف، وخاصة في فصل الربيع.
في كتاب من هذا النوع يكون من المحتم علينا التعريف بالمزارع البسيط والمواطنين الفقراء في بداية الكتاب؛ إذ إن هؤلاء هم من يشكلون السواد الأعظم من السكان وينتجون معظم الطعام. وفي الوقت نفسه، الصفوة من ذوي النفوذ السياسي هي التي «تصوغ الثقافة» وتطلب أفضل أصناف الطعام وتحفز الابتكار وفن تذوق الطعام؛ وبناء على ذلك، كثيرا ما تهتم الكتابات التي تتناول تاريخ الطعام بجماعات ثرية قليلة العدد، تضم - بتعبير هوليوود - الذين شاركوا في حفلات العربدة في قصر إمبراطور روما. في الفصل الثاني، سنرى حالات في العصر القديم مشابهة لما ذكره كولين جونز عن فرنسا في القرن الثامن عشر. وبينما كان القصر يبتكر أطعمة راقية، ويشارك فوائدها إلى حد ما مع مواطني باريس المشاغبين، كان سكان الريف يتضورون جوعا؛ حتى عندما كان الطعام وفيرا، كان الريفيون يرسلون أفضل الأطعمة إلى السوق: «كانت حقول ذرة شاسعة مزروعة بالجاودار (للاستهلاك المحلي) والشوفان (للماشية المحلية) والقمح (للمدن وللأغنياء) تمتد على مرمى البصر» (جونز 2002: 149-150).
إن الإمداد الغذائي أحد المشاغل الأساسية لكل الدول، قديما وحديثا، ولكنه ليس الشغل الشاغل الوحيد؛ فلم تقتصر فائدة الطعام على إبقاء الناس على قيد الحياة فحسب، بل كان يساعدهم كذلك في تشكيل هويتهم. ويقدم لنا كولين جونز مرة أخرى حالة مشابهة من العصر الحديث المبكر: «كما تقول الحكمة المألوفة إن الملك لا بد أن يعيش من زرع مملكته.» كان المثل الأعلى للحياة الريفية هو الأسرة، والتي كانت وحدة إنتاج واستهلاك في آن واحد، وكانت لديها الوسائل اللازمة للعناية بمعظم احتياجاتها. كان معظم أرباب الأسر الريفية يمضون جل أوقاتهم في إنتاج ما يكفي من الطعام لأنفسهم ولأسرهم، وكان الغذاء الأساسي اليومي هو الخبز، وكان الخبز المحضر في المنزل طعمه أطيب ... وفي قاموس أهل الريف، كانت عبارة
gagner son pain (كسب العيش) مرادفة لعبارة
gagner sa vie (كسب الرزق)، وكان الناس يطلقون على الخبز عدة أسماء بعدد الأسماء التي يطلقها الإسكيمو على الثلج، والتي يطلقها البدو على الرمال، وكان كل نوع منها مغلفا بدلالات سخية تشي بالجودة الغذائية والمنشأ الجغرافي والمكانة الاقتصادية والطموح الاجتماعي؛ ومن ثم، كان بوسع الأغنياء شراء أرغفة الخبز الأبيض المصنوع من القمح، وكان متوسطو الحال يتناولون أرغفة الخبز الأسود غير المختمر المصنوع من الجاودار والشعير أو عصيدة الذرة، أما أفقر الفقراء - كالمعدمين المقيمين في مقاطعة فيفاريه - فكانوا يتناولون خبزا يكاد يكون عسير الهضم مصنوعا من الكستناء، وكانت إحدى القرى تصفه بكل اعتزاز بأنه «عوننا وغذاؤنا الأساسي والوسيلة التي نطعم بها أسرنا وخدمنا وحيواناتنا الأليفة وماشيتنا ودواجننا وخنازيرنا» (جونز 2002: 148-149). وسنجد أن جالينوس وغيره من المؤلفين كتبوا عبارات مشابهة جدا عن أنماط استهلاك الطعام في الإمبراطورية الرومانية، وذلك باستثناء الذرة؛ إذ جاءت الذرة من الأمريكتين في فترة لاحقة لعصر كولومبس.
وبالإضافة إلى المناهج المقارنة المستخدمة لفهم الأدلة من العصور القديمة، سنعتمد كذلك على عمل علماء الأنثروبولوجيا. إن الطعام من السمات المهمة في كل الثقافات؛ فلا بد أن يأكل البشر، ولكي يتسنى لهم ذلك عليهم استغلال المنتجات الطبيعية والمزروعة المتوافرة في بيئتهم المحلية وبيئتهم الأوسع. والبشر في مسعاهم هذا ينشئون علاقة مع عالم الطبيعة؛ أي مع النباتات والحيوانات التي يستهلكونها، ومع القوى الطبيعية التي هم جزء منها ويخضعون لها. وتتولد عن هذه العلاقات تفسيرات دينية واجتماعية وفكرية قوية، هي أصل النشاط الاقتصادي القائم على إنتاج الطعام وتوزيعه. وغالبا ما ينظم استهلاك الطعام بحيث ينم عن جوانب جوهرية في البنية الاجتماعية لمجتمع ما، مثل العلاقة بين الجنسين وهيكل السلطة، وهذه العلاقات من الشئون التي يدرسها علم الأنثروبولوجيا، ولكن الدراسات الأنثروبولوجية لم تهتم دائما بالطعام بقدر اهتمامها بغير ذلك من جوانب الحياة الأخرى، مثل التسلسل الهرمي الاجتماعي ودورة الحياة ومراسم الوفاة. ولكن على مدى الخمسين عاما الماضية، قدم كل من كلود ليفي شتراوس وماري دوجلاس وجاك جودي - على سبيل المثال - إسهاما أنثروبولوجيا بارزا في دراسة الطعام. ناقشت دوجلاس (1966) قوانين الطعام اليهودية ومشكلات الهوية في اليهودية، وفسر كل من دوجلاس ونيكود (1974) تركيب الوجبة البريطانية، بينما تناولت دوجلاس (1984) التفاعل بين ثقافات الطعام لدى السكان الأصليين والمهاجرين في الولايات المتحدة، وهو ما يستعرض أيضا بإيجاز الرموز والهوية الثقافية. وتناول جودي (1982) العوامل التي تحدد «التطور» في عادات الطعام بين الثقافات المختلفة؛ كيف أصبح لفرنسا «أسلوب طهي» يميزها على خلاف البلدان الأخرى؟ ومن بين هذه الدراسات، كان عمل ليفي شتراوس هو صاحب القدر الأكبر من المناقشات (راجع بوكستون 1994، وجودي 1982، وجارنسي 1999)؛ إذ يقوم نظامه البحثي على طرق الطهي والمكانة التي من المعتقد أن تحتلها في الفكر والنظم اللغوية في النظام الثقافي، ويعبر بالتحديد عن العلاقة التي تجمع بين الطبيعة والثقافة في ذلك النظام. ومن الممكن إثبات أن بعض الفئات التي ذكرها ليفي شتراوس اعتباطية وتتسم بخصوصية ثقافية على نحو يحول دون إتاحة تطبيقها على نطاق شامل؛ ومع ذلك ثبت أن الثقافة الإغريقية من المجالات المثمرة جدا عند تطبيقها؛ إذ إن الإغريق دمجوا الفكر الديني والأسطوري والثقافي بطرق مشوقة للغاية. سنستعين بعمل جون بيير فيرنان ومارسيل ديتيان - على سبيل المثال - في هذا الكتاب، وذلك كما سيحدث مثلا في المناقشة الواردة في الفصل الثالث حول عيد ثيسموفوريا وعيد أدونيس.
يأتي معظم الأدلة المتعلقة بالطعام في العالم القديم - كما ذكرنا - من النصوص المكتوبة التي أكملتها الاكتشافات الأثرية. لكن، لا توجد أدلة على الكثير من الجوانب المتعلقة بعادات تناول الطعام، ولا يمكن الإجابة عن الكثير من الأسئلة إلا بإجابات جزئية. ومن بين هذه الجوانب تقسيم تناول الطعام بحسب النوع في الثقافة الإغريقية. إذا كان الرجال الإغريق ذوو المقام الرفيع يأكلون بمعزل عن النساء صاحبات المقام الرفيع، فأين كانت النساء صاحبات المقام الرفيع يأكلن وكيف (إن كان ذلك ممكنا بالأساس)؟ ألم يكن يأكلن مع صديقاتهن؟ هل كان الناس من الجنسين يأكلون معا حين يكونون في تجمع أسري لا يحضره غرباء؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب، فهل كان الذكور والإناث يتناولون الطعام نفسه؟ في حالة عدم وجود أدلة من النصوص أو علم الآثار، يكون للدراسات الأنثروبولوجية والدراسات المقارنة دور مهم لمساعدتنا في تقديم الإجابات. (3) الأطعمة والمشروبات في النظام الغذائي القديم
يقدم هذا القسم صورة كاشفة للنظام الغذائي في العصر القديم، ثم يشير إلى أن ذلك النظام الغذائي ربما يكون قد تبدل على مر الزمن، ولا سيما تبدله بحسب المكان، نظرا لقوة التأثيرات المحلية.
يقدم بحث أبقراط المعنون ب «الحمية 2»، الذي كتبه في عام 400 قبل الميلاد تقريبا، ملخصا مناسبا ومركزا للنظام الغذائي الإغريقي في تاريخ مبكر نسبيا. وكانت الحبوب الأساسية هي الشعير والقمح، وكانت تعد من الشعير «كعكات» وأنواع من العصيدة، أما القمح - وكان أكثر ندرة في البر الرئيسي لليونان وفي الجزر اليونانية - فكان يصنع منه الخبز وغير ذلك من منتجات الحبوب. وكانت الأنواع البدائية من القمح منتشرة كذلك، ولا سيما القمح الثنائي الحبة والقمح الوحيد الحبة والعلس. ويرد أيضا ذكر الشوفان والدخن. واستكمالا للقيمة الغذائية للحبوب، كانت تؤكل معها أنواع الفول والبقوليات (لا سيما الفول الأخضر وغيره من أنواع الفول) والبازلاء، والحمص والعدس والبيقة وبذور الكتان والمريمية، والترمس وخردل الوشيع وبذور الخيار، والسمسم والعصفر، ولحم البقر ولحم الماعز ولحم الخنازير ولحم الغنم والحمير والكلاب، والخنازير البرية والغزلان والأرانب البرية، والثعالب والقنافذ، والحمام والحجل واليمام والديوك وطيور القمرية، والإوز والبط وغير ذلك من الطيور المائية . ويذكر ما يزيد عن عشرين نوعا من الأسماك، بما في ذلك الحبار والمحار والسلطعون (الكابوريا). ويذكر البيض والجبن والماء الممزوج بالنبيذ والخل والعسل. ومن بين الخضراوات والأعشاب المذكورة: الثوم والبصل، والكراث والفجل، والرشاد والخردل، والجرجير والكزبرة والخس، والينسون والكرفس والريحان والسذاب والهليون والمريمية، وعنب الثعلب والرجلة وأنواع القراص أو الحريقة، والنعناع والحماض، والسبانخ البرية والكرنب، والبنجر واليقطين واللفت والفوتنج، والبردقوش والزعتر والزوفاء والخضراوات البرية. والفواكه المذكورة هي: التوت الأسود البري والكمثرى (البرية والمستنبتة) والتفاح والسفرجل، والغبيراء والرمان واليقطين والعنب والتين، واللوز وغير ذلك من أنواع المكسرات والجوز.
والقصد من هذا الملخص أن يكون بمنزلة دليل إرشادي، وإن كانت الأهداف الطبية لمؤلفه، وخصوصا من حيث عدد الأعشاب المذكورة، تخل بكونه ملخصا. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الملخص ليس قائمة مستقاة من أكثر من مؤلف لا يجمع بينهم هدف موحد؛ فمثل هذه القائمة من الأطعمة المستقاة من مجموعة كبيرة من النصوص موجودة في دالبي (1996)، وخصوصا في دالبي (2003)، «الموسوعة الشاملة للطعام في العالم القديم». يشير دالبي إلى كل أنواع الأطعمة المعروفة، على الأقل تلك التي سجلت أسماؤها أدناه. وليس من الممكن دائما ذكر التاريخ والموقع والمناسبة؛ ولذلك يذكر الفلفل - على سبيل المثال - في الشذرة (274) للشاعر الهزلي أنتيفانيز، والاقتباس مأخوذ من مسرحية مفقودة كتبها أنتيفانيز في القرن الرابع قبل الميلاد، وتتعلق بشعور الحقد حيال شخص يشاهد وهو يأخذ معه الفلفل إلى منزله. ولا ندري مدى تكرار استعمال الفلفل أو في أي المدن كان يستعمل، فكل ما نعرفه هو أن الاسم ورد ذكره، ولعله من المنطقي أن نستنتج أن الفلفل كان معروفا إلى حد ما في أثينا، ما دام ثمة شاعر هزلي قد ذكره أمام جمهور قوامه 15000 مواطن. وربما يشير هذا المصدر إلى انتشار استعماله على نحو أشمل مما ذكره طبيب يتبع مدرسة أبقراط فقط. وقد علق مصطلح «فلفل» - على أقل تقدير - في أذهان الإغريق. وكما يوضح دالبي، وصل الكثير من الأطعمة إلى اليونان وروما في أوقات مختلفة على مدى ألف عام أو نحو ذلك ، وبدأت تدخل في صلب النظام الغذائي ببطء. كثيرا ما يتعذر التيقن من التوقيت الفعلي لانتشار أي طعام معين، لكن فيما يخص الفلفل، من الممكن أن نشير إلى أن كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس بعنوان «دي ري كوكويناريا» أو «عن موضوع الطهي» - الذي جمعت مادته على الأرجح في القرن الرابع الميلادي - يرد فيه ذكر الفلفل في معظم الوصفات.
ما الأطعمة المهمة التي حذفت من هذه القائمة الموجزة؟ ربما كنا نتوقع السيلفيوم، وهو يستعمل كنكهة قوية ومميزة (راجع أدناه) وكعقار في الوقت نفسه. وربما كنا نتوقع ذكر المزيد من الطيور والأسماك، ولكن - فيما عدا الأعشاب - نجد أن القائمة تقدم فيما يبدو ملخصا منطقيا على النحو الذي هي عليه. تشمل القائمة الواردة في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة» المزيد من العناصر، ولكن ليس من بينها عناصر جديدة تماما - فيما عدا أطعمة على غرار الخوخ والمشمش - التي ربما تكون قد جاءت من الشرق في القرن الأول قبل الميلاد. بعبارة أخرى، لم تكن الأطعمة الجديدة في العصر الروماني كثيرة إلى هذا الحد، لكن من المرجح أن الأطعمة المستوردة من آسيا أصبحت أكثر وفرة - مثل الفلفل وغيره من النكهات اللاذعة ذات الاستعمالات الدوائية - إبان العصر الهلنستي والروماني.
كثيرا ما كان الطب هو المحفز على استيراد منتجات جديدة، وليست مذاقاتها الممتعة. عند بدء استعمال الطماطم والشوكولاتة لأول مرة في أوروبا في أوائل العصر الحديث، لم يرق طعمهما على الفور للناس، لكن كان لكل منهما استعمالات طبية مرغوب فيها، بما في ذلك استخدامهما كمنشطات جنسية؛ ومن ثم، كان نبات السيلفيوم يستعمل كدواء وكنكهة عطرية في آن واحد، والأمر نفسه ينطبق كذلك على الثوم والبصل المتوافرين محليا. وكان الفلفل، الذي ربما أصبح يستخدم كنكهة عطرية لاحقا في الإمبراطورية الرومانية، يستعمل أساسا كدواء، وكان من الأصناف المطلوبة في القصور الملكية في الحقبة الهلنستية؛ حيث كان يستعمل كترياق للسم. ولوحظت هذه الخاصية في الفلفل في فترة مبكرة معاصرة لثيوفراستوس؛ إذ يقول إن ثمة نوعين من الفلفل، وكلاهما يساعد على التدفئة ويبطل مفعول نبات الشوكران السام (9، 20، 1 وأثينايوس 2، 66). تشمل مناقشة أثينايوس فيما يبدو كلا من النكهة والدواء. وربما كان قصر ميثريداتس الملكي في مملكة بنطس من العوامل التي أسهمت في الترف الذي اتسمت به روما؛ ولكنه شجع أيضا على استخدام أنواع الترياق لإبطال مفعول السم. ومن ناحية أخرى، يتساوى عدد مرات ذكر فطر عيش الغراب كسم مع مرات ذكره كطعام.
يهدف هذا العرض الموجز للأطعمة إلى أن يكون كاشفا أكثر منه شاملا، والسؤال المهم الذي يجب طرحه هو: ما مكانة ووضع الشخص الذي يتولى مهمة تصنيف الطعام؟ كان الأطباء على الأرجح يجدون استعمالات دوائية للكثير من الأطعمة التي لم تكن طيبة المذاق، مثل نبات البيقة ذي المذاق المر (وهو طعام للماشية في الأحوال العادية) أو الجراء أو الجمال. ويذكر المؤلفون التابعون لمدرسة أبقراط كل هذه الأنواع. وكان للخضراوات دور كبير في النظام الغذائي للفقراء، وغالبا ما كان الأثرياء يزدرون الخضراوات، إلا إذا كانوا يهدفون إلى عيش حياة بسيطة. لكن، كان للخضراوات مزايا كثيرة من وجهة نظر الفيلسوف المتقشف والطبيب، كما يوضح جالينوس في الجزء الثاني من كتابه «عن قوى الأطعمة».
والأهم من ذلك أن الأمر كان يستند حتما إلى بعض المعايير الصارمة: أولا الموقع، فالجمال من المشاهد المألوفة في مصر أو العراق ولكن ليس في اليونان؛ ثم تأتي الجغرافيا والمناخ؛ ثم الموسم. اضطر بعض الناس - أو اختاروا - أن يعيشوا بحسب الموسم، بينما كان بوسع آخرين تجاهل الموسم، وذلك فيما يتعلق قطعا بأزمات نقص الطعام. ولم يستطع إلا القلائل تناسي التغيرات الموسمية خارج الأماكن الشبيهة بالفردوس، مثل تلك التي عاش فيها الفينيقيون الذين أتى هوميروس على ذكرهم، ومسوخ سايكلوبس، وفي المدن الفاضلة الواردة في الأعمال الأدبية (للاطلاع عليها، راجع الفصل التاسع). وكانت أكثر التجارب التي اقتربت من تحقيق ذلك فيما يبدو هي العيد البطلمي في وادي النيل (وللاطلاع على معلومات عنه راجع الفصل الثالث). (3-1) الثقافة الإغريقية والثقافة الرومانية
يتناول هذا الكتاب فترة تمتد لألف عام من استهلاك الطعام في الثقافة الإغريقية، ونحو ستمائة عام من الثقافة الرومانية، فضلا عن دراسة موجزة لبعض الثقافات الأخرى بما في ذلك الفارسية والمصرية والسلتية. لا بد من حديث مختصر عن البنية المركبة للثقافة الإغريقية الرومانية. كانت الثقافة الإغريقية مميزة للغاية، وكان للطهي دور محوري وحاسم فيها؛ مما يتيح للإغريق نيل مكانة بين كبرى ثقافات الطعام في العالم (راجع أدناه). يبدأ هذا الكتاب بقصائد لهوميروس من المتعارف أن تاريخها يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد. كان الرومان، الذين نتحدث عنهم بدءا من القرن الثالث قبل الميلاد فصاعدا، يرون أنفسهم مختلفين تماما في بعض النواحي عن الإغريق. وفي الفصل السابع، ندرس وصفهم لأنفسهم كقوم بسطاء يشتغلون بالزراعة أساسا، لم يفسدهم التأثير الأجنبي والتجارة في الكماليات والسلع المترفة؛ ومع ذلك، توجد أدلة كثيرة على أن الرومان تعاونوا مع الإغريق ومع شعوب إيطالية قديمة متأثرة بالإغريق منذ القرن السادس، بل ومنذ فترة سابقة على ذلك. علاوة على ذلك، كان الإغريق قد أنشئوا مدنا في شبه الجزيرة الإيطالية بدءا من القرن الثامن قبل الميلاد وإلى ما بعد ذلك، وقد ساعد ذلك على هدم الفارق بين ما هو إغريقي وما هو روماني، وتلاشى هذا الفارق أكثر بعد أن ضم الرومان اليونان في القرن الثاني قبل الميلاد، وحكموا إيطاليا واليونان كإمبراطورية شاسعة مطلة على البحر المتوسط على مدار القرون الأربعة التالية التي يتناولها هذا الكتاب. وآنذاك، لم يكن وجود الإغريق منحصرا في اليونان؛ فأفضل الإنجازات في مجال الطهي لم يأت عادة من البر الرئيسي لليونان على الإطلاق، ولم يكن وجود الرومان منحصرا في إيطاليا كذلك. وما إن تحولت الإمبراطورية الرومانية من حكم جمهوري إلى حكم استبدادي يرأسه إمبراطور، حتى كانت الإمبراطورية الرومانية - التي كانت فعليا إمبراطورية إغريقية رومانية - هي الإمبراطورية التي قد أصبحت، بحسب تعبير أندرو دالبي، «إمبراطورية الملذات». وللجمع بين كل هذه العناصر، يعتمد هذا الكتاب على الأعمال الموسوعية الأربعة التي جمع مادة كل منها بلينوس وبلوتارخ وجالينوس وأثينايوس. (3-2) ما السمات المميزة للطعام في الثقافة الإغريقية الرومانية؟
إن دراسة الطعام الإغريقي والروماني بصفته نظاما ثقافيا مميزا أمر مستحسن في حد ذاته، ولكن ربما يكون من الممكن طرح دفاع أقوى عن هذا النظام؛ فالثقافة الإغريقية، وشقيقتها الثقافة الرومانية، عبارة عن نظامين ثقافيين يدخل الطعام في بنيتهما إلى حد فريد، الأمر الذي يمكن مقارنته بكبرى ثقافات الطعام في الصين والهند. وبينما كان الطعام ينم عن أنماط الإنتاج والتوزيع والبنية الاجتماعية، كان يقع أيضا في صميم النظام الطبي الذي وضعه الأطباء التابعون لمدرسة أبقراط في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وكانت سوائل الحياة (الأخلاط) في عالمي النبات والحيوان وثيقة الصلة بسوائل الحياة التي كانت تتحكم في جسم الإنسان وكانت تخضع للعوامل الموسمية والمناخية، بل صنف أحد أبحاث أبقراط - بعنوان «الحمية 1» - البشر بصفتهم يعيشون في نظام كوني قائم على النار والماء. وتصورت نظرية أخرى من نظريات أبقراط عملية الهضم على أنها طهي المواد الغذائية بحرارة الجسم. وكان طهي الطعام قبل أكله ليس إلا جزءا من الوسيلة المتحضرة لتمثيل الطعام ليصبح جاهزا لامتصاصه في جسم الإنسان؛ إذ كان الكثير من المؤلفين القدماء يرون أن البشر حيوانات، وإن كانوا سلالة مختلفة من الحيوانات. وكان النظام الديني يحكمه أساس منطقي مختلف، ولكن ظل الطعام - الحيواني وغير الحيواني - في هذا الجانب أيضا يقع في صميم العلاقات المتبادلة بين الآلهة والبشر؛ إذ كان الكائن الأدنى - أي الإنسان - يقدم للكائن الأعلى - أي الإله - حياة الحيوان أو النبات الذي كان يقتل كقربان. وكان النظام الديني يجمع بين الفكر الأسطوري والأنشطة الشعائرية التي تقام للاحتفال والعبادة، وكان أيضا يدمج الفرد في الجماعة.
ومن السمات المميزة الأخرى للثقافة الإغريقية الرومانية الإنتاج الأدبي الغزير - الشفهي والمكتوب - الذي يعبر عن الطعام والعناصر المتعددة المرتبطة به في الكثير من الأجناس الأدبية، ويشمل هذا الإنتاج أيضا كتب الطهي، وهو ما لا ينتجه الكثير من الثقافات. صدرت كتب الطهي بحلول عام 400 قبل الميلاد، في غضون نصف قرن من صدور أقدم الأبحاث الطبية. وفيما يتعلق بالأعمال الأدبية الأخرى، نجد أن الطعام لعب دورا فعالا في أعمال هوميروس، وهي أقدم نص أدبي معروف لنا . وفيما بعد، نجد أن بعض الأجناس الأدبية - مثل المسرحيات التراجيدية والكوميدية - كانت ترتبط بالأعياد؛ حيث كان تقديم القرابين وتناولها على المسرح يعكسان - على نحو رمزي يناسب كل جنس من تلك الأجناس الأدبية - الأنشطة التي كان الممثلون والمشاهدون يمارسونها في الاحتفالات السابقة على تقديم المسرحية. وكانت ثمة أجناس أخرى ترتبط بجلسات احتساء الشراب، ومن هذه الأجناس الكثير من الشعر القديم، ومن المفارقة أيضا وجود الكثير إلى حد ما من المناقشات الفلسفية. واتخذت مقطوعات الهجاء الرومانية هي الأخرى من الطعام وطقوس تناول الطعام وسيلة معبرة للغاية للذم الذي تصبه على كل الشرور الاجتماعية التي كانت تدعي أنها تكشف عنها. ثم ظهرت الكتابات التقنية على غرار الأدلة الإرشادية المتعلقة بالزراعة، والأبحاث الطبية المعنية بالتغذية وعلم العقاقير، وكتب الطهي التي سبق ذكرها، والأعمال المعنية بالدراسات الحيوانية والنباتية، وأعمال غريبة ذات طابع مختلط مثل القصيدة التي تتناول الطهي والتي ألفها أركستراتوس (القرن الرابع قبل الميلاد)، والقصيدة التي تدور حول صيد الأسماك التي ألفها أوبيان (في القرن الثاني الميلادي). (3-3) الأطعمة المحلية
تمثل الاعتبارات المحلية أهمية خاصة في هذه الدراسة. سنجد الكثير من الأمثلة في الفصلين الرابع والخامس. بادئ ذي بدء، توضح هذه الاختلافات مدى التنوع الزماني والمكاني للمنطقة قيد البحث، وقد ظهر الاختلاف الأكبر بين المراكز الكبرى أي المدن الكبرى - مثل: روما، والإسكندرية، وأثينا (على نطاق أصغر) - وغيرها من الأماكن، وظهرت أيضا اختلافات بين الشرق والغرب وبين المناطق الجبلية والسهول، وذلك كما سنرى في وصف إيطاليا قديما وحديثا (راجع الفصل الرابع). ولوحظ كذلك وجود تنوع بين أماكن قريبة جدا بعضها من بعض، وكانت المناخات المحلية في اليونان مناسبة لزراعة أنواع مختلفة من الحبوب وغيرها من المحاصيل في أماكن مختلفة. ويصر عالم النباتات الطبية ديسقوريدوس على أنه يتوجب على الطبيب فحص كل نبات في مكانه؛ لأن الموقع من العوامل التي تتحكم في تحديد خصائص النبات. ويسرد الشاعر الهزلي يوبولوس نباتات معينة من مدن بعينها (الشذرة 18): «الخردل القبرصي، والمحمودة، والرشاد الميليتوسي، والثوم الساموثراكي، والسيلفيوم وسيقانه من قرطاج ، والزعتر من جزيرة هايميتوس، والبردقوش من جزيرة تينيدوس» (ترجمه إلى الإنجليزية: دالبي). وبخصوص المأكولات البحرية، فإن كتاب «حياة الترف» من تأليف أركستراتوس يرشد القراء إلى أفضل الأسماك الموجودة في مدن معينة؛ فعلى سبيل المثال: تنصح الشذرة 35، 5-7، بأن «الأسماك لذيذة في بيزنطة وكاريستو، ولكن مدينة كيفالويديس في جزيرة سيكلز الشهيرة تكثر فيها أسماك التونة، وهي أفضل بكثير من هذه الأسماك» (ترجمه إلى الإنجليزية: أولسون وسينس). ويقتصر كتاب دالبي «إمبراطورية الملذات» (2000) على دراسة هذه العلاقات المحلية مع الطعام والشراب، التي تنتشر في النصوص القديمة.
وتساعدنا الاعتبارات المحلية أيضا في معرفة البلدان المطلة على البحر المتوسط قديما على نحو يشبه ما عليه الحال في العصر الحديث؛ فكما أن إيطاليا الحديثة تتسم بنزعة محلية شديدة، كانت إيطاليا القديمة هكذا أيضا. ولا نجد مصادر توضح هذه الاختلافات أفضل من مصادرنا، وهم المؤلفون الموسوعيون بلينوس وجالينوس وأثينايوس. يكشف بلينوس عن تميز المناطق المحلية في إيطاليا، ويتناول جالينوس الفروق بين الحبوب التي تزرع في مناطق آسيا الصغرى، ويتناول أثينايوس الفروق بين المدن الإغريقية في اليونان وفي آسيا الصغرى؛ كما يتحدثون عن إسبرطة وكريت وثيساليا وبيوتيا والكثير من المناطق الأخرى. تؤثر النظم الاجتماعية على الإنتاج والاستهلاك الزراعيين: راجع الفصل الثاني عن إسبرطة وأثينا.
أثينا هي الموقع الأول الذي نتناوله، وهي مدينة ذات حكم ذاتي تضم بعض السهول الخصبة - مثل منطقة إلفسينا المعروفة بزراعة الحبوب - وتكثر فيها التلال الصخرية والأراضي الصالحة لزراعة العنب والزيتون ومنتجات الغابات مثل الفحم. وكانت هذه المدينة ذات الحكم الذاتي تشمل مركزا حضريا كبيرا، فلم يكن من السهل أن تحقق الاكتفاء الذاتي؛ ولذلك كانت تكثر من الاستيراد؛ وأدى هذا إلى زيادة في الاستيراد - خاصة إبان الحقبة الاستعمارية لأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع قبل الميلاد إلى حد أقل - إذ جاءت كل أنواع الواردات التي أشاد بها المؤلفون الهزليون، وامتدحها كذلك كل من المؤرخ زينوفون (كتاب بوروي، 1) وبريكليس في الوصف الذي كتبه المؤرخ ثيوسيديديس (2، 38). وتطلعنا الروايات التي تتحدث عن عادات تناول الطعام عن وجود نمط معين لعادات تناول الطعام في أثينا. كان من الوارد الإفراط في تناول الطعام، وخصوصا تناول الأسماك (ديفيدسون 1997، ويلكنز 2000). وظهرت أيضا دعاوى تلح على التمسك بالبساطة والتقشف، كما جاء آنفا. يتحدث أثينايوس عن أسلوب أثيني في تناول الطعام، يتسم بكثرة الأطباق الصغيرة مثل الوجبة الهندية الحديثة. (مصادره هزلية ساخرة؛ ومن ثم ربما تكون مضللة.) وكانت الأعياد التي تقام في إطار الشعائر الدينية تعبر عن توجهات أيديولوجية معينة، وكانت هذه الأعياد - التي كانت أثينا تحظى بالكثير منها - تتيح للأثينيين تناول كميات من اللحم البقري وغيره من اللحوم أكثر من غيرهم من الإغريق. وكانت الأعياد أيضا تمجد قوة أثينا الاستعمارية، وأدت إلى تدفق السلع إليها، وهو ما تناولته المسرحيات الكوميدية التي كانت تقدم في أعياد ديونيسوس. وبناء على الأدلة المأخوذة من المصادر الهزلية، كان المشاهدون الأثينيون يستمتعون فيما يبدو بتصوير جيرانهم الميجاريين الذين أرهقتهم الحرب على أنهم يتضورون جوعا، وأنهم أصبحوا بحاجة إلى السلع التي كانوا عادة يصدرونها، وهي الملح والثوم. وفي المصدر نفسه، كان أهالي بيوتيا أغبياء ومستعدين لبيع المنتجات الزراعية الغالية وأسماك الإنكليس بسعر بخس (أريستوفان، مسرحية «الأخارانيون»). وأكدت أثينا بساطتها بصفة خاصة عن طريق المضيفة المركزية في المدينة - في مبنى البريتانيون - حيث كانت بعض الأطعمة كالزيتون ومخبوزات الشعير تذكر الجميع بالأطعمة البسيطة في أثينا القديمة، وذلك أيضا وفقا لأحد المصادر الهزلية، وهو الشذرة رقم 7 للشاعر الهزلي شيونيديز. ويشترك هذا الوصف الذاتي في الكثير من السمات مع روما في حقبة لاحقة، ومن الممكن عقد مقارنة مثيرة للاهتمام بين مدينة ذات حكم ذاتي تقع بعيدا عن البحر ومدينة ذات حكم ذاتي تقع في منطقة جبلية. سيكون من الوارد في المدينة الجبلية احتساء الحليب، بل الجعة أيضا، وسيقل احتمال تناول الأسماك والأطعمة المستوردة من الخارج. ومن المهم دراسة هذه العناصر، حتى لو بوصفها احتمالات نظرية. وتصلنا معلومات أقل عنها لأن المدن الكبرى كانت مراكز ليس فقط لعادات تناول الطعام المتنوعة، بل لإنتاج النصوص ونشرها أيضا (للاستزادة راجع الفصلين الرابع والخامس).
من الممكن أن تدفعنا دراسة المناطق الجبلية في اليونان وإيطاليا (فضلا عن آسيا الصغرى في العصر الروماني) إلى أن نسأل هل كان سكان هذه المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة يشتركون في أطعمة معينة مع الشعوب غير المتأثرة بالحضارة الإغريقية. يعرض هيرودوت بأسلوب مشوق عادات تناول الطعام المختلفة في أوصاف للفرس والمصريين، والسكوثيين والليبيين الرعويين في الأجزاء الأول والثاني والرابع من كتابه. وهذا الاهتمام بالتناقض يخفي أوجه التشابه، التي يساعد المنظور المحلي على إظهارها؛ فاستهلاك القمح أو زيت الزيتون - على سبيل المثال - تحدده الاعتبارات الجغرافية في البلدان المطلة على البحر المتوسط بقدر ما تحدده الممارسات الثقافية. وربما كان من المرجح أن المقيمين في الأماكن البعيدة عن المراكز القديمة في العالم كانوا يشربون الحليب ويأكلون الزبد ويزرعون أنواعا مختلفة من الحبوب، بل يقدمون أيضا القرابين على نحو يختلف بعض الشيء عن أهل المدن؛ بعبارة أخرى، كانوا أكثر ميلا لعيش حياة لا تعتمد على زيت الزيتون والنبيذ كإضافات للغذاء الأساسي المكون من الحبوب. إذا كانت هناك أوجه للتشابه بين الرعويين في إيطاليا واليونان ونظرائهم في أطراف المناطق الواقعة تحت التأثير الإغريقي الروماني، كان هناك أيضا وجهان آخران من أوجه التشابه مع الشعوب «الهمجية». ووجه الشبه الأول هو تنوع المدن الإغريقية والرومانية بسبب اتصال المئات منها بشعوب أخرى وأساليب حياة أخرى؛ ومن ثم، تمكن أثينايوس من اكتشاف بعض الحالات المدهشة لعادة تقديم قرابين من الأسماك، مع أن الإغريق لم يعتادوا ذلك. ويسلط بحثه المستفيض عن الثقافة الإغريقية الرومانية الضوء على الكثير من العادات المدهشة، بسبب اتصال الإغريق والرومان بشعوب أخرى في أنحاء بلدان البحر المتوسط. وكان وجه الشبه الثاني - الذي كان موجودا على نطاق واسع في روما في عهد الإمبراطورية كما في الكثير من المدن الإغريقية - هو الميل للترف والإسراف. وكثيرا ما يظهر هذا الاتجاه المتمثل في السعي وراء المتع في النصوص الكلاسيكية القديمة بصفته رذيلة من رذائل الهمجيين التي كثيرا ما تسللت إلى الثقافة الإغريقية الرومانية. راجع المناقشة الواردة في الفصل السابع عن الصورة القديمة التي كانت تكنها روما عن نفسها باعتبارها من الثقافات التي لم تعرف التجارة البحرية والأسماك، وعن نفور بلينوس في ارتياع من مناقشة عن المحار رأى أنها شهوانية إلى حد شائن. وازدهر هذا النوع من الترف فيما يبدو في مستعمرات إغريقية معينة، ونشأ على وجه التحديد من الإنتاج الزراعي الجيد. وازدهر الترف في روما؛ لأن مركز أي إمبراطورية عالمية كان يجتذب الثروة إليه. وكانت بعض جوانب هذه المعيشة المترفة المفترضة - كالتي كانت موجودة في مدن ساحل البحر الأيوني من آسيا الصغرى - متأثرة بثقافة بلاد فارس وغيرها من الثقافات الشرقية. ونشأت أمثلة أخرى - خصوصا في صقلية وجنوبي إيطاليا حتى خليج نابولي شمالا - من داخل الثقافة الإغريقية، فيما يبدو، ومن أقدم الأمثلة على ذلك مدينتا سيباريس وكروتون.
ومن ثم، ينبغي أن نتوقع وجود قدر كبير من التنوع في البلدان الإغريقية والبلدان الرومانية، وسنجد هذا التنوع قطعا، وهو ما يظهر في صور شتى كثيرة. (3-4) ثقافات أخرى
أشرنا في عدة مواضع إلى عادات أو مكونات معينة ترتبط بأماكن بعينها، ولكننا لاحظنا أن تأثير مكان ما على آخر وتأثير انتقال الأطعمة والتكنولوجيا من مكان لآخر؛ مهم كذلك؛ إذ شهدت المنطقة حركة دائبة للتجارة والأغراض العسكرية والسياسية في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط؛ مما أدى إلى انتشار واسع للسلع والخبرات والمهارات؛ ومن ثم، من الصعب للغاية التحدث عن الإغريق والرومان باعتبار أن وجودهم منحصر في البر الرئيسي لليونان وفي روما وإقليم لاتيوم على التوالي. منذ فترة مبكرة للغاية، احتل الإغريق جنوبي إيطاليا، وكان التأثير الروماني على آسيا الصغرى هائلا في عهد الإمبراطور أغسطس؛ ومن ثم، لا بد من صياغة الملاحظات التي تجيب عن السؤال القائل: «هل كان الناس يشربون مشروبات «البربر» المقيمين في آسيا الصغرى في عصر أسخيلوس في أوائل القرن الخامس قبل الميلاد؟» صياغة مختلفة بعض الشيء في القرن الأول الميلادي. كان الإغريق والرومان يرون البحر المتوسط باعتباره بحرهم، وأن مناطق نفوذهم محاطة بشعوب مختلفة، منها السلتيون من شمالي أوروبا المعتادون على أكل اللحوم، وشعوب البدو الرحل في شمال الصحراء الكبرى الإفريقية وفي السهوب الروسية. ولكن كانت هناك ثقافات تسيطر على أجزاء من شرق البحر المتوسط قبلهم، مثل الفرس والمصريين، من بين شعوب أخرى؛ وكان هؤلاء من غير الإغريق، ولكنهم كانوا يختلفون عن السلتيين في عدم انتمائهم للإغريق. كان من الوارد وصف الفرس والمصريين بأنهم يتسمون بالترف والتفسخ الأخلاقي - وهي موضوعات أناقشها في الفصل السابع - ولكن أي وصف مبتذل من ذلك النوع يبخس حق هؤلاء الجيران ذوي الطبيعة المركبة، الذين كانت تجمعهم علاقة طيبة بالكثير من المجتمعات الإغريقية.
لطالما كانت مصر دوما حالة خاصة في البلدان المطلة على البحر المتوسط، بفضل ما للنيل من مأثرة فريدة على الزراعة، والوفرة النادرة التي أتى بها؛ لذا كانت مصر من دراسات الحالة المهمة لهيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت موقع الثقافة الإغريقية المصرية للبطالمة في العصر الهلنستي، وكانت أيضا مرجعا استرشاديا مهما لاثنين من المؤلفين المهتمين بالتلخيص الذين نعتمد عليهم في هذا الكتاب - وهما جالينوس وأثينايوس (وأثينايوس إغريقي مصري من نقراطيس) - في القرنين الثاني والثالث الميلاديين.
وكانت بلاد فارس أيضا موضوع الكثير من المناقشات الدائرة حول الطعام والثقافة. كان الملك الأكبر يجلس على قمة نظام هرمي دقيق يوزع الطعام والموارد الأخرى انطلاقا من المركز. ووصف بعض المؤلفين الإغريق هذا النظام ب «الترف»، ولكنه يعبر أيضا عن نظام ديني مختلف، وجرت محاولات لوصفه بمصطلحات تخلو من التحامل. وكان الملك الأكبر يعبر عن علو شأنه وتفوقه عن طريق توزيع اللحم وتناوله وتنظيم مواعيد الوجبات بناء على نظام هرمي، وأيضا عن طريق تحفيز الابتكار. يصف هيراكليدس من كوما - مؤلف كتاب «تا بيرسيكا» أو «وصف بلاد فارس» الذي ألفه في القرن الرابع قبل الميلاد - المآدب الملكية كالآتي:
من بين المدعوين لتناول الطعام مع الملك، يتناول البعض طعامهم بالخارج، على مرأى كل من يرغب في مشاهدتهم، بينما يتناول آخرون طعامهم بالداخل بصحبة الملك. ولكن حتى هؤلاء لا يأكلون في حضوره، نظرا لوجود غرفتين متقابلتين، يتناول الملك وجبته في إحداهما، ويتناول الضيوف المدعوون طعامهم في الغرفة الأخرى، ويراهم الملك من خلال الستار المسدل على الباب، ولكنهم لا يرونه. ولكن، أحيانا في حالة وجود عطلة عامة، يتناول الكل طعامهم في غرفة واحدة مع الملك في القاعة الكبرى. وكلما أمر الملك بإقامة جلسة شراب (وكثيرا ما يحدث ذلك) جلس معه نحو اثني عشر من الندماء يشاركونه الشراب، وحين ينتهي هؤلاء الندماء من تناول عشائهم - فالملك يجلس وحده، والضيوف يجلسون في الغرفة الأخرى - يستدعيهم أحد الخصيان، فيدخلون ثم يشربون معه، مع أنهم لا يحتسون الخمر نفسه؛ فضلا عن ذلك، يجلسون على الأرض بينما يتكئ هو على أريكة أرجلها من الذهب، ويغادرون بعد أن يشربوا حتى الثمالة. وفي معظم الحالات، يتناول الملك فطوره وعشاءه وحده، ولكن أحيانا يشاركه تناول الطعام زوجته وبعض أبنائه. وطوال تناول العشاء تغني محظياته ويعزفن على القيثارة، وتغني إحداهن منفردة، بينما تغني الأخريات غناء جماعيا. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
ويمضي هيراكليدس بعد ذلك ليصف المأدبة نفسها، وهي مأدبة الملك، قائلا:
سيبدو «عشاء الملك» - كما يسمى - مظهرا من مظاهر التبذير والإسراف لمن يسمع عنها فحسب، ولكن حين يتفحصها المرء بعناية سيجد أنه قد روعي في تحضيرها الاقتصاد، بل التقتير أيضا. وينطبق الشيء نفسه على مآدب العشاء التي كان يقيمها غيره من الفرس ذوي المقام الرفيع؛ إذ يبلغ عدد الحيوانات التي تذبح يوميا ألف رأس؛ وتشمل الخيول والجمال والثيران والحمير والغزلان ومعظم الحيوانات الأصغر حجما؛ ويستهلك أيضا الكثير من الطيور، بما في ذلك النعام العربي - وهي مخلوقات كبيرة الحجم - والإوز والديوك. ولا يقدم من بين كل هذه الحيوانات إلا حصص متوسطة الحجم لكل ضيف من ضيوف الملك، ويسمح لكل منهم أن يأخذ معه إلى بيته كل ما يتركه من طعامه دون أن يمسه. ولكن القسم الأكبر من هذه اللحوم وغيرها من الأطعمة يحمل إلى ساحة القصر ليأكله الحراس والفرسان المسلحون بأسلحة خفيفة، الذين يحتفظ بهم الملك؛ وهناك يقسمون كل بقايا اللحوم والخبز ويقتسمونها فيما بينهم بالتساوي. وكما أن الجنود المرتزقة في اليونان يتلقون أجورهم مبالغ مالية ، يتلقى هؤلاء الرجال الطعام من الملك كمكافأة على خدماتهم. والشيء نفسه نجده فيما بين الفرس الآخرين ذوي المنزلة الرفيعة؛ حيث يقدم الطعام كله على المائدة نفسها في الوقت نفسه، ولكن حين يفرغ ضيوفهم من تناول طعامهم، يمنح الموظف المسئول عن المائدة كل ما تبقى من المائدة - ويتألف في معظمه من اللحم والخبز - إلى العبيد كافة؛ فيأخذونه ويحصلون بذلك على طعامهم اليومي؛ ومن ثم، يتوجه أعلى ضيوف الملك مقاما إلى القصر لتناول الفطور فقط؛ إذ يتوسلون ليؤذن لهم بالمغادرة حتى لا يضطرون للذهاب مرتين، ولكن يسمح لهم بالعودة إلى ضيوفهم. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
هذه المقتطفات المأخوذة من نص هيراكليدس يحفظها أثينايوس (في كتابه «مأدبة الحكماء»)، ويحاول أثينايوس حساب التكلفة المقارنة لهذا النظام ومقارنتها بتكاليف الإسكندر الأكبر، وهي محاولة مهمة وإن كانت لم تكلل بالنجاح. ويتناول أثينايوس أيضا المقارنة التي أجراها هيرودوت بين الإغريق والفرس، والمقارنة المفيدة التي أجراها زينوفون بين الحكام المستبدين الإغريق وبين الحديث عن المتع، وهو ما نتناوله في الفصلين الثاني والسابع. ويضيف أثينايوس أيضا عنصر الابتكار في الوصفات والتأثير الأشمل له على أنطونيو وكليوباترا. وهذه مناقشة مفيدة للغاية - ولكن يشوبها النقص مما يحول دون اعتبارها دراسة - عن انتقال عادات تناول الطعام الملكية من بلاد فارس إلى روما، وذلك عن طريق الحكام المستبدين الإغريق وملوك الحقبة الهلنستية. وللاطلاع على مناقشة لعادات تناول الطعام وطرق توزيع الطعام في بلاد فارس (راجع بريانت 1996: 297-309). (3-5) هل حدث تطور ثقافي؟
يعود تاريخ فخامة القصر الملكي الفارسي إلى فترة طويلة سابقة على العصر الذي نحن بصدد مناقشته في هذه الدراسة. وبنهاية الدراسة التي بين أيدينا، نجد أن القصر الإمبراطوري في روما قد أصبح يحظى بثراء يفوق ثراء الملك الفارسي. هل لنا أن نتحدث عن «تطور فن تذوق الطعام» في البلدان الإغريقية الرومانية في هذه الحقبة؟
بوجه عام، كانت المنتجات المحلية والطقوس الاجتماعية مرتبطة بالزراعة والمناخ، ولم تكن مرهونة بالتجديد السريع، مع أنه من الوارد أن تطرأ تغيرات بمرور الزمن في المنتجات المزروعة أو الأنظمة السياسية والاجتماعية. وغالبا ما كان التغيير في أساليب تناول الطعام والمنتجات المتاحة وافدا من الخارج؛ ولذلك كان المستهلكون في روما يستفيدون من الفواكه الجديدة مثل الكرز والخوخ والمشمش التي جاءت إلى المدينة حين أخذت الإمبراطورية تبسط نفوذها في آسيا الصغرى، وأصبحت تتوفر أنواع جديدة من الطيور والأسماك فيما يبدو. وفي فترة أقدم - كما سنرى في الفصل الثاني - جاءت عادة الاتكاء بدلا من الجلوس أثناء تناول الطعام إلى البلدان الإغريقية والبلدان الإيطالية القديمة من الشرق الأدنى. وظهرت تطورات أخرى في الطعام وفي عادات تناول الطعام سنناقشها. هل من الجائز إذن أن نصرح بأن الناس - في نهاية العصر الذي يشمله هذا الكتاب - كانوا يأكلون بطريقة أكثر تقدما مما كانوا عليه في البداية؟ وكما سنرى فيما يأتي، كان الإغريق يؤمنون قطعا بالتطورات الثقافية من هذا النوع، على الأقل كما يتضح من خلال الأيديولوجية والأسطورة. ولنا أن نكون على يقين إلى حد ما بأن غالبية السكان عموما لم تشهد أيا من هذه التطورات، وأن أزمات نقص الطعام - التي كان يتعرض لها الفقراء في الريف - كانت مزمنة في القرن الثاني الميلادي كما كانت في القرون السابقة؛ ويشهد جالينوس ببلاغة على هذه الحقيقة. أما بين الطبقات الراقية الثرية، فقد ظهرت تطورات، ولكن يبدو أنها لم تستمر طوال الحقبة. وهنا أستعرض بإيجاز ظاهرتين ثقافيتين: وهما الطاهي وكتاب الطهي، وآثارهما على التطور الثقافي.
الطهاة بطبعهم شخصيات ملتبسة. وتشمل الكلمة الإغريقية المكافئة لكلمة «طاه» - «ماجيروس» - تقريبا المهن الحديثة مثل الطاهي والقصاب، فضلا عن دور ذبح الحيوان لتقديمه كقربان؛ فمن ناحية، كانوا من الحرفيين المكلفين بأداء الأعمال المرهقة والمسببة للاتساخ، مثل ذبح وتقطيع الحيوانات وطهي اللحوم وغيرها من الأطعمة في أماكن مشبعة بالأبخرة والدهون. ومن ناحية أخرى، كان يرتبط وجودهم باللحم الذي كان يحظى بمكانة اجتماعية وأهمية دينية. في العالم القديم، كان من الوارد أن يكونوا من المنتفعين أو العبيد أو الحرفيين الماهرين الذين يستأجرون. في بريطانيا المعاصرة، من الوارد أن يكونوا من العاملين المكلفين بالشواء في الهواء الطلق ؛ ومن الوارد أيضا أن يكونوا من طهاة المطاعم البارعين. ونظرا لهذا الالتباس، نجد أنهم موجودون في عدد من الأماكن المختلفة، وتصورهم النقوش الأثرية وهم يقدمون القرابين في تجمعات دينية معينة (بيرثيوم 1982). وهم موجودون أيضا في حاشية الحكام الأقوياء؛ فكان هناك طهاة في فريق الموظفين التابعين لملك بلاد فارس وقادته العسكريين. ويعقد هيرودوت مقارنة لافتة بين العادات الفارسية والإسبرطية (9، 82):
حين رأى باوسانياس (خيمة خشايارشا)، والبسط الجدارية المطرزة المعلقة على جدرانها، وزخارفها الفضية والذهبية البديعة، استدعى الخبازين والطهاة الذين يعملون لدى القائد ماردونيوس وأمرهم بتحضير وجبة من نفس النوع الذي كانوا معتادين على تحضيره لمولاهم السابق؛ فلبوا أمره. وحين رأى باوسانياس الأرائك الفضية والذهبية مكسوة بأقمشة جميلة والموائد الذهبية والفضية وكل شيء مجهزا للوليمة بمنتهى الفخامة، لم يكد يصدق عينيه من مشهد الطيبات الموضوعة أمامه، وأمر خدمه على سبيل المزاح بإعداد وجبة عشاء إسبرطية متقشفة عادية. (ترجمه إلى الإنجليزية: دي سيلين كورت)
بالتزامن مع ذلك - على حد قول زينوفون - كانت تقدم البدع ومستحدثات الأمور إلى الملك الفارسي، حيث كانوا: «يسافرون (لأجل الملك الفارسي) في طول البلاد وعرضها بحثا عن مشروبات يستمتع باحتسائها، ويتولى أفراد شتى مهمة تحضير أطباق يستمتع بتناولها» (أجيسيلاوس 9، 3). وهكذا كان الملك يخدمه الطهاة في قصره الملكي، وحين كان على سفر، سواء أكان مع جيشه أم دونه. وكانت للفرس وجبات تختلف عن وجبات الإغريق، كما يوضح هيرودوت (راجع ما سبق).
من الصعب أن نجزم هل هذا يؤلف «أسلوب طهي مميزا» أم لا، ولكن حاشية الطهاة ساعدت قطعا في التعبير عن القوة الفائقة للملك. وحين اكتشف الإغريق الإمكانيات التي يقدمها الطهاة، هل أخذوا يأكلون «على الطريقة الملكية» أكثر، أم أخذوا يستعينون بخدمات المزيد من الطهاة؟ لا يوجد دليل واضح على أنهم فعلوا ذلك، على الرغم من ظهور قدر كبير من المناقشات الهزلية عن أن الطهاة أدخلوا «الترف» إلى المنازل.
ويعود فضل ظهور أحد أساليب الطهي الملكية المميزة إلى الإغريق في صقلية على الأرجح، ويشهد على عمل الطهاة في قصور الحكام المستبدين هناك كل من زينوفون وأفلاطون وأحد نصوص أبقراط (راجع الفصل الثاني). ويلاحظ بدء ظهور الطهاة في النصوص الهزلية الأثينية التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد؛ فهل هذا ينم عن وجود منافسة ملحوظة فيما بين أبناء الطبقة الراقية الأثينية لاستعراض الأحدث والأفضل في الطهي الحديث؟ ولا يتيح لنا الدليل أن نقر بهذا الرأي.
يدعي أحد المتحدثين في كتاب أثينايوس أن الطهاة كانوا عادة أحرارا قبل الحقبة المقدونية، وصاروا بعدها عبيدا. واستعان المقدونيون قطعا بالطهاة في القصر الملكي، وأخذوا بدورهم يصدرونهم إلى روما في القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك فضلا عن كل وسائل الترف الأخرى التي كان كاتو وبوليبيوس يتبرمان منها في أعقاب غزو مقدونيا واليونان. وكان الطهاة والخبازون هم عوامل التأثير الأجنبية هذه، تماما كما كانوا في خيمة ماردونيوس. أما في روما، فيبدو أن الطهاة كانوا من العبيد، وهم يظهرون كعبيد قطعا في كتاب أثينايوس «مأدبة الحكماء» وفي كتاب بيترونيوس «عشاء تريمالكيو»، ويوصفون فيهما بأنهم من العبيد المهرة الملازمين لأهل المنزل، فيما يبدو.
إن الصلة بين الطهاة وكتب الطهي مثيرة للاهتمام. تقدم هذه الكتب إرشادات الطهي وتفترض وجود المهارات المطلوبة. ويهتم كل من ميثاكوس وأركستراتوس وأبيكيوس بمهارات الطهي، ولكن لديهم اهتمامات أخرى أيضا، كما سنرى. ولكن عند مناقشة تطور الطهي في البلدان الإغريقية الرومانية، نجد أن من الصعب أن نلاحظ نشوء أسلوب طهي مميز بطريقة منهجية. ولم يبق من كتابات ميثاكوس إلا قدر قليل لا يتيح لنا أن نحكم على أسلوبه في الطهي. يرفض أركستراتوس النكهات المركبة ويؤيد طهي الأسماك الطازجة ببساطة وأناقة، ويختلف عنه تماما أسلوب الطهي القائم على التوابل الغزيرة الذي يرد في كتابات أبيكيوس الذي يستخدم نكهات متعددة مشتقة من نباتات مستوردة ومحلية. وما تبقى من هذه الأعمال ومن أعمال أخرى لمؤلفين مثل باكساموس نادر ومتنوع إلى حد لا يتيح لنا وصف التطورات التي طرأت على فن تذوق الطعام. لا يأخذ الإغريق سمات ملحوظة عن بلاد فارس ومصر على نحو واضح، ثم ينقلونها إلى الرومان، بل يبدو أن روما تكيف العادات الإغريقية بحماس في هذا المجال كما هي الحال في مجالات أخرى كثيرة، ثم تكيفها لتناسب نظامها السياسي. من المتوقع أن تكون المآدب في روما فاخرة ومعبرة عن المنتجات الزراعية الوافدة من كل أنحاء الإمبراطورية، كما كانت الحال عند الملك الفارسي. وكان الطعام مهما كذلك لغرض التفاخر؛ فلا بد أن يكون وفيرا، أو لا بد أن يقوم مقام درع منيرفا («فيتيليوس» من تأليف سيوتونيوس) أو خنزير بري بعد قنصه («عشاء تريمالكيو» من تأليف بيترونيوس). ولكن لا يوجد أي اهتمام واضح بالخلاصات أو روعة النكهة، مثل اهتمام أركستراتوس. من المفترض أن القصر الإمبراطوري في روما يحتوي فيما يبدو على كل العناصر الضرورية لتوفير أسلوب طهي رائع، وذلك فيما عدا الاهتمام بحسن تمييز الطعام. ويبدو أن الفخامة والتباهي قد حلا محل الرقي والأناقة، وذلك على حد علمنا. (4) الروايات الأسطورية التي تفسر التطور الثقافي
ناقشنا الأدلة الملتبسة على تطور الطهي في اليونان أثناء ذلك العصر. لا شك أن الإغريق والرومان كانوا يؤمنون أن الطهي كان يرتبط ارتباطا وثيقا بالثقافة وتطور الحضارة، أيا كان الأسلوب الذي طبقوه فعليا. وكان الطعام في هذا النظام يضارع فيما يبدو أكبر أنظمة الطعام الأخرى في العالم، مثل أنظمة الطعام في الهند والصين اللتين تكونان أفكارا عن الطعام وتبنيان نظاما طبيا يستند إلى مكان الإنسان في الكون.
كانت الثقافة الإغريقية - والثقافة الرومانية (بعد إضافة تعديلات) - تدمج الطعام برؤيتها للعالم، وفي مرحلة مبكرة نسبيا عرضت روايات التطور الثقافي كيف انحدرت البشرية من عصر ذهبي كان الطعام متوافرا فيه تلقائيا؛ وعرض نموذج بديل كيف ارتقت البشرية من حياة بدائية همجية متدنية إلى حياة ثقافية راقية. وفيما يأتي أورد بعض الأمثلة على ذلك. وفي مرحلة مبكرة أيضا، ظهرت أساطير كانت تفسر وصول أطعمة مهمة معينة إلى اليونان وإيطاليا، ووصلت هذه الأطعمة بمساعدة الآلهة والأبطال الشعبيين. وأناقش هذه الأساطير أيضا أدناه. كانت الأساطير المهمة على وجه التحديد هي الأساطير التي تهتم بتعريف العلاقة بين البشر والحيوانات، مثل الأساطير التي تحكي عن هرقل الذي جلب الماشية إلى العالم الكلاسيكي القديم، وعن بروميثيوس الذي أنشأ نظام تقديم القرابين من الحيوانات إلى الآلهة. وكان الطهي يقع في صميم أساطير التطور هذه، وفي صميم النظام الطبي أيضا. وحين ظهرت نظرية للهضم وضعها أبقراط وغيره، نجد أن النموذج الذي أخذوا به كان فيما يبدو عبارة عن عملية طهي للطعام داخل الجسم، تعتمد على حرارة الجسم نفسه، وكانت عبارة عن وسيلة لتحويل الطعام إلى مواد مغذية للدم وللأنسجة الأخرى. وفي الفلسفة أيضا، نجد أن أفلاطون في كتابه «طيمايوس» يدمج تغذية الجسم في روايته عن خلق الكون والإنسان (راجع الفصل السابع).
قدم الإغريق والرومان عددا من القصص المختلفة عن تقدم البشرية، من البدائية أو حديقة عدن إلى التدخل الإلهي. والأمثلة التي سأقدمها هنا هي رؤية هسيود لأسطورة بروميثيوس، وهي عبارة عن قصيدة «ترنيمة إلى ديميتر» التي كتبها في فترة مبكرة، وقصة أسطورية ظهرت بعد ذلك عن وصول إله الخمر ديونيسوس إلى اليونان. وبالإضافة إلى هذه الروايات الأسطورية التي تصف كيف جلب الآلهة الحضارة، سنورد قصة علمية لمؤلف يتبع مدرسة أبقراط، وقصة أخرى تقوم على الوعظ الأخلاقي من كتابات أوفيد. وكانت التأملات القائمة على الوعظ الأخلاقي، التي تناقش تناول الطعام والشراب، منتشرة في العصور القديمة ولا بد من إدراكها بناء على حقيقتها.
أولا رواية هسيود عن أسطورة بروميثيوس، وهي نسخة إغريقية لقصة جنة عدن الواردة في سفر التكوين في العهد القديم، وكان البشر حتى ذلك الحين يأكلون مع الآلهة ولم يحملوا هما للتدفئة أو توفير الطعام. ثم نشب خلاف بين بروميثيوس الذي ينتمي للجبابرة وزيوس الذي ينتمي لآلهة الأوليمب؛ إذ ذبح بروميثيوس ثورا وقسمه إلى عدة أجزاء مختلفة غير متساوية، واختار زيوس الجزء الذي يحتوي على عظام الفخذ الملفوفة في الدهن، وترك للبشر اللحم ملفوفا داخل معدة الثور الضخمة، فكانت أشبه بطبق ضخم من أكلة الهاغيس الاسكتلندية؛ فغضب زيوس وقرر أن ينتقم بحرمان البشر من النار؛ فانتاب بروميثيوس الهم على ضعف البشر عند حرمانهم من النار، فسرق النار من زيوس ومنحها إلى البشر في سويقة نبات الشمر. وانتقم زيوس بأن أوعز للآلهة بخلق أول امرأة، وهي باندورا. فضلا عن ذلك، أصبح كل من الرجل والمرأة مضطرين إلى العمل في الحقول؛ لأن زيوس أخفى أسباب الحياة في التربة، وأصبح على البشر في هذه المرحلة زراعة الأرض. وتوجد تفاصيل متنوعة معقدة، ولكن التفسير الرائع الذي يقدمه جون بيير فيرنان (1989) يؤكد على عناصر معينة؛ فهذه أسطورة سلبية كما ورد في سرد هسيود (فالزراعة شاقة والنساء مريبات إلى أقصى درجة)، ومن الواضح وجود ضغائن متأصلة بين الآلهة والبشر بسبب إخفاء الضروريات، وخصوصا وسائل الحياة، وأصبح من الممكن في هذا التوقيت فقط انتزاع الطعام من الأرض الضنينة عن طريق الإنتاج الزراعي. وغضب زيوس من بروميثيوس الذي ينتمي للجبابرة، ولكن البشر هم الذين تعرضوا للعقاب في خضم الخلاف بين هذين الإلهين. ويتذكر البشر خضوعهم للآلهة بتقديم القرابين من الحيوانات كلما أكلوا لحما.
ولكنها أيضا أسطورة ثقافية مفعمة بالمعاني؛ فأصبحت البشرية الآن تحظى بالنار والطهي وطقس تقديم القرابين والتكنولوجيا، وأصبحت تعرف الزراعة والزواج. يعتمد تقديم القرابين في المستقبل على تقسيم القربان إلى أقسام متساوية توزع على الجميع، ثم تطهى، وأصبح الطهي يشغل ركنا مهما في النظام الثقافي. ويقطع الحيوان - الذي يجب أن يكون حيوانا مدجنا، والتدجين من نتاج الزراعة - بعناية وتشوى أكثر الأجزاء ارتباطا بالحياة مثل نخاع عظام الفخذ والأعضاء الحيوية، ثم تقدم قربانا للآلهة، ويسلق اللحم والأحشاء ليأكلهما البشر. يقدم هسيود أسطورة بروميثيوس في قصيدته «ثيوجوني» أو «أجيال الآلهة»، وقصيدته الزراعية «الأعمال والأيام». إذن، فالأسطورة تعود إلى فترة مبكرة (من المعتقد أن هسيود كتب القصيدتين في القرن الثامن قبل الميلاد)، وهي تأتي أيضا في صميم روايات هسيود عن الآلهة وعن الزراعة. ويوضح تحليل فيرنان للأسطورة قوتها بصفتها أسطورة مختصة بثقافة معينة، واتضحت هذه القوة في قرون لاحقة. ويبدو أن هوميروس يشترك مع هسيود في نفس الطريقة الأساسية لتقديم القربان، مع أنه يدرج عدة صيغ مختلفة لذلك بالتفصيل. وتصور بوضوح فكرة اعتماد طقس تقديم القرابين على قتل الحيوانات المدجنة المستخدمة في الزراعة في الجزء الثاني عشر من ملحمة «الأوديسا»؛ إذ يصف هوميروس كيف أن الماشية التي يملكها إله الشمس لم تكن مدجنة، وكان من المتعذر تقديمها كقربان بالطريقة المعتادة. يتجاهل رفاق أوديسيوس هذا الأمر لشدة جوعهم، ويبدءون في تقديم القرابين:
ونظرا لأنه لم يكن لديهم جريش الشعير على السفينة، أخذوا يقطفون الأوراق الطرية الطازجة من شجرة بلوط عالية. وعند انتهاء الصلاة، ذبحوا الأبقار وسلخوها، واستخرجوا عظام الفخذ ثم غطوها بطية مزدوجة من الدهن، ثم وضعوا اللحم النيئ فوقها. ولم يكن لديهم خمر لإراقته فوق القربان المشتعل، بل صبوا الماء بدلا منه وهم يبدءون في شواء الأجزاء الداخلية من القربان. وحين التهمت النيران عظام الفخذ وذاقوا الأحشاء، أخذوا يقطعون بقية القربان إلى شرائح ويشوونها على السيخ ... ثم بدأت الآلهة في إظهار علامات وعجائب لملاحي السفينة؛ إذ بدأت جلود الحيوانات تتحرك وبدأ اللحم المثبت على الأسياخ - سواء النيئ أو المشوي - يخور، وسمعنا أصواتا تشبه أصوات الماشية.
ولم يفلح تقديم القربان لأن رفاق أوديسيوس استخدموا منتجات طبيعية - مثل أوراق شجرة البلوط والماء - بدلا من المنتجات الزراعية الصحيحة - حبوب الشعير والخمر - وذلك كما يشير هوميروس. واستخدموا أيضا ماشية مقدسة بدلا من الماشية المستخدمة في الزراعة (فيدال ناكيه، 1981).
وتحكي أسطورة بروميثيوس قصة عن العلاقات بين البشر والآلهة، وتقدم «تفسيرا» أو «أصلا» للصورة الإغريقية لطقس تقديم القرابين. و«تفسر» ثلاث أساطير أخرى كيف أصبح لدى الإغريق ماشية وحبوب وخمر، ويستند التفسير إلى بطل شعبي إلهي مثل بروميثيوس. وكان من المعتقد أن الخلاف بين زيوس وبروميثيوس اندلع في ميكوني، وهو مكان في شبه جزيرة بيلوبونيز. وتؤكد الأساطير الأخرى على فكرة الحركة، وبالتحديد جلب الأطعمة إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط.
جاءت الماشية إلى اليونان لأول مرة حين جلبها نصف الإله والبطل الأسطوري هرقل، وكان من بين المهام المضنية التي كلف بها مهمة سرقة الماشية التي يملكها الوحش ذو الرءوس الثلاثة جيريون الذي كان يعيش على جزيرة في المحيط الأطلنطي، وتمكن هرقل من أداء هذه المهمة، ونقل الماشية بمعدية إلى البر الرئيسي الإسباني في قدح عملاق، ثم ساق قطيع الماشية عبر جنوبي فرنسا، ودار حول سواحل إيطاليا وصقلية وعبر البلقان حتى وصل إلى اليونان. وقد توقف في الكثير من الأماكن في طريقه إلى هناك ليقدم أحد الحيوانات كقربان، وعند كل مكان من أماكن تقديم القرابين، كان يقيم مذبحا يتحول فيما بعد إلى أساس لمستعمرة. وكان أهم مكان من هذه الأماكن الكثيرة هو روما؛ حيث كان المذبح المقصود هو مذبح «أرا ماكسيما»، ومعناه المذبح الكبير في «ساحة الماشية»، وقتل هرقل بالقرب منه الوحش العملاق كاكوس الذي كان يسكن في كهف وحاول سرقة الماشية منه. وكما هي الحال بخصوص كل الأساطير التي نحن بصددها الآن، تبين أسطورة هرقل وماشية جيريون كيف دخل اليونان نوع مهم من الأطعمة وافدا من مكان آخر. وكما هي الحال بخصوص الحالات الأخرى أيضا، ارتبطت الرحلة ووصول الطعام الجديد بأنشطة الملل الدينية والأعياد؛ فلم تكن الأساطير بمعزل عن الدين (بيركرت 1979).
شكل 1-3: الأرز من الحبوب التي أصبحت الآن من محاصيل البلدان المطلة على البحر المتوسط (مثلا في إسبانيا وإيطاليا)، ولكنه كان من المحاصيل الآسيوية النادرة في العصور القديمة. ومع ذلك، فقد انضم إلى مجموعة الأدوية التي يقرها ديسقوريدوس وجالينوس، بل ذكر أيضا في المسرحية التراجيدية التي ألفها سوفوكليس - «تريبتوليموس» - التي سميت تيمنا برفيق ديميتر، إلهة الحبوب. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
جلبت الحبوب إلى اليونان ديميتر ورفيقها تريبتوليموس. ومن المعروف أن سوفوكليس قد ألف مسرحية بعنوان «تريبتوليموس»، ويبدو أنها كانت تتناول رحلة ذلك البطل الأسطوري عبر آسيا الصغرى، ولم يبق من المسرحية إلا شذرات - نوه أثينايوس عن معظمها - وهي تشير إلى أطعمة متنوعة، بعضها مكون من الحبوب مثل الأرز والجعة، وبعضها ليس كذلك مثل صلصة «جاروم» (صلصة السمك المختمر). وبمجرد أن صارت الحبوب المستنبتة مستخدمة على نطاق واسع في اليونان، كرم الإغريق تريبتوليموس وديميتر وابنتها بيرسيفوني في عدد من مراكز الملل الدينية ، وكان أهمها يقع في إلفسينا، وكانت الإلهة تتلقى في هذا الموقع باكورة الحصاد. وظهرت طائفة دينية غامضة، كانت تربط على نحو ما بين حياة الذرة وحياة الإنسان، وكان من ينضمون إليها يوعدون بشكل من أشكال الحياة الآخرة. ووردت أسطورة اغتصاب (أو اختطاف) بيرسيفوني في قصيدة قديمة، وهي قصيدة هوميروس «ترنيمة إلى ديميتر»، وتصف هذه الأسطورة العلاقة بين حياة و«موت» بيرسيفوني وزراعة الذرة واعتماد البشر على هاتين الإلهتين: فحين تحزن ديميتر، تصيب المجاعة الناس (فولي 1993). وكانت أسطورة ديميتر ترتبط أيضا بعيد مهم في أثينا والكثير من المدن الأخرى - وهو عيد ثيسموفوريا - وسنناقشه في الفصل الثالث. ومن الواضح أن ديميتر جلبت فوائد اجتماعية أخرى مع الحبوب، وهي «ثيسموي» أو القوانين المحلية التي يعيش الناس وفقا لها، وجلبت أيضا رعاية الحمل ودرجة من درجات السيطرة على الحياة والموت.
ونلاحظ قوة هائلة مشابهة في الأسطورة الثالثة التي تدور حول الطعام والخمر وديونيسوس إله الأعناب. في استهلال مسرحية يوربيديس «الباخوسيات»، يخبرنا الإله بأنه ارتحل عبر آسيا وجلب معه تكنولوجيا تصنيع النبيذ، ويصل إلى طيبة - محل ميلاده - حيث يعاقب العائلة الملكية لأنهم لم يقبلوا ألوهيته. وتحكي الصيغ الأخرى للأسطورة عن وصول ديونيسوس إلى منطقة أتيكا. وتقبل إيكاريوس الخمر من الإله، ولكن حين قدمه إلى غيره من القرويين، سقطوا سكارى، واشتبهوا في أن سبب ذلك يعود للسحر، فقتلوا إيكاريوس، وشنقت ابنته إريجوني نفسها. وكان الموت يرتبط باحتساء الخمر؛ وكان ديونيسوس إلها للعالم السفلي وإلها للأعناب. ونناقش الأعياد المتناقضة المرتبطة بديونيسوس باستفاضة في الفصل السادس، أما ما نؤكد عليه الآن، فهو وصول صناعة النبيذ من الخارج.
وكانت هذه المنتجات الوافدة من أماكن أخرى - مثل الماشية والحبوب والخمر - أساسية للثقافة الإغريقية والرومانية، ولكن وظيفة كل منها كانت تختلف عن الأخرى؛ فالحبوب كانت هي الطعام الأساسي، وكانت الحيوانات - ولا سيما الماشية - تحظى بمكانة عالية، ولكن معظم السكان كانوا يأكلونها على نحو نادر نسبيا، وذلك على أقل تقدير. وكان الخمر من المشروبات الأساسية، ولكن كان لا بد من استعماله باحترام نظرا لتأثيره المسكر.
ترسخ قصص تطور الحضارة ووصول الأطعمة الأساسية هذه مبادئ أساسية معينة؛ فلا يمكن انتزاع الطعام من الأرض إلا ببذل مجهود كبير في العمل الزراعي. ومن الصعب النجاح دون مساعدة إلهية، ولكن تلك المساعدة تمنحها الآلهة على مضض، وفقط بشروط صعبة. وليست الأطعمة المستوردة الوافدة إلى اليونان وإيطاليا من سمات التجارة في تلك الفترة التاريخية فحسب، بل أيضا من سمات الأساطير التي تعود إلى أقدم العصور. وتجلب التطورات التي تطرأ على الطعام والثقافة الفوائد والمشاكل معا، وتصبح المشاكل محتومة بالطبع إذا انتشر النمط الفكري الذي تقوم عليه أسطورة بروميثيوس برؤية هسيود، وهو أن البشر كانوا يعيشون في وئام مع الآلهة قبل تلك الوليمة المشئومة. (4-1) قصص ذات قالب علمي وشعري عن التطور البشري
يقدم أبقراط في كتاب «الطب القديم» قصة مفيدة عن تطور الطب (3):
لم يكن ليكتشف الطب في بادئ الأمر، ولم تكن لتظهر أي أبحاث - إذ لم تكن ضرورية - لو لم يختلف النظام الغذائي والطعام والشراب المخصص للمرضى عن النظام الغذائي والطعام والشراب المخصص للأصحاء، ولو لم تظهر خيارات أفضل من هذه الخيارات. ولكن في واقع الأمر، حتمت الضرورة ذاتها على البشر أن يبحثوا ويكتشفوا فن الطب؛ لأن المرضى لم يكونوا يستفيدون من الطعام نفسه الذي كان يستفيد منه الأصحاء، ولا يستفيدون منه الآن. ومن وجهة نظر أبعد، لا أرى أن النظام الغذائي المستخدم الآن للأصحاء كان سيكتشف إذا كان يكفي أن يأكل البشر ويشربون نفس ما تأكله وتشربه البقر والخيول وكل الحيوانات فيما عدا الإنسان، مثل نباتات الأرض والفواكه والخشب والعلف؛ إذ إنها تحصل على التغذية من هذه الأطعمة وتنمو وتعيش حياة تخلو من الآلام، دون أن تحتاج لأي أنظمة غذائية أخرى. والآن، أرى أن البشر كانوا يعيشون في البداية على طعام من هذا النوع، أما أسلوب حياتنا الآن، فقد اكتشفه السابقون وعدلوا منه، وما زال آخذا في التطور على مدى مدة زمنية طويلة، كما يخيل إلي؛ فكم عانوا من منغصات جمة بسبب هذا النظام الغذائي الشديد والبهيمي ، وبسبب أكل الأطعمة النيئة والخالصة ذات القوى الهائلة. وكان من الممكن للناس الآن أن يعانوا من متاعب مشابهة بسبب هذه الأطعمة، وأن يتعرضوا لألم شديد ويصابوا بالمرض، ويموتوا سريعا أيضا. من المرجح أنهم كانوا يتعرضون آنذاك لمعاناة أقل وطأة بسبب هذه الأطعمة لأنهم كانوا معتادين عليها، ولكنهم كانوا يتسمون بالعنف آنذاك أيضا. من المنطقي أن نفترض أن معظمهم ماتوا، وخصوصا ذوي البنية الضعيفة منهم، بينما صمد ذوو البنية الأقوى لمدة أطول؛ لذلك أصبح البعض الآن يتناول الأطعمة القوية بسهولة، بينما يواجه آخرون بسببها آلاما ومنغصات شديدة؛ ولهذا السبب، يبدو لي أن القدماء بحثوا عن طعام يناسب طبيعتهم، واكتشفوا الطعام الذي لدينا حاليا؛ لذلك كانوا ينقعون القمح فيحصلون على الحبوب، ويغربلونها ويطحنونها وينخلونها ويعجنونها ويخبزونها، فيحصلون على الخبز، وكانوا يصنعون من الشعير كعكة الشعير. وأخذوا يطبقون الكثير من الإجراءات الأخرى على هذه الحبوب ويسلقونها ويخبزونها ويخلطونها، مازجين الأطعمة الخالصة واللاذعة مع الأطعمة الخفيفة، ومعدلين كل شيء بما يلائم الطبيعة البشرية والقدرات البشرية.
يتتبع المؤلف التابع لمدرسة أبقراط أحد نماذج التقدم ويبني تقدم العلم الطبي على التطور الضروري للجنس البشري؛ حيث إنه ينفصل عن جيرانه الحيوانات من خلال نظامه الغذائي؛ وهذا هو النموذج المعاكس للانحطاط من العصر الذهبي الذي ناقشه هسيود وغيره، ممن كانوا يرون أن العمل والمهارات هي الشرور الضرورية المفروضة على البشرية، حين فرض زيوس عليهم الاحتياج وقلة الحيلة.
ويمكننا أن نقارن هذه القصة التي تحكي عن تطور الحضارة بالنسخة الهزلية منها الواردة في مسرحية ألفت في فترة لاحقة، وهي الشذرة 1 من مسرحية «السامثراكيون» من تأليف أثينيون. وفيها يدعي أحد الطهاة أن مهنته ساعدت على الارتقاء بالبشرية من الوحشية والهمجية إلى الحياة المتحضرة وحسن السلوك: «بسبب المتع التي ظللت أتحدث عنها، كف الكل عن التهام جثة، وقرروا أن يعيش بعضهم مع بعض، وتجمع الناس وسكنوا المدن، وكل ذلك بسبب فن الطاهي، كما أسميه» (السطور 34-38، اقتبسها أثينايوس 14، 661).
يرد النموذج المعاكس للنموذج الذي ناقشه المؤلف التابع لمدرسة أبقراط على نحو منتظم في الشعر الروماني، ويتبع هذا النموذج النمط الذي تحدث عنه هسيود بخصوص الانحدار من عصر ذهبي. ونجد صيغا لافتة من هذا النموذج في قصيدة «مسخ الكائنات» (الجزء الأول) للشاعر أوفيد، وفي قصيدة «عن طبيعة الأشياء» (الجزء الخامس) للشاعر والفيلسوف لوكريتيوس.
كانت الأرض نفسها - دون إكراه ودون أن يمسها معول أو يغضن وجهها محراث - تنتج كل شيء من تلقاء نفسها، وكان الناس راضين بالأطعمة التي كانت تخرجها الأرض دون زراعة، وكانوا يجمعون ثمار التوت والفراولة (الفريز) الجبلية والكرز البري والتوت الأسود التي كانت تلتصق بشجيرات العليق الشائكة، أو يجمعون ثمار البلوط المتساقطة من شجرة البلوط ذات الأغصان الوارفة التي خلقها جوبيتر ... وبعد مدة طويلة، أصبحت الأرض تنتج الذرة أيضا - دون أن تحرث - وابيضت الحقول المحروسة بفعل كيزان الذرة الثقيلة، ثم تدفقت أنهار الحليب وأنهار الرحيق، وتقطر العسل الذهبي من شجرة البلوط الخضراء. (أوفيد 1، ترجمه إلى الإنجليزية: إنيس)
يصف لوكريتيوس في قصيدته «عن طبيعة الأشياء»، الجزء الخامس - وهي دراسة لأصل الكون في قالب شعري بحسب تعاليم إبيقور - البشر وهم يتجولون مثل الحيوانات البرية، ويقتاتون على الفواكه والتوت، ويحصلون على الماء من الأنهار، ولا يعلمون شيئا عن النار.
وهذه هي أساطير الحضارة، كما تصورها الإغريق والرومان. وهذه الأساطير ليست متضاربة تماما مع بعض جوانب قصصنا العلمية الراهنة؛ إذ نجد أن أعمال أوفيد ولوكريتيوس تشمل مجتمعات الصيد وجمع الثمار الأولى في تاريخ البشرية، بينما نجد أن نقل التقنيات الزراعية إلى البلدان المطلة على البحر المتوسط من الشرق الأدنى تتحدث عنه أساطير ديونيسوس وتريبتوليموس.
كان الإغريق والرومان يختلفون عن غيرهم من شعوب البلدان المطلة على البحر المتوسط، وكانوا يرون أنفسهم مختلفين بأطعمتهم وعلاقتهم بالحيوانات والأرض، ومن حيث تطويرهم لنظام المدينة ذات الحكم الذاتي المستقل. وحظي التقدم إلى هذا المستوى الحضاري بالاحتفاء، كما في شذرة شهيرة مأخوذة من مسرحية «حاملات السلال» للشاعر الهزلي هيرميبوس (63)، تتخيل ديونيسوس على أنه قبطان سفينة تجلب كل الطيبات إلى أثينا لإقامة حفل عشاء وجلسة شراب (اقتباس من صفحة 274، ويلكنز 2000، الفصل الرابع ). أو كانت تصور الأطعمة التي وفدت بحرا على أنها تمثل مشكلة؛ فالبحر يجلب أشياء خطيرة من الخارج، ويتسبب في تعريض نقاء أهل البلاد للخطر؛ وهذا هو بالضبط رأي بلينوس (9، 53 ومواضع أخرى) إذ استعرض حالة الحضارة الرومانية في القرن الأول الميلادي.
فما الذي نستنتجه من هذه القصص المختلفة؟ من ناحية جوهرية، كان الطعام يقع في صميم الكثير من مظاهر التبادل والاختلاط الثقافي، وكان ما هو إغريقي يتميز عما هو أجنبي من حيث الطعام. وحددت الفلسفة أهمية الطعام، وكذلك قيوده ومحاذيره - التي كان لا بد من معرفتها - حتى لا تعرض الأخلاق للخطر. وميز أفلاطون تمييزا مهما بين الطعام الممتع (الذي يعده الطاهي) والطعام المفيد. ويتغلغل هذا الخطر الأخلاقي في ثنايا الفكر القديم وصولا إلى فرفريوس ودعاة التقشف الذين جاءوا بعده؛ ويتغلغل في الطب أيضا، على الأقل كما لوحظ في فكر جالينوس. ولكن الطب كان ينادي بآراء مختلفة عن الطعام والطهي. كان الطهي جزءا من العملية المفيدة التي يمر بها تحضير الطعام للهضم، الذي هو في حد ذاته شكل من أشكال الطهي. وفي كتاب «فن الطب» من تأليف أبقراط، يأتي الطهي كجزء من مراحل التمدن والتحضر، ويناسب النموذج الذي تحدث عنه هسيود بصفته إجراء مهما كان يميز البشر عن الحيوانات (مع أن فكر أبقراط أكثر تقدما من حيث تطبيقه للفكرة مقارنة بهسيود الذي تغلب عليه الكآبة). وفي مواضع أخرى من كتابات أبقراط، نجد أن قواعد النظم الغذائية الواردة في بحث «الحمية 2» ناشئة من النظريات الأولية القائمة على النار والماء في الجزء الأول. وكل شيء مشتق من النار والماء؛ الكون والعالم والبشر والحيوانات والنباتات.
سنجد أن هذه التفسيرات الإيجابية والسلبية واضحة في كل ما سنتناوله في الفصول الآتية. تؤثر هذه الأنماط الفكرية تأثيرا مهما على الأنماط الاجتماعية والدينية التي نناقشها في الفصلين الثاني والثالث، وتؤثر أيضا على الكثير من أشكال التعبير الأدبي؛ مما كان له أكبر الأثر على ردود الفعل حيال طقوس تناول الطعام في العالم القديم، وذلك في أعمال من تأليف جوفينال وبيترونيوس وسيوتونيوس .
مقدمة الفصل الثاني
تسبب الفصل بين الأغنياء والفقراء في المجتمع في ظهور فروق من حيث نوعية النظام الغذائي، وإن لم يكن بالضرورة من حيث الطعم؛ فكان من المفترض أن يكون القاسم المشترك هو أسلوب الطهي وتوافر المكونات، وكان بوسع الفقراء في الريف تناول نظام غذائي يعتمد على النشويات، مثل العصيدة بأنواعها والخبز غير المختمر، وكانوا يضيفون إليها إضافات من الأعشاب والسلاطات حتى يصبح طعمها مستساغا أكثر. ومن الصعب أن نصدق أنهم في الفترات التي ساد فيها الفقر لم يشربوا الحليب الطازج أو يصنعوا الزبد، أيا كان الازدراء الذي كان يكنه الناس لتلك الأطعمة. وكان الفقراء في الحضر - في روما على الأقل - يعيشون في مساكن دون وسائل للطهي، ولا بد أنهم كانوا يضطرون لاستعمال أطعمة نظيرة للأطعمة السريعة يشترونها من الباعة المتجولين، وكانت تلك الأطعمة تشكل قسما كبيرا من غذائهم. ومن المفترض أن البروتين الحيواني المتوافر في الأسماك أو الطيور كان من الأكلات المميزة التي يتناولها الناس على فترات متباعدة، ولم يكن من الأغذية الأساسية المألوفة. وكان هذا نظاما غذائيا يعتمد على الزراعة وتربية حيوانات المزارع.
وكانت الخيارات المفضلة في أساليب الطهي شأنا يعتمد على الذوق والنزعة العملية لدى كل من الأغنياء والفقراء على حد سواء؛ فأنواع الخبز غير المختمر مثل الخبز الإغريقي مناسبة لتغميس أنواع العصيدة التي تشبه سلاطة الحمص أكثر من الخبز المختمر. وكان من المفترض أن زيت الزيتون وصلصة الجاروم والنبيذ كانت من الأطعمة الشائعة في معظم الأنظمة الغذائية. وليس من الجديد أن ينظر الأغنياء إلى الطعام باعتباره وسيلة للتفاخر الاجتماعي، بدلا من أن تقتصر فائدته لديهم على المتعة أو حتى التغذية؛ فلهذه الظاهرة أصل تاريخي يمتد على مدى قرون، ومن الممكن مضاهاة سلوكيات الإسراف في الطعام في عصرنا الحالي بالولائم الملكية في العصور الوسطى التي كانت تقدم فيها طيور الإوز العراقي والطاووس، كما يمكن مضاهاتها على نفس النحو بكئوس مشروب المارتيني التي كان يفضلها جيمس بوند - وكان يطلب من الساقي مزجها وليس رجها - باعتبارها مؤشرات غير دقيقة للرقي أو الثروة أو السلطة. فنحن غالبا ما نشترك في افتراضات شائعة ويقينية بخصوص استحسان المكونات النادرة أو شديدة الندرة، وربما نكتشف أن من قد ينتابهم حاليا الاشمئزاز من فكرة تناول بيض السمك والنبيذ الفوار، سيتحدثون بتبجيل عن الكافيار والشامبانيا حين يربحون جائزة اليانصيب. ونبات الكمأة الأبيض ذو الرائحة النتنة الموجود في عصرنا الحالي يشبه نبات السيلفيوم الذي كان موجودا في روما، وهو ليس نادرا ومرتفع الثمن فحسب، بل ينظر إليه أيضا على أنه من مؤشرات الذوق الرفيع وحسن الاختيار.
وبالطبع، يوجد أكثر من مناسبة واحدة لمناقشتها حتى فيما بين الأغنياء؛ فقد يرى بعض فئات من المجتمع أن أي سلوك يعبر عن الإسراف هو سلوك سوقي، وقطعا مرت فترات من التاريخ كان ينظر إلى الإسراف في الطعام على أنه سلوك ينم عن الضعف، بل ينظر إليه أيضا في عصور الحروب أو الأزمات على أنه ينم عن التجرد من مشاعر الوطنية. كان من الفظاظة في العصر الفيكتوري أن يذكر المرء نوع الطعام الذي يأكله في وقت الطعام؛ فالأهم من ذلك بكثير هو استخدام أدوات المائدة المناسبة وفهم أنواع الخمور التي يفضل تناولها مع أطباق معينة، فكل ذلك من علامات الإلمام بخصائص الطبقة الاجتماعية وقواعد السلوك التي كانت تجمع بين الصفوة الحاكمة.
وهذه جوانب من الفكرة نفسها، وهي فكرة القيم المشتركة التي تجمع بين من يتناولون الطعام معا؛ فالتجاهل الشديد لما أمامك من أطباق والاهتمام المتباهي بالفروق في طعم وأصل الطعام الذي ستأكله، كلاهما موقف يقصد به إيصال رسالة. تتعلق الرسالة في الموقف الأول بالجدية أو التقوى أو الرجولة، أما في الموقف الثاني فتتعلق بالطموحات الفنية والحسية. فهو موقف أشبه ما يكون بالمقارنة بين غاندي والذواقة الفرنسي بريا سافاران، ولكنه ليس موقفا يقارن بين الوليمة والمجاعة؛ إذ إن كلا منهما يفترض وجود طعام وفير أو على الأقل كاف، ويفترض وجود المال اللازم لشرائه. فحالة الإخاء التي تسود بين من يتناولون الطعام معا هي بيت القصيد وليس قائمة الأطباق المقدمة.
وكان أركستراتوس - الذي عرف عنه أنه متذوق للجمال - يؤيد معالجة المكونات الفاخرة المنتقاة بعناية معالجة محدودة، وتكاد تكون متقشفة بدلا من الكميات الوفيرة المنمقة، بينما ينم عشاء تريمالكيو عن ذوق يفضل الإسراف الذي يكاد يشبه إسراف هوليوود في قمة مجدها، من حيث التماس المزيد لإثارة الحسد بدلا من الإعجاب. ومن الممكن أن نفترض أن الموقفين كليهما يعبران عن الطموح باعتبارهما وجهتي نظر عن الطعام، وليس باعتبارهما تعبيرا خالصا عن عصرهما.
الفصل الثاني
الإطار الاجتماعي لعادات تناول الطعام
لا يطلب صبية حي درام تشابل سلاطة الجمبري. ستطلب أنت حساء. (جوك ستاين، من أهم مدربي كرة القدم في إنجلترا)
كانت الاختلافات المحلية متأثرة تأثرا شديدا بالعوامل الجغرافية والمناخية، وقد ناقشت بعضها بإيجاز في الفصل السابق، وغالبا ما كانت العوامل الاجتماعية والسياسية على القدر نفسه من الأهمية؛ لذا استفادت إسبرطة من وادي يوروتاس الخصب، الذي يبدو أنه كان ينتج أنواعا معينة من الخس والخيار والتين وغيرها من المحاصيل. ويبدو أن هذه الثروة الزراعية قد أدت إلى إقامة ولائم مترفة، وذلك بحسب قصيدة غير مكتملة كتبها الشاعر ألكمان الذي عاش في القرن السابع (الشذرة 19 للشاعر الغنائي اليوناني)، ولكن المناخ السياسي المادي في المدينة ذات الحكم الذاتي كان يتطلب فصل الرجال المقاتلين عن عائلاتهم وفرض نظام غذائي متقشف صارم. يصف المؤلف الهلنستي ديكاركوس (استشهد به أثينايوس) طبيعة المائدة الجماعية: يقدم للجميع كعك الشعير ونبيذ وقطعة صغيرة من اللحم في الحساء الأسود الشهير، وربما يقدم أيضا زيتون أو جبن أو تين أو أرانب برية أو الحمام المطوق. يشير كتاب آخرون إلى إدخال أطعمة موسمية أيضا إلى المائدة الجماعية، ويؤكدون أن الطيور والطرائد كانت تقدم أيضا. وكانت الوجبات الجماعية المخصصة للرجال أو «سوسيتيا» هي الظاهرة التي تلفت الانتباه، كما كانت تلفت الانتباه في كريت (يقدم أثينايوس مصادر للفكرة الثانية في كتابه). ويعرض ديكاركوس نظاما كان مطبقا في إسبرطة، وكان يستخدم المنتجات الغذائية المحلية بنجاح، ولكن تطبيقه كان يقتصر بصرامة على نطاق البنية الاجتماعية. يبدو أن إسبرطة كانت من المدن ذات الحكم الذاتي، التي كان طعامها «متقشفا» - بالمعنى الحديث - وليس مترفا في العصر الكلاسيكي القديم. كانت إسبرطة تعارض الترف بشدة، كما يوضح أثينايوس حين نشر مقالا نقديا كتبه أحد مواطني مدينة سيباريس، الذي كانت مدينته أبرز مثال للترف في الفكر القديم. ولا أقصد بذلك أن أقول إنهم كانوا محرومين من تناول غذاء مفيد، طالما كانت هناك أفكار واضحة عن الاحتياجات الغذائية للجنود في العصور القديمة (راجع ما يأتي)، ونستطيع أن نكون واثقين بأن الجيش الإسبرطي لم يخرج على معدة فارغة.
وعلى النقيض من ذلك، نجد أن معظم مساحة إقليم أتيكا ذو طبيعة صخرية وغير خصبة، والأراضي الزراعية الصالحة للزراعة فيه محدودة (راجع الفصل الأول). ولم يقف هذا النقص الزراعي عائقا أمام تعمير مدينة كبيرة في ظل حكم استبدادي، ثم حكم ديمقراطي. وكان قدر كبير من هذا التعمير يقوم على التطلع إلى خارج البلاد، وجلب سلع إلى أثينا كان يتعذر زراعتها فيها. وتأثر الكثير من المدن في البلدان الإغريقية والرومانية على نحو مماثل بالبنية الاجتماعية في كل منها، وبالأيديولوجيات القائمة على تلك البنى. وروما هي أكبر مثال على مدينة أصبحت رائدة على مستوى العالم بناء على الفتوحات العسكرية في إيطاليا وخارجها، ومع ذلك كان أهل روما يرون (بعضهم على الأقل) أن هويتها تكمن في أصولها الزراعية البسيطة في وادي نهر التيبر.
أثرت البنى السياسية والاجتماعية تأثيرا كبيرا في الأطعمة التي كان يتناولها الناس وأساليب تناولها، وكان اللحم دوما من الأطعمة التي تحظى بمكانة عالية نظرا لتكلفة إنتاجه، ولكن كثيرا ما كان للأطعمة الأخرى دور كبير. وكان حجم المنازل وعددها من العوامل المهمة أيضا - ما هي نسبة المساحة المخصصة للطهي وتناول الطعام في منازل مدينة ما؟ - وشكل الغرف وأنواع الأثاث. وكثيرا ما كانت أدوات المائدة والأثاث تصب في خانة التفاخر الاجتماعي في الولائم على الأقل، شأنها شأن الأطعمة الجديدة وغير المعتادة. وكانت البنى الاجتماعية هي التي تحدد أي الضيوف هم المناسبون وأيهم غير المناسبين، وهل يجوز دعوة النساء إلى مأدبة رسمية أم لا ، وهل يتحقق مبدأ من المساواة بين حاضري المأدبة أم لا.
لدينا دراية أكبر في معظم المدن القديمة بعادات تناول الطعام لدى الأغنياء، ولكن هذا الفصل لن يركز باستمرار على الطبقات الراقية وحدها؛ فالطعام كان يضمن (أو لم يضمن) بقاء جميع الناس على قيد الحياة، وكان على المستوى الاجتماعي أن يضع معالم في دورة حياة غالبية الناس مثل طقوس الميلاد والزواج والموت. وكانت الأطعمة تضع معالم أيضا في السنة الدينية والمناسبات العامة على مدار العام، وذلك في الولائم العامة والخاصة التي كان كثيرا ما يشارك فيها كل المواطنين، وأحيانا العبيد. وكانت المنزلة الاجتماعية عادة ما تحدد نوعية الطعام الذي كان يتناوله الناس، ولكن كانت تحدده عوامل أخرى أيضا، وأهمها معدل الجهد المبذول في وظائف معينة كانت تتطلب نظاما غذائيا يحتوي على سعرات حرارية مرتفعة؛ ومن ثم، كان العمال المشتغلون بأعمال يدوية والعبيد والرياضيون والجنود يحتاجون إلى كمية طعام تفوق المعدل العادي، حتى يتسنى لهم أداء وظيفتهم الاجتماعية. ويوضح جالينوس - كما سنرى - أن الشخص العادي سيمرض إذا تناول الغذاء المخصص لرياضي أو لعامل مشتغل بعمل يدوي.
ومن ثم، فإن تناول الطعام كان مترسخا في النظام الاجتماعي في الثقافة الإغريقية الرومانية، كما في معظم الثقافات الأخرى. وكانت الوجبات تفصح عن المنزلة الاجتماعية الرفيعة أو عدم وجودها، ونادرا ما كان يتناول أحد طعامه فحسب بطريقة محايدة اجتماعيا. سنلاحظ أن الفقراء كانوا على الأرجح يأكلون المنتجات الزراعية المحلية، بينما كان بوسع الأغنياء أن يضيفوا إلى النظام الغذائي التقليدي المنتجات المستوردة وأدوات المائدة المرتفعة الثمن. أما السمات الأخرى، فسيكون من الأصعب تمييزها؛ فتناول الطعام في الأماكن الخاصة والعامة ليس دائما أمرا يسهل علينا فهمه. وفوق ذلك، كثيرا ما يكون الفارق غير واضح بين تناول الطعام في مناسبات دينية وتناول الطعام في مناسبات علمانية. يمتدح الكثير من النصوص القديمة التراث المتعلق بعادات تناول الطعام، وخصوصا إذا كان يقترن بطقس ديني، وكثيرا ما يصاحب هذا المديح انتقاد للأسواق وللتنمية التجارية. ومع ذلك - كما سنرى - كانت الأسواق ضرورية لتوزيع الطعام، وأصبح النشاط التجاري جزءا من توفير الأطعمة حتى للمعابد؛ ومن ثم، فإن بعض المناقشات الأكثر تطرفا التي يبدو أنها تقوم على توجهات اجتماعية تنتمي في الواقع إلى النظرية الأخلاقية التي وضعها بعض الفلاسفة، وهو الموضوع الذي نناقشه في الفصل السابع.
يبدأ هذا الفصل بوصف لإحدى المآدب يعد من أكثر الأوصاف التي وصلت إلينا من العصور القديمة اكتمالا. وهذه المأدبة أيضا هي - بحسب ما قاله أثينايوس - أكثر المآدب بذخا التي شاهدها في ذلك التاريخ (حوالي سنة 300 قبل الميلاد). وقد يكون أثينايوس محقا في ذلك أو غير محق، ولكن ما قاله يساعدنا على الأقل على تأمل تعريفه للبذخ وتصور أي أمثلة أخرى مخالفة لذلك. يقدم هيبولوكوس المقدوني تفاصيل وليمة إفطار بمناسبة حفل زفاف في خطاب لصديقه بالمراسلة لينسيوس من ساموس:
في مقدونيا - كما قلت - حين أقام كارانيوس وليمة زفافه، بلغ عدد الرجال المدعوين عشرين (أو مائة وعشرين)، وما إن اتكئوا على الأرائك حتى قدمت إلى كل منهم أقداح فضية كهدايا، وتوج كل منهم أيضا بعصابة رأس ذهبية قبل دخول الغرفة، وكان ثمن كل واحدة منها خمسة دنانير مدينية ذهبية. وحين فرغت أقداحهم، قدم إليهم صحن برونزي ذو تصميم كورنيثي عليه رغيف من الخبز يماثل حجمه حجم الصحن، وكانت موضوعة فوقه كميات كبيرة من الدجاج والبط والحمام والإوز، وتناول كل ضيف صحنه وناوله - بكل ما عليه - إلى عبيده الجالسين خلفه، وقدم الكثير من الأطباق الأخرى المتنوعة، وأعقبها صحن فضي آخر، كان عليه أيضا رغيف كبير وإوز وأرانب برية وماعز صغيرة وأنواع أخرى من الخبز وطيور الحمام المطوق والحمام والحجل وكمية كبيرة من الطيور الأخرى. ويقول: «منحنا هذه أيضا لعبيدنا، وحين شبعنا غسلنا أيدينا، ثم قدموا إلينا الكثير من الأكاليل من كل أنواع الزهور، وفوق ذلك كله قدموا إلينا تيجانا ذهبية صغيرة يبلغ وزنها وزن التاج الأول.»
يقول هيبولوكوس إنه علاوة على ذلك كله، فإن بروتياس - سليل بروتياس ابن لانيس مربية الإسكندر - كان يسرف في شرب الخمر (وكان يعرف عنه ميله للإسراف في شرب الخمر مثل جده بروتياس الذي كان يرافق الإسكندر) وشرب نخب الجميع. ثم يكتب هيبولوكوس ما يأتي: «حين سكرنا، أسرعت إلى الغرفة عازفات الناي ومعهن الموسيقيات وعازفات السامبوكا من رودس. وخلتهن عاريات، ولكن الناس أخبروني أنهن كن يرتدين سترات قصيرة بلا أكمام. وأخذن يغنين أغنية افتتاحية ثم انصرفن. وجاءت فتيات أخريات تحمل كل واحدة منهن جرتين من صمغ المر مربوطتين معا بشريط ذهبي، وكانت إحداهما من الفضة والأخرى من الذهب؛ وكانتا بحجم وحدة القياس المعروفة ب «قوطولي»؛ ثم قدمن هذه الجرار لكل ضيف. وكان ما تلا ذلك عبارة عن إعلان عن الثراء أكثر مما كان مأدبة عشاء؛ رأيت صحنا فضيا مطليا بالذهب إلى درجة سمك كبيرة، وكان حجمه كبيرا ويتسع لخنزير مشوي كامل، بل كان الصحن يحمل خنزيرا كبيرا أيضا، وكان ممددا على ظهره فظهر للناظرين أن بطنه يمتلئ بالكثير من المأكولات اللذيذة؛ إذ كان محشوا بطيور السمان المشوي والبط المشوي ...» •••
وتمضي القصة لتحكي عن المزيد من شرب الخمر والمزيد من صحون اللحم ووسائل الترفيه (بما في ذلك المشاهد التمثيلية الحية) والمزيد من الهدايا الفاخرة (للاستزادة وللاطلاع على الترجمة والتعليقات المتعلقة بها، راجع دالبي 1988) ويقارن هيبولوكوس بالتحديد بين هذه الوليمة والطعام الشحيح الذي يقدم في الأعياد الأثينية ومدارس الفلسفة في أثينا.
إن مناسبات تناول الطعام من المناسبات المميزة، وسأناقش حفلات الزفاف باستفاضة فيما يأتي؛ فتوقيت تناول الطعام ومكانه من العوامل المهمة للغاية. وشهدت أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الثالث قبل الميلاد تغيرات كبيرة في عادات تناول الطعام بالتوازي مع التغير الاجتماعي والسياسي، وحين أصبحت المدن ذات الحكم الذاتي في البلدان الإغريقية واقعة تحت هيمنة المقدونيين وخلفاء الإسكندر الأكبر، أو خاضعة لحكمهم بالكامل؛ بدأ يتضح تأثير العادات المقدونية. وبمرور الزمن، لما أخذت الممالك التي حلت محل تلك المدن تعزز مكانتها ويتنافس بعضها مع بعض على السلطة والفخامة، بدأت صور تناول الطعام تتغير: ويخبرنا أثينايوس في مقدمته لهذه الفقرة أن هيبولوكوس ولينسيوس تبادلا مجموعة من الرسائل يصفان فيها المآدب التي حضرها خلفاء الإسكندر الأكبر، وفي إحدى الرسائل - وهي مفقودة الآن - وصف لينسيوس الاحتفال بعيد أفروديت في أثينا بحضور الملك أنتيجونوس (من النبلاء المقدونيين)، بينما كان الملك بطليموس (ربما بطليموس الثاني: راجع دالبي 2000: 374) يحضر مأدبة أيضا في أثينا. ووصفت رسالة أخرى مأدبة عشاء للحاكم المقدوني لأثينا ديميتريوس بوليوركيتيس (أو «مقتحم المدن»)، أقامتها عشيقته المحظية لاميا (للاطلاع على تفاصيل هذه المأدبة - التي ربما أقيمت في ماخور - راجع دالبي في الموضع المشار إليه آنفا). وكان خلفاء الإسكندر الأكبر يبسطون نفوذهم على منطقة شرق البحر المتوسط بالمعنى السياسي، ولكنهم بمعنى ثقافي أكبر عززوا تلك السلطة بالسفر إلى أثينا لتناول الطعام أحيانا في أحد الأعياد، وأحيانا في مناسبة غير دينية. وهذا المزج بين السلطة المقدونية وتناول الطعام في أجواء احتفالية في المدينة الإغريقية ذات الحكم الذاتي يشبه عيد البطلميا - الذي أنشأه بطليموس الثاني وأرسينوي في الإسكندرية تكريما لبطليموس الأول - ولكنه كان مأخوذا جزئيا من نموذج احتفالات ديونيسيا التي كانت تقام في المدن ذات الحكم الذاتي مثل أثينا (راجع الفصل الثالث). والبطلميا من الأحداث التي سجلها أثينايوس أيضا، ونناقش اهتمامه بهذه الأحداث فيما يأتي. (1) القرن السابق لمأدبة كارانيوس
تأتي عادات تناول الطعام المتأثرة بأكثر من بلد، التي اتبعها خلفاء الإسكندر الأكبر، في أواخر قرن يبدو أنه مهم للغاية في تاريخ عادات تناول الطعام القديمة. ففي أواخر القرن السابق (405 قبل الميلاد) وضع أريستوفان على لسان ديونيسوس كلاما يعتمد على التلاعب بالألفاظ في مسرحيته «الضفادع» (85)، يساوي فيه بين تناول الطعام مع المقدونيين والتصور المثالي لتناول الطعام مع الأتقياء ممن فارقوا الحياة. ويفصح عدد من المآدب الفاخرة (من غير المعروف إن كانت من وحي الخيال أم لا) التي كانت تقدم في أثينا خلال هذه الفترة؛ عن التأثيرات الوافدة من مقدونيا وتراقيا. يحكي وصف هزلي يرد في مسرحية «بروتيسيلاوس» (الشذرة 41) من تأليف أناكساندريديس عن مأدبة أثينية تتفوق على وليمة زفاف باذخة أقيمت للأثيني إفيكراتيس، وأقامها أبو العروس، وهو كوتيس ملك تراقيا. وتؤكد نصوص أخرى أن الصفوة في أثينا كانت تولي وجهها شمالا عند تقديم أصناف من الأطعمة في المآدب بغرض التنافس. وفيما يبدو، فقد أثر مواطنو تراقيا بأدوات المائدة التي اشتهروا بها، والمقدونيون بمنازلهم الفخمة وعاداتهم المتعلقة بالقنص وأكل اللحوم؛ في جيرانهم الجنوبيين. ويتضح في الأدب الأثيني مدى التعارض بين أيديولوجية قائمة على الفقر النسبي والبساطة، وبين الرغبة في التنافس لدى الأغنياء لتقليد عادات مقدونيا بوصفها قوة ناشئة. ويصف نيسيماكوس - وهو شاعر هزلي أثيني آخر من القرن الرابع - وليمة فخمة في مسرحيته «مربي الخيول»، يظهر فيها أحد أفراد سلاح الفرسان في أثينا وهو يتناول طعاما أبعد ما يكون عن البساطة، في قاعات سقفها مصنوع من خشب الأرز تذكر بقصور مقدونيا. ولدينا من الفترة نفسها أيضا قصيدة «العشاء الأتيكي» من تأليف ماترو من بيتان، وهي محاكاة ملحمية ساخرة تصف في قالب شعري مأدبة فاخرة في أثينا. وبدأت هذه التباشير الأولى في الكتابة تظهر بوضوح أكثر بكثير في أواخر القرن، حين بسط المقدونيون سيطرتهم على البلدان الإغريقية، وأخذت المآدب تقام في أثينا من أجلهم، بحسب الوصف الوارد في رسائل هيبولوكوس.
وكان للتطورات التي شهدتها صقلية في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد تأثيرها كذلك؛ ففي صقلية أيضا كانت هناك قصور جمعت بين الأراضي الزراعية الخصبة وآكلي الطعام ذوي الحس المميز ممن يأكلون باستمتاع. وذكر ساتيروس في كتابه «حيوات» (= أثينايوس 12، 541) أن الطاغية السيراقوسي ديونيسوس الثاني كانت لديه مجموعة من الغرف في قصره تحتوي على ثلاثين أريكة، وبالإضافة إلى هذه السعة المكانية الهائلة، كان ثمة اعتقاد شائع بين الناس أن الطاغية يحظى بقدر لا محدود من المتع (1، 17-23). ويتحدث زينوفون في حواره المعنون ب «هاييرو» - الذي سمي على اسم الطاغية السيراقوسي الذي حكم في القرن الخامس قبل الميلاد - عن الذائقة المتخمة للطاغية بعد أن سئم الأطعمة المتقنة الصنع والنكهات الحريفة واللاذعة، وسئم سهولة توافر الموائد الزاخرة بألوان الطعام، على النقيض من المواطن العادي الذي لا يحصل على الأكلات اللذيذة المميزة إلا في الأعياد. وجاءت من صقلية أوائل كتب للطهي باللغة الإغريقية - وهي الكتب التي ألفها ميثاكوس وأركستراتوس - وجاءت منها كذلك ثقافة كانت تروج للمتعة. يقدم أركستراتوس وصفات محضرة بنكهات حريفة ولاذعة («أوكسيا» و«دريميا»، في الشذرات 9 و23 و24 و37 و38، أولسون وسينس 2000)، تشبه الوصفات التي وردت في كتاب زينوفون «هاييرو». ويبدو أن هذه المتع قد صدرت إلى البر الرئيسي لليونان؛ حيث يظهر الطهاة مثلا (وبعضهم من صقلية) في أثينا، حسبما يذكر كل من أفلاطون («الجمهورية» 373، 4)، والأطباء أتباع مدرسة أبقراط («الحمية 1»)، وزينوفون («التذكارات» 2، 1، 30)، وعدد من المسرحيات الكوميدية الأتيكية (راجع ويلكنز 2000، الفصل السابع). ولم يكن هؤلاء الطهاة الأثينيون ملتحقين بالعمل في القصور، بل كانوا يعرضون خدماتهم في السوق أو في أماكن أخرى؛ ومن ثم، كان بوسع المواطنين الأغنياء تقديم طعام فاخر يميزهم عن غيرهم من أفراد الطبقة الراقية، ويوفر عنصر التباهي القائم على المنافسة. وكان بوسع هؤلاء المواطنين تحمل تكلفة تشغيل موظفين إضافيين بالإضافة إلى العبيد والخدم المكلفين عادة بإعداد الطعام في منازلهم. ويبدو أن عادة استئجار الطهاة قد ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، فضلا عن غير ذلك من سمات الترف الواردة في الفصل السابع.
يحمل هؤلاء الطهاة في جعبتهم الكثير من الحكايات التي يحكونها بأنفسهم في المسرحيات الكوميدية الإغريقية، وهم من الشخصيات النمطية مثل المحظية والمتطفل. وهم يعبرون على الأرجح عن واقع اجتماعي إلى حد ما، ولكن غالبا ما يستخدمهم الشعراء الهزليون للجمع بين حرارة المطبخ وبلاغة وفخامة غرفة الطعام؛ إذ يظهر الطاهي وهو يتحدث عدة مرات عن مهاراته الممتازة، على نحو أشبه بما يفعله طاه في برنامج تليفزيوني أو صاحب مطعم في العصر الحديث؛ فلديهم التوليفة نفسها التي تجمع بين مهارات الإعداد والطهي وبين الادعاءات الرنانة والمال الوفير. ولكن إذا تأملنا زبائن هؤلاء الطهاة المستأجرين، نجد أنهم يختارون تشغيل خبراء في الطهي بدلا من عبيدهم هم، ويختارون التباهي بقدرتهم على الحصول على صور الطهي الجديدة وربما الأجنبية. وأركستراتوس نموذج لافت للغاية بوصفه نتاجا لهذا القرن، الذي تأتي في نهايته الولائم التي أقامها الملوك ممن جاءوا بعد الإسكندر الأكبر كما ناقشنا فيما سبق، وكذلك هو من استهل كل الجوانب الأخرى للسلطة الملكية في الحقبة الهلنستية.
كان أركستراتوس من جيلا في صقلية، وألف قصيدة من الشعر الملحمي اسمها «هيدوباثيا» أو («حياة الترف»)؛ وهي قصيدة هزلية ولكنها تستحق مكانة مميزة أيضا، وتتحدث إلى قارئ من المتصور أنه يسافر في أنحاء البلدان المطلة على البحر المتوسط بحثا عن أفضل أنواع الأسماك وغيرها من الأطعمة، ويرفض الأطعمة غير المرتفعة الثمن بفظاظة؛ إذ يميز بين متناولي الطعام المفضلين لديه وبين من يتناولون أطباقا جانبية من الخضراوات على اختلاف أنواعها (الشذرة 9 أولسون وسينس)، ويرفض «كل أصناف الحلوى الأخرى التي تدل على الفقر المدقع، وكذلك الحمص المسلوق والفول الأخضر والتفاح والتين المجفف» (الشذرة 60، 13-15 أولسون وسينس، ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز).
يعد أركستراتوس جزءا من هذا التوسع الواضح في عادات تناول الطعام الراقية في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم تكن قصيدته عن الطهي والسفر هي الأولى من نوعها؛ إذ كان ثمة صقلي آخر - هو ميثاكوس - قد ألف من قبله كتاب طهي نثرا. وظهر على الأرجح - كما رأينا - المزيد من عادات تناول الطعام القائمة على التفاخر في البلدان الإغريقية في مدن جنوبي إيطاليا ومدن صقلية؛ حيث كانت قصور الحكام المستبدين توفر الظروف الضرورية لإنتاج الكتب التي تتناول الطهي. ويوضح جودي (1982) أن تلك الظروف تتضمن وجود فائض زراعي، ومجموعة من الآكلين يتصفون بحسن التمييز وقد يفضلون طريقة تحضير معينة على أخرى، وأخيرا الكتابة. وفي الغالب، فإن الظرف الأخير هو الذي أدى إلى ظهور كتب الطهي في عام 400 قبل الميلاد تقريبا، وليس في القرن السادس حين كانت المدن الغنية مثل سيباريس وكروتون في فترة ازدهار. ولم يؤلف أحد الأبحاث المصاغة نثرا عن أي موضوع قبل منتصف القرن الخامس، وجاءت في صدارة تلك الأبحاث الأبحاث الطبية والأعمال الفلسفية العلمية من تأليف أبقراط. وبالإضافة إلى النصوص، كان هؤلاء الطهاة المحترفون مستعدين للعمل بالأجر. ولم تكن توجد مطاعم في العالم القديم، وكان الناس عادة يتناوبون تناول الطعام بعضهم في بيوت بعض، على نحو أشبه بالمجتمعات الأرستقراطية في أوروبا قبل أوائل القرن التاسع عشر عند بدء ظهور المطاعم . وفي ظل عدم وجود مطاعم، كان الموسرون في العصور القديمة يستعينون بطباخ يصبح مكلفا بشراء الطعام وتحضيره وتقديمه، وذلك بمساعدة العبيد المقيمين في منزل الأسرة أو مساعديه. ويظهر مصطلح «هيدوباثيا» أو «تجربة المتعة» أو «حياة الترف» - وهو في الواقع عنوان قصيدة أركستراتوس - لأول مرة في أبحاث زينوفون ويتعلق بشراء الأطعمة الراقية وغير ذلك من الأنشطة الممتعة. ثم يلاحظ زيادة الاهتمام أيضا بالمخاطر الاجتماعية «للترف» بدءا من أواخر القرن الخامس فصاعدا، خاصة في نصوص مؤرخي القرن الرابع أمثال ثيوبومبوس وطيمايوس؛ لذا كانت البلدان الإغريقية في القرن الرابع مستعدة لتدفق الثراء المقدوني حين أخذ فيليب الثاني والإسكندر الأكبر يبسطان سيطرتهما على المدن الإغريقية. كانت المآدب المقدونية توصف أحيانا بأنها متأثرة بالطابع العسكري؛ فتصف الشذرة (7) من مسرحية كوميدية أثينية - وهي مسرحية «فيليب» من تأليف نيسيماكوس (تتحدث عن فيليب الثاني ملك مقدونيا على ما يبدو) - مأدبة مقدونية تشهد خلطا بين الرماح والأسلحة، وبين أصناف الطعام وقطع الأثاث. ومن الجائز أيضا أن أركستراتوس حين نصح بأن يقتصر حاضرو المأدبة على عدد قليل لتجنب ما يسميه جلوس مجموعة هائلة من الجنود المرتزقة إلى المائدة (الشذرة 4، أولسون وسينس)، كان يقصد المقدونيين:
لا بد أن يتناول الجميع الطعام على مائدة واحدة مجهزة لمأدبة أنيقة. وليكن العدد الكلي للحاضرين ثلاثة أو أربعة، أو لا يزيد بأي حال عن خمسة، أما إذا تجاوز العدد ذلك فستصبح لديك مجموعة من جنود المرتزقة الجشعين.
ولكن كان الجنود المرتزقة من السمات السائدة في المناطق التي تفتقر إلى الاستقرار في البلدان الإغريقية بصفة عامة في القرن الرابع قبل الميلاد.
يولي أركستراتوس اهتماما بالأسماك؛ فهو ينتمي إلى فئة صفوة الآكلين ممن يفضلون النظام الغذائي الذي يحتوي على نسبة بروتينات مرتفعة، ولكنها صفوة أنيقة تمتدح الأناقة البسيطة التي تميز الخبز وأصناف المأكولات المصنوعة من الشعير وأفضل أنواع الأسماك المضافة إليها نكهات خفيفة. وهو يتجاهل الطهاة الصقليين (وهم الطهاة الذين ربطت بينهم وبين قصور الطغاة) الذين كانوا يضيفون نكهات الجبن إلى الأسماك ؛ ومن ثم، كانت هناك درجات من عادات تناول الطعام الجيدة، كما هي الحال في الكثير من أساليب الطهي الحديثة، وبعض الدرجات كانت تركز على التفاخر بالثروة، مثل كارانيوس؛ وكانت تركز درجات أخرى على النكهات المركبة والغنية (وهي النكهات التي انتقدها أركستراتوس)؛ بينما كانت تسعى درجات أخرى إلى الأناقة والبساطة (للاستزادة، راجع ويلكنز وهيل 1994: 21-24، أولسون وسينس 2000).
تعد البساطة، بصفتها فئة فرعية من المآدب الأنيقة، من السمات المهمة في عادات تناول الطعام الرسمية في الكثير من العصور، بما في ذلك العصر الحالي، كما يناقش شون هيل في مقدمته؛ فالبساطة تتغلغل أيضا في الكثير من الكتابات الأدبية التي تتناول الطعام. كما سنرى في الفصل التاسع، يصور أريستوفان أسلوب الحياة الريفية على أنه مثالي ولم يتلوث بمال المدينة الذي يتسبب في الفساد، في حين أننا نجد أن الشعر الوعظي من تأليف هوراس وجوفينال وأوفيد وكذلك الشاعر الذي كان ينسب شعره إلى فيرجيل؛ يصرح بأن عادات تناول الطعام الراقية موجودة لدى الريفيين من الرومان. (2) القرون التي أعقبت كارانيوس
بعد أن تناولت بإيجاز القرن السابق للإسكندر الأكبر، أبدأ الآن بتناول تأثير هذه التطورات على روما، ثم الصورة التي يرسمها أثينايوس لنا بكل هذه المواد المتاحة لديه. وسيعزز هذا من الاهتمام الذي نوجهه للعادات المتبعة في تناول الطعام لدى الطبقة الراقية؛ إذ إن لها تأثيرا في معظم الثقافات يتجاوز بكثير نسبتها من السكان. ثم أنتقل للحديث عن غالبية السكان بعد ذلك.
فالقصور الملكية الفاخرة التي كان يسكنها ملوك الحقبة الهلنستية - مثل السلوقيين والبطالمة الذين جاءوا فيما بعد - ظلت تحرص على مظاهر الإسراف، بما في ذلك الولائم. ويتضح الطابع التنافسي لتلك الولائم - بفضل أثينايوس مرة أخرى - حين ظهر منافس جديد، وهو مدينة روما الناشئة؛ ففي القرن الثاني قبل الميلاد، تمكنت روما من غزو مقدونيا القديمة، وأقام القائد العسكري إميليوس باولوس ألعابا مبهرة. ويحكي أثينايوس (مستشهدا ببوليبيوس) أن الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع الظاهر أقام مهرجانا باهرا في المنتزه الملكي في دافني بالقرب من مدينة أنطاكية؛ إذ لم يكن يرغب في أن يفوقه أحد. كان المهرجان يحتوي على عرض رائع لأسلحة من تراقيا ومقدونيا وروما، وأعقبت ذلك صور مقدسة، وحيوانات مخصصة لتكون قرابين، ونساء يركبن هوادج مزينة بمعادن نفيسة ومعطرة بزيوت غالية مثل زيوت الزعفران والحلبة ونباتات أخرى، وولائم تسع 1000 أو 1500 أريكة ثلاثية المقاعد.
وأدت هذه العروض إلى انتشار مظاهر التفاخر بالثروة التي ظهرت في الانتصارات الرومانية التي تحققت لاحقا؛ فمن ناحية، كان ينظر إلى هذه العروض على أنها غير رومانية (راجع الفصل السابع)، ولكنها من ناحية أخرى كانت تبشر بمواكب استعراض الثراء والولائم التي كانت تفوقها بكثير في روما التي أتت في نهاية المطاف بأنماط تناول الطعام ذات الطابع الإمبراطوري في عهد الإمبراطور أغسطس وخلفائه. وثمة نقطتان إضافيتان، نتناولهما لاحقا في هذا الفصل؛ أولا: تدور معظم المناقشة حتى الآن حول الحكام، فلا بد أن نتناول أيضا الطبقات الراقية المولعة بالتنافس والموجودة في المدن الإغريقية والرومانية. ثانيا: كثيرا ما تكون الولائم وغيرها من أنماط تناول الطعام عبارة عن فئة فرعية من مظاهر أخرى للتفاخر بالثراء؛ مثل: سكنى القصور، أو أدوات المائدة الفضية والذهبية، أو وجود حاشية كبيرة من العبيد. وربما كان التنافس في عادات تناول الطعام تلبيه مظاهر التفاخر بالثراء هذه بدلا من التطورات المتعلقة بالطعام نفسه. (3) أثينايوس متحدثا عن الاندماج الإغريقي الروماني
يمكننا أن نتتبع التأثير الإغريقي على روما بطريقة أخرى، وذلك من خلال العرض الذي يقدمه أثينايوس؛ فالرسالة التي كتبها هيبولوكوس التي تصف مأدبة كارانيوس من الوثائق المفيدة للغاية، وقد حافظ عليها أثينايوس جزئيا لندرتها (من الممكن أن نضاهي ذلك بقدرته الفريدة على الحفاظ على نصوص لأركستراتوس وماترو وعدد من النصوص الهزلية التي تصف المآدب)، ولكن تلك الندرة لها أهمية خاصة. والكثير من النصوص لا تصف باستفاضة مجموعة الأطباق الهائلة التي كانت تقدم في المآدب الرسمية؛ فالتفاصيل تفقد جاذبيتها بعد برهة، إلا في حالة إضافة عناصر جذب تعتمد على اللهجة الساخرة أو أي أسلوب سردي آخر، وهذا هو ما يهدف إليه بيترونيوس في عشاء تريمالكيو الذي نناقشه في الفصل التاسع؛ ففي هذا النص نجد راويا أقل درجة من الراوي العليم بكل شيء يضيف مزيدا من الفكاهة إلى حماقات المضيف. ويوجد فعلا عنصر مشابه في الأسلوب السردي الذي ينتهجه هيبولوكوس، فهو ليس الراوي العليم بكل شيء، بل يكون بحاجة إلى آراء الآخرين (عن موضوع الملابس الشفافة التي يرتديها الموسيقيون). ولكن النص يقدم لنا الكثير من التفاصيل؛ إذ يقدم الكثير من أطباق اللحم والطيور الرئيسية. ولا نجد ما يشبه هذا كثيرا في النصوص الواردة من المدن الإغريقية في الحقب القديمة، ولكنه موجود في الولائم الرومانية، بما فيها عشاء تريمالكيو؛ إذ يقدم فيه خنزير مشوي محشو بالطيور والبقول والمأكولات البحرية. ومن العادات التي تظهر أيضا في الولائم الرومانية حشو حيوان بحيوان آخر. وتأتي إشارات كثيرة للخبز ومنتجات الحبوب. أقيمت مأدبة كارانيوس بمناسبة حفل زفاف، وربما لذلك تسلم الضيوف الكثير من الهدايا، ومن الواضح أن هذه الأمور من العادات المميزة والمنتشرة، ويعج النص بعدد من الإشارات إلى مظاهر الثراء والهدايا الفاخرة. وهذه المأدبة من المآدب القائمة على توزيع الطعام، وهو ما يتطلب مزيدا من المناقشة، ما دام توزيع الطعام - سواء أكان بمعرفة المدينة ذات الحكم الذاتي أم فاعل خير - كان في فترات كثيرة صورة من صور تأكيد الذات والنفوذ السياسي. ثم نجد اهتماما شديدا بالأثاث عامة وأثاث المائدة وحجم الصحون والمعدن الذي صنعت منه. والغرفة التي تقام فيها المأدبة معدة خصوصا بحيث تكشف عن سمات كانت تخفيها الأقمشة من قبل؛ ففي العصر الروماني، كانت الأشكال الميكانيكية من هذا الاختراع من السمات المعتادة في المآدب الفاخرة، وتحدث عنها سينيكا وبيترونيوس، واستخدمها نيرون في قصره المسمى «القصر الذهبي»؛ وهذه المعلومة أيضا تتطلب مزيدا من التحليل. ويتخلل المأدبة قدر كبير من الترفيه، ونجد مقارنات بين ذلك وبين الميل للاقتصاد المعروف عن أثينا، ونجد عدة بدايات جديدة، حين يؤتى بالماء والأكاليل، وهذه أيضا من التفاصيل التي أناقشها فيما يلي. ثم يقدم النبيذ للضيوف فور وصولهم، وهو أهم ما في المأدبة؛ فهذه العادة تشبه العادات الواردة في الملاحم التي ألفها هوميروس، ولكن جرى العرف على أن احتساء الخمر (في جلسة الشراب) كان يعقب المرحلة المخصصة للطعام من المأدبة الإغريقية (أي الديبنون). وأناقش فيما يأتي الترتيب المحتمل للطعام والشراب في المأدبة الإغريقية. وعلى أي حال، تشبه العادة المقدونية العادة الرومانية، وتشبه كذلك العادة التي كان يتبعها أثينايوس في المآدب التي أقامها لضيوفه الحكماء في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي». ولا يقول أثينايوس صراحة إن عادات تناول الطعام الرومانية كانت متأثرة بشدة بالمقدونيين أكثر من تأثرها بالولايات الإغريقية الصغيرة، ولكنه ربما يشير إلى ذلك بوضع مأدبة كارانيوس في صدارة كتابه الذي يتناول المآدب (الجزء الرابع). ويقدم الطاهي في «مأدبة الحكماء» أيضا خنزيرا محشوا يشبه إلى حد كبير الخنزير الذي قدمه كارانيوس في مأدبته (وهي المعلومة المذكورة في دالبي 1988)، مع أنه من الجائز أن تكون هذه إشارة ضمنية أو تورية أدبية استخدمها أثينايوس أكثر من كونها تعبيرا عن العادات الرومانية.
ويلفت أثينايوس أيضا الانتباه - كما رأينا - إلى التباين مع أثينا، ويقارن تأثير مقدونيا القديمة على الملوك المتنافسين في البلدان الهلنستية، الذين كان الكثير منهم قادة عسكريين مقدونيين وكانوا هم خلفاء الإسكندر الأكبر. والسمة اللافتة الأخيرة في مأدبة كارانيوس هي نفخ البوق في ختام المأدبة، وهو ما يعلق هيبولوكوس عليه بأنه من العادات المقدونية في المآدب الكبيرة (يحضر هذه المأدبة عشرون مدعوا). ويأتي استعمال مشابه للبوق في مأدبة تريمالكيو، وهذه العادة مشهودة في أماكن أخرى من الثقافة الرومانية، خصوصا في البيئة العسكرية. وذكرنا في بداية الفصل الفخامة الفريدة التي تتسم بها مأدبة هيبولوكوس، وتلك الفخامة هي على وجه التحديد السمة المميزة للمآدب التي أقامها لارينسيس، المضيف الروماني، للمدعوين إلى مأدبة الحكماء الواردة في المآدب الخيالية التي يرويها أثينايوس في نهاية الفترة التي نتناولها. وللاطلاع على هذه الموضوعات في كتاب أثينايوس، راجع الصفحات 27 و274-275، ودالبي 1996: 152-183. (4) عادات تناول الطعام والنظام الغذائي لدى السواد الأعظم من السكان
تتسم البنى الديموغرافية للمدن والمناطق الريفية القديمة بالتنوع والتعقيد والتغير على مدار الزمن، ولأغراض هذا الكتاب نجد أن أفضل مناقشة لها ترد في المقالات التي جمعها جارنسي (1998)، وهي واردة في قائمة المراجع المرفقة في الكتاب. كثيرا ما تقسم النصوص القديمة فئات السكان تقسيما نسبيا إلى الفئات الأغنى والأفقر، أو الفئات الأفضل والأسوأ في المجتمع. حين نشير في هذا الكتاب إلى الطبقات الراقية في الحضر، فإننا نقصد أقل من 10 بالمائة من السكان، أما بخصوص النسبة البالغة 90 بالمائة فأكثر، فقد عاش بعض هذا العدد في ظروف أفضل بكثير من غيرهم، في كل من الحضر والريف. وكان من الشائع أنه عند تعرض مؤن الطعام المخصصة للسكان للخطر - وهي من الحالات التي لم تكن نادرة، كما يوضح كل من جالينوس وجارنسي (1988، 1998) - كانت غالبا ما تضرب المجاعات الريف قبل الحضر، والفقراء قبل الأغنياء. أما بخصوص الطبقات الراقية، فإن أهم مخاطر المجاعات لم تكن تهدد مؤن الطعام المخصصة لهم، بل كانت تهدد الاستقرار السياسي.
كانت غالبية السكان القدماء تقاسي شظف العيش إما كمزارعين يعملون بزراعة الكفاف، أو كعمال أجراء لا يمتلكون أراضي، وهو ما لم يكن يكفي لضمان الطعام الكافي للأسرة على مدى السنوات. وكانت هذه الغالبية من السكان تحظى بالطعام الذي كان بحسب المفهوم الحديث «عضويا» و«نقيا»، ولكن كانت تشوبها سلبيات كبيرة منها عدم ضمان وصول المؤن ورداءة مستوى جودتها في غالب الأحيان؛ ومن ثم، يخبرنا جالينوس أن الريفيين في ميسيا كانوا يرسلون محصول القمح الذي حصدوه إلى المدن، في حين أن المزارعين أنفسهم كانوا يأكلون الحبوب الأرخص والأردأ. يخبرنا جالينوس أيضا عن وجود أطعمة معينة كان الناس عادة يتجنبونها، وكانوا يطعمونها الحيوانات؛ ومع ذلك، أصبحت تلك الأطعمة مخصصة للبشر حين كانت تشتد أزمات نقص الطعام؛ وهو بذلك يضع حدودا مهمة بين أطعمة البشر وأطعمة الحيوانات. وإذا كان الريفيون يأكلون أحيانا طعام الحيوانات، فهل كان ذلك يجعلهم أقرب للحيوانات من وجهة نظر سكان المدن؟ كان بعض الناس يرى ذلك قطعا، وسنناقش هذه الموضوعات في الفصلين الرابع والسابع.
وكان المواطنون الفقراء المقيمون في المدن يأكلون أيضا طعاما أقل جودة من طعام الأغنياء ، وكثيرا ما كان المؤلفون يلفتون الانتباه إلى هذه الفوارق، على غرار ما يفعله جوفينال بطريقة متطرفة في «المقطوعة الهجائية الخامسة». فكان الفقراء على الأرجح يأكلون في الأماكن العامة، أو على الأقل يشترون طعاما جاهزا ويأخذونه معهم لمنازلهم، وكانوا أقل قدرة على شراء عبيد لإعداد الطعام، وكانت المساحة المخصصة لطهي الطعام في منازلهم محدودة، خصوصا إذا كانوا يسكنون في بنايات تضم شققا على الطراز الروماني. ثمة أدلة كثيرة على وجود مقاصف مخصصة لبيع الأطعمة والمشروبات الجاهزة في بومبي وأثينا، بالإضافة إلى أدلة من النصوص تدل على أن المقاصف كانت أحيانا تضم متاجر أو «كابيليا» في المدن الإغريقية (الشكل
2-1 ). وقد نوقشت هذه الأدلة مناقشة مستفيضة في ديفيدسون 1997، مع أني في الفصل السادس أعترض على بعض النتائج التي استخلصها.
شكل 2-1: تكثر المقاصف المقامة عند المفارق في شوارع بومبي وهركولانيوم، وكانت قطعا موجودة أيضا في الكثير من المدن القديمة الأخرى. وكانت الأباريق المدمجة في المناضد تحتوي على خمور (ساخنة وباردة)، وكذلك أطعمة يمكن شراؤها وتناولها في المنازل؛ فالاختيار بين تناول الطعام في مكان بيعه، أو شرائه لتناوله في المنزل، ليس مقصورا على العالم الحديث.
في الثقافة الإغريقية والرومانية لم يكن طعام الأغنياء مختلفا تماما عن طعام الفقراء، كما هي الحال في عدد من الثقافات الأخرى. وفي الواقع، كانت بعض الواردات القادمة إلى الإمبراطورية الرومانية غالبا ما تقتصر على الأغنياء، مثل التوابل الهندية والطيور المجلوبة من بلدان بعيدة والأسماك المرتفعة الثمن. لكن كان لدى الفقراء توابل محلية مثل الزعتر والكزبرة، وطيور محلية مثل طيور السمان والشحارير، وأسماك المياه الضحلة مثل السردين والأنشوفة. وتقدم قصيدة أركستراتوس مرة أخرى مثالا لافتا على تناول الأغنياء أصنافا فاخرة من الطعام تفوق أطعمة الفقراء؛ ففي الشذرة 5 الواردة في أولسون وسينس (2000)، يتحدث أركستراتوس عن موضوع الخبز بقوله:
يوجد أفضل وأفخر نوع يمكن الحصول عليه على الإطلاق في جزيرة ليسبوس، في حضن قرية إريسوس الشهيرة التي تحفها الأمواج، ويكون منخولا من الشعير ذي الحبوب السليمة. وهو أشد بياضا من الثلج المتساقط من السماء؛ وإذا كانت الآلهة تأكل جريش الشعير، فلا بد أن تأتي هيرميس وتشتريه لهم من هنا. (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز)
يذكر القمح في موضع لاحق في الشذرة، ولكن جالينوس وكثيرا من النصوص القديمة يصرحان بأن الشعير أقل شأنا بكثير من القمح؛ والسبب في ذلك يرجع أساسا إلى كونه لا يحتوي على الجلوتين اللازم لإعداد الخبز الجيد. في اليونان في القرن الرابع، لم يكن الأغنياء يستحثون فحسب على تناول النوع الفاخر من الحبوب - وهو القمح - الذي لم يكن الفقراء يستطيعون شراءه، بل كان بإمكانهم أيضا اختيار الشعير الذي كان الفقراء يستمتعون بتناوله في أنواع الهرائس والعصائد والكعكات المسطحة، ولكن الأغنياء كانوا يستمتعون بتناوله لنكهته، على أن يكون نوعا راقيا ومرتفع الثمن للغاية. لم يكن الأغنياء بالتأكيد يرغبون في تجنب منتجات الحبوب، كما يتضح من مآدب كارانيوس وفيلوزينوس وماترو، ولا يعني هذا أنهم لم يرغبوا في تناول نوع فاخر لم يكن الفقراء يطمحون إليه. سنناقش الحبوب باستفاضة في الفصل الرابع (للقراءة عن مآدب فيلوزينوس وماترو، راجع: دالبي 1987، وويلكنز 2000، وأولسون وسينس 1998).
يقدم لنا السيلفيوم المستورد مثالا ثانيا لتناول الأغنياء للنكهات نفسها التي يتناولها الفقراء. ينتقد أركستراتوس (الشذرة 46، 14) الطهاة الذين يستعملون السيلفيوم والجبن لإضفاء نكهة على الأسماك المرتفعة الثمن. أما المواطن الفقير، فكان يستعمل رأس ثوم لإضفاء نكهة على السردين (أريستوفان، مسرحية «الدبابير» 679). (للقراءة عن نكهات الأطعمة الإغريقية الرومانية، راجع مقدمة الفصل الأول، وويلكنز وهيل 1992.)
حدد أركستراتوس الخضراوات والحمص والفول والتفاح والتين على أنها من علامات الفقر، وهذه صيغة مغالى فيها بعض الشيء. ولكن نجد أثرا ما لهذا في شذرة مأخوذة من مسرحية «المرأة الأولينثية» للشاعر الهزلي ألكسيس من القرن الرابع (167):
زوجي فقير، وأنا امرأة عجوز، ولدينا ابنة واحدة وابن آخر وهذه الفتاة الطيبة ها هنا؛ أي إننا جميعا خمسة أفراد؛ فإذا تناول ثلاثة منا العشاء، يضطر الاثنان الآخران أن يتقاسما معهم كعكة شعير صغيرة، ونظل ننتحب كلما لم نجد شيئا نأكله. تشحب بشرتنا حين لا نجد طعاما. إن كل ما نعتمد عليه من طعام في حياتنا هو: الفول الأخضر ، وحبات الترمس، وبعض أوراق الخضراوات ... وثمرة لفت، وبعض البقول، ونبات البيقة، وثمرة بلوط، وبصلة الزيز، وحشرة زيز الحصاد، وحبة حمص، وثمرة كمثرى برية، والنبات الرباني - وأقصد بذلك ثمرة تين مجففة، وهي استنبات لشجرة تين في منطقة فيرجيا. (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز)
قلما يظهر فقراء في المسرحيات الكوميدية، مع أن طعام الفقراء أحيانا ما يشار إليه عرضا، مثل نبات الخبيزة في مسرحية «الثروة» لأريستوفان، على سبيل المثال (راجع الفصل الرابع). ولكن في تلك الفقرة، نجد تذكيرا قاطعا بأن طعام الفقراء محل مناقشة، وليس ما قد يتوقعه المواطن الفقير.
مع ذلك، يتفق ألكسيس في الرأي هنا مع ما قاله أركستراتوس فيما يخص الحمص والتين. ولنا أن نلاحظ أن الأسرة الفقيرة لا تستهلك اللحوم أو الأسماك، ولديها كميات كبيرة من الحبوب والبقول - وهي من الأطعمة المغذية في العصر الحديث - لكنها تخلو من عنصر المنزلة الاجتماعية الذي يتوافر لجيرانها الأكثر غنى ممن قد يستطيعون شراء الأسماك الصغيرة وشيء من اللحم. يتناول أفراد الأسرة الأشد جوعا (ويلاحظ أن توزيع الطعام يخلو من التقسيم بحسب النوع) كعكة الشعير أو «المزا» بصفتها الغذاء الأساسي بكميات قليلة، أما الثلاثة الآخرون فيحصلون على غذاء أكثر تنوعا. ويتفق ما جاء في المسرحية مع الوصفات الطبية التي قدمها جالينوس بعد ذلك بستة قرون - وذلك فيما يتعلق بتناول الخضراوات والبقول - وأيضا بما في ذلك ثمرة البلوط والجرادة أو حشرة زيز الحصاد؛ فالبقول مثل الحمص والبيقة وغيرها من أنواع البيقة المعروفة ب «أكروس» هي جزء من النظام الغذائي العادي من وجهة نظر جالينوس، أما ثمار البلوط فليست جزءا من هذا النظام الغذائي؛ فثمار البلوط، مثل نبات البيقة المر، تستخدم كطعام للحيوانات. ويقول جالينوس إن ثمار البلوط تندرج تحت فئة أطعمة المجاعات (2، 38): «ذات مرة اجتاحت المجاعة أرضنا، وكانت لدينا وفرة من محاصيل ثمار الزان والمشملة، فبدأ الريفيون يستخدمونها بدلا من الحبوب؛ إذ كانوا قد خزنوها في حفر طوال فصل الشتاء وحتى أوائل الربيع. وقبل ذلك، كانت الثمار من هذا النوع تستخدم كطعام للخنازير، ولكنهم هذه المرة كفوا عن تربية الخنازير في الشتاء كما كانوا معتادين من قبل. وفي بداية الشتاء كانوا يذبحون الخنازير أولا ثم يأكلونها؛ وبعد ذلك كانوا يفتحون الحفر ويخرجون منها الثمار، ثم يحضرونها بطرق تحضير متنوعة ثم يأكلونها» (ترجمه إلى الإنجليزية: باول). وتأتي مناقشة أكثر استفاضة عن هذه الفقرة في الفصل الرابع.
كان أكل ثمار البلوط من التدابير التي تتخذ في حالات الطوارئ، وفقا لما استعرضه ماسون 1995 وآخرون في مناقشاتهم، وكانت ثمار البلوط تأتي في آخر قائمة أطعمة الطوارئ مقارنة ببعض أنواع الجوز الأخرى، مثل ثمار الكستناء التي كانت مستخدمة على نطاق واسع في أوروبا، ويرد ذكرها في الفصلين الأول والرابع. وفي هذا الصدد، اضطرت العائلة التي تشارك في أحداث مسرحية ألكسيس لتناول طعام الحيوانات. وتعد حشرة زيز الحصاد من العناصر اللافتة للاهتمام أيضا، وتوجد أدلة على أن حشرات زيز الحصاد والجراد كانت تؤكل في اليونان؛ إذ يذكرها أريستوفان في إحدى الشذرات (الشذرة 53)، ويشير في مسرحيته «الأخارانيون» إلى قوامها المقرمش. ومثل هذه الإشارات نادرة، مع أن أرسطو يلاحظ - متأثرا بطريقة جالينوس بعض الشيء - عادة الريفيين في اصطيادها لأغراض الأكل. ويبدو من الوارد أن الجراد كان يؤكل، ولكن لم يكن ينظر إليه على أنه من الأكلات الشهية؛ فكان على هامش النظام الغذائي مثل أكلات أخرى يتناولها الفقراء. من الممكن أن نقارن بين الأطعمة التي كان الإنسان يتقاسمها مع الحيوانات، مع أنه ينبغي أن نأخذ في حسباننا وجود قدر كبير من التداخل بين أطعمة الإنسان وأطعمة الحيوان. لاحظ أن الطعام الأساسي الإغريقي المؤلف من الشعير كان يعتبره الرومان وجالينوس طعاما للحيوانات. ومن الأطعمة الشبيهة أيضا الحلازين والخضراوات البرية، التي ما زال الإغريق يأكلونها، والتي كان يأكلها الناس من كل الطبقات في العصور القديمة. ولا يذكر جالينوس فعليا حشرات زيز الحصاد أو الجراد، ويرفض يرقان الخشب وغيرها من الحشرات التي كان يأكلها المصريون، ولكن امتناعه عن الحديث عن الجراد قد يدل على عدم أهمية الجراد في النظام الغذائي ، أو على عدم ملاحظته للجراد، أو عدم اهتمام من جانبه.
تنبثق بوضوح من مناقشة جالينوس للنظام الغذائي سلسلة هرمية من الأطعمة، بدءا من أرقى الأطعمة التي تتناولها الطبقات الراقية في الحضر، ووصولا إلى الأطعمة المخصصة عادة للحيوانات، والتي كان الفقراء يضطرون لأكلها عند أزمات نقص الطعام. وفيما بين هذين الحدين، كان هناك قدر كبير من التفاوت؛ يقول جالينوس إن الإغريق جميعهم يأكلون الحلازين يوميا، والسياق عبارة عن مقارنة بين المصريين الذين يأكلون ديدان الخشب والثعابين والزواحف. ويبدو أن جالينوس يعكف هنا على مناقشة المعادل الإغريقي للأكلات غير المألوفة في النظام الغذائي، لكن من الواضح أنه يعكف أيضا على مناقشة إحدى الأكلات العصية على التصنيف، ويقول إنه ليس كائنا مجنحا ولا مائيا، ومن غير الواضح أيضا إن كان من الكائنات التي تعيش على اليابسة. ومن الممكن أن نفهم هذا التصريح الاستثنائي المتعلق بجميع الإغريق على أن المقصود به هو أن الحلزون كان من الأغذية الأساسية للسواد الأعظم من الشعب الإغريقي. توحي الأدلة الأثرية المتعلقة بالرخويات - سواء أكانت البرية أم البحرية - بأنها كانت تؤكل أيضا في القصور (كارالي 2000). ومن الممكن أن نفترض بثقة أن الرخويات كان يأكلها الناس من جميع الطبقات، كما هي الحال بخصوص الشعير. كانت الرخويات - بحسب وصف ريتشارد مايبي - «طعاما مجانيا»، ولكن كانت تجمع منها أنواع مميزة وتقدم للأغنياء. يحتفظ أثينايوس بقصة تحكي عن ارتحال أبيكيوس إلى ليبيا بحرا لتجربة الجمبري الموجود هناك، ليكتشف في آخر الأمر أن الجمبري الموجود في موطنه مينتورناي كان أفضل. وتقدم بيشنس جراي (1986) شهادة لافتة عن الحلازين وعن النظام الغذائي للفقراء عموما في أماكن مختلفة من البلدان المطلة على البحر المتوسط في العصر الحديث.
كان معدل استهلاك اللحوم أقل لدى المواطنين الفقراء بالتأكيد؛ نظرا لأن سعر اللحوم كان بالضرورة أعلى من سعر الفاكهة والخضراوات والحبوب والبقول بسبب الاستخدام غير الرشيد للطاقة في تربية الحيوانات. وكان أغلب المواطنين يعيشون على الأطعمة النباتية لمعظم أيام العام، وكانت المدينة ذات الحكم الذاتي تقدم لهم اللحوم في أيام الأعياد، وكان المواطنون الأغنياء يمدونهم بكميات إضافية حينما كانوا يرغبون في إطعام عامة الناس سعيا وراء غايات سياسية معينة. ويمثل أريستوفان نشاط إطعام المواطنين هذا في مسرحيته «الفرسان» بإطعام طفل ساذج بعض الشيء طعاما فاسدا. وأصبحت هذه العادة أكثر انتشارا بعض الشيء في الحقبة الهلنستية عن طريق الأنشطة الخيرية العامة وتوزيع الطعام بمعرفة الحكام الهلنستيين والرومان (راجع شميت بانتل 1992، وفين 1976، ودوناهو 2005).
من المعتقد أن النظام الغذائي العضوي القائم على الطعام الطازج لغالبية السكان القدماء كان صحيا إن لم يكن من أجود الأطعمة؛ فالجودة لها أهمية كبيرة، من حيث تقدير الذات والاعتبارات الصحية، كما يوضح جالينوس وجوفينال. قد نعتقد أن جوفينال يبالغ في مقارنته بين النظام الغذائي المخصص للحامي الروماني الثري والنظام الغذائي المخصص لتابعه الفقير في قصيدة «المقطوعة الهجائية الخامسة»:
سيوصي سيدي باستيراد أسماك البوري التي يفضلها من جزيرة كورسيكا أو من الصخور التي تقع أسفل مدينة تاورمينا. ولكن ما الذي ستأكله أنت؟ ربما سمكة إنكليس (مع أنها تبدو كثعبان البحر)، أو سمكة كراكي رمادية رقطاء، نشأت وترعرعت في نهر التيبر، وقد انتفخت بفعل مياه الصرف. (ترجمه إلى الإنجليزية: جرين)
شكل 2-2: مع أن الجراد كان أحيانا يوصف باعتباره من الأطعمة المميزة التي تناولتها الشعوب البعيدة، يشهد أرسطو وغيره بأن الحشرات كانت تؤكل في اليونان. وكان الجراد يستخدم في الطب، وكان يستخدم - شأنه شأن الجمل - في الكثير من الاستخدامات الغذائية في العصور القديمة. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
ومع ذلك، فإن الصورة العامة للأسماك الرديئة التي تأتي من نهر التيبر يدعمها جالينوس (ويلكنز 2004). ويؤكد جوفينال على ما يتسم به التابع من مستوى متدن من احترام الذات، في حين يؤكد جالينوس على مدى الضرر الذي يلحق بعملية الهضم لديه.
ونجد مناقشة أكثر استفاضة لهذه الفكرة في فقرتين لافتتين في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة». تقوم منظومة جالينوس على أن لكل فرد بنية مختلفة؛ ولكنه تمكن فعليا من إصدار بعض الأحكام العامة عن النظام الغذائي للريفيين، ولا بد من مقارنة هذه الأحكام العامة باللمحة العامة التي تتناول النظام الغذائي البشري الذي نناقشه في الفصل الثامن. أولا: مخاطر أكل الجبن مع الخبز:
إذا أضاف المرء الجبن أيضا إلى الخبز - إذ عادة ما يحضره المحتفلون من مواطنينا الريفيين (والذي يسمونه هم أنفسهم الخبز غير المختمر) - يؤدي ذلك إلى إلحاق ضرر محقق بالجميع، حتى إذا كان بعضهم يتسم ببنية قوية للغاية، مثل من هم بطبيعتهم أفضل الحصادين وحافري الخنادق؛ فمن الملاحظ أن هؤلاء يهضمون أنواع الخبز غير المختمر على نحو أفضل من أقوى الرياضيين (كما يهضمون اللحم البقري ولحم ذكور الماعز). فما ضرورة ذكر الغنم والعنزات أيضا؟ في الإسكندرية، يأكلون لحم الحمير كذلك، وبعضهم أيضا يأكل الجمال. تؤثر عاداتهم في عملية الهضم لديهم، ومن العوامل التي لا تقل أهمية عن ذلك كمية الطعام القليلة التي تؤكل، وحالة نفاد الطاقة من الجسم بأكمله التي تلازم بالضرورة من يكدحون طوال اليوم في مزاولة أنشطتهم. ففي حالة نفاد الطاقة من الجسم، لا تخرج من المعدة كتلة أطعمة نصف مهضومة فحسب، بل أيضا - في حالة البدء في العمل بعد تناول الطعام - تخرج أحيانا كتلة طعام غير مهضومة على الإطلاق تسمى الكيموس؛ وهذا هو السبب في أن هؤلاء يتعرضون فيما بعد لأسقام وخيمة للغاية ويموتون قبل أن يبلغوا الشيخوخة. ومعظم الناس الذين يرونهم يأكلون ويهضمون ما لا يستطيع أحد منا أن يأكله ويهضمه؛ يهنئونهم على قوة أجسامهم، جهلا منهم بهذه المعلومة. علاوة على ذلك، لما كان من يبذلون مجهودا شاقا للغاية ينامون نوما عميقا للغاية - وهذا يساعدهم على الهضم بدرجة أكبر - فهم يصبحون أقل عرضة للإصابة بالضرر بفعل الأطعمة الضارة. ولكن إذا أجبرتهم على البقاء مستيقظين لأكثر من ليلة على التوالي، فإنهم سرعان ما سيمرضون؛ لذا، فإن هؤلاء لا يحصلون إلا على هذه الميزة الواحدة من هضم الأطعمة الضارة. (جالينوس 1، 2، ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
هذه الفقرة المفيدة توضح الفارق بين بنية العامل وبنية نظيره الغني، وهو القوة الظاهرية لقدرته على الهضم ، ولكن تكمن الخسارة التي يتكبدها في المرض والوفاة المبكرة، وفي مخاطر الطعام الريفي بعد طهيه؛ فالموضوع لا يتصل فحسب بالمكونات الرديئة، بل بالجمع أيضا بين مكونات غير منسجمة. ومع ذلك، فمن الإيجابي أن نشير إلى أن جالينوس يتحدث عن عادتهم في تناول اللحوم، وإن كان لا يتحدث عن تكرار تلك العادة. ويذكر جالينوس المزيد عن مخاطر الطهي الريفي في فقرة عن حبوب القمح المسلوقة (1، 7):
لكن ذات مرة حين كنت أسير في الريف بعيدا عن المدينة بصحبة صبيين من سني، صادفت حقا بعض الريفيين ممن فرغوا من تناول طعامهم، وكانت النساء يتأهبن لإعداد الخبز (إذ كان قد نفد عندهم)؛ فوضعت إحداهن القمح في القدر على دفعة واحدة وسلقته، ثم أخذن يتبلنه بكمية بسيطة من الملح ودعوننا أن نتناوله. ولأننا كنا نسير ونتضور جوعا، قبلنا الدعوة بسرور، وأكلنا من القمح المسلوق بحماس، فشعرنا بثقل في المعدة، وكأنه يوجد طين يضغط عليها. وطوال اليوم التالي لم تكن لدينا أي شهية لإصابتنا بعسر هضم؛ ولذلك لم نستطع أكل أي شيء، وكنا نعاني من غازات البطن وأصبنا بالصداع وتشوش في الرؤية. ولم نشعر بأي رغبة في التبرز، وهو الدواء الوحيد لعسر الهضم؛ ولذلك سألت القرويين إن كان سبق لهم أكل القمح المسلوق، وسألتهم عن تأثيره عليهم؛ فقالوا إنهم كثيرا ما أكلوا منه عند الضرورة مثلنا، وإن القمح المحضر بهذه الطريقة كان من الأطعمة الثقيلة وصعبة الهضم. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
في هذا المشهد، نجد أن الريفيين بوسعهم الحصول على النوع الأفضل من الحبوب - وهو القمح - ولكنهم مع ذلك غير قادرين على إعداده بالطريقة المثلى؛ وبهذا تقل استفادتهم منه عما إن كان قد تحول إلى الصورة المثالية كخبز مختمر. وتجبرهم الضرورة على التزود بالطعام حتى قبل تحضير الطعام بحسب الحاجة؛ ومن ثم، فإن الريفيين عرضة للابتلاء بمستوى متدن من الجودة وطريقة تحضير غير مناسبة. قارن ذلك مع جارنسي (1999). ومن الممكن أن نشير أيضا - بخصوص مناقشة النوع الاجتماعي لاحقا في هذا الفصل - إلى أن النساء يخبزن الخبز ، ولكن الرجال هم الذين يتحدثون إلى الغرباء الثلاثة حين يظهرون في الحقول، وهن اللاتي يطهين القمح المسلوق كوجبة عاجلة.
تقدم الحكايات التي يرويها جالينوس شهادة قيمة عن عادات تناول الطعام عند الفقراء، وستضيف قصة أخيرة يرويها جالينوس بعدا آخر؛ ففي مناقشته التي تتناول الحليب (3، 14)، يوضح مخاطر الحليب غير الصحي:
أصيب رضيع بقروح كثيرة في جسمه كله، وكانت مرضعته الأولى قد ماتت، فأرضعته مرضعة أخرى كان جسمها يمتلئ بسوائل غير صحية. فحين اجتاحت المجاعة البلاد في الربيع، كانت المرضعة الثانية تعيش على الأعشاب البرية النامية في الحقل؛ ولذلك أصيبت بهذه القروح هي وآخرون في البلاد نفسها ممن عاشوا في الظروف نفسها. ولاحظنا هذه الظاهرة لدى كثيرين غيرهم ممن يعيشون في ظل ظروف مشابهة في المنطقة. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
كانت المرضعة - وهي امرأة فقيرة ترضع رضيعا لأم غنية - تعاني من سوء تغذية، وهي الحالة المزمنة التي يعاني منها الفقراء في الكثير من البلدان المطلة على البحر المتوسط في بداية الربيع قبل توافر محاصيل الموسم الجديد. ويشير جالينوس مرارا وتكرارا إلى الوطأة التي يتعرض لها سكان الريف على وجه الخصوص عند نفاد مؤن الشتاء مما يضطر الفقراء للجوء إلى الأطعمة المخصصة للحيوانات. ويعلق جارنسي (1999) على أزمات نقص الطعام المزمنة في العصور القديمة. وهذه الظاهرة يتناولها في العصر الحديث كل من جراي (1986) وكامبوريزي (1993) وهيلتوسكي (2004)، من ضمن آخرين. ويستشهد هيلتوسكي (راجع مقدمة الفصل الأول) بتعليق لأحد أهالي نابولي يعود لعام 1884عن الفقراء في الحضر: «تقدم امرأة الأعمال الخيرية بطريقة مبتكرة للغاية؛ فهي نفسها فقيرة ولا تأكل إلا المكرونة المسلوقة المتبلة بقليل من الجبن اللاذع، ولكن جارتها الفقيرة للغاية ليس لديها من طعام إلا لقيمات من الخبز اليابس الجامد. فتمنح المرأة الأقل فقرا لجارتها الماء الذي طهت فيه المكرونة، وهو سائل يميل إلى البياض يسكب على لقيمات الخبز حتى تصبح أكثر طراوة وتكسبها على الأقل نكهة المكرونة.»
وبخصوص موضوع تناول الطعام خارج البيوت بين الفقراء، يستشهد هيلتوسكي (2004: 16) بالمصدر نفسه، وهي الكاتبة والروائية ماتيلدا سيراو، من كتابها «فينتري دي نابولي»: «كان بوسع المرء شراء قطعة من الأخطبوط المسلوق، أو الحلازين مع المرق، أو الأطعمة الساخنة مثل المكرونة؛ مقابل سولدي واحد أو اثنين. وكانت هذه الأطعمة تقدم في المطاعم الصغيرة المنتشرة بأعداد كبيرة: «في كل شوارع الأحياء التي يسكنها العمال، كانت هناك مطاعم صغيرة بها مواقد مقامة في الهواء الطلق. وهنا نجد المكرونة تسلق دائما، ونجد مقالي تحتوي على صلصة الطماطم، وتلالا من الجبن المبشور ... وكانت حصص الطعام صغيرة حتى إن المشتري كان يتشاجر مع صاحب المطعم لأنه يريد إضافة قدر أكبر قليلا من الصلصة والجبن والمكرونة.» أشرنا في الفصل الأول إلى أزمات نقص الطعام التي تزامنت مع عهد ملك فرنسا لويس الرابع عشر؛ فلم يكن من الممكن ضمان وصول مؤن الطعام إلى كل السكان في بلدان مثل اليونان أو إيطاليا أو فرنسا أو بريطانيا حتى القرن العشرين. ولاحظ أن المرضعة المصابة بالقروح في قصة جالينوس - التي لم يكن من السهل تحديد مرضها (راجع باول 2003: 181) - كانت من بين عدة أشخاص لوحظت إصابتهم، وكان سبب المشكلة هو «الأعشاب البرية»، بعبارة أخرى نباتات لم «تخفف من غلوائها» أو تنبت نتيجة عملية الزراعة. ولا شك أن الكثيرين كانوا يتناولون النباتات غير المطهية أو البرية في العصور القديمة، وكان الأغنياء مثل بلينوس وموسونيوس روفوس يشجعون تلك العادة، كما سنرى. ولكن هذه المنتجات غير الناتجة عن الزراعة كانت تحتفظ بشيء من طزاجة الطبيعة سجله نص لأبقراط يتناول «فن الطب» (استشهدنا به في الفصل الأول)، وكانت تلك النباتات تمثل خطرا على المصابين باختلال في توازن سوائل الجسم (للاستزادة، راجع الفصل الثامن).
تسبب خطر أزمات نقص الطعام الذي انتشر إبان الربيع في ظهور شكل من الأدب قلما نجده في العالم الحديث، ويتحدث هذا الشكل الأدبي بالتحديد عن منتجات خيالية يتخيل مؤلفها وجودها في أرض كوكاين (كما كان يطلق عليها في العصور الوسطى). وفي هذه الأرض، كانت الأنهار تجري بالخمر وكعكات الشعير والنقانق، وكانت الأسماك والطيور تتوسل أن تؤكل. ويناقش أثينايوس عددا من الأمثلة الكوميدية في الجزء الثالث من كتابه (راجع ويلكنز 2000). والكوميديا من الأجناس الأدبية المهمة، فهي أدب درامي يقدم إلى جمع هائل من المشاهدين، غالبا ما يزيد عددهم عن عشرة آلاف مشاهد. ولم تكن على الأرجح ستنجح في مجتمع مثل أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، حيث توجد وفرة من الطعام. ونجد أن الأوصاف التي لا تنتهي لفردوس من الطعام حيث تنتفي الحاجة إلى العمل الزراعي الشاق أو لوجود العبيد (فالطعام ينتج نفسه بنفسه ويقدم نفسه بنفسه) تعبر ببلاغة تضارع بلاغة جالينوس عن عالم كثيرا ما يجوع فيه الفقراء على الأقل. وكانت الكوميديا أيضا تقدم أوصافا لولائم الأغنياء فيسمعها المشاهدون باستمتاع. ونتناول في الفصل التاسع وقع هذا الوصف على جمهور المسرح من الفئات الفقيرة. (4-1) دورة الحياة البشرية
تمنحنا المناقشة التي تتناول الفقراء في الريف - على النقيض من الطبقات الراقية في الحضر التي تمثل طرف النقيض الآخر في المجتمع - صورة كئيبة عن عادات تناول الطعام قديما، وهي قطعا أشد كآبة من صورة بلدان البحر المتوسط التي يتخيلها حاليا سكان شمالي أوروبا. ويمكننا أن نخفف من الكآبة بعض الشيء بأن نكرر أن قسما من السكان من غير الطبقات الراقية لم يكن يعيش على حد الكفاف فحسب؛ فالبطل النموذجي في مسرحيات أريستوفان - على سبيل المثال - هو مواطن ذو موارد مالية متوسطة، ونجد أن المزارع المنطوي المتحفظ في المسرحية الكوميدية «ديسكولوس» للمؤلف المسرحي ميناندر؛ يعيش حياة متقشفة باختياره. ويعجز سنيمون عن استغلال القيمة الاقتصادية لمزرعته. وتخفف أيضا من الصورة المتشائمة الأعياد التي تتخلل السنة الدينية، وكذلك الأحداث الرئيسة من ميلاد وزواج ووفاة في دورة الحياة البشرية. وكان تقديم القرابين للآلهة بصفة جماعية كثيرا ما يصاحبه توزيع اللحوم وغيرها من الأطعمة على جميع المشاركين، إما على المستوى المديني وإما على المستوى المحلي (راجع الفصل الثالث)، وكان معظم الأسر تقيم الولائم احتفالا بميلاد الأطفال أو عند دمجهم في المجتمع. وكانت حفلات الزواج من المناسبات المهمة لإقامة الولائم بين أغنى الأغنياء - كما يتضح في الزفاف المقدوني الذي استشهدنا به فيما سبق - وكذلك لدى الأسر الشديدة الفقر. ويصف ديو كريسوستوم في كتابه «الخطبة اليوبية» حفل زواج ريفيا وصفا مثاليا بعض الشيء (7، 65-80). يبدأ أفراد الأسرة في تناول الوليمة، فيتكئ الرجال على أريكة ريفية («ستيباس»)، وتجلس أم العروس. ونجد تفاصيل كثيرة عن التجهيزات المتعلقة بالطعام والترتيبات المتعلقة بتنظيم جلوس المدعوين ودور كل من العروس والعريس. ومن الصعب أن نحكم على المنزلة الاجتماعية لهؤلاء؛ لأن الموضوع يكمن في منتصف خطبة ديو. أناقش في الفصل الثالث مناسبة زواج تجمع بين أسرة غنية من الحضر وابنة مزارع ثري نسبيا. (4-2) الأنظمة الغذائية الخاصة
كان بعض الناس يحتاجون إلى نظام غذائي خاص. ذكرنا من قبل العمال المشتغلين بالأعمال اليدوية؛ ففي حالة عدم حصولهم على القدر الكافي من السعرات الحرارية، كانوا يعجزون عن أداء العمل المنوط بهم، وكان الأمر نفسه ينطبق على بعض العبيد. ويوصي كاتو الأكبر في فقرة شهيرة في كتابه «عن الزراعة» (65: راجع دالبي 1998: 140-141)، بأن يحصل العبيد المكلفون بالعمل على حصة طعام أكبر مما يحصل عليه المشرف؛ فحاجتهم للطاقة تفوق المكانة الاجتماعية أهمية. وعادة ما كان النظام الغذائي للعبيد يتفاوت تفاوتا كبيرا؛ إذ كان بعضهم يتناول طعامه مع بقية الأسرة، مثل ما يرد في الفصل السابع - مثلا - في حالة كاتو الأكبر وهي من الحالات الفريدة، وكان البعض الآخر يتناول «مازا العبيد (أي العصيدة)» بحسب تعبير إسخيلوس، أو «خبز العبيد» بحسب تعبير الشاعر القديم أركيلوكوس. ولا نستطيع تقييم الفوائد النسبية لهذه الأنظمة الغذائية بسهولة، وسنناقش ذلك في الفصل الرابع.
وكانت الفئات الأخرى التي تحتاج إلى نظام غذائي يحتوي على سعرات حرارية مرتفعة هي الجنود والرياضيين، وتوجد أدلة قوية تدل على وجود نظام غذائي مخصص للجيش، وقد جمع ديفيز (1971) قدرا كبيرا من تلك الأدلة في مقاله المتميز؛ إذ يسرد تفاصيل كل فئات الطعام ومجموعة متنوعة من المصادر والمواقع الأولية من كل أنحاء الإمبراطورية، ويثبت أن الجيش الروماني كان يحظى بتغذية جيدة، وأن لوجستيات توفير المؤن كانت هائلة، ويثبت تحقيق نظام غذائي متوازن. ويشدد بالتحديد على أن النظام الغذائي كان يحتوي على اللحم، وكانت الأسماك والطرائد من العناصر الثابتة في النظام الغذائي أيضا، وكان القادة العسكريون والأباطرة الصالحون يتناولون الطعام نفسه الذي يتناوله جنودهم. ويعتمد ديفيز اعتمادا كبيرا على الرسائل وكتابات الجدران التي جمعها من كل أنحاء الإمبراطورية من سوريا وحتى بريطانيا، ويصل إلى استنتاج (1971: 137-138) إذ يقول: «لعل أفضل ثناء يوجه لجيش الإمبراطورية - سواء في أزمنة الحملات العسكرية أم في أزمنة السلم أم حتى أثناء حركات التمرد النادرة - هو عدم تسجيل أي شكوى بشأن النظام الغذائي المخصص للجيش الروماني.» فالجيوش التي لم تحظ بتغذية جيدة لم تكن تحقق أداء مرضيا؛ والجيوش الساخطة قد تنقلب على الإمبراطور في عصر الإمبراطورية. في حين أنه كان من المعتقد أن المواطن المجند في البلدان الإغريقية يحصل على غذاء متقشف في الحصص التي يتسلمها على مدى ثلاثة أيام (وهي الرسالة المعتادة التي تصلنا من مسرحيات أريستوفان، وإن كانت رسالة مضللة)، كان الجنود الرومان فيما يبدو يحصلون على طعام أفضل من المستوى المتوسط. يقول جالينوس أن الجيش الروماني لم يقدم الشعير؛ لأنه كان يوفر طاقة غير كافية بالمقارنة بالقمح (وهو ادعاء لم يقبله العلم الحديث: راجع الفصل الرابع). في الجيش البريطاني في العصر الحالي، نجد أن مؤن الطعام المخصصة للمعارك محددة ب 4000 سعر حراري يوميا، وهو ضعف الكمية القياسية المطلوبة للذكور. عند خروج جيش الإسكندر الأكبر للحرب، كانت تقام ولائم هائلة في مناسبات متكررة في قاعات طعام كبيرة من الخيام (بلوتارخ). ورأينا أيضا - في الفصل الأول - حاشية الملك من الطهاة الذين كانوا يلازمون الملك الفارسي وقادته أثناء الحملات العسكرية. وكان جيش الاحتلال أيضا - مثل الجنود الرومان في بريطانيا عند حصن فيندولاندا الموجود بالقرب من سور هادريان - يحظى بأكل اللحوم المحلية وبعض السلع المستوردة؛ ومن ثم، ربما كان الجنود هم من بشروا بأسلوب الحكم الروماني وبغير ذلك من المظاهر الملازمة للحضارة التي انتقلت إلى بريطانيا في أثر الجيوش. وكان زيت الزيتون والخمر مثالين لتلك المظاهر، ولكن كان من بين الأمثلة الأخرى الأرانب والجرجير ومجموعة كبيرة من النباتات العطرية . والشيء نفسه ينطبق على أماكن أخرى من الإمبراطورية الرومانية. ومن الممكن مضاهاة حملات الإسكندر الأكبر التي جلبت الأطعمة إلى بلدان البحر المتوسط من الشرق، بالحملات التي شنها الرومان في آسيا الصغرى، وقد ناقشنا إدخال الكرز إلى إيطاليا على يد لوكولوس في الفصل الأول.
وكان الرياضيون - أيضا في العالم القديم كما في العالم الحديث - بحاجة إلى أنظمة غذائية عالية الطاقة، وأقر الأطباء التابعون لمدرسة أبقراط النظام الغذائي الغني بالبروتين الذي يحتاج إليه الرياضيون، وأشاروا كثيرا إلى عدم توازن ذلك النظام الغذائي؛ إذ كان من السهل أن يؤدي إلى اعتلال الصحة (جوانا 1999: 331-332). ويرى جالينوس - الذي بدأ مسيرته المهنية كطبيب في مدرسة للمصارعة الرومانية - أن «أقوى» طعامين، وهما القمح ولحم الخنزير، ضروريان للرياضيين. لم يكن من الوارد أن يؤيد شخص عادي - مثل جالينوس أو من يقرأ كتبه - تخصيص حصة الطعام الغنية بالطاقة للرياضيين - الذين يصنفون في فئة وحدهم - مثلهم مثل العمال المشتغلين بالأعمال اليدوية («عن قوى الأطعمة» 1 و2). وتكمل هذه التعليقات الانتقادات الأخلاقية التي وجهها للرياضيين الشاعران كزينوفانيس ويوربيديس؛ إذ وصف الأخير الرياضي بأنه «عبد لفكيه وضحية لمعدته» (استشهد بها أثينايوس في كتابه). والتزم أشهر رياضي في العصر القديم، وهو ميلو الكروتوني - على الأقل حسبما روت النوادر والحكايات - بما ورد في الوصفة الطبية التي قدمها جالينوس (وكذلك أثينايوس في كتابه) «حسبما يذكر ثيودوروس من هييرابوليس في كتابه «عن المباريات الرياضية»، كان ميلو الكروتوني معتادا على أكل عشرين رطلا من اللحم وما يعادل ذلك من الخبز، وكان يشرب ثلاثة أباريق من الخمر. وفي مدينة أوليمبيا كان يحمل ثورا سنه أربع سنوات على كتفيه ويسير به في أنحاء مدرج الألعاب الرياضية، ثم كان يقطعه ويأكله وحده في يوم واحد» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). (4-3) تناول الطعام على انفراد
كان السر في عادات تناول الطعام القديمة يكمن في مشاركة الطعام مع الآخرين على مائدة واحدة. ولم يكن الطعام يقتصر على التزود بالقوت، بل كان تأكيدا على الروابط الأسرية، أو روابط القرابة، أو أواصر المواطنة والدين. وكانت فكرة الرجل الذي يهمل مشاركة الآخرين في تناول الطعام - مثل ميلو الكروتوني - تذكيرا مقيتا بالانحراف الاجتماعي. وكان الطاغية هو المثال الذي يشار به إلى الشخص الذي يأكل بمفرده: ويعبر كتاب «هييرو» من تأليف زينوفون - الذي أشرنا إليه فيما سبق - عن هذه الفكرة تماما. تتاح للطاغية كل المتع التي يحتاج إليها، وحسبما يرد في عرض أثينايوس عن الطاغية السيراقوسي ديونيسوس الثاني، يتمتع الطاغية بالولائم الباذخة وبأكبر عدد من العذارى يستطيع معاشرتهن. ويناقش براوند (1996) الأدلة. والطاغية هو الحاكم الفاسد في الفكر القديم، ويرد في كتاب أفلاطون «الجمهورية» أقوى تصوير لشهواته؛ ومع ذلك، فعلينا أن نتذكر أن القصور الملكية - أيا كانت مساوئها السياسية - كانت أيضا تحفز على الابتكار. وهذه الظاهرة موجودة لدى ملوك الفرس وغيرهم؛ فالقصور الصقلية هي فيما يبدو التي أنشأت فن الطهي الإغريقي وكتب الطهي الإغريقية. فضلا عن ذلك، شجعت القصور الهلنستية البحث العلمي والطبي، وحدث ذلك جزئيا من خلال مخاوف التسمم؛ ومن ثم حفزت - على نحو مباشر أو غير مباشر - البحث عن منتجات جديدة قد تنقذ حياة الملك، ولكن قد تصبح أيضا من الأطعمة الجديدة الرائعة. وربما كان انتشار نبات الأترج نموذجا لطعام انتقل غربا بفعل تلك المحفزات. وبخصوص الانتقال المشابه للطماطم والشوكولاتة والبطاطس من العالم الجديد في الأمريكتين إلى القصور الملكية الأوروبية، في البداية لخواصها الطبية وغير الطبية، ثم بعد ذلك بمدة طويلة كمواد غذائية، ثم كأطعمة لعامة الناس (راجع الفصل الأول). (5) الأماكن العامة والخاصة
في المدن القديمة منذ العصور الأولى، كانت السوق، أو «أغورا» باليونانية و«فوروم» باللاتينية، مركزا للتجمعات السياسية، وأيضا لتبادل السلع - بما فيها الأطعمة - أو شرائها. وكانت السوق في أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد يباع فيها الكثير من الأطعمة المختلفة، مثلما في الأسواق والمعارض المنتشرة في أنحاء البلدان الإغريقية والرومانية (فراين 1993، طومبسون وويتشيرلي 1972، ويلكنز 2000). وكانت قدرة أي مدينة على جذب الكثير من السلع علامة على الرخاء والنماء، وهي الظاهرة التي أشار إليها كل من ثوسيديديس وزينوفون على وجه التحديد عن أثينا، وأشار إليها إيليوس أريستيديس عن روما، مع أن مؤلفين آخرين كانوا يستنكرون النشاط التجاري (كما نناقش في الفصل السابع). وكانت هناك أسواق متخصصة في اللحوم، وأسواق للأسماك، وأسواق لفئات المنتجات الأخرى.
كانت هناك في المناطق العامة أيضا مبان مدنية مخصصة لتناول الطعام، سواء أكانت لتناول الطعام يوميا لموظفي الدولة، مثل مباني ثولوس وثيسموثيتيون وغيرهما من الدوائر الحكومية الكثيرة في أثينا، أم كانت مباني مخصصة للمآدب التشريفية. وفي المدن الإغريقية كان ذلك النوع من المباني يسمى البريتانيون، وكانت تحتوي على المضيفة المقدسة للمدينة، وكانت من بعض النواحي تمثل هوية المدينة (ميلر 1978). وكانت المآدب التشريفية في البريتانيون في أثينا - على سبيل المثال - مخصصة للمنحدرين من سلالة قاتلي الطغاة وللفائزين في الألعاب الأوليمبية وغيرهم من المواطنين المتميزين بالإضافة إلى الضيوف الأجانب. ويخبرنا أثينايوس أنه في مدينته نقراطيس في مصر - حسبما يروي هيرمياس في الجزء الثاني من كتابه «عن أبولو الغريني» - كانت تطبق ضوابط خاصة تنظم تناول الطعام. وكانت المأدبة المقامة في البريتانيون في يوم عيد هيستيا وفي عيد ديونيسيا - بعد الصلوات وطقوس إراقة الخمر - تقدم للمدعوين المتكئين على أرائك، وكانت تتألف من نبيذ ونوعين من الخبز ولحم الخنزير، ونوع من الخضراوات وبيض وجبن وتين مجفف وكعكة مسطحة وإكليل من الزهور. وكانت تفرض غرامات في حالة تجاوز حجم المأدبة لهذا الحد، ولم يكن يسمح بدخول الأطعمة الزائدة، وكانت بقايا الطعام مخصصة لإطعام العبيد المملوكين للحاضرين في المأدبة. وفي الأيام الأخرى، كان يسمح بتناول الأسماك في البريتانيون. ولم يكن يسمح للنساء بالدخول، فيما عدا عازفة المزمار.
شكل 2-3: لم يكن لدى معظم الإغريق والرومان مطابخ مخصصة لهذا الغرض؛ فإذا طهوا في المنزل، كانوا يستعملون مواقد وقدورا صغيرة متنقلة - كتلك الموجودة في أسواق أثينا - وكان يمكن إخراجها خارج المنازل قدر المستطاع. ولا يدل صغر حجم الأواني وعدم وجود الغاز والكهرباء بالضرورة على أن مستوى الطهي كان أقل تطورا من الطهي في المطبخ الحديث. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من الكلية الأمريكية للدراسات الكلاسيكية القديمة: حفريات السوق الإغريقية.)
كان يقام الكثير من المآدب في العصور القديمة في المكان الخاص في المنزل، سواء أكان قصرا ملكيا أم مسكنا متواضعا، وكان بعض المنازل به مساحة كافية لتخصيص مكان لتناول الطعام، ولكن المنازل الأخرى - وهي الغالبية العظمى - لم تكن بها تلك المساحة. ومن الجائز أن المنازل الكبيرة التي يخدم فيها عدد كبير من العبيد كانت مزودة بمطابخ، وكان الأرستقراطيون الرومان - بدءا من الإمبراطور إلى من هم دون ذلك - لديهم مطابخ كبيرة، أما الكثير من المنازل الأصغر فلم يكن به مطابخ (إيليس 2000: 27-28 و158-159). فمثلا، من الجائز أن الأفران الإغريقية والرومانية كانت مدمجة في المطبخ، ولكنها غالبا ما كانت عبارة عن فرن قابل للنقل يمكن نصبه بالخارج إذا كانت حالة الطقس تسمح بذلك (سباركس 1962، ليفرسيدج في كتابه «الزهرة وشجرة الورد» 1958: 29-38). وحتى إذا كانت الأسر غنية إلى حد يتيح لها استئجار طهاة، فغالبا ما كان يتوقع أن يجلب الطاهي معه عبيده وأوانيه. ويبدو أن ثمة قدرا كبيرا من التفاوت في هذا الصدد؛ ففي مسرحية «ديسكولوس» من تأليف ميناندر - على سبيل المثال - يأتي الطاهي بالأثاث ولكنه يضطر لاستعارة قدور الطهي. وكان لا بد من اتخاذ ترتيبات خاصة لاستقبال الضيوف ممن ليسوا من الأقارب، خصوصا في مدن مثل أثينا القديمة حيث كان يطبق عزل النساء عن الرجال. وكان يتحقق ذلك العزل بعدة طرق؛ فإذا كان المنزل كبيرا، كان من الجائز تخصيص غرفة خاصة أو «أندرون»، وكان من الممكن أيضا إقامة المآدب في الهواء الطلق (راجع أدناه)؛ ففي مسرحية «ديسكولوس» لميناندر، يطبق العزل بين الجنسين في الهواء الطلق. وكان الناس يتناولون الطعام أيضا في الأماكن العامة، وفي المباني الحكومية، وفي حرم الأماكن الدينية، وكانت الأعياد الدينية على الأرجح هي محور هذا النوع من مناسبات تناول الطعام. وكان من الممكن أيضا الاحتفال بالمناسبات العامة في المنزل، ومن أمثلة ذلك - فيما يبدو - عيد ديونيسيا الريفي في أتيكا؛ حيث كان الجمهور يحتفل بالعيد، ولكن كانت كل أسرة تستخدم منزلها للاحتفال به (باركر 1987). وكان يقدم الكثير من المآدب المختلفة؛ فالنقوش التي عثر عليها في آسيا الصغرى وروما ودرسها شميت بانتل 1992 ودوناهو 2005، تسجل وجود مجموعة متنوعة من المآدب ووسائل الترفيه كان يقدمها السياسيون وفاعلو الخير، ومن بينها جلسات احتساء النبيذ الحلو التي تتخللها عروض ترفيهية خفيفة، أو الولائم الدينية، أو التجمعات السياسية الحاشدة. وكان هذا النوع من الولائم العامة من أهم صور الرعاية وإعادة توزيع الطعام. وكان من أرفع أمثلة التنوع أيضا الإمبراطور الروماني؛ يصف سيوتونيوس عادات تناول الطعام لدى الإمبراطور أغسطس في المآدب الخاصة («الإمبراطور أغسطس» 70)، وفي المآدب ذات المناسبات السياسية (74)، وفي الأعياد مثل عيد ساتورناليا، وأخيرا عند تناول الطعام بصفة غير رسمية حين كان بمفرده. وفي الحالة الأخيرة، كان يتناول وجبة خفيفة وهو يسير، وهو أقرب شبها بالطريقة الحديثة (راجع نهاية الفصل التاسع). وكان معظم الأحرار في العصر القديم يتناولون طعامهم أحيانا في بعض المناسبات بطريقة رسمية أكثر من مناسبات أخرى، ربما مرة أو مرتين في العام، وربما يوميا إذا كانوا أغنياء وذوي نفوذ.
شكل 2-4: في أثينا القديمة، كان الكثير من المنازل صغير المساحة فيما يبدو. وفي القرون اللاحقة، أخذ المواطنون الأغنياء في أنحاء الإمبراطورية الرومانية يبنون منازل كبيرة - سواء أكانت منازل حضرية أم ريفية كبيرة - كانت تضم مرافق لتناول الطعام في الداخل والخارج. وكثيرا ما كانت تدعو الضرورة - كما هي الحال هنا في منزل فيتي في بومبي - لوجود أكثر من غرفة طعام واحدة فيما يبدو (غ = غرفة الطعام، وم = المطبخ).
كانت هناك أيضا متاجر ومقاصف تقدم الأطعمة والمشروبات وتبيعها للزبائن، إما ليتناولوها في مكان بيعها وإما ليأخذوها معهم إلى منازلهم. وكان الأغنياء غالبا ما ينظرون إلى هذه المقاصف التي كان يطلق عليها «كابيليا» أو «بوبناي» أو «تابريناي» بنظرة شك بالغة. وينتقد ثيوبومبوس المقاصف الغوغائية في بيزنطة؛ ويستهزئ جوفينال بالمقاصف في روما. وفي غير ذلك من الأماكن، كثيرا ما ترتبط المقاصف ذهنيا بالدعارة. يذكر جالينوس أن الدعارة كانت تقدم في حانات معينة («عن قوى الأطعمة» 1، 3). من ناحية أخرى، يصف فارو في كتابه «عن الزراعة» حانة على جانب الطريق بأنها خيار تجاري مستحسن يلجأ إليه المزارع إذا كان الحقل يقع بجوار طريق مزدحم. وربما كان يبدو الكثير من هذه الفروق مختلفا من وجهة نظر المواطنين من غير أبناء الطبقات الراقية. وتوجد أدلة كثيرة على وجود مقاصف وحانات في مدينتي بومبي وهركولانيوم (لورانس 1994)؛ فهي موجودة عند الكثير من مفارق الشوارع، ويبدو أنها كانت مهمة في توفير الطعام والشراب (الساخن أو البارد في كلتا الحالتين)، وفي توفير أنماط مرنة من تناول الطعام، سواء أكان في الأماكن المغلقة أم في الخارج. كان المسافرون والمواطنون أيضا بحاجة إلى الطعام، وأحيانا إلى المبيت في الحانات الكبيرة، ولا بد أن نتخيل وجود مجموعة متنوعة من الخيارات تتراوح بين الحانة الكبيرة والكشك الصغير المخصص لبيع المأكولات والمشروبات لتناولها في المنزل (راجع أيضا كليبرج 1957).
بالإضافة إلى الأماكن المبنية، كانت الأماكن المفتوحة أيضا تقدم فرصا عدة لتناول الطعام في الهواء الطلق. ويأتي وصف لأمثلة بارزة في الكثير من النصوص المختلفة؛ فقد كانت الخيام تنصب في عيد ثيسموفوريا لتوفير مكان مسقوف لإقامة احتفال بديميتر وبيرسيفوني يقتصر على النساء فقط. تتحدث شخصيات في مسرحية كوميدية من تأليف أريستوفان - وهي «المحتفلات بعيد ثيسموفوريا» - عن كونهن رفيقات الخيمة، فهن يسكن ويأكلن معا بدلا من السكن والأكل في بيوتهن مع أسرهن (راجع أيضا الفصل الثالث). وتنصب خيام أقمشتها ذات تصميمات بديعة لإقامة وليمة جماعية مميزة في مدينة دلفي في مسرحية «أيون» من تأليف يوربيديس (راجع شميت بانتل، 1992). كان الملوك الفرس يسافرون في أنحاء إمبراطوريتهم ويقيمون في مدن من الخيام، وكانت تقام للإسكندر الأكبر قاعات طعام واسعة من الخيام إبان غزوه للشرق. ويبدو أن استخدام الإغريق والرومان للخيام يرتبط بهذه النماذج، وهي نماذج نشأت بفعل أساليب الحياة البدوية الأصلية في ممالك الشرق الأدنى، وبسبب متطلبات الحملات العسكرية.
وكان الرومان مولعين أيضا بتناول الطعام في الحديقة، وتوجد أمثلة على ذلك بين المواطنين الأغنياء في بومبي، كما كان يحظى الأباطرة بخيارات عدة لتناول الطعام في الهواء الطلق. وذلك فضلا عن زينة الغرف من الداخل؛ إذ كانت جدرانها تحمل رسوما تحاكي عالم الطبيعة، وكان من بينها لوحات جصية تصور المناظر الطبيعية والمشاهد البحرية والجماد. يصف كلاريدج (1998: 290-292) القصر الذهبي البديع الذي كان يسكنه نيرون، وتصور لوحة فسيفساء في مدينة باليسترينا مأدبة مقامة في الهواء الطلق في دلتا النيل. (5-1) الأثاث
في كل العصور، نجد أن قطع الأثاث وأدوات المائدة وغيرها من الأدوات المرتبطة بتناول الطعام تحظى بأهمية كبرى. لاحظ المؤلفون من عصور أحدث أن أبطال ملاحم هوميروس كانوا يجلسون على مقاعد عند تناول الطعام، ولم يأكلوا وهم متكئون، وكانت الأرائك التي يتكئ عليها من يأكلون قد دخلت إلى البلدان الإغريقية في العصر الموغل في القدم فيما يبدو، وتظهر بالتأكيد في الرسوم التي تزين المزهريات الكورنثية من القرن السادس إلى ما بعد ذلك (موراي 1990).
تطرح عادة تناول الطعام أثناء الاضطجاع على الأرائك موضوعات على درجة كبيرة من الأهمية في دراستنا عن عادات تناول الطعام القديمة؛ فهذه العادة من العادات (المذكورة في الفصل الأول) التي انتقلت شرقا عبر البحر المتوسط. وقد اكتسب الآشوريون والفرس وغيرهم من الشعوب الشرقية عادة الاتكاء عند تناول الطعام كجزء من عادات تناول الطعام الملكية والأرستقراطية التي ربما تكون قد نبعت من أسلوب حياتهم البدوي. ويظهر الملك الآشوري آشور بانيبال على لوحة نحت بارز شهيرة - موجودة حاليا في المتحف البريطاني - وهو متكئ عند تناول العشاء، ويظهر رأس أحد الأعداء معلقا على شجرة مجاورة. وتؤكد عدة فقرات وردت في العهد القديم الأدلة المستقاة من المؤلفين الإغريق ولوحات النحت البارز الإغريقية التي تثبت أن الفرس كانوا يضطجعون عند تناول الطعام؛ فمثلا في سفر أستير الإصحاح الأول، نقرأ عن الوليمة الفاخرة التي أقامها الملك الفارسي لجماعة من تابعيه، ووضعت خلالها أرائك (أو أسرة) في ساحة كبيرة في الحديقة. وقد تعلم الإغريق هذه العادة إما بطريقة مباشرة من الآشوريين، وإما بطريقة غير مباشرة بالانتشار عبر البلدان التابعة للإمبراطورية الفارسية. وكانت هذه من الطرق المريحة والباهظة لتناول الطعام، وكان الكثير من الطبقات الراقية في بلدان البحر المتوسط يسعى لتقليدها حتى يتباهى بقدرته على الاتصال بالشعوب في المدن الإغريقية أو غيرها من البقاع. وصور بعض النصوص التي سنراها في الفصل السابع - والتي ناقشتها في ويلكنز (2000) - الفرس على أنهم قوم مولعون بالترف ومنعمون إلى أقصى درجة. ولكن الإغريق، والإتروريين والرومان فيما بعد، تأثروا تأثرا شديدا بعادات أقوى إمبراطورية في بلدان البحر المتوسط الموغلة في القدم والكلاسيكية القديمة، وكان من بين العادات الأخرى المأخوذة عن الفرس تصوير المآدب في الأعمال الأدبية والفنية؛ فنادرا ما يظهر الملك الفارسي وهو يأكل؛ إذ كان يظهر بالتأكيد وهو يشرب والطعام في متناوله أحيانا، ولكن نادرا ما يظهر وهو يأكل. وبالمثل، يفضل الكثير من نماذج الأدب والفن الإغريقي الروماني احتساء الخمر على تناول الطعام، وكأن الطعام شيء فظ إلى حد يفسد التصوير الملكي أو الأرستقراطي. إن النماذج المتناقضة التي تصور الفرس بالتزامن مع استيعاب البلدان الإغريقية لهذه المؤثرات حتى أصبحت من عاداتها؛ ليست فقط أفكارا ملتبسة أو ردود فعل متضاربة تجاه بلد مجاور ذي نفوذ، بل تنبع من مكانة تناول الطعام والشراب في الثقافة الإغريقية الرومانية والثقافة الأشمل لبلدان البحر المتوسط. ولا تختلف الأسئلة المتعلقة بملك فارس عن الأفكار الملتبسة المتعلقة بالقصور الهلنستية أو الموجودة في قصور الأباطرة الرومان؛ فهل ينبغي أن يصور الإمبراطور أغسطس كل الثراء والتنوع في الإمبراطورية، أم ينبغي أن تكون الغلبة للعرف والبساطة والتقشف؟ وما زال السؤال يطرح حتى اليوم.
شكل 2-5: الملك آشور بانيبال - ملك آشور - يتناول الطعام مع زوجته الملكة وهو يتكئ على غرار الإغريق والإتروريين والرومان وغيرهم من شعوب بلدان البحر المتوسط، وتجلس زوجته معه ولكنها غير متكئة. وهو يظهر مرسوما على مستوى أعلى من رجال حاشيته؛ مما يدل على غلبة مبدأ التسلسل الهرمي على نسق جلسة الشراب الإغريقية (ولكن ليست الرومانية) القائمة نظريا على المساواة. ويظهر رأس أحد الأعداء معلقا على شجرة. (حقوق الطبع والنشر لأمناء المتحف البريطاني.)
يبدو أن الأرائك كانت جزءا من التأثير الشرقي على الطبقات الراقية في العصور القديمة؛ إذ كانت تتنافس في التباهي بتناول الطعام بهذا الأسلوب الجديد، وبمرور الزمن تغلغل هذا الأسلوب في كل الطبقات؛ ومن ثم أصبح عادة معروفة في المدن الإغريقية بحلول أواخر القرن الخامس. وأحاول أن أبرهن في ويلكنز (2000) على أن عادة الاتكاء كانت مألوفة في جلسات الشراب، ويبدو لي أن الأثاث وأساليب تناول الطعام كانت بموجب الرقي الأرستقراطي، ولكن الاتكاء واحتساء الخمر الممزوج بالماء كانت عادات منتشرة في كل الطبقات؛ والمقصود هو كل طبقات الرجال ذوي المكانة الرفيعة، فلا يعتقد أن النساء ذوات المكانة الرفيعة كن يتكئن، على الأقل في حضور الرجال، إلا إذا كانت المناسبة تتطلب ذلك - مثل حفل زفاف - وبشرط توافر إمكانية فصل النساء عن الرجال في أماكن الاتكاء. وتوضح الرسوم المأخوذة من لوحات النحت البارز الجنائزية - وفيها يبدو الرجال وهم متكئون عند تناول الطعام في مناسبة وفاة - الأرملة التي ترتدي ملابس الحداد جالسة بجوار الأريكة. وكانت المحظيات أحيانا يتكئن؛ أما النساء ذوات المكانة الرفيعة فلم يكن يتكئن. وكان الفقراء يميلون للاتكاء على حشية من القش أو ما يعادل ذلك، وكانت تسمى «ستيباس»، ويوجد ما يدل على وجودها في كل العصور؛ ففي القرن الرابع قبل الميلاد، يذكرها أفلاطون في كتابه المثالي «الجمهورية» (راجع الفصل السابع)، ويذكر ميناندر واحدة منها في نزهة خلوية ريفية بغرض تقديم القرابين في مسرحية «ديسكولوس» (يرد استشهاد بها في الفصل الثالث). وهي موجودة في وصف ديو كريسوستوم لحفل زفاف ريفي في القرن الثاني الميلادي (الخطبة اليوبية 7)، وفي رسوم من الفسيفساء تصور تناول الطعام من شمال أفريقيا.
شكل 2-6: الوليمة بالملابس التنكرية، من مدينة الجم التونسية (ثيسدروس القديمة) عام 200-220 تقريبا. (لوحة بالفسيفساء) المتحف الوطني في باردو في تونس لاوروس/جيرودون. تصور لوحة الفسيفساء مجموعة من الأشخاص يتناولون الطعام في مدرج روماني، ويتحدثون بكلمات دارجة مثل العبيد المحررين الذين يجيء ذكرهم في رواية «ساتريكون» من تأليف بترونيوس. ويتناقض هؤلاء الندماء المنتمون للطبقة الدنيا مع الكثير من صور الفسيفساء التي عثر عليها في الفيلات الفاخرة (مصدر الصورة:
http://www.bridgemanimages.com/en-GB ).
وأحيانا نجد تفاصيل تتناول عدد الأرائك الموجودة في الغرفة الواحدة. ويقول أركستراتوس إنه يكفي وجود ثلاثة إلى خمسة من الحاضرين لتناول الطعام، ولكن في أماكن أخرى نجد أعدادا أكبر بكثير. ويأتي أثينايوس على ذكر هذا الموضوع في كتابه «مأدبة الحكماء»، ويستشهد - مثلا - بغرفة تتسع لسبع أرائك من مسرحية كوميدية من تأليف الشاعر الأتيكي فرينيكوس من القرن الخامس، ويذكر زينوفون غرفة مشابهة في كتابه «حوار المأدبة» الذي تدور أحداثه في منزل كالياس الأرستقراطي. ثمة شك في النص الذي يصف وليمة زفاف كارانيوس المقدوني المذكورة آنفا، يتعلق بما إذا كان عدد من حضرها 20 أم 120 مدعوا متكئا على أرائك. وقد رأينا أيضا أعدادا تصل إلى 30 أريكة في الغرفة الواحدة لدى ديونيسوس الثاني، وعددا يتراوح بين 1000 و1500 أريكة ثلاثية الأضلاع في أنطاكية الهلنستية.
ونلاحظ حدوث تطورات مشابهة في إيطاليا؛ إذ بدأ الإتروريون وغيرهم من الشعوب الإيطالية القديمة - بما في ذلك اللاتينيون والرومان - الأخذ بعادة الاتكاء (راجع راثجي1990). حين نتأمل الأوصاف التي تتناول التأثيرات الإغريقية والشرقية على الرومان عندما بدءوا يتشربون عادات البلدان الواقعة شرق البحر المتوسط في القرن الثالث قبل الميلاد والقرون التي أعقبته؛ نجد أن الأثاث وكذلك الأطعمة الجديدة من العناصر التي تركت تأثيرا ملحوظا، والأمر نفسه ينطبق على الأعمال الفنية والغنائم الأخرى التي كان يستولي عليها المنتصر في الحرب. وكان مثل هذه الواردات مثار منافسة ناجحة فيما بين أفراد الطبقة الراقية الرومانية، تماما كما كانت الحال لدى نظرائهم الإغريق في العصر القديم.
أما فيما يتعلق بأدوات المائدة، فقد أحدثت المزهريات المصنوعة من الخزف تأثيرا هائلا، فضلا عن الصحون والأطباق المرافقة لها، وهي تثبت أن الطعام والنبيذ كانا يقدمان في أدوات مائدة مزخرفة. وتركت الأدوات المعدنية تأثيرا أكبر، وهذا ما نراه في أدوات المائدة الكورنثية الأنيقة وأدوات المائدة الذهبية والفضية التي استخدمها كارانيوس في المأدبة المقدونية التي ورد وصفها آنفا، وفي الكثير من الأمثلة الإغريقية والرومانية، وأهمها مأدبة تريمالكيو؛ فنراه أيضا يفتخر بما يملكه من أثاث وتحف مصنوعة من البرونز الكورنثي الأنيق.
وكان التصميم المعماري ذو الحجم الكبير لغرفة الطعام يتماشى مع هذا الأثاث؛ إذ كان يتسم في البداية بشكله المميز الذي يتسع للأرائك، وذلك في اليونان أو روما، ثم صار بعد ذلك يتسم بوحدات تزيين الجدران مثل اللوحات الجصية والأشكال الخاصة المستخدمة في لعبة «كوتابوس» (لعبة نقر زجاجات الخمر) ورسوم الفسيفساء التي تكسو الأرضيات، والتي أصبحت في العصرين الهلنستي والروماني منتشرة في غرف الطعام عند الأثرياء، وأتاحت للمختصين بالزخرفة فرصة تصوير الأحداث وعكسها على المائدة وحولها. وأكد هيبولوكوس على ثراء مأدبة كارانيوس. وقدم هذا أيضا في عصور لاحقة في موضوعات تظهر في رسوم الفسيفساء، تصور ثراء نهر النيل أو ثراء البحر. ونجد أن العلاقة بين البحر والثراء تسجلها على نحو بارز للغاية رسوم الفسيفساء الموجودة في الفيلات الرومانية في شمال أفريقيا (في تونس في العصر الحديث)؛ إذ كانت تظهر على أرضيتها صور فخمة لمأكولات بحرية، على الرغم من أنها تبعد أميالا عن البحر. (5-2) تناول الطعام في مناسبات خاصة
غالبا ما كان الناس يتناولون الطعام في العصر القديم في مناسبات خاصة. كانت الأعياد التي تنظمها المدينة أو الأفراد الأغنياء مناسبات مميزة، تأتي على النقيض من تلك المناسبات الخاصة، وكانت المآدب الخاصة تتخذ صورا شتى، بحسب المناسبة ووقتها. وكان يتفاوت عدد الوجبات في اليوم، ولكن توجد أدلة كثيرة على تناول وجبات خفيفة في أوقات الإفطار و/أو الغداء، فضلا عن وجبة أكبر في وقت متأخر من اليوم. وكانت هذه هي الوجبة التي كان يدعى الغرباء إليها، والتي كانت مناسبة لتقديم أطباق أشهى من الوجبتين السابقتين، كما كانت هي الوجبة التي تسجل على الأرجح في المصادر الأدبية. وكما رأينا، يسجل سيوتونيوس أن الإمبراطور أغسطس كان يحتفي بضيوفه رسميا في مثل تلك المناسبات، على عكس الترتيبات التي يتخذها عند تناول الطعام بمفرده؛ إذ كان غالبا ما يأكل وهو يسير وقد تخفف إلى حد كبير من الرسميات. وبالمثل، يسجل بلوتارخ أن كاتو الأكبر كان كثيرا ما يأكل مع عبيده حين يكون موجودا في المنزل، وكان يحتسي النبيذ نفسه الذي كانوا يحتسونه. ويتحدث كتاب السير عن تفضيل هؤلاء القادة ذوي السلطان للبساطة؛ وذلك لأنهم كانوا يرونه أمرا فريدا من ناحية، ويفصح عن خلق قويم من ناحية أخرى. ولكن هؤلاء القادة وغيرهم كانوا يتناولون الطعام بكل دلائل الهيبة والسلطان حين يرون ضرورة تستوجب ذلك، وكانت تلك المناسبات على الأرجح صورا مميزة من الوجبة الرئيسة لليوم.
ومن ثم، من المفترض أن نتوقع وجود طعام عادي نسبيا في الوجبات الخاصة (الإفطار و/أو الغداء)، ووجود أطعمة وأدوات مائدة أفخم - وحضور ضيوف إذا تيسر ذلك - في الوجبة الفاخرة أو ما يطلق عليه باللاتينية «سينا». ويستغني المؤلف الذي يتبع مدرسة أبقراط الذي ألف «الحمية 3» (68) عن الوجبات البسيطة تماما، ويوصي بوجبة واحدة فقط يوميا. ويجيز ديوكليس من كاريستوس - وهو كاتب من القرن الرابع قبل الميلاد - الغداء والعشاء (الشذرة 182، 5-7 فان دير إيجيك 2000)، ويوصي بتخصيص اللحم والأسماك للعشاء. تضفي الوجبات رونقا على اليوم كما تضفي الأعياد رونقا على العام، ومن غير المرجح أن تنطبق الوصفات الطبية التي يصدرها الأطباء على السواد الأعظم من السكان. يصف جالينوس - على سبيل المثال - وجبة فاخرة تقاسمها مع عمال الحقول كانت تتألف من قمح مسلوق لأن الخبز كان قد نفد (راجع ما سبق طرحه في هذا الفصل). ونجد أن الوجبة تحضر فورا، ولكن مكوناتها الأخرى (إن وجدت) غير مذكورة. وهذه وجبة من أبسط أنواع الوجبات على الإطلاق، وقد تناولها جالينوس لأنه كان مسافرا وجائعا. ويمكن الاطلاع على صورة أفخم للحياة القروية في آسيا الصغرى في كتاب من تأليف ميتشيل (1993).
وكان الأغنياء غالبا ما يدعون الضيوف على فترات كثيرة متقاربة، أما الفقراء فكانوا يدعون الضيوف مرات أقل بكثير، وربما في مناسبات مميزة فقط مثل الأعراس والتجمعات العائلية. وتؤكد لنا مصادرنا أن ظروفا مختلفة كانت سائدة في عادات تناول الطعام الرسمية لدى الإغريق ولدى الرومان؛ فالمساواة بين كل من يجلسون إلى المائدة لتناول الطعام كانت سمة مميزة لدى الإغريق، بينما كانت المأدبة الرسمية الرومانية تتسم بتنظيم هرمي للتأكيد على تفضل الغني بمنحه هذه المأدبة. ويقال أيضا إنه كانت هناك فوارق واضحة قائمة على النوع الاجتماعي؛ إذ كانت النساء من صاحبات المكانة الرفيعة يحضرن المآدب الرومانية، ولكن لا يحضرن المآدب الإغريقية. وتستحق هذه المزاعم قدرا من الاستقصاء، لا سيما أن عددا من مصادرنا - من بينهم أثينايوس - كان يجمع بين العادات الإغريقية والرومانية. (6) الطعام والمكانة الاجتماعية
لم يكن مبدأ المساواة في المأدبة الإغريقية متبعا بدقة كما كان يفترض. كان التابعون في المجتمع الروماني يرتبطون بحام ذي نفوذ، أما المدن الإغريقية فكان ينتشر فيها عرف المنتفعين أو المتملقين، وكان هؤلاء هم من يحضرون المأدبة دون أن يحق لهم الحضور، ولكن كانوا مضطرين لتملق صاحب المأدبة. يصور زينوفون أحد هؤلاء في كتابه «حوار المأدبة»، وفيه يصل فيليب جائعا ودون دعوة ويتوقع أن يستحق الحصول على طعامه مقابل إلقاء النكات، وحين لا تلقى نوادره فيما يبدو إعجاب أحد يلوذ بالصمت؛ لأن خطته فشلت حسبما يبدو؛ فلا يتناول الطعام بسبب فشله في تسلية الحاضرين، وفي الأحداث التالية، يقلد رقصة تؤديها إحدى الراقصات تقليدا منفرا. ونجد أن أفضل المعلقين على الحياة اليومية في أثينا إبان القرن الرابع - وهم الشعراء الهزليون - يكثر بينهم المنتفعون الذين كانوا يذلون أنفسهم بطرق مخزية شتى حتى يحق لهم الحصول على طعامهم، ويجمع أثينايوس الكثير من الأمثلة على ذلك في الجزء السادس من كتابه «مأدبة الحكماء»، وكذلك ألف الشاعر الهزلي يوبوليس مسرحية بعنوان «المتملقون» في القرن الخامس، وهي تصور مجموعة من الكسالى يستجدون كالياس الغني طمعا في طعام موائده. ونجد وصفا أكثر إيجابية لهذه الصورة من صور التفضل في كتاب «بروتاغوراس» لأفلاطون وكتاب «حوار المأدبة» لزينوفون، وفي كليهما يدعو كالياس سقراط وفلاسفة آخرين إلى مأدبة في منزله. وكان المنتفعون حاضرين فعلا في ملحمة «الأوديسا» من وجهة نظر ما؛ فقد كان المتقدمون لطلب يد بينيلوبي رجالا ذوي مقام رفيع وليسوا منتفعين، ولكنهم كانوا يأكلون من ماشية الملك أوديسيوس دون أن يقدموا شيئا مقابل ما يأكلونه، وكانوا أيضا يسيئون معاملة فئة اجتماعية أدنى من المنتفعين - وهم الشحاذون - الذين كان يحق لهم استجداء الناس طلبا للطعام من الموائد، مع أنه لم يكن يحق لهم الجلوس إلى المائدة وحضور المأدبة. وكان هؤلاء الخطاب يسيئون معاملة أفراد أسرة أوديسيوس الغائب حين كانوا يأكلون من حيواناته دون وجه حق، ويسيئون معاملة الشحاذين حين حاولوا حرمانهم من الطعام الذي لم يكن حتى ملكا لهم.
كانت ثمة وسائل أخرى لإظهار المكانة الاجتماعية الراقية، ومن أبرزها رعاية القرابين وعمليات توزيع الطعام على الأهالي؛ وهذه سمة من سمات المدن الإغريقية الهلنستية، وهي منتشرة في روما في عهديها الجمهوري والإمبراطوري، كما سجلت ذلك دوناهو (2005) (راجع الصفحات السابقة من هذا الفصل). وفي روما، كانت المآدب - سواء أكانت خاصة أم عامة - تنظم تنظيما هرميا متشددا، وهذا واضح في عمليات توزيع الطعام التي يشرف عليها الإمبراطور في ساحات واسعة، وكانت فئات مختلفة من المواطنين تتلقى فيها حصصا مختلفة من الطعام، وهو واضح كذلك في استضافة الأسياد الأغنياء للتابعين الفقراء. وقد استشهدت في موضع سابق في هذا الفصل بمثال حافل بالتفصيل عن هذا في المقطوعة الهجائية الخامسة لجوفينال، وكان المضيف يستعرض أيضا ثراءه وإحسانه بدعوة أعداد كبيرة من الضيوف إلى مأدبة، كما كان يفعل الكثير من الأباطرة الرومان، وكما رأينا فيما سبق من ديونيسوس الثاني في سيراقوسة وأنطيوخوس الرابع الظاهر في أنطاكية. ويذكر بلوتارخ في كتاب «حديث المائدة» (5، 5) أن ذلك البذخ لم يكن بالضرورة فكرة جيدة؛ وفي هذا الشأن، يجب أن نضع في اعتبارنا أن دعوة الضيوف على العشاء بمثل هذا العدد الكبير كانت دائما الاستثناء وليست القاعدة، وأنه حتى بين أفراد الطبقة الراقية، كانت مشاهد مثل بلينوس وهو يتناول الطعام مع زوجته (راجع ما يأتي) معتادة ومألوفة أكثر من الوليمة الكبيرة المقامة بغرض الإحسان. (7) الطعام والنوع الاجتماعي
كانت النساء من صاحبات المكانة الرفيعة يحضرن المأدبة الرومانية، خاصة في القصر الملكي، وغيرها من المناسبات الرسمية، ولكن يبدو أن عدد الحاضرات في المأدبة لم يكن كبيرا مثل الرجال. ويرسم كاتب السير الروماني كورنيليوس نيبوس فارقا واضحا بين العادة الإغريقية والعادة الرومانية في هذا الشأن (تمهيد 6-7):
أي روماني يخجل من إحضار زوجته إلى المأدبة الرسمية؟ أو من الذي لا يتيح لربة الأسرة أن تحتل المكان الأول في المنزل وتنتقل في الأماكن العامة؟ تختلف العادات الإغريقية في هذا الشأن اختلافا كبيرا؛ إذ لا يسمح للمرأة الإغريقية بحضور المأدبة الرسمية إلا إذا كانت مأدبة عائلية، ولا يتاح لها الجلوس إلى المائدة إلا في القسم الداخلي من المنزل.
يبدو أن هذا الكلام ينطبق على الأدلة الإغريقية؛ إذ نجد أن الشذرة 186 من ميناندر تصف مأدبة عائلية: «إنها مهمة صعبة أن يجد المرء نفسه في حفل مأدبة عائلية، وفيها يمسك الأب بالقدح ويستهل الكلام، وبعد أن يوجه النصائح إلى الشاب في مرح يأتي دور الأم بعده، ثم تتمتم الخالة العجوز ببعض الترهات على هامش الحديث، ثم يتحدث شيخ ذو صوت أجش، وهو أبو الخالة، وتعقبه امرأة عجوز تخاطب الشاب بأنه أعز من لديها بينما يومئ هو برأسه موافقا على كلامهم جميعا» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). تقدم النصوص الهزلية من القرنين الخامس والرابع أدلة على مناسبة مشتركة، ولكن ذات ترتيبات مختلفة للضيوف من الرجال والنساء في حفلات الزفاف (يوانجيلوس الشذرة 1): «أخبرتك، أربع موائد للنساء وست موائد للرجال، مأدبة كاملة ولا ينقصها شيء ...» (راجع ويلكنز 2000: 60). ويصف ديو كريسوستوم ترتيبات مشابهة في حفل الزفاف الذي أقيم في جزيرة يوبيا في القرن الثاني الميلادي (ورد ذكر ذلك في بداية الفصل). فحفلات الزفاف من المناسبات شبه العامة التي تتوافر أدلة عليها، وليست لدي فكرة عن أي دليل يثبت إقامة مآدب خاصة ويتناقض مع ما قاله نيبوس، وهو يتحدث عن النساء صاحبات المكانة الرفيعة طبعا، وليس الإماء و«الهيتاراي» (أي المحظيات)، ممن كن يحضرن في جلسة الشراب الإغريقية، كما نتناول ذلك في الفصل السادس. ويبدو أن هيرودوت قد استبق في كتابه (5، 18، 2-3) الدليل الذي يقدمه نيبوس قبل ذلك بأربعمائة عام. يذكر هيرودوت أن بعض المبعوثين الفرس يطلبون من أمينتاس المقدوني دعوة الزوجات والمحظيات لحضور المأدبة، سيرا على العادات الفارسية؛ فيقال لهم إن تلك ليست العادة المتبعة في مقدونيا (ويشمل هذا ضمنيا اليونان). ينقل بلوتارخ («حديث المائدة» 1، 1) العادة الفارسية على نحو مختلف، زاعما أن الحاضرات في جلسات الشراب كن من المحظيات لا الزوجات.
والأدلة التي تثبت حضور النساء أوقات الطعام كثيرة نسبيا. يقدم فاليريوس ماكسيموس وصفا يضفي صبغة مثالية (2، 1) على النساء الجالسات في المأدبة بجوار أزواجهن الذين كانوا متكئين. وكان يتخيل أن الإلهة جونو والإله جوبيتر يتناولان الطعام أيضا. ولكن يشير فاليريوس إلى أن الناس لم يعودوا يتبعون تلك العادة في عصره. وفي الماضي أيضا، لم يكن النساء يشربن النبيذ. وربما تكون هذه الصورة المثالية للفضيلة الواردة في كتاب «الجمهورية» ليست أكثر من مبدأ عام قائم على الورع يتناسب مع الخطاب الوعظي للعصر. وكانت الفضيلة المحافظة أيضا ممكنة في ظل حكم الأباطرة. يصف بلينوس الأصغر أمسية في المنزل مع زوجته وأصدقائه («الرسالة» 9، 36):
حين أتناول طعامي بمفردي مع زوجتي أو مع بضعة أصدقاء، يقرأ لنا أحدهم كتابا بصوت عال في أثناء ذلك، وبعدئذ نستمع إلى مسرحية كوميدية أو مقطوعة موسيقية. (ترجمه إلى الإنجليزية: راديس)
يؤكد شعراء الحب وجود النساء في المآدب، وأن منهن من كن يتعرضن للإغواء وهن برفقة أزواجهن (ماكيون 1987). ومن الصعب قراءة هذا الدليل ما دام هذا الجنس الأدبي يسعى لخلخلة أنماط السلوك المقبولة، وكثيرا ما تكون مكانة حبيبة الشاعر غير واضحة. ويصور فن الهجاء أيضا حضور النساء للمآدب، وذلك في تصوير عدائي في «المقطوعة الهجائية السادسة» لجوفينال، وفي وصف أقل عنفا في «عشاء مع تريمالكيو» من تأليف بيترونيوس. وفي أعلى مستوى اجتماعي، كانت زوجات الأباطرة وأعضاء مجلس الشيوخ يتناولن طعامهن في القصر الإمبراطوري (كتاب «كاليغولا» من تأليف سيوتونيوس).
وقد نتوقع أن يساعدنا في حسم هذه المسألة كل من بلوتارخ وأثينايوس، المؤلفين اللذين عاشا في القرن الثاني الميلادي ودمجا بين الكثير من جوانب السلوك الإغريقي الروماني في عالمهما الفكري، ولكنهما لا يذكران شيئا بخصوص موضوع حضور النساء في المآدب الرسمية في عصرهما؛ فلا يوجد مدعوات يحضرن مأدبة للعالمات على غرار مأدبة الحكماء.
يستحق الأمر أن نستخلص بعض النقاط العامة. يستقى الكثير من الأدلة الإغريقية من أثينا القديمة، التي كانت - فيما يبدو - تطبق سياسة الفصل بين الجنسين على نحو أكثر تشددا مقارنة بالكثير من المدن الأخرى ، فيما عدا مدينة ميليتوس. ولا توجد أدلة على أن مثل ذلك الفصل المتشدد كان يطبق على كل فئات الحرائر؛ إذ كانت هناك، على سبيل المثال، بائعات خبز وبائعات أسماك في السوق (راجع ويلكنز 2000). ولكن توجد أمثلة تفيد عكس ذلك أيضا (راجع مثلا ما يرويه جالينوس عن القرويات اللاتي يسلقن القمح كما ورد آنفا). كان بوسع النساء أن يأكلن ويشربن بعضهن مع بعض، ونجد بعض الأمثلة الهزلية على ذلك في كتاب ويلكنز (2000). وحين نقرأ في كتاب أفلاطون «حوار المأدبة» أنه لا داعي لوجود عازفة المزمار، وأنه من الأفضل إرسالها لتسلية النساء إذا دعت الضرورة، فإننا لا ندري شيئا عن ظروف أو طريقة تناول هؤلاء النساء للطعام هن وصديقاتهن. أما النساء اللاتي نعرف معلومات عنهن حقا، فهن الرفيقات أو المحظيات «هيتاراي»، وهن مرافقات يحضرن جلسات الشراب ويظهرن كثيرا في المسرحيات الهزلية وفي الرسوم التي تزين المزهريات وفي صفحات كتب أثينايوس. ويسجل أثينايوس الكثير من الأقوال المأثورة الطريفة لهؤلاء النساء في الجزء الثالث عشر من كتابه «مأدبة الحكماء»، والفكرة التي تؤكدها كثرة حضور المحظية للمآدب الإغريقية هي غياب المرأة صاحبة المكانة الرفيعة. ومع ذلك، كان كل هؤلاء النساء يتناولن الطعام يوميا مع أسرهن وصديقاتهن وأقربائهن.
وربما تفيد مناهج أخرى في ذلك؛ فقد أشار دالبي (1993: 176-181) إلى أن النساء كن غالبا ما يطعمن أزواجهن أولا، ثم يأكلن طعاما أقل جودة بعد ذلك، واعتمد في ذلك على الدليل النسبي الذي استقاه من رعاة الغنم في منطقة ساراكاستاني في شمال غربي اليونان. وهذه طريقة مفيدة للمضي قدما، ولكن لا توجد أدلة قديمة تدعمها. ونجد أن محاولة دالبي لاستعمال أحد المشاهد الواردة في مسرحية أريستوفان «الدبابير» ليست مقنعة؛ ومع ذلك، فإن الأدلة الأثرية تفيد بأنه في مايسيني، وكذلك في كريت في العصر البرونزي، كان الرجال يأكلون الأسماك واللحوم على التوالي بكميات أكبر من النساء، وذلك بناء على الرواسب الكيميائية الموجودة في العظام (تزيداكيس ومارتلو 2002). ويدرس جارنسي (1999) أيضا مجموعة مختلفة من البيانات الأثرية، ويستنتج أن النساء - وخصوصا اللاتي في سن الإنجاب - كن غالبا ما يتعرضن للإصابة بسوء التغذية أكثر من الرجال. ويقول جالينوس - في تعليق نادر - إن النساء والأطفال يأكلون العناب، وهو طعام سيئ في رأيه.
وقد ناقشنا حتى الآن النساء من حيث استهلاكهن للطعام والشراب، أما بخصوص تحضير الطعام، فمن المؤكد أن النساء كن يحضرن الطعام أكثر من الرجال، إلا في حالة قدرة الأسرة على تحمل تكلفة شراء عبيد. ويوجد الكثير من الأدلة المستقاة من الكتب ومن الحياة الواقعية التي تثبت هذا، وبعضها يرد في ويلكنز (2000). يتحدث الشاعر الهزلي فيريكراتيس في الشذرة 10 من مسرحيته «الهمجيون» عن شخصية تتخيل وجود عالم يخلو من العبيد؛ ولذلك، فالنساء هن من عليهن الاستيقاظ مبكرا وطحن الذرة التي ستؤكل خلال اليوم، تماما كما عرف عن النساء بعد ذلك بستمائة عام؛ حيث كن هن من يخبزن الخبز اليومي كما يرد في قصة جالينوس. ويؤكد مثل هذا النشاط الصورة العامة التي تصور الرجال على أنهم يعملون خارج البيت إما كعمال مشتغلين بالأعمال اليدوية وإما في الأنشطة الأرقى، وتصور النساء على أنهن في المنزل يتولين مسئولية مؤن الأسرة؛ وهذه هي الرسالة الكامنة في كتاب رصين مثل «الاقتصاد» لزينوفون، وأيضا في المسرحيتين الكوميديتين المازحتين من تأليف أريستوفان: «المحتفلات بعيد ثيسموفوريا» و«الضفادع». (7-1) ترتيب المأدبة
غالبا ما يقال إن المأدبة وجلسة الشراب الإغريقية كانتا تنقسمان إلى قسم مخصص للطعام وآخر مخصص لاحتساء الشراب، وهو جلسة الشراب؛ وهذا ينطبق عموما على اليونان، وينطبق على نحو أقل على عادات تناول الطعام الرومانية. ولدينا نصان يعودان إلى عام 400 قبل الميلاد تقريبا يلقيان بعض الضوء على هذا الموضوع؛ فتصف قصيدة تتناول فن تذوق الطعام بعنوان «المأدبة» أو «حفل العشاء» من تأليف فيلوزينوس؛ مأدبة أنيقة، وتنتهي بعبارة: «حين شبعوا من الطعام والشراب.» وبعدئذ تغيرت الموائد، وبدأت جلسة الشراب؛ ومن الواضح أن الضيوف شربوا خمرا بالضرورة خلال المأدبة، ولكن كان ثمة فاصل واضح قبل بدء جلسة الشراب، من أبرز سماته الأرضيات النظيفة والموائد والأكاليل الجديدة والصلوات وطقوس إراقة الخمر؛ وهي بداية جديدة، ولكن سبق تقديم الخمور قبلها، ومن المفترض أن يعقب ذلك المزيد من الطعام خلال جلسة الشراب، عند وضع الموائد الثانية أو تقديم أطباق الحلوى. وفي روما، تبدأ المأدبة باحتساء الشراب (ويلاحظ هذا بوضوح في عشاء تريمالكيو وفي المأدبة الواردة في كتاب «مأدبة الحكماء»)، وتنتهي به. ويوجد تحفظان على النمط الإغريقي، أولهما أنه كان من المستبعد أن يتناول أحد وجبة كبيرة دون تناول مشروبات مرطبة إذا دعت الضرورة. وثانيهما أن ثمة عددا من النصوص يوضح أن الحاضرين كانوا يحتسون النبيذ في مرحلة سابقة لذلك. في بداية ملحمة «الأوديسا»، الجزء الثالث، يقدم النبيذ وأحشاء حيوانات القرابين إلى تيليماكوس وأثينا المتنكرة عند وصولهما، ثم يقدم المزيد من اللحم وتأتي الوليمة الفاخرة بعد ذلك بقليل. وفي الجزء الرابع، يرحب بهما مينيلاوس ويشبعان من الطعام والشراب، ثم ينضمان إلى جلسة شراب بعد ذلك. وفي ملحمة «الإلياذة»، الجزء التاسع، نجد أن أفراد البعثة الموفدين إلى أخيليس يأكلون ويشربون؛ والنبيذ هو الخيار الأول، ثم يأتي الطعام - وهو قطعة من لحم العمود الفقري لخنزير - ثم يشربون أنخابا ويستمرون «عند إطفاء ظمئهم وجوعهم»؛ ولذلك، علينا ألا نعتقد بوجود فاصل وحيد يفصل بين قسمي تناول الطعام وتناول الشراب من المأدبة (ونجد بالفعل في الكثير من المصادر - بدءا من زينوفون وحتى العصور التالية له - أن مصطلحي المأدبة وجلسة الشراب يشملان قسمي المناسبة كليهما). فبالأحرى، كانت جلسة الشراب تبدأ بداية جديدة، تتميز بإحضار أكاليل جديدة وإعداد موائد جديدة وتلاوة صلوات جديدة وبداية جديدة لوعاء مزج الخمور. بيد أن هذه الصورة تتناقض مع ما يرويه بلوتارخ في كتابه «حديث المائدة» (8، 9)؛ إذ يدعي أن ترتيب المأدبة سبق أن تغير منذ العصور القديمة؛ إذ كان يقدم المحار وقنافذ البحر والخضراوات النيئة في بداية المأدبة بدلا من نهايتها. ويذكر أيضا أن احتساء الشراب في بداية المأدبة كان عادة غير معروفة في العصور السابقة لذلك العصر؛ إذ لم يكن يقدم أي شراب قبل أطباق الحلوى. وقد يكون بلوتارخ محقا، ولكني أشك فيما يقوله بشأن عدم احتساء الشراب في مرحلة سابقة من المأدبة. وتوجد حالة يذكرها جالينوس تدعم هذا الرأي؛ فحين رأى رجلا يأكل وجبة عادية، حاول أن يفهم سبب إصابته بالتوعك من التفاح والكمثرى («عن قوى الأطعمة» 2، 21). يستحم الرجل ويشرب بعض الماء ويأكل الحلبة والفجل كمقبلات، ويشرب شيئا من النبيذ الحلو، ويأكل الخبيزة بالزيت وصلصة جاروم والنبيذ والأسماك ولحم الخنزير والدجاج، ويشرب قدحا أو قدحين من الخمر، ثم يأكل ثمرتي كمثرى لاذعتين.
كثيرا ما يكون من الصعب تحديد الترتيب الدقيق للمأدبة الرسمية، ونظرا لتنوع المدن وعادات تناول الطعام والجدول الزمني قيد المناقشة في هذا الكتاب، فمن غير المرجح أن نخرج بمعلومة نهائية، ولكن من الممكن إثبات نقاط معينة. ظهرت اختلافات على مر الزمن، كما يذكر أثينايوس (مؤكدا ما قاله بلوتارخ في 3، 101) بقوله: «لم يقدم جميع القدماء قبل المأدبة أرحام أنثى الخنزير أو خسا أو أي شيء آخر من ذلك النوع، كما يحدث الآن. ويتحدث أركستراتوس الطاهي المبتكر عنها بعد المأدبة وبعد الأنخاب والمسح بصمغ المر» (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز). ثم يستشهد أثينايوس بعد ذلك بأركستراتوس من الشذرة 60 في أولسون وسينس (2000)، وهو دراسة مفيدة للغاية عن الموائد الثانية. ويذكر أثينايوس أيضا أنه في حفل العشاء الذي أقامته المحظية لاميا لديميتريوس بوليوركيتيس في أثينا، كانت الأسماك واللحوم تقدم أولا، كما كانت الحال بخصوص حفلات العشاء التي أقامها الملك أنتيجونوس وبطليموس الثاني اللذان ورد ذكرهما سابقا. ومن الصعب أن نحدد الأطعمة التي قدمت أولا في أركستراتوس؛ نظرا لعدم اكتمال القصيدة، وللخلافات القائمة بين المحررين حول ترتيب الشذرات فيها. ويصرح في الشذرة 9 أولسون وسينس: «أيتها البصلات، أودع أطباق مخللات بصلات النباتات وسيقانها وكل الأطباق الجانبية الأخرى.» ومع ذلك، قد يكون ثمة وجه شبه ما بين المقبلات و«الموائد الثانية» التي كانت توضع خلال جلسة الشراب الإغريقية؛ ومن ثم، نجد أنه في مأدبة تريمالكيو أيضا، كانت الأسماك الصغيرة تقدم في بداية المأدبة وليس في نهايتها. ويقدم أثينايوس عددا من الأطعمة التي يبدو أن مكانها المعتاد قد تبدل من بداية المأدبة إلى نهايتها أو العكس . وتعبر هذه التعليقات لأثينايوس وبلوتارخ عن رغبة في التوفيق بين الأدلة القديمة والمتناقضة.
مقدمة الفصل الثالث
تتشابه القيود التي يفرضها الدين على النظام الغذائي مع القيود التي تفرضها عليه الهيئات العسكرية والاجتماعية؛ فهذه القيود تبدو وكأنها تعبير عن ضم صفوف المؤمنين وتوفر حسا من الترابط والانتماء للجماعة أكثر من أي شيء تجمعه أدنى صلة بالمعتقدات الجوهرية والفلسفة الأساسية. ومع ذلك، فهي تكتسب - بوصفها رموزا للدين - دلالة مغزى يتعدى حدود ما قد يبدو أنه ضروري أو منطقي؛ فربما يكون من الأسهل أن يظهر المرء تقواه بطرق ظاهرة مثل تجنب الطعام غير الموافق للشريعة اليهودية، أو الطعام غير الموافق للشريعة الإسلامية، أو مثل الامتناع عن تناول اللحم أثناء الصوم الكبير قبيل عيد الفصح، وذلك مقارنة بالالتزام بالنصوص المقدسة التي تتحدث عن الإخاء بين البشر أو الامتناع عن رد الإساءة بمثلها؛ فعامل الجذب القائم على الإظهار الجماعي للاتحاد والأخوة في مواجهة الغرباء هو الاحتمال الأرجح.
وعادة ما ينصح بالامتناع - مثل الصوم كجزء من نظام غذائي معين يهدف إلى كبح شهوات الجسد - وتكون الأهداف المبتغاة من وراء ذلك تهذيب النفس وضبط النفس. وليس من الصعب ملاحظة أن ذلك يمثل عامل جذب للمجتمعات التي تعتمد على القوة العسكرية أو المهتمة بأن تكون لها هوية مستقلة؛ إذ نادرا ما تتعارض اهتمامات الإله واهتمامات الدولة.
ونجد أن أتباع فيثاغورس يلتزمون بهذه القواعد؛ إذ يجمع بينهم تجنب اللحم، بل الأغرب أيضا تجنب البقوليات. ومع ذلك، يشترك أسلوب الحياة النباتي مع البوذية - وللأسباب نفسها - في فكرة أن الحياة مقدسة في حد ذاتها أكثر من كونها خاضعة للاحتياجات العليا للدولة أو المجتمع. ولعل هذا الأسلوب النباتي كان سيثير الجدل أكثر من أي نظام غذائي آخر، كما أن تقديم أي قربان بخلاف الحيوانات عند مذبح الآلهة كان سيعتبر قربانا وضيعا وسخيفا؛ ففي أوقات الخطر لن يكون لحزمة من الكرفس أبدا نفس تأثير جدي مذبوح.
وكان ذبح الحيوانات في إطار شعائري وطهيها وتوزيعها في اليونان من الشعائر الوثيقة الصلة بالطقوس الدينية، ومن المفترض أنها أيضا تعبير عن تعزيز النظام الاجتماعي أكثر من أي شيء يتصل بفن تذوق الطعام. وتكاد المسيحية تخلو من الأطعمة المطلوب تناولها وليس الأطعمة المطلوب تجنبها. وخبز القربان المقدس - وهو كسرة الخبز التي ترمز لجسد المسيح - هو الاستثناء الأساسي، ولا يقدم إلا إلى المؤمنين المخلصين ممن هيئوا أنفسهم بالتوبة لتلقيه. ومع ذلك، فإن تكريس فترة من النهم أو الإفراط في الانغماس في الطيبات للآلهة ليس أمرا جديدا.
وغالبا ما يأتي موسم إقامة الولائم عقب الصوم، فعيد الفصح يأتي عقب الصوم الكبير، وعيد الفطر يأتي عقب شهر رمضان. وربما لم يتبق من عيد الميلاد (الكريسماس) إلا نذر يسير يربطه بميلاد المسيح، ولكن هذا هو العذر الذي يبرر الإفراط في الطعام واحتساء الخمور على مدى ثلاثة أسابيع في عدد كبير من البلدان الغنية، ومن الصعب ألا نفترض أن الأمور كانت دائما على هذا المنوال.
الفصل الثالث
الطعام والدين في العصور القديمة
إذا سألنا عن علاقة الدين بالطعام في العصر القديم، نجد أن الإجابة لها ثلاثة جوانب؛ فأولا: كانت الأعياد الدينية تشكل الهيكل العام لدى الجماعة، وكانت الأعياد أيضا تميز مراحل دورة حياة الفرد، وذلك بالولائم التي تقام بمناسبة الميلاد والاندماج في المجتمع والزواج والوفاة. وظلت المناسبات المهمة الوافدة من البلدان المتأثرة بالحضارتين الإغريقية والرومانية باقية (باركر 1996، بيركرت 1985، ميكالسون 1975، نورث وبرايس وبيرد 1998: 60-77). وكان الكثير من الأعياد وكذلك الشعائر ذات النطاق الأصغر يتطلب (من بين أمور أخرى) تقديم الحيوانات أو غيرها من الأطعمة كقرابين إلى الآلهة، وكان عدد من تلك الآلهة مسئولا عن ازدهار قطعان الماشية ومواسم الحصاد أو فشلها. وفي تلك الأعياد، كان الناس كثيرا ما يأكلون مع الآلهة، ويتمتعون بمأدبة مميزة. ثانيا: كانت الأعياد الدينية ترتبط بالسلطة والهياكل الاجتماعية للمجتمع، وكانت تعزز من النظام الاجتماعي. ثالثا: كان تناول الطعام في إطار ديني غالبا ما ينظر إليه على أنه من العادات «المتوارثة التقليدية». وأحيانا كانت مثل تلك الطقوس القديمة تتطلب تفسيرا ؛ مما أدى إلى نشوء فرع من الأدب كان يتميز بتقديم إجابات على أسئلة قد يطرحها قارئ ما، وسنرى أمثلة على ذلك في أعمال أوفيد وبلوتارخ. ولم تؤد الجذور الدينية في الماضي إلى استبعاد الآلهة الجديدة والشعائر الجديدة لمواكبة التغير الذي يطرأ على مر الزمن.
وأستهل هذا الفصل الذي يدور عن البلدان المطلة على البحر المتوسط في العصر الحديث بمشهد يوضح كيف ينظم المجتمع نفسه بناء على الإشارات الدينية، التي كان من المرجح أن تكتسب أهمية أكبر في بلدان العالم القديم.
في يوم أحد حار من أيام شهر أغسطس لعام 2003، التقى نحو ثلاثين أو أربعين مواطنا من مواطني كريت لتناول الغداء في تجمعات أسرية، وكانوا قد اختاروا موقعا للنزهات الخلوية في مكان ظليل وتكسوه الأشجار في ممر القديس أنطونيوس الباتسوسي، في وادي أماري، وأحضروا فحما للشواء وكمية كبيرة من اللحم، ووضعوا زجاجات النبيذ البارد في جدول الماء للحفاظ على برودتها، وأعدوا أطباق السلاطة وغيرها من الأطباق الأخرى. وكانت مناسبة تسودها أجواء الود بصحبة أفراد الأسرة والأصدقاء في عطلة نهاية الأسبوع بعد عيد انتقال السيدة العذراء، وهو من الأعياد الأرثوذكسية التي تركز على الأسرة والحياة المنزلية. وكثرت الزيارات إلى المزار الصغير المخصص للقديس أنطونيوس، وهو مزار منحوت في كهف في جدار الممر. وكانت هناك عند مدخل المزار عكاكيز وجهاز للمساعدة على المشي وغيرها من قرابين الشكر معلقة على جدار المزار لتعلن عن حالات الشفاء التي لعب القديس دورا كبيرا فيها. وعند التقدم نحو الداخل قليلا، كان هناك إفريز صخري يحمل شموعا ونذورا - كانت من زيت الزيتون فيما يبدو - موضوعة في زجاجات فانتا وكوكاكولا، وخلف الإفريز كان هناك المزار نفسه الذي يحتوي على هيكل وبخور وأيقونات دينية.
وكانت هذه البقعة المقدسة تضم في العصور السابقة على المسيحية مقر أتباع الإله هيرميس كرانايوس - ربما هيرميس راعي النبع - الذي ما زال مصدر المياه الموجودة هناك يحمل اسمه. وعثر على نذور مقدمة لهيرميس وكتابة منقوشة تذكر اسم الإله، ويعود تاريخ النذور إلى عام 2000 قبل الميلاد، أما الكتابات المنقوشة فيعود تاريخها إلى القرن الأول الميلادي.
كان ثمة مطعم صغير على الطراز اليوناني بجوار الطريق المؤدي إلى الممر يقدم الغداء بهامش ربح قليل، وكان يتوجه إليه غير المشاركين في النزهة الخلوية. وكان يستخدم للطهي موقدان صغيران يعملان بالغاز المضغوط المعبأ في أنبوب غاز، وكانت الموائد مصفوفة خارج المطعم في ظل أشجار الجوز، وكان الطلب مرتفعا حتى إن النادلات (اللاتي كن أيضا طاهيات مساعدات) كن يعجزن عن تلبية كل الطلبات التي تطلب منهن؛ ومن ثم، كان معظم الموائد تخدمه نادلة بعينها، وكان ثمة رجل يجلس على مائدة أخرى - ربما يكون صاحب المطعم - وكان يدخل إلى المطبخ ويقلي قطعا من ضلوع لحم الخنزير على مواقد الغاز الصغيرة.
من الممكن استخلاص عدة نقاط من مشهد الغداء هذا؛ النقطة الأولى هي استمرار تلك العبادة عند هذا النبع النفيس؛ ففي جزيرة ذات طقس حار - إذ ترتفع درجات الحرارة في أغسطس إلى ما يزيد عن أربعين درجة مئوية - يصبح الماء عملة نادرة يزداد الطلب عليها. ويرتوي البشر والنباتات على حد سواء من النبع، الذي يوفر ماء الشرب وتقوم عليه الزراعة وربما يقدم خواص علاجية. كان من المعتقد أن آلهة مثل بان وهيرميس والحوريات وغيرها تحمي مصدر المياه عند كل الينابيع في كل أنحاء اليونان، وكان السكان يسترضونها ويتوسلون إليها؛ فكانوا يقدمون النذور تعبيرا عن الشكر على النعم التي حلت عليهم، وأملا في الحصول على نعم في المستقبل. وكان تقديم قرابين من الزيت أو العسل أو كعكات الشعير واردا مثل تقديم قرابين من الحيوانات. ومن الممكن أن تكون المأدبة التي يعدونها خفيفة وسهلة النقل، كما هي الحال في النزهة الخلوية في العصر الحديث. ومن الوارد أن يحضر المشاركون في النزهة الخلوية طعاما ساخنا وبعض الأثاث الخفيف، ومن الوارد أنها كانت مناسبة مميزة على الرغم من إقامتها وسط المناظر الطبيعية، وعلى الرغم من بعدها عن المنزل. وربما كان يشترك الحاضرون في هدف واحد، أو ربما كان للتجمع أكثر من هدف. ثم إن اللقاء كان خصوصيا وغير هادف للربح التجاري. وكان المطعم الصغير يضفي على المناسبة طابعا تجاريا ، ولكن هذه الحالة أيضا كانت تجمع بين الأنشطة التجارية والشخصية، وذلك في رأيي.
من الممكن أن يفسر المراقب المعاصر هذه المآدب من عدة نواح، وعادة ما يكون من بين العناصر المهمة - فيما يبدو - صلة القرابة والتماثل والتقاليد المرتبطة بالعيد، والمزار الواقع وسط المناظر الطبيعية. وكان الطعام متوافرا مقابل المال أو مجانا، وكان تناول الطعام من الأمور المبهجة لحاسة التذوق وللآكلين بصفتهم كائنات اجتماعية. وقد ركزت على تناول الطعام على المستوى الإنساني، ولا شك أن «الدين» في العالم الحديث والقديم قد أضفى على الآلهة والقوى العلوية قدرات قائمة على العناصر وأمدها بأساطير تفسيرية ومطالبات بأن يتوجه إليها أتباعها من البشر بالعبادة والاحترام. والقديس أنطونيوس الباستوسي مثال حديث لإحدى العبادات المحلية في مكان ناء من جزيرة يونانية؛ ففي العصور القديمة كانت تنتشر الآلاف من تلك العبادات في أنحاء بلدان البحر المتوسط، وكان للكثير منها تقاليد وأساطير معينة، وفي تلك الأماكن - وفي الأماكن المقدسة الكبرى في أوليمبيا وإلفسينا ودلفي - كان الإغريق والرومان يقدسون آلهتهم ويحاولون الحصول على دعمها للزراعة أو لحماية حياة أفراد المجتمع أو لنشاط معين. وفي الكثير من الحالات، كانت العبادة تتضمن تقديم قرابين تراق دماؤها أو قرابين أخرى، من بينها إقامة مأدبة يتناولها المتعبدون مع الإله. ومن المفترض أن نتخيل وجود هيكل يستخدم لتقديم القرابين ومبان (أو مساحة لتشييد مبان مؤقتة) لتناول الطعام بعد تقديم القربان، وذلك بجوار معظم المعابد (ما زالت أطلال رئيسة لأماكن دينية ظاهرة حتى اليوم).
وللاطلاع على نسخة قديمة من ذلك الغداء الذي أقيم في باستوس، يمكننا أن نقارنه بمأدبة يرد لها وصف في مسرحية كوميدية من تأليف ميناندر - وهي مسرحية «ديسكولوس» (أي «الفظ») - وألفها في أثينا في عام 316 قبل الميلاد. وتدور أحداث المسرحية في قرية فيلي النائية في شمالي إقليم أتيكا؛ إذ أعدت إحدى الأمهات العدة لتقديم قربان ريفي في مزار للإله بان والحوريات (لا شك أنه يقع بجوار مصدر مياه)؛ لأنها تريد أن تبرأ من الكوابيس التي تنتابها ويسلطها عليها الإله بان وتتعلق بسلامة ابنها؛ فتأتي بأسرتها الغنية من الحضر إلى الريف ويقدمون قربانا من الغنم إلى الآلهة، وذلك بمساعدة طاه مستأجر يحضر قطع أثاث وتجهيزات نزهة خلوية معه، ويحضر أبسطة «ستروماتا»، وذلك فيما يبدو لصناعة مصاطب أو أرائك ريفية (405-421)، وأحضر بعض القدور والمقالي، واتضح أنه ينوي استعارة قدور أخرى من مكان تقديم القربان (504-521). وبعد تقديم القربان يتناولون الغداء (أريستون، 554-562)، وفيما بعد تبدأ الترتيبات لإقامة جلسة شراب للرجال، وحفل صاخب ساهر للنساء (855-859)، وتنشب الخلافات بين المشاركين من الرجال والمشاركات من النساء، وبين المشاركين الريفيين والمشاركين الحضريين، وإلى حد ما بين الخدم والأسياد. ويتضح أنها مناسبة ذات أجواء رسمية على عكس النزهة الخلوية التي شاهدتها؛ لأن الحبكة الدرامية تقتضي أن تكون المناسبة عبارة عن وليمة غير رسمية للاحتفال بخطبة، ولكن توجد أوجه شبه لافتة بين المناسبتين؛ إذ يقع مسرح الأحداث في حديقة مقدسة؛ حيث ينطلق الأشخاص في رحلة ويطهون اللحم في أماكن ريفية، ويأخذون معهم وسائل الراحة الحضرية، تنجح المأدبة في دمج العناصر المتباينة منها والجمع بينها. وفي هذه الحالة - كما هي الحال في المسرح الكوميدي الإغريقي (ونناقشه باستفاضة في الفصلين السابع والتاسع) - تتناول المسرحية المخاوف المتعلقة بتجاوزات الشباب، وبالشاب الذي يبدد الأموال على متع المدينة وملذاتها، ولا يلتزم بالمحافظة على موارد الأسرة. ولكن تساعد شعيرة تناول اللحم والنبيذ في نهاية المسرحية في لم شمل الجميع على النحو الصحيح.
شكل 3-1: يصور هذا الرسم لفرانسوا ليزاراغ المأخوذ من رسم على مزهرية تقطيع حيوان كقربان. لاحظ أجزاء الحيوان المتناثرة، التي كانت تؤكل كلها تقريبا في مناسبات تقديم القرابين إلى آلهة الأوليمب، ويشرف على عملية التقطيع تمثال لهيرميس يبدو فيه بعضو تناسلي منتصب، وكان وضع التمثال يفيد بأن الموقع يحظى بالحماية الشعائرية. (من كتاب فرانسوا ليزاراغ، بعنوان «جماليات المأدبة الإغريقية» (شيكاجو) بإذن كريم من دار نشر جامعة شيكاجو.)
ينتقد سوستراتوس - الشاب الغني الذي نتحدث عنه - أمه بسبب تحمسها لتقديم القرابين (260-263) قائلا: «تنوي أمي تقديم قربان لإله ما - لا أدري أي الآلهة هو - وهي تفعل ذلك يوميا. وهي تتنقل بين أنحاء المقاطعة بأكملها لتقديم القرابين.» وما يلفت الانتباه هنا هو كثرة مرات تقديم القرابين، والأم ذات الدور المحوري في نشاط تقديم القرابين؛ إذ يتيح لها ثراؤها تقديم قرابين خصوصية لأكثر من مرة، وكونها امرأة لا يعوقها عن ذلك، وهو تحسن مهم طرأ على بعض النقاط التي ناقشناها بخصوص النوع الاجتماعي في الفصل الثاني.
تقدم المسرحية أيضا مثالا للطاهي الهزلي الذي يدخل حاملا خروفا لتقديمه كقربان ويذبحه كمرحلة أولى لإقامة مأدبة للحاضرين، وتعقبها جلسة الشراب والسهرة الصاخبة (بخصوص السهرة، راجع الفصل الرابع). والتقت به المرأة الغنية في السوق وطلبت منه أن يعمل لديها. وتجمع المناسبة بين النشاط الديني والخبرة التجارية (الكلمة المقابلة لكلمة طاه - «ماجيروس» - هي كلمة مركبة، كما جاء في الفصل الأول). وهذه سمة لافتة لنا كمراقبين نرصد المجتمع القديم، ولكنها أيضا نقطة خلاف في المسرحية؛ إذ نجد أن سنيمون الكاره للبشر الذي تحمل المسرحية اسمه ينتقد المتعبدين بصفتهم يسعون إلى المتعة ولا يمنحون الآلهة إلا بقايا الحيوان التي لا تصلح لأن يأكلها البشر. ويقول (447-453):
يا لطريقة هؤلاء اللصوص في تقديم القرابين! إنهم يحملون معهم أسرتهم وجرار النبيذ، ليس لأجل الآلهة بل لأنفسهم. البخور مقدس وكعكة القربان كذلك. ويقدمون ذلك للإله كقربان كامل تضرم فيه النيران. ثم يقدمون طرف الذيل والحويصلة المرارية للآلهة - لأنها لا تؤكل - ويلتهمون هم كل ما عدا ذلك.
تصور المسرحية هذا الرجل الكثير الانتقاد المعادي للمجتمع وهو يتلقى العقاب على عدم تمكنه من تقدير الأساس التبادلي للمجتمع. وليس المقصود بهذا أن ننفي أن لديه حجة قوية؛ فلم تكن المتعة منفصلة عن تقديم القربان. ومن الممكن أن نضيف أن الحيوانات كانت تقدم كقرابين للآلهة في وقت من العام يتزامن مع مواسم الزراعة (جيمسون 1988)، وأن الدين مدمج في النظام الثقافي الإنساني؛ ومن ثم، فإن شخصا يحرص على صفاء النوايا مثل سنيمون هو الشخصية المناسبة لمناقشة هذه النقطة. وفي الوقت نفسه، تلقي هذه المسرحية الهجائية الضوء على العلاقة المتبادلة الوثيقة بين الدين والطعام والعلاقات الاجتماعية؛ وهذه العناصر توضحها أكثر شخصية الطاهي. ينتقد سنيمون هذا الطاهي الأجير القادم من المدينة، وهو ليس الوحيد في انتقاده هذا؛ إذ إن الطاهي من الشخصيات النمطية في المسرح الكوميدي الأثيني (ويلكنز 2000). ولكن الطهاة موجودون أيضا في النقوش التي تشرح القواعد المنظمة للاحتفالات الدينية (بيرثيوم 1982) والقواعد المتبعة في الموائد الجماعية الإسبرطية، والتي كانت أبعد ما تكون عن الترف؛ ومن ثم، لا بد من تصنيف الطهاة بحسب مقياس يتراوح بين كون الواحد منهم موظفا مختصا بالشئون الدينية فقط، ومرورا بكونه موظفا يتولى تقديم المآدب في المؤسسات، إلى كونه شخصية شهيرة مستعدة للعمل في منزل؛ فالطاهي هو متعهد تقديم الطعام الذي يضفي السمات المرتبطة بالمطاعم الحديثة - وهي أحدث ما وصل إليه مجال المنشآت المخصصة لتناول الطعام - على مآدب الأغنياء.
الكوميديا من المصادر المختلف عليها في مظاهر الحياة في العصر القديم، ولكن هذه النزهة الخلوية القديمة تحفز التفكير من عدة نواح مهمة. كان الناس في العصر القديم يتناولون الطعام غالبا في أجواء غير رسمية، خارج المنزل، وكانوا يقدمون قرابين صغيرة الحجم لأغراض عائلية، بالإضافة إلى القرابين الكبيرة التي تقدم في الأعياد في المدن الكبيرة. وكان الرجال والنساء يتناولون الطعام معا، في ظل أعراف اجتماعية معينة. ولدينا الكثير لنتحدث عنه بخصوص عادات تناول الطعام الرسمية وغير الرسمية لدى السواد الأعظم من السكان، مع أن معظم الأدلة الواردة مأخوذة من عادات تناول الطعام بغرض التفاخر لدى الأغنياء والمشاهير. (1) المزارات الكبرى والصغرى
كانت المدن الكبرى تزخر بالأنشطة المتعلقة بالعبادات والملل؛ فعلى مستوى المدينة - وذلك بخصوص أثينا كما يرد في القواعد التي تحكم عيد بان أثينايا التي أستشهد بها أدناه - كان يستخدم أكثر من هيكل للإله في الوقت نفسه. وعلى المستوى المحلي، كان الناس يحتفلون بطقوس تكميلية، وكانت المقاطعات المحلية في أثينا تقيم احتفالات للآلهة المحلية وطقوس تقديم قرابين محدودة للأبطال المحليين، وأستشهد بجزء من تلك المناسبات من إحدى مقاطعات إقليم أتيكا، وهي مقاطعة ماراثون:
في شهر سكيرافوريون، قبل احتفال سكيرا. يقدم إلى هيتينيوس فواكه الموسم وخروف و12 دراخمة. يقدم إلى كوروتروفوس خنزير و3 دراخمات، وحصة الكاهن 2 دراخمة و1 أوبول (عملة معدنية قدرها 1 / 6 دراخمة). يقدم إلى تريتوباتيريس خروف، وحصة الكاهن 2 دراخمة. يقدم إلى أكامانتيس خروف و12 دراخمة، وحصة الكاهن 2 دراخمة.
تقدم القرابين للآلهة الآتية على سنوات متبادلة: المجموعة الأولى - في شهر هيكاتومبايون، يقدم إلى أثينا ثور ... (ترجمه إلى الإنجليزية: رايس وستامبو)
وإلى جانب هذه الوحدات السياسية، وأحيانا بالاشتراك معها، كانت تلتقي جماعات محلية من «أورجيونيس» أو «ثياسوي» لتقديم القرابين إلى معبود محلي وتناول وليمة معا. يشرح أثينايوس ذلك بقوله: «قرر المشرعون إقامة مآدب، فأقاموا مآدب للقبيلة وللمقاطعة، وكذلك للمتعبدين لديونيسوس أو إله آخر، وللعشيرة، وأخيرا لما يسمى (أورجيونيس).» يعرف الكثير عن هذه المجموعات من النقوش (راجع مثلا فيرجسون 1944، وباركر 1996: 333-342). توصي إحدى مجموعات القوانين من وسط أثينا بما يلي:
يقضي الأورجيونيس بما يأتي: يقدم المضيف القربان في يومي 17 و18 من شهر هيكاتومبايون؛ في اليوم الأول يقدم قربانا من خنزير رضيع إلى البطلات، وقربانا كامل النمو إلى البطل ويقيم مائدة، وفي اليوم الثاني يقدم قربانا كامل النمو إلى البطل. ويحسب نفقاته ولا ينفق ما يزيد عن العائد. (يوزع) اللحم كما يأتي: يقدم للأورجيونيس حصة، وللأبناء حصة لا تزيد عن النصف، ولنساء الأورجيونيس (في حالة تقديم قربان عبارة عن ثور) وللنساء الحرائر حصة مساوية (لحصة الأورجيونيس)، وللبنات حصة لا تزيد عن النصف، ولوصيفة واحدة (لكل امرأة) حصة لا تزيد عن النصف. (تسلم) حصة المرأة للرجل (المقصود الزوج أو الوصي أو المولى). (ترجمه إلى الإنجليزية: فيرجسون)
وكانت هذه مناسبة سنوية لتقديم القرابين إلى البطل إكيلوس، ربما بدءا من القرن الخامس إلى ما بعده. وكان يقدم القرابين جماعة من الرجال يقتسمون اللحم فيما بينهم بعد ذلك، وكان على الرجال حضور المناسبة حتى يحق لهم تناول اللحم، وكان يحق لأبنائهم ونساء أسرتهن أيضا تناول اللحم، وإن كان لا يحق للنساء تناول اللحم إلا إذا كان القربان ثورا وليس خنزيرا؛ فكان من الواضح أن كمية اللحم التي يحصلون عليها عند ذبح ثور كقربان كانت أكبر مما في حالة ذبح خنزير. يتضح من هذا الدليل المتعلق بالنساء (وهن من ميسورات الحال إذا كان بإمكانهن شراء عبد) أنه يحق لهن الحصول على اللحم أحيانا، ولكن ليس دائما، وأنهن يعتمدن على أزواجهن أو أوصيائهن للحصول عليه. ويشير فيرجسون إلى أن النساء عادة لم يكن يحضرن على الأرجح عملية تقديم القربان.
وتتعلق مجموعة ثانية من القوانين (مجموعة النقوش المأخوذة من روما القديمة المعروفة باسم «سيلوج» (3، 1097، 30)، من تحرير ديتينبرجر) بحرم مقدس كان مؤجرا لمستأجر حين لم يكن «الأورجيونيس» بحاجة إليه. في الفترة المقدسة من شهر بويدروميون، كان المستأجر يوفر مطبخا (أوبتانيون) ومجموعة من الموائد وأرائك تناول الطعام لغرفتي طعام رسميتين (مجموعتين من الأرائك الثلاثية الأضلاع تكفي لما يتراوح بين اثني عشر شخصا وثلاثين شخصا من الحاضرين). وكان الحاضرون يقدمون القربان ويأكلون اللحم في المكان نفسه؛ إذ لم يكن مسموحا - هذه المرة - بأخذ الطعام معهم إلى المنزل. وتوضح هذه القواعد أن الأبعاد الاجتماعية والدينية كانت متداخلة بالكامل، وتكمل بالضبط الدليل الذي يقدمه ميناندر فيما سبق، والنقش المتعلق بعيد بان أثينايا المذكور فيما يأتي. وكانت الموائد والأرائك المستخدمة في تناول الطعام تنتمي لعالم الدين مثلما تنتمي لعالم المنزل، أما المطبخ فغالبا ما يذكر وجوده في مواقع تأدية الطقوس أكثر من وجوده في المساكن الخاصة. ويذكر نقش من إلفسينا - على سبيل المثال (مشروع النقوش الإغريقية 2، 2، 1679، 189) - أعمال التشييد الجارية لبناء مطبخ (من الحجر)؛ ويدل هذا على كونه بناء متينا وليس مطبخا من المطابخ المؤقتة التي كانت كثيرا ما تستخدم فيما يبدو في المنازل الخاصة.
وكانت هناك في روما أيضا جماعات تجتمع لتناول العشاء معا بعد تقديم قرابين للآلهة المحلية، واندمجت تلك الجماعات في الاحتفالات الكبرى والولائم المقامة احتفالا بمناسبات سياسية في المدينة (دوناهو 2005، بيرد ونورث وبرايس 1998: 292-294).
وتظهر صورة مشابهة لشعيرة تقديم القرابين على مستوى محدود في مناسبة أكبر في الموقع الكبير لأداء الطقوس الخاصة بعبادة أوليمبيا، بحسب وصف العالم الجغرافي باوسانياس في كتابه «وصف اليونان» (5، 15). ويوجد هيكل هائل لزيوس (5، 13)، شيد من كومة كبيرة من الرماد الناتج عن نيران إحراق القرابين، وتحكمه قواعد خاصة للاستعمال أثناء إقامة الألعاب الأوليمبية وخارجها. ويأتي الرماد من الهيكل الموجود في مبنى «بريتانيون»؛ حيث تضطرم شعلة بصفة دائمة. وكانت المناسبة المميزة للألعاب الأوليمبية محط الأنظار لدى معظم الإغريق والرومان على مستوى العالم، وكانت المناسبة تشهد أنشطة مكثفة لتقديم القرابين، واهتماما كبيرا بالصلات التي تجمعها بهرقل آكل اللحم الوارد ذكره في الأسطورة (راجع الفصل الأول). وكان اللحم - كما رأينا - ضروريا للغاية بالنسبة إلى الرياضيين، وترتبط إنجازات الأكل التي نفذها ميلو الكروتوني ارتباطا ذهنيا بأوليمبيا، ولكن في نظر الأهالي المحليين (في إليس) يظهر نمط مختلف وتكميلي من الملل. كانت تقدم قرابين شهرية على كل الهياكل في المزار ذي البناء المركب، وذلك «على الطريقة القديمة»، وكانت هذه القرابين من النوع الذي لا تراق فيه الدماء مثل البخور وكعكات القمح الممزوجة بالعسل وأغصان الزيتون، بالإضافة إلى طقوس إراقة الخمر (فيما عدا القرابين المقدمة إلى الحوريات والخليلات؛ إذ لم يكن يقدم إليهن النبيذ). وكانت طقوس إراقة الخمر تقدم إلى الآلهة الإغريقية والليبية في مزار آمون العظيم، الذي كانت تجمعه روابط بأوليمبيا، وكانت طقوس إراقة الخمر تقدم أيضا إلى الأبطال (وهم بشر مؤلهون) وزوجاتهم. وكان المجتمع يكرم الفائزين في الألعاب الأوليمبية في غرفة طعام («هيستياتوريون») مميزة في مبنى البريتانيون التابع لأهالي إليس (المضيفة المقدسة للمجتمع، مثل مبنى البريتانيون في أثينا ومعبد فيستا في روما). (2) المتعة ومقاومة التغيير
نعود الآن إلى العلاقة بين الدين وعالم التجارة، وهو العالم الذي ربما يضيف المتعة والترف إلى التجربة الدينية، وهي النقطة التي سلط سنيمون عليها الضوء فيما سبق. ففي الكثير من النصوص التي نتناولها في الفصلين السابع والتاسع، نجد مقارنات ضمنية بين العرف المتوارث كما يباركه الدين، والضغوط الجديدة وخصوصا الخارجية - التي جلبتها التجارة والسوق - وهي الضغوط التي تشجع على التغيير، وضمنيا على المخاطر الأخلاقية. يضرب أوفيد مثالا مفيدا على هذا في قصيدته «الأعياد» الجزء السادس، عن الإلهة كارنا؛ فهي تحب القمح الثنائي الحبة التقليدي ولحم الخنزير المقدد، وتكره الأسماك والطيور المجلوبة من بلاد أخرى. وينم اهتمامها بالإنتاج الزراعي التقليدي عن حفاظها على الهوية القديمة ذات الطابع الجمهوري لروما. ومع أن هذه الملاحظة مهمة وكثيرا ما يلتفت إليها الناس - كما سنرى - لا بد أن نشدد دائما على وجود الفكرة المقابلة، وهي العلاقات المهمة بين الدين وعالم التجارة. من ثم، كانت الأرض المقدسة تؤجر للمزارعين؛ وكان الناس يشترون الحيوانات بغرض تقديم القرابين؛ وأدى بيع اللحم والجلود إلى زيادة الإيرادات؛ وكانت كثيرا ما تحفظ خزائن المدينة في المعابد، مثل معبد البارثينون في أثينا. علاوة على ذلك، ساعدت مناسبات تقديم القرابين على التعبير عن ثراء ونفوذ مدينة أو فرد ما، بقدر ما كانت تعبر عن العرف المتوارث والنشاط الزراعي الراسخ، فلو توافرت لمدينة أثينا الموارد الكافية لتقديم قرابين قوامها عدة مئات من الماشية في احتفال واحد - وهو ما كانت تعجز مزارعها عن تلبيته - لكان ذلك تعبيرا ملحوظا عن الثراء.
وردا على الحجة المدافعة عن التجارة، يمكننا أن نضيف أنه من المتعذر استبعاد المتعة تماما من تجربة تقديم القرابين. ومن المرجح أن أكل اللحم كان مستحسنا بشدة في الأعياد القديمة - وذلك في حالة ندرة أكله - وكذلك كانت تجربة الانضمام إلى جماعة يعايشها المتعبدون، خصوصا إذا أضيف إليها النبيذ الذي كان كثيرا ما يحتسيه الناس في أوقات الاحتفال.
وعلينا أن نتذكر أيضا أن كلا من المدن الرومانية والإغريقية كانت منفتحة على الكثير من الملل والعادات الدينية الجديدة، وذلك مهما كانت الديانة القديمة مقاومة للتغيير من حيث عدة نواح؛ ومن ثم وفد إلى أثينا، على سبيل المثال، أتباع أدونيس وبينديس وإيزيس وسيبيلي، ووفد إلى روما أتباع إيزيس، ووفد إليها - في السنوات العجاف من القرن الثالث قبل الميلاد - أتباع آلهة أخرى من البلدان الإغريقية، كان من بينهم أتباع أبولو والأم العظمى سيبيلي. ويعبر دخول أتباع الآلهة السورية والتراقية والفريجية والمصرية والإغريقية على التوالي؛ عن وجود فئة من السكان بحاجة إلى هذه الآلهة، وعن الهوية التي تؤيدها تلك الفئة (جاليات من المهاجرين في الكثير من الحالات)، ويعبر دخول هؤلاء الأتباع - في حالة روما أيضا - عن حاجة للحصول على مساعدة الآلهة الأجنبية.
ينطبق الدليل المتعلق بالأورجيونيس (مؤدو الطقوس الشعائرية لتقديم القرابين) على أتباع هذه الآلهة الأجنبية أيضا. وصل أتباع بينديس إلى مدينة بيريوس في القرن الخامس قبل الميلاد، وبحلول القرن الثالث كانت قد اندمجت في أتباع الآلهة الرسمية للدولة، وكانت المدينة تقدم الحيوانات، التي كان بعضها يقدم إلى الأورجيونيس مقابل مبالغ مالية. وكان الأورجيونيس يعدون وليمة من اللحم، وكانت المدينة تحصل على الجلود. يقدر فيرجسون (1944: 101-103) أن مائة رأس من الماشية كانت تقدم على الأرجح كقرابين (بمعدل مائة رأس من الماشية للقربان الواحد)؛ مما كان يوفر اللحم لعدد هائل من الجموع. كان عيد بينديس يشمل احتفالا على مستوى المدينة ووليمة للأورجيونيس، الذين ربما كانوا يأكلون معا بعيدا عن الأنظار. يعتقد فيرجسون أن اللحم ربما كان يؤخذ نيئا إلى المنازل، وكان يسمح لغير الأورجيونيس بتقديم القرابين في المزار، ولكن كان لا بد من تقديم حصص من ذبائح القرابين إلى الكاهنة والكاهن، وكان يراعى في تقديم القرابين الرسمية الاختلاف بين الجنسين بتخصيص حصص من الذبائح الذكور؛ وهذا مثال حي يدل على دمج الطوائف الأجنبية في نسيج أثينا، ويدل أيضا على الأعداد الكبيرة التي كانت تستفيد من لحوم القرابين.
ومع الآلهة الأجنبية، جاءت أيضا عادات أجنبية، وفي بعض الحالات أطعمة أجنبية. كان أتباع أدونيس - على سبيل المثال - يرتبطون بالأعشاب والعطور (راجع أدناه)؛ فالعطور تمنح تصويرا ماديا مفصلا. كانت البلدان الإغريقية الرومانية تستورد العطور مثل بخور اللبان وصمغ المر من شبه الجزيرة العربية وأفريقيا (ميلر 1969: 102-105)، وبدأ استخدام البخور في مناسبات تقديم القرابين العادية في أوليمبيا، وكان يمثل الجانب العطري السماوي من المأدبة المقدسة التي كانت ترتقي إلى السماء يغلفها الدخان المعطر اللائق بالآلهة. وعلى العكس من ذلك، كان البشر يأكلون الجزء الطري اللحمي من الحيوان، مما كان يعكس الطابع الفاني للبشر. ولكن ربما يرتبط العطر أيضا بالعادات الشرقية والتبذير الذي يميز الشرق، ويروي أثينايوس حكايات متنوعة عن باعة العطور - على سبيل المثال - في الجزء الثاني عشر من كتابه، ويحكي فيه عن الترف . تذكر الشذرة 60 من كتاب أركستراتوس العطور بوصفها تندرج ضمن فئة متع جلسة الشراب، ويعلق أوفيد في قصيدة «الأعياد» (1، 337-346) قائلا:
قديما، كان السبيل أمام البشر للفوز برضا الآلهة هو العلس وكذلك حبات الملح النقي المتلألئة. وحتى ذلك الحين، لم تكن أي سفينة أجنبية قد جلبت عبر أمواج المحيط صمغ المر المستقطر من لحاء الأشجار، ولم يكن قد جلب أي بخور عبر نهر الفرات، كما لم يكن قد وصل أي بلسم من الهند، وكانت خيوط الزعفران الأحمر ما زالت غير معروفة لنا. وكان يكتفى بأن يعبق الهيكل بدخان العرعر، وكان نبات الغار يحرق ويسمع له صوت طقطقة عالية. وكان من يستطيع إضافة زهور البنفسج إلى الأكاليل المغزولة من زهور المروج غنيا بحق. (ترجمه إلى الإنجليزية: فريزر)
ومن ثم، أدت العطور دورا مبهما، وعادت للظهور في جلسة الشراب؛ حيث كانت تؤدي دورا غامضا، شأنها شأن الزهور. يقدم كل من أثينايوس وبلوتارخ («حديث المائدة» 3، 1) حججا تؤيد استخدام الزهور في الأكاليل عند تناول الطعام، وحججا أخرى تنتقد ذلك؛ فهل كان استخدام الزهور جزءا من عادة مقدسة، أم كان استخدامها بدافع الترف؟ هل كانت تمثل همزة وصل بعالم الطبيعة ومن ثم بآلهة الطبيعة مثل ديونيسوس، أم كانت تنم عن تبذير فادح؟ بالطبع، كان استخدام الزهور مزيجا من كل هذه العناصر؛ ومن ثم كانت مجالا خصبا لتوظيف الدلالات الأيديولوجية.
كان للعطور وأكاليل الزهور دور في الجزء المتعلق بتقديم القرابين في المراسم، وكانت تتوج الحيوانات والكهنة على حد سواء بالأكاليل. وتعود العطور وأكاليل الزهور للظهور أيضا في جلسة الشراب، كما رأينا توا، ولا بد أن نتذكر أنه عند ذكر مناسبة تقديم قرابين في أحد النصوص - ما لم يكن القربان عبارة عن حيوان أحرق بالكامل (عادة ما يقدم قربانا إلى آلهة الموتى) - فإن الحيوان المراد تقديمه كقربان كان يقسم بين المشاركين، وكان يعقب ذلك إقامة مأدبة، رسمية أو غير رسمية. (كان من الممكن إقامة مأدبة، دون طقس تقديم القربان الذي يسبقها، ما دام أمكن شراء اللحم من السوق. وربما يكون ذلك هو مصدر معظم اللحوم التي ورد وصفها في النصوص الهزلية الإغريقية أو النصوص الهجائية الرومانية. ولكن كان التوقع الطبيعي، خصوصا في البلدان الإغريقية، هو أن اللحم - الذي كان نادرا ما يؤكل - كان مصدره طقوس تقديم القرابين.) ومن ثم، كان تقاسم الطعام يعقب عملية تقديم القرابين، وكانت جلسة الشراب تعقب تناول الطعام.
وكانت جلسة الشراب - وهي العنصر الثالث في التسلسل المؤلف من تقديم القرابين، ثم المأدبة، ثم جلسة الشراب - من الأنشطة الممتعة بدورها، وكانت كذلك مناسبة ذات طابع شعائري؛ ففي نهاية المأدبة - التي تتكون من المقبلات والأطباق الرئيسية من الأكلات الإغريقية - كانت الموائد تستبدل، ويجلب الماء لغسل الأيدي، وتؤذن طقوس إراقة الخمر والصلوات ببداية جديدة. وكانت هذه الصلوات تؤدى لزيوس وديونيسوس وإلهة الصحة هيجيا، وغيرهم من الآلهة المرتبطة بجلسات الشراب. وكان يستعمل نبيذ نقي وليس نبيذ ممزوج في طقوس إراقة الخمر، وكانت تنشد ترنيمة في النهاية (راجع أثينايوس)، وكانت هذه الشعائر الدينية تضع إطارا لشعائر احتساء الشراب، ويأتي وصف لغير ذلك من الشعائر الاجتماعية في الفصل السادس.
يتناول ميناندر هذا الموضوع تناولا رائعا في شذرة من مسرحية مفقودة يوحي عنوانها أيضا بالانغماس في الملذات:
ثم ألسنا نباشر المعاملات التجارية ونقدم القرابين بطرق متشابهة؟ ففيما أحضر للآلهة خروفا صغيرا لطيفا اشتريته بعشر دراخمات، بوسعي أن أحصل بأقل من طالين واحد على عازفات مزمار وعطور وعازفات قيثارة ... نبيذ من جزيرة ثاسوس وأسماك إنكليس وجبن وعسل. ثم نحصل على بركة بقيمة عشر دراخمات، إذا صار القربان مصحوبا بالبشائر الطيبة إلى الآلهة، ونعوض نحن هذه الفوائد بالتكلفة التي ننفقها على هذه السلع المترفة. ولكن كيف لا يكون هذا من قبيل مضاعفة شرور تقديم القرابين؟ فلو كنت إلها، لما سمحت قط بوضع خاصرة من اللحم على الهيكل ما لم يكن من يقدم القربان قد خصص أيضا سمكة إنكليس (وهي نوع من ثعابين البحر) ضمن القربان الذي يقدمه، وبتلك الطريقة سيصبح كاليميدون في عداد الموتى، لكونه يحمل صفات من هذا النوع من الأسماك. («السكر» الشذرة 224)
وكان كاليميدون خطيبا سياسيا من القرن الرابع قبل الميلاد، وتعرض أيضا للانتقاد في مسرحيات كوميدية أخرى لشغفه بالأسماك المرتفعة الثمن (راجع الفصل الخامس). ويجمع المتحدث بين تقديم القرابين وجلسة الشراب بالتسلسل الذي تابعناه توا، ثم يقارن بين أسعار قربان صغير ومأدبة فاخرة (الطالين فئة نقدية تتألف من 6000 دراخمة). وتكمن الطرفة في الافتراض القائل بأنك تحصل على ما يعادل القيمة التي دفعتها، وإذا دفعت مقابلا أقل في تقديم القربان، فإن الآلهة ترد بالأقل. وذلك ليس النهج المتبع في القرابين الدينية (قارن فرفريوس 2، 15-16)، ولكن المتحدث يشير إلى الطابع الملتبس للقيم.
ونجد أن مثل هذه المقتطفات لافتة للغاية؛ إذ إنها تتأمل الطابع الملتبس لعادة تقديم القرابين الإغريقية؛ فبداية، نلاحظ وجود علاقة مضطربة بين ما هو بشري وما هو إلهي، ويأتي هذا في صميم القصص القديمة التي يرويها هسيود عن أسطورة بروميثيوس، ثم نجد أن طقس تقديم القرابين - كما رأينا - مدمج في نسيج النظام الاجتماعي البشري؛ ومن ثم، فمن الحتمي أن نجد جوانب يبدو أنها تركز على صالح البشر وليس على حاجات الدين الصرفة، في حالة تعريفها بطريقة متشددة. وتقودنا أيضا طقوس تقديم القرابين وغيرها من القرابين الدينية إلى مناسبات تناول الطعام وتجمعات اجتماعية مخصصة لتناول الطعام والشراب، ونجد أنها ممتعة في حد ذاتها؛ ممتعة من الناحية الاجتماعية وممتعة أيضا لحاسة التذوق؛ فالدين ممتزج بالترفيه وبالحياة السياسية، فمن الممكن - على سبيل المثال - أن تقام عقب تقديم القرابين مأدبة في أحد مكاتب الحكم الديمقراطي الأثيني؛ فهل من الممكن أن يصبح ذلك محل خلاف؟ ربما يصبح محل خلاف، في حالة رصد تجاوزات. تشير إحدى الخطب القانونية لديموسثينيس (54) إلى جماعات من المواطنين كانوا يقدمون محاكاة ساخرة للشعائر الدينية في جلسات الشراب، وكانت حادثة محفل الأسرار (أو العبادات السرية التي تمارس طقوسها في الخفاء) في أثينا في عام 415 قبل الميلاد تتعلق بمخاوف تدبير المؤامرات على الحكم الديمقراطي، التي ظهرت في المحاكاة الساخرة للشعائر الدينية في جلسات الشراب الخاصة (كتاب المؤرخ ديموسثينيس (6، 27-29)، كتاب «عن محفل الأسرار» من تأليف أندوسيديز ).
وربما تنشأ أسئلة مشابهة تتعلق بتدفق الثروة إلى روما في القرن الثاني قبل الميلاد. يصف بوليبيوس (31، 26، 1-5) ثراء إيميليا، ابنة لوسيوس إيميليوس؛ إذ يقول عنها:
كانت تظهر في أبهى مظهر لها كلما غادرت منزلها للمشاركة في الاحتفالات التي تحضرها النساء، وذلك بعد أن أخذت حصتها من ثروة القائد سكيبيو حين كان في أوج نجاحه. وبالإضافة إلى فخامة ملابسها وزينة عربتها، كانت كل السلال والأكواب وغيرها من الأواني المستخدمة لتقديم القربان مصنوعة إما من الذهب وإما من الفضة، وكانت توضع في موكبها في كل تلك المناسبات الشعائرية المهيبة، وكان عدد الخادمات والخدم المصاحبين لها كبيرا بما يتناسب مع ذلك. (ترجمه إلى الإنجليزية: باتون)
ما العيب في التعبير عن الثراء في مناسبة دينية؟ يزخر الأدب بسيل من الانتقادات لمثل هذه الظواهر؛ فعلى سبيل المثال، يكتب بلوتارخ في («عن حب الثراء»):
كان عيد ديونيسيا التقليدي في الماضي عبارة عن موكب بسيط وبهيج؛ ففي البداية كان يأتي دورق من النبيذ وغصن من العنب، ثم يأتي أحد المحتفلين يجر جديا خلفه، ويتبعه آخر يحمل سلة من التين المجفف، وفي آخر الموكب كان يأتي الرمز الذي يمثل فالوس أو العضو الذكري. ولكن حاليا نجد أن هذه البساطة اختفت، وحلت محلها أوان من الذهب يحملونها ويمرون من أمامنا، وملابس وعربات فخمة تمر بجوارنا، وأقنعة. (ترجمه إلى الإنجليزية: كسابو وسلاتير)
وهذا ينقلنا للحديث عن المخاطر الوخيمة المترتبة على المتعة في الفكر القديم، والتي نتناولها في الفصل السادس.
ونعود إلى «ماجيروس» أو الطاهي، تلك الشخصية المبهمة (راجع الفصل الأول). فالرجل الذي يتولى ذبح الحيوان ليس صاحب مكانة اجتماعية رفيعة، ولكنه يؤدي مهمة دينية، وإن كانت مهمة شاقة وتتسبب في تلطيخه بالدماء، ومن الممكن أيضا أن يبيع اللحم بعد تقديم القربان؛ فالجانبان الديني والتجاري - مرة أخرى - ليسا منفصلين. وكان من الممكن - بصفته لا يزال «ماجيروس» - أن يعرض خدماته لطهي مآدب خاصة ومآدب فاخرة لحساب الميسورين ، مقابل أجر. أما في إسبرطة، فكان الطاهي يشرف على المأدبة الجماعية (كتاب «عن الدستور الإسبرطي» من تأليف مولبيس، استشهد به أثينايوس).
وقد رأينا الكثير من الأسئلة عن الدين داخل المجتمع البشري. ما الغاية التي كانت تنشدها الآلهة نفسها من عملية تقديم القرابين؟ لماذا كانت بحاجة إلى قرابين؟ صحيح أنها كانت تطلب الشرف في أتباعها من البشر، ولكن لماذا كانت بحاجة إلى لحوم القربان؟ وكما رأينا، كان المشاركون من البشر يحصلون على الأجزاء الفانية من الحيوان، أما الآلهة فكانت تحصل على دخان النخاع المحترق والأعضاء الحيوية المحترقة، وهي قوام الحياة في الحيوان. ولكن لماذا كانت تطلب ذلك الطعام؟ إذا كان إله ما كاملا - كما يفترض هرقل في مسرحية «هرقل» (1345-1346) ليوربيديس - فلن يكون بحاجة إلى أي شيء. ويتناول أريستوفان هذه الفكرة في مسرحيته «الطيور»، ويتبع منهجا ماديا للغاية بخصوص الآلهة، وذلك كما هو متبع في المسرحيات الكوميدية. تستولي الطيور على المنطقة التي يشغلها الهواء بين البشر على الأرض والآلهة في السماء، وهكذا تحول دون وصول الدخان الناتج عن طهي القرابين إلى الآلهة؛ وبهذا، فإنهم يجوعون فيضطرون للخضوع. ويقدم فرفريوس في الجزء الثاني من كتابه «عن التقشف» أسئلة فلسفية لافتة تتعلق بالأسباب التي تدفع الآلهة لقبول أنواع معينة من القرابين أو عدم قبولها.
وحين نبدأ في تناول بعض الأعياد القديمة، سنرى أنها كثيرا ما تعزز الأبنية والأيديولوجيات الاجتماعية السائدة فيما يبدو، ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على الكثير من السمات المتناقضة. وتعكس هذه العناصر المحيرة التاريخ الديني المركب للمدن (وهو موضوع لدراسات متخصصة مثل ديوبنر 1932، وباركر 1996، وبيركرت 1985، وروبرتسون 1993)، ولكنها تعبر أيضا عن التلازم القوي للأفكار ذات الصلة، مثل النبيذ والموت في عيد أنثيستيريا أو الأطفال الرضع والذرة في عيد ثيسموفوريا. وكثيرا ما تتضمن الأعياد سمات سلبية وإيجابية أيضا؛ إذ من الممكن أن تكون وقتا للعطلة واحتساء الخمر والفسق والفجور، وفي الوقت نفسه وقتا للاعتداء الجنسي والتدريب على الشعائر والطقوس الدينية المتعلقة بالجوانب المظلمة من عالم البشر وعالم الطبيعة. (3) الأعياد
ساعدت الأعياد في المدن الإغريقية والرومانية في إضفاء حس من التضافر والهوية، تعززه عادة طقوس تقديم القرابين والتوسل الجماعي للإله طلبا للدعم وتقديم شيء ذي قيمة (الذي يكون عادة حياة حيوان ما). وأتناول أولا دور الطعام في عدد من الأعياد الإغريقية التي كانت تجمع عددا كبيرا من المواطنين في تأكيد على هوية المواطنة؛ ففي أثينا، كان يقام عيد بان أثينايا تكريما للإلهة أثينا، وهي الحامية الإلهية الأساسية للمدينة. وكان الاحتفال بالعيد يتألف من مسابقات (كانت جوائزها عبارة عن جرار الزيت التي يشتهر بها عيد بان أثينايا) ورقصات واحتفالات ساهرة، وكانت الفقرة الأساسية عبارة عن تقديم رداء جديد لتمثال الإلهة، وتقديم قرابين من الماشية. يتناول أحد النقوش من مدينة أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد (مشروع النقوش الإغريقية، 2، 334) طريقة توزيع اللحوم بالتفصيل؛ إذ يرد فيه:
في سبيل تنظيم الموكب وتجهيزه على أفضل وجه ممكن كل عام لأجل الإلهة أثينا بالنيابة عن شعب مدينة أثينا، وحتى تتسنى إقامة كل الترتيبات الأخرى اللازمة للعيد أثناء احتفال «الهيروبويوي» (أي الكهنة) به كما يجب في كل مناسبة تكريما للإلهة؛ يوافق الشعب، طبقا للقرار الذي اتخذه المجلس بما يأتي: يتولى «الهيروبويوي» مهمة تقديم القرابين، وعليهم توزيع حصص اللحم بمعرفة اثنين منهم، على أن تقدم إلى الإلهة أثينا هيجيا، ويكون ذلك في المعبد القديم، على أن تجرى عمليات التوزيع بالطريقة التقليدية بالحصص التالية: تخصص خمس حصص إلى مباني البريتانيون، وثلاث حصص إلى الولاة التسعة، وحصة إلى أمناء خزائن الإلهة، وحصة إلى الكهنة، وثلاث حصص إلى مجلس القادة العسكريين وقادة الفرق العسكرية، وتخصص الحصص المعتادة لأهالي مدينة أثينا الذين شاركوا في الموكب وللفتيات اللاتي يقمن بدور «الكانيفوروي» (أي حاملات السلال)؛ وتوزع اللحوم المأخوذة من القرابين الأخرى على أهالي أثينا. ومن مبلغ 41 مينا الذي يمثل قيمة إيجار الأرض المقدسة، يشتري الكهنة وغيرهم الماشية المراد تقديمها كقرابين؛ وعند قيادتهم للموكب، عليهم تقديم كل هذه الماشية كقرابين إلى الإلهة على الهيكل الكبير المخصص للإلهة أثينا، فيما عدا رأس ماشية واحدة عليهم اختيارها مسبقا من أفضل الماشية وتقديمها قربانا على هيكل الإلهة نايكي، أما كل ما تبقى من الماشية التي اشتروها بمبلغ 41 مينا، فعليهم تقديمها كقرابين إلى أثينا بولياس وأثينا نايكي، وتوزيع لحومها على أهالي مدينة أثينا في كيرامايكوس بنفس الطريقة المستخدمة في غيرها من عمليات توزيع اللحوم. وعليهم تخصيص الحصص لكل مقاطعة بالتناسب مع عدد المشاركين في الموكب من كل مقاطعة ... (ترجمه إلى الإنجليزية: رايس وستامبو)
وتوضح هذه القواعد بجلاء الصلة بين المشاركة في الموكب وتوزيع اللحوم. وحتى في بلد ديمقراطي، لا بد أن يحصل المسئولون على حصصهم المميزة. وكان معظم الكهنة يشغلون مناصب سياسية، ولكن حاملات السلال كن فتيات يحملن الحبوب في سلالهن - لنثرها فوق رأس الحيوان - وكانت السكين المستخدمة في ذبح القرابين مخبأة تحت الحبوب. ولما كان ذلك العيد احتفالا كبيرا، فإن طقوس تقديم القرابين كانت تقام في هياكل مختلفة، وكانت اللحوم الناتجة عن ذلك توجه إلى وجهات مختلفة. كان موكب عيد بان أثينايا يشق طريقه من بومبيون عند بوابة ديبيلون في كيرامايكوس، ويمر خلال السوق الأثيني إلى المعابد الواقعة في قلعة الأكروبوليس، ثم يوزع اللحم المخصص للأهالي في كيرامايكوس؛ ومن ثم، تجوب الرحلة التي تتضمن مراحلها تقديم الرداء، وذبح الحيوانات لتقديمها كقرابين، وتوزيع لحومها وسط المدينة. يشير فيشر (2000: 362-363) إلى أن المواطنين كانوا يتناولون هذا اللحم في النزهات الخلوية في منطقة كيرامايكوس. وجدير بالملاحظة أن طريقة توزيع اللحوم كانت سائدة، ولا تقتصر على عيد بان أثينايا فحسب.
شكل 3-2: يظهر على إفريز معبد بارثينون عدد من الماشية يسير نحو المذبح، ويبدو بعضه حرونا. وتصور الماشية على هذا الأثر الإمبراطوري العظيم لإظهار تقوى أهالي أثينا وقدرتهم على تقديم قرابين مرتفعة الثمن إلى إلهة المدينة. وكان اللحم يوزع على جميع المواطنين المشاركين بعد تقديم الحيوانات كقرابين إلى الإلهة أثينا. (حقوق الطبع والنشر محفوظة لأمناء المتحف البريطاني.)
كان عيد ديونيسيا يعبر أيضا عن البنية الديمقراطية للمدينة، وقد نقل تمثال ديونيسوس من الحدود الشمالية لإقليم أتيكا إلى قلب المدينة، في السوق؛ ومن هناك، انتقل إلى معبد ديونيسوس الذي يقع جنوبي قلعة أكروبوليس. وهنا - وذلك بحسب ما قاله أريستوفان على الأقل (في مسرحية «الضفادع» 16-18) - كان الإله يشاهد المسرحيات التراجيدية والكوميدية في المسرح. وأعلق في الفصل التاسع على طقوس تقديم القرابين وتوظيف الاحتفالات التي كان يشهدها الإله وبقية المشاهدين في سياق المسرحيات نفسها. وفي المدينة، كانت تقام طقوس جماعية لتقديم القرابين، ويخبرنا ديموسثينيس أن الشوارع كانت تعبق بدخان القرابين (خطبة «ضد ميدياس» 51-54). تشير النقوش، التي تسجل عمليات بيع جلود الماشية في القرن الرابع قبل الميلاد، إلى تقديم ما بين 106 و274 رأسا من الماشية كقرابين في عام 333 (مشروع النقوش الإغريقية (2، 1496، 80)، سابو وسلاتر 1994: 113، روزيفاش 1994). وهذه من طقوس تقديم القرابين الكبرى في منطقة ليس بوسعها تربية الماشية بسهولة. ومن الممكن أن نضاهي ذلك بحدث تقديم القرابين المكون من مائة رأس من الماشية في أوليمبيا - وهو تجمع عالمي من كل الولايات الإغريقية - للحكم على ما كانت تحاول أن تفعله مدينة أثينا. وبينما كانت المدينة تقدم هذه الماشية إلى ديونيسوس، كان المواطنون يتأملون ثقافة عادات تناول الطعام والشراب لديهم أثناء عرضها أمامهم على المسرح. وأكدت المدينة أيضا على قوتها بحرصها على أن تعرض أمام جميع الحاضرين في المسرح الكنز الذي قدمه حلفاء الإمبراطورية واليتامى من أبناء جنود أثينا الذين قتلوا في المعارك. وكان هذا العيد يتيح للمدينة فرصة استعراض قوتها العسكرية والاقتصادية، بالإضافة إلى الطقوس الدرامية والدينية التي تصور مكانتها بين غيرها.
كان العيد الأساسي في إسبرطة وغيرها من المدن الإغريقية القديمة هو عيد كارنيا (بيركرت 1985: 234-236). وكما هي الحال في عيد ثيسموفوريا، كانت الأنشطة الرسمية العادية (بما في ذلك العمليات العسكرية) تتوقف أثناء هذا العيد. يخبرنا ديميتريوس من سكبسيس (في «نظام معركة طروادة»، الجزء الأول، الذي يستشهد به أثينايوس) أن تسع جماعات تناولت مأدبة مكونة من لحوم القرابين في تسعة أبنية تشبه الخيام تسمى «سقائف»، وذلك «على غرار أسلوب حياتهم العسكري». وكانت هذه المأدبة الشعائرية تمثل البنية العسكرية، وكانت مصحوبة برقصات يشارك فيها الفتيان والفتيات، وسباق ركض مميز يشارك فيه الراكضون بعناقيد العنب أو من يطلق عليهم باليونانية «ستافيلودروموي». وفسر بعض الباحثين (كما أشار بيركرت) هذا السباق بأنه تصوير شعائري لمطاردة ضحية (سواء أكانت حيوانا أم إلها) في طقوس حصاد معينة.
وكانت تقام أعياد للنساء على وجه الخصوص، وهذه الأعياد تخدم أغراض هذه الدراسة للغاية؛ لأنها تظهر النساء وهن يتجمعن في جماعات لتناول الطعام وأداء غير ذلك من الأنشطة بعيدا عن وحدة الأسرة التي كثيرا ما ينحصرن فيها، حسبما تروي الروايات القديمة. وثمة ثلاثة أعياد جديرة بالذكر في هذا الصدد، وهي «ثيسموفوريا» وكان يحتفل به منذ تاريخ قديم في عدد من المدن الإغريقية، و«أدونيا» وهو عيد وفد إلى اليونان من الشرق الأدنى، وأجريونيا وهو عيد من الأعياد التي تحتفل بديونيسوس. وكان العيد الأول يقام تكريما للإلهتين ديميتر وبيرسيفوني، وكان يحمي خصوبة النساء وكذلك خصوبة محاصيل الحبوب، وكان يجمع بين عناصر الخصوبة والجدب، وبين تناول الطعام والصيام بطرق مدهشة تصور تلك العناصر المركبة التي كثيرا ما تظهر في الأعياد الإغريقية والرومانية. كانت النساء يغادرن منازلهن ويقتسمن الخيام بعضهن مع بعض على تل بنيكس (في حال وجودهن في مدينة أثينا)، وهو التل الذي كان ينعقد فيه بطبيعة الحال مجلس المواطنين الذي يقتصر على الرجال، ولكن كان يوقف نشاطه أثناء العيد.
في اليوم الأول من العيد، كانت النساء - فيما يبدو - يتجهن إلى إحدى الحفر، ويجمعن منها البقايا المتعفنة لخنازير سبق إلقاؤها هناك في عيد سابق، وكانت هذه البقايا ترتبط بالأرض، وحسبما يذكر في أحد المصادر كانت تنثر فوق الحقول كسماد لمحاصيل الحبوب. وكانت النساء يصنعن كذلك نماذج من العجين على هيئة ثعابين وأعضاء ذكرية. وفي اليوم الثاني، كانت النساء يجلسن على أغصان شجرة كف مريم وهن صائمات، وكانت هاتان العادتان من صور وسائل منع الحمل الطبيعية. وفي اليوم الثالث، كانت هذه الجوانب السلبية تتحول إلى احتفالات إيجابية ينصب فيها الاهتمام على الخنازير المشوية. يعلق بيركرت (1985: 242-246) باستفاضة على عيد ثيسموفوريا وعلاقته بأسطورة ديميتر وبيرسيفوني، التي يرد أشهر سرد لها في قصيدة هوميروس «ترنيمة إلى ديميتر». وترتبط الخنازير على وجه التحديد بإلهتي الخصوبة هاتين في شعائر وطقوس أخرى أيضا (فضلا عن كونها أكثر الحيوانات التي تقدم كقرابين).
ولشعائر عيد ثيسموفوريا عدة عناصر مفيدة؛ أولا: هذا النمط القائم على الصيام في أحد الأعياد، الذي يعقبه تناول الأطعمة الفاخرة، يتكرر في هياكينثيا في إسبرطة، وفيه يأتي تكريم ذكرى موت البطل في البداية بالامتناع عن أكل الخبز أو الكعكات، وعدم ارتداء الأكاليل، والامتناع عن إنشاد الأغاني. وفي اليوم الأخير، يقدمون الكثير من الحيوانات كقرابين، ويقيمون المآدب في منازلهم لمعارفهم وعبيدهم (بوليكراتيس «عن إسبرطة»، الذي استشهد به أثينايوس). وثانيا: إن الصيام في عيد ثيسموفوريا من العادات الإغريقية الرومانية المتبعة، وكان صياما عن تناول أطعمة معينة ويستمر لفترة محددة. وقد ربط عدة معلقين بين الصيام واليهود؛ مما يطرح نقطة لافتة؛ كان اليهود يصومون حقا، وكان صيامهم يتسم بنمط مميز ومنظم، فلم يكن يعرض حياتهم للخطر، على عكس الصيام المفرط الذي كان يتبعه بعض الزاهدين من المسيحيين الأوائل (جريم 1996). ثالثا: طقوس تقديم القرابين التي تقتصر على النساء موجودة في أماكن أخرى؛ إذ ترد - مثلا - في قصة عن تيجيا يرويها باوسانياس: «كانت النساء يقدمن بأنفسهن قربانا احتفالا بالنصر، دون معاونة الرجال، ولم يكن يقتسمن أي كمية من لحم القربان مع الرجال.» رابعا: يقدم ديتيان (1994 (1977)) تفسيرا لافتا لعيد ثيسموفوريا؛ إذ يقارن هذا العيد المتعلق بالحمل والإنجاب (والعناصر المرتبطة به مثل الخنازير المتعفنة والعناصر الرطبة المأخوذة من الأرض) بعيد أدونيا، وهو عيد للمحظيات والعشاق تكريما لأدونيس رفيق أفروديت. وكانوا يحتفلون بعيد أدونيا في المنازل؛ إذ كانوا يستحضرون الحياة الجميلة - والقصيرة على الرغم من ذلك - التي عاشها أدونيس في الأسطورة، وذلك بممارسة شعيرة «حدائق أدونيس». كانت توضع الأصص فوق أسطح المنازل، وكانت تحتوي على نباتات وأعشاب وتوابل «نشطة» من شأنها أن تنبت بسرعة، لكنها تعيش لمدة قصيرة ثم تموت بفعل الحرارة مثل الإله أدونيس الطيب الذكر الذي لم يعش سوى فترة قصيرة حسبما تروي الأسطورة. وتأتي هذه النباتات على النقيض من الحبوب التي توضع في الأرض وتنمو ببطء على مدى فترة زمنية طويلة. ويساعد هذا التناقض اللافت على تناول العلاقة بين كل من النساء والإنجاب والحيز الاجتماعي والنباتات في الثقافة الإغريقية من منظور مفاهيمي واضح للغاية؛ مما يعد انتصارا للفكر البنيوي. (ثمة بضع حالات مناقضة لذلك؛ إذ تحضر على سبيل المثال إحدى المواطنات الشابات عيد أدونيا - وذلك في مسرحية «فتاة ساموس» من تأليف ميناندر - وتصبح حاملا.) ويوضح ديتيان كيف كان الناس يحتفلون بالنباتات الأدنى شأنا (من اللحم والحبوب والنبيذ) في الأساطير والديانة الإغريقية، ويتحدث في فصول أخرى عن صمغ المر والتوابل والخس.
يصف بلوتارخ العيد النسائي أجريونيا؛ إذ كان يحتفل به المواطنون في مدينته خايرونيا في مقاطعة بيوتيا («حديث المائدة» 8) كالآتي: «تبحث النساء عن ديونيسوس وكأنه هرب منهن، ثم يكففن عن ذلك ويقلن إنه لاذ بربات الإلهام واختبأ عندهن، ثم بعد برهة، حين يفرغن من تناول طعامهن، يختبر بعضهن بعضا بالأحاجي والألغاز.» ويشرح بلوتارخ هذه الشعيرة كما يأتي: «حين نحتسي الشراب لا بد أن نتبادل حديثا يتخلله التأمل وشيء من التثقيف، ونلاحظ أنه حين يتخلل احتساء الخمر حديث من هذا النوع، فإن العنصر الجامح والجنوني يتوارى؛ إذ تكبح جماحه ربات الإلهام والفن بعطفهن وحبهن للخير» (ترجمه إلى الإنجليزية: مينار وساندباك وهيلمبولد). ويشمل عيد أجريونيا ثلاث سمات مترابطة ومهمة لهذا الكتاب؛ أولا: هذه الشعيرة واحدة من بين عدد من الشعائر التي يشهدها عيد ديونيسيا، ففي هذا العيد يخرج إله الخصوبة العربيد النساء من منازلهن التي يحصرهن المجتمع فيها لغرض الإنجاب وإعداد الطعام وحياكة الملابس. ويدفع بهن إلى التلال حيث يأمر عالم الطبيعة (حسبما جاء في روايات أخرى) بإنتاج الحليب والعسل فيما يشبه المعجزة بدلا من المحاصيل الزراعية الأساسية. ثانيا: تحتفل نساء بيوتيا بإقامة مأدبة بعد انتهاء مطاردتهن للإله؛ وهذا دليل على مشاركة النساء في المآدب، يمكن إضافته إلى الدليل الوارد في الفصل الثاني. ثالثا: يفسر بلوتارخ تلك الشعيرة بأنها تشبيه للسلوك المتبع في جلسة الشراب. ومن الممكن أن نضيف أننا نجد هنا أيضا دليلا على ممارسة النساء لألعاب كان يعتقد أنها ألعاب مصاحبة لجلسات الشراب. وقد يجعلنا مؤلفون مثل أثينايوس نظن أن من كن يلعبن تلك الألعاب المصاحبة لجلسات الشراب هن المحظيات فقط. ولم تكن هذه الألعاب فقط ألعابا مصاحبة لجلسات الشراب، بل كانت جزءا من أي عيد، وتأتي كمثال على الجمع بين طقوس الاحتفال الديني وما قد نراه من المنظور الحديث كمناسبة دنيوية لتناول الطعام والشراب.
ونرى أيضا هذا الجمع بين ما هو ديني وما هو دنيوي في تناول الطعام الفاخر في عيد ديونيسيا الريفي في أتيكا، وهو عيد يحتفل به الناس في المنزل وفي الأماكن العامة أيضا (راجع ما ذكر سابقا في هذا الفصل). ومن الممكن أن نذكر أيضا أن أحاديث بلوتارخ عقب العشاء التي سجلها في كتابه «حديث المائدة» (ويقترب عددها الإجمالي من المائة) تتزامن أحيانا مع الأعياد، وتتزامن أحيانا أخرى مع مناسبات مميزة مثل وصول صديق أو عودة بلوتارخ نفسه إلى منزله، وأحيانا من دون تحديد. ويدور أحد الأحاديث في كورنث أثناء ألعاب مضيق كورنث، ويدور حديث آخر أثناء عيد أنثيستيريا الذي يحتفل بافتتاح الموسم الجديد لقطاف العنب (3، 7). ولا يفرق بين الأطعمة التي تؤكل في الأعياد والأطعمة التي تؤكل فيما عدا هذا من أيام إلا ربط الحديث بعنصر من عناصر العيد.
وكان الدين يعزز هياكل السلطة التي تقوم عليها المدن القديمة من نواح عدة، ويتضح ذلك في هذه الأعياد وغيرها من الشعائر. وكانت هذه الهياكل تتخذ صورا شتى. كان البشر خاضعين لسلطان الآلهة، ولكنهم كانوا يفهمون ذلك السلطان فهما قاصرا؛ إذ كانت الآلهة تقدم وسائل البقاء، ولكنها كانت تنتظر التكريم في المقابل؛ ومن ثم، ظهر نظام معقد لتقديم القرابين، كان البشر في ظله يقدمون باكورة الحصاد والحيوانات وغيرها من القرابين إلى الآلهة. جرت العادة على أن تقديم حياة حيوان هو أغلى قربان يمكن تقديمه؛ ففي إطار المجتمع البشري، كانت المدن تنظم مناسبات تقديم القرابين والشعائر المعقدة التي تقام في الأعياد بهدف المحافظة على نظمها الاجتماعية والسياسية؛ فكان بوسع الأفراد تقديم القرابين نيابة عن أنفسهم أو عن أسرهم، وكان بوسع الجماعات من الناس التجمع لتكريم إله أو بطل محلي، وكان يجوز أن تتولى مدينة بأكملها تقديم قربان، أو أن تتولى ذلك مجموعة من المدن، بل يجوز للبلدان الإغريقية بأكملها المشاركة في عيد ديني عالمي مثل الأسرار الشعائرية في إلفسينا أو الألعاب الأولمبية.
وكانت الأعياد ومناسبات تقديم القرابين في المدن ذات الحكم الذاتي تعبر عن هياكلها السياسية بدقة. إبان الحكم الديمقراطي لمدينة أثينا، يخبرنا مصدر معارض - وهو كاتب كان يظن أنه زينوفون أو «نصير حكم الأقلية المتقدم في السن» الذي كان يمارس الكتابة في أواخر القرن الخامس - أن أهالي المدينة نظموا الأعياد ومناسبات تقديم القرابين بحيث يتمكن الناس العاديون من الاستمتاع بها بسهولة مثل الطبقة الغنية تماما. ويكتب (2، 9):
يدرك عامة الناس في أثينا أنه يتعذر على كل فرد من الفقراء تقديم القرابين وإقامة ولائم فاخرة وتشييد المزارات والتمكن من العيش في مدينة جميلة وعظيمة، وعلى الرغم من ذلك اكتشف عامة الناس سبيلهم إلى تقديم القرابين وزيارة المزارات وإقامة الولائم وزيارة المعابد. فالمدينة تقدم قرابين كثيرة على نفقة المال العام، ولكن عامة الشعب هم الذين يستمتعون بتناول الطعام في الولائم، وهم الذين تخصص لهم لحوم القرابين.
ومن المفترض أن الأعياد التي يقصدها المؤلف تشمل عيد بان أثينايا، وتحديدا عيد ديونيسيا المقام في المدينة، الذي ورد وصف له فيما سبق.
وكانت تقام في روما أيضا احتفالات كبرى ومناسبات تقديم القرابين. يسجل أحد النقوش (مختارات من النقوش اللاتينية 5050 = بيرد ونورث وبرايس (1998: 140-144)) احتفال الإمبراطور أغسطس بالألعاب الدنيوية أو القرنية في عام 17 قبل الميلاد، وكانت هذه المناسبة تمثل استئنافا لمناسبة حدثت قبل ذلك بمائة عام في عهد الجمهورية في روما. وكانت تقدم فيها القرابين إلى إلهات القدر وجوبيتر وغيرهم من الآلهة؛ وكانت تلك القرابين تتألف من الحيوانات ومختلف أنواع الكعك المخصصة لهذا الغرض، وكانت تتضمن عروضا ومآدب وصلوات يشارك فيها الناس، مع اتخاذ ترتيبات للرجال والنساء. وكانت تشهد أيضا إقامة ألعاب ومسرحيات ومواكب. وكما هي الحال في الأعياد الإغريقية مثل بان أثينايا وديونيسيا ، كانت هذه الأعياد تشهد إقامة المباريات الرياضية والمسرحيات والعروض مثلها مثل تقديم القرابين وإقامة المآدب. وكانت هذه المناسبة مصاحبة أيضا لاحتفال النصر الروماني، الذي كان يقام للترحيب بعودة القائد المنتصر بصحبة جيشه وغنائم الحرب، ولإدماجه في روما بطقس تقديم قرابين إلى معبد جوبيتر كابيتولينيوس، وبإقامة مأدبة مع أعضاء مجلس الشيوخ (راجع بيرد ونورث وبرايس، 1998: 144-147). وكان يقام أيضا الكثير من الأعياد الصغرى، وكان عدد منها يرتبط ارتباطا وثيقا بالسنة الزراعية وبأنشطة معينة مرتبطة بها، وكان من بين تلك الأنشطة افتتاح موسم نبيذ جديد وعيد الأفران تكريما لصنع الخبز وعيد كارنا، الذي يرد وصف له في الفصل الخامس.
ويخبرنا أوفيد أيضا عن عيد سيريليا - الذي كان يحين موعد الاحتفال به في شهر أبريل - ويربط بينه وبين أسطورة ديميتر وبيرسيفوني/سيريس وبروسيربينا (قصيدة «الأعياد» 4، 393-402):
وبعد ذلك تحين ألعاب سيريس. لا داعي للإفصاح عن السبب؛ فما تجود به الإلهة من كرم وفضل واضح وجلي. وكان الخبز الذي تناوله البشر الأوائل يتكون من الأعشاب الخضراء التي كانت الأرض تنتجها من تلقاء نفسها، وصاروا الآن يقطفون الحشائش الحية من الطبقة العليا من التربة، والآن صارت الأوراق الطرية التي تكلل هامات الأشجار تستخدم في إقامة مأدبة. وبعد ذلك، صارت تزرع ثمار البلوط؛ وكان خيرا لهم أن وجدوا ثمار البلوط، وطرحت شجرة البلوط المتينة كمية وفيرة. وكانت سيريس هي أول من دعا البشر إلى الحصول على قوت أفضل وبادلتهم ثمار البلوط بطعام أكثر نفعا. (ترجمه إلى الإنجليزية: فريزر)
كما هي الحال بخصوص عيد ثيسموفوريا، يرتبط طقس تقديم القرابين في العيد بالخنزير، ومن الواضح استبعاد الثور المستخدم في جر المحراث. ويقال إن الإلهة - تماشيا مع قدم عهدها - يروق لها كل ما هو قديم وترضى بالقليل (بخنزير صغير مفضلة إياه على ثور)، بشرط أن يكون من مصدر طاهر.
ومن الأمثلة الأخرى عيد فورناسيليا، وهو عيد الأفران (قصيدة «الأعياد» 2، 512-532)، وكان يروج لصناعة الخبز الجيد؛ وأيضا عيد فيستاليا (قصيدة «التقويم» 6، 249-468) الذي كانت العذارى البتوليات الشهيرات يحضرن فيه كعكات مميزة من الحبوب والملح لحارس مضيفة المدينة (النسخة الرومانية من مبنى البريتانيون الإغريقي)، وكانت كل مكوناتها تأتي من مناطق موصى بها ، وكانت تحضر بطرق تقليدية.
يقدم المشاركون في «مأدبة الحكماء» الذي ألفه أثينايوس مثالا أخيرا لأحد الأعياد؛ فأحد المآدب التي شاركوا فيها تتزامن مع الاحتفال بعيد باريليا في روما. ويقدم أوفيد - قصيدة «الأعياد» 4، 721-806 - تفاصيل هذا العيد الذي يحتفل برعاة الغنم. يوضح لنا بيرد ونورث وبرايس 5، 1 (1998: 116-119) كيف تحول عيد زراعي لم تكن تراق فيه دماء الحيوانات إلى احتفال بعيد تأسيس روما يصاحبه طقس تقديم قرابين تراق فيه دماء غزيرة. وهنا يتضح تأثير الابتداع الديني؛ حيث يعكس التحول من مجتمع رعوي إلى إحدى القوى العالمية. يصف أثينايوس الاحتفال والتغيير الجذري الذي طرأ عليه لأغراض مدنية كالآتي:
بينما ظل كلام كثير من هذا النوع يدور، سمعت في تلك اللحظة في كل أنحاء المدينة نغمات النايات وضجيج الصنوج ودق الطبول، المصحوبة جميعا بأصوات غناء. وتصادف أنه كان عيد باريليا - كما كان يسمى مع أنه أصبح يسمى الآن العيد الروماني - الذي أنشئ تكريما للإلهة فورتونا (إلهة الحظ في روما)، حين أنشأ معبدها أفضل الأباطرة وأكثرهم ثقافة، وهو الإمبراطور هادريان. ويحتفل بذلك اليوم سنويا كل سكان روما - وكل من تتصادف إقامته فيها في ذلك الوقت - باعتباره مناسبة جليلة. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
ولما كان المشاركون في مأدبة أثينايوس يجيدون الحديث أكثر مما يجيدون الفعل، فقد أخذوا يتأملون مختلف أنواع الأعياد المدنية، وكان ذلك فيما يبدو هو المشاركة التي يقدمونها في يوم العيد. ونجد أن أثينايوس يؤدي مرة أخرى تلك الوظيفة الشديدة الأهمية لهذا الكتاب، وهي الجمع بين البلدان الإغريقية والبلدان الرومانية؛ فهو يجمع بين الدليل القائم على الأدب الإغريقي مع البلدان الرومانية (موضوع حديثهم) خارج غرفة الطعام. ويتضح وجود أوجه تشابه ملحوظة بين البلدان الإغريقية والرومانية في الكثير من النواحي؛ إذ كان الرومان أحيانا يقدمون قرابين استنادا إلى الشعيرة الإغريقية، واستنادا إلى الشعيرة الرومانية في أحيان أخرى. وتحول هرقل الإغريقي من نسخته الإغريقية «هيراكليس» إلى نسخته الرومانية «هيركيوليز»، وكان هو الذي أتى بالماشية إلى العالم القديم، كما رأينا في الفصل الأول، وكانت روما من بين المدن التي أسسها، وأوليمبيا كذلك. كانت ثمة اختلافات كبيرة أيضا بين الثقافتين الإغريقية والرومانية، ولكن كان من الملاحظ وجود قدر كبير من التفاوت أيضا. وتناول بلوتارخ بوضوح الخصائص الإغريقية والخصائص الرومانية في سياق ديني إغريقي روماني، ومن بين «الأسئلة الرومانية» البالغ عددها 113 سؤالا التي طرحها، يسأل بلوتارخ (109-110):
لماذا لا يسمح لكاهن الإله جوبيتر - الذي يدعى فلامين دياليس - بلمس الدقيق أو الخميرة؟ هل لأن الدقيق طعام غير مكتمل وخام؟ فهو لم يظل كما كان - قمحا - ولم يصبح ما يفترض أن يكون عليه، أي خبزا؛ ولكنه فقد قوة الإنبات التي تكمن في البذرة، وفي الوقت نفسه لم يصل إلى خاصية النفع التي تميز الطعام ... والخميرة هي أيضا نتاج الفساد، وتنتج الفساد في العجين الذي تمزج به؛ إذ يصبح العجين ضعيفا وخاملا، وتصبح عملية التخمير بأكملها فيما يبدو عملية تعفن، وفي حالة الإفراط في استعمالها، فإنها تضفي طعما حامضا على الدقيق وتفسده تماما.
ولماذا يحرم أيضا على هذا الكاهن لمس اللحم النيئ؟ هل المقصود من هذه العادة صد الناس تماما عن أكل اللحم النيئ، أم أنهم يرفضون اللحم لنفس سبب تحريم الدقيق؟ فهو ليس كائنا حيا، ولم يصبح طعاما مطهيا بعد. ويؤدي السلق أو الشواء - بصفتهما نوعين من التعديل والتحويل - إلى التخلص من الصورة السابقة؛ ولكن اللحم النيئ الطازج لا يتسم بمظهر نظيف وطاهر، بل مظهره منفر، مثل جرح حديث. (ترجمه إلى الإنجليزية: بابيت)
يطرح بلوتارخ، ضمن «الأسئلة الإغريقية»، سؤالا عن السبب في أن أهالي مدينة تراليس يطلقون على نبات البيقة المطهر، ويستخدمونه في طقوس التكفير عن الذنوب وطقوس التطهير الروحي. يقدم هذا المنهج العقلاني المتبع في دراسة الأديان القديمة - الذي يمثل صورة مبكرة من صور علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية - تفسيرات مؤقتة للظواهر الدينية المحيرة، ويلقي الضوء على الشعائر التي تقتصر على مدينة بعينها وتميزها عن غيرها (وهي فكرة رئيسة متكررة في هذا الفصل)، ويتناول مجموعة كبيرة من التقاليد الاجتماعية، بما في ذلك الأطعمة والطهي. ويشبه هذا النسق القائم على الأسئلة المنهج الذي استخدمه أوفيد في قصيدته «الأعياد» - التي كان موضوعها الأساسي هو روما - ولكنه يتناول قدرا كبيرا من الشعائر والأساطير الإغريقية أيضا. بلغ بعض جوانب الديانة القديمة حدا كبيرا من الغرابة، حتى إنه كثيرا ما كان يستدعي البحث عن تفسيرات موغلة في الغرابة. وهذه هي الحال خصوصا فيما يتعلق بالردود المحيرة التي كان يجيب بها وسطاء الوحي، وفيما يتعلق بالأساطير المتعلقة بتأسيس بعض المدن. فحسبما قال أحد وسطاء الوحي، ستؤسس مدينة إفسوس «في المكان الذي تشير إليه سمكة ويقود إليه خنزير بري» (أثينايوس). أما في فاسيليس - وهي مدينة تقع جنوبي آسيا الصغرى - فإن تقديم قرابين من الأسماك المملحة يحيي ذكرى الأسماك المملحة التي استخدمها مؤسس المدينة لشراء الأرض من راعي غنم محلي (أثينايوس). ووجد أثينايوس هاتين القصتين في كتب التاريخ المحلية («تاريخ أهل إفسوس» من تأليف كريوفيليس، و«تاريخ أهل كولوفون» من تأليف هيروفيثوس). وتصور القصتان مدى تنوع الممارسات الدينية والعلاقة المعقدة التي تجمع بين عالم البشر وعالم الحيوان في العصور القديمة، وهو ما سنناقشه باستفاضة في الفصل السابع. وكثيرا ما كان الناس يحيون ذكرى هذه العلاقة على نحو مادي وملموس عن طريق الأطعمة التي يتناولونها وطريقة الطهي المتبعة.
وكان الكثير من الأعياد يجمع بين القادة الحكوميين وسكان المدينة، ورأينا في الفصل الثاني الأعياد الكبيرة التي احتفل بها الملوك الهلنستيون القدماء، مثل العيد الذي أقامه أنطيوخوس الرابع في دافني، وكان هذا العيد عبارة عن استعراض للقوة الملكية المخصصة للتنافس في الألعاب التي أقامها القائد الروماني إميليوس باولوس؛ ولكن الموكب كان يشمل الآلهة. ويخبرنا بوليبيوس (31، 3 = أثينايوس 5، 195) أنه: «من المتعذر أن نحصي عدد الصور المقدسة؛ إذ كان المشاركون في الموكب يحملون وهم سائرون تماثيل لكل الشخصيات التي يقال أو يعتقد أنها آلهة أو أنصاف آلهة أو حتى أبطال من البشر، وكان بعض التماثيل مطليا بالذهب وبعضها مكسوا بأردية من خيوط ذهبية. وكان بجوار كل التماثيل كتيبات في طبعات فاخرة تتناول الأساطير المقدسة المتعلقة بكل منها، وذلك وفق ما جاء في القصص التقليدية» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). ويخبرنا بوليبيوس أن المشهد التالي في الموكب كان يتمثل في مرور مئات العبيد وهم يحملون أواني ذهبية وفضية، وكان هذا الموكب استعراضا للسلطة والثروة، وكانت تستدعى إليه كل الآلهة التي تخطر على البال. وربما كانت الآلهة تشارك على مضض في بعض الحالات؛ نظرا لأن جانبا من تمويل الموكب كان يأتي من الغارات التي تشن على المعابد.
ويأتي أشهر وصف لموكب ديني في الحقبة الهلنستية من الكتاب الذي يتناول الإسكندرية من تأليف كاليزينوس الرودسي، وهو عبارة عن وصف للاحتفال الذي نظمه بطليموس الثاني - فيلاديلفوس - وزوجته أرسينوي تكريما لبطليموس الثاني - سوتير - وزوجته برنيس. ويأتي الموكب والأنشطة المرتبطة به كمثال على ما تمتلكه هذه المملكة التي حلت محل المملكة السالفة من سلطان ونطاق عالمي. ويضم الموكب خيمة كبيرة مميزة مخصصة للحفلة الأساسية، بها 130 أريكة و100 مائدة فضية وقد انتثرت على أرضيتها الزهور (مع أن الوقت كان شتاء) للتعبير عن خصوبة مصر. وبداخل الخيمة، كانت توجد صور لحفلات شراب، وكانت تقام المسرحيات التراجيدية والكوميدية وغيرها من الأنشطة المرتبطة بديونيسوس. وكانت تتوافر لبقية الحضور من الجنود والحرفيين المهرة والزوار مؤن مستقلة لتناول الطعام، وكان الموكب نفسه يكرم أولا الزوجين الراحلين، ثم يكرم كل الآلهة الأخرى وخصوصا ديونيسوس. وكان يشارك فيه أشخاص متنكرون في هيئة الإله سيلينوس الذي يتخذ هيئة نصف إنسان ونصف حصان، كما كان يشارك متعبدون آخرون. وكانت تتصاعد رائحة عطور مثل البخور وصمغ المر، وكان يشارك أشخاص يمثلون الزمن والفصول الأربعة. وكانت تظهر فيه صور للنبيذ وآنيته، وكانت تظهر في الموكب حيوانات كثيرة مثل الجمال والكركدن والطيور. وكان يشارك فيه كثيرون من أصقاع بعيدة شرقا وجنوبا، كما كانت تشارك نساء يمثلن مدن البر الأساسي لليونان وآسيا الصغرى. وكانت تظهر صور لانتصارات الإسكندر الأكبر ومعروضات رائعة من الذهب.
يعود الفضل إلى أثينايوس في الاحتفاظ بهذا الوصف، الذي يعلق أن فيلاديلفوس فاق الكثير من الملوك ثراء، وذلك بفضل الثراء الذي أتى به النيل ودلتاه؛ فيبدو أننا بصدد موكب يكرم الملوك المؤلهين، موكب يقوم على تكريم وعبادة ديونيسوس ؛ الإله الذي كررت فتوحات الإسكندر الأكبر رحلته المنتصرة عبر آسيا. وتكرم فقرات كثيرة من الموكب بقاعا بعيدة يتضح الآن أن الملك والملكة قد توجها إليها؛ فالموكب عبارة عن وسيلة لإظهار السلطان والنفوذ، وربما يمكن أن نشبهه بالمواكب التي كانت تسير في مدينة أثينا. وكما ذكر فيما سبق، كانت الإلهة أثينا تكرم في بان أثينايا بموكب وبطقوس لتقديم القرابين. وينظم أهالي الإسكندرية عملية توزيع اللحم، مع إيلاء عناية خاصة بالعائلة الملكية وضيوفها. وتتوافر مؤن مستقلة «للجنود والحرفيين والزوار». كانت ترغب مدينة أثينا في التعبير عن هيكلها الاجتماعي؛ ولذلك كان تقسيم اللحم يتم وفقا لاعتبارات تستند إلى هوية من حضروا الموكب ومن شاركوا فيه من كل من المقاطعات التي تتكون منها المدينة ذات الحكم الذاتي.
ونجد أن وصول ديونيسوس منتصرا في عيد البطلميا هو نسخة مفصلة من وصول ديونيسوس إلى مدينة أثينا قادما من خارج البلاد، وذلك كما يظهر في عيد أنثيستيريا وربما الاحتفالات الأثينية الأخرى المتعلقة بديونيسوس. ونجد أن فكرة وصول إله من مكان آخر وتصوير هذا الحدث فكرة شائعة (راجع الفصل الأول فيما يتعلق بديونيسوس وتريبتوليموس وهرقل). ويتضح من المقارنة بين احتفال البطلميا والاحتفالات الأثينية المتعلقة بديونيسوس كيف أن المواكب الدينية تعبر عن الهياكل الاجتماعية والسياسية للمدينة. ويقدم أثينايوس تعليقا لافتا آخر عن الاحتفالات في الإسكندرية؛ إذ حافظ على مقتطف من بحث ألفه العالم الرياضي والفلكي إيراتوسثينس عن الملكة البطلمية أرسينوي: «أسس بطليموس كل أنواع الاحتفالات ومناسبات تقديم القرابين، خصوصا المرتبطة بديونيسوس، وسألت أرسينوي الرجل الذي كان يحمل أغصان الزيتون عن المناسبة التي كان يحتفل بها آنذاك وعن اسم العيد؛ فأجاب: «إنه عيد يسمى عيد حمل الإبريق (لاغونوفوريا)، ويأكل فيه المحتفلون ما يقدم إليهم وهم يتكئون على أسرة من عيدان نبات الأسل، ويشرب كل منهم من إبريق خاص يحضره معه من منزله.» وبعد أن مضى، نظرت إلينا وقالت: «لا بد أن ذلك تجمع بذيء؛ فذلك النوع من التجمعات لا يشارك فيه إلا حشد أفراده من مشارب مختلفة تقدم إليهم وليمة سيئة المذاق وغير لائقة مطلقا.» ويضيف المتحدث الذي يستشهد به أثينايوس، وهو بلوتارخ: «ولكن لو كان ذلك الاحتفال قد نال إعجاب الملكة، لما سئمت قط من تقديم نفس القرابين، وهو ما كان متبعا في احتفال الأباريق (كوييس)» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). من المنطقي أن تستهزئ أرسينوي بطعام هؤلاء بعد أن رأت الأطعمة الراقية التي تقدم في احتفال البطلميا، ولكن لا بد أن نذكر هنا ثلاث نقاط؛ أولا: إدماج نسخة من احتفال منتشر من احتفالات المدينة - وهو «كوييس»، الذي يوافق اليوم الثاني من عيد أنثيستيريا - في طائفة أتباع الملوك البطالمة. ثانيا: التمييز الطبقي حتى في مناسبة احتفالية (وهو ما يشير إليه موقف أرسينوي). ولاحظ أن عامة الناس كانوا يتكئون على أسرة من عيدان نبات الأسل، وكما ناقشنا في الفصل الثاني، كان الاتكاء عادة منتشرة ولم يكن يميز عادة الاتكاء لدى الأغنياء سوى الذهب والعاج. ثالثا: كان ديونيسوس في المدينة ذات الحكم الذاتي إلها يساعد على تعارف مختلف أنواع الناس ويذيب الفوارق بينهم (سيفورد 1994). والنفور الذي أبدته أرسينوي حيال هذا الاتجاه لافت للانتباه؛ نظرا للاتجاه المتزايد في الحقبة الهلنستية والرومانية إلى تخصيص ديونيسوس للاحتفالات والعروض التي يقيمها الأغنياء وذوو السلطان، وذلك حسبما يوضح بلوتارخ في كتابه «حيوات» الذي يتناول الإسكندر الأكبر ومارك أنطونيو. (4) قرابين الأطعمة
كان اللحم هو الطعام الأساسي في الاحتفالات، بل كان - على أقل تقدير - أكثر الأطعمة شأنا، ونجد أفضل مثال على ذلك في النقش الذي يتحدث عن عيد بان أثينايا الذي استشهدنا به آنفا، وفي أعداد جلود الذبائح التي تقدم كقرابين في عيد ديونيسيا وفي طقوس تقديم القرابين الكبرى في أوليمبيا. وطقوس تقديم القرابين الحيوانية هي الأهم بسبب تكلفة القربان والأنماط الفكرية المتعلقة بالقتل. يشدد كل من ديتيان وفيرنان - كما رأينا - على موضوعات التعريف (بين الإنسان والحيوان والإله)، والهوية (من حيث الزراعة والنوع الاجتماعي والحضارة، كما يحددها استخدام النار في المجتمعات المستقرة). ويشدد آخرون على الإحساس بالذنب الذي يحس به المرء حيال قتل حيوان. (وللاطلاع على أفضل ملخص لطقس تقديم القرابين عند الإغريق، راجع بيركرت 1985: 55-68.)
كان هناك أيضا الكثير من الأطعمة الاحتفالية وقرابين الطعام الأخرى، ذات الأعداد الكبيرة والتنوع الهائل، في كل أنحاء المجتمعات المترامية الأطراف في البلدان الإغريقية الرومانية. يذكر جالينوس الخبز بالجبن المستخدم في أيام الاحتفالات في ميسيا (راجع الفصل الثاني). وكان يقدم «أوبيلياس» أو رغيف محمص على السيخ في عيد ديونيسيا، وكانت تقدم أطعمة مميزة في أيام العطلات الدينية في مبنى البريتانيون في نقراطيس (كما ناقشنا في الفصل الثاني).
ننتقل الآن إلى الشعائر التي كانت تشترط تقديم قرابين بخلاف الحيوانات، وذكرنا فيما سبق عددا من ذلك النوع من القرابين في أوليمبيا، وهو ما كان يكمل القرابين الحيوانية المقدمة خلال مدة الاحتفال. وكان من بين الأمثلة اللافتة الأخرى هيكل معبد أبولو جينيتور في ديلوس، وكانت القرابين المقدمة فيه عبارة عن قمح وشعير وكعكات، ولم تشهد الطقوس استخدام النار أو قتل الحيوانات. وكان هذا الهيكل - وفقا لما ذكره ديوجينيس اللايرتي في كتاب «حياة فيثاغورس» (13) - الهيكل الوحيد الذي كان يتعبد فيه فيثاغورس. من الصعب تمييز فيثاغورس عن أتباعه، وكان جانب كبير من فكره يهتم بالأعداد والموسيقى والأفكار الصوفية، ولكن كان جزء مهم من تعاليمه - والجزء الذي كثيرا ما يلاحظه المعلقون المنتقدون - يتعلق بالضوابط الغذائية. كان يوصي باستبعاد اللحوم وبعض أنواع الأسماك والفول، وقد شرح ديوجينيس اللايرتي (14) هذه الضوابط هو والكثير من المعلقين القدماء الآخرين من منطلق الإيمان بتناسخ الأرواح. وهذا المعتقد يعبر عنه ببلاغة في تصريح روائي يناهض أكل اللحوم جاء على لسان فيثاغورس في قصيدة «مسخ الكائنات» (15) من تأليف أوفيد. ويعرض فرفريوس حجة فيثاغورس بالتفصيل في كتابه «عن التقشف» (والفقرة مترجمة إلى الإنجليزية في كلارك 1999). يشرح ديوجينيس اللايرتي دوافع فيثاغورس على النحو التالي (13):
كان دافعه الحقيقي لتحريم النظام الغذائي الحيواني هو تمرين الناس وتعويدهم على البساطة في الحياة، حتى يتسنى لهم أن يعيشوا على أشياء يسيرة المنال، ويبسطوا على موائدهم أطعمة غير مطهية ويشربوا ماء نقيا فقط؛ لأن هذا النظام هو السبيل إلى الحصول على جسم سليم وعقل فطن متوقد. (ترجمه إلى الإنجليزية: هيكس)
وجهت انتقادات كثيرة إلى فكر أتباع فيثاغورس، ويعبر ديوجينيس عن معتقدات عصره في أوائل القرن الثالث الميلادي. وعزا أثينايوس - وهو من معاصري ديوجينيس على الأرجح - تصوير هوميروس لأبطاله في ملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسا» إلى أهداف أخلاقية مشابهة، وذلك كما سنرى في الفصل التاسع. وكتب ديتيان (1994 (1997) 37-59) نقدا ممتازا عن الضوابط الغذائية السائدة بين أتباع فيثاغورس، متناولا الجانب السياسي لهذه الجماعة من أتباع فيثاغورس، والعلاقة بين نقاء الروح والعصور القديمة. (يناقش أوجه التباين الأساسية بين أكل اللحوم والقرابين النباتية وذلك في حالة ميلو في أوليمبيا؛ حيث كانت تقدم أيضا قرابين نباتية قديمة (راجع ما سبق).) انتقل أتباع فيثاغورس المتزمتون من المدن الإغريقية ذات الحكم الذاتي في جنوبي إيطاليا، وانسحبوا من عادة تقديم القرابين؛ ومن ثم من حياة المدينة وهويتها. اتخذ أتباع آخرون أقل زهدا موقفا وسطا، ورفضوا أكل حيوانات معينة وأسماك معينة فقط، وذلك بهدف عدم الانسحاب تماما عن هذه العادة. وكانت أجزاء الحيوان التي امتنعوا عن أكلها هي الأجزاء الأكثر ارتباطا بالحياة، مثل المخ ونخاع العظم والأعضاء الحيوية، وكانوا لا يأكلون إلا الحيوانات «المذنبة»، مثل الخنزير لأنه كان يدوس حبوب ديميتر، والجدي لأنه كان يرعى على أعناب ديونيسوس.
ويأتي أتباع فيثاغورس وأيضا أتباع أورفيوس - وهم جماعة من المتصوفة - كأفضل مثال على عادة المحرمات المتعلقة بالأطعمة في البلدان الإغريقية الرومانية. وكما يوضح ديتيان، فإن اللحوم هي أبرز المحرمات في العصور القديمة من الناحية الاجتماعية: استبعد أتباع فيثاغورس المتزمتون أنفسهم من مجتمع المدينة الذي تأسست هويته الدينية على تقديم قرابين من الحيوانات. وكانت العلاقة بين الفول وتناسخ الأرواح معروفة أيضا في مصر. وبوجه عام، لم يكن ثمة أي أطعمة محرمة تقريبا، على عكس مجموعة القوانين اليهودية الواردة في العهد القديم (راجع باركر 1983: 357-365). جرت العادة لدى الإغريق والرومان على الامتناع عن أكل الطعام المكرس للموتى، مثل الكلاب التي كانت تقدم كقرابين إلى الإلهة هيكاتي. وكان من غير المسموح أيضا أكل أسماك معينة. يقدم أثينايوس دليلا على المكانة الدينية لأسماك البوري الحمراء:
يقول أبولودورس أيضا في بحثه «عن الآلهة» إن أسماك الترليا (وهي سمكة ذات زعانف صدرية مكونة من ثلاث شعب) كانت تقدم إلى الإلهة هيكاتي؛ نظرا لتداعيات الاسم وارتباطه بهيئة هذه الإلهة ذات الرءوس الثلاثة. ولكن ميلانثيوس يدرج - في كتابه عن الأسرار الشعائرية في إلفسينا - سمك الإسبرط مع سمك الترليا لأن هيكاتي إلهة بحر أيضا. يعلن هيجيساندر من دلفي أن أسماك الترليا كانت تحمل في الموكب في عيد آرتيميس لأنها معروفة بصيد أرانب البحر والتهامها؛ نظرا لكونها كائنات سامة. ومن ثم، على اعتبار أن أسماك الترليا كانت تفعل هذا لإفادة البشر، فإن هذه الأسماك الصيادة تصبح مكرسة للإلهة الصيادة. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
تثبت هذه الشهادات أن الأسماك لم تكن مستبعدة تماما من الديانة الإغريقية، فالأمر أبعد ما يكون عن ذلك. ولم تكن الضوابط المفروضة على تناول الأسماك أيضا تقتصر على الطوائف الهامشية مثل أتباع فيثاغورس؛ ففي أتيكا، كانت نساء إلفسينا يقمن وليمة في عيد هالوا، كانت تضم «كل أصناف الطعام، فيما عدا الأطعمة المحرمة في احتفال الأسرار الشعائرية، مثل الرمان والتفاح والبيض والدواجن وأنواع معينة من الأسماك. وعندما تصبح الوليمة جاهزة، كان الولاة ينصرفون ويتركونها للنساء. وشرح المعلق القديم أن الوليمة الفاخرة تثبت أن إلفسينا هي المكان الذي تعلم فيه البشر عادات تناول الطعام الراقية» (بارك 1977: 98). وهذا الدليل على إقامة وليمة فاخرة تقتصر على النساء، وتحكمها ضوابط غذائية، مع وجود تفسير يبحث في أصل الأسطورة؛ هو دليل يميز المدن ذات الحضارة الإغريقية الرومانية. ويتصادف أن يأتي هذا الدليل من إلفسينا، وهي من المدن المهمة في المجال الديني. ومع وجود حالات مثل هذه، يستنتج باركر (1983) أن المحرمات المتعلقة بالأطعمة كانت محدودة.
وما زالت لدينا فئتان من القرابين المقدمة إلى الآلهة لنناقشهما، وهما تقديم قرابين من باكورة الحصاد - أو أفضل قسم من الحصاد - إلى الإله الذي كان يعتقد أنه هو الذي وهبه (يقدم بيركرت 1985: 66-68 الكثير من الأمثلة). ويزخر الأدب بحكايات تحذيرية عن المجتمعات التي لم تكن تقدم قرابين إلى آلهة الزراعة؛ ففي أسطورة ميليجر القديمة - التي ظهرت لأول مرة في ملحمة «الإلياذة» الجزء التاسع - تغضب آرتيميس حين لا تحصل على قربان حصاد من الملك أونوس دون سائر الآلهة؛ فترسل خنزيرا بريا رهيبا لإفساد المحاصيل. وفي الحقبة التاريخية، تسجل النقوش القرابين التي قدمتها المجتمعات المشتغلة بالزراعة، وفيما يلي تفاصيل الأموال التي جمعها معبد إلفسينا في عام 420 تقريبا:
يحضر أهل أثينا قرابين باكورة الحصاد إلى الإلهتين من ثمار الحقل اتباعا للعادة القديمة، واتباعا لوسيط الوحي من دلفي: من مائة بوشل (مكيال للحبوب) من الشعير، على ألا يقل عن سدس بوشل، ومن مائة بوشل من القمح، على ألا يقل عن واحد على اثني عشر بوشل ... يجمع الجباة هذه الكمية في القرى ويسلمونها إلى الكهنة في إلفسينا. تشيد ثلاث صوامع من الذرة في إلفسينا ... تحضر الولايات الحليفة أيضا قرابين من باكورة الحصاد بالطريقة نفسها ... وترسلها إلى مدينة أثينا ... يرسل مجلس المدينة أيضا إخطارا لكل المدن الإغريقية ... ويحثها على تقديم قرابين باكورة الحصاد إذا رغبت في ذلك ... وإذا أحضرت إحدى هذه المدن قرابين يتسلمها الكهنة بالطريقة نفسها. تقدم قرابين من الكعكات المقدسة بحسب إرشادات كهنة يومولبيداي، ويقدم أيضا قربان من ثلاثة حيوانات تبدأ بثور بقرون مذهبة، ويقدم قربان لكل من الإلهتين من الشعير والقمح، ثم يقدم قربان كامل لكل من تريبتوليموس والإله والإلهة ويوبولوس، ويقدم للإلهة أثينا ثور بقرون مذهبة. (ترجمه إلى الإنجليزية: بيركرت)
يبين النص بوضوح اندماج حماية الحصاد في أتباع الإلهتين ديميتر وبيرسيفوني (والأساطير المرتبطة بها) في إلفسينا، ونجد أيضا شرحا واضحا لمتطلبات السياسة الوطنية والدولية في أثينا، وهي المدينة التي كانت تسيطر على إلفسينا والأسرار الشعائرية. وكانت يومولبيداي أيضا أسرة قديمة من الكهنة تحظى بنفوذ في إلفسينا وأثينا. ويذكر النص المنقوش العادة القديمة وبناء صوامع جديدة (يذكر بيركرت أن الصوامع كانت مشيدة بالفعل في هذا التاريخ). وهذا يوضح كيف كان الدين متأثرا بالماضي ومرتبطا بالمتطلبات المعاصرة في آن واحد، وكان من الشائع أن تتألف القرابين من العسل وكعكات أخرى (راجع الفصل الرابع).
لم تكن باكورة الحصاد تقتصر على موسم حصاد الحبوب فحسب؛ فنحن نعلم أيضا بتقديم قرابين شكر إلى بوسيدون لأنه وهب سربا من أسماك التونة. يخبرنا أثينايوس عن تقديم قرابين من باكورة الأسماك التي يصطادها الصيادون في هالاي في أتيكا، وذلك استنادا إلى الدليل القائم على كتاب «عن المفردات» من تأليف أنتيجونوس الكاريستوسي. وكذلك، كانت تقدم قرابين من فئة ثانية من الحيوانات غير المخصصة للقرابين. كان الصيد عادة شائعة في كل العصور، وكان من العادات التي تمارسها الطبقة الحاكمة على وجه الخصوص، وكان من الوارد تقديم الحيوانات الكبيرة التي يصطادونها كقرابين إلى آلهة الأماكن البرية، وتحديدا إلى الإلهة أرتيميس. وينبغي أن ينظر إلى هذا الشكل من أشكال تقديم القرابين على أنه قربان للتعبير عن الشكر وإجراء احتياطي تحسبا لغضب أحد آلهة الأماكن البرية، ما دام أنه لم يكن يندرج في فئة حيوانات المزارع التي يفرضها طقس تقديم القرابين العادي، وهو بمنزلة العقد المبرم بين آلهة الزراعة المتقدمة، إذا جاز التعبير. ويتحدث بيركرت (1985: 58 و149-152) حديثا طويلا عن الموضوع.
وأخيرا، كيف كانت تأكل الآلهة؟ ذكرت آنفا أن الآلهة لم تكن بحاجة إلى شيء على الإطلاق، وبناء على ذلك، كانت الأساطير تروي أن الآلهة تأكل أطعمة مميزة مثل الرحيق والطعام الإلهي، وهي أطعمة لا تنبت الدماء في الأوردة بل دماء إلهية «إيكور». ومن الممكن ملاحظة ذلك - مثلا - في وليمة للآلهة في الجزء الأول من ملحمة «الإلياذة»، أو في وصف حوريات البحر كاليبسو في الجزء الخامس من ملحمة «الأوديسا». كانت الآلهة تأكل في مواقف اجتماعية مشابهة للمجتمع البشري، نجد فيها الأرائك والأقداح وكذلك الخلافات. يوجد تراث وافر من الأساطير القائمة على حضور الآلهة ولائم زفاف دامية، ومن أمثلة ذلك المعركة التي اندلعت بين مسوخ القنطور وعشيرة اللابيث (في وليمة زفاف طغت عليها الخمر والشهوة)، وزواج بيليوس وثيتيس، وهو ما ينظر إليه في الكثير من الروايات على أنه مقدمة هادئة لحرب طروادة. وصور الأدباء والفنانون هذه الأحداث على نحو متخيل في الكثير من الأعمال الفنية والأدبية . ويرى الكثيرون أن أغرب صورة من صور طريقة أكل الآلهة في العصور القديمة كانت ثيوزينيا (باليونانية) وليكتيسترنيوم (باللاتينية)؛ وفي هذه الصورة، كانت الآلهة حاضرة في هيئة تماثيل في الوليمة التي يحضرها البشر، وذلك بدلا من أن تتلقى الدخان الناتج عن حرق القرابين عن بعد وهي على قمم جبل الأوليمب. يصف بيركرت (1985: 107) مثل هذه الأعياد في إسبرطة ودلفي في البلدان الإغريقية؛ أما بخصوص الرومان، فيسجل ليفي أول احتفال من احتفالات ليكتيسترنيوم كالآتي:
لم يتمكنوا من العثور على سبب الوباء العضال الذي حل عليهم في ذلك الشتاء، ولا وسيلة القضاء عليه، وعندئذ رجعوا إلى كتب النبوءات القديمة بمرسوم من مجلس الشيوخ. احتفل موظفان مسئولان عن كتب النبوءات القديمة بأول مناسبة ليكتيسترنيوم أقيمت في مدينة روما، وظلا طوال ثمانية أيام يسترضيان أبولو ولاتونا وديانا وهرقل ومركوريوس ونبتون بثلاث موائد من أفخم الأطعمة المتاحة آنذاك. وكان الناس يحتفلون بالشعيرة أيضا في المنازل الخاصة. (ليفي 5، 13، 5-8، ترجمه إلى الإنجليزية: بيرد ونورث وبرايس 2: 130)
كانت المدينة بحاجة ماسة إلى الآلهة لتعالج الوباء، وكان يعتقد أن أفضل وسيلة لاستحضار الآلهة (لدفعها للحلول في تماثيلها، إن جاز التعبير) هي إقامة وليمة فاخرة. ولم يكن الوقت مناسبا للبساطة القديمة؛ مما يدل مرة أخرى على أن الدين والمجتمع كانت تجمعهما صلة وثيقة، وأنه لم يكن يوجد بالضرورة فصل بين الفخامة الاجتماعية والبساطة الدينية. كان من الوارد أن يتسم نمط تناول الطعام في مناسبات دينية بطابع فاخر أو غير فاخر، وذلك بحسب الطائفة الدينية والإله والشعيرة قيد المناقشة وبحسب الظروف السياسية. ولنا أن نستدل على ذلك من تمثال الإله المخصص ليوضع في مقر الطائفة، الذي كان من الممكن أن يكون تمثالا قديما منحوتا من الخشب (تمثال ديونيسوس منحوت من خشب التين، على سبيل المثال)، أو أن يكون تمثالا هائل الحجم من الذهب والعاج، مثل تمثال زيوس في معبد أوليمبيا.
مقدمة الفصل الرابع
يعد النشا من المكونات المهمة لنظامنا الغذائي، ربما تكون قطعة لحم أو سمك هي العنصر الأساسي، ولكن المواد النشوية هي التي تشعرك بالشبع وتوقف إحساسك بالجوع، وهي مكون ضروري من مكونات الطعام، سواء أكان من الأسماك أم اللحم أم كان ذا نمط نباتي. وفور تناول الأطعمة النشوية، تتحول الكربوهيدرات الموجودة فيها بسرعة إلى جلوكوز - وهو مصدر الطاقة الأساسي للجسم - وتسير في مجرى الدم حتى تصل إلى كل خلايا الجسم. يستخدم الجسم الكربوهيدرات أولا - قبل الدهون أو البروتينات - ومن ثم فهي دائما ما ترفع مستويات الطاقة بسرعة.
علاوة على ذلك، تمثل المواد النشوية جانبا من جوانب المساواة في النظام الغذائي؛ لأن الفقراء والأغنياء على حد سواء يعتمدون عليها لتكوين أساس نظامهم الغذائي في الطعام المتناول. وفي عصرنا الحالي، من الوارد أن تكون تلك المواد النشوية من رقائق البطاطس المقلية أو الأرز، ولكن يقصد بالمواد النشوية في عصر ما قبل كولومبس محاصيل الحبوب مثل القمح والشعير، إما كعصيدة وإما في صورة مخبوزة كما في حالة الخبز.
والعصيدة مظهرها غير جذاب مطلقا؛ فالعصيدة المصنوعة من الشوفان، تمثل الإفطار التقليدي في اسكتلندا، حيث ينظر إليها كجزء من تراث البلاد، ولكن نادرا ما يتناولها أحد بمحض اختياره في أماكن أخرى. وربما يحظى البرغل الأمريكي المصنوع من الذرة بالسمعة نفسها في الولايات الجنوبية؛ ومع ذلك يمكن تحضير القمح - بعد طحنه حتى يتحول إلى سيمولينا تصنع منه عصيدة، تسمى «نيوكي ألا رومانا»، في إيطاليا بنفس طريقة صنع عصيدة دقيق الذرة (بولنتا) - بطرق مختلفة يستحب أكلها؛ فمن الممكن مثلا حين تبرد العصيدة وتخلط بالجبن والتوابل أن تشوى أو تخبز في صينية لإضفاء شكل وقوام مختلفين تماما على الطبق، وهي من التنويعات المدهشة للعصيدة.
يتوقف شكل الخبز وجودته بدرجة كبيرة على نوع الحبوب المستخدمة في صنعه، والقمح هو أفضل نوع من الحبوب، وهو دائما الأكثر طلبا والأعلى سعرا في السوق. وأي نوع آخر من الدقيق لا يصنع منه إلا الخبز غير المختمر؛ لأن أنواع الدقيق الأخرى لا تحتوي على كمية كافية من الجلوتين لتخمير رغيف الخبز. وتتخذ أنواع الخبز المصنوعة من الجاودار هيئة أرغفة سميكة ذات مذاق رائع، حلو وحامض ، وقوام مميز ولكنها تفتقر إلى رقي الخبز الأبيض المصنوع من القمح، سواء أكان مختمرا أم غير مختمر. ويصنع من الشعير نوع مستساغ من العصيدة، ويمكن طهيه بطريقة تشبه طبق الريزوتو، ولكن أفضل طريقة لإعداده هي تحويله إلى جعة.
من الممكن الزعم بأن جودة الخبز في بلد ما تدل على موقف هذا البلد من الطعام عموما؛ فإذا كنا نتعامل باحترام مع المكون الأساسي من نظامنا الغذائي، فإن ثمة أملا فيما يخص كل النواحي الأخرى. ومن المؤسف أن أداء بريطانيا والولايات المتحدة سيئ في هذا الشأن؛ إذ نجد أن الرغيف الناتج عن الإنتاج الصناعي - المليء بالدهون الرديئة لتحسين الطعم وإطالة العمر الافتراضي - أصبح يهيمن على السوق، وبات متغلغلا في الوعي القومي بصفته النموذج الأصلي للخبز. أما في فرنسا وإيطاليا، فما زال إنتاج الخبز في معظم الأحيان بكميات صغيرة. وحتى بلدان شرق أوروبا تنتج خبزا أفضل من نوعيات حبوب رديئة، فتصنع منها أصنافا ممتازة من خبز الجاودار الأسمر وخبز عجين الجاودار المختمر.
وعلى خلاف المتوقع، فإن الأفراد المتحمسين هم الذين يعكفون على إعادة الدقيق البني والدقيق الكامل إلى عرش التفوق، وذلك عن طريق الحركات التي تروج للأطعمة العضوية والأطعمة الصحية غير المصنعة. وكان سيبدو موقف هؤلاء غريبا حقا لمن في روما واليونان ممن بذلوا ما لديهم من إبداع وموارد في سبيل تتبع أفخر أنواع القمح وغربلته حتى يصل إلى درجة البياض الناصع، وهو ما يثبت أن الطعام والطهي الجيدين من الأمور التي تتأثر بنوع الثقافة السائدة بقدر ما هما نتاج لظروف المناخ وأحوال التربة الزراعية المرهونة بالصدفة.
الفصل الرابع
الأطعمة الأساسية: الحبوب والبقوليات
إضافة إلى ذلك، فإن الخبز الذي يباع في أسواقهم مشهور، وهم يقدمونه في بداية أي وليمة وفي منتصفها دون قيد. وحين يشبعون يقدمون أكلة جذابة ولذيذة للغاية يطلق عليها الخبز المحمص مع النبيذ؛ وهو عبارة عن أكلة خفيفة ولذيذة يشرب فيها الخبز المحمص بالنبيذ الحلو، وله تأثير متناغم حتى إن المرء يشعر بنتيجة رائعة شاء أم لم يشأ. وكما أن الشخص الواقع تحت تأثير الخمر غالبا ما يستفيق مرة أخرى، فإن من يأكل من هذا الخبز يشعر بالجوع مرة أخرى ويتوق إلى طعمه اللذيذ. (لينسيوس الساموسي)
تناولنا في الفصول الثلاثة الأولى العوامل الثقافية التي تؤثر في فهم الطعام في الفكر الإغريقي والروماني، والعوامل الاجتماعية، ومكانة الطعام في الفكر الديني والممارسات الدينية. في هذا الفصل وفي الفصل التالي، نبدأ في مناقشة بعض الأطعمة نفسها؛ إذ نتحدث أولا عن الحبوب والنباتات، ثم عن اللحوم والأسماك.
يقسم الكثير من النصوص القديمة النظام الغذائي إلى مكونات أساسية تتألف من الحبوب أو «سيتوس»، ومكونات من البروتين النباتي والحيواني أو «أوبسا». وهذه المكونات التي يطلق عليها «أوبسا» ناقشها ديفيدسون (1995، 1997)، ويوضح في كتابه أن النصوص الأدبية والفلسفية كانت تنم عن اهتمام كبير بالمحافظة على التوازن السليم بين «سيتوس» و«أوبسا»؛ وأنه لا ينبغي أن تحل الإضافات اللذيذة الطعم الغنية بالنكهات محل الحبوب الخالية من النكهة بوصفها مواد أساسية في النظام الغذائي. ولم يشكل هذا خطرا إلا على القلة الغنية فحسب؛ إذ كان الأغنياء هم من في وسعهم تناول اللحوم بكميات أكبر من كعكات الشعير.
وكان وجود أي نوع من الأطعمة في البلدان ذات الحضارة الإغريقية الرومانية تحكمه مبادئ معينة. كان الطابع المحلي دوما من العوامل المهمة، ولم يكن أكل الأسماك متاحا لعامة الشعب إلا إذا كانوا يسكنون بالقرب من البحر، أما إذا كانوا يسكنون في منطقة مثل البر الرئيسي لليونان حيث كانت زراعة الشعير أفضل من زراعة القمح، فكانوا لا يأكلون القمح بقدر ما كانوا يأكلون الشعير، وكانت وسائل الإنتاج الزراعي والتحكم السياسي في التوزيع من العوامل المهمة كذلك. وكانت المدن الكبيرة مثل أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، وإلى حد أكبر بكثير روما في العصر الإمبراطوري، تتميز بقدرة أكبر على استيراد الحيوانات بغرض تقديم القرابين أو لغير ذلك من الأغراض، واستيراد الحبوب، مقارنة بالمجتمعات العادية الأصغر حجما . ولم يكن متاحا لمعظم السكان القدماء أي فرصة لاختيار طعام معين مستورد من قارة أخرى، أو مستورد من بلد آخر عبر البحر المتوسط، بنفس طريقة تسويق منتجات مثل المكرونة والذرة الحلوة والنبيذ والبرجر البقري حاليا؛ فهذه الأسواق تعتمد على الإنتاج بالجملة والتكلفة المنخفضة للوحدة بهدف التوزيع على المستوى العالمي. وفي العصور القديمة، لم يكن هذا الوضع ينطبق - إلا على نطاق ضيق - على الأطعمة الفاخرة نسبيا، بل كان هذا الوضع ينطبق على التوابل؛ إذ كانت تتسم بسهولة نقلها وارتفاع قيمتها، وينطبق كذلك على الأسماك المختمرة وصلصة السمك والنبيذ. وكان بوسع المستهلكين الأغنياء اختيار شراء نوع مستورد من النبيذ بدلا من المنتج المحلي، ولكن هذا لم يكن خيارا متاحا للسواد الأعظم من الناس.
ولكن انعدام القدرة على الاختيار مقارنة بما يتاح للمستهلك في العصر الحديث يخفي سمة من السمات المهمة في العصور القديمة، وهي انتقال الأطعمة. وكما رأينا في الفصل الأول، انتقلت وسائل الزراعة على الأرجح غربا إلى بلدان البحر المتوسط قادمة من منطقة الهلال الخصيب. وفي عصر سبق العصر الكلاسيكي القديم في اليونان، كانت الدواجن قد جاءت من غابات تايلاند إلى اليونان وإيطاليا، وكان طائر التدرج قد وصل إلى اليونان. وبحلول القرن الأول الميلادي، كان قد وصل إلى إيطاليا الأرنب والبرقوق الدمشقي، وأصبح نبات الأترج معروفا. يكاد يكون من المؤكد أن الليمون والباذنجان لم يعرفا في بلدان البحر المتوسط إلا بحلول عصر ما بعد الكلاسيكي، ولم يتحول الأرز من سلعة ينظر إليها بوصفها تحفة نادرة مجلوبة من أصقاع بعيدة، إلى سلعة في متناول الجميع، إلا بعد الوجود العربي في أوروبا على الأرجح. وكان انتقال الأطعمة ظاهرة مستمرة استفاد منها الأغنياء أكثر من الفقراء، ولكن تأثر بها الجميع.
مع أنه ليس من الواضح تماما أن الوسائل المستخدمة في إنتاج الحبوب والنبيذ والزيتون قد انتقلت غربا، بدلا من الاعتقاد القائل بأنها نشأت من تلقاء نفسها في عدد من المواقع في بلدان شرق البحر المتوسط؛ يرى الكثيرون أن هذه هي الحقيقة. وكان ذلك هو الاعتقاد السائد في العصور القديمة، وكان ذلك الاعتقاد يفسر وصول النبيذ إلى البلدان الإغريقية بناء على وصول ديونيسوس من آسيا بحسب ما ترويه الأسطورة، ويفسر وصول الحبوب بناء على رحلة ديميتر وتريبتوليموس عبر آسيا الصغرى بحسب ما ترويه أسطورة أخرى.
ويعبر عن هذه الظاهرة وصول الأطعمة الوافدة من الأمريكتين إلى أوروبا إبان الفتح الإسباني؛ إذ وصلت سلع مثل الديك الرومي والشوكولاتة والفانيليا والطماطم والفلفل اللاذع والذرة والبطاطس إلى القصور الملكية في أوروبا، ونالت اهتمام أفراد الأسر الملكية، ثم أصبحت بعدئذ أطعمة متاحة لعامة الناس.
وتزامن انتقال الأطعمة مع انتقال الناس، ومن ثم كان البعض يجد السلع النادرة متاحة أمامه في مدينته عن طريق الاستيراد، بينما كان البعض الآخر يصادف تلك السلع في بلدان أجنبية. ونجد أن ملحمة «الأوديسا» من تأليف هوميروس توضح هذه الظاهرة في تاريخ مبكر.
وأدت التجارة إلى نقل سلع نادرة إلى المدن مثل العطور والتوابل، فضلا عن مؤن إضافية أو أشكال مختلفة من سلع متاحة محليا مثل القمح والخمور وغيرهما من السلع الضرورية. وكان من الوارد أن تجذب الواردات النادرة المجلوبة من بقاع بعيدة اهتمام فئات المجتمع المولعة بالتنافس، ولا سيما أفراد الطبقة الراقية الثرية ممن كانوا يرغبون في التباهي في المناسبات الاجتماعية بأطعمة تميزهم بصفتهم ينتمون إلى دوائر المطلعين على العادات الأجنبية. وكان من الوارد طلب واردات السلع التي كانت متاحة محليا أيضا في حالة حلول موسم حصاد سيئ على نحو يعرض المؤن المحلية للخطر، أو في حالة اتسام نوع من السلع المستوردة بجودة أعلى؛ ولهذا تذكر عدة أعمال أدبية أفخر المنتجات الموجودة في أماكن معينة (راجع الفصل التاسع).
وكانت الحبوب - وأيضا أنواع الفول والبقوليات - هي أساس النظام الغذائي القديم، وكانت هذه الأطعمة هي «سيتوس» - أي المكونات الأساسية للنظام الغذائي - التي كانت تضاف إليها مكملات بروتينية، سواء أكانت من اللحوم أم الأسماك أم الخضراوات أم الفواكه. وكانت هذه المكملات تعرف باللغة اليونانية ب «أوبسا»، وباللغة اللاتينية ب «بولمينتاريا».
فالحبوب والبقوليات تمد الجسم بمعظم متطلباته من الطاقة ، وكذلك من البروتينات والفيتامينات والمعادن الضرورية. أما بخصوص المتطلبات اليومية من السعرات الحرارية، فيقترح ويلز (1998: 12) 1940 سعرا حراريا للنساء اللائي دون سن 50 و2550 سعرا حراريا للرجال. وهذه الأرقام أقل من الأرقام التي استخدمها فوكسهول وفوربز (1982: 48-49)، وهي مأخوذة من منظمة الغذاء والزراعة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة. ووفقا لما يذكره الأخير، يحتاج الذكر ذو النشاط المرتفع إلى 3337 سعرا حراريا، في حين تحتاج الأنثى ذات النشاط المرتفع إلى 2434 سعرا حراريا. ومن الممكن اعتبار قدر كبير من السكان القدماء - خارج نطاق الطبقات الراقية المرفهة - ذا نشاط مرتفع، ولا ندري مدى تكرار فشلهم في الحصول على متطلباتهم السنوية من الطاقة، ولكن جالينوس وجارنسي يقدمان دليلا وجيها على تكرار حالات النقص، ولكن ينبغي عدم المبالغة بخصوص هذا الدليل. يروي فوكسهول وفوربز (1982: 66) دراسة ترقى إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية تتناول الريفيين في كريت، وأثبتت أن النظام الغذائي العادي لديهم كان يتألف من الزيتون والحبوب والبقوليات، والنباتات البرية والأعشاب والفواكه، وكمية قليلة من لحم الماعز وحليب الماعز والطيور والأسماك. ولم يكن هذا النظام الغذائي يختلف عن غذاء معظم السكان القدماء، وكان يوفر نحو 2550 سعرا حراريا يوميا، وكانت كمية السعرات الحرارية المطلوبة في القرى تفوق كمية السعرات الحرارية المطلوبة في المدن بسبب طبيعة الأعمال الأصعب التي يمارسها المزارعون. وكان الأغنياء أيضا يأكلون كميات لحوم ومنتجات حليب أكبر من نظرائهم الفقراء. واكتشف الباحثان أن مستويات الطاقة هذه كافية، دون وجود أي دليل على ظهور سوء التغذية. ونجد أن الدراسة التي تتناول كريت من تأليف أولبو (1953)، والدراسات المعنية بالتراث العرقي في أرغوليد - وهي التي اعتمدت عليها دراسة فوكسهول وفوربز - تقدم معلومات مقارنة قيمة عن العالم القديم.
ولا بد أن نأخذ في الحسبان أنه بالرغم من أن الحبوب ربما كثيرا ما تبدو خالية من النكهة وغير مستساغة - وخصوصا عند طهيها على هيئة عصيدة، وهي معلومة يكثر وجودها في المصادر القديمة - هناك الكثير من طرق التحضير المتنوعة. ويعلق جالينوس على ذلك، وعلى النكهات التي من الممكن إضافتها. ومن الممكن أن نقارن - من موقعنا في العالم الحديث - الاختلافات بين القمح في هيئة خبز وبيتزا، وفي هيئة كعكات، وفي هيئة مكرونة وقمح مجروش وبرغل وسيمولينا (راجع ديفيدسون 1999: 843، وموسوعة «لاروس جاسترونوميك» 1293-1294). ويبدو أن أنواع العصيدة القديمة غير مستساغة، وهي ربما تشبه البولينتا الإيطالية، إلا إنها مصنوعة من القمح أو الشعير وليس من الذرة؛ إذ لم تكن الذرة متوافرة في العصور القديمة.
كان توفير الحبوب من بين الواجبات الأساسية الواقعة على عاتق السلطات في كثير من المدن، وكان عدم اضطلاع السلطات بهذا الواجب كفيلا بأن يتسبب في وقوع فوضى أهلية. وثمة تاريخ طويل لتصدير شحنات القمح من المناطق المعروفة بالتصدير بكميات كبيرة إلى روما وغيرها من المدن المهمة، وثمة تاريخ طويل حقا لانتقال الحبوب إلى الاتجاهين، حين كان التجار يسدون مختلف أنماط العجز بحسب الأحوال الزراعية والمناخية (براوند 1995 عن البحر الأسود في القرن الرابع، وجارنسي 1988، وريكمان 1971). وكان توصيل إمدادات الحبوب من المهام التي كان فاعلو الخير على استعداد لأدائها، لمصلحة المواطنين ولمصلحتهم أيضا. وكان من المهم أيضا ضمان مساندة فاعلي الخير من القوى العلوية، كما تشهد احتفالات ديميتر/سيريس وبيرسيفوني/بروسيربينا في الكثير من أنحاء العالم القديم، وفي تكريس باكورة الحصاد إلى هاتين الإلهتين، كما ناقشنا في الفصل الثالث. وجاء هذا الاحتياج اليومي من الحبوب والبقوليات في النصوص الطبية؛ إذ يبدأ بهذا الموضوع كتاب «الحمية» 2 من تأليف أبقراط وكتاب «عن قوى الأطعمة» من تأليف جالينوس، ويخصص كل من الكتابين حيزا كبيرا لهذا الموضوع. وعموما يبدو أن تصنيع الحبوب شهد تطورا تدريجيا؛ ومن ثم ازداد انتشار أصناف جديدة من القمح - على سبيل المثال - إبان الحقبة التي هي قيد البحث. يناقش سالاريس (1991) انتشار الخبز والقمح اليابس، ونشأة المخابز التجارية في المدن الكبرى مثل أثينا وروما (بلينوس 18، 107 وكورتيس 2001: 367)، وظهور تطورات في وسائل الطحن، كما تشهد مدينة بومبي بجلاء. ونعرف الكثير عن طحن الحبوب في المنازل وعلى المستوى التجاري (راجع مثلا سباركس 1962، وكورتيس 2001). وكانت مهمة الطحن الشاقة تتولاها غالبا النساء (ويلكنز 2000)، وكان يتولى تلك المهمة أيضا العبيد، إذا أمكن ذلك.
شكل 4-1: نساء يطحن الحبوب بالهاون. يستبق هذا الرسم الظاهر على مزهرية من بيوتيا المشاهد اليومية للنساء وهن يطحن الحبوب في الكثير من البلدان الحديثة. كان ذلك العمل شاقا، وعادة ما كانت تنجزه النساء أو ينجزه العبيد في حالة القدرة على تحمل تكلفة شرائهم. وكانت تستخدم أيضا مطاحن يدوية صغيرة الحجم (راجع سباركس 1962)، وكذلك كانت تستخدم الطواحين التجارية التي تشغلها الحيوانات، وكان النوع الأخير بالتحديد مستخدما في العصر الروماني. وكان دعاة الوعظ الأخلاقي يرون ضرورة تحضير الطعام في البيت. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من المتاحف الحكومية في برلين.)
ربما يبدو أن ثمة فارقا بين اليونان بصفتها منتجة للشعير وعصيدة الشعير أو «المازا»، وبين إيطاليا بصفتها منتجة أولا لعصيدة القمح الثنائي الحبة ثم للخبز وأنواع القمح الصلب. وكانت أراضي إيطاليا الأكثر خصوبة تنتج النوع الأفضل من الحبوب، ويرى معظم المؤلفين القدماء أنها أفضل من نواح شتى. لكن، ينبغي إضافة عدة تعديلات مهمة إلى هذه الصورة؛ فلا شك أن القمح من الحبوب الممتازة في كل البلدان المنتمية إلى الحضارة الإغريقية الرومانية ككل؛ لأن مادة الجلوتين الموجودة في القمح بطبيعة الحال تساعد في صنع الخبز، وذلك لقدرتها على حبس الغاز الناتج عن كائنات الخميرة. أما الشعير، فهو على العكس من القمح من الحبوب التي تحقق نجاحا محدودا عند استعمالها في صناعة الخبز، وهو مناسب أكثر لصناعة كعكات الشعير وأنواع الخبز غير المختمر (راجع للاستزادة براون 1995)، وبالتحديد النوع الذي يعرف باللغة اليونانية ب «مازا». ويقدم فوكسهول وفوربز (1982) معلومات مفيدة للغاية عن خصائص الشعير. ولم تكن كفة القمح ترجح دائما أمام الشعير، وذلك كما يوضح أثينايوس (الشذرة 5، سبق أن استشهدنا بها في الفصل الثاني)، ولكنها عادة ما كانت ترجح. يذكر جالينوس أن الجيش الروماني لم يكن يفضل الشعير؛ إذ كان يعتقد أنه يمنح الجسم قدرا أقل من الطاقة. (من الأمثلة التي تأتي على النقيض من ذلك الاعتقاد تقديم الشعير للمجدفين الأثينيين المكلفين بمهمة طارئة من ميناء بيريوس إلى مدينة ميتيليني في جزيرة ليسبوس. ويبدو أن الشعير يلبي احتياجات الطاقة المرتفعة التي تتطلبها الرحلة، وذلك بحسب ما يرويه المؤرخ الإغريقي الشهير ثيوسيديديس (3، 49). وكان الرجال يأكلون وهم يجدفون، وكان الطعام عبارة عن مزيج مصنوع من دقيق الشعير والعسل والزيت.)
ونجد أن البحث الذي ألفه جالينوس عن الطعام مفيد للغاية في هذا الشأن؛ إذ يشمل مجموعة كبيرة من الحبوب ويحدد مواقعها على رقعة اجتماعية وجغرافية شاسعة. وهكذا يبدو أن الحبوب السائدة في موطنه الأصلي - في ميسيا في غربي آسيا الصغرى - هي نوع بدائي من القمح، بينما الحبوب السائدة في أماكن أخرى هي الدخن أو الشوفان، وفي تراقيا هي الجاودار. وعلى عكس مؤلفين مثل أركستراتوس وأثينايوس، كان جالينوس مهتما بالنظام الغذائي للسواد الأعظم من السكان، وذكر الحبوب التي كان يأكلها الريفيون عادة، وعلق على أشكال تصنيع الحبوب وطهيها، وأيضا على الحبوب التي ربما يلجئون إليها في أوقات الشدة. والدليل الذي يقدمه جالينوس مفيد لمرجعيته الاجتماعية الشاملة، ويفيدنا ذلك الدليل أيضا في النظر إلى الحبوب في إطار أكبر، يشمل الدين ومكانة البشر في عالم الطبيعة (راجع بودي 1995 عن الأسرار الشعائرية في إلفسينا؛ وراجع الفصل الثالث فيما سبق، عن احتفال ثيسموفوريا وأوجه الربط بين خصوبة الأرض الزراعية والخصوبة لدى البشر).
وكانت الحبوب - شأنها شأن اللحوم - مرتبطة بالنظام الديني والاجتماعي، وكانت مساندة الآلهة ضرورية لضمان الحصول على حصاد مقبول ومناسب، وفي معظم المجتمعات كان النظام الهرمي للحبوب الذي شرحه جالينوس يتبع بصفة عامة النظام الهرمي البشري القائم على الثراء والمكانة الاجتماعية. كان أكل الحبوب من الأنشطة الأساسية التي تميز الشعوب المتحضرة - كان مصطلح «الحياة المطحونة» مصطلحا باللغة اليونانية يقصد به النظام المتحضر - وكان كل العمل الشاق اللازم لتحضير الحبوب وطحنها تؤديه غالبا النساء أو العبيد. وكانت طقوس الزواج تعزز من الصلة التي تربط بين تصنيع الحبوب والعمل الموكل إلى المرأة؛ ففي اليونان، كان المشرع فيما يبدو يمنح أي عروس مجففا للشعير (راجع براون 1995: 27)؛ وفي روما، كانت مراسم احتفال «كونفارياتيو» تجمع بين تقديم قربان من الخبز وعقد القران (جارنسي 1999)؛ وفي مقدونيا، كان العريس والعروس يقتسمان رغيف خبز بالتساوي.
وكثيرا ما كانت المكانة الاجتماعية من الأمور المهمة؛ فالمواطن الغني الذي كان يتاح له السفر والمقارنة بين مدينته وغيرها من المدن قد يفضل نوع خبز مستوردا من مكان بعيد، وكثيرا ما لاحظ البعض (من بينهم مثلا جودي 1982) أن أثينايوس يذكر نحو 74 نوعا من الخبز. يعبر أثينايوس عن وجهة النظر التي تجمع كل الأجناس، مما يمكنه من استكشاف الإمبراطورية بأكملها بحثا عن أفضل منتج من أي فئة. وبالنظر إلى اتساع رقعة المشهد الذي خصه أثينايوس ببحثه، نجد بالطبع أن الرقم 74 رقم ضئيل قياسا بمنطقة تمتد من إسبانيا إلى إيران، ومن روسيا إلى شمال إفريقيا. كان هناك بلا شك قدر كبير من التفاوت المحلي (إما من حيث الأسلوب وإما من حيث المصطلحات)، لم يظهر في المراكز ذات الطابع الذي يجمع كل الأجناس، ولكن المصادر التي نعتمد عليها تطلعنا على مجموعة لا بأس بها من أنواع الخبز والكعكات تتنوع من حيث الخبازين المتخصصين والأساليب والمنطقة والمصطلحات؛ ومن ثم، يمكن مقارنة أنواع الخبز الإغريقية بأنواع الخبز الرومانية، ومقارنة أنواع الخبز الإفريقية بأنواع الخبز الفرنسية. وكان شراء الخبز بدلا من صناعته في المنزل من علامات المكانة الاجتماعية الرفيعة، وسنرى تعليقات أفلاطون وليفي بخصوص مثل تلك التطورات «المترفة» في الفصل السابع. وفي حالة صنع الخبز في المنزل، كان يستأجر خباز متخصص. ويذكر كل من هيبولوكوس وأثينايوس تفوق خبازي منطقة كابادوكيا، ويذكر جالينوس قمح كابادوكيا (دالبي 2003: 74). وفكرة المكانة الاجتماعية مهمة مهما كانت المهارات «الحقيقية» التي يتمتع بها أهالي كابادوكيا بخصوص استعمال الدقيق.
ومع ذلك، نجد أن الجغرافيا والمناخ من العناصر المهمة بالدرجة نفسها؛ فقد يزيد الطلب في أحد الأسواق على القمح، وقد تتمكن مدينة مثل روما من توفير المؤن في معظم أسوأ مواسم الحصاد نظرا لهيمنتها على وسائل التموين على مستوى منطقة شاسعة تمتد من شمال أفريقيا إلى البحر الأسود. ولكن، كانت ثمة حبوب أخرى تفيد في وقاية الكثيرين من شر الجوع على نحو أفضل، وهذه الحبوب قد تكون من الأنواع المحلية ، مثل تلك الأنواع التي استعرضها جالينوس. كما كان يستخدم مزيج من الحبوب أو مزيج يجمع بين الحبوب وأنواع الفول. ويذكر كامبوريزي (1993: 100-101) أنه في إيطاليا قبل القرن العشرين كان الخبز الأبيض حكرا على الأغنياء وسكان المدن، أما عمال الحقول والحرفيون فكانوا يأكلون الخبز الأسمر وأردأ أنواع الخبز المصنوع من الردة فقط. كان من الممكن خلط دقيق القمح ودقيق البقوليات لصناعة خبز ريفي لذيذ، وكان من الممكن استخدام الشعير عند نفاد القمح، وكانت تستخدم حبوب البيقة والشوفان والسرغوم والجاودار مع حبوب متنوعة وحبوب الدخن. ويشترك الملخص الذي قدمه كامبوريزي عن الحبوب المستخدمة في إيطاليا في الكثير من السمات مع المجموعة التي قدمها جالينوس عن آسيا الصغرى والبحر الأسود.
شكل 4-2: تظهر نماذج لشخصيات تحضر الطعام وتطهوه في أنحاء من البلدان الإغريقية، مثل بيوتيا ورودس. ويضاهي هذا الشخص من بيوتيا الذي يراقب الفرن ما ورد في الحكايات الأدبية، والفرن نفسه يظهر في أماكن أخرى من السجلات الأثرية (راجع سباركس 1962).
يناقش كامبوريزي أيضا سلق الحبوب مع الحليب لصناعة البولنتا أو العصيدة، والذرة هي نوع الحبوب المستخدم عادة في إيطاليا المعاصرة، ولكن من بين الحبوب الأخرى التي ذكرها كامبوريزي الدخن والشعير والبيقة والحنطة السوداء والشوفان والعلس والبنيك. وكانت هذه الأطعمة - التي تصنع بسلق الدقيق في الماء أو الحليب - تستخدم بكثرة في اليونان على وجه التحديد، وكانت تصنع منها «العصيدة»؛ مثل أنواع العصيدة المجففة التي كانت يضاف إليها الحساء الكثيف، أو أنواع الخبز غير المختمر المطهو في الموقد. يقدم جالينوس أدلة قوية على وجود هذه العادة في آسيا الصغرى، وكان يستخدم فيها دقيق القمح وكذلك - كما سنرى بعد قليل - دقيق البلوط.
يناقش جالينوس في عدة مواضع في أول جزأين من كتابه «عن قوى الأطعمة» سلسلة هرمية من الحبوب وغيرها من الأطعمة النباتية، وذلك من وجهة نظر المستهلكين. وهو لا يقدم مثل هذه المناقشة بخصوص الأطعمة من الحيوانات والأسماك، ربما - في رأيي - لأن هذه الأطعمة كانت تشغل مكانة أقل أهمية عن الغذاء الأساسي للسواد الأعظم من السكان. يأتي القمح في المرتبة الأولى في رأي جالينوس، والقمح هو نوع الحبوب المفضل لأصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة، وينقله الريفيون إلى المدن لأنه يباع هناك بسعر أعلى، بينما يأكلون هم أنواعا أخرى من الحبوب الأدنى. ثم تأتي بعد ذلك حبوب مثل الشعير وأنواع القمح الأدنى وحبوب البيقة وحبوب البيقة العلقي، وفي هذه المرحلة يصبح الطعام مناسبا للحيوانات فقط. (الكلمة المهمة هنا هي «فقط»؛ لأن الكثير من الأطعمة كانت تزرع لتكون أطعمة للبشر أو للحيوانات، وذلك بحسب الظروف. وفي العالم الحديث، يستخدم الشعير والذرة هذا الاستخدام المزدوج.) وتتحكم الجغرافيا والعوامل الاجتماعية والثقافية والطبية في تفضيل نوع معين من الحبوب؛ فهل سيستطيع المصارع الروماني القتال إذا تغذى على طعام يحتوي على سعرات حرارية أقل من اللازم؟ يتطلب العمال المشتغلون بالأعمال اليدوية قدرا أكبر من الطاقة مقارنة بما يحتاج إليه المواطنون من أصحاب المكانة الاجتماعية الرفيعة، ولكن ممن تتسم حياتهم بنشاط أقل. فهل لا بد أن تأتي هذه الطاقة من فئة الحبوب «الأفضل»؟ يذكر هيرودوت أن الفرس كانوا يرون النظام الغذائي الإغريقي رديئا لأنه لم يكن يولي اهتماما للكعكات؛ ومن هذا المنطلق، يفضل تحضير الحبوب بالعسل والمكسرات وغيرها من الإضافات المميزة للكعكات.
ومع ذلك، فإن أهم ما في الأمر هو تناول ما يكفي من السعرات الحرارية يوميا. يذكر جالينوس عددا من الحالات تحدث فيها مجاعة وتفرض على الناس اختيار أنواع من الحبوب تختلف عن النمط العادي أو المستحسن. وفي الموضع 2، 38، يناقش جالينوس النباتات البرية في نص ترجمه إلى الإنجليزية باول، وفيه يقول:
يتناول الريفيون بانتظام فواكه برية مثل الكمثرى والتوت الأسود وثمار البلوط و«الميمايكايلا» (كما تسمى ثمرة شجرة الفراولة أو الفريز)، ولكنهم لا يتناولون ثمار الأشجار والشجيرات الأخرى إلا نادرا. ومع ذلك، ذات مرة حين اجتاحت المجاعة أرضنا، وكانت لدينا وفرة من محاصيل ثمار البلوط والمشملة، لجأ الريفيون لأكلها بدلا من الحبوب على مدى الشتاء بأكمله وحتى أوائل الربيع؛ إذ كانوا قد خزنوها في حفر في وقت سابق. وقبل ذلك، كانت هذه الثمار تستخدم كطعام للخنازير، ولكنهم في هذه المرة كفوا عن تربية الخنازير في الشتاء كما اعتادوا من قبل، وفي بداية الشتاء كانوا يذبحون الخنازير أولا ويأكلونها؛ وبعد ذلك كانوا يفتحون الحفر ويخرجون منها الثمار، ثم يحضرونها بطرق تحضير متنوعة، ثم يأكلونها. وأحيانا كانوا يغطونها بالرماد الساخن ويخبزونها في درجة حرارة متوسطة، وذلك بعد سلقها. وكانوا أحيانا يصنعون منها حساء، بعد طحنها ودقها حتى تنعم، وكانوا أحيانا ينقعونها فقط في الماء ويضيفون إليها بعض النكهات، وأحيانا كانوا يضيفون إليها العسل أو يسلقونها مع الحليب. والمواد الغذائية التي توفرها هذه الثمار وفيرة على نحو لا يضاهى بأي أطعمة جئنا على ذكرها في هذا الكتاب حتى الآن؛ إذ إن ثمار البلوط ذات قيمة غذائية شأنها شأن الكثير من الأطعمة المصنوعة من الحبوب، ويقولون إن البشر قديما كانوا يقتاتون عليها فقط، وكان الأركاديون يعتمدون عليها لمدة طويلة للغاية، مع أن جميع الإغريق في العصر الحالي يستخدمون الحبوب. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
إن تعليقات جالينوس رائعة حقا؛ إذ يتفق مع فهمه لاستراتيجيات التخزين التي كان يتبعها الريفيون كل من جالانت (1991) وجارنسي (1999: 40-41). كما أن المعلومات التي يقدمها جالينوس عن أكل ثمار البلوط تتفق تماما مع مايسون (1995)، ولمايسون دراسات تتناول عادة أكل ثمار البلوط في أكثر من ثقافة، وتثبت دراساتها تلك تعليقات جالينوس عن ثمار البلوط من حيث كونها طعاما للحيوانات وقيمتها الغذائية وطرق الطهي والطعم (المرارة التي يسببها وجود حمض التنيك). ويأتي ما ذكره جالينوس متفقا أيضا مع النتائج التي توصلت إليها عن نسبة عادة أكل ثمار البلوط إلى البدائيين وإلى سكان القرى المجاورة (ولكن ليس إلى المجتمع الذي ينتمي إليه الشاهد نفسه). والمصداقية مهمة؛ نظرا لأنه قد يشتبه في أن جالينوس كان يكن رأيا متعاليا وغير ودي عن الريفيين، وأن رأيه ليس له أدنى علاقة بحياتهم اليومية على المدى الطويل؛ وهذه هي الحال قطعا فيما يتعلق بمعظم النصوص القديمة، التقنية منها والأدبية.
يتبع جالينوس التقاليد الطبية، ويضع القمح والشعير في صدارة قائمة المواد المغذية للإنسان. وكان الطب - بصفته جزءا من العالم المتحضر - يتقبل تفوق الحبوب كطعام للسكان على الأشجار التي تطرح ثمار البلوط أو الكستناء، وكان الأطباء يرون أن تلك الأطعمة لم تكن أغذية أساسية إلا في مناطق معينة، وفي أزمنة نقص الطعام. ويؤدي تناول الأغذية الأساسية بالطبع إلى مناقشة كل فئات السكان، وليس فقط الطبقات الراقية الثرية ممن كانوا يحظون بغذاء يحتوي على نسبة بروتينات مرتفعة. إن شهادة جالينوس - نظرا لقيمتها (وأعتقد أن قيمتها كبيرة) - تولي اهتماما كبيرا للسواد الأعظم من السكان؛ فهو يشهد مثلا على انتقال ثمار البلوط من فئة الاستخدام المعتاد (كطعام للحيوانات) إلى فئة الاستخدام الطارئ (كطعام للبشر) في حالة الاضطرار، وذلك عند حدوث مجاعة. كانت الخنازير تؤكل منذ القدم (كما يأتي في الفصل الخامس)، وكانت ثمار البلوط تؤكل «بدلا من الحبوب طوال الشتاء وحتى أوائل الربيع». وسنرى حالات أخرى يذكرها جالينوس عن تضرر غذاء الريفيين الأساسي المكون من الحبوب، خصوصا إبان فصل الربيع في بلدان البحر المتوسط؛ ومن ثم، كان الريفيون كثيرا ما يضطرون للجوء إلى الأطعمة التي تندرج في فئة الخيارات الأدنى؛ وهذه هي الأطعمة التي كانت مقبولة فيما مضى، ولكن لم تعد مقبولة في الوقت الحاضر، والأطعمة التي كانت عادة ما تستعمل كطعام للحيوانات. يعبر السلم الهرمي للأطعمة عن المكانة الاجتماعية، فالقمح يستهلك في المدن، ثم يتراجع النمط الاستهلاكي للسكان بتناول الشعير والدخن في حالة الاضطرار. ولكن قد تلجأ سلطات المدينة إلى استيراد القمح من الخارج قبل الوصول إلى تلك المرحلة. وثمار البلوط مثال مفرط من حيث التنظيم «الاجتماعي» للنظام الغذائي البشري؛ يقول جالينوس (وتؤيده في ذلك مايسون 1995، بالمصادفة) إن ثمار البلوط تتفوق «من الناحية الغذائية» على كل الأطعمة الأخرى (بما فيها الأطعمة التي يأكلها هؤلاء الريفيون عادة، مثل شجرة الفراولة أو الفريز)، فيما عدا ثمار الكستناء. (يمكننا أن نقارن ذلك ببحث جالينوس المعنون ب «عن النظام الغذائي المستخدم في تخفيف الأخلاط»، ويأتي فيه أن الأطعمة البرية والجبلية تفضل - من الناحية الطبية - على الأطعمة الدسمة التي تأتي من الحقول الزراعية .) وبخصوص انتقال الطاقة، فالأنفع للبشر أن يأكلوا النباتات بدلا من أن يطعموا النباتات للحيوانات ثم يأكلوا الحيوانات بعد ذلك؛ وهذه كلها من العوامل التي اعتمد عليها الريفيون في البقاء على قيد الحياة. واضطر الريفيون القدماء لاتباع هذا السلم الهرمي من الأطعمة لمرات أكثر مما كانوا يرغبون؛ ويكاد يكون من المؤكد أن كمية اللحوم والأسماك التي كانوا يأكلونها كانت أقل مما كانوا يرغبون (نظرا لأنها من الأطعمة المرتبطة بعلو الشأن والمكانة الاجتماعية الرفيعة). ولكن هذه الخيارات لم تكن دائما - أو بالضرورة - مضرة بالصحة.
يصف كامبوريزي (1993: 98) عادة مشابهة في نجاد إيطاليا؛ إذ يصف استخدام ثمار الكستناء البرية والمزروعة واستهلاك ثمار الكستناء التي تؤكل طازجة أو مشوية أو مسلوقة، وتطهى في الرماد أو في الفرن، وذلك بناء على مصدر من القرن الثامن عشر. وكان من الممكن أيضا تجفيف ثمار الكستناء وطحنها لتتحول إلى دقيق ثم صناعة كعكات منها. ويزعم المصدر الذي اعتمد عليه كامبوريزي - وهو سافيريو مانيتي من منطقة توسكانيا - أن أشد الريفيين فقرا في مناطق بيستويا وفي مقاطعة كاسنتينو يأكلون منتجات الكستناء فقط باعتبارها غذاءهم الأساسي. وكانت مناطق النجاد في فرنسا أيضا تشهد اعتمادا مشابها على ثمار الكستناء - مثل منطقة ليموزان - حتى وقت قريب.
يذكر جالينوس المجاعة بصفتها حافزا يفرض أكل ثمار البلوط، أما مانيتي فيذكر أن أكل ثمار الكستناء (وهي من المكسرات الرديئة في رأي جالينوس) كان عادة منتشرة بين الريفيين الفقراء. توضح هذه القيود الغذائية الفجوة الواسعة بين أطعمة الطبقات الراقية الغنية في المدن - ممن كان بوسعهم اختيار نوع الخبز المصنوع من القمح الذي يفضلونه - وبين الغذاء المضر الذي اعتمد عليه سكان الريف الفقراء. وكان سكان الريف حتما أشد تأثرا بالعوامل الموسمية مقارنة بسكان المدن. يتحدث جالينوس أكثر من مرة عن أزمات نقص الطعام التي تفشت بين سكان الريف الآسيويين في الأشهر العجاف إبان فصل الربيع في بلدان البحر المتوسط (راجع الفصل الثاني). وقدم كامبوريزي تقييما مروعا أيضا عن غذاء العمال الزراعيين في منطقة فيرارا (1993: 81): «لم يكن الطعام يتسم يوميا بأي قدر من التنوع تقريبا؛ فلم يكن الطعام رديئا فقط، بل كان يسبب الضعف والكآبة، وكان يتكرر برتابة شهرا بعد شهر. وكان عدم وجود الخبز تعوضه على استحياء البولنتا الأرخص ثمنا؛ وكان الخبز يعود للظهور في الصيف حين كانت الطاقة الإضافية التي تتطلبها أعمال الحقل الشاقة تحتم تناول الخبز لقيمته الغنية بالسعرات الحرارية. وفي ذلك الموسم، كان غذاء الريفيين يتحسن ويظهر الخبز وحساء المينسترا على المائدة، مع أن حساء المينسترا كان يتكون من نفس مزيج المكرونة والفول وشيء من التوابل. وكانت الأطعمة، مثل التونة المحفوظة في الزيت، والجبن، والبطيخ الذي يؤكل مع الخبز، تحل جزئيا محل الماء العكر المتاح في النجاد، وتحل محل النبيذ الذي لم يكن متوافرا غالبا. وحتى في غياب الدليل المستند إلى الموائد العامرة بالأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية، من الواضح أن هذا النظام الغذائي كان يفتقر إلى التوزان الغذائي لا سيما شتاء ... وكان الشتاء فصلا طويلا يكثر فيه الجوع والفقر وأعباء الديون، وكان الريفيون والعمال بنظام الأجر اليومي من الفقراء يصبحون في نهايته منهكين وفي حالة نفسية وبدنية مريعة.»
وهذه النتيجة المتشائمة التي توصل إليها مؤلف يشيد بالأنماط القديمة لتحضير الطعام، مفضلا إياها على الإنتاج الكبير والضخم الذي يميز إيطاليا الحديثة؛ تشبه ما قالته باحثة أخرى متحمسة أيضا للعادات القديمة للمطبخ البحر متوسطي. تصف بايشنس جراي الشتاء على جزيرة إغريقية فتقول (1986: 189): «في جزيرة ناكسوس، كان السكان يعتمدون على نظام غذائي محدود إبان الشتاء، فتعرض الجميع لآلام فظيعة في الكبد، ولم يكن سببها فقط رتابة النظام الغذائي، بل أيضا الماء المتعكر والرياح الشمالية الرهيبة.» ويقدم جالينوس مثالا للضرر الذي لحق بصحة النساء بسبب أكل النباتات البرية في الربيع (استشهدنا به في الفصل الثاني).
أشرت في مواضع أخرى إلى تعليق جالينوس (الوارد في كتابه «عن قوى الأطعمة» 1، 2) بخصوص الشهية الكبيرة للعمال المشتغلين بالأعمال اليدوية، وقدرتهم على سرعة التهام الأطعمة التي يعجز الموسرون عن تناولها، ولكن ذلك كان يكبدهم خسائر منها اعتلال الصحة المصحوب بآلام والوفاة المبكرة. وكانت الحياة الكئيبة التي يعيشها العامل الزراعي يخففها اختلاف المواسم - كما يذكر كامبوريزي - وإلى حد ما الأعياد والمناسبات الخاصة التي تتخلل حياته مثل الزواج؛ ففي هذه المواقف، يصبح من الوارد تناول القليل من اللحم أو الأطعمة المميزة - مثل الخبز بالجبن - وهو الموضوع الذي يتناوله نص جالينوس حين يتحدث عن عادة الريفيين في تناول الطعام بسرعة ودون تعقل. كان الريفيون يستمتعون بتنوع الطعام، ولكنهم لم يستفيدوا منه من الناحية الطبية، هذا إذا كان لنا أن نصدق جالينوس. وقطعا كان الأغنياء من المجتمعات الريفية والحضرية أفضل حالا. وشهدت أنحاء الإمبراطورية الرومانية تدرجات كثيرة وقدرا كبيرا من التنوع بين نقيضين هما فئة عمال الحقول والموسرين الذين كانوا يقبضون على زمام الأمور في السياسة المحلية والعالمية. وكان الكثيرون يستطيعون شراء أنواع الخبز والعصيدة المصنوعة من الحبوب والبقوليات التي تأتي في مقدمة السلم الهرمي للحبوب، وكانوا أيضا يستطيعون شراء أطعمة الباعة الجائلين، وكان من بينهم من يحصلون على كميات صغيرة من اللحوم والأسماك، إذا توافرت لديهم الموارد المالية الكافية، كما سأناقش في الفصل التالي.
رأينا في الفصول السابقة مدى الأهمية التي يحظى بها الطهي في الكثير من مجالات الفكر القديم. والطهي مهم للغاية في معالجة الحبوب، كما يؤكد جالينوس بنفسه في الحكاية التي رواها (راجع الفصل الثاني) عن دقيق القمح المسلوق؛ وهذه هي طريقة الطهي المستخدمة لطهي ثمار البلوط والكستناء التي سبق أن ناقشناها، ولكنها تستخدم هذه المرة لطهي القمح الأفضل والأعلى شأنا. ونجد أن الأسئلة التي يوجهها جالينوس إلى مضيفيه عند تعرضه لحالة عسر هضم فظيعة بسبب تناوله هذه العصيدة، تكشف عن أنهم يسلقون القمح كطريقة سريعة لإعداد الطعام عند نفاد الخبز. وتسلط هذه القصة الضوء على فكرة مهمة مفادها أن التحضير كثيرا ما تضارع أهميته أهمية نوع الحبوب أو البقوليات المستخدمة؛ فعملية تحضير الحبوب تستغرق وقتا طويلا؛ نظرا لضرورة إزالة القشرة الخارجية غالبا قبل طحن الحبوب حتى تتحول إلى دقيق، وكانت هذه المهمة - كما رأينا - يكلف بها العبيد، وكثيرا ما تكلف بها النساء. وتعفى نساء أثينا من أداء هذه المهام الشاقة، التي تستغرق وقتا طويلا في فقرتين من تأليف أريستوفان، أما زميله الشاعر الهزلي فيريكراتيس فيقدم (في الشذرة 10، كاسيل أوستن) شخصية تتحدث عن تردد أصداء صوت الطحن في أنحاء القرية في الصباح الباكر حين تطحن النساء الحبوب في مطاحنهن (راجع الفصل الثاني). يقول أرسطو (في كتابه «السياسة») إن النساء في الأسر الفقيرة يؤدين أعمال العبيد (راجع ويلكنز 2000).
كان تحضير الحبوب يتفاوت تفاوتا كبيرا. يقدم براون (1995) لمحة عامة عن صناعة الخبز وإنتاج «المازا» في بلدان البحر المتوسط قديما، ويضيف مناقشة مفيدة عن العادات اليهودية الواردة في العهد القديم من الكتاب المقدس لتكملة الدليل الذي يقدمه المؤلفون القدماء بخصوص البلدان ذات الحضارة الإغريقية الرومانية، والذي يقدمه جالينوس تحديدا؛ إذ إنه يناقش أيضا آسيا الصغرى ومصر وأحيانا سوريا. كان القمح أحيانا يطحن ناعما لصناعة أفضل نوع من خبز القمح، ولكن كان يصنع منه نوع أكثر خشونة وهو الجريش القديم، الذي ربما يعادل القمح المجروش أو البرغل في العصر الحديث، أو كان يتسم بملمس حبيبي مثل جريش القمح (السيمولينا). وكان من الممكن تحضيره أيضا في هيئة عصيدة، مثل المازا. ويؤكد لنا جالينوس بما لا يدع مجالا للشك أن القمح المسلوق في قدر يكون أقل جودة بكثير من القمح الذي يتحول إلى خبز. ولكن اختلاف أنماط خبيز الخبز أيضا كان يؤدي إلى ظهور منتجات مختلفة للغاية؛ وكانت هذه الاختلافات تشمل القوام، وقطعا الطعم، وأيضا الآثار الطبية. يسجل جالينوس ذلك (في كتابه «عن قوى الأطعمة» 1، 2) كما يلي:
يطلق الرومان - هم ومعظم الشعوب التي يحكمونها - على أنقى أنواع الخبز اسم «سيليجنيس»، ويطلقون على النوع الذي يليه اسم «سيميداليس». و«سيميداليس» اسم إغريقي قديم، أما «سيليجنيس» فهو ليس إغريقيا ولكني لا أستطيع أن أسميه بأي اسم آخر. ونجد أن «سيليجنيس» هو أكثر نوع مغذ فيها، ويأتي بعده «سيميداليس»، والنوع الذي يتخذ منزلة وسطى بينهما - وهو المصنوع من الدقيق الكامل - يأتي في المرتبة الثالثة. وتأتي في المرتبة الرابعة مجموعة أصناف الخبز المصنوعة من الحبوب غير المغربلة، وأسوءها هو رغيف خبز النخالة، وهو حقا أقل نوع مغذ، كما أنه أكثر نوع يسبب الرغبة في التبرز من بين كل أنواع الخبز. وأفضل أنواع الخبز السهلة الهضم هي الأنواع التي روعي تخميرها لأطول مدة، وعجنها بإتقان شديد، وخبزها في فرن متوسط الحرارة؛ فالحرارة المرتفعة تحرق الخبز فورا عند تعريضه لها، وينتج عنها مظهر يشبه الفخار من الخارج؛ ويتضح أن الرغيف جودته رديئة لسببين: أن داخل الرغيف يكون نيئا وغير مخبوز كما يجب، بينما يكون خارج الرغيف مخبوزا بإفراط ويبسا وأشبه بالفخار. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
تشبه تعليقات جالينوس تعليقات ديفيليوس السيفنوسي وفيليستيون، وهما طبيبان من العصر الهلينستي استشهد بهما «جالينوس»، وهو أحد المتحدثين البارعين شبه الروائيين الذين ورد ذكرهم في كتاب «مأدبة الحكماء» من تأليف أثينايوس. يمتدح فيليستيون الخبز الطازج مفضلا إياه على الخبز اليابس، ويصرح بأن الخبز المخبوز بطريقة الغمر بالرماد («إنكروفياس») ثقيل وصعب الهضم، وأن الخبز المخبوز في فرن صغير («إبنيتيس») أو في موقد صغير («كامينيتيس») صعب الهضم. ويرى أن الخبز المطهي في المجمرة (إسخاريتيس) أو في مقلاة مسطحة (تاجنيستيس) زيتي وصعب الهضم، ويرى أن أفضل نوع هو الخبز المخبوز في فرن واسع (كليبانيتيس). وهذه المصطلحات القائمة على وسائل الخبز مصطلحات منتشرة. للاطلاع على مناقشة حول ذلك، راجع دالبي (1996: 91). ففي هذا التحليل الطبي - الذي أدلى به جالينوس نفسه في كتابه «عن قوى الأطعمة» 1، 2 - نجد أن الخبز المخبوز في فرن واسع هو الأفضل، وربما كان سيتفق مع هذا الرأي أهل أثينا ممن كانوا يشترون الخبز من بائعي الخبز، أو ممن كانوا يتوجهون إلى النسخة الأثينية من مخبز بولان الفرنسي الشهير، وهو مخبز ثياريون؛ وربما كان سيتفق الرومان مع هذا الرأي إذ أخذوا يترددون على المخابز التجارية بدءا من القرن الثاني قبل الميلاد إلى ما بعد ذلك، في روما وبومبي وأماكن أخرى. وهنا، نشهد نموذجا لرأي طبي وذوق رائج يخالف مخاوف دعاة الوعظ الأخلاقي.
ويصف جالينوس (1، 5) لمن لم يستطيعوا صنع الخبز - «وهم كثر في ريف منطقتنا» - دقيق القمح المسلوق في الحليب. وكان هناك أيضا دقيق قمح مطحون خشن (كوندروس) مسلوق بالماء، وكان يؤكل مع مزيج من النبيذ والعسل ، أو مع النبيذ فقط، سواء أكان النبيذ حلوا أو لاذعا (1، 6). وكان من الممكن إضافة الزيت والملح والخل إليه. كما كانت هناك أطباق ريفية مصنوعة من القمح الوحيد الحبة المسلوق مع «سيرايون» أو الملح، وأطباق أخرى مصنوعة من القمح الثنائي الحبة الممزوج مع عصير العنب، أو النبيذ الحلو، أو مزيج النبيذ والعسل (1، 13).
وعن تحضير الشعير، يذكر جالينوس (1، 9-10) أنه يمكن استخدامه في صنع الخبز - وأنه يجب أن يصبح النوع المفضل - على أن تكون «المازا» هي المنتج الأساسي. ما هو المقصود ب «المازا»؟ معناها حرفيا رغيف معجون، ولا يترك ليختمر لوقت طويل، هذا إذا ترك ليختمر أصلا؛ فهي طريقة لإدماج الشعير أو دقيق من نوع آخر مع السوائل وربما النكهات؛ ومن ثم، كانت هناك صورة سائلة منها، وأحيانا ما تمثلها العصيدة، فهي عبارة عن مزيج من حبوب في صورة سائلة مع العسل والحليب أو سوائل أخرى، خصوصا «سيرايون» أو عصير العنب المركز. أو كان من الممكن تجفيفها وتقسيمها إلى قطع أصغر وحفظها لعدة سنوات (فوكسهول وفوربز 1982: 66). أو يمكن تحويلها إلى «كعكة مسطحة» - كما في الكثير من أشكال «بلاكوس» - أو يمكن طهيها ككعكة حلوة.
وفي حالة اختيار شكل العصيدة، يمكن إضافة الخل والزيت في بداية الطهي والملح أيضا (قبل الأكل بقليل)، وكل ما يمكن إضافته غير ذلك هو الكراث وبعض الشبت. ينتقد جالينوس المكونات الأخرى التي يضيفها الطهاة، مثل عصير العنب المغلي أو عصير العنب غير مكتمل التخمر؛ وذلك لأسباب طبية (بخصوص «هيبسيما» و«سيرايون» راجع دالبي 1996: 89) والعسل والكمون. ومن الواضح أن هذا «الهريس» أو «العصيدة» كان هناك منه الحلو والمالح، وكان هو منتج الشعير الأساسي والخيار الأول في حالة عدم تحويل حبوب الشعير إلى خبز مسطح أو كعكات.
ومن الأطعمة الأخرى المصنوعة من الحبوب التي يذكرها جالينوس الشوفان (1، 14) الذي يؤكل في آسيا مسلوقا في الماء والنبيذ الحلو - «هيبسيما» - أو في مزيج من النبيذ والعسل. وتؤكل حبوب الدخن المسلوقة في المجتمعات الريفية في آسيا الصغرى (1، 15)، وتقدم ممزوجة بدهن الخنزير أو زيت الزيتون أو تسلق مع الحليب، وكانت تؤكل أيضا في مناطق من إيطاليا حيث كانت من المحاصيل التي تحقق نجاحا يفوق نجاح القمح أو الشعير. وكان يصنع من الجاودار («بريزا») خبز داكن في مقدونيا وتراقيا، وكان جالينوس (1، 13) يرى أن ذلك الخبز رائحته كريهة.
ويقوم السلم الهرمي للحبوب الذي ناقشته على عدد من الاعتبارات؛ الاعتبار الأول هو أن الأمر يتضمن مشهدا كبيرا؛ ومن ثم يمكن وضع القمح والشعير والجاودار وغيرها من الحبوب جنبا إلى جنب وبحثها. ومن المرجح أن تصدر وجهة نظر من هذا النوع من كاتب أو عالم في أحد المراكز الحضرية أو الفكرية الكبرى مثل روما، أو في روما وبيرغاموم في حالة جالينوس. وتختلف تماما وجهة النظر هذه عن وجهة نظر المزارع الذي يقيم في منطقة ما ويحاول زراعة الحبوب التي تناسب التربة الزراعية والمناخ في تلك المنطقة؛ فإذا كان من المرجح أن تنجح زراعة الدخن أو الجاودار في منطقة البحر الأسود، فستزرع تلك الحبوب. ويوجد أيضا موضوع زراعة أكثر من محصول واحد بهدف التصدي للمخاطر المحتملة على نحو أكثر فعالية. فضلا عن ذلك، لا بد أن تتحدث مناقشة أصناف الخبز عن أنواع الدقيق المصنوعة من حبوب غير القمح؛ والدليل المتعلق بثمار الكستناء الوارد في كتاب كامبوريزي يثبت هذا. يذكر أثينايوس «إتنيتاس» - وهو دقيق مصنوع من البقوليات - في الجزء الثالث من كتابه.
أما الاعتبار الثاني، فهو أن الكتاب يفترضون أن القمح هو أفضل أنواع الحبوب، وكثيرا ما تكون هذه هي وجهة النظر العامة أيضا. ومن اللافت أن الأطباء التابعين لمدرسة أبقراط، بدءا من بحث «الحمية 2» حتى جالينوس، يصرحون بوضوح أن القمح أفضل من الشعير، من حيث القوة والمواد المغذية. ومع ذلك، كانت للشعير خواص أخرى، وكان ضروريا في أدوات الأطباء لإنتاج ماء الشعير. وكان ماء الشعير طعاما رقيقا لمن كانوا يعجزون عن تناول الأطعمة الصلبة، ومن كانوا يعجزون عن تحمل الأخلاط الثقيلة التي كان القمح يكونها في الجسم.
ويوجد الكثير من الكتابات القديمة التي تتناول الكعكات، وللاطلاع على عرض سهل الفهم عن أهم الكعكات، راجع دالبي (2003: 68-71). ويظهر الكثير منها في قائمة ترد في الجزء الرابع عشر من كتاب أثينايوس. وكان الكثير منها يصنع من أمزجة الحليب (دالبي 2003: 91) أو العسل أو السمسم مع دقيق الحبوب. يطلعنا جالينوس (1، 3) على طريقة طهي الكعكة المقلية (أو الكعكة المطهية في «تيجانون»)؛ يوضع زيت الزيتون في المقلاة، ويترك حتى يسخن، ثم يصب مزيج القمح والماء في المقلاة. يتماسك الخليط ويغلظ قوامه، ويصبح أشبه - على حد قول جالينوس - بالجبن الطري حين يوضع في سلة حتى يصير قالبا صلبا (ومن ثم، يصبح سميكا بعض الشيء). ثم تقلب الكعكة على الوجه الآخر عدة مرات لضمان نضج الكعكة بالتساوي.
وكانت «الكعكات» التي تقدم في الطقوس الدينية تتسم بقدر كبير من التنوع. يذكر بيركرت (بيركرت 1985: 68) أنه «بالإضافة إلى جريش الشعير غير المطحون الذي كان يؤخذ ويلقى به في بداية (تقديم القرابين)، يوجد أيضا الشعير المطحون - «بسايستا» - الذي يتوافر بأشكال شتى، كدقيق ومرق وكعكات مقلية وكعكات غير ذلك؛ ومن ثم نجد تنوعا شديدا من مكان لآخر.» «بيلانوس» و«بوبانون» هما أهم مصطلحين يستخدمان للإشارة إلى «القرابين المراقة» و«الكعكات» في المصادر الإغريقية. وربما كان هناك أيضا قدر كبير من التنوع بين مجتمع وآخر من حيث المقصود بمصطلحات على غرار «بلاكوس» (الكعكة المسطحة، «بلاسينتا» باللغة اللاتينية)، و«ليبوم» (باللغة اللاتينية). تنتاب الحيرة محرري كتاب كاتو «عن الزراعة» لوجود وصفات كعكات في كتاب ألفه هذا المؤلف الذي اشتهر بالتقشف. حاول البعض أن يثبت أنه ربما تكون هذه الكعكات كعكات دينية؛ ومن ثم تصبح ذات طابع تقشفي مقبول، وأشار البعض الآخر إلى قيمتها التجارية، بصفتها مصدر دخل بديلا للمزرعة التي تقع بجوار الحانة، وذلك في اقتراح للمزارعين كما ورد في كتاب «عن الزراعة» من تأليف فارو. ويوجد تفسير ثالث، وهو أن الكعكات كانت تؤكل في مجموعة كبيرة من مناسبات تناول الطعام في العصور القديمة، حتى إن المسمى نفسه كان ينطبق على صنف من الحلوى الريفية تماما كما ينطبق على صنف من الحلوى الفاخرة التي يتناولها الأغنياء، وينطبق الاسم نفسه على أصناف الحلوى الفارسية «المترفة» كما ينطبق على قربان ديني؛ وعلينا أن نتقبل مبادئ التنوع وإذابة الحدود بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وأن نحكم على المناقشات والأوصاف وفقا للمواقف التي ترد فيها، وذلك انطلاقا من هذا التنوع.
تتفاوت أنواع الخبز والبسكويت والكعكات من حيث المنشأ والشكل والمكونات والقوام، ويناقش أثينايوس في الجزء الثالث من كتابه أنواع الخبز، ويناقش في الجزء الرابع عشر أنواع الكعكات. كما نجد أن أثينايوس يذكر في الجزء الرابع عشر من كتابه كتابا من تأليف خريسيبوس من تيانا بعنوان «عن صناعة الخبز» بصفته مصدرا موثوقا فيه، ولكنه يصف خريسيبوس فيما بعد أنه «خبير في الكعكات». ومن المرجح أن خريسيبوس قد كتب عن كل من الخبز والكعكات. وتشير الأسماء الكثيرة التي يستمدها أثينايوس من كتاب خريسيبوس إلى مصادر باللغتين الإغريقية واللاتينية، يذكر فيها الكثير من المكونات المختلفة، وأنواع أكثر مما هو موجود في أي كتاب آخر معروف لنا. كانت الأسماء القديمة التي تطلق على الكعكات - وعلى أنواع الخبز كذلك - كثيرا ما تعكس طرق طهي ومكونات مختلفة. يذكر جالينوس نوعين من كعكات العسل، وهما الكعكات المصبوبة والكعكات التي على هيئة رقاقات (1، 4)، ومن المرجح أن أنواعا أكثر من هذين النوعين كانت موجودة بالفعل. كما كانت هناك الكعكة المسطحة، أو «بلاكوس»، وكعكة بلاكوس مذكورة في الكثير من النصوص، وكانت للاستخدامات الدينية والدنيوية. يذكر جالينوس (1، 3) أن كعكة «بلاكوس» لها عدة أنواع مختلفة تنتشر في المناطق الريفية وبين الفقراء في الحضر، وكانت تصنع من مكونات بديلة. ويذكر دالبي (2003: 70) أن قائمة المكونات الأساسية تشمل الجبن والعسل والدقيق، ويضيف أيضا أن كعكة بلاكوس كانت تقدم في أرقى المجالس؛ إذ ظهرت في الموائد الثانية في مأدبة أركستراتوس (الشذرة 60 أولسون وسينس)، وتظهر في وصف هزلي طريف في المسرحية الكوميدية «أفروديسيوس» (الشذرة 55) من تأليف أريستوفان، وألفها أيضا في القرن الرابع قبل الميلاد.
يذكر أثينايوس، من بين أنواع الخبز المستخدمة في المناسبات الدينية، خبز «ثارغيلوس»، وهو نوع كان يستعمل في احتفال ثارغيليا في مدينة أثينا؛ وخبز «أناستاتوس»، وهو نوع كان يستعمل في احتفال أريفوريا في مدينة أثينا؛ وخبز «هيلث»، وهو صنف من «المازا» كان يوزع في مناسبات تقديم القرابين ليتذوقه الناس. ويرد وصف للكثير من هذه الأنواع، حسبما يخبرنا أثينايوس، في الجزء الثالث من كتاب من تأليف أريستومينيس الأثيني بعنوان «عناصر متعلقة بالطقوس الدينية».
كانت الكعكات تستخدم للكثير من الأغراض الدينية، وكان لبعضها فيما يبدو استعمالات في المناسبات الدينية وغير الدينية؛ فمثلا، يدرج أثينايوس في فئة الكعكات كعكة «أمفيفون»، وهي كعكة مسطحة توقد حولها مشاعل صغيرة على هيئة دائرة، وتستعمل في القرابين التي تقدم إلى آرتيميس وهيكاتي؛ وتوجد كعكة «باسينياس» التي يقدمها أهالي جزيرة ديلوس كقربان إلى الإلهة إيريس، وهي مصنوعة من عجين القمح المسلوق مع العسل والتين المجفف والجوز؛ وتوجد كعكة «كريون» (وهي عبارة عن كعكة مسطحة أو رغيف، على حد قول أثينايوس) تنقل في أرغوس من العروس إلى العريس، وتقدم مع العسل؛ وتوجد كعكة «إلافوس» أو كعكة الغزال، وتصنع على هيئة غزال وتستعمل في احتفال «إلافيبوليا»، وتصنع من العجين والعسل والسمسم؛ وتوجد كعكات «مولوي» في سيراقوسة، وهي تصنع من أجل من يطلق عليهم «بانتيليوي»، الذين يحضرون احتفال ثيسموفوريا، وهي تصنع من السمسم والعسل على هيئة الأعضاء التناسلية للمرأة، ويحملونها ويسيرون بها من أجل الإلهتين ديميتر وبيرسيفوني. (قارن الأمر مع الكعكات التي على هيئة الأعضاء الذكرية في احتفال ثيسموفوريا الأثيني.) وتوجد كعكات «كريباناي»، وهي نوع من كعكة «بلاكوس» أو الكعكة المسطحة، التي يقول عنها أثينايوس إنها كانت تشكل على هيئة نهود، مستشهدا في ذلك بسوسيبيوس، وهو مصدر أكاديمي عن إسبرطة القديمة. ويقول سوسيبيوس: «يستخدمها الإسبرطيون في الاحتفالات النسائية، ويدور بها الحاضرون في الجوقة حين يوشكون على غناء نشيد لمديح العروس.» وشكل النهد يستدعي في الأذهان الكعكات الصقلية التي تصنعها الراهبات في العصر الحديث. كما أن النهد يوحي أيضا بالوفرة، ويستعمل في مناسبات مشابهة في أماكن أخرى للإيحاء بالإنتاج الوفير للحبوب؛ فمثلا: يشير أركستراتوس في الشذرة 5 إلى «نهد إريسوس المطوق» - وهو تل على هيئة نهد في جزيرة ليسبوس - ثم يتحدث بعد ذلك عن سلسلة من أنواع الأرغفة (راجع ما سبق). وتشير قصيدة غير مكتملة من تأليف سولون (38 ويست 1974) أيضا إلى مجموعة متنوعة من أنواع الخبز والكعكات كتعبير عن الوفرة:
يشربون ويقضم البعض كعكات العسل بالسمسم («إيتريا»)، ويقضم آخرون أرغفة الخبز، ويأكل البعض الآخر كعكات غوروس الممزوجة بالعدس؛ ففي ذلك المكان، كانت تتوافر كعكات مصنوعة من كل ما تخرجه الأرض السمراء للبشر، وكلها كانت متوافرة بسخاء.
و«غوروس» عبارة عن كعكة لم يستطع أثينايوس تسميتها، فما كان منه إلا أن أطلق عليها أنها أحد أنواع كعكة بلاكوس. وقد نتساءل كيف كانت هذه «الكعكات المسطحة» مسطحة على الرغم من أنها كانت أيضا «على شكل نهد». ويعجز أثينايوس أيضا عن تسمية المكان الذي وجد فيه سولون هذه الوفرة من أنواع الكعكات وأصناف الخبز؛ ربما كان ذلك المكان جنة بعيدة، وربما كان بلاد فارس (بناء على تعليق هيرودوت الذي استشهدنا به فيما سبق)، وربما كان ذلك مديحا مبالغا فيه بعض الشيء لإحدى المدن الإغريقية ذات الحكم الذاتي. ويظهر شيء يشبه كعكة «غوروس» هذه في وصف شعري منمق كتبه فيلوزينوس الكيثيري في عام 400 قبل الميلاد تقريبا (راجع دالبي 1996، ويلكنز2000) يكتب الشاعر بالأسلوب الحماسي، وهو أسلوب منمق ومخصص أساسا للترانيم الدينية الموجهة لديونيسوس. ويستعمل فيلوزينوس ذلك الأسلوب لوصف مأدبة عشاء فاخرة. ويؤتى للجالسين على مائدة العشاء بالكعكات، وتوصف بأنها «ممزوجة بالزعفران ومحمصة ومصنوعة من مقادير قليلة من القمح والشوفان والحمص الأبيض والسمسم والشوك، وحوافها مزينة بالعسل» (ترجمة ويلكنز). وكانت هناك كعكة أخرى مصنوعة من «عجين وعدس وقرن بازلاء وزيت، وتسلق حتى يتحول لونها إلى الأصفر، وتحمص من كل جوانبها» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك). وربما نجد في هذا الوصف أن الشعر يغلب على طريقة الطهي، ولكننا ربما نكون مستعدين لتصديق أن الشعراء الذين اهتموا كل هذا الاهتمام بالكعكات كانوا يرونها جزءا مهما من أي وجبة، شأنها شأن أطباق اللحم والأسماك. لا يبدو أن الكعكات كانت عنصرا إضافيا لدى الإغريق والرومان فحسب، حتى لو كانت تبدو كذلك - نسبيا - بالنسبة إلى الفرس.
إن جوهر الموضوع في دراستنا هو أن الحبوب والبقوليات كانت أساس النظام الغذائي لكل أفراد المجتمع، باستثناءات قليلة للغاية. وكان الدقيق المصنوع من هذه المحاصيل يخلط بالماء والنكهات والحليب وغيرها من السوائل، وكثيرا ما كانت النكهات والمواد الإضافية مثل العسل والخميرة من المكونات المهمة. وكانت لأنواع الخبز أسماء كثيرة، كما كانت للأسماك والنباتات أسماء كثيرة في شتى المدن المنتشرة في أنحاء البلدان ذات الحضارة الإغريقية الرومانية. ويكاد يكون من المؤكد أن الأسماء كانت تفوق عدد أنواع الخبز والكعكات؛ نظرا للطابع المحلي والاستعمالات الثقافية مثل الأعياد الدينية؛ فكان من الممكن إطلاق اسم مميز على كعكة مسطحة أو كعكة عسل قياسية لربطها باحتفال معين. ومع ذلك، كانت الفكرة الرئيسة تتسم بقدر كبير من التنوع. وربما يمنحنا الشعراء فكرة بسيطة عن ذلك؛ وهو ما يفعله خريسيبوس من تيانا أيضا. والجوانب العملية أيضا من أهم العوامل.
فمن الصعب تمييز الفارق بين الكعكات المخصصة للمناسبات الدينية وتلك المخصصة للمناسبات الدنيوية، وربما كانت الاستعمالات الدينية والدنيوية تتداخل، فيما عدا الحالات التي تطلعنا بوضوح على الفارق كما في الأمثلة التي جاءت آنفا. وفي الوقت نفسه، يروي هيرودوت (1، 133) أن الفرس كانوا يرون الوجبة الإغريقية غير مغذية لأنها لم يؤكل فيها إلا حفنة من الكعكات؛ مما يوحي بأن الكعكات كانت أهم عنصر في الوجبة الفارسية. ونجد مناقشة لهذه الفوارق لدى دالبي (2003: 70) وويلكنز (2000: 304-311). وربما كان بعض الكعكات - مثل كعكة «أمفيفون» وكعكة «مولوي» - يقتصر استعماله على طقوس دينية معينة، وثمة كعكات أخرى كثيرا ما ترد أسماؤها في الطقوس الدينية (كعكة «بيلانوس» و«بوبانون» بالتحديد). وثمة كعكات أخرى كذلك تستعمل في مختلف المناسبات، مثل كعكات «بلاكوس» و«ليبوم». ولا بد من أخذ ثلاث نقاط في الحسبان: (1) إذا رغب أحد في تقديم قربان لإله ما، لم يكن ثمة ما يمنع من تقديم كعكة مصنوعة في المنزل بغرض الاستهلاك البشري؛ ونجد أن الكثير من أسماء الكعكات هي أسماء عامة، مثل كعكة السمسم أو الكعكة المسطحة. (2) إذا لم نستطع التمييز بين كعكة سمسم مخصصة لحفل زفاف وكعكة سمسم عادية للأغراض الدنيوية، فليس معنى ذلك أن الفارق لم يكن واضحا لبعض الأشخاص في مدينة معينة خلال فترة زمنية محددة؛ فلا بد أن نتذكر أننا بصدد مناقشة مدى زمني هائل، بالمقارنة بمعظم الكتب التي تتناول تاريخ الطعام. (3) لا تجدي محاولات التمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي في العصور القديمة. تأمل مثال كعكة خاريسيوس، ويقول أثينايوس إنها كانت تؤكل في احتفال ساهر أو «بانيخيس» (حسبما يناقشه ويلكنز 2000: 309-310). وربما كان «بانيخيس» جزءا من احتفال رسمي (راجع الفصل الثالث)، أو فيما يبدو، المعادل لجلسة الشراب (راجع الفصل الثالث). وكان الجانب «الديني» من المناسبة غامضا مثل كعكة «خاريسيوس» نفسها، ومثل مدى انتشار استعمال هذه الكعكة في البلدان الإغريقية.
ومع أن الحبوب كانت هي الغذاء الأساسي، وكانت موضع تقدير واحترام في الكتابات التي تمتدح سخاء الطبيعة لمؤلفين مثل بلينوس («التاريخ الطبيعي»)، فإنها كانت تخضع لعملية تكرير متخصصة؛ فالقادرون ماديا على شراء أنواع الدقيق الأفضل لم يكن بوسعهم فقط اختيار نوع الحبوب الأفضل، بل بوسعهم أيضا اختيار نوع الدقيق الأفضل تكريرا وتصنيفا. ينبه المؤلفون لمخاطر طغيان الطابع التجاري (نناقشه بالتفصيل في الفصل السابع)، ويسجلون أيضا ظهور المخابز التجارية في مدينتي أثينا وروما. يشير أفلاطون في «محاورة جورجياس» إلى ثياريون الخباز وسارامبوي بائع الخمور وميثاكوس الطاهي، بصفتهم ظواهر جديدة في مدينة أثينا يبيعون سلعا يمكن صنعها في المنزل. كان أفلاطون - شأنه شأن الكثيرين في العصر الحديث - يرى أن الإنتاج المنزلي أفضل بكثير من الإنتاج التجاري. يسجل بلينوس (في كتابه «التاريخ الطبيعي» 18، 28) ظاهرة مشابهة في روما، وهي ظهور المخابز التجارية إبان الحروب المقدونية في عام 170 قبل الميلاد تقريبا. جاء ميثاكوس من صقلية وجاء الخبازون الرومان الجدد من مقدونيا، وكان الإنتاج التجاري في المدينتين - حسبما ذكرته هذه المصادر على الأقل - يحفزه النفوذ الأجنبي، سواء أكان ثقافة القصر الملكي في صقلية في القرن الخامس أم أسلوب الحياة الثري الذي أخذته روما عن مقدونيا. أصبح مجال المخابز التجارية في روما وإيطاليا نشاطا واسعا، يتضمن نقابات مهنية ومطاحن، وحظيت تلك المنشآت بوجود واضح في مدينة بومبي. وهكذا، نشأ مجال المخابز التجارية كخطوة تقدم تكنولوجية أفادت المستهلكين كما أفادت الذين تحرروا من كدح الطحن باستعمال المطاحن اليدوية. وللاطلاع على الجدل الدائر حول البساطة والتطور (أو الترف) في كتاب أفلاطون وكتب أخرى غيره، راجع الفصل السابع.
وما دمنا بصدد مناقشة بشأن الحبوب، فلا بد من مناقشة موجزة عن عادة احتساء الجعة. يشير بوسيدونيوس في كتاب أثينايوس إلى عادة احتساء الجعة بوصفها نشاطا «همجيا»، يوجد غالبا في بلدان مثل مصر وفرنسا. كان أفراد الطبقات الراقية من دوائر الحكم يحتسون النبيذ، سواء أكان مستوردا أم محليا. أما من لم يكن بوسعهم التشبه بالقوة العالمية التي تمثلها روما - أو لم يرغبوا في ذلك - فكانوا يحتسون الجعة المصنوعة من الشعير. وكما هي الحال بخصوص الحليب (الذي نناقشه في الفصل الخامس)، يوجد احتمال (ضعيف) أن أهالي المناطق الجبلية في اليونان وإيطاليا كانوا يشربون جعة محلية أو مشروبات مكافئة لها، ولم يكونوا ينقلون النبيذ من مناطق صناعة النبيذ.
وتأتي فقرات كاشفة فيما كتبه كل من استرابو وبوسيدونيوس؛ فهذه الدراسات الجغرافية - التي تتسم بتحيز عرقي واضح - تؤكد وجود عادة احتساء الجعة في جنوب فرنسا؛ فالجعة هي مشروب البسطاء، أما النبيذ المستورد فيتناوله الموسرون؛ إذ إنهم أكثر تأثرا بسلطان الثقافة الإغريقية الرومانية في بلدان البحر المتوسط ككل. وقد يعبر هذا الادعاء عن وجود عادة حقيقية، وبالمثل قد تكون عبارة عن تفسير أيديولوجي في ذهن المؤلف، لتكون في منزلة وسطى بين «بساطة» البريطانيين و«نقاء» الألمان؛ فهذان شعبان عند أطراف الإمبراطورية يعتقد أنهما أقل تأثرا بالفساد الموجود في الوسط، ولكنهما أيضا أبعد عن الحياة المتحضرة التي تشع من وسط الإمبراطورية. ولكن حين يوجه استرابو اهتمامه إلى جبال الألب الليغورية (4، 6، 2)، يصف سكان المناطق الجبلية الذين يعيشون على لحم الغنم والحليب و«مشروب مصنوع من الشعير»، ويعتمدون على الارتحال الموسمي للرعي بين الجبال والمراعي المجاورة للبحر، وحين يصلون إلى السوق في جنوة يقايضون الأغنام وأصوافها والعسل مقابل زيت الزيتون والنبيذ الإيطالي؛ لأن النبيذ الذي يصنعونه يتم إنتاجه بكميات قليلة ومن النوع المعالج بالراتينج. ونظرا لأن معظم أنواع النبيذ في العصور القديمة ربما كان يستخدم القار لإضافة نكهة لها، فمن المفترض أن استرابو يقصد أن النبيذ الليغوري كان منكها بهذه الطريقة إلى درجة ملحوظة؛ ففي العالم الذي عاش فيه استرابو، ربما كان الليغوريون يقطنون في بلاد الغال كما كانوا يقطنون في منطقة بروفانس أو ليون. ولكن لا بد أن نشير إلى أننا وجدنا هنا دليلا على احتساء مشروبات مصنوعة من الشعير في شبه الجزيرة الإيطالية في القرن الأول قبل الميلاد. يرى استرابو - بصفته كاتبا في روما - أن أهم عامل من عوامل الاختلاف الثقافي هو الاختلاف بين المدينة الواقعة في السهل وبين المناطق الجبلية، وليس الأهم هو فكرة فجة عن الهمجية باعتبارها تنتمي إلى ثقافة مختلفة؛ إذ يذكر استرابو في نهاية الفصل الذي كتبه عن الليغوريين أن البعض يشهدون على كونهم أحد الشعوب الإغريقية نظرا لاستخدامهم الدروع البرونزية. ولجارنسي (1999) رأي مختلف عن هذه الفقرة.
فالدليل الأثري الوحيد المتعلق بالجعة الذي أعرفه من البلدان الإغريقية يأتي من الحضارة المينوية في كريت (راجع الفصل الأول)، وهذا الدليل من شأنه أن يدعم الفرضية، فيما يبدو. كان الإغريق في العصر الكلاسيكي القديم يربطون الجعة بالشعوب الأخرى، ويغايرون ذلك باستهلاكهم للنبيذ. ويقدم أثينايوس الدليل الذي نتحدث عنه. وأشار الكاتبان المتخصصان في شئون التراث العرقي هيلانيكوس وهيكاتيوس إلى الجعة المصنوعة من الجاودار (في بريزا) ومن الشعير (في تراقيا)؛ ففي مصر يصنعون جعة الشعير لارتباط ذلك بأكل الخبز، ويصنع البايونيون (في مقدونيا) جعة الشعير وجعة الدخن. وكانت الجعة أيضا من الموضوعات التي استخدمها شعراء المسرح المأساوي. وصف إسخيلوس كيف عاقب إله النبيذ ديونيسوس ملك تراقيا ليكورغوس الذي ناهض الإله بحماقة و«شرب الجعة معتقة وأخذ يتفاخر، وادعى أن هذا كان من قبيل الشجاعة». أما سوفوكليس في مسرحيته «تريبتوليموس» فقد بين كيف أن البطل الشعبي أحضر التكنولوجيا الزراعية معه عبر آسيا الصغرى إلى اليونان ، ونجد أنه بالإضافة إلى الحبوب الأخرى المذكورة - مثل الأرز - يأتي أيضا ذكر «للجعة الوافدة من البر الرئيسي التي لسنا معتادين على شربها». ومن المحتمل أن يكون البر الرئيسي للبلاد هو آسيا الصغرى، ويبدو أن هذا الفارق الواضح بين الإغريق المعتادين على شرب النبيذ وجيرانهم الهمجيين المعتادين على شرب الجعة هو السمة الغالبة، ولكنه يبدأ في الانحسار في العصر الروماني؛ ففي ذلك الحين، كانت آسيا الصغرى بالكامل خاضعة لسيطرة الإمبراطورية. وأصبحت بقايا عادة شرب الجعة التي استمرت هناك جزءا من مزيج ثقافي مركب، مع أن الفكر الإغريقي التقليدي ربما كاد أن تكون له الغلبة. وأثبت ميتشيل (الذي سيأتي ذكره لاحقا) أن إنتاج زيت الزيتون في مدن آسيا الصغرى كان يعكس حضورا أقوى للثقافة الإغريقية الرومانية في أي مدينة. ويبدو أن عادة شرب الجعة قد استمرت في مصر؛ إذ ربما ساعدت خبرة المصريين في القمح والخمائر وفي إنتاج الخبز على ترسيخ تلك العادة واستمرارها. وفي الشرق الأدنى أيضا توجد أدلة على اتباع عادة شرب الجعة على مدى حقبة زمنية طويلة في بابل وفي الإمبراطورية الفارسية. بحث كورتيس (2001: 294 و370-371) في عادة شرب الجعة في اليونان، وفي الإمبراطورية الرومانية حيث كانت تحظى بانتشار أوسع، ويذكر أدلة من إسبانيا وبلاد الغال وألمانيا وفيندولاندا في بريطانيا. وتبرهن الأدلة - الأدبية والأثرية، فيما عدا أدلة الحضارة المينوية في كريت - بقوة على صناعة الجعة في البلدان الواقعة حول البر الرئيسي لليونان ولإيطاليا. وربما كانت أقرب خطوة اتخذها معظم الإغريق والإيطاليون نحو شرب الجعة هي إضافة دقيق الشعير ونثره على المشروبات التي يدخل فيها النبيذ. ويذكر مشروب «سايسيون» هذا بوصفه مادة منعشة في كتابات هوميروس وفي عدد من السياقات الدينية، من بينها الأسرار الشعائرية في إلفسينا.
كانت الحبوب هي الغذاء الأساسي، وعند الجمع بينها وبين البقوليات، فإنها كانت توفر معظم الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية والمواد المغذية. وتحظى البقوليات والمحاصيل الأدنى - شأنها شأن الحبوب - بمناقشة مستفيضة في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة»؛ وهي من المحاصيل المستخدمة بكثرة، ولكنها ذات مكانة متدنية ، ولها خواص طبية ولكن لها مساوئ أيضا، مثل التسبب في حدوث انتفاخ وغازات في البطن. والدقيق مصنوع من الحمص والفول الأخضر، ويستخدم دقيق الفول المشرفون على العبيد، ويأكل المصارعون الفول الأخضر لبناء أجسامهم. يقدم جارنسي (1998) مناقشة ممتازة لاستخدام الفول الأخضر مع عرض للمعتقدات المرتبطة به؛ فاستخداماته متنوعة ولكن الحماس لاستخدامه قد تضاءل. يروي جالينوس بدهشة واضحة أسلوب الحياة النباتي الذي يتبعه طالب طب في الإسكندرية (1، 25)، قائلا:
لمدة أربع سنوات، يوميا، كان يستخدم هذه المواد فقط كتوابل («أوبسا»)، وأقصد الحلبة والفول والبازلاء والترمس. وكان أحيانا يستخدم أيضا الزيوت القادمة من ممفيس والخضراوات وبعض الفواكه التي تؤكل دون طهي؛ إذ كان يتعمد عدم إشعال أي نار للطهي؛ ولذلك، ظل هذا الرجل طوال تلك السنوات متمتعا بصحة جيدة، وحافظ على حالته البدنية دون أن تقل مثقال ذرة عما كانت عليه في البداية. وكان يتناول هذه الأطعمة مع صلصة السمك؛ بمعنى أنه كان أحيانا يضيف الزيت وحده إليه، وكان أحيانا يضيف أيضا النبيذ، ومن حين لآخر كان يضيف الخل أيضا، ولكن في أحيان أخرى - كما هي الحال بخصوص الترمس - كان يأكله بالملح فقط. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
وكانت هذه الحمية النباتية الاختيارية قريبة الشبه بالنظام الغذائي للكثير من الفقراء، إن لم يكن للسواد الأعظم من الفقراء ممن لم يكن بوسعهم شراء اللحم، إلا في المناسبات الخاصة. ومن غير المدهش لأي اختصاصي تغذية في العصر الحديث أن الرجل ظل متمتعا بصحة جيدة لمدة أربع سنوات عاشها معتمدا على غذاء مكون من الحبوب والبقوليات والمنكهات، فتلك المواد مجتمعة كانت على الأرجح توفر الأحماض الأمينية الضرورية مثل الليسين لتكملة القيمة الغذائية للحبوب. ومع أن هذا النظام الغذائي مفيد، فمن المفترض أن تحل اللحوم محله في حالة توافر القدرة على شرائه، وذلك كما حدث في بريطانيا وبلدان أخرى منذ قرون حديثة. وعادة ما كانت تغفل المصادر القديمة ذكر الخضراوات، باستثناء الحالات التي كانت تعمد فيها إلى إثبات قصد معين أو تقديم دراسة شاملة، كالحال مع جالينوس وأثينايوس؛ ومن ثم، فإن كلمات أركستراتوس الساخرة ليست فريدة من نوعها (الشذرة 60 أولسون وسينس): «كل تلك الأطعمة اللذيذة الأخرى هي من علامات الفقر المدقع، مثل الحمص المسلوق والفول الأخضر والتفاح والتين المجفف». ويفرد أثينايوس قسما طويلا للحديث عن العدس، ومعظمه مخصص لادعاءات الفلاسفة المخادعين.
كانت ثمة مجموعة كبيرة من الفواكه والخضراوات التي يتناولها الناس قديما، وتأتي مناقشة لهذه الفواكه والخضراوات في الجزء الثاني من كتاب أثينايوس، وفي الجزء الثاني من كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة»، ويناقشها دالبي (1996) بالتفصيل. توفر الفواكه - وبالتحديد المكسرات - البروتينات والمعادن الضرورية للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، وكانت مهمة في المحافظة على صحة عامة الناس ممن لم يكن بوسعهم تناول اللحوم والأسماك بصفة منتظمة. إلا أن الفواكه والخضراوات لم تكن تحظى بالمكانة التي تحظى بها اللحوم والأسماك، فيما عدا الكروم والعنب، وسنناقشها في الفصل السادس.
شكل 4-3: كان الكرنب البحري - المعروف علميا بالاسم «براسيكا مارينا» - نوعا بريا من الكرنب، وذلك بحسب الفكر القديم. وكان ثمة اعتقاد سائد مفاده أن عائلة الكرنب لها خواص طبية مع أن جالينوس لا يدرج القيمة الغذائية أو العصارات المفيدة ضمن هذه الخواص الطبية. وترد معلومات غذائية ممتازة عن الكرنب في ويلز (1998: 308-309). (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
كان ينظر إلى الأشجار والشجيرات بصفتها مصدر الطعام للإنسان قبل وصول الحبوب والاشتغال بالزراعة بسبب الشقاق مع الآلهة الذي تحكيه أسطورة بروميثيوس. يقدم أوفيد («مسخ الكائنات»، 1) ولوكريشوس («عن طبيعة الأشياء»، 5) أوصافا شعرية لحياة هؤلاء الذين اعتمدوا في كسب قوتهم على الصيد وجمع الثمار (راجع الفصل الأول). ورأينا فيما سبق آراء جالينوس عن المرضعات اللاتي كن يضطررن لتناول الأعشاب البرية في الربيع، والريفيين الذين كانوا يضطرون لتناول ثمار البلوط وغيرها من النباتات البرية. ومن وجهة نظر علم التغذية الحديثة، ربما يعتقد بأن مثل هذه النباتات توفر المعادن والبروتينات الضرورية؛ ولكن كان من غير المرجح أن توفر السعرات الحرارية، وهو الجانب الذي كثيرا ما يهتم به علم التغذية من وجهة نظر جالينوس (وإن لم يكن منصبا تماما عليه). ومن المدهش أن جالينوس لا يقدر زيت الزيتون أو اللوز (2، 27-29)، وهما طعامان أصبحت لهما الآن مكانتهما بسبب احتوائهما على دهون غير مشبعة، ولغير ذلك من الفوائد الصحية التي يوفرها كل منهما فيما يبدو (سالاريس 1991، وويلز 1998). وكانت النباتات المزروعة توفر مجموعة متنوعة من النكهات، ومن الأمثلة البارزة لذلك السلاطات والخضراوات الورقية والبصل والثوم. وكانت توفر أيضا مؤن الشتاء عند تجفيفها أو حفظها، وكانت الفواكه المجففة مثل التين والعنب والزبيب والخوخ توفر مصدرا للتحلية في حالة عدم وجود السكر. ويذكر جالينوس (2، 23) كعكات السفرجل المسلوق مع العسل التي كانت تشحن من سوريا إلى روما.
وكانت الثمرة التي تحظى بالأهمية الكبرى هي الزيتون، نظرا لمظهره المميز وسط المناظر الطبيعية، وعلاقته بآلهة معينة - الإلهة أثينا بالتحديد - وتعدد استخداماته في الطهي وفي صناعة صابون الاستحمام. نجد في ملحمة «الأوديسا» أن الزيتون هو نبات الحضارة، الذي يتفيأ أوديسيوس ظلاله في رحلة عودته إلى إيثاكا. ويستخدم وتد من الزيتون البري لإصابة الوحش سايكلوب آكل البشر بالعمى. وكان زيت الزيتون هو الجائزة التي تقدم للفائزين في الألعاب المصاحبة لاحتفال بان أثينايا. ومع أن مظهر الزيتون كان مميزا في المناظر الطبيعية لبلدان البحر المتوسط، لم يكن دائما من النباتات التي تسهل زراعتها، ولم تكن أشجار الزيتون موجودة دائما في الأماكن نفسها على مر القرون (راجع للاستزادة سالاريس 1991، ودالبي 1996).
شكل 4-4: كان نبات الخبيزة من الأطعمة التي يربط هسيود وأريستوفان بينها وبين طعام الفقراء كما كانت الحال في الكثير من الثقافات. وتوجد منه أنواع كثيرة «تخلو كلها تماما من الخواص غير الصحية» (جريف 1931: 506-509). وأشاد به الكثيرون (مثل بلينوس وديسقوريدوس وجالينوس) نظرا لخواصه اللطيفة والملينة. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
ويلاحظ في كتابات بعض المؤلفين - كما رأينا - أن الفواكه والخضراوات لا تحظى باهتمام كبير منهم، وكانت هذه النباتات المتنوعة المستخدمة كأطعمة - في رأي الأطباء - توفر فوائد متنوعة والعكس، لكنها عادة كانت أقل أهمية من الحبوب والبقوليات ؛ لأنها كانت توفر قيمة غذائية أقل (وهي الكلمة التي كانوا يقصدون بها الطاقة، وهي المعادل لما نطلق عليه السعرات الحرارية). امتدح بعض المؤلفين نباتي الخبيزة والبروق، وقال هسيود قوله الشهير: إن الخبيزة والبروق يحتويان على فائدة كبيرة. ولكن لعل أريستوفان يصف الأمر بدقة أكبر؛ ففي مسرحية أريستوفان «بلوتوس، إله الثروة» يتشاجر البطل كريميلوس مع مخلوقة مخيفة تجسد الفقر (بينيا)، تدعي أنها تفيد المواطنين. يصف كريميلوس نصيبهم (543-544): «بدلا من الخبز يأكلون عيدان الخبيزة، وبدلا من المازا يأكلون أوراق الفجل الذابلة.» وتصنف بينيا هذا الموقف لا بصفته الحياة الفاضلة التي تشجعها، بل حياة الشحاذين؛ لذا فالحبوب هي الغذاء الأساسي، أما الفواكه والخضراوات والأعشاب فهي مواد إضافية أو «أوبسا» كما يطلقون عليها.
ونجد إشادة كبيرة بالفواكه والخضراوات في كتابات المؤلفين الرومان، مثل قصيدة «جورجيك» من تأليف فيرجيل، وفي كتابات المؤلفين المتخصصين في مجال الزراعة. كانت تتوافر منتجات زراعية ممتازة من كل الأنواع واستحدثت أيضا أنواع جديدة. ورأينا فيما سبق إدخال الكرز إلى إيطاليا - مثل إدخال الأترج إلى اليونان - ربما في عصر ثيوفراستوس. ولم تكن الخضراوات وضيعة المكانة بحيث يصعب ربطها ذهنيا بالترف. وكما سنرى في الفصل التالي بخصوص يأس بلينوس من الترف الذي أدخله المحار إلى روما، يتحدث على المنوال نفسه عن الخرشوف الشوكي (19، 43):
ربما يعتقد أن كل الخضراوات المهمة باتت مذكورة الآن، ولكن بقيت سلعة مربحة للغاية، لا بد من ذكرها بشعور من الخزي. ومن المعروف أن محاصيل الأشواك (الحرشف) في قرطاج وبالتحديد في قرطبة تدر أرباحا تقدر ب 6000 سيسترس من الحقول الصغيرة، ما دمنا نحول حتى النباتات البشعة التي تنتجها الأرض لأغراض الشره، ونزرع فعلا خضراوات تشمئز من لمسها - بلا استثناء - كل الحيوانات ذوات الأربع. ونزرع الأشواك البرية بطريقتين ... وتحفظ أيضا في العسل المخفف بالخل، مع إضافة جذور السيلفيوم والكمون، وذلك حتى لا يمر يوم دون أشواك برية على العشاء. (ترجمه إلى الإنجليزية: راكام)
وهو لا يعترض على الخس الإسبرطي أو الكابادوكي، وهما سلعتان مستوردتان من الشرق (19، 38)، أو على الأنواع الإغريقية من البنجر (40). ويبدو أن الشكوى من الخرشوف الشوكي لا تنصب على منشئها الأجنبي بقدر ما تنصب على تكلفتها. وفي الجزء التاسع عشر من كتاب بلينوس (19)، نجده يمتدح أسلوب البستنة المعروف بحديقة الكوخ؛ وهو يربط بين الحديقة وبين الحدائق الأسطورية مثل حدائق هيسبيريديس وأدونيس وألكينوس (في ملحمة «الأوديسا» 7)، وبين حدائق الملوك: الحدائق المعلقة التي أنشأها الملوك الآشوريون وملوك روما الأوائل. كان القانون الروماني المتعلق باللوائح الاثنتي عشرة يمنح كل مواطن حديقة، أما في الوقت الحاضر فقد طغى الترف على الحديقة، على غرار الأسلوب الذي «أدخله إبيقور - سيد الترف - إلى مدينة أثينا». كانت الحديقة في رأي بلينوس تسبق الفوارق الفادحة للثراء في روما. كانت الحديقة هي حقل الفقير، وكانت تتيح لعامة الناس إنتاج طعامهم بأنفسهم بدلا من شراء الطعام (بما فيه السلع المستوردة) من السوق. ولكن بعدما لم تعد لكل شخص الحديقة التي تدعمه، صار الكفلاء يحصلون على خبز أفضل من الذي يحصل عليه الأتباع، وتوافرت نباتات يستطيع الأغنياء شراءها دون الفقراء؛ إذ أصبحت إمدادات المياه تقسم وفقا لدرجة الثراء، وصار الأغنياء يبردون الماء بالثلج. وأصبحت السلاطات - التي لا تتطلب طهيا ولا وقودا، وكانت تسد الإحساس بالجوع - تحظى بقدر أقل من التقدير؛ إذ أقبل الناس على الفلفل الوارد من الهند وغير ذلك من السلع المستوردة.
ونجد هذا المنهج الزراعي القائم على الأيدولوجية قويا في الكثير من النصوص الرومانية، ونناقشه باستفاضة في الفصلين السابع والتاسع. ويعكس هذا المنهج مشاعر القلق حيال نجاح الإمبراطورية وزيادة الثروة. ويكفي في الوقت الحاضر أن نذكر أنه من الممكن ربط هذه المخاطر الأخلاقية بالخرشوف الشوكي، وبتراجع أكل السلاطة بقدر ما يمكن ربطها بالوجبات التي تحتوي على أسماك وطيور مستوردة.
يبدو أن مذهب بلينوس بخصوص الجمهورية يسمح بالنماذج الأجنبية والملكية إلى جانب نموذج المواطن المزارع. ويذكر أيضا دعم بعض الأباطرة لخضراوات معينة؛ فكان الإمبراطور تيبيريوس يحب السيسارون (نبات يشبه البطاطا الحلوة) - وهو من الخضراوات الجذرية غير معروفة النوع - وكان يطلب الحصول على ثمار مميزة منها من ألمانيا (19، 28: راجع دالبي 2003: 304-305). وكان الإمبراطور تيبيريوس يفضل أيضا الهليون (19، 42)، وهو نبات كان يزرع بنجاح في إيطاليا. وكان كاتو يستحسن الهليون وأيضا الكرنب بدرجة كبيرة، نظرا لمذاقهما الطيب وخواصهما الدوائية. ويساعد هذا الاستحسان الذي تبديه شخصية ذات مكانة للخضراوات في ترسيخ مكانتها في الثقافة الرومانية. وهذه أمثلة من الممكن إضافتها إلى القصة العظيمة التي وقعت في عهد الجمهورية، والتي تتحدث عن حب مانيوس كوريوس لأكل الأجزاء العليا من نبات اللفت (راجع الفصل السابع).
ولا تستبعد آراء بلينوس الأخلاقية النباتات الأجنبية، ويقال إن السيلفيوم - هو شمر عملاق كان يستورد من ليبيا - هو أكثر النباتات نفعا وخاصة للصحة (19، 16)، مع أنه كان من الواردات المترفة التي كانت - على حد قول بلينوس (19، 15) - تصل في شحنة تزن 1500 رطل، وكان يوليوس قيصر يخزنها في خزينة الدولة مع الذهب والفضة. ويطلعنا بلينوس على معلومة شهيرة، وهي أن نيرون تلقى ما كان يبدو أنه آخر جذر من السيلفيوم زرع في مدينة قوريني. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، حل محله من حيث خاصيته الأساسية ونكهته نبات الأنجدان، وهو شمر عملاق آخر يزرع في المنطقة الأفغانية من بلاد فارس القديمة. كان السيلفيوم من النكهات القديمة التي تميز الطعام الإغريقي والروماني، وهو موجود في وصفات الطعام وقوائم الأطعمة الإغريقية والرومانية. وكان السيلفيوم يقدم النكهة العطرية للكبريت الممزوج بالثوم، وبالإضافة إلى استعماله في الطهي كانت له أيضا خواص دوائية مهمة.
وكان السيلفيوم من الواردات القيمة، ومن الواضح أنه كان يحظى قطعا بهذه المكانة في القرن الخامس قبل الميلاد، إن لم يكن قبل ذلك. وهو مدرج في قائمة الواردات التي تفد إلى ميناء بيريوس، وهي القائمة التي وضعها الشاعر الهزلي هيرميبوس (راجع الشذرة 63)، ويقدم ثيوفراستوس وصفا له من حيث علم النبات ومن الناحية التجارية. ولا نجد إجماعا تاما على ما قاله بلينوس عن انقراض هذا النبات. ويذكر ديسقوريدوس السيلفيوم القادم من قوريني في الفترة نفسها، ويستشهد أرنوت (1996: 386-387) بعدد من المصادر اللاحقة التي ذكرته، ومن الممكن أن نضيف إلى هذه المصادر جالينوس في بحثه «عن العقاقير النباتية البسيطة». ربما تحتفظ هذه المصادر بمصطلح «سيلفيوم» للإشارة إلى منتج يعرفه الجميع ولكن لم يعد يأتي من قوريني. ولنا أن نكون على يقين من أن هذا النبات كان يميز العشاء الراقي بطريقة لم توفرها نباتات محلية مثل المريمية والزعتر والكمون. وكان سعره مرتفعا، ولكن كان من المفترض أنه أقل من سعر الفلفل وغيره من الواردات الوافدة من الشرق الأقصى.
وحظيت تجارة التوابل الرومانية بدراسة باهرة أنجزها ميلر (1969)، وقدم دالبي (2000، 2003) تعليقات مفيدة عنها. وكانت التوابل تتراوح بين توابل محلية مثل الريحان والنعناع، وتوابل مستوردة مثل الكمون الوارد من بلدان جنوب البحر المتوسط، وكانت العطور والتوابل تأتي من شبه الجزيرة العربية وأفريقيا والهند وجزر التوابل. وكلما زادت المسافة التي تنقل عبرها التوابل، زاد إقبال المستهلك الروماني الغني عليها. وكما رأينا، استخدم الإغريق البخور وصمغ المر منذ القدم، ويأتي ذكر الفلفل لأول مرة في كتابات أبقراط. ويبدو أن الواردات قد تطورت تطورا سريعا بعد عهد الإسكندر الأكبر وصولا إلى عصر الإمبراطورية الرومانية، وبحلول زمن صدور كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس، أصبح من المتوقع ظهور مجموعة متنوعة من التوابل الإيطالية والأجنبية في الكثير من الوصفات. ويظهر الفلفل في أكثر من نصف الوصفات.
ولا يستند بحث بلينوس فقط إلى القصص التي تتناول شخصيات شهيرة؛ إذ قرأ كتبا لعلماء النبات الإغريق والكتاب الرومان المتخصصين في مجال الزراعة؛ ومن ثم، فإن وجهة النظر الأخلاقية المتقشفة، القائلة بأن السلاطة مفيدة لأنها لا تتطلب أي شكل من أشكال الطهي، يجب أن تدعمها أسئلة عن التنوع والتوافر المحلي والطعم والخواص الغذائية.
مقدمة الفصل الخامس
حتى وقت قريب، كانت كل اللحوم متوافرة بصفة موسمية، وكانت أسعارها مرتفعة، وأدت التغيرات الحديثة التي طرأت على تربية الدواجن والماشية إلى انخفاض أسعارها وتوافرها بصفة يومية، وذلك على الأقل في البلدان المتقدمة. ولكن، مسألة إن كان انخفاض أسعار اللحوم وتوافرها مظهرا من مظاهر التقدم أم لا، أمر محل جدل بالطبع، ويتناول سكان المدن العاديون لحم الأضلاع والبرجر دون الاضطرار لمواجهة فكرة أن ما يتناولونه كان حيا من قبل؛ فمثل تلك الحساسية المفرطة كانت ستبدو ظاهرة دخيلة في عصرنا الحالي؛ ولذلك فإن أفكارا مثل شعائر تقديم القرابين من الحيوانات وتحضيرها ربما تبدو همجية نوعا ما في مجتمعنا الشديد الحساسية. ولكن، كان القدماء في الواقع على العكس من ذلك؛ إذ كانوا يحترمون الحيوانات والنظام الاجتماعي والآلهة. ولا شك أن من يواجهون واقع ذبح الحيوانات وتكلفة تربية الماشية وإطعامها سيكونون أقل ميلا لإهدار اللحم. قال المفكر الصيني لين يوتانغ إنه إذا ذبحت دجاجة ثم طهيت على نحو سيئ، فستكون تلك الدجاجة قد ماتت سدى، وهي فكرة وجيهة تليق بعصرنا الذي ظهرت فيه أصابع كفتة السمك وقطع الدجاج المقلية، وكانت ستكون هذه الفكرة واضحة في أي عصر آخر.
فقد يؤدي التفكير في توافر أصناف اللحم المتوافرة حاليا في عصرنا إلى تعقيد الأمر بدلا من إيضاحه؛ فنحن لم نعد نستخدم الثيران لحمل الأحمال؛ ومن ثم فإن السلالات التي تربى في المزارع حاليا مخصصة فقط للاستفادة من لحومها وألبانها، وتتميز بقدر أكبر من الاستكانة وتسهل السيطرة عليها. وصار معروفا الآن أن الدهون المأخوذة من لحوم الخنازير والأبقار مليئة بالكوليسترول إلى حد خطير، مع أنها كانت تحظى بتقدير كبير بوصفها مصادر للنكهة والتغذية. ولا نزال نأكل هذه الدهون بالطبع، ولكن في صورة مقنعة ضمن كميات كبيرة من النشا، كما في النقانق أو في المعجنات مثل الفطائر المحشوة وحلوى البودنج.
ففكرة السمك بوصفه الطبق الأساسي في مأدبة فاخرة، من شأنها أن تحظى بإقبال في إسبانيا وإيطاليا، ولكن ليس في أوروبا الشمالية حيث من المستبعد أن تحل محل قطعة كبيرة من اللحم أو الدجاج. ويرتبط هذا جزئيا بالحجم والشكل؛ فربما تتسم سمكة كبيرة مثل السلمون أو القاروس بشيء من «جمال المظهر»، ولكنها تفتقر إلى التأثير الذي تحدثه قطعة لحم كبيرة - أو من الأفضل حيوان كامل - مشوية خصوصا لهذه المناسبة؛ فمن غير الوارد أن يكون لحم الأسماك الطري خيارا مرضيا مثل اللحم الأحمر المشوي، وليست له أيضا أي دلالات من التي تربط اللحم الأحمر بالرجولة والشئون العسكرية .
مع ذلك، كان السمك هو البروتين المفضل؛ ومن ثم فإنه فعلا موضوع تتحكم فيه العوامل الثقافية والعملية أيضا. لطالما ظلت بريطانيا محاطة بمجموعة من أفضل المصايد السمكية في العالم، ولكن ظل تناول الأسماك بديلا لتناول اللحم في أيام الصيام أو كطعام للفقراء، ولم يحظ تناول الأسماك بالمكانة التي حصل عليها في بلدان البحر المتوسط. ومن الوارد أن هذا يرتبط بمناخ أوروبا الرطب البارد، ولكن الاحتمال الأقرب هو أن النظام الغذائي في أوروبا ينبع من نمط الذوق الساكسوني والجرماني، الذي كان يعتمد على اللحم والجعة ومنتجات الألبان بدلا من النظام الغذائي القائم على الحبوب وزيت الزيتون الذي حل محله - في بريطانيا على الأقل - حين تفككت الإمبراطورية الرومانية.
لا تعتبر التفضيلات الغذائية المشتركة أمرا غير معتاد، وهي جزء من الأسباب التي تعزز الروابط والصلات بين الناس. فضلا عن ذلك، نجد الأطعمة المحرمة والأحكام المرتبطة بتقنين الغذاء التي هي السمة المميزة للجماعات العرقية المعزولة والمستضعفة مثل اليهود. ظاهريا، يعتقد أن هذه الأطعمة المحرمة والأحكام المرتبطة بتقنين الغذاء جزء من نظام ما للصحة العامة والنظافة، ولكنه أمر لا يمكن التحقق منه بأية حال. فلماذا يفترض أن لحم الخنزير المدخن أخطر من لحم الدجاج؟ من المرجح أن التأثيرات التاريخية والثقافية قد اجتمعت لتقدم أسلوبا متفقا عليه في تناول الطعام، وهو أسلوب يتضامن مع المعتقدات والمبادئ الأخرى للدولة.
الفصل الخامس
اللحوم والأسماك
بيزنطة هي الموطن الأصلي لأسماك التونة المخللة في موسمها، وهي أيضا الموطن الأصلي لسمك ماكريل المياه العميقة وسمك أبو سيف السمين، أما بلدة باريوم فهي من الأماكن التي تربى فيها أسماك الماكريل الإسبانية. وسيجلب أهالي بروتيوم أو كامبانيا، عبر أمواج البحر الأيوني، شحنة من مدينة قاديس أو تارانتوم المقدسة، وهي عبارة عن قلوب التونة العملاقة، المعبأة بإحكام في جرار وتنتظر بداية العشاء. (نقلا عن كاتب يقال إنه هسيود)
كثيرا ما كانت اللحوم والأسماك من الأطعمة المرتبطة بالمكانة الرفيعة في العصور القديمة؛ إذ كانت تربية الحيوانات أعلى في تكلفتها من زراعة الحبوب والنباتات، ولم تكن الحيوانات المخصصة للأكل وفيرة في بلدان البحر المتوسط قط كما كانت الحال في أوروبا الشمالية. وكانت الأسماك وفيرة، لكن لم يكن من الممكن ضمان وصول أسراب الأسماك في الأوقات المتوقعة، وكانت الأسماك الكبيرة المنفردة، مثل سمكة الترس وأنواع معينة من أسماك الأبراميس، مرتفعة الثمن ويصعب صيدها. وكانت حيوانات المزارع كثيرا ما تستخدم لأغراض أخرى غير الذبح؛ إذ كانت تستخدم للحصول على الألبان والصوف، ومنها ما كان يستخدم للقيام بالأعمال مثل الثور. وعند ذبحها للحصول على الطعام، كان ذلك يأتي في إطار طقس تقديم القرابين، كما ناقشنا ذلك في الفصلين الأول والثالث. وكما رأينا، لم تكن الأسماك عادة جزءا من طقوس تقديم القرابين؛ ومن ثم كانت ترتبط بالقوى التجارية، وتحديدا الأثرياء القادرين على الإنفاق بسخاء (راجع: جالانت 1984، وديفيدسون 1997، وويلكنز 2000).
كانت اللحوم مرتفعة الثمن نظرا لتكاليف إنتاجها، وكان استهلاكها بكميات كبيرة دلالة على الثراء؛ ومن ثم، كانت تقدم أطباق اللحوم في حفل زفاف كارانيوس وفي عشاء تريمالكيو. ولا يعني ذلك أن الفقراء لم يكن بوسعهم شراء اللحوم؛ إذ كان ذلك ممكنا عن طريق القرابين الجماعية، وعن طريق أطباق تشبه البيتزا في العصر الحديث كانت تستخدم في إعدادها كمية صغيرة من اللحوم بالإضافة إلى كمية كبيرة من الحبوب والخضراوات. ويبدو أن بائع السجق في مسرحية «الفرسان» من تأليف أريستوفان كان يبيع كميات صغيرة من اللحوم (وهو ما يأتي على النقيض من بيع الحيوانات الكاملة المخصصة للمآدب الفاخرة)، وكانت اللحوم تباع كذلك في المقاصف الصغيرة المقامة عند مفارق الشوارع في بومبي بكثرة إلى حد ما. وأتيحت فرص كثيرة لحفظ اللحوم، سواء السمك المجفف في الهواء أو المدخن أو المملح أو اللحم المملح والمجفف. وتشير المصادر الرومانية إلى تصنيع كميات من لحم الخنزير المدخن والمقدد (ربما بكميات قليلة)، كما تشير النصوص الإغريقية والرومانية من كل العصور بكثرة إلى السمك المملح، سواء أكان على هيئة قطع سميكة أم كان سمكا متخمرا على هيئة صلصة تعرف باسم «جاروم». وقد عثر على الحاويات المخصصة لتصنيع صلصة «جاروم» في الساحل الشمالي للبحر الأسود وفي إسبانيا والمغرب وفي مدينة بومبي على وجه التحديد. ولم يكن الحفظ يساعد في إطالة عمر الطعام فحسب، بل كان يساعد أيضا في توسيع نطاق توزيعه، وكان يعدل من نكهاته. وهكذا، استخدمت النكهة المضافة في لحم الخنزير، ولم تعد عصارات السمك بعد التخمر لها طعم السمك.
وكان بعض السلع المصنعة يتم تبادله تجاريا بناء على تميزه. يقول استرابو إن أفضل أنواع لحم الخنزير المملح كانت تأتي إلى روما من فرنسا (4، 3، 2)، وعلى نفس المنوال ذكرت المصادر الأخرى الأسماك المملحة المستوردة من منطقة بنطس وإسبانيا، وكان ينقل في جرار كالتي كانت تنقل فيها تلك السلعة الأخرى الناتجة عن التخمير؛ أي الخمر. وتتوافر في تلك المنتجات الثلاثة الجودة؛ ومن ثم القيمة التجارية التي كانت تتسم بها بعض الأطعمة المحفوظة. ويعد حفظ فائض الإنتاج لأوقات الحاجة من الاستراتيجيات الضرورية التي يستخدمها المزارعون الريفيون وغيرهم من المنتجين، وذلك بهدف حماية أنفسهم من أزمات نقص الطعام. ولكن العمليات الكيميائية، مثل التمليح والتخمير، تضفي أيضا نكهات وقوامات جديدة مستحسنة في حد ذاتها بسبب طعمها وخواص أخرى؛ فجالينوس مثلا يتحدث باستحسان عن المخللات بسبب خواص الملح والخل.
واللحوم المحفوظة أيضا من أمثلة اللحوم التي لا تؤكل عند تقديم القرابين؛ فكمية كبيرة من اللحوم التي كانت تؤكل في العصور القديمة كانت نتاج عمليات الذبح عند تقديم القرابين. وكثيرا ما يدعي البعض أن كل اللحوم الإغريقية كانت نتاج هذه الطريقة المتعلقة بطقوس تقديم القرابين، وكانت كميات كبيرة من اللحوم الرومانية أيضا ناشئة عن تقديم القرابين إلى الآلهة. ومن الصعب أن نجزم بشيء في هذا الصدد؛ نظرا لأن بعض الأدلة ذو طابع لغوي (لا تدل المصطلحات الدينية المتعلقة بالذبح بالضرورة على حدوث ذبح في حرم الأماكن الدينية)، ونظرا لتنوع المدن محل البحث في هذا الكتاب. ولكن القاعدة العامة هي استهلاك كميات لحوم أقل في العصور القديمة بالمقارنة بكميات اللحوم المستهلكة حاليا في غرب أوروبا والولايات المتحدة؛ وأن معظم تلك الكميات كانت في الكثير من العصور ناتجة عن شعائر تقديم القرابين؛ وأن الأغنياء كانوا قطعا يأكلون كميات من اللحم أكثر مما يأكله الفقراء. وفيما يتعلق بالنوع الاجتماعي، يفيد دليل الحضارة المينوية الذي استشهدنا به في الفصل الأول أن بعض الرجال في العصر البرونزي كانوا يأكلون كميات لحم أكثر مما يأكلها النساء.
ويبدو أن المستهلكين القدماء - المستهلكين الإغريق على وجه التحديد - كانوا يأكلون مجموعة أكثر تنوعا من الحيوانات مقارنة بما يأكله المستهلكون حاليا. وكانوا لا يأكلون اللحم البقري إلا في الاحتفالات الكبرى على مستوى المدينة، وكانت اللحوم الأساسية هي لحم الخنزير، بالإضافة إلى قليل من لحم الضأن ولحم الماعز. وكانوا يستمتعون بالأنسجة المختلفة لكل جزء من تلك اللحوم أكثر مما عليه الحال في بريطانيا والولايات المتحدة في العصر الحديث. كانوا يأكلون كل أنواع الطيور فضلا عن الثعالب والقنافذ، ويبدو أن الأطعمة المحرمة كانت نادرة (جارنسي 1999). ومع ذلك، كانت هناك أطعمة يفضلها الناس، وأطعمة أخرى لا يفضلونها.
ويسجل المؤلف التابع لمدرسة أبقراط لبحث «الحمية 2» قائمة باللحوم تشمل ما يأتي (46): اللحم البقري ذا الألياف القوية، ولحم الماعز، ولحم الخنزير والخنازير الصغيرة، ولحم الضأن الصغير، والحمير والكلاب، والجراء، ولحم الخنزير البري، والغزال، والأرنب البري، والثعلب، والقنفذ. وتتدرج هذه القائمة من حيوانات المزرعة إلى الحيوانات البرية، وتصل إلى آخر حدود النظام الغذائي البشري في حالة الكلاب والجراء. ويستفيض جالينوس في الحديث عن تحديد حدود النظام الغذائي البشري؛ ففي الجزء الثالث من كتابه «عن قوى الأطعمة» يصف لحم الخنزير بأنه أهم طعام مغذ من بين كل الأطعمة، ويليه اللحم البقري ولحم الماعز، مع تحفظات بخصوص لحم صغار الحيوانات، ثم يأتي لحم الضأن الصغير والأرانب البرية، ويليه لحم الحمير البرية. ويرى أن الحمير العجوزة غير مناسبة بالمرة (3، 1)، «مثل لحم الخيول والجمال؛ وتلك اللحوم يأكلها من هم أشبه بالحمير والجمال شكلا وموضوعا!» ويقول إن لحم الدببة والأسود والفهود أسوأ. يضيف جالينوس: «أما بخصوص الكلاب ، ما الذي يجب أن أضيفه أيضا؟ في بعض الأماكن يأكل الكثيرون الكلاب الصغيرة المكتنزة، وخصوصا المخصية. وفضلا عن الكلاب، يأكل الكثيرون لحم الفهود ولحم الحمير أيضا، حين تكون بحالة جيدة، مثل الحيوانات البرية؛ وهم لا يأكلونها فحسب، بل إن بعض الأطباء يستحسنونها. وفيما بيننا، كثيرا ما يأكل الصيادون لحم الثعالب في الخريف؛ إذ يعكفون على تسمينها حاليا بإطعامها العنب.»
وأنواع اللحوم كثيرة، ولكن جالينوس لا يحدد أين تؤكل - على سبيل المثال - الجمال أو الفهود. ويذكر جالينوس في مواضع أخرى أن الجمال كانت تؤكل في الإسكندرية؛ ولذا لا بد أن ننسب بعض هذه العادات إلى أماكن معينة من الإمبراطورية الرومانية، فالجمال تؤكل في مصر وربما بلاد الرافدين، والفهود تؤكل في أصقاع بعيدة. ويذكر هيرودوت عادة أكل الجمال (1، 133، وهو ما يستشهد به أثينايوس في مناقشته للوجبات الفارسية) في سياق احتفالات أعياد الميلاد: «في هذا اليوم، يقدم الأغنياء لحم الثيران والحمير والخيول والجمال بعد شوائها كاملة في الأفران. أما الفقراء، فيقدمون الحيوانات الصغيرة ذات الحوافر.» يشير هيرودوت إلى اختيار يوم مميز - وهو أمر غير معتاد من وجهة نظر الإغريق - والحيوانات غير المألوفة وطريقة الطهي الفارسية التي تطهى فيها الحيوانات كاملة دون تقطيع (مهما بلغ كبر حجمها)، على العكس من عادة الإغريق في تقطيع جسم الحيوان في شعائر تقديم القرابين، وذلك قبل طهيها. ويذكر هيرودوت أوجه الاختلاف هذه دون أن يضيف تعليقا ينم عن الازدراء، كدأبه دوما. ويسخر أريستوفان في مسرحيته «الأخارنيين» - تماشيا مع الكوميديا الأثينية - من العادة الفارسية المتعلقة بطهي الحيوانات كاملة دون تقطيع. أما جالينوس، فيرفض لحم الجمال دون أن يحدد هوية من يأكلونه، وذلك في إطار محاولته لتعيين حدود النظام الغذائي لدى الرومان والإغريق؛ وهو بذلك يقدم كدأبه دوما وجهة نظر من وسط الإمبراطورية، وذلك من الناحية الجغرافية؛ فالأراضي الرومانية أصبحت في هذه المرحلة تشمل أجزاء من صحاري مصر وبلاد الرافدين؛ ولذلك كان الإتيان على ذكر عادة أكل الجمال وإدراجها في نص من العصر الإمبراطوري أمرا متوقعا، حتى إذا لم يوص بها طبيب يكتب في روما أو في موطنه بيرغاموم (التي كانت بأكملها جزءا من العالم الإغريقي والعالم الروماني لمئات السنين). ومن الممكن أن نجد اهتماما مماثلا بالجمال في العصر الإمبراطوري في وصف لموكب بطليموس فيلاديلفوس، يستشهد به أثينايوس من كتاب «الإسكندرية» من تأليف كاليزينوس الرودسي (راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب). وكانت الجمال المحملة بالتوابل من الشرق جزءا من مظاهر التباهي الملكي بالثراء واحتفالات عيد ديونيسيا، وكان الملوك المصريون يستوردونها من الشرق.
ولم يتحدد مدى القرب المكاني لعادة أكل الكلاب من موطن جالينوس، ولكن عادة أكل الثعالب هي فقط التي ينسبها جالينوس إلى موطنه ميسيا في غرب تركيا.
وعلى المنوال نفسه، يرفض جالينوس عادة أكل الثعابين وحشرات الخشب بصفتها عادة مصرية، وليست إغريقية (3، 2). كان الإغريق والرومان يأكلون حشرات معينة وبالتحديد الجراد (راجع الفصل الثاني). رأينا في الفصل السابق أن النظام الغذائي كان يعتمد أساسا على الحبوب والنباتات القابلة للأكل، وكانت الحدود الفاصلة بين الأطعمة القابلة للأكل وغير القابلة للأكل كثيرا ما تتداخل، مما أدى إلى فحصها بعناية، وظهر ذلك في النظام الغذائي للريفيين في الشهور العجاف في ربيع بلدان البحر المتوسط.
واللحم من موضوعات البحث المهمة على وجه التحديد؛ وذلك لعدة أسباب؛ فاللحم مصدره حيوانات ذات إحساس ووعي (وهو موضوع نناقشه باستفاضة في الفصل السابع). وللحم أهمية دينية كبيرة، وهو ما ناقشناه في الفصل الثالث. ويرتبط اللحم في الكثير من الثقافات بالمكانة الاجتماعية، ويرتبط تحديدا بالرجال. وهو نادر في بلدان البحر المتوسط بالمقارنة مع بلدان شمال أوروبا وقارة أمريكا الشمالية. وكانت الأسماك - كما سنرى - ترتبط بعادات تناول الطعام الفاخر في الكثير من النصوص القديمة، ولكن اللحم كان أيضا من الأطعمة الفاخرة لدى معظم الناس، وإن كان طعاما فاخرا تجيزه الشعائر الدينية. وكان اللحم رمزا للسلطان والثراء. ومن الملاحظ أن المدن الإغريقية، مثل أثينا، ذات الطبيعة الجغرافية الجافة والصخرية نسبيا لم تكن مناسبة لإنتاج الماشية، ومع ذلك كان المواطنون في القرنين الخامس والرابع يذبحون مئات الرءوس من الماشية في احتفالات المدينة لاستعراض ما يتمتع به نظام الحكم الديمقراطي من ثراء وسلطان. كانت الماشية تستورد من مناطق مناسبة لتربية الحيوانات، وتعكس اثنتان منها - يوبيا وبيوتيا - ارتباطا بالماشية يتضح من الاسمين. وبالمثل، كان معروفا عن أبطال هوميروس أكل اللحم البقري المشوي طوال مدة حصار طروادة الذي دام عشر سنوات، وكانوا يستمدون القوة من هذا الغذاء الغني بالبروتين والمرتفع الثمن الذي كان نادرا ما يتحصل عليه خارج الشعر الملحمي. وكان المواطنون الأغنياء في مقدونيا يقدمون عدة أطباق من اللحم في الوجبة الواحدة، كما في حفل زفاف كارانيوس الذي ورد وصف له في الفصل الثاني. وفي روما، كثيرا ما تذكر أطباق اللحم في أوصاف المآدب؛ ومن الممكن أن نقارن بين أطباق اللحم الكثيرة التي قدمها البطل الهزلي تريمالكيو في نص بيترونيوس - مثلا - وبين الأدلة الأثرية المأخوذة من الموقع الأثري سكولا بريكونوم في روما التي تشهد على وجود إنتاج كبير من اللحوم (بارنيش 1987). ربما ينبغي وصف إيطاليا بأنها كانت بمنزلة تكساس العالم القديم، ويصفها المؤرخ الإغريقي القديم هيلانيكوس هكذا إلى حد ما (الشذرة 111) في اشتقاقه للاسم «إيطاليا» (وكان الاسم يشير إلى منطقة في القرن الخامس قبل الميلاد أكثر محدودية من إيطاليا كما نتصورها حاليا) من الكلمة الإيطاليقية/اللاتينية «فيتولوس»، ومعناها «عجل»، ويذكر فارو هذا الاشتقاق أيضا في كتابه «عن الزراعة». يبدو أن اللحم كان من العناصر المهمة في غذاء الجيش الروماني (ديفيز 1971)، ومن اللافت للنظر ظهور المزيد من اللحوم أيضا في الأوصاف المثالية لعادات تناول الطعام البسيطة، التي كان من المتصور أن الناس كانوا يتبعونها في عصور سابقة، ويأتي فيها أن الريفي القوي البنية إبان عصر الجمهورية في روما كان يقتات على طعام بسيط يشمل لحم الخنزير المقدد وغيره من أنواع لحم الخنزير المحفوظ. وعلى النقيض من ذلك، كثيرا ما تصف التصورات المثالية الإغريقية عن الماضي وعن الحياة الريفية النقية أسلوب حياة نباتيا. ويقدم كتاب أفلاطون «الجمهورية» مثالا على هذا النوع.
شكل 5-1: كان الجمل يؤكل في مصر - مع أنه من الدواب المخصصة لحمل الأغراض - وفي أجزاء من الإمبراطورية الفارسية. وهو من حيوانات الأضاحي في الإسلام، ولكنه محرم على اليهود في كتاب سفر التثنية. ويرفض جالينوس لحم الجمال، وذلك فيما يبدو حين ذكره وهو يشير إلى مساحة تمتد في أنحاء إمبراطورية تضم الشرق الأوسط، ولكن في الوقت نفسه وهو يفرق بين ما هو صالح للأكل وما يؤكل فعليا في وسط إيطاليا واليونان وغرب آسيا الصغرى. ومن الممكن أن نقارن بين هذا ودراسة جالينوس للدولفين الذي يأتي في معظم الفكر القديم بصفته الحيوان الثديي البحري الأكثر توددا إلى البشر (ولذلك ربما لا يأكله إلا الشعوب التي تعيش في أماكن بعيدة)، ولكن يدرجه جالينوس ضمن الأسماك المناسبة للتمليح. (الصورة من مجموعة صور هاردينج كينج
EUL MS11 ، وهي إهداء من مكتبة جامعة إكستر (المجموعات المميزة).)
ومن الصعب قياس مدى انتشار عادة أكل اللحوم، ومن الممكن أن نكون على يقين بأن السواد الأعظم من السكان لم يأكلوا اللحم كثيرا، وأنهم كانوا يأكلونه على الأرجح في المناسبات الدينية، وأن الحيوان الذي كانوا يأكلونه هو الخنزير غالبا نظرا لأنه كان سريع التكاثر نسبيا ورخيصا إلى حد ما. وفي دراسة بليغة عن تربية حيوانات المزارع، يستنتج جيمسون (1988) أن أكثر حيوانات القرابين شيوعا كان الخنزير، وأن الخنزير الرضيع كان هو الأكثر انتشارا من تلك الفئة، وأن كمية اللحم المتاحة للفرد كانت قليلة عند مقارنتها بالولايات المتحدة أو غرب أوروبا. ويستقي جيمسون الدليل الذي يقدمه من اليونان في العصر الكلاسيكي القديم والعصور الرومانية. أما بخصوص إيطاليا، فيدعي فارو أن «كل الناس هنا» كانوا يربون خنزيرا في إيطاليا في نهاية عصر الجمهورية، ولم يوضح بدقة مدى ما يشمله قوله «الناس هنا» من مستويات السلم الاجتماعي. ولا يوجد ما يدل على أن الخنازير التي كان يربيها الناس في الربيع والصيف كانت تذبح في أواخر الصيف، وهو نمط منتشر من أنماط تربية الخنازير في أوروبا في عصور لاحقة. وربما كان هذا هو ما يفعلونه، وربما يدعم ذلك الإشارات الأدبية الرومانية إلى قطع لحم الخنزير المدخن المحفوظ، المعلقة في العوارض الخشبية للأسقف المائلة في المنازل الإيطالية. ولكن من الجائز أيضا أن الخنازير في البلدان الإغريقية الرومانية كانت مخصصة عادة للمناسبات الدينية، وكانت تذبح في أوقات أخرى من العام. ومن المؤكد أن أعدادا كبيرة من الخنازير كانت تذبح في المدن الإغريقية في احتفالات خصوبة معينة، وخصوصا احتفالات الإلهة ديميتر؛ مثل الأسرار الشعائرية في إلفسينا واحتفال ثيسموفوريا. يعلق جيمسون (1988) على التزامن الواضح بين المواعيد الأساسية لذبح الخنازير على مدار العام وبين الاحتفالات الكبرى، ويبدو أن المناسبات الدينية تتزامن مع الدورة السنوية لاختيار الحيوانات المراد استبعادها من القطيع.
شكل 5-2: أحد الأبطال - ربما هرقل - مضطجعا على أريكة بجوار مائدة من اللحم المعلق بشرائط بطرف المائدة. والصورة مرسومة على وعاء مزج، وكان الرسامون يصورون الآلهة وأنصاف الآلهة في وضع تناول الطعام الذي يتخذه نظراؤهم من البشر، وكذلك الموتى. وكانت صور الآلهة أيضا من وسائل المساعدة لتناول الطعام فيما بين من يأكلون ويشربون. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من متحف المجموعات الأثرية الوطنية ومتحف جليبتوتيك في ميونخ.)
يقدم جالينوس دليلا على نموذج لتربية الخنازير يختلف عن ذلك النموذج الأوروبي؛ ففي مناقشة عن ثمار البلوط («عن قوى الأطعمة» 2، 38) - سبق أن استشهدنا بها في الفصل الرابع - يذكر أن المجاعة دفعت أهالي الريف (في موطنه ميسيا في آسيا الصغرى) للتخلي عن عادة تربية الخنازير خلال الشتاء، وكانوا يضطرون لذبحها وأكلها في الخريف. ويذكر بلينوس أيضا («التاريخ الطبيعي» 8، 205) ميلاد الخنازير في شهر «بروما»، وذلك في منتصف الشتاء.
تناولنا في الفصل الثالث الأهمية الدينية لتقديم قرابين من اللحوم، ويظهر اللحم هنا أيضا بسبب دوره كمكمل غذائي للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، وبصفته طعاما له مكانة تفوق بكثير الدور الذي يسهم به في النظام الغذائي ككل (راجع فيدز 1991). وهو من البروتينات المصنفة من الدرجة الأولى؛ ولذلك فهو من المكملات المستحسنة للغاية، ولكنه لا يتاح بكميات كبيرة إلا للموسرين، وذلك في مناخ بلدان البحر المتوسط. وكانت أي مدينة ذات حكم ذاتي مثل أثينا تستطيع استعراض قوة مواردها بذبح مئات الرءوس من الماشية في عدد من الاحتفالات، وكذلك كان يفعل الحكام الهلنستيون والأباطرة الرومان. وكان عدد الحيوانات في إيطاليا يفوق على الأرجح عدد الحيوانات في البر الرئيسي لليونان. ومن الصعب تقدير مدى تأثير هذا على عامة الناس، وقطعا لم يكن توزيع اللحوم مدرجا في العطايا التي يمنحها الأباطرة إلا بحلول القرن الثالث الميلادي. وأهم النتائج التي ربما ينبغي أن نستنتجها من ذلك أن إيطاليا شهدت استهلاك كميات أكبر نسبيا من اللحوم (ولكنها لم تكن كميات هائلة)، وكان معظم استهلاك اللحوم من نصيب الأغنياء. ومما يدل على ندرة اللحوم عموما الأوصاف المناقضة التي تصور السلتيين على أنهم قوم يكثرون من أكل اللحوم في الأنحاء الشمالية من أوروبا.
ويدل إدراج لحم الخنازير في قوانين الإنفاق على أهميته في التباهي عند الأغنياء. يخبرنا بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» 8، 209) أن منتجات الخنازير كانت توفر قدرا كبيرا من التنوع في «الغانيا» أو دار تناول الطعام، وهو ما يربطه بالطبقات الفقيرة. ولكنه ينتقل بعدئذ للحديث عن مأدبة العشاء الرسمية أو «سينا»: «لذا، توجد صفحات من القوانين التي يصدرها الرقباء، وأطعمة محظور تقديمها في المآدب الرسمية («سيناي»)، وهي: المعدة والبنكرياس والخصية والرحم وأنصاف رأس الخنزير.» ونجد أن الأوصاف الأدبية للمآدب مثل مأدبة عشاء تريمالكيو في كتاب بيترونيوس ترتبط بالإسراف فيما يبدو؛ إذ يظهر لحم الخنزير ومنتجاته في مجموعة من الأطباق؛ ففي هذا الكتاب، نرى أمامنا وصفا للعبد المحرر الغني السوقي الذي يقيم مأدبة لضيوفه الفقراء تتضمن كميات وفيرة من لحم الخنزير. وتدل هذه المأدبة على ثرائه، ولكنها قد تدل أيضا على سوقيته؛ إذ إنه لا يقدم في مأدبته - فيما يبدو - إلا النذر اليسير من الأسماك، وكانت الأسماك في أماكن أخرى من الثقافة الرومانية من الأطعمة التي يتناولها علية القوم. كانت الأسماك تميز المطلعين على أنماط تناول الطعام الأجنبية عن المواطنين العاديين في الجمهورية ممن كانوا يقتاتون على القمح الثنائي الحبة ولحم الخنزير المقدد (كما جاء في قصيدة «الأعياد» 6 للشاعر أوفيد، التي استشهدنا بها في الفصل الثالث). من الوارد أن تأكيد تريمالكيو على لحم الخنزير لا يدل على التباهي الأنيق بقدر ما هو علامة على أصوله الوضيعة.
ويظهر اللحم دوما في مآدب العشاء الفاخرة في العصور القديمة، وتظهر الأسماك المرتفعة الثمن أيضا في أماكن معينة، وتحديدا في أثينا. ولكن اللحم يحتفظ بمكانته المرموقة، فهو القربان الأكبر الذي بوسع إنسان أو جماعة تقديمه إلى معبود ما، وهو طعام الأبطال في ملحمة «الإلياذة»، وهو طعام هرقل كذلك. ولعل هرقل - نصف الإله الشره ذاك - هو المكافئ الإلهي لميلو، ذلك الرياضي الذي يهوى أكل اللحوم (راجع الفصلين الأول والثاني). تذكر الشذرة 6 للشاعر الهزلي يوبولوس أن هرقل يعبر عن ازدرائه للخضراوات ولأي شيء خلاف اللحم قائلا:
سواء أكان هذا الطعام ساخنا أم مقرمشا أم في منزلة بين الاثنين، فإنه أهم لأي رجل من الاستيلاء على طروادة. أما أنا، فلم آت هنا لأتناول الكرنب أو السيلفيوم أو أطباقا مرة مدنسة أو بصليات. بل أنا معتاد دائما على تناول ما أعده طعاما حقيقيا يحسن الصحة ويمنح القوة البدنية الكاملة، وهو اللحم البقري مسلوقا وغير مقطع بكميات كبيرة، بالإضافة إلى حصة وفيرة من الأقدام والخطم وثلاث شرائح من لحم خنزير صغير مرشوشة بالملح. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
وتتشابه كثيرا طريقته في التعبير عن الرفض مع ما قاله أركستراتوس للتعبير عن رفضه للخضراوات (الشذرة 9، أولسون وسينس 2000)، مع أنه يذكر في قصيدته أن الأسماك - وليس اللحم - هي البروتين المفضل لديه.
وكان المواطنون الأغنياء والفقراء أيضا بوسعهم شراء الحيوانات البرية. يقول بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» 8، 210) إن الخنزير البري أيضا كان يلقى قدرا كبيرا من الاستحسان. ويظهر الخنزير البري في عدد من القصص الأدبية القائمة على إحدى رياضات علية القوم، وهي صيد الطرائد الكبيرة (راجع ملحمة «الأوديسا» 19، وجوفينال 1، وبيترونيوس). ولا بد أيضا من ذكر صيد الغزلان، بالإضافة إلى الأرانب البرية والثدييات الصغيرة، وأهمها حيوان الزغبة الشهير. يتحدث جالينوس بإيجاز في كتابه «عن قوى الأطعمة» (3، 1) عن مجموعة من هذه الثدييات التي سبق أن استشهدنا بها في الفصل الأول، وتشمل هذه الثدييات الأرنب وفأر الحقل والزغبة.
كانت الطيور غالبا هي أكثر أنواع اللحوم المتوافرة أمام المواطنين الفقراء، وكانت الطيور تؤكل بكميات كبيرة، ولم يكن الدجاج هو نوع الطيور السائد المخصص للأكل كما هي الحال الآن. وكان يربى بعض أنواع الطيور في أقفاص، وكذلك حيوان الزغبة والأسماك (3، 9). ويقدم فارو نصائح كثيرة عن تربية الأسماك والطيور الموضوعة في أقفاص. أما جالينوس، فيقول في كتابه «عن قوى الأطعمة» (2، 18) إن «الدجاج» في عصره كان يسمى «طيورا» فحسب، مما يشير ضمنيا إلى أن الدجاج كان نوع الطيور الذي من المعتاد تخصيصه للأكل. وكانت الطيور أيضا جزءا من التباهي الذي يصبو إليه الأغنياء، وتوجد دلائل كثيرة على ذلك تتعلق بالدجاج الحبشي، ويذكر أبيكيوس وآخرون طيور البشروش، وكانت تستورد طيور التدرج والدراج من البلدان الإغريقية. ويناقش أثينايوس مجموعة متنوعة من لحوم الحيوانات في الجزء التاسع من كتابه.
كانت اللحوم توفر البروتينات الأساسية اللازمة للقدماء، وكانت توفر كذلك أشكالا مختلفة. ويؤكد كل من النصوص الإغريقية والرومانية على وجود فائدة لكل جزء من الأجزاء المختلفة لجسم الحيوان، وقد تكون هذه الأجزاء هي الرأس والآذان والأقدام والكثير من الأعضاء الداخلية. وفي روما، كان الرحم والضرع من الأجزاء المفضلة بوجه خاص. ويركز أبيكيوس على الخنازير العقيمة وغيرها من السمات التي تتسم بها أنثى الخنزير التي أخذ منها الرحم. ونجد أن تنوع أشكال تقديم اللحوم من السمات التي تربط الإغريق والرومان بعادات تناول الطعام الفرنسية والإسبانية في العصر الحديث، وكذلك عادات تناول الطعام الصينية على وجه التحديد. ولا تهتم البلدان الأنجلوساكسونية مثل بريطانيا والولايات المتحدة بشكل اللحم وقوامه؛ ففي هذه البلدان، تقدم القطع الصغيرة من الحيوان على هيئة برجر وسجق. وكان الإغريق والرومان يأكلون الأجزاء المحتفظة بشكلها الأصلي من الحيوان، وكذلك السجق وكرات اللحم. يخصص أبيكيوس كتابا بأكمله لوصف بهاء كرات اللحم، وتظهر الكلمة المكافئة لكرات اللحم - وهي «إيسيشيا» باللاتينية - بصفتها عنصرا يناقشه المدعوون إلى المأدبة الواردة في كتاب «مأدبة الحكماء» لأثينايوس. أما الأسماك، فكان يقدم مختلف أجزائها بشكله الأصلي؛ مثل: رأس سمكة الإنكليس البحري الكبير، وبطن سمكة التونة أو لحم ذيلها، وأعجاز أسماك القد بمختلف أنواعها. ونلاحظ هذا الاهتمام في بعض شذرات أركستراتوس، وكذلك في عدد من الشذرات المأخوذة من المسرحيات الكوميدية الأثينية، وهي عبارة عن أجزاء من جمل حوارية يذكر فيها الأشخاص أطعمتهم المفضلة أو (في أغلب الظن) أكلات في مأدبة يعكفون على تحضيرها لآخرين. وفي هذه الشذرات، يذكر الكثير من أجزاء الأسماك والحيوانات، بما في ذلك الأعضاء الحيوية وأجزاء الحيوانات المتصلة بتقديم القرابين التي ورد وصفها في الفصل السابق ولكنها أصبحت تباع في السوق فيما يبدو لتصبح متاحة للشراء في القطاع التجاري. يخبرنا جالينوس في كتابه «عن قوى الأطعمة» عن خواص الأقدام والأخطام والآذان (3، 3) والألسنة (3، 4)، والغدد مثل الغدد اللعابية وغدد الثدي، والخصية (3، 4)، والمخ (3، 7)، ونخاع العظم والنخاع الشوكي والأمعاء والمعدة والرحم (3، 12). وهذا الدليل الطبي تدعمه قوائم الأطعمة المأخوذة من المسرحيات الكوميدية الأثينية، مثل الشذرة 63 ليوبولوس:
وبالإضافة إلى ذلك، سيقدمون إليك شريحة من التونة، وأضلاع لحم الخنزير، وأحشاء جدي، وكبد خنزير بري، وقطعا من لحم الضأن المقلي، وأحشاء بقر، ورءوس ضأن، والزائدة الدودية لجدي، وضرع أرنبة برية، وقطعة سجق، وسجقا من لحم ودم الخنزير، ورئة، وسلامى. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
لا يقل الاهتمام بالتركيب البنيوي للحيوانات عن الاهتمام بنظيره لدى الإنسان. للاطلاع على مناقشة عن جسم الحيوان، راجع دوراند (1989)، وللاطلاع على مناقشة عن جسم الإنسان، راجع الفصل الثامن. لا تقتصر قائمة جالينوس عن أجزاء الجسم على الحيوانات ذوات الأربع. في الموضع (3، 20)، تحدث جالينوس أيضا عن أمعاء الطيور وأجنحة الدجاج والإوز وخصي الديوك وأمخاخ الطيور، ويقول إن أقدام كل الطيور ليست صالحة للأكل، ولكنه لا يستطيع الإدلاء بدلوه عن غبب الديوك وأعرافها. ولا يكف جالينوس عن سرد مجموعة المكونات التي تليق بطاه صيني متحمس إلا في نهاية قائمة أجزاء الجسم هذه.
تذكر اللحوم في الكثير من المصادر على هيئة تدرج هرمي، وهو ما يتصل بتكلفة الإنتاج. يصف راعي الخنازير في الجزء الرابع عشر من ملحمة «الأوديسا» (وهو جزء يزخر بالكثير من التفاصيل عن استهلاك اللحوم وتربية حيوانات المزارع وتقديم قرابين غير مألوفة) لسيده المتنكر؛ ثراء أوديسيوس الذي يستدل عليه من حجم ما يمتلكه من ماشية وأغنام وخنازير، ويقدم لضيفه حيوانا صغير الحجم نظرا لانشغال الخطاب الخبثاء بالتهام أسمن الخنازير. يستشهد أثينايوس بفقرة من كتاب «تاريخ الإسكندر الأكبر» من تأليف كليتاركوس، ويأتي فيها أن أهالي طيبة يتسمون بالخسة والبخل فيما يتعلق بالطعام؛ لأن الأطعمة التي كانوا يحضرونها كانت عبارة عن «لحم مفروم ملفوف في أوراق نباتية (ثرييا باللاتينية)، وسمك مسلوق، ونوعين من الأسماك الصغيرة، وسجق وأضلاع وحساء بازلاء». ويرى كليتاركوس أن هذه الأطعمة قرابين ضئيلة (تحل فيما يبدو محل اللحم والأسماك الكبيرة) لا تعبر عن الأطعمة التي بوسع أهالي طيبة شراؤها.
وبالمثل، ربما يستطيع شخص غني أو مجموعة من الأغنياء شراء ثور لتقديمه كقربان (راجع «الأورجيونيس» في الفصل الثالث). كان معظم الناس يقدمون خروفا أو خنزيرا أو أحد صغار هذه الحيوانات كقربان، وكان ينتشر - على سبيل المثال - تقديم الخنازير الصغيرة كقرابين. وإذا لم يستطع المتعبدون تحمل تكلفة تقديم قرابين من الحيوانات مطلقا، أو إذا كانت العبادة تتطلب تقديم قرابين غير الحيوانات، كانت تقدم كعكات من الحبوب وغيرها من النباتات. وبعيدا عن مناسبات تقديم القرابين، كانت اللحوم ومنتجاتها متاحة للبيع؛ ومن ثم، نجد أحد المصادر يخبرنا أن أبا إيسخينيس - وهو من أتباع سقراط - كان بائع سجق أو بائع سجق مصنوع من لحم ودم الخنزير (ديوجينيس اللايرتي 2، 60). وبالمثل، جعل أريستوفان بائع سجق الشخصية الأساسية في مسرحيته «الفرسان». ويتضح في المسرحية أن بائع السجق يبيع عدة منتجات حيوانية، من الوارد أنها كلها مأخوذة من لحوم القرابين قبل بيعها إلى بائع السجق ليعرضها للبيع بالتجزئة في سوق مدينة أثينا. ويصور أريستوفان بائع السجق تصويرا هزليا على أنه ينتمي للطبقة الدنيا من المجتمع، ومن الوارد أن هذه المهنة كانت مهنة وضيعة. ولكن يبدو أن معظم تجار السوق يظهرون في صورة سيئة في النصوص الأدبية، وكان هذا التصوير جزءا من العلاقات الغريبة التي كانت تجمع النصوص القديمة بإنتاج الطعام وتوزيعه وتبادله (ويلكنز 2000، الفصل الرابع). ومن غير الحكمة أن نستنتج من التصوير القديم لباعة السجق أن السجق وغيره من المنتجات الحيوانية لم تكن من الأطعمة المفضلة. ونظرا للتقدير الذي كان يحظى به شكل الطعام - كما أشرنا فيما سبق - كان الآكلون من كل الطبقات يلتهمون القلب والكلية والسجق المصنوع من لحم ودم الخنزير، بمعزل عن الدور الرمزي الذي تؤديه هذه الأطعمة في طقس تقديم القرابين (الذي جاء وصفه في الفصل الثالث). وكانت هذه الأطعمة بنكهاتها اللاذعة وأشكالها المختلفة مفضلة لدى كل الطبقات، فيما يبدو؛ فهي موجودة في المآدب الفاخرة، وفي كتاب لأبيكيوس (وإن كان ينصح بقراءته بحذر؛ راجع الفصل السابع)، وموجودة أيضا في أكشاك البيع التابعة لشخصيات أدبية يهجوها المؤلف.
ويبدو أنه كان من النادر في الثقافة الإغريقية أكل اللحم بمعزل عن طقس تقديم القرابين من الحيوانات. وكان مسموحا لكشك البيع أن يأتي في منزلة تقع بين تقديم القرابين وبين مأدبة العشاء وجلسة الشراب (بمعنى أنه من المسموح أن تفصل المعاملات التجارية بين مستهلك لحم الحيوان وبين الفئة التي قدمته كقربان)، ولكن طقس تقديم القرابين سيكون قد حدث، وذلك على حد علمنا. ويبدو أن هذا صحيح حين يطعم يومايوس - راعي الخنازير - أوديسيوس المتنكر في الجزء الرابع عشر من ملحمة «الأوديسا»؛ وينطبق هذا أيضا على الحال في مدينة أثينا في القرن الرابع كما تظهر في كتاب ثيوفراستوس «شخصيات»:
الوقح هو الذي يخرج بعد تقديم القرابين للآلهة لتناول العشاء مع آخرين، ثم يملح اللحم ويخزنه. ويستدعي عبده وهو جالس إلى مائدة مضيفه، ثم يأخذ اللحم والخبز من المائدة ويعطيه إياه، وهو يقول بحيث يسمعه الجميع: «حضر وجبة لذيذة، يا تيبيوس!» وحين يتسوق يذكر القصاب بأي خدمة بسيطة قد يكون قد قدمها له، ويقف بجوار الميزان ويضع عليه خلسة شيئا من اللحم إذا أمكن، أو يضع عظمة ليصنع منها حساء؛ وإذا تمكن من الإفلات بفعلته يكون راضيا، أما إذا لم يتمكن من ذلك، فإنه يسرق جزءا من معدة حيوان من المائدة، ويضحك في سره وهو يهرول بها مبتعدا. (ترجمه إلى الإنجليزية: فيلاكوت )
توضح هذه اللمحة الرائعة عن حياة الطبقة الدنيا في منازل أثينا وشوارعها، التي من المفترض أن تصور الشخصية الشائنة التي وصفها أرسطو ، سواء أكانت على المسرح أم في نص أدبي؛ الرجل السيئ الخلق وهو عاجز عن ربط تقديم القرابين بمشاركة الطعام مع الآخرين، وكذلك وهو عاجز (بالتضمين) عن تناول الطعام بالتبادل مع الآخرين، وأخيرا وهو عاجز عن الالتزام بالأمانة عند الشراء من القصاب. والنظام الاجتماعي مترسخ في هذه المشاهد مثلما هو مترسخ في مسرحية «ديسكولوس» من تأليف ميناندر.
أسدى القديس بولس نصيحة شهيرة للمسيحيين في كورنث ممن كان يساورهم القلق من احتمال أنهم يأكلون لحما متخلفا عن طقوس تقديم قرابين وثنية (رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح 8). ونصيحته هي أن يأكلوا اللحم على الرغم من ذلك؛ لأن المسيح إله أقوى من الآلهة الوثنية (رسالة كورنثوس الأولى، إصحاح 8). ويبدو أنه كان يتسنى الحصول على اللحم في كورنث لمن كانوا لا يرغبون في المشاركة في طقوس تقديم القرابين. وتشير مصادر أخرى في العصر الروماني - كما رأينا - إلى إنتاج اللحوم بكميات كبيرة، ومن الصعب تقدير إلى أي مدى روعي فعليا في هذا التطور فصل تقديم القرابين عن إنتاج اللحوم. لا شك أن ما أورده فارو - وهو كاتب يسبق عهد القديس بولس بقرن - (في كتابه «عن الزراعة» 2، 5، 11) يشير إلى أنه كانت هناك حيوانات تربى «بغرض الذبح» - أي كي تذبح على يد القصاف بغرض الاستهلاك التجاري - وعلى النقيض منها كانت هناك حيوانات تربى من أجل تقديم القرابين، «آد ألتاريا» (فراين 1993: 156، دالبي 2003: 213). وكانت اللحوم (ذات المنشأ غير المعروف) متاحة في المنافذ التجارية، على ما يبدو. وكانت الحانات ومحال الطهي في إيطاليا تقدم فيما يبدو قطع لحم وأنواع سجق رخيصة (وذلك رهن بالتشريعات المقيدة الصادرة عن أباطرة مختلفين)؛ فمن المرجح أن نفترض أن نسبة لا بأس بها من السكان كانت تستهلك كميات قليلة من اللحوم، ولكن ليس على فترات متقاربة. ويستحق الأمر أن نقارن هذا بالدليل المتعلق بمدينة نابولي من القرن التاسع عشر الذي استشهدنا به في الفصل الثاني . كان بعض الزبائن يأكلون المكرونة مضافة إليها صلصة، ولم يكن بوسع الفقراء إضافة الصلصة إلى الطعام، والأشد فقرا لم يكن بوسعهم حتى الحصول على المكرونة، بل كانوا يحصلون فقط على ماء سلق المكرونة لإضفاء نكهة. ويبرهن فروست (الذي يجمع بعضا من الفقرات الواردة فيما سبق) على انتشار تناول اللحوم. يدعي فارو (2، 4، 11، بناء على ما جاء في عمل مفقود من أعمال كاتو الأكبر) أن الإنسوبريين في شمالي إيطاليا يملحون ما يتراوح بين 3000 و4000 قطعة من لحم الخنزير المقدد. ويتناول كورتيس (2001) مدى انتشار أكل اللحوم في إيطاليا في العصر الروماني.
كان أكل الأسماك يختلف عن أكل اللحوم في العصور القديمة؛ فكما رأينا، لم يكن أكل الأسماك جزءا من نظام تقديم القرابين، سواء أكان لدى الإغريق أم الرومان. وكان بعض جيرانهم - الليديين والسوريين والمصريين - لديهم بعض الأسماك المقدسة، ولم يكن لدى الإغريق والرومان إلا عدد أقل بكثير من الأسماك المقدسة. يذكر أثينايوس بعض الأسماك المقدسة في الجزء السابع من كتابه، وناقشنا بعض استثناءات هذه القاعدة في الفصل الثالث. ولم تكن الأسماك عادة جزءا من النظام الديني؛ ومن ثم كان من الممكن أن يشتريها من السوق كل من يستطيع دفع ثمنها. وتشتهر إمدادات الأسماك بأنها عرضة للتقلب، ولم تكن العصور القديمة استثناء في ذلك (جالانت 1984، وبورسيل 1995)؛ فالسمك كان يتوافر بكثرة أحيانا لمن كانوا يعيشون بالقرب من السواحل، وفي بعض الأحيان على الأقل كان يتوافر بسعر زهيد بشرط أن يكون من الأنواع التي تعيش في المياه الضحلة، مثل الأنشوفة والسردين، التي يمكن صيدها بكميات كبيرة. ولم يحظ الوصف المتشائم الذي قدمه جالانت بأي استحسان بوجه عام، ومع ذلك راجع بورسيل (1995) وهورديرن وبورسيل (2000). لقد حاولت أن أبرهن (ويلكنز 2005) على أن الكثير من أدلة جالانت يمكن قبولها، شريطة النظر إلى الأسماك بصفتها من المكملات الغذائية وليست غذاء أساسيا يمد الجسم بالسعرات الحرارية.
ومن المعروف عن أعمال هوميروس أنها كانت تخلو من أي ذكر عن أكل الأسماك، وسنناقش هذا الموضوع في الفصل التاسع، ولكنه يستحق الذكر هنا كذلك . يأكل أبطال هوميروس كمية مدهشة من لحم البقر، ونادرا ما يأكلون الأسماك، وهم لا يأكلونه في الواقع إلا بدافع الجوع. ويأتي ذكر الأسماك وصيدها والصنانير في قصائد هوميروس، ويصف هوميروس أي ملك بأنه يشرف على بحار تزخر بالأسماك إذا كان ملكا صالحا. ولكن لا أحد يأكل الأسماك في أعماله، ومن الواضح أن الشاعر يتبع منهجا يروج للحوم على حساب الأسماك. ولعلنا على يقين إلى حد ما بأن الإغريق في العصر البرونزي كانوا يأكلون الأسماك فعلا، وذلك استنادا إلى الأدلة الأثرية المذكورة في الفصل الأول، والأدلة المأخوذة من عدة مواقع أخرى تابعة للحضارة المينوية، وبعض هذه الأدلة يسردها كورتيس (2001: 274-275). وتعود ملكية الماشية المخصصة لتقديم القرابين إلى عالم الأبطال، وربما تعكس القرب بين الأبطال وآلهتهم، وتعكس أيضا ثراءهم الذي يتيح لهم أكل اللحوم يوميا. وتصور القواعد الحاكمة للأعمال الأدبية اللاحقة الأسماك على أنها من السلع الفاخرة؛ وهذا الموقف يمثل طرف النقيض، ويأتي كتفسير على القدر نفسه من التفرد لدور الأسماك في النظام الغذائي القديم.
وكما هي الحال في مواضع أخرى من هذا الكتاب - ينطبق الأمر كذلك على أكل الأسماك - توجد تفاصيل محلية كثيرة لا بد من إضافتها إلى الصورة العامة، وهذا التنوع هو الأساس الذي تقوم عليه قصيدة أركستراتوس. كانت ثمة أسماك مثل البوري الأحمر أكثر شيوعا في المياه الإغريقية منها في المياه الإيطالية؛ ومن ثم كانت تباع بأسعار أعلى في الأسواق الرومانية. وكان الدولفين في الكثير من المجتمعات الإغريقية الرومانية، مقدسا أو على الأقل غير مخصص للأكل. يزخر الأدب - بدءا من هيرودوت وحتى بلينوس الأصغر - بقصص التقارب بين الدلافين والبشر، ولكن زينوفون صادف عادة مختلفة للغاية، وذلك أثناء اجتيازه آسيا الصغرى كما ذكر في كتابه «الصعود» أو «أناباسيس» باللاتينية:
أثناء بحث الإغريق عن غنائم في هذه المواقع، وجدوا في المنازل مخازن من أرغفة الخبز المكدسة - بحسب ما قاله الموسينوكي - المصنوعة من دقيق العام الماضي، ووجدوا كذلك محصول الذرة الجديد محفوظا كما هو بسيقانه. وكان هناك قمح خشن للغاية، ووجدوا شرائح من لحم الدرفيل مخللة محفوظة في جرار، ودهن درفيل محفوظا في أوعية. وكان الموسينوكي (تسمية معناها سكان الأبراج الخشبية، وهي تسمية أطلقها الإغريق على أهالي بنطس) يستخدمون هذا الدهن كما يستخدم الإغريق زيت الزيتون. وكانت هناك في الغرف العلوية كميات من ثمار الكستناء، من النوع العريض ذي السطح الناعم. وكانوا يستخدمون ثمار الكستناء بكميات كبيرة للأكل؛ إذ كانوا يسلقونها ثم يخبزون أرغفة منها. ووجدوا نبيذا هناك أيضا، وعند خلطه يصبح طعمه مرا بسبب نكهته اللاذعة، ولكن رائحته تصبح جيدة، وكذلك طعمه، عند خلطه بالماء.
للأسماك ثلاث سمات أساسية؛ أولا: كانت كميات الأسماك المتوافرة - كما أشار بورسيل (1995) تتسم بالتقلب؛ فربما يصطاد الصيادون قطيع أسماك فيكون السعر منخفضا للغاية لمدة قصيرة، وربما تكون الكمية كبيرة بحيث تتحول إلى طعام للحيوانات، كما يحدث في العالم الحديث؛ ولذلك، فمن الجائز أن تكون الأسماك من هذا النوع - مثل التونة والسردين - متاحة للجميع، على الأقل لمن يسكنون بالقرب من البحر. ولكن هذا كان يشترط وجود توقعات تفيد بوجود كميات وفيرة من حين لآخر. ونجد أن توافر الأسماك المفردة - وهي الأسماك التي لا تتحرك في قطعان ويصطادها الصيادون فرادى - يتسم بقدر أكبر من التقلب؛ ومن ثم فإنها تباع بسعر أعلى. وهذه هي الأسماك التي يتحدث عنها ديفيدسون (1997)، وهي نوع الأسماك الفريد الذي يؤخذ إلى الملك أو الإمبراطور عند صيده. وتقدم الروايات المتعلقة ببوليكريتيس ودوميتيان أمثلة عن ظاهرة الأسماك المميزة التي كان لا بد من أخذها مباشرة إلى أقوى فرد في المجتمع (هيرودوت 3، 41-43، و«المقطوعة الهجائية الرابعة» لجوفينال، وويلكنز 1993: 195-196).
شكل 5-3: تصور عملة التيترا دراخمة هذه من سيراقوسة الاستخدام المتكرر للأسماك على العملات المعدنية للمدن القديمة. وكانت الأسماك من بين الصور الكثيرة التي استخدمتها منشآت سك العملة المحلية للتعبير عن هوية تلك المدن وثرائها. (حقوق الطبع والنشر من أمناء المتحف البريطاني.)
وتفيد المقارنة مع المصادر في العصر الحديث أن الأسماك كانت في متناول الفقراء، وقد استشهدت في الفصل الثاني بالدليل الذي قدمه هيلتوسكي (2004) عن نابولي في القرن التاسع عشر. يذكر كامبوريزي (1993) توافر الأسماك لأفقر سكان المدن والريف في إيطاليا في القرن العشرين، والأسماك المتوافرة هي الرنجة أو السردين؛ وهذا يؤكد الدليل الذي تقدمه مصادرنا القديمة.
ثانيا: توجد أنواع كثيرة ومختلفة من الأسماك، وهو ما يفسح المجال لقدر كبير من الاستفاضة؛ فهذا التنوع الكبير من الأسماء والأشكال أتاح لأجناس أدبية معينة سرد أعداد هائلة من الأسماك ووصفها. ففي الثقافة الإغريقية، كان سرد أسماء الأسماك في المسرح الكوميدي من الفقرات المتوقع ظهورها في المسرحية في القرن الرابع قبل الميلاد، بما في ذلك أنواع من الأسماك يعجز عن شرائها غالبية الجمهور إلا فيما ندر (ديفيدسون 1997، ويلكنز 2000). كانت الأسماك الواردة في الأعمال الأدبية - مثل اللحم البقري المذكور في أعمال هوميروس - تسر المستمع دون أن يضطر لتذوق السمكة للاستمتاع بها.
شكل 5-4: يظهر الحبار المقلي والمطهي بالغلي في الكثير من الأطباق القديمة (أولسون وسينس 2000: 206). يذكر جالينوس وديسقوريدوس الاستعمالات الطبية؛ إذ يقول جالينوس إن الحبار مغذ ولكنه يؤدي إلى ظهور قدر كبير (وربما إلى حد خطير) من الأخلاط النيئة. وسلط أرسطو الضوء على ذكاء الحبار، وربما كان لذكائه هذا دور في ربطه بإلهة البحر ثيتيس. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
وتتعلق السمة الثالثة من سمات الأسماك بمذاقها اللذيذ. كان تناول الأسماك مستحسنا لدى من كان بوسعهم شراء الأسماك - كما يبين الكثير من النصوص - ولدى أركستراتوس بالتحديد. وكان استهلاك الأسماك منتشرا أيضا في روما، وذلك على الرغم من التفسير الروماني لتاريخ روما باعتبار أن شعبها يعتمد في كسب رزقه على الزراعة، ويعتمد في غذائه على الخبز المصنوع من القمح الثنائي الحبة ولحم الخنزير. يشير أوفيد في قصيدة «الأعياد» (6، 169) إلى أن الإلهة كارنا الراعية لمفصلات الأبواب - وهي إلهة الأيام الخوالي - تتوقع تقديم قرابين من لحم الخنزير ولحم الخنزير المقدد، وتزدري الأطعمة الحديثة مثل الأسماك والطيور المستوردة من شمال أفريقيا واليونان؛ وقد ذكرنا هذه الفقرة من قبل. وهذه صياغة متطرفة لهوية روما في عصر الجمهورية، ويبدو فعلا أنها كانت تقوم على اقتصاد زراعي قائم على المواطنين المزارعين، ولا بد من تذكر الأمثلة المقابلة لضمان رؤية متوازنة للصورة. كولميلا له كتاب عن الزراعة يقوم على أساس أيديولوجي شديد يهتم بالأرض والتقاليد، وهو لا يتردد في وصف المزارع السمكية، بل موقع الكائنات البحرية أيضا في مناطق معينة من البحر المتوسط. وكان من عادة كاتو الأكبر - الروماني المرموق من عصر الجمهورية، على حد تعبير بلوتارخ والكثير من الكتاب الآخرين - شراء الأسماك واللحم أيضا («كاتو الأكبر» 4، بلوتارخ)، وإن كان يحرص على تجنب الإفراط في الإنفاق على شراء قطع لحم باهظة الثمن. وفي كتاب «حياة أغسطس»، يخبرنا سيوتونيوس (76) أن الإمبراطور أغسطس كان يتبع النظام الغذائي الذي يتبعه عامة الناس وهو بمفرده، وكان ذلك النظام الغذائي يتضمن الأسماك.
ومن الممكن أن نناقش ثلاث أفكار استرشادية أخرى. يهتف بلينوس (في «التاريخ الطبيعي» 9، 53)، بعد مناقشة بخصوص المحار، قائلا: «لماذا أذكر هذه الأمور التافهة في الوقت الذي يشكل فيه المحار أكبر مصدر للفساد الأخلاقي والترف؟ الحقيقة أننا نجد البحر - من بين كل عناصر الطبيعة - مضرا للغاية بالمعدة بطرق لا حصر لها، وذلك بفعل المأكولات البحرية الكثيرة وأنواع الأسماك الشهية.» ثم ينتقل في فزع ليتحدث عن عادة ارتداء اللآلئ بصفتها صورة أسوأ بكثير من صور الفساد. ولعل فزع بلينوس يعززه أركستراتوس الذي يدرج عددا من التوصيات بخصوص المأكولات البحرية في كتابه «حياة الترف».
فمثلا في الشذرة 7 أولسون وسينس 2000، نقرأ:
أينوس يأتي منها بلح البحر الكبير الحجم، ومن أبيدوس يأتي المحار، ومن باريون يأتي السلطعون، ومن ميتيليني يأتي الأسقلوب ... ويمكنك شراء البطلينوس البيلاوري في ميسيني ...
وكان المضيف الذي يرغب في إبهار ضيوفه يقدم على مائدته المحار بالتأكيد. يذكر جوفينال قدوم واردات المحار من ريتشبورو في بريطانيا إلى روما؛ وليس المقصود من ذلك أن نقول إن المحار الصغير الحجم لم يكن متاحا للفقراء الذين كانوا يسكنون بالقرب من البحر. يقدم لنا الشاعر الهزلي الصقلي إبيكارموس من القرن الخامس قبل الميلاد مثالا على ذلك (الشذرة 42): «الحلازين البرية، وهي لا تحظى بقيمة كبيرة ورخيصة الثمن.» يستعرض كارالي (2000) أنواع المحار ويناقش فئات مستهلكيها.
ويفرق بعض النصوص بوضوح بين لحوم القرابين وبين الأسماك المباعة في السوق، ولكن توجد أدلة كثيرة على أن الاثنتين كانتا متاحتين في السوق، وكان يتسنى للكل شراؤهما ما عدا أشد الناس فقرا. وكانت أشكال اللحوم متنوعة مثل أشكال الأسماك؛ وكانت الأنواع والأسعار متنوعة إلى حد كبير. وكان من الممكن شراء أي منهما من أجل المناسبات المميزة، ولكن كل يوم كان بمنزلة مناسبة مميزة بهذا المعنى لدى المواطنين الأغنياء؛ ولذلك فمن المضلل للغاية أن يحسب جالانت الحصة السنوية للسعرات الحرارية التي توفرها الأسماك في النظام الغذائي للمواطن الإغريقي العادي، وأن يستنتج أن قيمة السعرات الحرارية للأسماك كانت ضئيلة بالمقارنة بحصة البقوليات والحبوب. ومن الممكن إجراء عملية حسابية مماثلة للحوم والخضراوات والفواكه، وكل هذه الأطعمة التي لا تحتوي على الحبوب أو البقول هي مكملات للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، وكانت تضفي الطعم والعناصر المغذية القيمة على الغذاء الأساسي الخالي من النكهة.
وكما هي الحال مع اللحوم، كان من الممكن حفظ الأسماك في الأوقات السمان للمساعدة في الأوقات العجاف. والأسماك أكثر عرضة للتلف من اللحوم، ولكن كل منهما مناسبة للتجفيف وخاصة عن طريق التمليح. وتمليح قطع لحم الخنزير المقدد - كما رأينا - هو المثال القديم، وكان يكثر في إيطاليا واليونان، وفي الوقت نفسه كانت لحوم الخنزير تستورد كذلك من فرنسا. وربما ينظر إلى طريقة الحفظ هذه بصفتها الاستراتيجية الحكيمة التي يتبعها المزارع الريفي الذي يخزن الطعام لوقت آخر؛ إذ تتيح له تجفيف الفواكه وتخزين الحبوب وحفظ الزيتون في محلول ملحي. وهذا النوع من استراتيجيات التخزين فعال حقا، ولكن للحفظ فوائد أخرى كذلك؛ فهو يعدل الطعم والقوام؛ ولذلك، فيما يتعلق بلحم الخنزير، نجد أن أشكال لحم الخنزير المقدد ولحم الخنزير من سيرانو أو بايوني أو بارما ولحم الخنزير المطهي؛ مختلفة تماما فيما بينها، ومختلفة كذلك عن الكثير من قطع لحم الخنزير الطازج. ويمكن تمييز الطعم بحسب عمليات المعالجة المستعملة؛ ومن ثم، فإن لحم الخنزير المقدد هو قطعا الخيار الأفضل بعد قطعة طازجة من لحم الخنزير. وينطبق الأمر نفسه على الأسماك أيضا. كان تمليح الأسماك من الأنشطة الكبرى في مناطق من بلدان البحر المتوسط قديما، كما يلاحظ مثلا في أماكن في إسبانيا والبحر الأسود وخليج نابولي، وسبق لأهالي قرطاج أيضا أن استعملوا أساليب مماثلة في عصر أقدم (راجع - على سبيل المثال - كورتيس 1991 و2005، ونيلسين وبيكر 2005).
ولم يكن من السهل تربية الأسماك - كما رأينا - على عكس الخنازير. ومن استثناءات هذه القاعدة المزارع السمكية في إيطاليا، التي كثيرا ما يشير إليها المؤلفون المتخصصون في شئون الزراعة، وكثيرا ما كانت هناك المزارع السمكية في عزب الموسرين. وبخصوص أنواع الكائنات البحرية، كان من المتوقع عموما ظهور قطعان الأسماك الزيتية من عام إلى عام، ولكن كان من الوارد في أي وقت ألا تظهر أو تصل بأعداد أكبر من المتوقع. وأنشئت في منطقة البحر الأسود - في القرن الرابع قبل الميلاد وصولا إلى العصر الروماني - منشآت كثيرة لتمليح الأسماك الصغيرة وشرائح الأسماك الكبيرة (تكثر الإشارة إلى «تيماشي»؛ وتعني الشرائح، كما تكثر الإشارة إلى تيماشي اللحم؛ أي شرائح اللحم) أو إنتاج صلصة جاروم. كانت للأسماك المملحة أشكال متنوعة، فضلا عن إمكانية نقلها بسهولة نسبية في جرار أو قوارير ضيقة، وهي الأواني الفخارية التي كانت تستخدم أيضا في حفظ الخمر. ويعلق أركستراتوس في كتابه «حياة الترف» على استحسان الأسماك المملحة. وكما رأينا في الفصل الأول، لم يكن مهتما بالسلع الرخيصة، بل إنه رفض الأسماك الصغيرة بصفتها «نفايات» (الشذرة 11، أولسون وسينس)، وكان لا بد من تقديم أدلة - إن وجدت - على أن الفقراء كان بوسعهم شراء أسماك المياه الضحلة الصغيرة مثل الأنشوفة.
في الشذرة 39 الواردة في أولسون وسينس، ينصح أركستراتوس بتناول:
شريحة من التونة الصقلية، التي قطعت قبل حفظها في جرار التخزين («بيكوي»). وأقول سحقا لسمكة «سابيرديس»، تلك السمكة اللذيذة من منطقة بنطس، وسحقا لكل محبيها. قليلون هم من يعرفون أنها طعام رديء وغير فعال. ولكن، في المقابل، يمكنك أن تتناول سمكة ماكريل، بعد ثلاثة أيام من خروجها من البحر، قبل نقعها في المحلول الملحي وبعد وضعها في الجرة بقليل؛ أي عندما تكون «نصف مملحة». ولكن إذا زرت المدينة المقدسة في بيزنطة الشهيرة ، فإني أستأذنك أن تأكل مرة أخرى شريحة من سمك «هورايون»، فهو لذيذ وطري.
وفي الشذرة 40 من أولسون وسينس، نقرأ - في إشارة إلى الأسماك المحفوظة الآتية من مضيق البوسفور - أنها «أشد الأسماك بياضا وترتحل آتية من مضيق البوسفور، ولكن دعونا لا نذكر اللحم القاسي للأسماك التي تعيش في بحر آزوف، وهي أسماك لا يجوز ذكرها في الشعر». والسمكة التي لا تليق بالأبيات الشعرية ذات التفعيلة السداسية هي سمكة «أنتاكايوس» أو الحفش.
يتحدث أركستراتوس عن أفضل قسم في السوق، وينصح محب الأسماك الفطن بالتجول في أنحاء بلدان البحر المتوسط بحثا عن أجود الأسماك. وفي رأيه أن سمكة «سابيرديس» ليست لذيذة بما يكفي، وهو رأي يشاركه فيه خبراء آخرون، حسبما يذكر أولسون وسينس في ملاحظاتهما عن هذه الفقرة. وعلى الرغم من أن أسماك التونة تصلح للتمليح، يبدو أن أركستراتوس ينصح باستعمالها قبل التمليح إذا كانت من صقلية أو من بيزنطة، مثل سمكة «هورايون»، وهي أفضل سمكة تصلح للحفظ. ويلقى استحسانه سمك الماكريل المملح تمليحا خفيفا، ولكنه لا يستحسن سمك الحفش المملح. ويستشهد أثينايوس بتعليقات عدد من المؤلفين عن الأسماك المملحة. يستحسن جالينوس («عن قوى الأطعمة»، 3، 40) الأسماك المحفوظة؛ لأن الملح وغيره من المواد الحافظة يبطل مفعول تراكمات الأخلاط الكثيفة - مثل البلغم - في الجسم. (1) المنتجات الحيوانية (1-1) العسل
كان العسل هو المادة المحلية الأساسية في العصور القديمة، بالإضافة إلى النبيذ ومنتجات الفواكه، خصوصا الفواكه المجففة؛ لأنها كانت تحتوي على سكريات مركزة. وكان علماء النبات يعرفون قصب السكر، ولكنه لم يكن يستخدم بكثرة في منطقة البحر المتوسط. وتحدث الكتاب القدماء كثيرا عن النحل، واهتموا بمناقشة إنتاج العسل وتنظيم خلايا النحل. تأتي مناقشات تفصيلية في كتابات فارو وكولميلا، وتأتي مناقشة شهيرة في القصيدة الرابعة من كتاب «جورجيك» من تأليف فيرجيل. ويدرج هذان الكاتبان نصائحهما العملية في قالب منمق من القصص الشعرية والأسطورية التي تتحدث عن النحل. وكان العسل مهما للغاية لكونه من مكونات الكعكات المخصصة للقرابين الدينية (راجع الفصل الرابع)، وكذلك الكعكات التي تقدم في القسم المخصص للتحلية بعد الطعام، ويطلق عليها «الموائد الثانية» في البلدان الإغريقية، وكانوا يأتون بتلك الموائد خلال جلسة الشراب. ومن وجهة النظر الطبية، نجد أن العسل كان يتسم بطابع مركب؛ إذ كانت له مزايا كثيرة، وكان فريدا لكونه طعاما حلو المذاق، ولكن كان له تأثيره في إضعاف أخلاط الجسم. ومع ذلك، كان من الوارد أن يؤدي العسل أيضا إلى الإصابة باضطرابات. ويناقش جالينوس هذه الطبيعة المزدوجة للعسل في كتابه «عن قوى الأطعمة» (1، 1)، مع أنه يتحدث أيضا عن بعض الأفكار الغريبة عن إنتاج العسل (3، 38). يناقش دالبي (1996: 47 و2003: 179-180) العسل ويقدم قائمة مراجع كاملة عنه. وأختلف مع ادعائه (1996: 47) بأن العسل كان «سلعة كمالية مترفة بالأساس»، ما دام ادعاؤه هذا يوحي بأنه لم يكن متاحا إلا لقليلين في العصور القديمة؛ فبالأحرى كان العسل متاحا للكثيرين، ولكن ليس بكميات كبيرة على الأرجح. (1-2) الحليب
قد يدفعنا الاطلاع على ديفيدسون 1999 و«لاروس جاسترونوميك» إلى توقع استخدام الحليب والجبن على نطاق محدود في الأراضي الأقل خصوبة من بلدان البحر المتوسط في العصور القديمة؛ بل قد يدفعنا أيضا بعض النصوص إلى أن نفترض أن الإغريق والرومان لم يكن من عادتهم شرب الحليب. يخبرنا أثينايوس، على سبيل المثال، أن:
الجميع يتفق على أن الماء مغذ، ويتضح ذلك من حقيقة أن كائنات معينة - مثل حشرة زيز الحصاد - تتغذى على الماء فقط. والكثير من السوائل الأخرى مغذية أيضا مثل الحليب وماء الشعير والنبيذ. ويعيش الأطفال الرضع على الحليب على الأقل، والكثير من القبائل تعيش على شرب الحليب.
وتحتوي اللغة اليونانية على كلمة «جالاكتوبوتين»، ومعناها «شرب الحليب»، وتصف ذلك الفعل بأنه نشاط مميز يختلف عن شرب النبيذ أو شرب الماء. ويذكر عن المسخ سايكلوب في الجزء التاسع من ملحمة «الأوديسا» أنه يشرب الحليب ولا يعرف النبيذ. وتعرف هذه العادة أيضا عن السكوثيين والليبيين - وهم الشعوب الرعوية التي كانت تقطن الحدود الشمالية والجنوبية للعالم الكلاسيكي القديم - وتعرف كذلك عن الفرنسيين والبريطانيين. وتميز عادة شرب الحليب راعي الغنم والبدوي والرعوي في كثير من النواحي، حتى إن من يشربون الحليب يوصفون بأنهم مختلفون عن الإغريقي أو الروماني المتحضر (شو 1982-1983 وجارنسي 1999). كان واردا آنذاك - في الكتابات المعنية بالتراث العرقي وغيرها من الكتابات - وصف من يشربون الحليب بأنهم يختلفون عنا «نحن» المتحضرين.
ومع ذلك، لا بد أن نضع بجوار هذه السمة سمات أخرى، وهي أنه كان ثمة الكثير من الرعويين في البلدان الإغريقية والرومانية؛ كانوا يربون الغنم والماعز - والبقر بدرجة محدودة - من أجل الحصول على ألبانها وأصوافها، وبالقدر نفسه من أجل لحومها، إن لم يكن أكثر. وكان الرعويون ينتمون للعالم القديم. ولكن، يستخدم يوربيديس مصطلح «الذي يشرب الحليب» ليصف ريفيا يأتي إلى القصر الملكي في مسرحيته «إليكترا». وما ينبغي أن نستنتجه على الأرجح من هذا الدليل هو أن استهلاك الحليب كان في كثير من الأحيان نشاطا ريفيا، وليس نشاطا حضريا. وكان الأطباء ينصحون بالحليب، ولكن المنتج المشتق من الحليب - الذي كان أكثر توافرا في المدن - كان الجبن على الأرجح. ولا بد أن نفرق أيضا بين من كانوا يشربون الحليب لا النبيذ، وبين من كانوا يشربون الصنفين.
وتأتي مناقشة مستفيضة عن الحليب في كتابات جالينوس، ونجد هذه المناقشة في كتبه «عن المحافظة على الصحة» (هايجينا) (5، 7)، و«عن قوى الأطعمة»، و«عن النظام الغذائي المستخدم في تخفيف الأخلاط». ومن الواضح أنه يتوقع أن يعالج الأطباء آثار الحليب على الجسم. اهتم الأطباء بالحليب المأخوذ من حيوانات مختلفة، واكتشفوا أن لكل نوع منها - كما هي الحال في العالم الحديث - خواص مختلفة للغاية. وكما رأينا، كثيرا ما يصف أمزجة تتكون من الحليب أو الماء - وذلك في كتابه «عن قوى الأطعمة» - وثمار البلوط والكثير من أنواع الدقيق؛ فهذا المزيج من المكونات التي تمزج مع العصيدة، ووسيلة تمكن الريفيين من تخزين الحليب وحفظه. ويصف فوكسهول وفوربز (1982) كيف يمكن - في كريت في القرن العشرين - استخدام أمزجة الحليب والدقيق هذه في صنع قوالب مستطيلة الشكل وتجفيفها في الشمس لاستخدامها في الشتاء. ولم يكن الريفيون وحدهم هم الذين يستهلكون الحليب. يذكر بلينوس الأصغر - وكان يملك فيلات فخمة في منطقتي توسكاني ولاتيوم - أن الحليب متوافر له بسهولة.
وتوجد أدلة على إنتاج الزبد في العصور القديمة، وربما كان إنتاج الزبد أكثر انتشارا مما يبدو عليه، كالحال تماما مع شرب الحليب وصنع الجعة. ومن الوارد أن مناطق من اليونان وإيطاليا كانت تستخدم كميات كبيرة من الزبد وغيرها من الدهون الحيوانية، ومن المرجح أن استخدام زيت الزيتون لم يكن منتشرا. تشير مسرحية كوميدية إغريقية بازدراء إلى عادة أكل الزبد في تراقيا (أناكساندريديس، التي سبق أن استشهدنا بها في الفصل الثاني). والأدلة الإيطالية أكثر وضوحا. يصف بلينوس صناعة الزبد، ولكن معظم الأدلة المتعلقة باستخدام الزبد في إيطاليا تخص الاستعمالات الطبية؛ إذ كان يستعمل كمادة لينة (كورتيس 2001: 399-400).
وكان الجبن من منتجات الألبان الرائجة في البلدان الإغريقية والرومانية في البحر المتوسط، وكان ينتج على نطاق واسع، ويتفاوت إنتاجه بحسب الموقع، وكان يتسنى الحصول عليه بأشكال كثيرة ومتنوعة في المدن نظرا لسهولة نقله؛ ومن ثم استطاع الخبراء انتقاء الأجبان، شأنها شأن أنواع الخمور والأسماك. ويعطي بلينوس فكرة عن أنواع الأجبان المتوافرة. وكان ينتشر استخدام الجبن أيضا في صنع الكعكات (شأنه شأن الحليب فيما يبدو)، ويمكن استخدام الجبن أيضا لإضفاء نكهة على أطباق أخرى، حتى الأسماك، كما يذكر أركستراتوس باستهجان. وكانت هناك أيضا أشكال أخرى من منتجات الحليب في العصور القديمة؛ راجع دالبي (1996، 2003).
مقدمة الفصل السادس
تجارة النبيذ الحديثة يشوبها الزهو والعجرفة، وتنتابها سخافات الوصف عند محاولة المقارنة بين أنواع نبيذ مختلفة وتقييمها. ويعزى هذا جزئيا إلى المفردات التي لا تكفي لوصف أي فروق في النكهة، بالإضافة إلى الفارق الهائل في تكلفة أنواع النبيذ المرغوب فيها والنادرة بالمقارنة بالأنواع المتوافرة التي تنتج على نطاق واسع. ومع ذلك، فإن الميزات النسبية التي يتسم بها نوع معين من النبيذ مقابل نوع آخر كثيرة للغاية، وتكفي لأن تملأ مكتبة من الكتب والمجلات.
ونجد في الفترة الزمنية التي يتناولها هذا الكتاب من العصور القديمة إشارات متفرقة إلى وجود أنواع من النبيذ، منها ما هو أفضل ومنها ما هو أسوأ، فضلا عن تأملات متفرقة في الجودة الممتازة للنبيذ المصنوع في ليسبوس على سبيل المثال، وبمرور الزمن تتفوق أنواع النبيذ القادمة من مناطق معينة بميزات إضافية. ولكن، يبدو عموما أن النبيذ من المشروبات المحلية وليس المستوردة، على الأقل في الأماكن التي كانت تستطيع إنتاج النبيذ محليا. ربما يكون أركستراتوس قد تحدث بلهجة العالم بحقائق الأمور عن أفضل مكان وأفضل وقت من العام للعثور على سمكة القاروس، ولكن لم يكن يوجد نظير لروبرت باركر في إرشاد الطبقات المغرمة بشرب المسكرات كما هي الحال في الوقت الحاضر، ويمكن مقارنة ذلك بالمناطق المنتجة للنبيذ حاليا. قد يكون من الصعب العثور على نبيذ البورغندي (نسبة إلى منطقة البرغندي الفرنسية) في مدينة بوردو الفرنسية، والعكس صحيح. ولكن، من الأسهل بكثير العثور على مثل هذه الاختيارات في باريس ذات الطابع العالمي الذي يجمع كل الأجناس؛ إذ تقع باريس في أقصى الشمال على نحو يحد من قدرتها على إنتاج أي شيء محليا للدخول به في سباق المنافسة.
ومن الصعب تقدير أي فروق في الشكل والنوع بين النبيذ آنذاك وحاليا. يقال إن الكثير من أنواع العنب اليونانية تربطه صلة مباشرة بالعصور القديمة، ولكن لا بد أن ألفي عام من الزراعة قد غيرت قطعا من محاصيل العنب التي تزرع وأنواعها. كان النبيذ يخزن وينقل في جرار كانت تصنع بحيث تكون مقاومة للماء بفضل طبقة داخلية من الراتينج، الذي كان يؤثر على النكهة مثلما تضفي الريتسينا نكهة على الخمور القادمة من اليونان حاليا. وهذا الإفساد الحميد شائع في الكثير من المشروبات الكحولية بالطبع، ولعل نكهة البلوط التي تضفيها طريقة التخزين التقليدية التي تستخدم البراميل يعزى إليها جزء من جاذبية الكثير من أنواع النبيذ والويسكي والبراندي.
وبالمثل يؤدي تخفيف أنواع النبيذ، أو حتى تحليتها بشراب العنب، إلى إضعاف أي فروق بين كميات مختلفة من النبيذ؛ فالمهم فيما يبدو هو الآثار المترتبة لا التفاصيل الدقيقة.
الفصل السادس
النبيذ وعادات شرب الخمر
أسرع بالحضور لتناول العشاء، وأحضر معك صندوقك وإبريقك؛ فقد أرسل كاهن ديونيسوس لطلبك. أسرع! فأنت تعطل العشاء لبرهة . كل شيء آخر جاهز؛ الأرائك والموائد والوسائد والأغطية والأكاليل والعطر وأطباق الحلوى، والعاهرات أيضا حاضرات. والكعكات اللذيذة متوافرة، فمنها الكعكات المسطحة وكعكات السمسم وكعكات العسل، والراقصات حاضرات - وهن المفضلات لدى هارموديوس - وهن جميلات أيضا.
إن هذه الدعوة الهزلية المقتبسة من مسرحية «الأخارنيون» لأريستوفان (1086-1093) تحدد مكان مأدبة العشاء وجلسة الشراب في المناسبة نفسها، وهي «مأدبة العشاء». وهي مناسبة مميزة عبارة عن مأدبة احتفالية في منزل كاهن، يدعى إليها الرابح في مسابقة احتساء المشروبات الروحية المقامة في عيد أنثيستيريا. وأناقش هذا الاحتفال فيما يأتي. كما ذكرنا في الفصل الثاني، يفصل بين الجنسين في المأدبة الإغريقية؛ إذ لا يحضرها من النساء إلا ذوات المكانة المتواضعة.
يتعلق هذا الفصل بالنبيذ والمشروبات الكحولية والحفلات الاجتماعية - لا سيما وسائل الترفيه - التي كانت تصاحب احتساء النبيذ. والفكرة الأولى المراد إثباتها هي أن شرب النبيذ - الذي كان عادة ما يخفف بالماء - كان منتشرا في أنحاء البلدان الإغريقية الرومانية، حتى إن مصطلح «شارب الماء» كان يستخدم استخداما بلاغيا كإهانة. كان النبيذ من المواد القليلة المسببة للإدمان في العصور القديمة؛ ولذلك كان استخدامه يخضع لمراقبة القانون في بعض الأحيان. وثمة ادعاءات على الأقل بوجود قوانين من هذا النوع تتعلق بالنساء في ظل الجمهورية الرومانية. وكان شرب النبيذ يرتبط بعدد كبير من الطقوس الدينية، منها ما يؤديه الناس في الاحتفالات الرسمية وكذلك في المنزل. وكان إنتاج النبيذ والاتجار به من الأنشطة التي لها أهمية اقتصادية كبرى. وكان النبيذ يرتبط كذلك بإلهام الكتابة والغناء، وذلك من خلال المظهر الاجتماعي الذي يعبر عن النبيذ ويتمثل في جلسة الشراب. وكانت جلسة الشراب القديمة مناسبة تشهد إلقاء الكثير من الأشعار، وكان الشعر يعبر عن ذلك (بووي 1986)، وسوف نستشهد بأمثلة من كزينوفانيس وسافو وثيوجنيس وأناكريون فيما يأتي. وكانت تنشأ عن جلسات الشراب القديمة تأملات فلسفية، وكانت الألعاب والأنشطة المرتبطة بجلسات الشراب تنشأ عنها كتابات أدبية كثيرة، وأفضل مثال لذلك يتمثل في الأعمال الأدبية اللاتينية في شعر هوراس، وفي الأعمال الأدبية الإغريقية مثل كتابات أثينايوس.
شكل 6-1: لوحة فسيفساء تصور مباراة لاحتساء الخمور بين ديونيسوس (إله الخمر) وهرقل (نصف الإله الشره)، عثر عليها في أنطاكيا في سوريا، في عام 100 ميلاديا تقريبا. وفيها يظهر إله ونصف إله يتنافسان في مباراة لاحتساء الخمور، وأواني الشراب موضوعة في مقدمة اللوحة. يحتفظ الإله الذي يظهر في وضع الاتكاء بهدوئه وهو الرابح كما هو واضح. كثيرا ما كان الجالسون لتناول الطعام يحظون برؤية رسوم على الأرضيات والجدران والصحون تصورهم أو تصور نسخا أسطورية من أنفسهم؛ وذلك للمساعدة على التفكر في العالم المتحضر داخل غرفة الطعام (حقوق الطبع والنشر محفوظة لمتحف ورسيستر للفنون، في ولاية ماساتشوستس، مصدر الصورة:
www.bridgemanimages.com/en-GB/ ).
كان أنثيستيريا عيدا لديونيسوس، وكان الإغريق يؤمنون بأن ديونيسوس إله يشوبه الغموض؛ إذ كان - على حد تعبير يوربيديس - رهيبا جدا ولطيفا جدا في آن واحد، وكان يتعدى الحدود الفاصلة بين المتناقضات؛ إذ كان يمزج الذكوري بالأنثوي، والإغريقي بالأجنبي، وعالم المدن بعالم الطبيعة، وكان من الآلهة التي ترتبط ذهنيا بالموتى وكذلك بالأحياء. وهو أيضا الذي أدخل العنب إلى اليونان، وكانت لهذا الإله المرتبط بعالم الطبيعة القدرة على خلق الأطعمة - مثل الحليب والعسل - تلقائيا من الصخور والنباتات، كما يصف يوربيديس في مسرحيته «الباخوسيات»، وكان بوسعه أيضا أن يجعل الأنهار تجري بالنبيذ بدلا من الماء. ويصف فيلوستراتوس لوحة جدارية يتخيل أنها موجودة في منزل في نابولي (كتاب «الأيقونات» 1، 25):
نهر النبيذ الذي يجري على جزيرة أندروس - وأهالي أندروس الذين أسكرهم النهر - هو موضوع هذه اللوحة؛ فبفضل ديونيسوس، أصبحت أرض أهالي أندروس مليئة بالنبيذ، حتى إنه يتفجر منها وينساب إليهم نهرا؛ فإذا كنت تظن أنه يتدفق بالماء فهو ليس نهرا عظيما، أما إذا كان يتدفق بالنبيذ فهو نهر عظيم، أجل، بل نهر إلهي! إذ إن من يشرب منه من المرجح أن يزدري نهري النيل والدانوب، وربما يقول عنهما إنهما كانا سينالان قدرا أكبر من التقدير أيضا إذا كانا أصغر مساحة، بشرط أن يتدفق خلالهما ما يتدفق من هذا النهر.
يتحدث فيلوستراتوس عن الفيلات الفاخرة في منطقتي كامبانيا وتوسكاني، التي كانت مألوفة في الثقافة الإغريقية بقدر ما كانت مألوفة في الثقافة الرومانية (إن أمكن فصل الثقافتين). وتوجد صور مماثلة لديونيسوس في فيلات في مدينة بومبي وغيرها من المدن في خليج نابولي. وكان الرومان يعبدون ديونيسوس بصفته ليبر - أو باخوس - وهو أحد الألقاب التي أطلقت على أتباع الإله ديونيسوس. وكان باخوس من الآلهة الإغريقية التي دخلت إلى روما في القرن الثالث قبل الميلاد بهدف الحفاظ على المدينة من القرطاجيين وغيرهم من عوامل التهديد الخارجية. ولكن الإله ربما يصبح أيضا أحد عوامل التهديد، ففي عام 186 قبل الميلاد قضى مجلس الشيوخ على الملة النسائية باخاناليا خوفا من حدوث مؤامرة مناهضة للدولة؛ وهذه الأفكار الملتبسة تظهر في الملة. كان عيد أنثيستيريا (أو الزهرة) في مدينة أثينا والمدن المطلة على البحر الأيوني في آسيا الصغرى يحتفل ببدء موسم النبيذ الجديد، في أوائل الربيع وليس في الخريف مثل نبيذ بوجوليه نوفو. ويصف بيركرت (1985: 237) المشهد:
في معبد ديونيسوس «إين ليمنايس» كان أهالي مدينة أثينا يمزجون النبيذ للإله من الجرار التي أخذوها معهم إلى هناك، ثم يتذوقونه بأنفسهم ... وكتعبير عن ابتهاجهم بالمزيج، كانوا يحتفلون بديونيسوس بالأغاني ويرقصون ويستحضرونه بصفته منبت الأزهار وملهم القصائد الحماسية والمعربد وجالب الريح.
فيما يأتي وصف يقدمه مؤرخ محلي من أتيكا (فانوديموس، شذرات المؤرخين الإغريق 325، الشذرة 12، التي يستشهد بها أثينايوس) لبداية الاحتفال في اليوم الحادي عشر من شهر أنثيستيريون:
يوضع أول قطف من محصول العنب الجديد - باكورة الحصاد - في المعبد الذي لا يفتح إلا عند الغروب. يعج اليوم بالتحضيرات؛ إذ تنقل الأواني الفخارية بعربات تجر باليد، قادمة من حقول العنب الصغيرة المتناثرة في أنحاء الريف، ويتدفق إلى المدينة صغار الفلاحين والعمال المشتغلون بنظام الأجر اليومي والعبيد، وينتظر الأصدقاء والغرباء حتى حلول الليل خارج المعبد، ثم يفتحون الجرار ويريقون الخمر إجلالا للإله وتكريما له ليحظى بلحظات إراقة الخمر الأولى.
وفي اليوم الثاني - «كوييس» - كانت تفتح جرار النبيذ ويتنافس الرجال على الشرب من أباريق كبيرة؛ وكان العبيد والأطفال يشاركون أيضا، باعتبار هذا الطقس من طقوس إدماج الطفل الصغير في الأسرة. وكان اليوم الثاني يتسم بسلبيات أيضا؛ إذ كان المنزل والمدينة عرضة لاجتياح الموتى. وكانت هناك أيضا صورة أخرى من صور احتساء الخمر، وفيها ينطلق صوت نفير، وعندئذ يشرع الجميع في احتساء كميات متساوية من الشراب معا في آن واحد، ولكن في صمت وكل منهم جالس على مائدة منفردة. ويقال إن هذه العادة كانت إحياء لذكرى وصول أوريستيس إلى مدينة أثينا ويداه لا تزالان ملوثتين بدماء أمه كليتيمنيسترا. وفي هذا اليوم أيضا، زوج والي الملك - وهو أحد كبار القضاة في المدينة، الذي كان قد أنشأ نظام احتساء الخمور على نحو انفرادي - زوجته لديونيسوس في معبد ديونيسوس في المستنقعات، في مكان ما جنوبي قلعة أكروبوليس. وفي اليوم الثالث من العيد - ويعرف باسم «خوتروي» أو القدور - كان يسلق خليط الحبوب مع العسل في القدور. ويعلق بيركرت (1985: 240) على ذلك قائلا: «هذا هو أكثر طبق بدائي من أطباق الحبوب عرفه المزارعون الأوائل، وهو أقدم من اكتشاف طحن الدقيق وصنع الخبز؛ ونشأ ضمن العادات الجنائزية واستمر حتى وصل إلى الوقت الحاضر.» وتقدم الكلمة اليونانية الحديثة «كوليفا» مثالا على المزيج الجنائزي الذي تحدث عنه بيركرت. وحسبما يذكر بيركرت، فإن العصيدة البدائية يعود أصلها إلى أسطورة الفيضان. وفي نهاية اليوم، يطلب من الموتى الرحيل.
يجمع الاحتفال بين موسم النبيذ الجديد والموت، ويجمع بين الأسرة والمدينة، ويجمع بين إدماج النبيذ الجديد وأفراد الأسرة الجدد وأفرادها من الموتى. وتوجد أدلة قوية على الصلة التي تجمع النبيذ والموت، ويمكن ملاحظة هذه الصلة في أسطورة إيكاريوس، وفي أناشيد هوراس (1، 9)، وفي العبارات المفككة التي يتفوه بها تريمالكيو وهو سكران في النص الذي ألفه بيترونيوس. كان إيكاريوس يعيش في قرية إيكاريا، على المنحدرات الشمالية من جبل بنتلي في أتيكا، وحين أتى ديونيسوس بنبيذه إلى أتيكا، قبل إيكاريوس النبيذ وتقاسمه مع جيرانه، وحين سكروا خافوا (مثل بنتيوس - ملك طيبة - في مسرحية «الباخوسيات») أن يكون قد حاق بالقرية مكروه بدلا من أن يكون قد حل بها خير، وقتلوا إيكاريوس وشنقت ابنته إريجوني نفسها فوق شجرة صنوبر. وأدمجت هذه القصة الحزينة ضمن احتفال أنثيستيريا (وكذلك عادة احتساء الخمر انفراديا إحياء لذكرى أوريستيس الذي قتل أمه)، وصنعت قدور عليها رسوم تصور فتيات يجلسن على أرجوحات، في إشارة إلى إريجوني. وما زال الموقع الجميل الذي كانت تحتله قرية إيكاريا محتفظا بأشجار الصنوبر، وعثر هناك أيضا على تمثال من القرن السادس لديونيسوس، وعثر أيضا على مسرح كانت تمثل عليه الأساطير العنيفة التي تتصل بإله الخمر (من بين آلهة أخرى، على الأرجح). وما زال يوجد أيضا نصب تذكاري يعود للقرن الرابع، يسجل انتصار أحد رعاة العروض التمثيلية التي كانت تقام في ذلك المسرح. ومن الممكن أن نشير أيضا إلى الأفكار الملتبسة الواردة في مسرحية «الأخارنيون» من تأليف أريستوفان؛ ففيها يعيد البطل ديكايبوليس عيد ديونيسيا إلى بلدته، ويربح في مباراة احتساء الخمور في احتفال أنثيستيريا، وهما ميزتان. ومع ذلك، يرى الكثير من المعلقين (بووي 1993، فيشر 1993) أنه يتصرف بأنانية بما يتعارض مع مصالح مواطنيه (وترد مناقشة لهذه الفكرة في ويلكنز2000: الفصل الثالث)، ويذكرنا بمن يشربون الخمر بمفردهم تقليدا لأوريستيس. وتشكل الموضوعات السوداوية الكئيبة في المسرح الكوميدي أهمية كذلك، وإلا فقد نعتقد (مثل هينريكس 1990) أن ديونيسوس الرهيب كانت تصوره المسرحيات التراجيدية فقط، وأن ديونيسوس المرح البهيج كانت تصوره المسرحيات الكوميدية فقط.
وتتمثل صعوبات التعامل مع المشروبات الكحولية في عدة صور: في الشعر الذي يحث على الاتزان وضبط النفس، وفي طقوس احتساء الخمور التي توازن بين السكر الجماعي وبين الحذق والظرف، وفي القصص التحذيرية التي تتناول حالات سكر خرجت عن نطاق السيطرة. وعلى الرغم من الأخطار التي يسببها الخمر واحتساؤه، كان الخمر يحظى باحترام كبير في العصور القديمة، وكان دائما ما ينظر إلى جلسة الشراب - وهي قسم من المأدبة كانوا يحتسون فيه الخمر في الثقافة الإغريقية وكثيرا في الثقافة الرومانية - بصفتها اللحظة التي تتجلى فيها الحكمة والتأملات الثقافية . أما القسم المخصص لتناول الطعام من المأدبة، فكان نادرا ما يحظى بتلك المكانة. (حقق الحاضرون في المأدبة التي صورها أثينايوس في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي » تلك المكانة، ولكن ذلك الكتاب حالة خاصة.)
ليس من المؤكد أن الخمر كان منشؤه في الشرق الأدنى، وأنه دخل عن طريق ديونيسوس حسبما تقول الأسطورة أو عن طريق نقل تكنولوجيا تصنيعه إلى البلدان الإغريقية الرومانية. ربما تكون زراعة العنب - كما هي الحال مع غيره من النباتات المزروعة - قد نشأت دون مساعدة خارجية في عدة مواقع؛ ولذلك يدعي ماكغفرن (2003) - استنادا إلى أحدث دليل متاح قائم على تحليل الحمض النووي - أن العنب المزروع وليس البري نشأ فيما يبدو في مناطق في شرق تركيا قبل عام 5000 قبل الميلاد. ويبدو أن ما وصلنا إليه حاليا من أدلة ومعلومات، يشير إلى أن العنب انتشر من هناك إلى بلاد الرافدين وأوروبا. ويتناول ماكغفرن أيضا الأدلة التي تثبت مزج النبيذ بالجعة وبالكثير من النكهات الأخرى في الشرق الأدنى، ويأتي عدد منها (فيما عدا الجعة) في كتابات المؤلفين الرومان.
شكل 6-2: رحلة ديونيسوس بحرا؛ حين حول ديونيسوس صاري السفينة إلى فرع عنب، وحول القراصنة الذين أسروه إلى درافيل، الأمر الذي يعبر عن قدرته هو والنبات الذي يقدسه على التبدل والحركة. في الفكر القديم، كان العنب جزءا ضروريا من البلدان الإغريقية الرومانية المتحضرة، ولكن كان يعرف أنه قد جاء - شأنه شأن نباتات أخرى - من أراضي الشرق. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من متحف المجموعات الأثرية الوطنية ومتحف جليبتوتيك في ميونخ.)
يرجع الكثير من طقوس الشراب والطعام إلى ما بعد عهد هوميروس، ورأينا أن الاتكاء - وليس الجلوس إلى المائدة - كان من بين هذه التطورات المهمة. وتشير الأدلة الأثرية إلى أن النبيذ كان معروفا في العصر البرونزي لدى الحضارة المينوية وحضارة مايسيني، وذلك في صورة أقداح الشراب وجرار النقل ورواسب كيميائية. وتثبت هذه الأدلة استخدام أنواع النبيذ المنكه بالراتينج والنبيذ المنكه بنباتات مثل إكليل الغار والسذاب. ويقدم ماكغفرن (2003) أدلة على وجود أنواع النبيذ المنكه بالراتينج في الشرق الأدنى قبل ذلك ببضعة آلاف عام؛ فعملية إضافة النكهات هذه موجودة أيضا في الفترة التاريخية. وعلى حد علمنا، فإن قصائد هوميروس تخلو من أي جلسات شراب رسمية من هذا النوع، ولكن يوجد الكثير من سمات احتساء الخمور التي ترتبط بالشكل الأحدث لجلسات الشراب؛ فالأبطال في أعمال هوميروس الذين يحلون ضيوفا على منزل مضيف عادة ما يقدم إليهم مضيفهم طعاما وشرابا عند وصولهم (في الجزء الرابع من ملحمة «الأوديسا»، مثلا). وعادة لا يوجد فصل ملحوظ بين تناول الطعام واحتساء المشروبات. يستعمل هوميروس بالأحرى العبارة الكثيرة التكرار: «وحين أشبعوا رغبتهم في تناول الطعام واحتساء الخمر ...» فتناول الطعام واحتساء الخمور يأتيان في مرحلة واحدة؛ وعندئذ ينتهي وقت تناول الطعام، ويحين الوقت للتوجه لأنشطة أخرى، مثل النوم والحديث وقص الحكايات والغناء والرقص، ويصاحب ذلك احتساء النبيذ الذي يمزج في إناء عميق أو وعاء مزج الخمر.
وفي الفترة اللاحقة لتلك الفترة في العصور القديمة، نجد أن قص الحكايات والغناء والرقص وغير ذلك من أوجه الترفيه قد أصبحت فيما يبدو من سمات جلسة الشراب. ولكن بحلول عصر الإمبراطورية في روما أصبح احتساء الخمور أقرب إلى النموذج الوارد في أعمال هوميروس؛ فاحتساء الخمور يبدأ في مرحلة مبكرة - في بيترونيوس وأثينايوس بأي حال من الأحوال - إذ يقدم النبيذ إلى الضيوف في البداية. وتتخلل وسائل الترفيه أيضا المأدبة المقامة في منزل تريمالكيو. أما في «مأدبة الحكماء» لأثينايوس، فإن الحديث الذي يتبادله حاضرو المأدبة ويتصدر أنشطتهم يستمر بلا انقطاع منذ البداية، مع أنه يقال إن وسائل الترفيه تقدم في جزء المأدبة المتعلق بجلسة الشراب. والدليل الذي يقدمه أثينايوس مهم للغاية لمقاصدنا؛ إذ إنه يكتب في أواخر المدة التي نتناولها في هذا الكتاب، ويلخص العادات السابقة على هذه المدة. وهو يصف أيضا مأدبة ذات طابع إغريقي في روما، ويمزج بين الثقافتين من نواح كثيرة.
وبالمقارنة بطرق احتساء الخمر التي ظهرت فيما بعد، نجد أنه يمكن وصف احتساء الخمر في أعمال هوميروس بأنه نموذج لأفضل العادات، وهذا هو بالضبط الادعاء الذي يرد في الجزء الخامس من كتاب أثينايوس. وجدير بالذكر أيضا أن تفاصيل عادات تناول الطعام واحتساء الخمور لا ترد عادة في قصائد هوميروس. ونجد أن «الرغبة في تناول الطعام واحتساء الخمر» تسيطر على الكثير من التفاصيل الواردة في الكثير من الفقرات، وفي فقرات أخرى ترد «كل أنواع الأطعمة» (دون تحديد). وتتناول القصائد تحضير اللحم بالتفصيل، وتتناول تحضير النبيذ بقدر أقل من التفاصيل؛ وهو ما يتناقض تناقضا ملحوظا مع العصور التي أعقبت هذا العصر.
ونجد أيضا أن من يتناولون الطعام ويحتسون الخمر في أعمال هوميروس يجلسون على مقاعد. وفي مرحلة لاحقة من العصر الإغريقي القديم أدخلت تغيرات مهمة في عادة جلسة الشراب فيما يبدو، وذلك كما جاء في الفصل الثاني. وأبرز هذه التغيرات هي «كليني» - أو الأريكة - التي كان يتكئ عليها من يتناول الطعام أو من يحتسي الخمور؛ ويبدو أن هذه العادة قد جاءت إلى البلدان الإغريقية من الشرق الأدنى، وانتشرت غربا إلى الإتروريين والرومان. ثم جاءت الأواني الخزفية أيضا لتزيين موائد من يحتسون الخمور؛ مثل الأقداح وأوعية المزج والمغارف المخصصة لغرف النبيذ والمصافي والمبردات. وكل هذه الأدوات كانت تزخرف بزخارف منمقة، وكانت الأواني تزخرف أيضا بالذهب والفضة، وهو ما أخذ يزداد شيوعا بدءا من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما قبل ذلك بكثير (فيكرز وجل 1994). وكان من بين الأمور اللافتة للغاية إدراج احتساء الخمور في عرف اجتماعي أخلاقي، لتوجيه من يشربون الخمور لاتباع منزلة وسطى بين السكر وعدم المشاركة تماما في احتساء الخمور. كان التوازن مطلوبا في شتى المجالات، وكان هذا يشمل التوازن الاجتماعي، مثل السلوك المناسب بين الأشخاص ذوي المكانة المتماثلة، والسلوك اللائق سياسيا، والسلوك المناسب بين الأقران. ويظهر بوضوح في الكثير من الشعر الإغريقي القديم عرف أرستقراطي يعزز النظام السياسي للمدينة ذات الحكم الذاتي الآخذة في التطور.
ونشأت كل الأغاني وصور الشعر الجديدة التي تكمل ملاحم هوميروس ووسائل الترفيه المصاحبة لجلسات الشراب في العصر القديم. كان لشعر الرثاء وشعر التفعيلة العمبقية صلات قوية بجلسات الشراب.
والآن، أخيرا كنست الأرض وصارت أيادي كل الضيوف نظيفة، وكذلك أقداحهم، ويضع أحد العبيد الأكاليل المجدولة على رءوسهم، ويقدم عبد آخر عطرا حلو العبير في صحن صغير، ووعاء المزج يبدو مملوءا بالطيبات، وأنواع النبيذ الأخرى جاهزة وتعد بألا تنفد أبدا، والنبيذ المعتق في الجرار يفوح بعبيره، وفي خضم ذلك ينبعث من البخور عطره المقدس، ويوجد ماء بارد وصاف. والأرغفة الصفراء جاهزة في المتناول، وتئن مائدة فخمة بثقل الجبن والعسل الشهي، وفي الوسط يوجد هيكل تحفه الزهور، ويعج البيت بالغناء والرقص والعطايا. ولكن الرجال المحتفلين عليهم أولا حمد الإله بالقصص الورعة والكلمات النقية، وعليهم أداء طقوس إراقة الخمر والصلاة طلبا للقوة التي تمكنهم من فعل الصواب (فذلك هو الواجب الأقرب)، ليس من الخطيئة أن تشرب قدر استطاعتك على أن تظل قادرا على العودة إلى منزلك دون مرافق، إلا إذا كنت متقدما في السن. فنعم ذلك الرجل الذي يظل يعبر عن أفكار جميلة حتى وهو يحتسي الخمر، وذلك حسبما تسعفه الذاكرة، وحماسه للفضيلة في أوجه! وليس من الحكمة أن يحكي عن مشاجرات الجبابرة والعمالقة أو عن مشاجرات وحوش القنطور، أو عن قصص الرجال من العصور السابقة أو مشاداتهم العنيفة؛ فذلك يخلو مما يفيد، ولكن من الصواب دوما احترام الآلهة. (كزينوفانيس، الشذرة 1 ويست، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
لا يعجبني من يتحدث وهو يحتسي قدح النبيذ بجوار وعاء المزج المملوء، ويحكي عن الصراعات والمشاجرات الكئيبة، بل يعجبني من يمزج الهبات البهية التي تمن بها ربات الإلهام وأفروديت ومن يدرك دوما قيمة اللهو والمرح. (أناكريون، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
تعالي يا إلهة الحب وصبي برقة من الأقداح الذهبية الرحيق المخلوط الذي سنتناوله في لهونا. (سافو، ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
يركز الكثير من الشعر الغنائي وشعر الرثاء القديم على التوازن المطلوب في جلسة الشراب بين السكر والتسلية وسط الجماعة. ويهتم هذا الشعر أيضا بالتضامن الجماعي والاشتراك في نفس الإطار الأخلاقي، وتجنب الشجار والقصص المتعلقة بالشقاق. ونجد اهتماما كبيرا بالصفاء الشعائري والنفسي في قصيدة كزينوفانيس؛ وكانت مناسبة كتابة هذه القصيدة أيضا مثار جدل كبير. وأحيانا يكون إطار القصيدة دينيا على نحو واضح، كما في الشذرة المأخوذة من قصيدة للشاعرة سافو، التي تستحضر إلها. وغالبا ما يكون إطار القصيدة عبارة عن جماعة من الندماء في جلسة شراب - كما في شعر كزينوفانيس وقصائد الرثاء التي كتبها ثيوجنيس - يخاطبون شابا اسمه سيرنوس، ويحثون هذا الشاب على اتباع الطريق «القويم» لتجنب الخلاف السياسي السائد في الطبقات الدنيا في المدينة.
فليحتفظ الرجل باتزانه بين حاضري المأدبة الآخرين، وليبد وكأن كل شيء يغيب عن انتباهه وكأنه ليس بينهم، وليلق بالنكات، ولكن عند خروجه فليكن ثابتا ومدركا لطبع كل فرد من الحاضرين. (ثيوجنيس 309-312، ترجمه إلى الإنجليزية: جربر)
والكلمة التي تطلق على حاضري المأدبة الآخرين هي «سوسيتيوي»، وهي نفس الكلمة المستخدمة لوصف حاضري المأدبة الإسبرطيين. تحاول الجماعة أن تحافظ على الترابط الاجتماعي عن طريق طقوس تناول الطعام واحتساء الخمور المشتركة؛ ومن ثم تحافظ ضمنيا على أيديولوجية مشتركة. والنصيحة المتعلقة باحتساء الخمور هي كما يأتي (473-496):
فليقف أحد العبيد على أهبة الاستعداد ويصب النبيذ لكل من يريد أن يشرب؛ فلن يتأتى لنا أن نحظى بوقت لطيف كل ليلة. ولكن سأعود إلى منزلي - فقد نلت كفايتي من النبيذ الحلو حلاوة العسل - وسأفكر في النوم، فهو يفرج الهموم. لقد وصلت إلى المرحلة التي يصبح فيها احتساء النبيذ ممتعا للغاية، ما دمت لست صاحيا ولا سكران أكثر مما ينبغي. إن كل من يفرط في احتساء الخمر لا يصبح متحكما في لسانه أو عقله، فهو يتفوه بكلام غليظ يراه غير الثمل شائنا، ولا يخجل من أي شيء يقوله حين يكون سكرانا؛ فمن قبل كان راشدا ولكن يصبح بعدئذ أحمق. وبعد أن أدركت هذا كله، تجنب الإفراط في احتساء الخمر، وانهض قبل أن تسكر - لا تدع بطنك يسيطر عليك وكأنك عامل أجير بائس - أو ابق في المكان دون احتساء الخمر. ولكنك تقول: «املأ قدحي!» فهذا هو اللغو الفارغ الذي تتفوه به دائما؛ ولهذا تسكر. فتشرب قدحا نخب الصداقة، ويوضع أمامك قدح آخر، وتقدم أنت قدحا آخر كطقس لإراقة الخمر من أجل الآلهة، وتشرب قدحا آخر كغرامة، وتعجز عن الرفض. ذلك الرجل هو البطل حقا الذي لا يتفوه بكلام أحمق بعد احتساء الكثير من الأقداح. إذا ظللت بجوار وعاء المزج، فتحدث حديثا لطيفا وتجنب المشاجرات مع الآخرين، وتحدث بأسلوب يخلو من التحفظ مع الجميع على حد سواء؛ وهكذا تصبح جلسة الشراب لا بأس بها. (ترجمه إلى الإنجليزية: جربر)
ويذكرنا البعد الأخلاقي لهذه الكلمات بالفقرة المأخوذة من شعر كزينوفانيس التي استشهدنا بها فيما سبق، ويسبق الكثير من الفقرات التي ظهرت لاحقا في المسرح الكوميدي وفي مواضع أخرى، والتي تعبر عن مخاطر الإفراط في احتساء الخمر والإخفاق في تحقيق التوازن الدقيق بين احتساء الخمر في جو من الود، وبين السكر الطائش (أثينايوس، ويلكنز 2000).
وكانت المناسبات التي تشهد إلقاء هذا النوع من الشعر متباينة؛ فهذا الشعر عادة ما كان مخصصا للإلقاء بين جماعة، أفرادها من الطبقة الراقية الثرية غالبا. وكانت تتلى أشعار الرثاء العسكري التي نظمها تيرتايوس - حسبما نقرأ (أريستوزينوس، يستشهد به أثينايوس) - في أزمنة الحرب. أما فيلوكوروس من أثينا - (أثينايوس) - فيقول إن شعر تيرتايوس كان مؤثرا في إحراز الإسبرطيين للنصر إلى درجة أنهم:
سنوا هذه العادة في حملاتهم العسكرية؛ فبعد أن يفرغوا من تناول عشائهم وينشدوا ترنيمة الحمد، كانوا ينشدون أبياتا من شعر تيرتايوس، وكان قائدهم الأعلى هو الحكم ويكافئ الرابح بمنحه قطعة لحم. (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك)
وفيما يتعلق بالظروف المحيطة بالأداء، راجع للاستزادة ويست (1974)، وبووي (1986)، وجنتيلي (1988). كان الكثير من هذه القصائد يتناول الحياة المشتركة للمواطنين، مثل الحرب والاضطرابات الأهلية ومخاطر البحر؛ فمثلا: تجمع قصيدة قديمة من تأليف أركيلوكوس - الشذرة 4 ويست - بين طقوس الرسم واحتساء النبيذ مع حارس ليلي على متن سفينة (بووي 1986: 16).
ومن العناصر الأخرى موضوع المنافسة، واحتياج أفراد الجماعة لتحقيق التفوق فيما بينهم من خلال المباريات والعادات المرتبطة بجلسات الشراب وكذلك الإنجازات الرياضية والبدنية.
ونشأ تراث من عادات جلسات الشراب ظل لأمد طويل يدور حول الفكرة الرئيسة القائمة على البحر، التي تربط بين الضياع في البحر وبين السكر (سلاتر 1976، ويلكنز 2000: 238-241).
ويطلعنا عدد من المصادر على عادات متنوعة لاحتساء الخمر في المدن الإغريقية. يقول كريتياس في كتابه «مزاج الإسبرطيين» (الذي يستشهد به أثينايوس): «يشرب أهالي جزيرتي خيوس وثاسوس الأنخاب في أقداح كبيرة من اليسار إلى اليمين، ويشرب أهالي أثينا أنخابهم في أقداح من اليسار إلى اليمين، أما أهالي ثيساليا فيشربون أنخابهم في أقداح كبيرة نخب من يريدون. ولكن أهالي لاكديمون (أي إسبرطة القديمة) يشرب كل منهم قدحه على انفراد، والعبد الذي يصب النبيذ يعيد ملء القدح بالكمية التي شربها» (ترجمه إلى الإنجليزية: جوليك).
وإلى جانب التراث الأدبي جاءت أقداح النبيذ وأوعية مزج النبيذ الشهيرة، وتظهر فيها رسوم تصور مشاهد من الحياة والأسطورة بالأشكال السوداء والحمراء، من بين أشكال أخرى. ومن بين الموضوعات التي كانت تعبر عنها الأقداح فعل احتساء الخمر، والفارق الدقيق الذي يلتزم به من يشرب الخمر بين الإلهام والسكر. يقارن ليساراج (1990) بين الصور والأقداح مستعينا بالشعر القديم والهزلي والتفسير الذي يقدمه أثينايوس. ومن العناصر اللافتة على وجه التحديد في هذا المجال قائمة الأقداح الواردة في الجزء الحادي عشر من كتاب أثينايوس. وهكذا كانت جلسة الشراب وقتا مخصصا للتأمل برفقة الأصدقاء والأقران، وكان الناس يسكرون معا؛ كانوا يتقاسمون النبيذ والماء بعد مزجهما في الوعاء العميق أو وعاء مزج الخمور، بنسبة تركيز يقررها رئيس جلسة الشراب. وربما يتحتم عليهم أداء مفاخر تعتمد على الاتزان، بناء على سرعة البديهة والرشاقة، وربما يتأملون صور السكر مثل الصور البحرية، أو صور الفوضى مثل المعارك التي تندلع بين الإغريق وآلهتهم وبين الشعوب البدائية وآلهتها. وربما يمارسون كذلك ألعابا مثل لعبة «كوتابوس» (وهي لعبة قديمة يصوب فيها اللاعب الرواسب المتبقية في قدح الخمر على هدف معين)، وغيرها من وسائل الترفيه (راجع ما يأتي). وتعبر الرسوم الظاهرة على المزهريات (وأحيانا على جدران المقابر) عن الكثير من سمات تناول الطعام واحتساء الشراب ووسائل الترفيه التي تتخلل جلسة الشراب.
وكانت كل هذه الأنشطة تقتضيها الطقوس. وفي نهاية القسم المخصص لمأدبة العشاء من المناسبة، كانت تستبدل الموائد وتغسل الأيدي وتستبدل الأكاليل وتقدم طقوس إراقة النبيذ النقي إلى مختلف الآلهة، بما فيها «الروح الصالحة» أو ديونيسوس وهيجيا (أو الصحة)، وهي المساعدة الإلهية لأسكليبيوس. وكان النبيذ النقي الذي يقدم في هذه المرحلة على عكس النبيذ الممزوج بالماء الذي يشربه الحاضرون في جلسة الشراب. وفي نهاية الأمسية، قد ينشدون ترنيمة (تشهد نهاية كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» إنشاد ترنيمة شعائرية موجهة للإلهة هيجيا: راجع ويلكنز 2005). وبعدئذ، قد يغادرون إلى منازلهم - مثلما يحدث في نهاية كتابي أفلاطون وزينوفون اللذين يحملان عنوان «حوار المأدبة» - أو يأخذون في إحياء حفل صاخب أو «كوموس»، مثل المحتفلات بديونيسوس ومريدي ديونيسوس. توجد وثائق تدل على انفلات زمام ذلك النوع من الحفلات الصاخبة. يحضر ألكيبيادس كمحتفل سكير، ولكن مهذب، في منتصف جلسة الشراب الواردة في كتاب «حوار المأدبة» لأفلاطون، ويتصرف فيلوكليون بعنف مفرط بعد حضور جلسة شراب في مسرحية «الدبابير» من تأليف أريستوفان.
شكل 6-3: جلسة شراب يظهر فيها ثلاثة رجال يلعبون لعبة «كوتابوس» مع عازفة وخادمة. ويظهر أحد التفاصيل المأخوذ من جرة ذات رسوم ملونة باللون الأحمر، وهي إحدى القطع الأثرية الإغريقية من المتحف البريطاني؛ تفصح الأدلة المستقاة من الرسوم الظاهرة على المزهريات ومن أثينايوس عن وجود نسختين لها. كان الحاضرون في المأدبة يقذفون بقايا النبيذ في أقداحهم بحركات سريعة ويصوبونها على أهداف، فكانوا إما يصوبون باتجاه آنية خزفية صغيرة طافية على الماء في وعاء كبير فيجعلونها تغوص داخله، وإما يحاولون إزاحة قرص موضوع فوق سارية، ولا بد أن يسقط القرص على رأس صورة عبد موضوعة في منتصف السارية. توضح اللعبة اهتماما بالتضارب بين مهارات التركيز والسكر (مصدر الصورة:
www.bridgemanimages.com/en-GB/ ).
كان يعتقد أحيانا أن جلسة الشراب تنتمي للطبقات الراقية التابعة لحكم الأقلية على مدى العصر الإغريقي الكلاسيكي القديم (تقريبا القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد). وترد هذه الفكرة تلميحا في بعض التعليقات التي ذكرها موراي (1990) وفي مراجع أخرى، ويصرح بها ديفيدسون (1997) بوضوح. ويخيل إلي أنه من الخطأ أن نقارن بين جلسة الشراب - وهي عادة ما تكون مناسبة خاصة يحتفلون بها في منازل علية القوم في المدن ذات الحكم الذاتي - وبين الأعياد وغيرها من الأنشطة العامة والجماعية في المدينة ككل. ويبدو أن الأعراف القديمة والأرستقراطية كانت قطعا قوية في المدينة في العصر الكلاسيكي القديم، حتى المدن ذات الحكم الديمقراطي مثل أثينا وأرغوس. ولكن يبدو أن جلسة الشراب كانت متاحة أمام الجميع، وأنها كانت تقام في المناسبات العامة والخاصة، وكانت تقام على مستوى المدينة وفي المنازل أيضا. وتأتي مناقشة للأدلة المتعلقة بذلك في ويلكنز (2000) وفيشر (2000). ويبدو أن توزيع النبيذ واحتساءه - مثل توزيع اللحم - كان حاضرا في كل الطبقات، وكان متاحا من خلال منافذ شعائرية وتجارية. وهكذا ربما يتوقع مواطن فقير أن يأكل معظم حصته من اللحم في الاحتفالات العامة، وأن يشرب النبيذ بين أقرانه وأصدقائه في مناسبات أقل عددا مقارنة بالأغنياء. ولكن ينبغي ألا ينظر إلى «كابيليون» - أو متجر النبيذ - بوصفه نظير جلسة الشراب لدى الفقراء؛ إذ إنه كان مكانا إضافيا يخصص لاحتساء الخمر ولا يحمل طابعا شعائريا. كان الفقير يشرب الخمور في الاحتفالات وحفلات الزفاف وغيرها من المناسبات، وربما يكون النبيذ أقل جودة، والأثاث أرخص، ووسائل الترفيه أقل تأثرا بضغوط المنافسة الأجنبية، ولكن العرف كان كما هو دون تغيير. وأرى أنه سيكون من المضلل للغاية أن نشير إلى أن الفقير كان يشرب الخمر في أماكن ذات طابع تجاري كالحانات والمحال، أما جلسة الشراب ذات الطابع الشعائري فكانت حكرا على الأغنياء؛ ويرى كل من موراي وديفيدسون أن مسرحية «الدبابير» لأريستوفان تمثل سابقة من نوعها في هذا الصدد. وقد حاولت أن أبرهن (ويلكنز 2000) على أن جلسة الشراب منتشرة في المسرح الكوميدي الإغريقي - ومقبولة كعرف اجتماعي، تتعرض فيه أنشطة علية القوم للنقد عادة - إلى حد يحتم علينا أن نستنتج أن جلسة الشراب كانت نشاطا مألوفا ومتاحا للجميع.
ولا أقصد بهذا إنكار أهمية احتساء الخمور في الحانات ومحال النبيذ لفقراء المجتمع في البلدان الإغريقية والرومانية؛ إذ تتوافر أدلة كثيرة على وجود مثل تلك المنشآت - وخصوصا في مدن منطقة كامبانيا - وتتوافر كذلك أدلة كثيرة على وجود مجموعة كبيرة من تلك المنافذ، وكان جزء منها يوفر الطعام، وجزء ثان يوفر وسائل الترفيه، وجزء ثالث يوفر الخدمات الجنسية.
وكان احتساء الخمر في جلسات الشراب جزءا من الهوية الإغريقية، حتى إنه كان ينظر إليه كنشاط ذكوري صرف، لم يكن بوسع غير الذكور ممارسته؛ ومن ثم، كان من غير المسموح للنساء صاحبات المكانة الرفيعة بالمشاركة في جلسة الشراب؛ إذ كان يعتقد أنهن سريعات التأثر بالنبيذ. ومعظم الأدلة على ذلك ذات طابع كوميدي - ومن الجائز أنها مضللة - ولكن كان يعتقد أن النساء يفرطن في احتساء الخمر ويشربن النبيذ الصرف وليس الممزوج بالماء. وكان يعتقد أن الأجانب، مثل السكوثيين والفرس، يشربون أيضا النبيذ دون مزج؛ فلم يتبعوا العادة الإغريقية الراقية القائمة على مزج النبيذ بالماء، تماما كما كانوا يمارسون طقوسا أخرى، مثل تقديم القرابين من الحيوانات، بطرق مختلفة. وكان العبيد أيضا - في المخيلة الإغريقية على الأقل - يتأثرون تأثرا مفرطا بالنبيذ.
وكانت النساء يشاركن في جلسة الشراب الإغريقية، ولكنهن كن «هيتاراي» أو محظيات، وكن يمثلن المثيرات الجنسية في جلسة الشراب، وكان وجودهن يبرز عنصر المتعة في المناسبة؛ ومن ثم، كانت جلسات الشراب ذات النظام المتزمت - مثل جلسة الشراب الخيالية التي تحدث عنها أفلاطون في كتابه، وجلسات الشراب التي وردت في كتاب أثينايوس - تخلو من «هيتاراي» أو المحظيات. كانت النساء يحضرن المآدب الرسمية «سيناي» وحفلات الشراب «كونفيفيا» في روما، كما ناقشنا في الفصل الثاني، ومع ذلك يبدو أن ثمة ضوابط كانت تفرض على احتساء النساء للخمور في عصر الجمهورية (فاليريوس ماكسيموس 2، 1). وكان هناك قانون يتعلق بالتقبيل، ويتيح للزوج اختبار ما إذا كانت زوجته تشرب الخمور. وتحدثت الحكايات المقصود بها العبرة عن نساء من المتصور أنهن يشربن الخمر؛ وكانت هذه من الموضوعات التي تثير القلق والتأمل الأيديولوجي في العقل الروماني، ربما على نحو يماثل الحاجة إلى سن قوانين الإنفاق التي تحد من إنفاق النساء على الملابس وغيرها من السلع. كان الجميع في عصر الجمهورية - وكذلك في البلدان الإغريقية - يخشى أن تكون ثمة حاجة لفرض قيود على النساء.
وكانت جلسة الشراب - كما رأينا - تقترب من الفوضى واختلال التوازن. يستشهد أثينايوس بفقرات من المسرح الكوميدي حيث تتمادى الشخصيات في شرب الخمر إلى حد انفلات زمام الأمور. ترد وقائع يرويها المؤرخون والخطباء عن خروج الأمور عن نطاق السيطرة بسبب شرب الخمور (طيمايوس في كتاب أثينايوس، وديموسثينيس 54). ويتحدث أفلاطون بوضوح عن هذا الموضوع في كتابه «القوانين»؛ ففي الجزء الأول - الذي تعقد فيه مقارنة بين تناول الطعام الجماعي في إسبرطة وكريت، وتناول الطعام واحتساء الشراب في المدن الإغريقية الأخرى في أجواء فوضوية - توصف جلسة الشراب بأنها أخطر مثال لنقص الضوابط والانغماس في المتعة. وهذا هو رأي الخطباء من إسبرطة وكريت، وهي مجتمعات لا تتبع عادة جلسة الشراب فيما يبدو؛ أما الخطيب الأثيني، فيسهب في الحديث عن جلسة الشراب.
والأدلة الأثرية المتعلقة بجلسات الشراب متنوعة للغاية، وهي تشمل أوعية المزج والأقداح وغيرها من أدوات المائدة الخزفية وبعض الأعمال المعدنية. وتوجد أدلة قوية أيضا على وجود غرف مخصصة لاحتساء الخمور في المنزل الإغريقي والروماني، وغرف لاحتساء الخمور في المباني العمومية، ومتاجر نبيذ عثر عليها في المدن الإغريقية وفي مدن بومبي وهركولانيوم وأوستيا (راجع الفصل الثاني).
ويرتبط الكثير من أنماط تناول الطعام ووسائل الترفيه بجلسة الشراب. وكانت جلسة الشراب هي المرحلة التي تجهز فيها الموائد الثانية؛ يصف لنا أركستراتوس ذلك في الشذرة 60 أولسون وسينس (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز):
دائما زين الرأس بكل أنواع الأكاليل في العيد، وزينه بكل ما تنتجه الأرض الخصبة من زهور. عطر شعرك بالعطور المقطرة الراقية، وانثر طوال اليوم الرماد الطري لصمغ المر والبخور، تلك الفواكه العطرة الوافدة من سوريا. ودعهم يقدموا لك هذه الأطباق اللذيذة وأنت تشرب الخمر: معدة أنثى خنزير ورحمها مسلوقين بالكمون والخل اللاذع والسيلفيوم، ولحم طيور مشوية طري، أيا كان النوع المتوافر في ذلك الوقت من العام. ولا تعبأ بهؤلاء السيراقوسيين الذين لا يشربون إلا كما تشرب الضفادع ولا يأكلون شيئا. كلا، لا تنخدع بما يقولونه، بل تناول الأطعمة التي أقدمها لك. كل ما عدا تلك الأطايب «تراغيماتا» هو من علامات الفقر المدقع، مثل الحمص المسلوق والفول الأخضر والتفاح والتين المجفف. ومع ذلك، فإنني أستحسن الكعكة المسطحة التي نشأت في أثينا، وإذا لم تستطع الحصول على كعكة من هناك، فاذهب وأحضر كعكة من مكان آخر وابحث عن شيء من عسل أتيكا، فهو الذي يضفي عليها رونقها الذي تزدهي به. هذا هو أسلوب الحياة الذي ينبغي أن يتبعه الحر، والبديل هو أن تنزل تحت الأرض وتحت الجحيم والعالم السفلي حيث الدمار، وتتوغل تحت الأرض على عمق عدد لا يحصى من الاستديوم.
شكل 6-4: مريد جامح من مريدي ديونيسوس يحاول أن يوازن قدحا من النبيذ فوق عضوه التناسلي. يصور هذا الرسم التخطيطي لفرانسوا ليزاراغ المقتبس من رسم على مزهرية المحتوى الجنسي الذي ربما تتسم به جلسات الشراب القديمة، ويصور كذلك أهمية التوازن أثناء احتساء الخمر. يجب مراعاة الفارق الطفيف الذي يفصل بين السكر المتحضر بصحبة الأصدقاء وبين فقدان السيطرة الناجم عن السكر. (للاطلاع على أمثلة فنية أخرى، راجع ليزاراغ 1990.)
ويمكننا أن نلاحظ أصنافا مختلفة من أطباق المائدة الثانية - على سبيل المثال - في الأوصاف الكوميدية وفي كتب أثينايوس (راجع ويلكنز 2000) وغيره، بما في ذلك المحار الذي يقدم في مأدبة تريمالكيو الرسمية.
وكان الإغريق في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد يتوقعون - فيما يبدو - وجود وسائل الترفيه (سواء أكانت شعرا أم أحاجي أم راقصات أم فلسفة) في مرحلة جلسة الشراب. ويبدو أن بعض المآدب الفاخرة التي شهدها العصر الهلنستي كانت تختلف عن هذا النمط (راجع كارانيوس وسيمفونية أنطيوخوس الرابع الظاهر (في الفصل الثاني)، وأثينايوس). وبحلول العصر الروماني بدأ شرب الخمور ووسائل الترفيه يتخللان المأدبة بأكملها، فيما يبدو، وليس مرحلة جلسة الشراب فحسب. يقدم تريمالكيو كل شيء؛ بدءا من إلقاء أبيات من شعر هوميروس، إلى الموسيقى السيمفونية والعروض البهلوانية. أما بلينوس الأصغر فيصف وسائل الترفيه الراقية التي تتخلل بعض المآدب والرقصات الخليعة في مآدب أخرى. وكانت المناقشات الفلسفية موجودة في بعض المآدب الفاخرة في العصر الروماني، كما يذكر أثينايوس، وربما تتسم المأدبة بأكملها بفكرة رئيسية، ومثال ذلك ما فعله الإمبراطور دوميتيان بعد انتصاراته المفترضة على الداقيين. كانت تقدم للناس العاديين مآدب عشاء عمومية وتؤدى أمامهم ألعاب منفرة في ساحة المدرج الروماني، وكانت تقدم لأعضاء مجلس الشيوخ والفرسان أطباق مميزة، مما يذكرنا بالعلاقة التي سبق مناقشتها التي تربط بين ديونيسوس والموتى (كاسيوس ديو 67، 9، ترجمه إلى الإنجليزية: كاري).
جهز غرفة يطغى السواد على كل جوانبها وسقفها وجدرانها وأرضيتها، وكان قد جهز أرائك بسيطة من اللون نفسه ووضعها على الأرضية العارية؛ ثم دعا ضيوفه وحدهم ليلا من دون خدمهم. وفي البداية، وضع بجوار كل منهم بلاطة على هيئة شاهد قبر تحمل اسم الضيف، ووضع أيضا مصباحا صغيرا كالذي يعلق عند القبور. وبعد ذلك، دخل صبية بهيو الطلعة عراة، وقد دهنت بشرتهم باللون الأسود هم أيضا، فبدوا وكأنهم أشباح، وأخذوا يدورون حول الضيوف في رقصة مهيبة، ثم اتخذوا أماكنهم عند أقدام الضيوف. وبعد هذا كله، قدم إلى الضيوف كل ما يقدم عادة في طقوس تقديم القرابين لأرواح الموتى، وكلها أشياء لونها أسود وفي أطباق من اللون نفسه؛ ومن ثم، استبد الخوف بالضيوف جميعا، وأخذوا يرتجفون خوفا، وسيطر عليهم توقع بأنهم سيتعرضون للقتل في اللحظة التالية، وران عليهم صمت مطبق فيما عدا دوميتيان، وكأنهم قد صاروا في عالم الموتى، وأخذ الإمبراطور نفسه يتحدث عن موضوعات تتعلق بالموت والقتل فقط.
توجد أيضا أدلة كثيرة على اجتماع وسائل ترفيه مع تناول الطعام واحتساء الشراب لأفراد المجتمع الأقل شأنا، سواء أكان في مآدب عامة - مثلما يذكر ديو - أم في الفنادق والحانات. والأدلة المتعلقة بمدينة بومبي وغيرها من المدن الإيطالية فيما يخص النرد والراقصات والعشيقات والعازفين وغير ذلك من وسائل الترفيه جمعها كليبرج (1957).
إن أثينايوس هو أفضل مصدر أدبي فيما يخص جلسات الشراب، فهو يسجل الكثير من مظاهر تلك الجلسات مثل الأكاليل والغناء والرقص، والشعر أيضا، وهي مظاهر ربما لا ترتبط مباشرة بشرب الخمور في أجواء رسمية. ويقدم أيضا الدليل الشامل لأنواع أقداح الخمر، وهو ما يمكن ربطه على نحو وثيق إلى حد ما بالسجلات الأثرية. يكتب أثينايوس معتمدا على تراث جلسات الشراب، بكل ما يتسم به من حساسية ذاتية واستبطان؛ ومن ثم فإنه يصمم طريقة احتساء الخمر التي يتبعها حاضرو مأدبة الحكماء بناء على النموذج الذي وضعه كزينوفانيس في العصر القديم جدا. وبناء على ذلك، نجد أن بلوتارخ - أحد حاضري المأدبة المفوهين - يستهل القصيدة (التي استشهدنا بها فيما سبق) بقوله: «لطالما لاحظت أن جلسة الشراب التي نظمتموها - على غرار كزينوفانيس الكولوفوني - تزخر بالمسرات.» وظهر تراث جلسات الشراب في قالب شعري، وكذلك - بعد كتاب أفلاطون «حوار المأدبة» - في قالب نثري يتناول المناقشات الفلسفية أو الأنشطة المصاحبة لجلسات الشراب. وأصبحت جلسات الشراب الواردة في كتابي أفلاطون وكزينوفانيس بعنوان «حوار المأدبة» هما النموذج الذي سار عليه الكثير من المؤلفين ممن جاءوا بعدهما. ويناقش روميري (2002) هذا التراث؛ إذ يثبت أن أثينايوس يختلف عن معظم خصائص هذا التراث في أنه يولي الطعام أهمية تضارع أهمية النبيذ. ونجد أن الكثير من جلسات الشراب الأقدم - وأفلاطون مثال أولي في هذا الشأن - ينهي مرحلة تناول الطعام بأسرع ما يمكن، حتى تنتقل إلى المناقشة الفلسفية في جلسة مخصصة لاحتساء الخمر باعتدال. وحين لا يتسم تناول الطعام واحتساء الخمر بالاعتدال - كما يحدث بين الفلاسفة في كتابي «حوار المأدبة» و«ليكسيفينيز» من تأليف لوقيان - تجتاح المناسبة فوضى عارمة. ويشير أثينايوس بالطبع في العنوان الذي اختاره «مأدبة الحكماء» أو «مأدبة الفلاسفة» بأن محل اهتمامه يختلف عن سابقيه؛ فبما أنه يكتب في عصر الإمبراطورية الرومانية، فليس من الواضح تماما مدى تفكره في العادات الإغريقية، أو مدى تأثره بالنمط الروماني في دمج تناول الطعام مع شرب الخمر.
كان لإنتاج النبيذ وأعياد النبيذ على مدار العام والطقوس الاجتماعية الفضل في منح النبيذ مكانة قوية في البلدان الإغريقية الرومانية. وكان معظم استهلاك الخمور من النبيذ المحلي، وكذا هي الحال بخصوص الأطعمة الأخرى التي ناقشناها في فصول سابقة، كان المواطنون الفقراء يستهلكون أنواعا أرخص من النبيذ الذي كان في متناول الأغنياء. (كانت هناك استثناءات لهذه القاعدة فيما يبدو في مناطق من الإمبراطورية التي كانت فيما سبق على حدود التأثير الإغريقي الروماني؛ إذ نقرأ أن فرنسا ومصر كانتا تستوردان النبيذ، ثم بدأتا تنتجانه لاستهلاك الأغنياء، أما المواطنون الفقراء فكانوا يشربون الجعة. ولا يبدو أن الفارق كان كبيرا إلى هذا الحد في عام 200 ميلاديا مثلا، بعد ما يزيد عن قرن من الاندماج في النظام الروماني؛ إذ كان الناس لا يزالون يشربون الجعة، ولكن النبيذ كان من السلع التي لم تعد أجنبية في فرنسا بعكس ما كانت عليه في العهد الذي شهد مؤلفات بوسيدونيوس (التي استشهد بها أثينايوس) في عام 100 قبل الميلاد تقريبا.)
وظهرت فيما يبدو فروق واضحة بين الخمور الإغريقية والرومانية؛ فالخمور الإغريقية كانت تنتج أنواعا عتيقة تلقى استحسانا وإقبالا كبيرا. يستعرض لامبرت جوكس (1990) الأنواع المناظرة لها من الخمور الإغريقية الحديثة - التي لا تنافس أنواع النبيذ الرفيعة المستوى التي تنتجها إيطاليا وفرنسا - في مخيلة العامة على أقل تقدير. ولا تسمى الخمور الإغريقية عادة بحسب سنة الإنتاج، ولا بحسب مكان الإنتاج بدلالته المحدودة؛ بل يقال إنها خمور من ثاسوس، أو خيوس، أو لسبوس. يقدم لنا أركستراتوس في الشذرة 59 أولسون وسينس مثالا على ذلك (يقدم أثينايوس المزيد من الأمثلة، ومعظمها مأخوذ من النصوص الهزلية):
حين تكون قد قدمت قربانا كبيرا لزيوس المخلص، عليك أن تشرب نبيذا معتقا كأنه شيخ أشيب الرأس تماما، خصلات شعره الرطبة مزينة بزهور بيضاء؛ نبيذا من لسبوس التي يحيط بها البحر من كل جانب. وأثني على نبيذ بيبلاين من فينيقيا، مع أنه لا يرقى إلى نبيذ لسبوس، وإذا تذوقته سريعا ولم تكن لديك معرفة مسبقة به، فسيبدو لك أن رائحته عطرة أكثر من نبيذ لسبوس؛ إذ إن رائحته تستمر لمدة طويلة جدا. ومع ذلك، حين تتذوقه، تجده رديئا للغاية، وسيحصل نبيذ لسبوس على مرتبة لا تنتمي لفئة النبيذ بل إلى فئة طعام الآلهة ... وتنتج ثاسوس أيضا نبيذا ممتازا، بشرط أن يكون معتقا لعدة مواسم على مدى السنين. وأعرف كذلك أمر الغصون التي تتساقط منها عناقيد العنب في مدن أخرى؛ أستطيع أن أستشهد بها وأمتدحها؛ فأنا ملم بأسمائها كل الإلمام. ولكن أنواع النبيذ الأخرى بلا قيمة بجوار نبيذ لسبوس، ويحب بعض الناس بالطبع امتداح منتجات بلادهم. (ترجمه إلى الإنجليزية: ويلكنز)
من الواضح أن نبيذا كهذا لو كان يستورد إلى أثينا أو كورنث، لأصبح مختلفا من حيث خصائصه، لكن سعره كان سيزيد أيضا عن سعر أي نظير محلي له. ونجد ما يدل على استحسان أنواع النبيذ هذه في أثينا في الشعر وفي السجلات الأثرية؛ إذ تحتوي المباني التي كانت مخصصة فيما يبدو لبيع النبيذ على بقايا جرار قادمة من الخارج. وكانت أنواع النبيذ الإغريقية أيضا تروق للذائقة الرومانيين. ويقدم كاتو - من بين الجميع - وصفات لصنع أنواع نبيذ على الطريقة الإغريقية، في بحثه الذي يتناول الزراعة. أما الرومان، فشرعوا في إنشاء تجارة نبيذ مختلفة للغاية. وفضلا عن الخمور المحلية الرخيصة - نبيذ سابينا الذي كان يستحسنه هوراس في مزرعته من الأمثلة الشهيرة - كانت تنتج أنواع نبيذ معتقة، خصوصا في التلال الخصبة في لاتيوم وكامبانيا، وتقع بين روما ونابولي؛ ففي هذه الأماكن، أصبح للمناطق الصغيرة أسماء تجارية على نحو يشبه نظام «التقيد بالأسماء الجغرافية»، وأصبحت أنواع النبيذ المعتق - مثل فالرنيان وفونديان وكاكوبان - تباع بأسعار مرتفعة. وكانت تجارة النبيذ تدر عائدات مرتفعة على المستثمرين؛ نظرا لأرباحها الهائلة، ولكنها أيضا كانت تنطوي على مخاطرة كبرى في حالة سوء الطقس. أثبت كل من بورسيل (1985) وتشيرنيا (1986) على الأهمية الاقتصادية والأصداء الثقافية المترتبة على صناعة النبيذ الرومانية؛ ونجد مناقشة وافية يعرضها دالبي (2003: 350-360) وتعرضها مقالات واردة في روبنسون (1994). درس الباحثون باستفاضة انتقال أنواع النبيذ الرومانية، بناء على الأختام التي تحملها جرار النبيذ عامة، وجرار النبيذ التي عثر عليها في حطام السفن خاصة.
وكانت للنبيذ أهمية كذلك في الطب؛ إذ رأينا أنه يمكن استحضار الإلهة هيجيا أو الصحة في بداية جلسة الشراب ونهايتها. والترنيمة الموجهة إليها في نهاية كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» هي في الواقع نفس الترنيمة المنقوشة على حجر في المجمع الطبي في إبيدوروس. وكان وجود الأطباء يرتبط بجلسة الشراب؛ ففي الأعمال الأدبية التي تناولت جلسة الشراب بدءا من أفلاطون حتى أثينايوس، كانت جلسة الشراب كثيرا ما يحضرها طبيب. وتزخر المؤلفات الطبية أيضا بالكثير عن آثار النبيذ على الجسم، ونجد أن الأطباء ممن لهم اهتمامات جغرافية واسعة، مثل جالينوس، يذكرون أنواع النبيذ التي نشأت في مناطق غير مألوفة، كما في بعض الأنحاء في آسيا الصغرى (راجع للاستزادة جوانا 1996).
مقدمة الفصل السابع
إن أهمية اللحوم والأسماك في النظام الغذائي اليومي تعود في جزء منها إلى الوفرة، وفي جزء آخر إلى التفضيل الشخصي. وفي كل الأحوال، نجد الفكرة القائلة إن من علامات الرجولة والخشونة تناول اللحوم دون الاهتمام بطريقة تحضيرها، وإن اهتمام المرء كثيرا بطريقة تتبيل سمكة البوري الحمراء أو سمكة القاروس أمر ينتقص من رجولته، وإن من دلائل الخشونة أن يلتهم المرء كل ما يوضع أمامه بصرف النظر عن طبيعته. وربما كان الإغريق يعشقون الأسماك حقا، ولكن أبطال المعارك كانوا يأكلون اللحوم.
وحتى في الوقت الحاضر، نجد أن الطهي المعقد وما يحظى به من تقدير واستحسان - في الولايات المتحدة على سبيل المثال - يرتبط، فيما يبدو، بسكان كاليفورنيا والمهاجرين من بلدان البحر المتوسط وبلدان سواحل المحيط الأطلنطي أكثر من ارتباطه بالمنحدرين من المستعمرين في ولايات الغرب الأوسط. ولعل ذكرياتنا عن الطريقة التي يطهو بها ستوبوت في المسلسل الأمريكي «روهايد» أثرت في المشهد، ولكن توجد قطاعات كبيرة من وسط أمريكا ترضى بشريحة لحم بقري وبطاطس مقلية، وربما معها طبق صغير من السلاطة أو مشروب كوكاكولا أو جعة. وعلى النقيض من ذلك، نجد أن السواحل الحضرية هي قبلة الاهتمام الفعلي بالطهي، ونقطة البداية للطهي المعتمد على المزج بين طرق الطهي الآسيوية ومصدر الإلهام لأفكار الطهي الجديدة؛ وهي أيضا النقطة المحورية لإحداث نهضة في صناعة النبيذ الرفيع المستوى وتقدير قيمته.
وفي بريطانيا ينحصر الشغف بالطهي الراقي في مدينة لندن أساسا، أما الريف فينظر إليه على أنه الجهة الموردة للمنتجات التقليدية التي تتطلب رقي وأناقة السلع الأجنبية المستوردة، مثل التوابل والفواكه النادرة، حتى تتحول إلى شيء أرقى وأكثر تعقيدا. وينظر إلى أهل لندن على أنهم أقل حزما، وأنهم أقل تشبعا بالطباع الإنجليزية، أيا كان ما يعنيه ذلك . وتحمل كل هذه الروايات - شأنها شأن كل الافتراضات الأخرى - شيئا من الحقيقة بالإضافة إلى قدر كبير من الحسد والأفكار المغلوطة.
ربما نجد روابط ذهنية بين كل من قدرة الذواقة على التمييز بين الفروق الدقيقة في النكهة والقوام - وهي مهارة تتحقق بالممارسة وكذلك بامتلاك حاسة تذوق رفيعة - وفكرة الانغماس في الملذات والإسراف والضعف الشخصي وانعدام ضبط النفس. إن تقدير الطعام الراقي يصب في الخانة نفسها - إلى جانب الشعر والأدب والفنون - إذ إنه يزدهر بصفته شيئا لا يحظى بإقبال كبير إلا عند الاطمئنان لتوافر الثراء والاستقرار والأمان.
من اللافت للنظر أن من يطهون الطعام عادة يكونون من الرجال ويتسمون بمظهر رجولي مبالغ فيه. حين نأخذ جولة في مطابخ بريطانيا، سنجد طهاة يبدون أقرب إلى لاعبي كرة قدم مجهدين منهم إلى مصففي شعر، وكلما كنت أنيقا وتميل لتناول الطعام برقة، كان من الأرجح أن تلقى رجلا قويا في المطبخ؛ فأهم طاهيين لدينا في السنوات الأخيرة - جوردون رامساي وماركو بيير وايت - معروفان بأسلوبهما الصارم والمنضبط والمغامر في المطبخ.
غالبا ما كان الطعام الراقي آنذاك - مثلما هو في الوقت الحاضر - حكرا على الموسرين؛ فمن كانوا يأكلون أطعمة الباعة الجائلين والأطعمة النشوية الأساسية كانوا سيزدرون مثل هذا التدليل والترف، وكانوا سيشعرون بالطبع بشيء من الحسد. وكان الاعتدال وضبط النفس عند تناول الأسماك واللحوم - وهي الأطباق الإضافية المكملة للوجبة - بين الطبقات الثرية هو السلوك النموذجي؛ أما من كانوا يأكلون أكثر مما هو متوقع، فكان ينظر إليهم على أنهم نهمون وغير مهذبين. ويساعد هذا في إيضاح الحل الأمثل للضغوط المتعارضة، وهو إظهار أن المرء غني إلى حد يمكنه من فهم الطعام الطيب وتقديره، ولكنه يتمتع بالاعتدال وضبط النفس اللذين يمكنانه من تقليل حد التمادي في إشباع شهيته.
الفصل السابع
الطعام في الفكر القديم
إن أول سؤال في مجموعة الأسئلة الأربعين التي تتعلق بالتجمعات الاحتفالية والمآدب، سيتناول المناقشة التي اشتركنا فيها بخصوص التنوع في النظام الغذائي بمناسبة إقامة مأدبة أثناء احتفال إلافيبوليا، الذي توجهنا من أجله إلى هيامبوليس. وعند وصولنا إلى هناك، دعانا الطبيب فيلو إلى مأدبة عشاء، وقدم لنا وليمة فاخرة، كما رأينا. حين لاحظ مضيفنا أن أحد الصبية الذين جاءوا بصحبة فيلينوس تناول الخبز ولم يطلب شيئا آخر ... أسرع ليحضر لهم شيئا يأكلونه. وعاد بعد فترة طويلة ومعه بعض التين المجفف وشيء من الجبن ليقدمه لهم، وقلت أنا: «هذا هو ما يحدث حين يقدم الناس لضيوفهم طعاما منمقا ومكلفا.»
يناقش بلوتارخ وأصدقاؤه السؤال المتعلق بما إذا كان النظام الغذائي المتنوع أسهل في الهضم من النظام الغذائي البسيط؛ وهو سؤال طبي طرح في مناسبة اجتماعية في يوم احتفال بآرتيميس في منطقة فوكيس وسط اليونان. يناقش هذا الفصل الفكر القديم فيما يتعلق بالحيوانات والنباتات والمناقشات الفلسفية التي دارت حول الطعام ومناسبات تناول الطعام، والتي كانت مناسبات ممتعة - غالبا لدى البعض - ومن ثم خلافية.
رأينا أمثلة كثيرة للأسلوب الذي كان يعتقد أن الطعام يتناسب من خلاله مع النظام المتحضر ومع العالمين الأكبرين؛ وهما الأرض بأكملها والكون بأكمله. ففي الفصل الأول، وضح طبيب ينتمي لمدرسة أبقراط كيف تطور المجتمع البشري من همجية عصور ما قبل التاريخ - التي كان البشر الأولون مضطرين فيها لتناول الأطعمة النيئة كما تفعل الحيوانات البرية - حتى وصل المجتمع البشري لنظامه الحالي الذي يعتمد على الأطعمة المطهية التي كانت تناسب الجسم البشري. وهكذا، أصبح من الممكن توظيف مهارات الطهي للحضارات البشرية المتقدمة في تحضير الطعام بالطريقة الأصلح والأنسب للجهاز الهضمي للإنسان، الذي كان يعتقد أنه في حد ذاته عبارة عن عملية طهي طبيعية. ويكمن مثال ثان في أسطورة بروميثيوس التي عبرت عن المكانة الضعيفة التي تحتلها البشرية في الكون، باعتبارها مخلب القط بين بروميثيوس الذي ينتمي للجبابرة، وزيوس من آلهة جبل الأوليمب. وفي النهاية، ترسخت مكانة للبشرية أقل بكثير من مستوى الآلهة، ولكنها أعلى من مستوى الحيوانات (راجع أيضا الفصل الثالث). وقدست هذه المكانة - إذا جاز التعبير - في تقديم قرابين تتألف من الشكل الأدنى من أشكال الحياة وهو الحيوان، إلى الشكل الأعلى وهو الإله.
وفي هذا الفصل، أستعرض مكانة الطعام والحيوانات في النظام الكوني، معتمدا على أمثلة مثل كتاب «طيمايوس» من تأليف أفلاطون، وبحث «الحمية 1» من تأليف أبقراط. ثم أستعرض في إطار النظام المتحضر تصنيف أو ترتيب النباتات والحيوانات من حيث علاقتها بالبشر، وأخيرا أناقش الشأن الأهم المرتبط بالطعام في الفكر القديم، وهو مخاطر المتعة والترف. ورأينا من قبل هذه الأمثلة كاعتراضات بلينوس الأكبر على المحار وثمار الحرشف.
يضع بحث «الحمية 1» - وهو البحث الأول من مجموعة من أربعة أبحاث ألفها أبقراط عن الطعام والنظام الغذائي - الإنسان والحيوان داخل القوى الكونية مثل النار والماء. وفي نظرية قائمة على هيراكليتوس وغيره من الفلاسفة الذين ينتمون لعصور تسبق عصر سقراط، يوضح المؤلف أن هذه المبادئ تتضارب باستمرار في الكون وعلى الأرض. وعلى مستوى البشر، فإن الروح هي مزيج من النار والماء (7)، والجسم يغذيه ويقويه الطعام. والمعدة في الواقع (10) عضو مهم يرعى ما يفيد الجسم ويقضي على ما يضره عن طريق تعديل نسب النار والماء. تمضي هذه الوثيقة البارزة بعدئذ لتوضح كيف أن النار والماء هما أساس النظام الاجتماعي والثقافي للبشر في بحث «الحمية 2» إلى بحث «الحمية 4» (راجع للاستزادة الفصل الثامن).
يشتمل كتاب «طيمايوس» على عرض لافت لآراء أفلاطون عن علاقة البشر مع الكون؛ إذ يذكر هذا الكتاب أن العناصر الأربعة، وهي التراب والهواء والنار والماء، تربطها علاقات متبادلة وهي أساس الكون الذي خلق وفقا لمبادئ رياضية. والمجموعات المؤتلفة المكونة من هذه العناصر مسئولة عن تركيبات أجسامنا وتركيبات السوائل الحيوية والإحساس، والروح البشرية ذات ثلاثة أوجه، والعقل مكمنه الرأس كما أن العواطف مكمنها القلب. «هذه العناصر مسئولة عن إيداع الشهية للطعام والشراب وغيرهما من الاحتياجات الطبيعية للجسم في موقع بين الجزء الأوسط من الجذع ومنطقة السرة؛ مما يكون في المنطقة ما يشبه المعلف للطعام الموجه للجسم؛ وهي تربط الشهية هناك مثل حيوان بري، يجب إطعامه معنا لضمان استمرار حياة البشر. ووضعته في هذا الموضع حتى يواصل الأكل في مربطه، على أن يكون بعيدا قدر الإمكان عن مقر التفكير» (70-71، ترجمه إلى الإنجليزية: لي ). وسأعود بعد قليل إلى هذه الفكرة التي تنظر إلى المعدة باعتبارها ضرورية ولكن خطيرة.
شكل 7-1: بقرة جيرسي من المشاهد المعتادة جنوبي إنجلترا عنها في البلدان المطلة على البحر المتوسط. وصف بوسيدونيوس وغيره من المؤلفين القدماء المتخصصين في شئون التراث العرقي السلتيين بأنهم من آكلي اللحوم البارزين بالمقارنة مع عادات الإغريق والرومان. كان آكلو اللحوم القدماء يشهدون حياة وموت الماشية وغيرها من الحيوانات على نحو أقرب من نظرائهم في العصر الحديث. وفي الوقت نفسه، كان الامتناع الإرادي عن تناول اللحوم مقتصرا فيما يبدو على جماعات متقشفة وجماعات دينية معينة في العصور القديمة. (الصورة إهداء من مالكولم هكستابل.)
وقرب نهاية الحوار يصف أفلاطون خلق النساء من نوع أدنى من البشر، وأيضا خلق الحيوانات. ويتحدث كذلك عن نشأة الطيور من الرجال الطائشين، ونشأة الدواب من الرجال غير المهتمين بالفلسفة، وأخيرا، يتحدث عن نشأة الأسماك من أغبى الرجال وأشدهم جهلا. «هذا هو أصل الأسماك والمحار وكل ما يعيش في الماء؛ فهي تعيش في الأعماق كعقاب على عمق غبائها» (ترجمه إلى الإنجليزية: لي).
ينشئ وصف أفلاطون تدرجا هرميا واضحا يتألف من الإله والرجل والمرأة والحيوان والأسماك، ويستعير الكثير من علم الفيزياء لشرح مكونات الكون، ويستعير من الطب لشرح وظائف الجسم. وتوجد أوجه تشابه بين هذا التصنيف وأسطورة بروميثيوس، كما توجد علاقة مشتركة بين الكائنات، وهو ما يشبه تناسخ الأرواح الذي تحدث عنه فيثاغورس. وكان يمتنع هو ومريدوه عن أكل الحيوانات لهذا السبب (راجع الفصل الخامس). وظهر موضوع النظام الغذائي النباتي الصرف أيضا في أعمال إمبيدوكليس الفيلسوف السابق لعصر سقراط، وبلوتارخ، وفرفريوس التابع للمدرسة الأفلاطونية الحديثة.
للعلاقة بين البشر والحيوانات آثار تتجاوز موضوع النظام الغذائي النباتي الصرف. وبخصوص من يأكلون اللحوم على الأقل من حين لآخر (وهم الأكثرية في معظم الثقافات)، يثار سؤال حول كيفية اعتنائهم بالحيوان، وكيفية قتلهم له بغرض الطعام، وكيفية تحملهم مسئولية ذلك القتل. في السنوات الأخيرة، وتحديدا في بعض البلدان في الغرب، روعي نقل بعض المسالخ خارج المراكز الحضرية حتى لا يشهد المستهلكون قتل الحيوانات، ويباع اللحم على هيئة قطع سميكة أنيقة لا تشبه الأشكال الحيوانية، والضوابط الحكومية جزئية وتشهد تقلبا، وهو ما أدى إلى عدم اطلاع المواطن غالبا على وقائع ذبح الحيوانات. أما المواطنون في العصور القديمة ممن شهدوا ذبح الحيوانات - وسمعوه وشموا رائحته وشاهدوه وشهدوا نثر الدماء فوق المذبح - فكانوا على دراية كاملة بظروف موت أي حيوان قبل أن يأكلوا لحمه؛ ويبدو أنهم كانوا يتحملون أيضا مسئولية موته.
وقد يكون من المفيد لنا عقد مقارنة بين ذلك وما يحدث في العالم الحديث. هل يؤدي إخفاء عمليات قتل الحيوانات عن معظم الناس إلى زيادة رحمتنا بالحيوان وعطفنا عليه أم العكس؟ هل يزيد هذا من مسئوليتنا عن قتله أم يقللها؟ ويفيد هذا أيضا في تصنيف الموضوعات بناء على الأولوية؛ فمن الممكن أن يحظى موضوع ما باهتمام الرأي العام أكثر من موضوع آخر؛ وعليه، ففي بريطانيا في عام 2004، اكتسبت القسوة الموجهة لآلاف الثعالب أولوية سياسية على القسوة الموجهة لملايين الدجاج؛ فالمواطنون الذين يأكلون الدجاج أكثر بكثير من المواطنين الذين يصطادون الثعالب، ولكن يستبعد موضوع المعاملة الرحيمة في تربية الدجاج من سلم الأولويات السياسية؛ وفي الوقت نفسه، تعيش ملايين الحيوانات الأخرى حياة مترفة نسبيا كحيوانات أليفة تربى في المنازل. فالتعريفات التي تحدد دلائل القسوة تجاه الحيوانات، وأي الحيوانات مهمة وأيها غير مهمة، والمسئوليات التي يتحملها البشر تجاه الحيوانات؛ كلها أمور تتطلب النقاش.
وكانت العلاقة بين البشر والحيوانات محل بحث ومناقشة في الفلسفة وفي عدة مجالات أخرى في العصور القديمة، مثل الحكايات الرمزية والأعمال الكوميدية والشعر، وأفضل مثال كوميدي نجده في مسرحية «الطيور» من تأليف أريستوفان، وفيها يستولي أحد البشر على العالم من قبضة الآلهة ويعيده إلى القوة الكونية الأقدم، وهي الطيور. وتدور المسرحية في قالب قائم على فكرة المدينة الفاضلة، وتزخر بالمقارنات القائمة على التشابه بين التجربة البشرية وحياة الطيور. ومع ذلك، تظل العلاقة الأساسية بين عالمي البشر والطيور كما هي دون تغيير في الجزئيات المهمة المتعلقة بمن يأكل من، ومن يقدم ماذا كقربان لمن؛ فتظل الطيور تؤكل (في حالة إيمانهم بعقيدة خاطئة)، ويظل البشر يقدمون قرابين للآلهة (ويلكنز 2000). وتوجد مسرحية مشابهة وهي «الأسماك» كتبها كاتب معاصر لأريستوفان، وهو أركيبوس؛ وفي هذه المسرحية أيضا، نجد مقارنات وروابط بين عالم الأسماك وعالم البشر.
وفي الشعر الملحمي الوعظي، تتناول قصيدة «هاليوتيكا» من تأليف أوبيان عالم الأسماك، وألفها في نفس العصر تقريبا الذي شهد تأليف «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي». وتشمل هذه القصيدة وصفا تفصيليا لعالم البحر. ونرى العلاقة بين البشر والأسماك علاقة عداوة، تشبه العلاقة بين البشر والحيوانات البرية، وهي العلاقة التي كتب عنها أوبيان أيضا في شعر ملحمي (بورسيل 1995)؛ فالبحر عميق وواسع إلى حد يصعب معه فهمه فهما كاملا؛ إذ تكمن فيه عجائب جمة، مثل التي وجدها بلينوس على الأرض كما ذكر في كتابه «التاريخ الطبيعي». وفي الوقت نفسه، غالبا ما يصور المؤلفون الأسماك بكلمات تنطبق على الأسر والمجتمعات البشرية؛ ولذلك يقول أوبيان متحدثا عن سمك التونة (1، 756-764):
أعتقد أن ما من سمكة تعيش في البحر تفوقها فوضوية وجموحا (أثيميستيرون) أو تتفوق عليها في الشر؛ إذ إن السمكة الأم بعد أن تضع البيض وتفلت من ألم المخاض الفظيع، فإنها تلتهم كل ما تستطيع التهامه من البيض؛ إنها أم عديمة الرحمة تلتهم صغارها وهم ما زالوا عاجزين عن الهرب، ولا تبدي أي شفقة على صغارها. وتوجد كذلك أنواع من الأسماك لا تتكاثر بالتزاوج (غامويسي) أو الولادة، فهي أنواع تتكاثر ذاتيا: وكل أنواع المحار تنشأ بالطريقة نفسها. (ترجمه إلى الإنجليزية: ماير)
ونقرأ في الجزء الثاني (43-45):
لا مجال للعدل أو الرحمة أو المحبة بين الأسماك؛ إذ إن كل الأسماك السابحة يناصب بعضها بعضا أشد العداء.
وفي موضع لاحق (2، 642-648)، يقول عن أسماك «كيسترويس» أو البوري الرمادي إنها:
تتميز بألطف الطباع وأكثرها صلاحا؛ فأسماك البوري الرمادية الطيبة هي الوحيدة التي لا تؤذي أي أسماك من نوعها أو من أي نوع آخر، ولا تلمس بشفاهها أي طعام من اللحم ولا تشرب الدماء، بل تتغذى دون أذى، دون أن تتلوث بالدماء ودون أن تؤذي غيرها، فهي نوع نبيل. (ترجمه إلى الإنجليزية: ماير)
فما هي العلاقة التي يفترض أن تكون بين البشر والأسماك؛ أن نأكل الأسماك الفوضوية الجامحة أم الأسماك المسالمة الرقيقة؟ ظهرت محاولات كثيرة لتصنيف عالم الطبيعة وترتيبه، في كتابات أخرى غير الكتابات الخيالية؛ فقوائم أسماء الحيوانات والنباتات التي تظهر في كتاب أثينايوس تأتي أساسا من الأعمال الرائدة التي ألفها أرسطو عن علم الحيوان، والتي ألفها ثيوفراستوس عن النباتات. هذان البحثان معقدان من الناحية الفلسفية، ويطرحان مشكلات كبرى تتعلق بالتصنيف، ولكنهما يفردان مساحة للاهتمام بتناول الطعام، ويتضح ذلك في مناقشة أرسطو عن الجراد مثلا، أو في حديث ثيوفراستوس عن السيلفيوم.
وننتقل من علاقة البشر بالحيوانات والنباتات إلى النصوص القديمة التي تتناول موضوعات كبرى تتعلق بالطعام، وتتعلق هذه المشكلات أساسا بالمتعة والترف. ولكن، دعونا نتأمل أولا الصورة الكبيرة للعالم الإغريقي الروماني أو العالم «المتحضر».
كانت ثمة رؤية للعالم تشغل تفكير المؤلفين اللذين يسهمان بالكثير في هذا الكتاب، وهما جالينوس وأثينايوس. يساعد جالينوس في بحثه المعنون ب «عن المحافظة على الصحة» في معايشة أجواء العالم الإغريقي داخل الإمبراطورية الرومانية ونقل ذلك إلى قرائه. يقول عن الأطفال الألمان (1، 10) إنهم «يفتقرون إلى التربية الصالحة. ولكننا لا نكتب هذه الأشياء للألمان أو لغيرهم من الشعوب غير المتمدنة أو الهمجية؛ ولا نكتبها للدببة أو الخنازير أو الأسود أو لأي من الحيوانات الأخرى، بل نكتبها للإغريق ولمن ولدوا كأفراد من شعب همجي ولكن يتبعون التكوين الثقافي للإغريق». ولا يرى جالينوس الثقافة الإغريقية بصفتها ناديا مقصورا على أبنائه، ويعتنق التعقيدات الهائلة التي تتألف منها الإمبراطورية الرومانية التي يمكن استيعاب الناس تحت لوائها؛ ويمكن توضيح هذه الفكرة في موضع لاحق في البحث نفسه حين يتحدث جالينوس عن النبيذ (5، 5). ويشمل عالم جالينوس أنواع الخمور الإيطالية الرفيعة مثل فالرنيان، والأنواع الإغريقية المفضلة مثل نبيذ ليسبوس، والخمور المصنوعة في موطنه في آسيا الصغرى مثل ميسيا وبيثنيا، ويذكر أيضا الخمور الصقلية والغلاطية. وبخصوص الرجال المتقدمين في السن الذين يعانون من اضطرابات الكلى، سيكون من المناسب استخدام إضافات من حشيشة الجراح (أو بطونيقا اشتقاقا من اسمه بالإنجليزية
Betony )، أو العشب السلتي «كيسترون»، أو الناردين أو الفلفل (وكلاهما من آسيا).
تشمل المصطلحات الجغرافية المرجعية التي يستخدمها جالينوس الإمبراطورية الرومانية بأسرها ومناطق خارجها. وهذه السمة واضحة أيضا في بحث «عن قوى الأطعمة»، الذي يتحدث فيه جالينوس عن مجموعة أطعمة تتراوح بين الأرنب الإسباني والفستق السوري، وبين الجاودار التراقي والجمل الإسكندري. ويكتمل ذلك النطاق المكاني أيضا بنطاق اجتماعي نادرا ما يتحقق في أعمال المؤلفين القدماء. وفي سياق مناقشة جالينوس لأنواع القمح المقشور («عن قوى الأطعمة» 1، 2)، يتحدث عن جماعتين من الناس؛ ريفيين في أيام عيد ورياضيين، وتختلف كلتا الجماعتين عنا «نحن»، ويقصد ب «نحن» صفوة المؤلفين والذين من المفترض أنهم يقرءون هذا البحث. يضيف الريفيون كما رأينا في الفصل الثاني الجبن إلى الخبز في أيام الأعياد والاحتفالات، وهذه التوليفة تلحق الضرر حتى بأقوى بنية. ويضرب مثلا بالحصادين وحفاري المصارف؛ إذ ينظر إليهم بصفتهم أكثر قدرة على هضم الخبز غير المختمر مقارنة بالرياضيين، وهم الأقوياء النموذجيون في المخيلة القديمة. ويشرح جالينوس أن الكدح والعمل الشاق يجعلان الريفيين يشعرون بالجوع الشديد إلى حد يجعل معدتهم تحتجز الطعام غير مكتمل الهضم؛ «وهذا هو السبب في أن هؤلاء يتعرضون فيما بعد لأمراض مزعجة للغاية، ويموتون قبل أن يبلغوا الشيخوخة. ومعظم الناس الذين يرونهم يأكلون ويهضمون ما لا يستطيع أحد منا هضمه، يهنئونهم على قوة أجسامهم، جهلا منهم بهذه المعلومة» (ترجمه إلى الإنجليزية: باول). الريفيون والرياضيون ونحن، نلاحظ أن جالينوس - الطبيب الذي عاش في عهد الإمبراطورية، والذي حضر مباريات المصارعين، وحضر الحملات العسكرية التي قادها الإمبراطور - يطوف بمجالات متنوعة حتى يصل إلى رؤيته للعالم، ويتجول أيضا بين الكتب الدراسية في مجال الطب وكذلك في الأعمال الأدبية؛ إذ لا يعتمد فقط على أبقراط والمؤلفين المتخصصين في مجال الطب وغيرهم من المؤلفين المتخصصين في المجالات التقنية ذات الصلة مثل ديسقوريدوس، بل يعتمد كذلك على أفلاطون وأرسطو وأريستوفان؛ ومن ثم، يتحدث جالينوس في البحث القصير المعنون ب «عن العادات» («بيري إيثون ») عن نصائح مأخوذة من كتاب «طيمايوس» لأفلاطون، وكذلك عن مبادئ أبقراط والطبيب الهلنستي إراسيساتراتوس؛ إذن، تأثر الأطباء بالفلسفة وتأثر الفلاسفة بالطب؛ فرأينا اهتمام أفلاطون بجسم الإنسان في كتاب «طيمايوس» كما سبق، وفي كتاب «الجمهورية» يعتمد على أفكار مأخوذة من أبقراط وعلى نظام غذائي اقترحته شخصية غامضة نوعا ما، وهو هيروديكوس السيليمبري.
وتشمل هذه الرؤية - التي جمعها جالينوس في مجموعة من الأبحاث - عالم الطبيعة والعالم المتحضر، وتشمل الكون والحضارة. وسبق أن شرح الكثيرون ممن سبقوا جالينوس عالم الطبيعة وعالم الأخلاق وعلاقتهما بالطعام، وهذه المعتقدات والتفسيرات عن الظواهر الطبيعية هي موضوع هذا الفصل.
وتتكرر على مدى قسم كبير من الفكر القديم المتعلق بالطعام فكرة قوية قائمة على التناقض، بين الكفاية والإسراف، وبين البساطة والتعقيد، وبين النفع والمتعة. وسنرى أصداء هذه الفكرة في الفصل التاسع الذي يتناول الأدب، وسنعود في مواضع أخرى من الكتاب إلى الفكرة القوية المتعلقة بالإسراف الذي ينبغي كبحه. كان الكثيرون في العصور القديمة يعتقدون أن البشر خاضعون لرغبات في مجالات معينة تتعلق باحتياجات الإنسان الأساسية من الطعام والتكاثر والملبس، وظهرت أنظمة فكرية منظمة لتعريف هذه الاحتياجات وتحديدها، وكثيرا ما كان يعتقد أن الترف يكمن في فئات معينة من البشر، خصوصا من ينتمون إلى ثقافات أخرى والنساء والعبيد والرجال ممن ينحرفون عن قواعد السلوك التقليدية. وتشيع هذه الأفكار في الكثير من المصادر المختلفة، خصوصا تلك التي تقارن المعتقدات التقليدية بالتأثيرات الخارجية؛ ومن ثم، سنرى فيما يأتي تعليقات كاتو الأكبر عن التأثير الإغريقي في إيطاليا في القرن الثاني قبل الميلاد، وتعليقات إغريقية مماثلة عن تأثيرات الفرس على اليونان في تاريخ سابق لتلك الفترة، وسنرى أيضا تعليق سينيكا على تبذير علية القوم من الرومان في القرن الأول الميلادي. وجزء كبير من هذا الجدل بدأه أفلاطون من خلال سلسلة من المناقشات التي تدور حول مسألة الرغبة هذه .
ومع ذلك، نجد أن أبرز الأفكار الفلسفية التي ظهرت وأكثرها تكرارا على الإطلاق تتعلق بالترف والمتعة، ونجد أن أعمال المؤلفين من معظم العصور تشمل تحذيرات بشأن الترف (إذ كثيرا ما يرونه خطرا يهدد المواطنين ويكون السبب وراءه الأجانب وغيرهم من الجماعات الخارجية)، وبشأن المتعة أيضا. ولا يرفض المتعة رفضا قاطعا إلا قلة قليلة من المؤلفين، ولكن كان من المعتقد دائما أن المتعة تنطوي على إمكانية لمزيد من صور المتعة الأشد إلحاحا، وأنها تتسم بالنهم عموما. وحتى المؤلفون الذين يعتقد الكثيرون أنهم يؤمنون بالمتعة - مثل إبيقور - يكتبون عنها مستخدمين تعبيرات حذرة جدا، كما سنرى. وسنجد أن الاهتمام بالمتعة في هذا الفصل كثيرا ما يوضع في مقارنة مع مفاهيم الاحتياج أو المنفعة، ونجد مثالا من الأمثلة المتوقعة للمقابلة في الجزء الثاني من كتاب «حديث المائدة» 2 لمؤلفه بلوتارخ:
عزيزي سوسيوس سينيكيو، بعض التحضيرات الخاصة بإعداد مآدب العشاء وحفلات الشراب تصنف على أنها من الضروريات، مثل النبيذ والطعام، وبالطبع الأرائك والموائد. والبعض الآخر عبارة عن وسائل لهو تقدم من أجل المتعة، ولا ترتبط بها أي فائدة ضرورية؛ مثل الموسيقى والعروض المثيرة وفيليب المضحك في منزل كالياس. (من كتاب «حوار المأدبة» من تأليف زينوفون)
وسنرى أن المؤلفين يختلفون في تصنيفهم لما يندرج تحت مسمى المتعة، وما يندرج تحت مسمى المنفعة. ولكن من وجهة نظر أفلاطون وجالينوس وأثينايوس، فإن هذه المقابلة ضرورية من الناحية المفاهيمية بهدف تبرير رؤيتهم للعالم في إطار أخلاقي وفكري مقبول.
وتبرز هذه السمة على وجه الخصوص عند التقليل من شأن النواحي الاجتماعية والدينية للطعام، وعند تعارض احتياجات الجسم مع مخاطر المتعة؛ ففي أعمال أفلاطون، نلاحظ أن الطعام يوصف بأنه مضر في «محاورة جورجياس»، ونجده مقبولا في النسيج الاجتماعي والاحتفالي في كتابي «القوانين» و«حوار المأدبة»؛ ونجده يتحدث عنه حديثا متناقضا في كتابه «الجمهورية». وعلى الجانب الآخر من الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب، في كتاب «عن التقشف» من تأليف فرفريوس التابع للمدرسة الأفلاطونية الحديثة، نلاحظ النظر إلى الطعام بصفته عدو الفيلسوف - أو الحكيم الزاهد - الذي يجب ألا يكون عرضة لمتع الجسد التي يتمتع بها البشر العاديون. سيكون كاتو الأكبر وموسونيوس روفوس من أشد المعارضين لنواح معينة من عادات تناول الطعام لدى الرومان، شأنهما شأن سينيكا والرواقيين.
وكما رأينا في مواضع أخرى، كان القرن الرابع قبل الميلاد فترة مهمة لتطور الفكر في هذا الشأن. كان لأفلاطون دور مؤثر في تحليله للمتعة، وسنبدأ بكتابه «الجمهورية»؛ ففيه يعكف كل من سقراط وأدمينتوس وغلوكون على تحديد العناصر التي ستكون ضرورية لإمداد الجمهورية المثالية بأسباب الحياة، ويحددون الضروريات الأساسية بأنها الحبوب والنبيذ والملابس والأحذية (371). وسيكونون بحاجة إلى مساكن أيضا، وغالبا ما سيكونون عراة وحفاة صيفا، ويرتدون ملابس وأحذية شتاء. وسيتغذون على دقيق الشعير، الذي سيصنعون منه كعكة الشعير أو «المازا»، وسيتغذون كذلك على دقيق القمح الذي سيضعونه على أعواد قصب أو ورقات نباتية ويخبزونه ليصبح خبزا، وسيتكئون على أرائك ريفية مفروشة بخشب الطقسوس وأغصان الآس، وسيأكلون مع أطفالهم ويمضون في شرب النبيذ وارتداء الأكاليل وغناء الترانيم للآلهة، و«يعيشون عيشة رضية معا، ولا يكثرون من الإنجاب بما يفوق طاقتهم، ويحذرون كل الحذر من الفقر والحرب.» وهذه التفاصيل مهمة للمناقشة التي سنتناولها بعد قليل بخصوص الأشياء التي تعد من وسائل الترف، وتشمل التفاصيل حتى الآن الضروريات الأساسية المذكورة آنفا، وهي تتعلق بالطعام والإنجاب والدفء، وكلها ترتبط بالجسد. ويحددون الشعير وكذلك القمح - وهي مفاجأة - بصفتها أطعمة ضرورية، ويذكرون طقوس تناول الطعام مثل الاتكاء وتتويج الرءوس بالأكاليل، ويحددون الاعتبارات الاقتصادية بخصوص الإمدادات الكافية ومخاطر التهديدات الوافدة من الخارج (على افتراض أن جيرانا أقوى يحسدون هؤلاء على ما لديهم). ومن الملاحظ على وجه التحديد وجود تصور لنموذج زراعي، يخلو من أي أطعمة لا تزرع في إقليم أتيكا؛ ولذا، ليست التجارة من بين المقترحات المطروحة. يذكر غلوكون سقراط أن مواطنيه حتى ذلك الوقت يتناولون طعامهم دون أي مكملات من اللحوم والخضراوات للغذاء الأساسي المكون من الحبوب، أو ما يطلقون عليها «أوبسا». وتعبر هذه الكلمة عن معان متضمنة معينة تعبر عن الانغماس في المتعة والرغبة الجامحة، كما يأتي في ديفيدسون (1997).
ويدرج سقراط «أوبسا» - وهي المكملات الغذائية اللذيذة التي تضاف إلى الحبوب العديمة النكهة - التي تعد ضرورية لصحة الإنسان في ضوء فهمنا للتغذية في وقتنا الحاضر، ويضيف معها أيضا الملح والزيتون والجبن وبصلات الياقوتية والخضراوات الورقية، ذلك «النوع الذي يسلقونه في الريف». وسيتوافر أيضا البلح والحمص والفول لتناوله على مهل، وثمار الآس والبلوط للشي، فضلا عن شرب الخمور باعتدال؛ «هكذا سيعيشون حياة هادئة، ويتمتعون بصحة جيدة، وسيكون من المرجح أن يعيشوا عمرا طويلا ويورثوا نمط الحياة هذا إلى أبنائهم.» ويقول غلوكون إن هذه حياة لا تناسب إلا الخنازير؛ فالضروريات تشمل أرائك للاتكاء عليها، وموائد لتناول الطعام، وأطعمة لذيذة ومقرمشة «كالتي يحظى بها الناس في وقتنا الحاضر». ونجد أن رد سقراط على هذا مثير للاهتمام؛ إذ يقول: «يبدو أننا لا نتأمل في كيفية تأسيس مدينة بقدر ما نتأمل في كيفية تأسيس مدينة مترفة». وهذه ليست مدينة «صحية» بالضرورة، وربما تأوي الظلم، وربما تضطر للدخول في حروب. والعناصر التي يحدد وجودها في مدينة مترفة كهذه هي كما يأتي: الأرائك والموائد وغيرهما من الأدوات المستخدمة في تناول الطعام، والطعام اللذيذ، وصمغ المر، والبخور، والمحظيات، والكعكات، واللوحات المرسومة، والذهب، والعاج. وسيكون في هذه المدينة عدد كبير من أصحاب المهن والصيادين، والفنانين المتخصصين في النحت والرسم والموسيقى، والشعراء ومساعديهم ومنشدي الشعر، والممثلين والراقصين ومتعهدي الأعمال، والحرفيين المتخصصين في صنع كل أنواع الحرف اليدوية بما في ذلك أدوات زينة النساء، وستكون فيها مجموعة من الخدم والمعلمين الخصوصيين والمرضعات والممرضات ومصففي الشعر والحلاقين وصانعي «الأوبسا» والطهاة. «سنكون بحاجة أيضا إلى رعاة الخنازير.»
شكل 7-2: يظهر الفلفل في المؤلفات الطبية والأدبية بدءا من القرن الرابع قبل الميلاد حتى كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس في أواخر العصور القديمة. وكان الفلفل يحظى باستحسان كمادة منكهة، ونظرا لصفاته التي تساعد على التدفئة في الطب (راجع دالبي 2003: 254-255). يصف ميلر (1969: 80) الفلفل باعتباره «السلعة الأساسية للنشاط التجاري للإمبراطورية الرومانية مع الهند». (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
يؤكد أفلاطون أيضا على جزئية مهمة في «محاورة جورجياس»، وهي محاورة مطولة عن الخطابة والمتعة ومجالات من المجتمع قد تفيد أو تضر الفرد والمجتمع. ويرى أن العقل والروح جانبان أرقى لدى الإنسان من الجسد، ولكن حين يتعلق الأمر بالعناية بالجسد، فإن المرء يلجأ إلى أشخاص مناسبين وآخرين غير مناسبين طلبا للنصح. ينصح الطبيب بما يحتاجه الجسد، وينصح الطاهي بما يجلب المتعة؛ وكان لهذا الفصل بين الطب والطهي دور مؤثر في الفكر القديم (وإن كنا رأينا في هذا الكتاب الكثير من الأمثلة لتعاون الطهي والطب في تناغم). يذكر أفلاطون أصحاب مهن بعينهم (518) ممن كانوا مرموقين في أثينا؛ مثل: ثياريون الخباز، وميثاكوس الطاهي، وسارامبوس صانع النبيذ.
وفي غضون ذلك، ظهرت أيضا في المسرح الكوميدي - في القرن الرابع قبل الميلاد - شخصيات معينة مرتبطة بعادات تناول الطعام الراقية، وكان من بينها الطاهي الذي يحضر الطعام وتحدث عنه كثيرا. وكان من الشخصيات الأخرى المتطفل أو المنتفع الذي يستجدي الطعام والشراب دون وجه حق على عكس المشاركين الآخرين، حيث يستجديه بسبب الفقر والظلم، مثل الشحاذين في ملحمة «الأوديسا». وكانت الشخصية الثالثة هي «هيتارا» أو المحظية التي كانت تسلب الرجال أموالهم في جلسة الشراب، وهي قسم من الأمسية مخصص لشرب الخمور. وكل هذه الشخصيات النمطية - التي يدل تكرار ظهورها على قلق مستمر بشأن المشكلة - كانت توضح للمشاهدين المخاطر التي تقترن بالمتعة، وهذه المخاطر تحدق بالرجال على وجه التحديد. يذكر أثينايوس، على سبيل المثال في الموضع (4، 165)، أن المسرحيات الكوميدية كانت تهزأ بشخص اسمه ستيسيبيوس - ابن كابرياس - وكان يميل إلى التبذير («أزوتيا»)، حتى إنه باع ضريح أبيه (وكان هدية من مدينة أثينا) لينفق على حياة الترف والبذخ التي كان يعيشها («هيدوباثيا»). وهذه الكلمة الأخيرة مثيرة للاهتمام؛ فهي تظهر لأول مرة في أعمال زينوفون، وهي عنوان القصيدة الساخرة التي تتحدث عن وصفات الطهي التي ألفها الشاعر أركستراتوس الذي عاش في القرن الرابع (راجع الفصل الثاني).
ويظهر تقييم أكثر إيجابية عن الطعام وعادات تناول الطعام في مجالات فكرية أخرى في العصر القديم. ومن المجالات اللافتة الطب؛ إذ يقع الطعام والطهي في صميم عملية التمدين والتهذيب وفي صميم الجهاز الهضمي، وذلك كما يأتي في الفصل الثامن؛ فالمقصود هو تناول الطعام باعتدال. ويظهر هذا بوضوح في النصوص الطبية بدءا من أبقراط وانتهاء بجالينوس. ويتحدث جالينوس في كتاب «عن قوى الأطعمة» - على سبيل المثال - بأسلوب يستدعي إلى الأذهان أسلوب أفلاطون، وتحديدا في الموضع الذي يعلق فيه على استخدام الطهاة للأعشاب لتحسين الطعم (2، 51، وهو ما استشهدنا به في الفصل الأول). ويعلق أيضا بدهشة على إقبال أهل روما على كبد أسماك البوري الحمراء بعد هرسها ومزجها بصلصة الغاروم وزيت الزيتون (3، 26):
أبدى الذواقة إعجابهم بكبد أسماك البوري الحمراء نظرا لطعمه اللذيذ ... ولكني لا أعتقد أنه لذيذ الطعم أو مفيد للجسم بما يبرر ذلك الإعجاب ... ولا أستطيع أن أفهم أيضا السبب الذي يدفع الكثيرين لشراء أسماك البوري الحمراء من الحجم الأكبر؛ فلحمها ليس لذيذا مثل لحم الأسماك الأصغر حجما، وصعب الهضم لأنه قاس نوعا ما؛ ولذلك، استفسرت من أحد الذين كانوا يشترون أسماك البوري الحمراء بسعر مرتفع عن سبب حماسه لهذه الأسماك؛ فأجابني بأن ما يدفعه لشراء أسماك كبيرة السن مثل تلك الأسماك هو كبدها بالتحديد، ومع ذلك كان يشتريها أيضا من أجل رءوسها. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
في معظم أعماله، لا يتحدث جالينوس عن عادات تناول الطعام لدى الأغنياء إلا حديثا عابرا؛ فالأغنياء كان يهتم بالحديث عنهم الكثير من المؤلفين مثل بلينوس وكولميلا، وذلك في بداية كتابه «عن الزراعة»، ويصور فيه المعاصرين له باعتبارهم يبتعدون عن القيم التقليدية (خصوصا القيم الزراعية المقدسة) ويتجهون نحو التفاخر الحضري البلاغي المتأنق. تترافق مع أراضي الأسلاف ظاهرة التجنيد بنظام نصف الوقت للمواطن المزارع. يتبع أثينايوس - في استعراضه للترف في الجزء الثاني عشر من كتابه - نموذجا لتطور الدولة يبدأ بمجتمع يعج بالقوة والشجاعة القتالية؛ ثم يصبح ناجحا وعظيما، والأهم أنه يصبح «رقيقا»، ثم يتحطم في نهاية الأمر على رمال الترف. ويذكر أثينايوس أمثلة للدول والأفراد التي تعاني من تلك الرقة، وتأتي هذه الأمثلة في القصص الأخلاقية التي تنطوي على غرض تعليمي واضح.
وكثيرا ما يكون الطعام جزءا لا يتجزأ من ذلك التطور الاجتماعي والثقافي؛ ولذلك، نجد أن كتاب هيرودوت يتحدث مرتين عن قائد عسكري من الغزاة يسأل عن سبب غزوه لبلد أفقر من بلده في الزراعة، ثم يلقى الهزيمة في نهاية الأمر. ويبدو أن الحجة هي أن مصر وبلاد فارس على التوالي أغنى من جيرانهما من حيث وفرة الغذاء والزراعة؛ ومن ثم فإن الرغبة في غزو هذه البلدان المجاورة أمر يبعث على الدهشة. ويقارن خطاب الترف أيضا بين عادات تناول الطعام الفاخرة الحالية وعادات تناول الطعام الأقدم الأكثر تقشفا؛ ونلاحظ هذا في كتابات المؤلفين الإغريق والرومان، بل في بلاد فارس حيث نجد أن الأطعمة التقليدية التي قامت عليها الهوية الفارسية هي البطم ونوع من نبات الرشاد، وذلك بصرف النظر عن فخامة القصور الملكية هناك (سانشيسي ويردينبرج 1995). ويعلق جالينوس على الكسل في عصره الذي تقابله الفضائل القديمة (وهو ما نستشهد به في الفصل الثامن)، ويبدي بلينوس أسفه - كما رأينا - بشأن التدهور في العصر الحديث («التاريخ الطبيعي» 8، 210):
كان الخنزير البري يقسم إلى ثلاثة أجزاء، وكان يطلق على الجزء الأوسط خاصرة الخنزير. كان أول من يقدم خنزيرا كاملا في مآدبه من الرومان هو بوبليوس سيرفيليوس رولوس ... (في أوائل القرن الأول قبل الميلاد) فذلك التاريخ هو الذي شهد بداية هذا الحدث الذي أصبح حاليا من الأحداث اليومية، ويأتي ذلك الحدث في النصوص التاريخية - ربما بسبب تحسن هذه العادات - وفيه يؤكل خنزيران بريان أو ثلاثة في مناسبة واحدة، وليس بصفته الطعام الذي يقدم على مدى المأدبة بأكملها، بل بصفته أحد المقبلات.
شهد الكتاب الإغريق والرومان الكثير من أمثلة هذا التطور، وكتبوا عن نماذج للبساطة تتناقض مع ذلك وتقع في الماضي أو في المناطق غير الحضرية. ويرى أثينايوس أن هذه البساطة تكمن في قصائد هوميروس، مثلا. والسؤال الذي يهمنا هو: هل كانت التطورات من هذا النوع مؤثرة في تاريخ الطعام وعادات تناول الطعام، أم كانت تختلف عن تطور الطعام في الثقافة، مثل ذلك التطور الذي ناقشناه في الفصل الأول؟ وربما كانت هذه الظواهر المترفة - على سبيل المثال - أحداثا متفرقة كانت تؤدي بدورها إلى نتائج متشابهة في قرون مختلفة، وتتعلق بالكتابات الفلسفية أكثر منها بعادات تناول الطعام. يذكر بلينوس التغيرات التي طرأت على طريقة أكل الخنزير البري، شأنه شأن المؤلف المهتم بالوعظ الأخلاقي جوفينال في قصيدة «المقطوعة الهجائية الأولى»، ولكن بلينوس في الفقرة نفسها يروي أيضا أن كاتو الرقيب في بداية القرن الثاني قبل الميلاد كان قد كتب خطبا تشجب «كالوم»، أو دهن الخنزير البري. وكان كاتو محقا على الأرجح في رأيه عن شرور لحم الخنزير.
وكثيرا ما يعرف كاتو بوصفه شخصية جمهورية صارمة حاولت المحافظة على القيم التقليدية الرومانية أمام التأثير الإغريقي. وكان يناهض توسع المصالح الرومانية في البلدان الإغريقية، وكان يناهض عائلة سكيبيو الذين كان لهم دور مؤثر في التوسع في إسبانيا وقرطاج واليونان. ويشتهر بشكواه من جلب فتية يتسمون بالوسامة إلى إيطاليا، واستيراد الأسماك المملحة من البحر الأسود، وكان يصل سعر الجرة منها إلى 300 دراخما وهو سعر أعلى من سعر الأرض (بوليبيوس 31 وأثينايوس). ويتحدث بلوتارخ في كتابه «حياة كاتو» عن عادات تناول الطعام الغريبة التي كان يتبعها كاتو، مثل عادته أن يأكل الخبز ويشرب النبيذ مع عبيده.
لا بد أن نشاهد هذه الصورة على حقيقتها، بصفتها صورة مصنوعة خصوصا لتحقيق أكبر تأثير سياسي وخطابي؛ فالقائد العسكري المنتصر إميليوس باولوس، المحب لكل ما هو إغريقي، المعروف باهتماماته الإغريقية وكتبه الإغريقية، لم يكن هو النقيض لكاتو؛ إذ إن كاتو درس اللغة الإغريقية واستعمل الأبحاث الإغريقية في كتابه المتخصص في الزراعة، وكان كفيل الشاعر الأوسكاني الشاب إينيوس. فهذا الخطيب الذي يجيد ثلاث لغات أصبح أيقونة أخرى للتقشف في روما في عصر الجمهورية، ولكن أحد أعماله كان نسخة لاتينية من كتاب «حياة الترف» من تأليف أركستراتوس، وليس المقصود بهذا أن نتهم كاتو وإينيوس بالنفاق، بل المقصود أن نذكر أن هذا كان عصرا مركبا يعج بالعلاقات الدولية والأيديولوجيات المركبة. ولم يكن من الصعب على تلميذ تحت التدريب، من جنوب اليونان، أن يقدم لمن يقرءون اللاتينية قصيدة من قرن سابق في صقلية الإغريقية. وكان الترف من بين تلك الموضوعات الأيديولوجية. يقارن بلوتارخ بين عادات تناول الطعام لدى كاتو، وعادات تناول الطعام لدى اثنين من جيرانه، وهما مانيوس كوريوس دينتاتوس وفاليريوس فلاكوس، وقد اشتهر الثاني بأنه هزم بيروس - القائد المقدوني الذي غزا إيطاليا - وبعد هذا الانتصار الهائل وبعد ثلاثة انتصارات عاد للعمل في زراعة حقله. يروي بلوتارخ (2، 1):
وجده سفراء منطقة سامنيوم في حقله جالسا عند المصطلى يسلق اللفت. كانوا يريدون أن يمنحوه كمية كبيرة من الذهب، ولكنه صرفهم قائلا إن الرجل الذي يكفيه عشاء مثل ذلك ليس بحاجة إلى الذهب، وإنه يفضل غزو البلاد التي تمتلك اللفت عن الحصول على الذهب.
وفي الوقت نفسه، كان فاليريوس معجبا بعادات تناول الطعام التي يتبعها كاتو؛ إذ كان يجلس إلى المائدة مع عبيده ويشاركهم الطعام والنبيذ نفسه، ودعاه إلى مأدبة عشاء. ولم تكن هذه المأدبة على شاكلة المآدب غير الرسمية التي لا تكترث بالفوارق الطبقية، ويتناول فيها العبيد النبيذ والخبز الذي يتناوله أسيادهم من أبناء الطبقة الراقية؛ إذ كانت تمثل البوابة التي دخل منها كاتو إلى معترك الحياة السياسية في روما. ومع ذلك، ما إن صار كاتو رجلا له سلطان في روما، «حتى أصبح يرضى بعشاء بسيط وإفطار/غداء بارد (أريستون) ...» حسبما يروي بلوتارخ ضمن جوانب أخرى من حياة كاتو البسيطة (4، 2). وظل كاتو يمارس نشاطه كسياسي وكرقيب لمناهضة الإسراف، وكان يرى (حسب ما أورده في الموضع (4، 2) من كتابه) أن «الجمهورية لم تكن تحمي نقاءها نظرا لمساحتها الشاسعة، وأن حكم الكثير من الأماكن والشعوب كان يستدعي منها المشاركة في الكثير من الأنظمة الأخلاقية واعتناق نماذج لأنماط حياة متباينة تماما.» ويتشابه ما قاله بلوتارخ مع ما قاله بوليبيوس؛ فهذه معركة أيديولوجية على روح الجمهورية التقليدية التي تتنافس مع الجمهورية ذات الميول التوسعية إبان القرن الثاني قبل الميلاد. وفي الموضع (16، 4)، يروي بلوتارخ أن ترشيح كاتو لمنصب الرقيب كان قائما على ضرورة «تخفيف الترف والرقة («تروفين كاي مالاكايان») مثل الأفعى المتعددة الرءوس» (راجع أستين 1978: 173).
وهذا الجدل الأيديولوجي الدائر حول شخصية كاتو الأكبر ينطوي على أهمية للفكر الذي يتناوله هذا الفصل؛ فهو يعرض التضاد بين ادعاءات الحياة الريفية التقليدية ومتطلبات المدينة الآخذة في النمو، بالإضافة إلى عوامل التأثير الخارجية. تظهر مخاوف في بعض المناطق من أن الإمبراطورية التي تتبع نهج التوسع ربما تكون معرضة لخطر الغرق في طوفان السلع المترفة الأجنبية. وللطعام وعادات تناول الطعام دور في هذه العملية، كما أنها آلية وأسلوب للنظر إلى العالم الذي لا يقتصر على روما وحدها، بل ينعكس في أثينا وربما في الكثير من المدن الإغريقية. وأناقش هذا في ويلكنز (2000: الفصل السادس). ونجد أصداء لذلك في المسرح الكوميدي الإغريقي والروماني؛ حيث تعرض تلك المتضادات أمام عدد كبير ومتنوع من المشاهدين. وهي سمة شائعة قبل كل شيء في الأدب الروماني الذي نناقشه في الفصل التاسع، وفي «الهجائيات» التي ألفها هوراس وجوفينال (في «المقطوعة الهجائية الحادية عشرة»، يشير جوفينال بوضوح إلى مانيوس كيوريوس)، والخطابات والخطب والمقالات التي ألفها كل من شيشرون وسينيكا، وفي قصيدة «الأعياد» من تأليف أوفيد (راجع ما سبق)، وكتب التاريخ التي ألفها سالوست وتاسيتوس والتي نسجت حولها الأساطير. وما يهمنا هو تاريخ الطعام، وهو يستقى من مصادر متباينة للغاية، ولكن تلقي ذلك التاريخ يعتمد أساسا على هذه الأعمال الأدبية ذات المضمون الأخلاقي التي ظهرت في بداية الإمبراطورية الرومانية.
طبق كاتو في أواخر حياته نظاما قاسيا على عبيده العاملين في منزله، وشمل ذلك - على حد وصف بلوتارخ (في كتابه «حياة كاتو» 21، 4) - ضبط حياتهم الجنسية، وتطبيق عقوبة الإعدام بإجراءات موجزة من دون محاكمة عندما يقتضي الأمر ذلك. أما عن ترتيبات تناول الطعام، فيروي بلوتارخ:
في بداية حياته حين كان لا يزال فقيرا ويخدم في الجيش، لم يكن ينزعج بخصوص أي شيء يخص النظام الغذائي، ولكنه كان يقول إنه من المخزي أن يتشاجر المرء مع أحد الخدم على نوعية الطعام الذي عليه أن يأكله. وفيما بعد - حين أصبح يشغل منصبا أهم، وأصبح يقيم مآدب رسمية [هيستياسيس] لأصدقائه وزملائه من الولاة - كان يعاقب بالسوط كل من أهمل في تقديم الطعام أو تحضيره، وذلك عقب المأدبة مباشرة.
مع ذلك، كان العبيد يحظون بمزايا فريدة؛ إذ يروي بلوتارخ (20، 4) أن زوجة كاتو لم تكن ترضع ابنه فقط (وهو ما قد تمتنع عنه أي زوجة من الطبقة الراقية)، بل كانت ترضع كذلك أبناء العبيد بهدف ضمان ميلهم إلى كاتو وولائهم له من خلال هذه التغذية المشتركة.
ونجد أمثلة كثيرة لمحاولات كاتو لضبط طقوس تناول الطعام وضبط تأثير العادات الأجنبية، وذلك في المسرحيات الكوميدية من تأليف بلاوتوس وتيرنس، التي ألفاها في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد. حين ترجمت هذه المسرحيات نقلا عن الأعمال الإغريقية الأصلية من تأليف ميناندر وآخرين، وحولت إلى نسخ باللغة اللاتينية، عرضت في أعياد تختلف عن الأعياد الإغريقية السابقة لها (راجع الفصل الثالث)، وروعي تعديل طريقة تصوير المآدب الفاخرة التي كان يطهوها طهاة متفاخرون. وبدءا بالاحتفالات، نلاحظ إدخال عدد من الاحتفالات (مثل ألعاب أبولو وألعاب سيرس وألعاب الأم العظيمة) بهدف زيادة المدد الإلهي لمدينة روما إبان أزمة غزو هانيبال التي كانت تهدد بقاء روما. (وأضيفت هذه الاحتفالات إلى الألعاب الرومانية القديمة، وإلى العروض المسرحية التي كانت تقدم في جنازات أبناء الطبقة الراقية البارزين.) وكانت المآدب ومظاهر الترفيه والاحتفال عناصر مهمة في هذه الأعياد، وكان المسرح الكوميدي من بين هذه العناصر. وتؤكد هذه التطورات اللافتة كلامنا السابق عن اعتماد روما على سمات الثقافة الإغريقية في الوقت نفسه الذي كان فيه بعض المواطنين يجاهرون بعدائهم لليونان، على الأقل في مناسبات معينة.
معروف أن مسرحيات بلاوتوس وتيرنس هي أعمال مترجمة من الإغريقية، وكثيرا ما تعترف بذلك في فصولها التمهيدية؛ فالشخصيات والأماكن إغريقية. ولكن من الواضح أيضا أن هذين الكاتبين المسرحيين يكتبان كذلك عن روما والرومان؛ إذ نجد إشارات واضحة للقوانين والدساتير الرومانية، مثل قوانين الإنفاق المناهضة للترف (راجع فرانكل 1960 ولي 2004). لكن، من بين الأساليب التي تتبعها تلك المسرحيات المقارنة بين الريف (أي الفضائل البسيطة والتقليدية)، وبين المدينة التي ترتبط بالمآدب الفاخرة. والمدن هي محور التأثر بالخصائص الإغريقية، وأحيانا يستخدم الفعل
pergraecari
باللغة اللاتينية ومعناه «العيش مثل الإغريق» للدلالة على عادات تناول الطعام الفاخرة التي يتبعها الشباب (جروين 1984). يسرد أستين (1978: 173 و179) مسرحيات بلاوتوس الآتية: مسرحية «القرطاجني الصغير» (603)، ومسرحية «الأختان التوءم باكخيس» (813)، ومسرحية «تروكولينتوس» (87)، ومسرحية «موستلاريا» أو «منزل الأشباح» (22 و64 و960)؛ فهذه المسرحيات هي بالضبط المؤثرات الأجنبية التي كان كاتو وبوليبيوس أيضا يشعران بالقلق حيالها (31، 25، 2-8):
كان أول اتجاه يتخذه سيبيو من منطلق طموحه لعيش حياة فاضلة هو أن يعرف عنه الاعتدال وضبط النفس، وأن يتفوق في هذا الشأن على غيره من سائر الشباب في نفس سنه. وهذه جائزة كبرى حقا ويصعب نيلها، ولكنها كانت هذه المرة سهلة المنال في روما بسبب الميول الموجودة لدى معظم الشباب إلى فساد الأخلاق؛ إذ إن بعضهم كان قد انغمس في العلاقات الغرامية مع الصبية، وانغمس آخرون في مصاحبة المحظيات، وانشغل الكثيرون بحفلات الترفيه الموسيقية والمآدب، والتبذير الذي يترتب عليها، وذلك بعد أن تأثروا سريعا إبان الحرب مع بيرسيوس بالتساهل الإغريقي في هذه الأوجه؛ ومن ثم، كان الانحلال المتفشي بين الشباب في تلك الأمور كبيرا في حقيقة الأمر، حتى إن الكثيرين كانوا يدفعون طالينا مقابل الحصول على غلام أثير، وكان الكثيرون يدفعون ثلاثمائة دراخمة مقابل جرة من السمك المملح. وأثار هذا استياء كاتو، حتى إنه قال ذات مرة في خطبة عامة إن من أشد علامات التدهور التي تشهدها الجمهورية أن يدر الصبية الوسيمون أكثر مما تدره الحقول، وأن تدر جرار الكافيار أكثر مما يدره المزارعون. وهذا الاتجاه الحالي إلى التبذير لم يفصح عن نفسه إلا في المدة التي نحن بصدد دراستها؛ ويرجع ذلك أولا إلى أنهم كانوا يعتقدون أنه بعد سقوط مملكة مقدونيا القديمة صار سلطانهم الشامل بلا منازع، وثانيا أنه بعد نقل ثروات مقدونيا إلى روما ظهر اتجاه هائل للتباهي بالثراء في الأماكن العامة والخاصة على حد سواء. (ترجمه إلى الإنجليزية : باتون)
جلب العصر الإمبراطوري على روما الكثير من المشكلات الجديدة التي لم تكن إلا مخاطر بعيدة في عهد كاتو الأكبر. في ظل الزيادة الهائلة في الثروة القومية والقدرة على امتلاك الأراضي في بلدان أخرى، أصبح من المتاح عيش حياة مترفة في إيطاليا وفي المقاطعات مثل صقلية وشمال أفريقيا ومناطق شرق اليونان؛ فخصوبة صقلية وأفريقيا كانت معروفة للقاصي والداني. يذكر بوليبيوس (31، 21، 1) أن الملك ماسينيسا كان يطمع في منطقة إمبوريا (الواقعة عند خليج قابوس حاليا)، وحاول انتزاع الأراضي الخصبة من القرطاجيين. في العصر الإمبراطوري، كانت هناك فيلات فخمة في شمال أفريقيا، يرجع الفضل إلى كثير منها في لوحات الفسيفساء الموجودة في مجموعات التحف في متحف باردو في مدينة تونس العاصمة، والمتحف الموجود في مدينة سوسة التونسية.
كان الناس يعيشون حياة رغدة، وكانت العائلات الناجحة والغنية تحظى بدخل هائل، وكان بوسعهم إنفاق دخلهم على الأطعمة الفاخرة، وكذلك المنازل الواسعة والعبيد وكل عناصر الحياة الرغدة. وكان أفراد الطبقة العليا يتنافسون فيما بينهم على التباهي بنجاحاتهم ومكانتهم، وكانوا يستخدمون أوجه الإنفاق هذه لترسيخ مكانتهم في السلم الاجتماعي والسياسي. وكان تناول الطعام واحتساء الخمور يتيحان الفرصة لإقامة حفلات اجتماعية تتيح التباهي بتلك الممتلكات. وكانت المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية تضمن حصول الناس على الفواكه الكثيرة التي تنتجها الإمبراطورية والموجودة في أسواق روما (إيليوس أريستديديس (26، 1-29)، ودالبي 2000). وكانوا يحظون بأصناف متنوعة ذات جودة، وبكميات بحسب رغبة كل فرد؛ وهذا مجال أفاضت النصوص الأدبية والفلسفية في الحديث عنه. ومن المهم أن نذكر نقطة البداية لتلك النصوص وعلاقتها بالشئون الاجتماعية والاقتصادية. كان لدى أفلاطون وشعراء المسرح الكوميدي في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد الكثير من الهموم المشتركة، ولكن كانت لديهم أيضا آراء مختلفة للغاية في هذا المجال، كما ناقشنا فيما سبق. بحلول العصر الإمبراطوري في روما، ظهرت كتابات متنوعة عن مخاطر تناول الطعام، وجاءت هذه الكتابات من عدة اتجاهات تربطها علاقات مشتركة، ودأب الفلاسفة على انتقاد الشهية والترف، كما فعل سقراط على النحو الذي ظهر في كتاب أفلاطون. سنتناول آراء كل من موسونيوس روفوس وسينيكا، وكلاهما كانا من الفلاسفة الرواقيين وكانا يكتبان في القرن الأول الميلادي، وسنناقش أيضا تأثير معتقدات إبيقور المناهضة لهذه الآراء. ثم ظهرت شروح أدبية نناقشها في الفصل التاسع. وفي الكثير من النواحي نجد أن هذه الأشكال الأدبية والفلسفية كانت ترى الطعام عدوا في مقدوره دوما التحول من كونه غذاء نافعا إلى شيء أكثر إغراء وخطورة؛ كانت تراه يتحول إلى طعم لذيذ يروق للشهية. إذن، لا بد أن نشير في مواضع أخرى في الفترة التي نتناولها إلى النصوص التي تناقش الطعام من زاوية أشمل، لا بد أن نشير إلى بلينوس وأثينايوس وجالينوس، فكل منهم يدرج عادات تناول الطعام في إطار اجتماعي وفكري.
وأهم العناصر التي يؤكد عليها موسونيوس روفوس في كلامه عن الطعام هي سلامة العقل والتحكم. وتأتي آراء موسونيوس في عجالة، ويقال إنه قد كررها كثيرا وبأسلوب مؤكد، بصفتها ذات أهمية لا يستهان بها. والموضوعات الملائمة هي الأطعمة غير المرتفعة الثمن في مقابل الأطعمة المرتفعة الثمن، والأطعمة المتوافرة بسهولة في مقابل الأطعمة النادرة، والأطعمة «المتجانسة» (أي الأطعمة التي تندرج ضمن الفئة نفسها، ومثال ذلك الطعام المصنوع من النباتات) وتشمل النباتات والحبوب والمنتجات الحيوانية. ومعظمها من الأطعمة التي لا تتطلب الطهي، مثل الفواكه الموسمية والحليب والجبن والعسل؛ وإذا كانت تتطلب الطهي، مثل الحبوب، فإنها تكون مستساغة أيضا. أما فيما يتعلق باللحوم، فهي من الأطعمة الوحشية وتناسب أكثر الحيوانات البرية؛ فهي أطعمة ثقيلة وتعوق التفكير. ويواصل موسونيوس (في عجالة) قائلا:
ولهذا السبب، نجد أن من يكثرون من استعمال اللحوم يكون تفكيرهم أبطأ. وعلاوة على ذلك، ما دام الإنسان من بين كل المخلوقات على الأرض هو الأقرب للآلهة، فلا بد أن يتغذى بطريقة تشبه تغذية الآلهة؛ فالأبخرة المتصاعدة من الأرض والماء تكفيهم؛ ولذلك لا بد أن نتغذى على الطعام الأقرب شبها بتلك الأبخرة، أي أخف الأطعمة وأنقاها؛ ومن ثم فإن أرواحنا ستكون نقية وجافة، وحين تصبح هكذا تصبح الأرقى والأكثر حكمة، كما كان يرى هيراكليتوس حين قال: «الروح الصافية الجافة هي الأفضل والأكثر حكمة.» (ترجمه إلى الإنجليزية: لوتز)
ويروى أيضا أن موسونيوس كان مناهضا لطرق الطهي المبتكرة وفنون الطهي وكتب الطهي والمخاطر الصحية للأطعمة المعقدة. وأكبر خطر هو متعة تناول الطعام، وهي متعة من المستحيل إشباعها، وتحط من منزلة البشر إلى مستوى الكلاب والخنازير التي تفتقر إلى العقل؛ فمتع تناول الطعام تفتك بالرجال عدة مرات في اليوم، وربما يأكل الناس أكثر من اللازم أو أسرع من اللازم، وربما يأكلون طعاما غير مناسب في الوقت غير المناسب، وربما يقصرون في كرم الضيافة حين لا يقدمون إلى أصدقائهم نفس نوع أو كمية الأطعمة التي يأكلونها هم. وليس الغرض من البلعوم والمعدة أن يكونا من أعضاء المتعة، بل مهمتهما هضم الطعام؛ فعدم التحكم في الشهية يؤدي إلى طلب التنوع، وإبحار السفن في البحار، وإعلاء قيمة الطهاة عن المزارعين، وتبذير الممتلكات. يرى الفيلسوف أن الأغذية الأرخص ثمنا تصنع أفرادا بنيتهم أقوى، مشيرا إلى غذاء العبيد وغذاء الريفيين في مقابل غذاء أهل المدن، ومقارنا بين غذاء الفقراء وغذاء الأغنياء. (كما سنرى في الفصل القادم، فإن رأي جالينوس الطبي في غذاء الفقراء والريفيين أقل تفاؤلا من رأي الفيلسوف.) وبخصوص الموائد وأثاث جلسات الشراب، ينتقد روفوس الذهب وغيره من أدوات الزينة الباهظة مفضلا عليها الأواني الخزفية والأواني المعدنية الرخيصة والمفيدة في الوقت نفسه. ثم تأتي الأدلة الأخيرة من تقشف الإسبرطيين - الذي كان مرغوبا أكثر من كل ثروات ملك بلاد فارس - وتفضي هذه الأدلة إلى تصريح موجز عن الترف:
أني لأختار المرض وليس الترف، فالمرض لا يضر إلا الجسم، ولكن الترف يدمر الجسم والروح، ويسبب الضعف والوهن في الجسم، وانعدام ضبط النفس والجبن في الروح. فضلا عن ذلك، الترف ينجم عنه الظلم لأنه يسبب كذلك الشجع؛ فلا يوجد امرؤ يميل للإسراف يمكنه تجنب التبذير في الإنفاق، ولا يوجد مبذر يستطيع إنفاق مبالغ قليلة؛ ولكن في إطار رغبته في الحصول على أشياء جمة لا يستطيع أن يمتنع عن الحصول عليها، وكذلك حين يسعى للحصول عليها لا يستطيع أن يتجنب أن يكون جشعا وظالما؛ فلا يوجد من يمكنه أن ينجح في الحصول على الكثير بوسائل عادلة. ومن ناحية أخرى، من المفترض أن يكون صاحب العادات المترفة ظالما؛ لأنه من المفترض أن يتردد في تحمل الأعباء الضرورية لمدينته دون التخلي عن حياة الإسراف التي يعيشها. وإذا كان من الضروري أن يتعرض للحرمان نيابة عن أصدقائه أو أقربائه، فإنه لا يقبل بذلك؛ فحبه للترف لن يسمح بذلك. بل الأكثر من ذلك، أن من يؤدي الواجبات تجاه الآلهة لا بد أن يكون أحيانا هو الفرد الذي من المفترض أن يعاملها بعدل، وذلك بتقديم القرابين أو طقوس التدريب والإدماج أو غير ذلك من الطقوس الدينية. وفي هذه الحالة أيضا سيتضح أن المبذر مقصر؛ لذلك، من المفترض أن يكون ظالما في كل الأحوال تجاه مدينته وأصدقائه وآلهته؛ إذ سيقصر في فعل واجباته. (ترجمه إلى الإنجليزية: لوتز)
من الواضح أن هذه الفقرة تحتوي على عدة آراء مختلفة كثيرا عن الآراء التي رأيناها في مواضع أخرى في هذا الكتاب، وسنرى آراء متناقضة أيضا في كتابات فرفريوس. ويشبه هذا المقال عن الطعام آراء سينيكا وآراء الكثير من الفلاسفة الآخرين؛ فهي تعرض نظرة عامة وشاملة عن المجتمع الروماني متسقة داخليا ولكنها تعتمد على تفسيرات خاصة للأعراف الدينية والاجتماعية والاقتصادية. تعكس «رسائل» سينيكا آراء رواقية مشابهة تتعلق بضبط النفس وكبح رغبات الجسد، ولكن من داخل حياة الطبقة الراقية؛ ومن ثم، تقول الرسالة 114 على سبيل المثال:
حين يتيح الرخاء انتشار الترف في نطاق كبير من المجتمع، يبدأ الناس في إيلاء اهتمام أكبر بمظهرهم الشخصي. والعنصر التالي الذي يستحوذ على اهتمام الناس هو الأثاث، ثم يوجهون جهودهم إلى المنازل نفسها، فيحرصون على أن تكون ذات مساحات شاسعة، ويحرصون على تغطية الجدران برخام لامع مستورد من الخارج، واختيار أسقف ذهبية، وتركيب أرضيات تتألق بلمعة تشبه الألواح التي تكسو الجدران. ثم تنتقل الفخامة إلى المائدة؛ حيث يسعى الناس إلى المديح عن طريق التجديد ووسائل التنويع في الترتيب المعتاد لتقديم الأطباق.
أما عن الطعام نفسه ، فيلخص سينيكا في «الرسالة» 78 الآراء التي رأيناها لمرات عدة:
يقول الناس: «يا له من امرئ غير محظوظ لما ابتلي به من المرض!» ترى ما السبب؟ ألأنه لا يذيب الثلج في قدح النبيذ؟ ألأنه لا يكسر الثلج داخل كأس كبيرة ليحافظ على المشروب الذي مزجه فيها مثلجا؟ ألأن محار بحيرة لوكرين لا يفتحه له أحد على المائدة؟ ألأنه لا يوجد طهاة في غرفة الطعام يحضرون معهم أدوات الطهي وليس فقط أطباق الطعام؟ فهذا هو أحدث ابتكار في أسلوب المعيشة المترفة، وهو إدخال أدوات المطبخ مع مأدبة العشاء إلى المائدة لمنع فقدان الطعام لسخونته، ولتجنب ارتفاع حرارة الطعام على نحو غير مناسب قد يحرق سقف الفم عند تناوله، فمن الملاحظ أن سقف الفم لدى الناس حاليا أصبح مثل الجلد المدبوغ.
تتبع كتابات سينيكا الاجتماعية نمطا رواقيا بصفة عامة، والكثير من المؤلفين يرون أن أتباع إبيقور اتخذوا موقفا مختلفا تماما تجاه الطعام ما دامت المتعة هي الهدف، وليس بصفته العدو كما جاء في كتابات أفلاطون والفلاسفة الرواقيين. وعلى الرغم من التصوير المشوه في الأدب الشعبي والفكر الشعبي - وفي كتابات أثينايوس (3، 5، 7)، وغيره - يبدو أن إبيقور وأتباعه قد حثوا على ضبط النفس في تناول الطعام، بهدف عدم الإضرار بصحة الفرد ومصلحته الشخصية؛ ومن ثم، يكتب إبيقور رسالة إلى مينوكيوس ينصحه فيها باتباع أسلوب حياة بسيط:
إن الحياة الممتعة لا تقوم على شرب الخمور والرقص والعلاقات الجنسية بصفة مستمرة، ولا على الاستمتاع بأكل الأسماك أو غيرها من الأكلات اللذيذة التي نجدها على الموائد الفاخرة. إن التفكير الرصين هو الذي يبحث عن الدوافع التي تحفز كل قرارات الاختيار والإعراض، وهو الذي يرفض تلك المعتقدات التي تترك العقل عرضة لأكبر اضطراب وخلل. (ترجمه إلى الإنجليزية: جاسكين)
ويأتي موسونيوس روفوس في نهاية سلسلة طويلة من الفلاسفة الذين اعترضوا على كتب الطهي؛ إذ نجد أن أفلاطون في كتابه «محاورة جورجياس» يعقد مقارنة بين كتاب الطهي الذي ألفه ميثاكوس الصقلي وبين المؤلفات الطبية (راجع الجزء الذي يتحدث عن ذلك في بداية الفصل).
وحاول أركستراتوس استغلال هذا الاتجاه بتسمية قصيدته «هيدوباثيا» أو «تجربة المتعة» («حياة الترف»)؛ فلا داعي لشرح مخاطر كتب الطهي بالتفصيل؛ فهي تنصح الطاهي أو العبد العامل لدى أسرة أو ربة الأسرة بإعداد الطعام بطريقة تجعل طعمه أطيب أو أنقى. ومع أن هذا قد يزعج دعاة الوعظ الأخلاقي، فإن كتب الطهي تمثل لعلماء الأنثروبولوجيا وللمؤرخين المتخصصين في الطعام خطوة نحو التطوير وتقدما في تحضير المنتجات الزراعية للتقديم على مائدة الطعام؛ فهذه الكتب لا تصدر إلا في ظل ظروف ثقافية معينة (راجع الفصل الثاني)، وبعض هذه الظروف تناولها جودي (1982: 97-99)؛ فلا بد من وجود فائض زراعي لإصدارها. وليس من قبيل المفاجأة أن كتب الطهي نشأت فيما يبدو في صقلية - الأرض التي تقع عليها قصور الطاغية الغني - وليس في البر الرئيسي لليونان الأقل خصوبة. ولا بد من وجود سلطة مركزية يمكنها جمع الموارد، ولا بد كذلك من وجود مجموعة كبيرة من الذواقة ممن باستطاعتهم تفضيل طعم معين على آخر ولديهم اهتمام كاف بذلك، ولا بد من وجود ثقافة قائمة على الكتابة والتدوين، حتى تسجل وصفات الطهي ليقرأها القراء المهتمون بدلا من نقلها شفهيا من متخصص إلى آخر؛ ومن ثم، تعبر كتب الطهي الإغريقية عن مرحلة ناضجة من التقدم الثقافي. ويفرق أفلاطون بين كتب الطهي وبين الطب تفرقة تعسفية من بعض النواحي؛ لأن الكثير من الأطباء ألفوا كتب طهي (كتاب «أوبسارتوتيكا»: راجع أثينايوس 516، وجالينوس «عن قوى الأطعمة» 2، 27)، وربما كانت تلك الكتب تشبه الوصفات التي كان الأطباء يجمعونها في أبحاثهم المتعلقة بالعقاقير وعلم الأدوية. وكما أن الطبيب كان عليه وصف كم الطهي المطلوب لطعام معين، كان يشرح أيضا تركيبات العقاقير؛ وهذا الدور الطبي يقترب من النصائح المتعلقة بالطهي والتتبيل الغزير الواردة في الكثير من الوصفات في كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس.
ومن الممكن أيضا أن تعتمد كتب الطهي على مواد خام غير محلية، ومن الممكن أن تحفز القارئ أو المستهلك أو حتى المؤلف على السفر لبلدان أجنبية بحثا عن أكلات شهية معينة، ومن الممكن أن تزيد الطلب على الواردات الأجنبية القادمة إلى مدينة ما.
وكتب الطهي التي وصلت إلينا قليلة؛ فلا يوجد إلا بضع شذرات من أعمال ميثاكوس، ومن كتب الوصفات التي ألفها الأطباء ، ومن أعمال باكساموس (الذي ذكره كولميلا). والأعمال الباقية الأساسية هي أعمال أركستراتوس وأبيكيوس، وهي توضح الفئتين اللتين تحدث عنهما شون هيل، وهما الدليل الإرشادي (أبيكيوس) والكتاب القائم على الطموح (راجع الفصل التاسع). ويقدم أركستراتوس حقا إرشادات عن طريقة طهي أنواع معينة من الأسماك، ولكن معظم القصيدة تنصب على الحيل المبتكرة القائمة على القالب الشعري الذي أنشأه هوميروس، والعبارات الجريئة التي تحرض على المتعة ووسائل التسلية المتنوعة التي تهدف إلى إمتاع الجمهور الذي يبدو أنه من حاضري جلسات الشراب، إذا كانت القصيدة قد ألفت لإلقائها بعد مأدبة عشاء. والنتيجة الرئيسية المستهدفة من ذلك هي أخذ القارئ أو المستمع في جولة افتراضية في أنحاء بلدان البحر المتوسط، والتحفيز على السفر بحثا عن المتعة، ووصف مباهج أكل الأسماك بالتفصيل؛ ومن ثم، فالقصيدة عمل أدبي له عدة أهداف؛ ومن ثم، فلأثينايوس أن يستشهد بها لظرفها وأيضا لحديثها عن الأسماك والأماكن التي توجد فيها، ويهاجمها في الوقت نفسه لعباراتها المحرضة على المتعة. فأثينايوس يرى أن أركستراتوس يمثل خطرا على الحياة الصالحة شأنه شأن إبيقور، أو يرى أنه يمثل إبيقور في الفكر الشعبي على أقل تقدير. وعلى سبيل الفكاهة، أحيانا ما يستشهد المتحدثون في كتاب أثينايوس بأركستراتوس عن طريق وسيط هو الفيلسوف الرواقي خريسيبوس؛ وهكذا، يصبح التحريض على المتعة متضمنا في كلام معبر عن الرفض صادر من فيلسوف رواقي رائد.
وفي المقابل، نجد أن كتاب أبيكيوس عبارة عن جمع متأخر لعدد من الأعمال المختلفة التي تجمع بين الاهتمامات الطبية، والأطعمة النادرة، وتحويل الأطعمة الرخيصة إلى أطعمة شبيهة بالأطعمة المرتفعة الثمن. وعلى عكس قصيدة أركستراتوس - التي لم يصل منها إلا شذرات استشهد بها في أعمال أخرى - يصل إلينا كتاب أبيكيوس كمخطوطة؛ وهو كتاب متنوع من حيث اللغة وأسلوب الطهي، ويبشر بمرحلة لاحقة امتدت إلى العصر الوسيط بسبب تفضيله لإضافة التوابل بكثرة. وليس من السهل أن نلاحظ مدى علاقة العمل بصفته عملا مجمعا بأي مؤلفات ربما يكون أبيكيوس قد ألفها. تشير النوادر التي رواها أثينايوس وغيره أن أبيكيوس كان ذواقة وليس طاهيا، ويشير كتاب الطهي قطعا إلى استخدام مكونات أجنبية، مثل الفلفل والببغاوات؛ فالطاهي الذي في طليعة الابتكار واستخدام النكهات غير المعتادة يمكنه قطعا الاستفادة من هذا الكتاب، والطاهي الذي ليس لديه إلا حفنة من الموارد، من الممكن أن يستفيد أيضا من محتويات الكتاب؛ فالمواد الواردة فيه متنوعة.
ويبدو أن كتاب الطهي الذي ألفه أركستراتوس، وكذلك كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» من تأليف أثينايوس، يقدمان لحظات فارقة في عملية التطور هذه؛ فالأول يتعاطف بوضوح في قصيدته مع حياة الترف، أما أثينايوس - على الرغم من كل كلامه الساخر عن أركستراتوس - فيقدم كل أدلته المتعلقة بجلسات الشراب التي تدلل على تعدد مناسبات تناول الطعام في البلدان الإغريقية والبلدان الأخرى من حيث التنوع من مدينة إلى أخرى، ومن نص إلى آخر؛ فكل العناصر التي يعبر عنها كتابه تتسم بالترف؛ بمعنى أنها ليست بسيطة ولا تقليدية ولا مقدسة بحسب الطقوس. ومما لا شك فيه أن الترف يعرض بصورة سلبية في الجزء الثاني عشر، ولكن لم يعبر أحد بالتفصيل عن ترسيخ الترف في البلدان الرومانية إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين أفضل مما جاء في كتابات أثينايوس؛ فالوالي الروماني لارنسيس يقيم مآدب عشاء لا نظير لها في فخامتها، والمواد المستخدمة في تحضيرها لم تأت قطعا من تلال منطقة لاتيوم القديمة.
كانت روما في العهد الإمبراطوري في مكانة تتيح لها طلب أفضل المنتجات من كل البلدان في الإمبراطورية وجمعها والاستمتاع بها في روما، وكان البعض - مثل موسونيوس - يرفضون تلك المنتجات تماما، بينما كان البعض الآخر - مثل سينيكا وأتباع إبيقور - يتناولونها بحذر؛ لذلك، حاول بلينوس إجراء بحث عن الإمبراطورية بأكملها مع اهتمام كبير بتفوق إيطاليا واحترام عميق للقيم التقليدية. واحتفى آخرون - مثل أثينايوس - بالتنوع وخففوا من مخاطر الإسراف باتخاذ ضوابط رواقية وعدم التأكيد على الأطعمة والمشروبات المادية نفسها، بل على صورها الأدبية. يحظى حاضرو مأدبة الحكماء بجميع أنواع الأطعمة الفاخرة أمامهم، ولكنهم يأكلون القليل (مما يثير اشمئزاز أتباع الفلسفة الكلبية الحاضرين بينهم)، ويستشهدون بأوصاف وتعليقات أدبية عن الأطعمة. ويعرض الكثير من هذه المناقشات - ولكن ليس كلها - الفكر القديم من وجهة نظر أبناء الطبقة الراقية ممن يستمتعون بمزايا الإمبراطورية، بل إنها حتى تستبعد آراء عامة الناس بصفتها ذات سمة تأملية على نحو غير كاف ولصيقة أكثر مما ينبغي بالمتع الجسدية (أحيانا «الحيوانية»). ويمثل جالينوس أحد استثناءات هذه القاعدة فيما يخص أعماله المتعلقة بالطعام، ما دام يبني فكره فيما يبدو على أدلة مستقاة من السكان ككل. والنظام الغذائي للريفيين من العناصر المهمة في المناقشة؛ فلا بد من أخذه في الاعتبار إلى جانب تفسير جالينوس لأحد حوارات أفلاطون، أو لأي أعمال أخرى جديدة ومبتكرة.
وأخيرا، أناقش العمل المميز الذي ألفه الفيلسوف فرفريوس، أحد أتباع المدرسة الأفلاطونية الحديثة، تحت عنوان «عن التقشف». يهدف فرفريوس في هذا الكتاب إلى إعادة قرائه إلى الحياة النباتية، بعد مدة انقطاع. وهو كتاب ذو طابع تقشفي؛ لأنه يصرح بأن الفيلسوف فقط وليس عامة الناس (من الأغنياء أو الفقراء) هو الذي بوسعه تحمل حياة تخلو من أكل اللحوم، ولكنه ليس متطرفا مثل موسونيوس روفوس. وينفرد الكتاب بثلاث مزايا مهمة؛ فالكتاب سجل مبهر للمعتقدات النباتية في العصور القديمة، وهو يحفظ أجزاء من الكثير من الأعمال التي باتت مفقودة الآن - مثل عمل ثيوفراستوس المعنون «عن التقوى» - وهو عرض مبهر للمناظرات القديمة التي دارت حول الآلهة والحيوانات والنباتات وعلاقتها بعالم البشر، ويتحدث باستفاضة عن أتباع فيثاغورث وإبيقور، على سبيل المثال، ويتحدث أيضا عن القواعد الغذائية لليهود والمصريين. ويهتم اهتماما كبيرا بالأنظمة والمؤسسات الاجتماعية؛ فالفيلسوف الذي يريد أن يكرس نفسه للإله وللنقاء يمكنه أن يفصل نفسه عن الكثير من جوانب المجتمع البشري، ولكن معظم الناس لا يمكنهم ذلك؛ ومن ثم، فإن احتياجات الرياضيين مثلا تحظى بالاهتمام (2، 3)، ولا ترفض بلا تمحيص.
مقدمة الفصل الثامن
من السهل أن نتهكم على المعتقدات الطبية التي كانت تسود في الماضي؛ فكما أن من سيأتون بعد قرون سيضحكون ملء أفواههم على فكرة تجويع الناس لأنفسهم على الرغم من وجود وفرة من الأطعمة، بغرض تنحيف أنفسهم في القرن الحادي والعشرين، نهز نحن رءوسنا رفضا حيال الاعتقاد القائل بأن تحقيق توازن بين البرودة والدفء أو الرطوبة والجفاف في الأطعمة كان هو العامل المهم للحصول على نظام غذائي صحي، أو أن إراقة الدماء كانت تساعد على مكافحة العدوى. كان الرومان يستخدمون أوعية من الرصاص لغلي شراب العنب بهدف تحلية النبيذ، وهي عادة كانت تؤدي إلى التسمم قطعا، ولكننا كنا نستخدم المواسير المصنوعة من الرصاص والماء اليسر مما أدى إلى انخفاض مستوى الذكاء في القرى على مدى قرون بعد ذلك، ونعاني حاليا من انتشار الربو لدى الأطفال وتحسس الجسم للمواد المثيرة للحساسية، وبدأ الباحثون يربطون بين تلك الحالات المرضية وبين المواد الكيماوية القوية المستخدمة حاليا في تصنيع المنظفات. فالتغير الحقيقي الوحيد يكمن في المجالات التي نجهلها.
ويبقى شيئان ثابتان دون تغير؛ إذ نجد أن أهم الأطباء يتخصصون في الأمراض التي تصيب الأغنياء وليس في المشاكل التي يعاني منها الفقراء؛ فينصب اهتمام الباحثين والأطباء على التخفيف من آثار السمنة والإفراط في تناول الطعام، وليس على آثار سوء التغذية والنظام الغذائي الرديء.
والجانب الثاني والأكثر لفتا للانتباه هو أننا نؤيد بلا تردد أي نظريات حالية عن الطعام والتغذية، ونوافق على أن هذه النظريات تؤثر على اختيارنا للطعام وطريقة تحضيره؛ فما من قائمة تسوق في زمن ما بعد الحرب العالمية إلا كانت تتضمن الحليب والزبد لضمان أسنان وعظام صحية، وكذلك دهن الخنزير ودهون بقرية للحصول على القوة، ومشروبات سكرية للحصول على الطاقة. وكانت كل الافتراضات صحيحة بالأساس، وكانت تعبر عن معتقدات عصر لم تكن فيه الكميات الصناعية للملح والدهون الرخيصة والسكارين تشكل بعد جزءا من الخطة القومية للطعام، وقبل تحول الطهي في معظمه إلى إعادة تسخين المنتجات السابقة التحضير. وتسببت الأطعمة التي لم تعد توزع بنظام الحصص حديثا، مثل السكر والحلويات، في الكثير من حالات تسوس الأسنان، ولكن لم تتسبب في السمنة إلا فيما ندر. وكان الزبادي والأطعمة المنخفضة الدهون أو المنخفضة السكريات نادرة، ولم يكن أحد يدرك أنها ضرورية.
إن الأملاح والدهون الكامنة التي تحتوي عليها الوجبات الجاهزة المصنعة - التي ظهرت في حقبة السبعينيات من القرن العشرين والعقود التي أعقبتها - قد أدت إلى آثار أسوأ بكثير على الرغم من زيادة الوعي الصحي والغذائي، وفي الوقت نفسه انتشرت الصيحات الغذائية الجديدة القائمة على الكربوهيدرات أو الأنظمة الغذائية القائمة على حمية الجمع بين الأطعمة.
واللافت للنظر ليس أننا نقبل تلك النصائح بلا تردد، بل هو أن التغيرات المهمة التي تطرأ على كيفية تناولنا للطعام ونوعية الطعام الذي نأكله تنبع من ذلك؛ فالحيوانات تربى لتكون أكثر نحافة، وأصبح يعتقد أن الخضراوات هي الخيارات الأكثر فائدة للصحة على الرغم من الرواسب الكيميائية الناتجة عن الرش بالمبيدات، وصارت الكربوهيدرات - وهي الحبوب التي يعتمد عليها النظام الغذائي لبلدان البحر المتوسط - هي العناصر غير المستحبة في الوجبة حاليا.
وبالمثل، فإن النصائح الطبية والنصائح المتعلقة بالتغذية التي سادت في العصور الإغريقية والرومانية كانت ستؤثر على الخيارات التي تتخذ والأطباق التي تحضر بنفس الطريقة تقريبا؛ ولذلك فأي معرفة طفيفة بالمعتقدات التي كانت سائدة ستساعد في فهم الأسباب التي أدت إلى إهمال أطعمة معينة في الوقت الذي كانت فيه أطعمة أخرى تحظى بإقبال كبير.
ومعظم الأعشاب والتوابل التي نستعملها في الطهي جاءت من خزانة الأدوية؛ فالكزبرة مثلا كان يفترض أنها تفيد في التخلص من حشرات الفراش، وكانت لدى القدماء معرفة متطورة عن آثار النباتات وأنواع الفطر الفعالة وكانوا يستخدمونها. وكانت تجارة الحبوب ستوفر البنية التحتية لتداول المزيد من السلع المجلوبة من الخارج مثل التوابل والنباتات الطبية، وكذلك الأفكار والمعارف التي جاءت معها من الشرق.
الفصل الثامن
الآراء الطبية المتعلقة بالطعام
يفضل الكثير من الأطباء الخس على كل أنواع الخضراوات الأخرى، تماما كما يفضلون التين من بين فاكهة الخريف ... ولو كان ذلك صحيحا، لكان الخس بلا منافس، ليس فقط بين الخضراوات بل أيضا بين كل الأطعمة المفيدة والمغذية؛ إذ يقول الأطباء إنه يساعد في تكوين الدم، وبعضهم لا يشير إلى دوره في تكوين الدم فحسب، بل يضيفون عبارة «كمية كبيرة»؛ إذ يؤكدون أن الخس يكون كمية كبيرة من الدم. ولكن هؤلاء ... أبعد ما يكونون عن الحقيقة.
ينتقد جالينوس بشدة معهودة أخطاء الأطباء الآخرين في كتابه («عن قوى الأطعمة»). كان الأطباء يعملون في طليعة العلم في العالم المادي للجسم حيث كانت أفضل المؤشرات التي يستدل بها على صحة الجسم هي المظهر الخارجي، وخواص الإخراج من بول وبراز، وخواص ما يدخل الجسم من طعام وشراب؛ لذلك كانوا كثيرا ما يختلفون على الأدلة. وامتد الخلاف إلى الآثار التي يسببها طعام معين في الجسم.
يتناول هذا الفصل الطب والغذاء، ولكن قبل الانتقال إلى الموضوعات «الطبية» الصرفة، أكرر الفكرة التي أشرت إليها في الفصل الأول، وهي أن النظام الطبي الذي أنشأه أبقراط وجالينوس كان يقوم على «الطهي»؛ أي على إدخال المواد الخام الطبيعية إلى عالم الإنسان المتحضر. ثم تبدأ مرحلة ثانية من الطهي حين يؤكل الطعام وتؤدي حرارة الجسم إلى تمثيل الطعام ودخوله إلى مجرى الدم وإلى بنية الأنسجة؛ ومن ثم، فإن الطهي مترسخ في الثقافة الإغريقية، أو على الأقل في فكر أبقراط أكثر مما هو مترسخ في ثقافتنا. ولا بد أن نضيف أن التدخل الإلهي كان من العناصر القوية في الطب القديم فيما يخص الكثير من المرضى؛ ومن ثم، كان لطهي القربان أيضا دور في الطب القديم.
لدينا الكثير من السجلات عن تقديم قرابين إلى آلهة الشفاء، وفيما يلي قربان يعود إلى عام 400 قبل الميلاد تقريبا يقدمه إبيداوروس:
ليقدم قربان إلى أسكليبيوس عبارة عن ثور، وثور آخر للآلهة التي تشاركه في معبده، وبقرة للإلهة التي تشاركه في معبده. وتوضع هذه الأشياء ومعها ديك على المذبح المخصص لتقديم القرابين للإله أسكليبيوس. وليخصصوا لأسكليبيوس حصة عبارة عن مكيال من الشعير، ونصف مكيال من القمح، وواحد على اثني عشر مكيالا من النبيذ. وليضعوا أمام الإله إحدى أرجل الثور الأول، وليأخذ رجال الدين ممن يعرفون باسم «هيرومنيمونيس» الرجل الأخرى، وليعطوا إحدى أرجل الثور الثاني إلى أفراد الجوقة، والرجل الثانية إلى الحراس وكذلك الأحشاء. (نقوش إغريقية، الجزء الرابع 2 و1، رقم 41، ترجمته إلى الإنجليزية : إديلشتاين آند إديلشتاين)
كان أبولو هو الإله الأساسي للشفاء، وكان أسكليبيوس يعبد مثل الكثير من الآلهة الأخرى: تتشابه التفاصيل هنا مع التفاصيل المتعلقة بعيد بان أثينايا التي نستشهد بها في الفصل الثالث. كانت تقدم لأسكليبيوس القرابين، وتقام له الاحتفالات، بل تقدم إليه أيضا أريكة ليأكل عليها (في مزار بالقرب من مدينة تيثوريا في فوكيس في وسط اليونان، بحسب ما يذكر باوسانياس 10، 32، 12). ولم ينكر الأطباء التابعون لمدرسة أبقراط تأثير الآلهة في الأمراض والعلاجات (كتاب «المرض المقدس» 1)، ولكنهم كانوا يسعون إلى تقديم تفسير علمي لما كانوا يرونه ظواهر طبيعية. وكان الكثير من المرضى يتوجهون إلى معابد علاجية مثل معابد أسكليبيوس في إبيداوروس وأثينا، كما يتوجه بعض مواطني كريت المعاصرين إلى القديس أنطونيوس في باتسوس (راجع الفصل الثالث). وكان المرضى يعالجون كذلك عن طريق النوم المقدس، أو النوم في معبد الإله. وتأتي صورة من الصور الكوميدية لهذا النوم المقدس - الذي يوضح سمات تناول الطعام - في الفصل التاسع. يبالغ أريستوفان، ولكن تناول الطعام كان جزءا من ذلك الطقس لأنه كان يتطلب تقديم قربان، وأيضا حسبما يخبرنا بوسونياس (2، 27، 1)، لأنه كان لا بد من تناول القرابين داخل حدود المزار (دون أن تؤخذ إلى المنازل).
ثمة صلات قوية بين هذا الفصل وبين الفصلين السابع والتاسع بخصوص الفكر والأدب، على التوالي. وسيتضح ذلك حين نتأمل الاهتمامات الفلسفية المتنوعة لجالينوس في نهاية المدة الزمنية التي يتناولها هذا الكتاب، والأساس الفلسفي الذي كان يستند إليه فكر أبقراط قبل ذلك بنحو 600 عام. وتتضمن معظم مناقشة الطب مفاهيم عن الجسم تناولها الأدباء بطرق أخرى، وذلك في مناقشات عن الإسراف، أو عدم التحكم في الشهية، أو زيادة وزن الجسم، أو نقص الوزن عن الحد اللازم.
أوضحت الفصول السابقة كيف أن المؤلفين المتخصصين في مجال الطب تصوروا أن الحضارة تطورت من عادات تناول الطعام البدائية إلى المتمدنة (الفصل الأول)، وأوضحت مدى أهمية الأفكار الحديثة فيما يبدو عن الطعام النيئ والمطهي لفكر الكتاب التابعين لمدرسة أبقراط ولفكر جالينوس من حيث المفاهيم. وهذه الأفكار تنتمي إلى النظرية التقدمية فيما يتعلق بالتطور البشري. ولدينا صورة بديلة وصفها هسيود وآخرون، لاحظوا حدوث هبوط من الفردوس الأول نحو خلق الزراعة والقرابين والنساء كعقاب فرضه زيوس؛ فالمرأة - باندورا - فتحت صندوقها فخرجت منه الكثير من الأمراض المزعجة ضمن أشياء أخرى. يكتب روي بورتر بنفس النهج في كتابه «الاحتياجات الأساسية» (2002: 1-3): «ظهرت الأوبئة مع نشأة المجتمع، وكان المرض - وسيظل - نتاجا اجتماعيا لا يقل قيمة عن الطب الذي يقاومه؛ فالحضارة لا تجلب فقط المنغصات بل الأمراض أيضا ... كانت مجتمعات الصيد وجمع الثمار تحيق بها بيئات قاسية وخطيرة؛ ومن ثم كانت أعمار أسلافنا ممن عاشوا إبان العصر الحجري القديم قصيرة.» (رأي أبقراط) «ومع ذلك، نجوا من الأوبئة التي كان من المقدر أن تحيط بالمجتمعات التي ظهرت بعد ذلك ... ولا بد أن الأمراض المعدية (الجدري والحصبة والإنفلونزا وما شابه) كانت مجهولة فعليا؛ لأن الكائنات الدقيقة المسببة لها تتطلب وجود كثافات سكانية مرتفعة تشمل أعدادا كبيرة من الأشخاص المعرضين لمخاطر العدوى أو الإصابة بالمرض. ولم تظل هذه الجماعات المشتغلة بالصيد وجمع الثمار في مكان واحد لمدة طويلة بما يكفي لتلوث الموارد المائية أو تخلف وراءها القاذورات التي تجتذب الحشرات التي تساعد على انتشار الأمراض. والأهم من ذلك أنه لم تكن لديهم الحيوانات المستأنسة التي ظل لها دور ملتبس للغاية في تاريخ البشرية؛ فمع أن الحيوانات المستأنسة ساعدت في قيام الحضارة، اتضح أيضا أنها كانت من مصادر المرض المستمرة والمدمرة غالبا.» والفكرة الثانية قريبة من رؤية هسيود القاتمة، وبعض الأمراض التي تنقلها الحيوانات مذكورة في الفصل الأول، وللاطلاع على مناقشة للعلاقة بين الحيوانات والبشر راجع الفصل السابع.
يتعلق هذا الفصل في معظمه بالنظريات القديمة بشأن التغذية وبالأفكار التي تتناول سمات الصحة السليمة والصحة المعتلة، ولكن لا بد من نبذة مختصرة في البداية عن الأساليب الحديثة في تناول الأدلة القديمة. كان جالينوس والأطباء التابعون لمدرسة أبقراط يرون أن الأطعمة تغذي الجسم وتجلب عددا من الصفات المباشرة والممكنة التي أطلقوا عليها «دوناميس» (أي القوى أو الخصائص)؛ وهذه القوى أو الخصائص بالتحديد كانت تساعد في تعديل حالة الأخلاط في الجسم، وكذلك الأعضاء الداخلية وغيرها من الوظائف.
والنظريات الحديثة المتعلقة بالتغذية مهتمة أيضا بتحديد نظام غذائي متوازن، وتشدد على المواد المغذية الضرورية (ولذلك، فهي ترى أن الغذاء الأساسي المكون من الحبوب هو أهم المواد المغذية، كحالة الحبوب («سيتوس») في كتابات أبقراط وجالينوس). ومتطلبات الطاقة هي أول عنصر مهم، ويبلغ المعدل اليومي 2550 سعرا حراريا للرجال، ونحو 1940 سعرا حراريا للنساء (ويلز 1998)، والمكملات من الدهون والبروتينات أيضا ضرورية، ومصدرها المواد الحيوانية والنباتية (بما فيها الفول)، ثم المعادن والفيتامينات. وبينما نجد أن عالم التغذية في العصر الحديث ربما يقول إن نقص الزنك أو الفيتامينات يتسبب في حالة مرضية معينة، نجد أن الطبيب القديم كان على الأرجح يرجع السبب إلى القوى أو الخصائص التي يحتوي عليها الطعام نفسه. وكان الطبيب القديم يبحث على الأرجح عن سبب يتعلق بالطعام لأن الأسباب المعروفة كانت محدودة، ولم يكن يتوافر تفسير قائم على الفيروسات أو الجراثيم.
وثمة اتجاه حديث ثان يتعلق بالتغذية القديمة أسفر عن نتائج طيبة، ويتمثل هذا الاتجاه في تحليل الهياكل العظمية المأخوذة من المقابر القديمة للتحقق من الأدلة المتعلقة بالتغذية من خلال التحليل الكيميائي للعظام، وربما يؤدي هذا إلى تحديد الأمراض التي أصيب بها هؤلاء (سوء التغذية على وجه التحديد)، وأيضا الرواسب المتبقية في العظام التي نتجت عن النظام الغذائي الذي اعتمد عليه هؤلاء؛ وهكذا توصل فريق العمل في كريت إلى ما يدل على تناول السكان القدامى للأسماك واللحوم وغيرهما من المكونات الغذائية (راجع الفصل الأول)، في حين توصلت الدراسات التي أجريت في بومبي وهركولانيوم، مثلا، إلى ما يدل على إصابتهم بأمراض معينة. ويلخص جارنسي (1999) الحالات المرضية التي تدل على سوء التغذية، ويتوصل إلى بعض النتائج اللافتة بخصوص الصحة العامة وطول العمر، بما في ذلك بعض الآراء غير المتوقعة عن معدل العمر المتوقع بين مختلف جماعات المكانة (وهي جماعات لا يستند تمييزها إلى وضعها الاقتصادي المشترك، ولكن بالإضافة إلى نمط حياتها المشترك غالبا ما يوجد تشابه بينها في التربية العامة أو في المركز أو الهيبة الملتصق بميلادهم أو بعائلاتهم كما في الأرستقراطية الإرثية). وإذا قارنا القيود الغذائية مع غيرها من العوامل المؤثرة على معدل العمر المتوقع - وتحديدا الولادة والطفولة المبكرة - نجد أنها لم تكن مؤذية إلى حد بالغ، مع أنها كانت مزمنة. وقد ناقش سالارس (1991: 283-286) سوء التغذية.
ويخيل إلي أن استنتاج جارنسي لا يختلف على نحو لافت للنظر عن الانطباع الذي يأخذه القارئ عن أول جزأين من كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة». والجزء الثالث من البحث - الذي يتحدث عن اللحوم والأسماك - غير مناسب إلى حد كبير لدراسة عن سوء التغذية؛ نظرا لأن معظم السكان نادرا ما كانوا يأكلون اللحوم أو الأسماك بانتظام، وكما رأينا في الفصل الثاني، فإن الخطوة الأولى للريفيين في مواسم الشتاء القاسية هي ذبح الخنازير، ثم أكل اللحوم، وبعد ذلك أكل الطعام الذي كان مخزنا لإطعام الخنازير، وهو ثمار البلوط. يذكر جالينوس في مواضع كثيرة أن الريفيين كانوا مضطرين للبحث عن طعامهم في أدنى سلسلة الطعام التي تتألف من الأطعمة المعتادة أو المرغوب فيها؛ نظرا لأزمات نقص الطعام التي كانت تحدث، خاصة في فصل الربيع. ويتحدث جالينوس عن تعقيد هذه المشكلة قائلا:
إن الرجال في المنطقة التي أعيش فيها (مدينة ميسيا في غربي آسيا الصغرى) - الذين عادة ما يرفضون أكل سيقان وأوراق اللفت («جونجيليداي») الذي يطلقون عليه أيضا «بونياداي» - يأكلون سيقان وأوراق اللفت أيضا حين لا يجدون أطعمة أفضل، ويأكلون في هذه الحالة أيضا الفجل وما نطلق عليه بلهجتنا المحلية «رافيس»؛ من الممكن أن نقول إن هذا النبات هو الفجل البري. وتحت وطأة المجاعة، كثيرا ما يأكل الناس عود العطاس (سرة الكبش) والجزر الأبيض والكرفس البري والشمر والبقدونس الإفرنجي وكزبرة الثعلب والهندباء البرية والجزر الفرنسي والجزر البري، وأيضا العيدان الطرية لمعظم الأشجار والشجيرات بعد سلقها . ولكن بعضهم يأكلونها حتى في حالة عدم وجود مجاعة، كما يأكل البعض الجزء العلوي من نخلة التمر، وهو الذي يسميه البعض مخ النخلة.
لماذا يجب علي مواصلة الحديث عن ثمار الأشواك البرية الطرية؟ لأن هذه الثمار - وذلك في غير أوقات المجاعات - تصلح فعلا كوجبة مقبولة تؤكل مع الخل وصلصة السمك.» (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
يتناول جالينوس مشكلة نقص الطعام في مواضع كثيرة في إطار مناقشته للنباتات والحبوب التي تصلح كطعام، ولكنه أيضا يناقش الاختلاف بين منطقة وأخرى والتقديرات المختلفة لنباتات معينة، وذلك على أساس طرق التحضير وربما الوقت من العام. وبعض النباتات التي يرى أنها طعام للحيوانات وليس للإنسان - مثل نبات البيقة ذي المذاق المر - تظهر أيضا في فئة الأدوية؛ ومن ثم، فإن الماشية عادة ما تأكل نبات البيقة، ومن الممكن أن يأكله الفقراء من البشر حين تضطرهم أزمات نقص الطعام إلى ذلك، ومن الممكن أن يأكله الأغنياء منهم حين يمرضون. ويوجد - كما سنرى - الكثير من النباتات والحيوانات التي تظهر في كتاب جالينوس «عن قوى الأطعمة» المتعلق بالتغذية، وفي عمله المتعلق بعلم العقاقير المعنون ب «عن قوى العقاقير البسيطة وأمزجتها». العقاقير (البسيطة) هي أقوى أشكال الأطعمة. يرى جالينوس أن بعض المواد - مثل النبيذ - لا تحسب بصفتها أطعمة، وأن مواد أخرى - مثل البصل - هي أطعمة وعقاقير في آن واحد. ويتحدد الشكل الذي يوصي به الطبيب بحسب احتياج المريض، سواء أكان بهدف المحافظة على الصحة أم بهدف التدخل القوي.
يقدم الطب القديم رؤية رائعة عن عادات تناول الطعام القديمة؛ لأن الطب لم يكن يتطلب خطوات تدخلية مثل الطب السريري الحديث، وكان الأطباء مثل جالينوس بوسعهم أن يصرحوا بأن النظام الغذائي هو الجانب الأنفع من الطب. تطور الطب الإغريقي على أيدي الفلاسفة الذين جاءوا قبل سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد، وواصلوا عملهم جنبا إلى جنب مع الطب التقليدي والعلاج الديني. كان للطعام دور مهم في طب أبقراط، واتسع دوره في القرن الرابع قبل الميلاد على يد منيستيوس الأثيني وديوكليس الكاريستوسي، وطوره أكثر الأطباء الهلنستيين مثل ديفيليوس السيفنوسي، وكان جزءا لا يتجزأ من المناظرات الطبية الهلنستية التي دارت حول مدارس مختلفة. ويستخدم جالينوس كل هذه العناصر ويقدم من خلالها مزيجا مؤثرا ونقدا بارعا .
ويقدم سيلسوس - وهو مؤلف موسوعي مثل بلينوس وجالينوس وأثينايوس - (في كتابه «بروميوم»، أو «مقدمة»، 19-22) تلخيصا مفيدا عن تلك المدارس المختلفة؛ فثمة رأي يرى أن هضم الطعام والشراب عملية من «العمليات الطبيعية». ويقول أتباع إراسيستراتوس إن الطعام يطحن، ويقول أتباع بليستونيكوس إنه يتحلل، ويقول أتباع أبقراط إنه «يطهى تماما»، ويرى أتباع أسكليبيديس (أتباع الميثودية أو المنهاجية) أن الطعام ينتقل نيئا أثناء بلعه. ويقول سيلسوس إن هذه الآراء تحدد الطعام الذي يوصي به الطبيب: إذا كان الطبيب يؤمن بالطحن، فإنه يختار الطعام الذي يطحن بسهولة؛ وإذا كان يؤمن بالطهي، يختار الطعام الذي يسخن بسهولة؛ وإذا كان يؤمن بالانحلال، فإنه يختار أيضا الأطعمة المناسبة.
رأينا في الفصل الأول أن المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي ألف كتاب «عن الطب القديم» قدم نموذجا للتطور البشري الذي كان للطعام فيه دور مهم. ومن الواضح أيضا في كتاب «الأهوية والمياه والبلدان» أن العوامل البيئية كان يفترض أن لها دورا مهما في تكوين الإنسان وفي الحالة الصحية عموما؛ إذ كانت تختلف من مكان لآخر ومن موسم لآخر. ويتحدث الكثير من الأعمال الأخرى عن الطعام وعادات تناول الطعام، ومن بينها كتاب «الأخلاط والأقوال المأثورة» الذي يقدم أمثلة لافتة. ولكن من الأعمال المفيدة للغاية لاستقصائنا الحالي عملان من أعمال أبقراط وهما «الأوبئة» ومجموعة «الحميات» - وعددها أربع - تشمل علم الكونيات والأطعمة والاستحمام ونمط المعيشة (الوجبات والتمارين الرياضية والغذاء اليومي) والأحلام، وذلك في عرض فكري مميز. ومن الأعمال المفيدة أيضا الأبحاث الأكثر تخصصا «الحمية في الصحة» و«الحمية في الأمراض الحادة».
ويتناول بحث «الحمية 1» الكائن البشري في بيئته البيولوجية وأيضا في بيئته الكونية الأكبر بكثير؛ ومن ثم، يصرح المؤلف في الأسطر 1-5: «كل الأشياء - الإلهية والبشرية - تنتقل صعودا وهبوطا بالتبادل.» وهي عبارة تذكرنا بالمقولة الشهيرة لهيراكليتوس: «كل شيء في تغير متواصل.» ويزعم المؤلف أن هذه النظرية القائمة على توازن العناصر هي الإطار الصحيح الوحيد الذي تصلح مناقشة الحمية في ضوئه (1-1)، وهذه هي البيئة المناسبة أيضا لنمو الجسم البشري وتغذيته (1-25)، بل لتكوين الجنين أيضا ؛ ومن ثم، إذا كان الوالدان المرتقبان يريدان إنجاب أنثى، فعليهما تناول الأطعمة الباردة والرطبة والطرية، أما في حالة الرغبة في إنجاب ذكر فعليهما أن يتناولا أطعمة جافة ودافئة. وهذه العناصر الجسدية تتأثر بالموسم (1-32) وبالسن؛ ومن ثم فالأطعمة الدافئة مطلوبة في الشتاء مثلا، والأشخاص الأكبر سنا يحتاجون إلى طعام مختلف عما يحتاجه الأشخاص الأصغر سنا.
وفي «الحمية 2» (الأسطر 2، 37-38)، يشير إلى أن العمليات الطبيعية الأخرى - التي يتوقف عليها الجسم البشري - تتحكم فيها عوامل المناخ والفصل والمكان؛ ومن ثم، فإن الآراء التي يناقشها كتاب «الأهوية والمياه والبلدان» تتصل بالنظام الغذائي الذي يقصده المؤلف التابع لمدرسة أبقراط، وإن كان ذلك يتسم بشيء من التنوع من جانب مؤلف البحث الآخر.
ويتحدث البحث عن الطعام نفسه بكثير من التفصيل (راجع الفصل الأول)، ويسرد الأطعمة بالترتيب التالي: خبز وحبوب، فوليات وبقوليات، حيوانات وطيور وأسماك، ماء ونبيذ، خضراوات، فواكه. وأناقش هذا الترتيب فيما يأتي عند مقارنة نص أبقراط بالنسخ الحديثة التي قدمها على مدى 600 عام بعدها كل من ديوكليس الكاريستوسي ومنيستيوس الأثيني وديفيليوس السيفنوسي وجالينوس. ويتحدث المؤلف التابع لمدرسة أبقراط عن الأطعمة النيئة - مثل الدقيق والشعير - والمنتجات المطهية مثل الخبز والكعكات، وهو مهتم بالنباتات التي قد ينظر إليها باعتبارها عديمة النكهة أو لاذعة، ومهتم كذلك بخواص أجزاء النبات المختلفة، مثل الأوراق أو الجذر. ويتحدث عن الأطعمة النيئة التي يقصد بها المنتجات البرية غير المزروعة، مثل التفاح البري، ثم يتحدث عن النباتات المزروعة التي قد تتغير خواصها بالطهي. ويفرد معظم الاهتمام بالطهي للفصل السادس والخمسين، الذي يتحدث فيه عن أساليب تحضير الطعام المختلفة التي تجري في المطبخ، في ضوء الرؤية الشاملة التي تتحدث عن النار والماء:
لا بد من تخفيض قوى الأطعمة أو زيادتها كل على حدة؛ إذ من المعروف أن كل شيء يتكون من النار والماء - سواء الحيوانات أو الخضراوات - وأن كل شيء ينشأ من خلالهما ويتحول إليهما. ويتم ذلك بالطريقة الآتية: انزع قوى النار والماء من الأطعمة اللاذعة بسلقها وتبريدها عدة مرات، وتخلص من الرطوبة من الأطعمة الرطبة بشيها أو تحميصها، وانقع الأطعمة الجافة ورطبها، وانقع الأطعمة المالحة واسلقها، وامزج الأطعمة المرة واللاذعة بالأطعمة الحلوة، وامزج الأطعمة القابضة بالأطعمة الزيتية ... تتسم الأطعمة المشوية أو المحمصة بقدر أكبر من التجانس والارتباط عن الأطعمة النيئة؛ لأن النار نزعت منها الرطوبة والعصارات والدهون؛ ومن ثم، فإنها حين تنزل إلى المعدة تجذب إليها الرطوبة من المعدة؛ مما يزيد من حرارة مداخل الأوردة، ويعمل على تجفيفها وتدفئتها لغلق الممرات المخصصة لمرور السوائل. والأطعمة الآتية من المناطق الجافة والحارة التي تخلو من المياه تكون جميعها أكثر جفافا ودفئا، وتمد الجسم بمزيد من القوة؛ لأنها أثقل وزنا وأكثر تماسكا وأغنى في قيمتها الغذائية عن الأشياء الآتية من المناطق الرطبة الباردة التي تتوافر فيها المياه، فالأطعمة الآتية منها تكون أكثر رطوبة وبرودة وأخف وزنا. إذن، فمن الضروري معرفة الخواص - ليس فقط خواص الأطعمة نفسها، سواء أكانت من الذرة أم المشروبات أم اللحوم - بل أيضا خواص البلدان التي جاءت منها.
وهنا، نجد أن الإجراءات الأساسية للطهي مدمجة في النظرية القائمة على توازن العناصر التي يستند إليها كل من بحث «الحمية 1»، والإطار الجغرافي لكتاب «الأهوية والمياه والبلدان»، والنموذج الذي وضعه أبقراط عن الهضم.
ولكن الطهي ليس إلا جزءا من الحمية الغذائية التي وضعها أبقراط. ويكمل الطبيب التابع لمدرسة أبقراط النصائح المتعلقة بالطعام والشراب بنصائح عن طرق الاستحمام (57) وزيوت الجسم، والتقيؤ والنوم، والرياضة (المشي والجري والتمارين الرياضية في الهواء الطلق)؛ فهذه الأنشطة تسبب الإرهاق أو «كوبوس».
يتناول بحث «الحمية 3» باستفاضة الحميات المتعلقة بأسلوب الحياة، ويقدم برامج مختلفة للأفراد العاديين وللأفراد الموسرين ممن يتمتعون بحسن التمييز، ويقدم حمية مفيدة للأفراد العاملين، ويضرب مثلا بمن لا يتناولون أطعمة ومشروبات استثنائية، ومن يمارسون الرياضة بحكم الضرورة (أثناء أداء عملهم)، ومن يسافرون بغرض العمل، ومن يعملون في مهن ترتبط بالبحر؛ وهؤلاء ليسوا من أفقر الفقراء أو أغنى الأغنياء، بل من «الأكثرية» (3، 68) أو «الأغلبية» (3، 69). وتركز التوصيات على العوامل الموسمية (نجد مقارنة بين نمو البشر ونمو الأشجار في 3، 68)، وتشمل تلك التوصيات نصائح عن النوم والنشاط الجنسي، وكذلك عن الرياضة ووجبات الطعام (عددها ومواعيد تناولها في اليوم) والطعام. وهكذا، فإن كعكة الشعير والخضراوات أفضل من القمح صيفا، على سبيل المثال. وفي المقابل، نجد أن النظام الغذائي للأغنياء يعبر أبلغ تعبير عن الإفراط («بليسموني»). ومن الممكن أن تؤدي البرودة في المعدة إلى مشاكل (3، 75). وقد تحل التمارين الرياضية المشكلة، وقد يحلها أيضا تناول الخبز الدافئ المخمر والنبيذ الأحمر ومرق لحم الخنزير، أو السمك المسلوق في محلول ملحي لاذع (قارن ذلك بأركستراتوس). ويفيد النبيذ النقي في ذلك، ولكن لحم الجراء فائدته أقل. ويتضح من هذه الوصفات الطبية أن الكثير من الأطعمة الواردة في هذه الأنظمة الغذائية مشتق من الأطعمة الشائعة في ذلك العصر. يصف الطبيب التابع لمدرسة أبقراط علاجا من رءوس الأسماك (3، 82) أو لحم الظهر ولحم الذيل (3، 79)، وهو ما يظهر أيضا في الوصفات الخاصة التي وضعها أركستراتوس للذواقين ممن ينشدون أسلوب حياة الترف. ولكن، ثمة أطعمة أخرى عبارة عن وصفات استثنائية، ويقصد بها الكلاب، هذا إن كانت تؤكل - ولو نادرا - حسبما ادعى جالينوس في فترة لاحقة. وكان النبيذ عادة ما يخفف بالماء، كما ناقشنا فيما سبق.
والبحث الأخير من السلسلة - «الحمية 4» - يتحدث عن الأحلام، وهذا المقال اللافت يربط الأحلام باضطرابات الروح، وقد تظهر تلك الاضطرابات في هيئة أحلام عن الاضطرابات الطبيعية، أو عن الموتى، أو عن صور إيجابية جدا عن عالم الطبيعة. ويكمن علاج تلك الاضطرابات في التمارين الرياضية، والاستحمام، وإدخال تعديلات على النظام الغذائي، ومشاهدة المسرحيات الكوميدية - في حالة واحدة. ومن الممكن مثلا الحد من الاضطراب بالتقليل من الأكل (4، 88). وإذا كان الطعام يشكل فعلا جزءا من الحلم (4، 93)، فمن المرجح أن المريض يفتقر إلى الطعام وتعبر روحه عن رغبة في شيء ما (النص محل خلاف).
يتعلق معظم المادة الواردة في مجموعة «الحميات» بالنظام الغذائي اليومي. وفي الأعمال الأخرى ، نجد أن الأطباء التابعين لمدرسة أبقراط يصفون أطعمة متنوعة لعلاج حالات محددة؛ فمثلا: نجد عدة أطعمة تستخدم لأغراض علاجية في كتاب «الأوبئة». في (7، 62)، يتضح أن الشاعر ألكمان يعاني من مرض في الكلى، وظل لمدة سبعة أيام ممتنعا عن الطعام، فيما عدا مزيجا من العسل والماء، ثم بدأ يأكل تدريجيا ماء العدس وعصيدة العدس وكلبا مسلوقا و«المازا» ولحم رقبة بقري أو لحم خنزير مسلوق، بالإضافة إلى العلاجات المساعدة.
يشير كيزر (1997 (مجلد ديبرو) 181-183) - بقائمة مراجع - إلى أنه ما دام لم يصل إلينا أي كتاب مستقل عن علم العقاقير القائم على مدرسة أبقراط، فإن العادة الأقرب شبها بإعطاء العقاقير التي كان يتبعها الطبيب التابع لمدرسة أبقراط كانت تتمثل في وصف الأطعمة في هيئة مركزة. يميز جالينوس بين الأطعمة والعقاقير في بحثيه «عن قوى الأطعمة» و«عن قوى الأدوية البسيطة»، ويشير إلى فرق واضح بينهما. وثمة تاريخ طويل للعلاج الذي يستهدف منه الحفاظ على الصحة ومعالجة اختلالها، ويتحدث عن الفرق في اقتباس من كتاب «عن الطب القديم» في الفصل الأول، وفي بحوث هلنستية مثل كتاب ديفيليوس «طعام المرضى والأصحاء». والمرضى (ويمثلون أغلب دراسات الحالة الواردة في كتاب «الأوبئة») بحاجة إلى إصلاح نظامهم الغذائي، أو إلى تناول عقار أشد تركيزا، وكثيرا ما يكون مشتقا من مصادر نباتية أو حيوانية.
ورد ذكر الأنظمة الغذائية المميزة التي وصلت إلينا في بحث أبقراط «الحمية في الأمراض الحادة»، وفي بحث جالينوس «عن النظام الغذائي في تخفيف الأخلاط». والبحث الثاني يتناول مشكلة الخلل في التوازن بين الأخلاط، ويتمثل ذلك عموما في زيادة إفراز البلغم. والأطعمة الموصى بها في البحث تكاد تكون هي تماما نفس الأطعمة الواردة في القائمة العامة المرتبة في بحث جالينوس «عن قوى الأطعمة»، ولكنها مرتبة ترتيبا مختلفا للغاية؛ ومن ثم، فإن أفضل الأطعمة هي البصليات - الثوم والبصل - لأن هذه النباتات تتسم بخاصية لاذعة تخترق الأخلاط الثقيلة وتخفف من خطر الأمراض الناشئة عن الأخلاط الثقيلة، مثل الأمراض التي تصيب الكبد والكلى والطحال، وأمراض المفاصل، ومشاكل التنفس المزمنة (كتاب جالينوس «عن النظام الغذائي في تخفيف الأخلاط» 1). والخضراوات في هذا النظام الغذائي عادة ما تكون أفضل من الحبوب، واللحوم أسوأ - وخصوصا لحم الخنزير - مع أن اللحوم المأخوذة من الحيوانات البرية ومن المناطق الجبلية أفضل، وكذلك أنواع معينة من الأسماك. وأسوأ الأطعمة جميعها هو الحليب والجبن. ويقدم تصنيف الأطعمة، بناء على مبدأ تخفيف الأخلاط أو تقليلها، مقارنة مبهرة مع التصنيف الذي وضعه جالينوس بناء على التغذية.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه على الرغم من اختلاف نظام الأخلاط الذي تحدث عنه جالينوس عن الأساس الكيميائي والبيولوجي الذي يقوم عليه الطب الحديث، فإن العلم الحديث يحدد أن الثوم يتسم بالقدرة على الوقاية من تجلط الدم أو الجلطة، وذلك من بين خواص أخرى (ديفيدسون 1999: 331). وبالمثل، فإن الكوليسترول - مع أنه مهم للحياة (مثل البلغم) - الذي يمثل خطورة عند زيادة ترسبه إلى مستويات مرتفعة في الشرايين يمكن تخفيضه عن طريق تناول خضراوات معينة ودهون نباتية غير مشبعة. وعلى العكس، تساعد الدهون الحيوانية في زيادته، وأهمها الدهون التي تتجمد في درجة حرارة الغرفة مثل الجبن ودهون لحم الخنزير؛ ومن ثم، نجد أن العلم مختلف ولكن الإصلاح القائم على النظام الغذائي ليس متباينا.
رأينا أيضا - في الفصل الأول - أن نظرية أبقراط عن الهضم كانت تقوم على فكرة الطهي، وكان لاستعمال الطعام النيئ أهمية كبيرة في هذه النظرية؛ لأن طهي الطعام كان يختزل قواه الطبيعية - إذا جاز التعبير - ويجهزه لعملية التمثيل الغذائي في الجهاز الهضمي. ويتحدث المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي ألف مجموعة «الحميات» عن هذا، كما يتحدث عن التوازن بين مقدار ما يأكله المرء من طعام والتمارين الرياضية والاستحمام، وهي التي تشكل الأعمدة الثلاثة للعلاج بأسلوب أبقراط (الذي كانت تضاف إليه أحيانا الإجراءات الجراحية وغيرها من طرق التدخل الميكانيكي المحفوفة بالمخاطر).
يقدم بحث جالينوس المعنون ب «عن المحافظة على الصحة» (هايجينا) بعض الافتراضات اللافتة عن العصر الذي يعيش فيه. يتناول البحث تصوره عن النظام الغذائي اليومي المفيد بناء على تطور جسم الإنسان من مرحلة الطفولة المبكرة (الجزأين الأول والثاني) إلى الشيخوخة (الجزء السادس). ويبدو أن جالينوس عادة ما يهتم بالجسم الذكوري، ويهتم بالطفل وليس المرضعة أو الأم حتى وهو يناقش الرضاعة التي يفرد لها مناقشة تفصيلية. وهو يقصد أيضا الجسم الإغريقي. وحين يناقش جالينوس الجسم المثالي، فإنه يدعي أن الجسم المتناسق أمر يصعب تحقيقه في بلد شديد الحرارة أو شديد البرودة ما دامت الحرارة تسبب بنية بدنية نحيلة، أما المناخ البارد فيؤدي إلى حدوث اضطراب في توازن الأخلاط ويتسبب في ارتفاع زائد في حرارة الأعضاء الحيوية. ويصرح جالينوس أن المقياس الذي يجب اتباعه هو مقياس النحات بوليكليتوس؛ إذ تكثر الأجسام المتناسقة التي تشبه تماثيله «في بلادنا»، أما بخصوص السلتيين والسكوثيين والمصريين والعرب، فمن المستبعد وجود مثل تلك الأجسام بينهم. وهذه الخصوصية الثقافية لافتة، ولكنها متسقة تماما مع المؤلفين التابعين لمدرسة أبقراط الذين كتبوا بحوثا مثل «الأهوية والمياه والبلدان».
ومن البديهي في مناقشات جالينوس عن الأطعمة أن النباتات والحيوانات تختلف اختلافا شديدا بحسب البيئة، ونفس الشيء ينطبق على البشر أيضا بالقدر نفسه؛ ومن ثم، فإن المرضعات اللاتي يأكلن النباتات البرية في فترة الجوع التي تتزامن مع الربيع في بلدان البحر المتوسط يكن عرضة للإصابة بأمراض جلدية ينقلنها إلى الأطفال الذين يرضعنهم («عن قوى الأطعمة» 3، 14؛ راجع الفصل الثاني). ومن ثم، فإن أسماك البوري الرمادية التي تعيش في البحر المفتوح تختلف أيضا عن أسماك البوري التي تعيش في البحيرات أو الأنهار الملوثة (3، 24)، ويتضح أن الحيوانات البرية التي تعيش في الجبال تكون لحومها أقسى من لحم الحيوانات المستأنسة التي تربى في السهول (3، 13). وبناء على ذلك، حين تؤكل تلك الحيوانات كطعام فإنها تتسبب في تغيير الأخلاط لدى من يأكلها؛ ففي هذه الأخلاط تكمن خواص أو «قوى» الأطعمة؛ إذ تكمن في قدرتها الكامنة على إحداث تفاعل في التركيبة الجسدية للإنسان. وهذه العلاقة مركبة، ويتناولها كتابا «عن قوى الأطعمة» و«الأمزجة». لكل فرد خواصه الجسمية المتفردة، وكل طعام يكون نتاج بيئته الخاصة، وهذان العاملان كلاهما من العوامل الحاسمة في تحديد نوعية التأثير الذي يقع على الأخلاط. ويدعي جالينوس - في هذا الموقف الصعب - أنه متفوق في فهمه للمبادئ العامة والظروف الخاصة؛ فالآخرون يهتمون بالقواعد الثابتة أكثر من اللازم، ويتجاهلون الاحتياجات الخاصة للمريض؛ فالخبرة - التي يزعم جالينوس أنها لديه بوفرة - ضرورية، على أن تكون خبرة مطوعة بنظرية سليمة (لمعرفة المزيد عن مفهوم «الخبرة المشروطة» لدى جالينوس، راجع فان دير إيجيك 1997).
إذن فمن الممكن أن ندرك من هذا الدليل، ومن المناقشة التي تناولت جالينوس في بداية الفصل السابع، أن جالينوس أنشأ مزيجا متطورا جمع بين التاريخ الطبيعي والنقد الثقافي مما مكنه من علاج المريض في إطار متطلبات عالم الطبيعة ومتطلبات الثقافة الإغريقية الرومانية. وقد يصنفه الكثير من القراء على أنه طبيب ومؤلف متخصص في الكتابات العلمية المتخصصة؛ ولكن من الواضح أن أسلوبه في العلاج متأثر بالفلسفة الإغريقية وبتاريخ ثقافته الإغريقية الرومانية. كما ذكرت في الفصل السابع، فإنه يعالج الجسم الإغريقي بالطريقة الإغريقية، ومن المتوقع أنه كان سيوصي بعلاجات مختلفة لمريض ألماني أو مصري. ومن السمات المعهودة في الثقافة الإغريقية الرومانية الاهتمام بالتمارين الرياضية والأنماط غير العنيفة من ألعاب القوى التي يرد وصف تفصيلي لها في كتاب «عن المحافظة على الصحة». وألعاب القوى المتقدمة شأن مختلف، وهو يستعمل شخصية ميلو الكروتوني الأسطورية عند مناقشته تلك الفئة الخاصة من فئات المرضى. وكما جاء أكثر من مرة في هذا الكتاب، لم يغفل جالينوس طبقة العمال العاديين - كما لم يغفلها أيضا المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي ألف «الحمية 3» - وقد سرد عددا كبيرا من أنشطة العمل التي يصنفها على أنها «تمارين رياضية وعمل» (2، 8). وهذه الأنشطة هي: الحفر والتجديف والحرث وقطف العنب وحمل الأحمال والحصاد وركوب الخيل والقتال في صفوف قوات المشاة والمشي والقنص بالكلاب وصيد الأسماك، وغيرها من المهام التي يمارسها الصناع الماهرون وغير الماهرين، مثل البنائين والحدادين وصناع السفن وصناع المحاريث وصناع السلع المستخدمة في الحرب والسلام. ويشير جالينوس إلى الاختلاف بين هؤلاء العاملين وبينه: «ذات مرة ضللنا الطريق في الريف شتاء، واضطررنا لقطع الأخشاب (على سبيل ممارسة التمارين الرياضية)، واضطررنا كذلك لإلقاء الشعير في الهاون لطحنه وتقشيره، وهي مهام يؤديها الريفيون يوميا (على سبيل العمل)». ومن ثم، من الممكن تفسير الوصفات العلاجية لجالينوس فيما يخص النظام الغذائي وأسلوب الحياة بأنها أكثر شمولية من الناحية الاجتماعية من معظم الوصفات العلاجية، وبأنها شاملة بالطبع من الناحية الطبية.
سبق أن ذكرنا في عدد من المواضع تأثير أفلاطون في تاريخ الفكر على موضوع الطعام، وذكرت اهتماماته في «محاورة غورجياس» عن المتعة وعن الأطباء النافعين والطهاة ذوي المظهر البراق مثلا أكثر من مرة. وبخصوص النظام الغذائي، يذكر أفلاطون في كتاب «الجمهورية» شخصية هيروديكوس من السيليمبري، وقد كان مواطنا وربما مؤلفا كان يرى أفلاطون أنه كان يمضي معظم وقته في الاهتمام بالطعام. وفي هذه القصة، كان رجلا غنيا يخصص معظم اهتمامه لأمور تافهة نسبيا متعلقة بالجسم، وذلك على حساب الأمور الأهم المتعلقة بالروح. ولم يكن أفلاطون معارضا للمتعة في المطلق، بل كان معارضا فقط للمتع غير اللائقة، وهي المتع التي ترضي الجسم على حساب الروح. وناقش عدد من النقاد التعليقات التي تتناول هيروديكوس، وربطوا بينها وبين البحوث القديمة التي تتحدث عن النظام الغذائي؛ إذ ألمحوا إلى أن أعمال المؤلف التابع لمدرسة أبقراط وأعمال ديوكليس وجالينوس كانت تلبي متطلبات وسواس المرض الذي كان يعاني منه الأغنياء المدللون الذين لم يجدوا اهتمامات أفضل ليشغلوا أنفسهم بها؛ ولعل إديلشتاين (1967) من الأمثلة البارزة للغاية. ولا شك في أن هذا التلميح يحمل شيئا من الحقيقة؛ فالأغنياء في الكثير من الثقافات المختلفة في الكثير من العصور كان بوسعهم شراء علاجات خاصة، وكانوا يحاولون تجنب الموت على نحو أقوى من أبناء بلادهم الفقراء. ووسواس المرض ظاهرة منتشرة أيضا؛ فهي ليست مجهولة في المجتمعات المعاصرة؛ فضلا عن ذلك، كان الأطباء ومن يعملون في المهن المرتبطة بالطب - ولا يزالون - يمارسون ضغوطا تجارية لرغبتهم في تحقيق أرباح من مخاوف الناس المتعلقة بالصحة ووزن الجسم (سواء أكانت الوزن الزائد أم النحافة) والموت.
مع ذلك، فإن تهمة وسواس المرض هي مشكلة من الدرجة الثانية، وذلك فيما يتعلق بمجموعة «الحميات» التي ألفها مؤلف تابع لمدرسة أبقراط والكتابات التي جاءت بعدها. كان النظام الغذائي - كما رأينا منذ برهة - فرعا من فروع الطب الأساسية الثلاثة. وبالإضافة إلى التخصص الشقيق للنظام الغذائي ، وهو علم العقاقير (الذي كان عادة ما يستعمل أنماطا أكثر حرافة من الأطعمة نفسها، وذلك من بين أشياء أخرى مثل المعادن والصخور)، كان النظام الغذائي يمثل نسبة الثلثين من التدخل الطبي، أما الثلث الثالث فكانت تمثله الجراحة، وهي الإجراء التدخلي الخطير، وكان الجراحون يجرونها دون دراية بالمطهرات وإمكانية حدوث العدوى البيولوجية. وكان فكر أبقراط يعتمد أيضا في نصائحه الغذائية على نظرية قائمة على فكرة العناصر الكونية، وكانت تصنف الكائن البشري في إطار منظومة الطبيعة جنبا إلى جنب مع النجوم والحيوانات الأخرى والنباتات. ورأينا أيضا أن الأغنياء المدللين خصصت لهم مساحة كبيرة في بحث «الحمية 3» الذي تحدث عنهم بالتفصيل، كما قد يحدث في أي عيادة في العصر الحديث في شارع هارلي ستريت في لندن الذي يشتهر بكثرة العيادات. ولكن البحث اهتم أيضا بالسواد الأعظم من الناس، وهم من كانوا يضطرون للعمل بحكم الحاجة. ومن الممكن أن نشير إلى أن فئات العمال التي تحدث عنها البحث كانت تشمل من يسافرون برا للعمل، ومن يتطلب عملهم السفر بحرا. ولماذا هذه الفئات وليس منهم البناءون أو باعة الخضراوات؟ ربما يكمن السر في التنقل؛ فالعمال الذين يضطرون للسفر والتنقل كانوا عرضة لاختلاف درجات الحرارة («مرتفعة على عكس ما هو مناسب، أو منخفضة على عكس ما هو مفيد»، بحث «الحمية»، 3، 68)، وهو ما كان يتسبب في عدم ثبات النظام الغذائي اليومي. قدم ديوكليس أيضا نصائح للمسافرين (الشذرة 184 فان دير إيجيك)، وتركز النصائح على المتطلبات المعينة التي يقتضيها المشي والنظام الغذائي الخاص الذي يتطلبه؛ وذلك بحسب الموسم.
يقدم جالينوس فئة مختلفة من المرضى، وهي الريفيون من آسيا الصغرى، وبلغ فضوله حدا جعله يسأل كل فئات الناس عما يأكلونه وعن أسباب ذلك.
كما يقدم تعقيبا اجتماعيا في شكل نوادر وطرائف؛ مما يجعله كاتبا يتسم بأسلوب جذاب ينتمي إلى المدرسة نفسها التي ينتمي إليها أثينايوس وسيوتونيوس. ويعرض جالينوس في كتابه «هايجينا» أو «عن المحافظة على الصحة» نصائحه المتعلقة بحياة صحية، كما سبقه في ذلك المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي كتب بحث «الحمية 3»، وكما سبقه في ذلك ديوكليس الكاريستوسي في الشذرة 182 فان دير إيجيك. وتركز شذرة ديوكليس على النظام الغذائي اليومي وتوزيع الوجبات والنوم والمشي والنشاط الجنسي، ويستند بحث جالينوس الطويل إلى المدى العمري للإنسان، وهو يبدأ بالرضيع والطفل وينتهي بالشيخ. وجالينوس مهتم مثلا بحياة الفتية الطائشين: على غرار ما قدمه بشأن الطهاة، تطلعنا طريقة عرضه على اهتماماته بالمسرحيات الكوميدية، وتساعدنا في قراءة تلك المسرحيات في سياق أشمل (راجع الفصلين السابع والتاسع).
سبق أن ناقشنا دور الطهاة في موضع آخر من هذا الكتاب، وليس ثمة أدلة تثبت وجودهم نفسه أفضل مما جاء في النصوص الكوميدية التي يظهرون فيها كشخصيات نمطية مضحكة. ويذكرهم أفلاطون ويذكرهم كذلك الكتاب المتخصصون في الطب، والفكرة المهمة هنا هي هل الطبيب يتبع النقيضة الأفلاطونية التي تقارن بين الطبيب النافع والطاهي الذي يهدف إلى إمتاع حاسة التذوق. ويتناول بحث «الحمية 1» السمات العامة للطهي، وفيه يقدم المؤلف دراسة عامة عن مهارات الطهي، ومن بينها (1، 18) الطهاة؛ فهؤلاء «الطهاة يحضرون للناس أطباقا شهية («أوبسا») من مكونات مختلفة ومكونات متشابهة، فيخلطون كل أنواع المكونات ويصنعون من مكونات متشابهة مكونات غير متشابهة، فتتحول إلى طعام وشراب لفرد واحد؛ فلو كان كل ما يحضره متشابها، لخلا الأمر من المتعة». يأتي الطاهي من بين اهتمامات الطبيب في هذا النص الذي يعود لأوائل القرن الرابع قبل الميلاد - فهو غير مستبعد كما يرجو أفلاطون - ومع ذلك يأتي تصويره منسجما مع الأقسام التي تحدث عنها والمرتبطة بالمتعة والبهجة؛ إذ يوجد الطهي الذي يرتبط بالحياة المتحضرة ويسهل عملية الهضم، ثم الطهي الفاخر الذي يقدمه الطاهي المستأجر الذي لا بد من مراقبته بعناية. ومن ناحية أخرى، لا تختلف الأنشطة التي يؤديها الطاهي - من حيث المهارات - عن الأنشطة التي تحدث في الكون التي تتسبب في التغيير عن طريق الخلط والفصل (1، 4). (ونلاحظ فكرة قريبة لذلك أيضا في كتاب «عن الطب القديم» (20)، وفيه لا تكمن أهمية خواص الجبن في حد ذاتها بل من حيث علاقتها بجسم الإنسان.)
شكل 8-1: كان الزنجبيل من الواردات المهمة من البلدان البعيدة. وعلى عكس الفلفل - الذي كانت له استخدامات متعددة - كانت خواص الزنجبيل التي تساعد في التدفئة وإمكانية استخدامه كترياق للسموم تفوق أهمية استخدامه في الطهي فيما يبدو. راجع ميلر 1969: 53-57 ودالبي 2003: 159. يصف جالينوس عقارا صنع لمن فقدوا شهيتهم؛ من العسل وعصير السفرجل والفلفل والزنجبيل والخل. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كاتدرائية إكستر ورجال الكنيسة العاملين بها.)
تتصدر طرق تحضير الطعام أيضا الشذرة 187 فان دير إيجيك التي كتبها ديوكليس الكاريستوسي؛ إذ يكتب:
نظرا لأن معظم الأطعمة تتطلب نوعا من التحضير الإضافي، ونظرا لأن بعض الأطعمة تصبح أفضل في حالة إضافة أشياء إليها، ونظرا لأن أطعمة أخرى تصبح أفضل في حالة سحب أشياء منها، ونظرا لأن أطعمة أخرى أيضا تصبح أفضل عند تحويلها إلى حالة مختلفة؛ فلعله يكون من المناسب أن نتحدث قليلا عن هذه الأطعمة، ولعل أهم طرق التحضير هذه - للصحة وللمتعة معا - هي تطهير الأطعمة النيئة ... (ترجمه إلى الإنجليزية: فان دير إيجيك)
إذن فالطبيب لديه مبررات تدفعه للاعتراف بفضل الطاهي، بل لقد كتب بعض الأطباء أيضا كتبا عن الطهي وجلسات الشراب. وكان جالينوس من هؤلاء الأطباء، ويذكر أثينايوس عددا من الأطباء الآخرين (راجع الفصل السابع). ومع ذلك، لم يكن من المتوقع أن يقدم الأطباء اعترافات كثيرة لصالح للطهاة؛ إذ يصف جالينوس في كتابه «هايجينا» أو «عن المحافظة على الصحة» الطاهي بأنه الشخص الذي يقدم النوع غير المناسب من الطعام. وربما يكون السبب في ذلك هو أن الطاهي يهدف إلى المتعة. في الموضع (2، 11)، نقرأ أن الطاهي لا بد أن يكون مساعد الطبيب؛ لأن الطاهي يحضر الطعام دون معرفة النتيجة الطبية، التي هي تخصص الطبيب.
تتسم وظائف الأعضاء في الجهاز الهضمي للإنسان بالتعقيد، وهذا الملخص الموجز مأخوذ من بوكوك وريتشاردز (1999). بعبارات عامة، يدخل الطعام والشراب إلى الفم، وتطحنه الأسنان بالقدر الضروري، ويرطبه اللعاب الذي تفرزه ثلاث غدد، وبذلك يحضره للهضم، ثم يبلع وينزل عبر المريء إلى المعدة، وهناك يخلط الطعام بالأحماض والإنزيمات وغيرها من مكونات العصارة المعدية ويرج، ويرافق ذلك امتصاص بعض المواد المغذية إلى جدار المعدة. ولا تمتص إلا بضعة مركبات في هذه المرحلة، ولكنها تشمل الكحول والأسبرين، على سبيل المثال. وتخزن المعدة الطعام مؤقتا ثم تمرره - بعد رجه وخلطه بالعصارة المعدية، وتحوله إلى ما يسمى «الكيموس» - خلال فتحة البواب إلى الاثني عشر، أو القسم الأول من الأمعاء الدقيقة. ويتم الجزء الأكبر من امتصاص الطعام والمواد المغذية في الجسم داخل الأمعاء الدقيقة التي تتلقى الإفرازات القادمة من الكبد والبنكرياس بالإضافة إلى إفرازاتها هي؛ وتقدر مساحة سطح الأمعاء الدقيقة بنحو 200 متر مربع. وتعمل الحركة العضلية (أو التمعج) في نقل الطعام فيما بعد إلى الأمعاء الغليظة، ثم تمرر المواد غير الملائمة وغير الضرورية للهضم إلى القناة الشرجية لإخراجها. يقدر بوكوك وريتشاردز أن الفرد البالغ يستهلك نحو كيلوجرام واحد من الطعام يوميا، ومن لتر واحد إلى لترين من السوائل. يوجد نظام عصبي معقد مدمج في جدار الأمعاء، وهو يساعد في تنظيم الأمعاء، ويساعد في ذلك أيضا نحو عشرين من هرمونات الببتيد. وتتسم الاتصالات بين الدم والأمعاء بالتعقيد؛ إذ تأتي نسبة سبعين بالمائة من الدم الداخل إلى الكبد عن طريق الوريد البابي من المعدة والطحال والبنكرياس والأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة، وتأتي نسبة 30 بالمائة من الشريان الكبدي. وهكذا يوصل الوريد البابي الدم الغني بالمواد المغذية إلى الكبد لتوزيعه على بقية الجسم وتمثيله، وفي الوقت نفسه يفرز الكبد أيضا الصفراء لأغراض عدة من بينها الهضم.
شكل 8-2: الجهاز الهضمي لدى الإنسان. إن المريء والمعدة والجهاز الهضمي لدى الإنسان عبارة عن سلسلة مركبة ومعقدة تتصل بعلاقة وثيقة مع الأعضاء الحيوية، وخصوصا الكبد. في الفكر الحديث، تنقل الأمعاء الطاقة والفيتامينات والمعادن إلى الدم والأعضاء الرئيسية. والنظام الذي وضعه جالينوس مختلف للغاية، ولكنه يقدم وصفا مترابطا عن طريقة تحول الطعام المأكول إلى دم وأنسجة، وعن عدد العمليات المشاركة في ذلك، بالإضافة إلى الطاقة المتولدة في صورة سعرات حرارية.
وما إن يصبح الكيموس (الطعام المهضوم جزئيا) جاهزا للامتصاص حتى يوزع خلال خلايا جدار الأمعاء ليتحول إلى الدم الشعيري. وتمتص السكريات في الاثني عشر والمعي الصائم العلوي، وتمتص الأحماض الأمينية والببتيدات اللازمة للبروتينات في الأمعاء الدقيقة أيضا، وكذلك الأحماض الدهنية والفيتامينات، وتمتص السوائل في الأمعاء الدقيقة والغليظة. ويصف بوكوك وريتشاردز (1999: 428-429) الاحتياجات الغذائية للجسم على النحو التالي: توفر الكربوهيدرات الطاقة والحرارة اللتين يمكن الحصول عليهما بسرعة، أما البروتينات فهي تصنع الإنزيمات والهرمونات، ولها دور في البناء أيضا، وتدعم الدهون أنسجة الأعضاء وأغماد الأعصاب وأغشية الخلايا؛ وتنظم الفيتامينات وظائف الجسم الضرورية؛ والأملاح المعدنية ضرورية للعمليات التي تؤديها الخلايا.
يلخص هذا العرض السريع الفهم الحديث للهضم، وذلك فيما يتعلق بالطب التقليدي على أقل تقدير. (أشير إلى الطب البديل والطب الهندي التقليدي المعروف بالأيورفيدا فيما يأتي.) والهدف من هذا الملخص هو توفير أساس لفهم رؤية جالينوس عن فسيولوجيا الجهاز الهضمي ورؤيته بشأن التغذية.
ويصف جالينوس البنية العامة للجهاز الهضمي في كتاب «عن استخدام الأجزاء» 4، 8: المريء (ويعرف أيضا باسم «ستوماكوس») ليس إلا ممرا للطعام؛ والمعدة («جاستر») هي العضو المسئول عن الطهي/التسخين/الهضم؛ والأمعاء هي العضو المختص بتوزيع الطعام («أنادوسيس»). وكان جالينوس مهتما بصفة خاصة بمواضع التقاء المريء بالمعدة، ومواضع التقاء المعدة بالاثني عشر. وكانت الأخلاط الباردة المتجمعة في هذا المكان تصيب الجهاز الهضمي بالشلل. يقدم سيلسوس ملخصا مشابها في كتاب «عن الطب» 4، 1، 6-7. ويصف المؤلف التابع لمدرسة أبقراط الذي ألف كتاب «اللحوم» (13) عملية الهضم بتفصيل أكثر بعض الشيء:
فعند تجمع الطعام والشراب في المعدة والأمعاء، وتسخينه، تسحب الأوعية التي تنشأ في ذلك المكان القسم الأكثر ليونة ورطوبة، وتترك القسم الأكثر سمكا وهو الذي يتحول إلى براز في الأجزاء السفلية من الأمعاء. وعند تسخين الأطعمة، فإن هذه الأوعية تسحب القسم الأكثر ليونة من المعدة ومن الجزء العلوي من الأمعاء، وهو القسم الواقع أعلى المعى الصائم («نيستيس») ... وعند وصول المواد المغذية فإنها تتخلى عن الخاصية المعينة المقابلة لكل جزء؛ إذ يزداد كل جزء عند تزويده بهذه المواد المغذية، الأجزاء الساخنة والباردة واللزجة والدهنية والحلوة والمرة والعظام، وكل الأجزاء الأخرى الموجودة في جسم الفرد. (ترجمه إلى الإنجليزية: بوتر )
ويبدو أن العملية التي يطلق عليها جالينوس «أنادوسيس» أو التوزيع تقابل ما يطلق عليه الآن الامتصاص والتمثيل الغذائي. يشرح جالينوس في كتاب «عن القوى الطبيعية» 1، 8-9 أنه من الضروري حدوث عملية تحويل للأطعمة («ألويوسيس») قبل حدوث التمثيل الغذائي أو («هومويسيس»). ويبدو أن جالينوس والأطباء التابعين لمدرسة أبقراط كانوا يرون أن المواد المغذية تمر خلال جدران الأمعاء مباشرة إلى الأوردة. وفي بحث «الحمية 2» 56 يتحدث المؤلف عن أن الأطعمة الحمضية تفتح مداخل الأوردة في الأمعاء وتنظفها، أما في كتاب «عن قوى الأطعمة» 1، 12 فيتحدث جالينوس عن مداخل الأوردة الموجودة في المعدة والأمعاء. وسأل جالينوس نفسه أيضا كيف تتشابه الأعضاء المختلفة في حصولها على التغذية (كتاب «عن مذهبي أبقراط وأفلاطون» 410-411، 15-17 من تأليف دي لاسي)، وما هو الغرض من كل منهما:
تنقبض المعدة حول الطعام وتسحب منه السوائل المناسبة لها؛ وحين تنتهي من الحصول على الفائدة وتمتلئ تماما، تدفع كل البقايا إلى المعي الصائم؛ ومن هناك يسحب الكبد بدوره السائل الذي جرى تحضيره في وقت سابق في المعدة، مع أن المعدة لا تحوله بالطبع من أجل الكبد ... وكما تصبح البقايا الصادرة من المعدة مناسبة للكبد، تصبح البقايا الصادرة من الكبد أيضا مناسبة لكل أجزاء الجسم الأخرى التي تأتي بعده بنفس الطريقة؛ والكبد أيضا لم يغير المواد المغذية من أجل الأجزاء الأخرى من الجسم، بل إن الأمر يحدث بالطريقة التي وصفتها، حين تصبح المواد المغذية أكثر ملاءمة للأجزاء التي تأتي بعد الكبد، وذلك بعد أن يغيرها الكبد ويحولها؛ فحين يسحب الكبد المواد المغذية من خلال الأوردة الصادرة من المعدة والأمعاء، نجد أن الأجزاء الموجودة بعد الكبد تسحب المواد المغذية إلى نفسها من خلال أوردة أخرى، ثم يتكرر ذلك في أجزاء أخرى أيضا؛ وتستمر هذه العملية حتى تصل المواد المغذية إلى كل جزء من الحيوان. وفي كل مرة ، يتولى كل جزء تحضير المواد المغذية وهضمها مسبقا من أجل الجزء الذي يليه في عملية التوزيع المتواصلة. (ترجمه إلى الإنجليزية: دي لاسي)
ويتحدث جالينوس في هذه الفقرة عن جدال عويص عن علاقة أعضاء الجسم الرئيسية، وهي القلب والكبد، بالمخ. في الجزء السادس من كتاب «عن آراء أبقراط وأفلاطون»، يرفض نظرية أرسطو القائلة بأن القلب هو موطن العقل وموطن الشرايين أيضا (وهو رأي يركز الاهتمام على القلب، واستفاض الرواقيون في شرحه بالتفصيل)، ويتفق مع فكرة أفلاطون عن الروح ذات الجوانب الثلاثة. ويستشهد بكتاب «طيمايوس» لأفلاطون، ولكنه يحدد مواضع السمات الثلاث للروح التي تحدث عنها أفلاطون في أعضاء معينة باستفاضة أكثر من أفلاطون نفسه؛ ومن ثم، فإنه يرى أن موضع الجانب العقلي («لوجيستيكى») من الروح هو المخ، وموضع الجانب الروحي («ثومويديز») هو القلب، وموضع الجانب المتعلق بالرغبة والشهية يقع في الكبد (374-375، 9-19). وبخصوص الأغراض المرجوة من هذا الكتاب، فإن الكبد (وهو أهم عضو فيما يتعلق بامتصاص المواد المغذية في مجرى الدم) يحضر الطعام لأغراض تتعلق به، ثم يمرره إلى القلب والمخ وجميع الأعضاء الأخرى. وبحسب نظرية أفلاطون التي عدلها جالينوس، فإن الكبد يحتوي على الجانب المتعلق بالرغبة من الروح، ولكنه أيضا يتسم بخواص أخرى («دوناميس»). ويذكر (374، 14، 19) أن أرسطو عدل كلمة الرغبة - التي ينسبها جالينوس إلى الكبد - إلى مصطلحات مثل المغذية أو النباتية أو التناسلية (وهكذا يحدد هدف الرغبة). ولم يتحدث أفلاطون إلا عن الجانب المتعلق بالرغبة، وأشار إلى مجموعة متنوعة من الرغبات التي تنتاب ذلك الجانب من الروح.
إذن، ففي هذا البحث الفلسفي يربط جالينوس نظرية أفلاطون عن الروح ذات الجوانب الثلاثة (كما عبر عنها في كتابيه «الجمهورية» و«طيمايوس») برؤيته هو عن علم وظائف الأعضاء، محددا موضع كل جانب في العضو الخاص به؛ وبذلك يدحض أخطاء خريسيبوس وغيره من الرواقيين على وجه التحديد، ويربط بين تركيب الجسم (بجهازه الهضمي واحتياجاته الغذائية؛ أي بشهيته الجوهرية التي تحل محل النسيج التالف وتساعد في نمو الجسم الصغير)، وبين اهتمام الفلاسفة بالرغبة والموت، كما ناقشنا في الفصل السابع. وكما شرح تيلمان (2003)، فإن النظام الذي وضعه جالينوس يعتمد على أفلاطون، ولكنه يشمل أفكارا يقينية عن وظائف الأعضاء، وهي أفكار لا يؤكدها أفلاطون في أي من كتاباته؛ ويعود ذلك جزئيا - كما يقول جالينوس - إلى أن الأطباء مهتمون بالأعضاء، والفلاسفة مهتمون بالأنشطة المتعلقة بالروح. ونظرا لاهتمامات جالينوس التي تجمع بين أكثر من مجال في كتاباته، ولاعتقاده أن الطبيب البارع هو أيضا فيلسوف بارع، فإن جالينوس يقترب من تلك النصوص الأدبية والوعظية التي نحللها في الفصل التاسع، والتي تركز على الدور الفعال الذي يلعبه كل من اللسان والحلق في الشهية، بالإضافة إلى الدور الفعال للبطن والكبد. تتحكم كل أعضاء الجسم هذه - والكبد بالتحديد - في شهيات الجسم التي يجب أن تكون دائما في نطاق التحكم والسيطرة؛ ومن ثم، فإنه يحدد وجود الطعام والرغبة في الكبد، وذلك من الناحية الفسيولوجية والروحية والأخلاقية. ومن الممكن أن نضيف أن الكبد كان أيضا من الأعضاء الحيوية، أو «سبلانكنا»، التي كانت محور طقس تقديم القرابين وغيره من الأنشطة الدينية مثل التنجيم (راجع الفصل الثالث وفيرنان 1989 ودوراند 1989).
يتناول جالينوس أيضا السؤال المعقد الذي يستفسر عن كيفية تحول الدم إلى أعضاء الجسم الأخرى، وذلك فور صنعه من الطعام الموجود في الكبد (كتاب «عن القوى الطبيعية» 3، 4، ترجمه إلى الإنجليزية: بروك): «كيف إذن يتحول الدم إلى عظام دون أن يثخن قوامه ويصبح أبيض اللون، قدر الإمكان؟ وكيف يتحول الخبز إلى دم دون أن يتخلى عن بياضه تدريجيا ويكتسب اللون الأحمر تدريجيا؟ ولذلك، فمن السهل أن يصبح الدم لحما؛ فإذا كانت الطبيعة تعمل على تغليظ قوامه إلى حد أنه يكتسب قواما معينا ولا يكون سائلا، فإنه بذلك يصبح لحما جديدا ...»
في ظل تعذر إمكانية تشريح الأعضاء الداخلية للجسم بالقدر المناسب، نجد أن الكثير من المناقشات المتعلقة بالهضم تحاول أن تبرهن على وجود تأثير على الأعضاء الداخلية للجسم بفعل عامل ما، وذلك بالقياس على خواص خارجية. وفي استثناء لهذا الأسلوب من التفكير، يشرح جالينوس خواص البصليات:
إن السبب في أن كل هذه المواد (مثل الخردل والمخللات والثوم والبصل) التي تتسبب في أذى خارجي لا تتسبب في حدوث الأثر نفسه عند أكلها هو: أنها تتغير وتتحول عند هضمها في المعدة، وفي أثناء عملية تكوين الدم في الأوردة، وأنها لا تظل في مكان واحد، بل تقسم إلى أجزاء صغيرة تسير في مختلف الاتجاهات، وأنها تخلط مع الكثير من الأخلاط وكذلك مع غيرها من الأطعمة التي أكلت معها في الوقت نفسه، وأن هضمها وإخراجها يحدثان بسرعة، وعن طريق هاتين العمليتين - الهضم والإخراج - يتم تمثيل كل ما هو مفيد لطبيعة الكائن الحي، أما البقايا فتخرج عن طريق المعدة والبول والعرق. («الأمزجة» 3، 3، ترجمه إلى الإنجليزية: سنغر)
يستخدم جالينوس مفهوم التقسيم إلى أجزاء صغيرة في كتابات أخرى (نجد مناقشة لأهميته الدوائية في ديبرو (1997).) وللأخلاط دور مهم للغاية في الطب القديم؛ إذ اكتشفوا أن الأخلاط موجودة في النبات والحيوان والإنسان، وأنها قد تكون موجودة لدى الإنسان في أنحاء مختلفة من الجسم، بما في ذلك الجهاز الهضمي. يوضح جالينوس - في بحثه «عن قوى الأطعمة» (1، 1) - أن موضع التقاء المريء والمعدة ربما يكون مكانا تنشأ فيه المشكلات:
أعرف شخصا كان يشكو من المنطقة المحيطة بمدخل المعدة، وأدركت من وصفه أن البلغم قد تجمع في هذا المكان، فنصحته بإضافة الخردل والكراث والبنجر إلى طعامه؛ لأن هذه الأطعمة تقلل من البلغم. وأفرز كمية كبيرة من البلغم من معدته وشفي تماما من شكواه، ولكنه على العكس من ذلك تعرض لعسر هضم بعد تناول أطعمة لاذعة، وشعر بآلام حادة في معدته. وكان قد أكل الخردل مع البنجر، ولم يفاجأ بالطعم اللاذع فحسب، بل ساءت حالته بدرجة كبيرة. واندهش بالطبع من أنه تعرض لكل هذا الأذى بسبب وصفة سبق أن أفادته، وجاءني لمعرفة السبب. (ترجمه إلى الإنجليزية: جرانت)
قد يتسبب البلغم في مشاكل أسوأ، كما يشرح جالينوس في بداية «عن النظام الغذائي المستخدم في تخفيف الأخلاط» 1:
ينصح باستعمال النظام الغذائي المخصص لتخفيف الأخلاط لمعظم الأمراض المزمنة التي من الممكن فعليا علاجها بهذه الوسيلة وحدها، دون اللجوء إلى العقاقير؛ ولذلك، من المهم تكوين فكرة واضحة عن هذه الحمية؛ فأيا كان المكان الذي تتحقق فيه نتيجة عن طريق الحمية، فمن المفضل الامتناع فقط عن اتباع الوصفات الدوائية ... الكليتين والمفاصل ... صعوبات التنفس المزمنة ... تضخم الطحال وتصلب الكبد ... الصرع. (ترجمه إلى الإنجليزية: سنجر)
هذا الاستشهاد مأخوذ من بحث يتحدث عن نظام غذائي خاص يهدف إلى تخفيف الأخلاط، بمعنى التقليل من لزوجة أخلاط معينة، كالبلغم على وجه التحديد. ولكن، يتضح لنا من بحث جالينوس الأطول الذي ألفه لاحقا - «عن قوى الأطعمة» - أن الأخلاط الأغلظ قواما كثيرا ما كانت أكثر ضررا من الأخلاط الأخف قواما، مع أن المواد المغذية غالبا ما كانت ترتبط بالخلط الغليظ. وحديثه عن اللحم البقري - وهو البروتين الأهم من نواح كثيرة كما رأينا - يتسم بالحدة:
يوفر اللحم البقري مواد غذائية غنية وغير سهلة الهضم، مع أنه يجعل قوام الدم أغلظ من الحد المناسب. وإذا أكل شخص يميل بطبعه إلى الكآبة والسوداوية من هذا الطعام حتى الشبع، فسيصاب بمرض مرتبط بالكآبة والسوداوية. وهذه الأمراض هي السرطان وداء الفيل والجرب والجذام وحمى الربع وأي أمراض تندرج تحت السوداوية أو الاكتئاب ... ويفوق اللحم البقري في غلاظة مادته لحم الخنزير، بنفس الدرجة التي يفوق بها لحم الخنزير اللحم البقري من حيث اللزوجة. (جالينوس، «عن قوى الأطعمة» 3، 1، ترجمه إلى الإنجليزية: جرانت)
يوضح جالينوس أنه يرى من وجهة نظره أن التغذية تتضمن النظام الغذائي اليومي الذي يجب تعديله بحيث يلبي احتياجات حالات مرضية معينة في الجسم؛ فالجسم يتلقى المواد المغذية - «تروفي» - ويكون خاضعا للخواص أو القوى «دوناميس» الكامنة في الطعام. وقد يتسم الطعام بخاصية التدفئة أو التبريد أو التغليظ أو التخفيف، وقد يكون مرا أو بسيطا أو حلوا أو لاذعا؛ وكل هذه الخواص كانت تؤثر على الجسم، وعلى السوائل الحيوية أو «أخلاط» الجسم بصفة خاصة. وكان يمكن التحكم في الصحة والكثير من الحالات الناتجة عن اعتلال الصحة عن طريق اختيار الأطعمة المناسبة لاحتياجات كل جسم على حدة، وكان النظام الغذائي عبارة عن وسيلة معتدلة نسبيا للمحافظة على الصحة ومكافحة المرض، وكانت تتوافر علاجات أقوى في دستور الأدوية الذي كانت تصنف فيه المواد النباتية والحيوانية المشابهة - ولكن في نمط أشد تركيزا - جنبا إلى جنب مع المكملات المعدنية وغيرها من المكملات الغذائية.
سأتحدث عن أربعة أمثلة من الأطعمة المأخوذة من بحث جالينوس «عن قوى الأطعمة» لإيضاح مدى تعدد استعمالات الأطعمة من وجهة نظر الطبيب. وكانت المواد المغذية من الاعتبارات المهمة، ولكن كان ثمة عدد من الاعتبارات الأخرى، كما سنرى. وكانت سهولة مرور الطعام خلال الأمعاء من الأمور المهمة، وكذلك الاعتبارات المتعلقة بإدرار البول ومجموعة متنوعة من خواص الأخلاط.
يصف جالينوس الشوفان في الموضع (1، 14):
يكثر هذا النوع من الحبوب في آسيا، خصوصا في المنطقة الواقعة بعد بيرغامون من مدينة ميسيا؛ حيث تشهد إنتاج كميات كبيرة من القمح الوحيد الحبة والقمح الثنائي الحبة. وهو طعام مخصص للحيوانات المستخدمة في الجر وليس للبشر، إلا في أوقات معينة عند اضطرارهم لصنع الخبز منها في حال تعرضهم للجوع الشديد. وفي غير أوقات المجاعات، يؤكل الشوفان بعد سلقه بالماء مع النبيذ الحلو أو عصير العنب المغلي أو النبيذ الممزوج بالعسل، مثل القمح الوحيد الحبة؛ وهو دافئ بدرجة كافية، مثل ذلك النوع من الحبوب، ومع ذلك هو ليس صلبا مثل القمح الوحيد الحبة؛ ومن ثم، فهو يمد الجسم بكمية أقل من المواد الغذائية، والخبز الذي يصنع منه كريه من نواح أخرى. وهو لا يضبط الأمعاء أو يحفزها، بل إنه من هذه الناحية يقع في منزلة وسطى بين نقيضين. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
وأعلق فيما يأتي على السمات الاجتماعية لهذه الفقرة. أما الآن، فإني أشير إلى أن جالينوس يتحدث عن الأشكال النيئة والمصنعة من الشوفان؛ إذ يذكر أن جودته الغذائية تعتمد جزئيا على كثافة البذرة، وأن الشوفان يساعد في التدفئة من حيث علاقته بالأخلاط، وأنه لا يؤدي للإمساك ولا الإسهال أثناء مروره في الأمعاء. والحبوب التي تحدث عنها جالينوس بعد ذلك (1، 15) هي «كينجكروس» و«إلوموس»، وهما دخن بروسو ودخن ذيل الثعلب:
أحيانا يصنع الخبز من هذه الحبوب إذا حدث نقص مفاجئ في أطعمة الحبوب التي سبق ذكرها، ولكنها غير مغذية وباردة، ومن الواضح أنها مقرمشة وتصلح للقلي، وكأنها لا تحتوي على أي مواد دهنية أو دبقة؛ لذلك - بحسب توقعاتك - فهي تتسم بخاصية التجفيف للمعدة الرطبة. ولكنهم في الريف يسلقون الدقيق المستخرج من هذه الحبوب، ثم يمزجونه مع دهن الخنزير أو زيت الزيتون ويأكلونه. ودخن بروسو أرقى من دخن ذيل الثعلب من كل النواحي، وهو في الواقع ألذ كطعام، وأسهل في الهضم، وأقل تسببا في الإصابة بالإمساك، وقيمته الغذائية أكبر. أحيانا يأكل الريفيون الدقيق المصنوع من هذه الحبوب ممزوجا بالحليب بعد غليه، ويستعملون دقيق القمح أيضا بهذه الطريقة. ومن الواضح أن قيمة هذا الطعام ممزوجا تكون أفضل من تناول مكوناته كلا على حدة، وذلك بنفس القدر الذي يكون فيه تناول هذا المزيج بالحليب أفضل من الخواص الطبيعية لكل من هذين النوعين من الحبوب منفصلين. تساعد إضافة الحليب في إفراز أخلاط صحية، فضلا عن مزايا أخرى تتعلق بالهضم والتفريغ المعدي وتوزيع الطعام والطعم الحلو اللذيذ عند الأكل؛ فهذان النوعان من الحبوب غير لذيذين، ولا سيما دخن ذيل الثعلب الذي يزرع في المنطقة التي نعيش فيها من آسيا؛ وهو أفضل بكثير في البلدان الأخرى، مثل إيطاليا. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
توضح هذه الفقرة خواص الحبوب ذات القيمة الغذائية المحدودة، ويتسم هذان النوعان من الحبوب ببرودة ملحوظة، ويحدد قوام كل منهما الصالح للقلي خواصه التي تساعد في تجفيف المعدة. وتأتي إشارة إلى طعم كل منهما، وفي هذا السياق المتعلق بالأطعمة الثانوية كغذاء للإنسان يصبح الطعم اللذيذ من الخواص الوثيقة الصلة بالموضوع. ويترافق مع ذلك - في هذه الحالة على الأقل - سهولة الهضم والتغذية، وتتطلب الحبوب مزجها بالحليب؛ ومن ثم يمكن أن تؤدي إلى إفراز أخلاط صحية، وإلى فوائد متعددة من حيث الهضم والتوزيع والتدفق من المعدة.
وثاني نوعين من الطعام اخترتهما لتوضيح منهج جالينوس هما ثمرتا العرعر وشجر الأرز (2، 15-16):
يطلق الناس على ثمرة العرعر «توت العرعر»، وهو مر المذاق بعض الشيء، مع شيء من الحلاوة وقدر أقل من الطعم اللاذع. وله أيضا رائحة عطرية نوعا ما؛ لذلك، من الواضح أن له خاصية التدفئة بسبب الطعم اللاذع (فكل ما هو لاذع ثبت أنه يساعد على التدفئة)، ولكن أيضا بسبب رائحته وطعمه العطريين؛ فكل النباتات العطرية تساعد على التدفئة. كما أنه يساعد على تنقية المواد الموجودة في الكبد والكلى، ومن الواضح أنه يساعد في تخفيف الأخلاط الغليظة واللزجة؛ ولهذا يخلط بالعقاقير التي تحسن الصحة. ولكنه لا يمد جسم الإنسان إلا بمواد غذائية قليلة، وإذا أكل المرء كمية كبيرة منه، فإنها تهيج المعدة وتؤدي إلى سخونة في الرأس، وأحيانا ما تسبب انتفاخا في الرأس وإحساسا بالألم. وعند مرور هذه الثمار في الأمعاء، فإنها لا تتسبب في إعاقة الإخراج ولا في تحفيزه؛ ومع ذلك، فإنها مدرة للبول إلى حد معتدل.
وثمرة شجرة الأرز - التي يطلقون عليها «توت الأرز» - تشبه ثمار توت العرعر من حيث اللون والشكل - لأن لونها يميل للاصفرار ومستديرة أيضا - ولكنها تختلف من حيث الطعم اللاذع. وفي الواقع، تقترب هذه الثمرة من كونها عقارا لأنها لا تمد الجسم بأي مواد مغذية إلا عند نقعها في الماء أولا؛ فمن السمات المشتركة لكل الأطعمة اللاذعة أنها تمد الجسم بمواد مغذية ثانوية بعد التخلص من طعمها اللاذع. فضلا عن ذلك، فإن ثمرة أشجار الأرز أشد صلابة وأكثر جفافا من ثمار العرعر، كما أنها دون شك أصغر حجما منها، وليست أيضا ذات رائحة عطرية مثلها؛ لذلك، من الواضح أنها مهيجة للمعدة وتؤدي إلى الإصابة بالصداع، إلا في حالة تناولها بكمية قليلة. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
لا ينتمي هذان النوعان من الطعام إلى الأطعمة أساسا؛ فكما يذكر جالينوس، فإن ثمرة شجرة الأرز أقرب إلى كونها عقارا؛ لأنها تغير الجسم ولا تمده بأي مواد مغذية، وثمرة العرعر تشبهها في ذلك. ومن اللافت للنظر أن هذه الفكرة لم تسهم في استثناء هذين النوعين من التوت من هذا البحث المتعلق بالأطعمة؛ فالمواد المغذية ليست هي المعيار الوحيد. يقع هذان الطعامان في منزلة وسطى بين الأطعمة والعقاقير، شأنهما في ذلك شأن البصل والثوم والكثير من النباتات العطرية مثلا. وكما سنرى، فإن ثمة قدرا كبيرا من التداخل بين العناصر الموجودة في هذا البحث - وهي التي تساعد في تغذية الجسم بوجه عام - وبين العناصر الموجودة في الأبحاث التي تتناول العقاقير، وهي التي تحدث تغييرا في الجسم. ومع ذلك، فإن المشكلة الحالية - كما رأينا بخصوص نوعي الدخن فيما سبق - تكمن في أن القيمة الغذائية للأطعمة في رأي جالينوس، كما هو في رأي عالم التغذية في العصر الحديث، لم تكن تقتصر على المواد المغذية فقط. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه كان يعتبر أن «أنادوسيس» - وهي الحركة خلال الأمعاء - و«القوى» أو القدرات الكامنة تعمل جميعا على تعديل الأخلاط في الجسم.
يتحدث جالينوس عن العقاقير في عدد من الأبحاث، مثل بحث «عن قوى وأمزجة العقاقير البسيطة (العقاقير النباتية البسيطة)»، وبحث «العقاقير المركبة بحسب المكان»، وبحث «العقاقير المركبة بحسب النوع». فالعقاقير - كما أشرت - كثيرا ما تكون عبارة عن أطعمة مجففة أو مركزة تؤخذ ليس بهدف التغذية أو المحافظة على الجسم بل لإحداث تغيير. ومعظم المنهج العلمي المستخدم في بحث «عن قوى الأطعمة» مأخوذ من البحث السابق المعنون ب «عن العقاقير النباتية البسيطة». كان علم العقاقير من أهم المحفزات للمشتغلين في مجال الطب في الحقبة الهلنستية؛ إذ كان عدد من الملوك الذين تعاقبوا على حكم إمبراطورية الإسكندر الأكبر مضطرين لحماية أنفسهم ممن كانوا يدسون لهم السم. ربما كان أبرزهم هو ميثريداتس الرابع ملك بنطس، ولكن من بين الملوك الآخرين ليسيماخوس وأكثر من ملك من الملوك البطالمة، وكانت تجمع أنواع الترياق المضاد للسموم من الكثير من الأصقاع البعيدة من رقعة البلدان الإغريقية الرومانية الآخذة في الاتساع، وكانت الكفالة الملكية تقدم الموارد اللازمة لإتمام الجهود البحثية المتعلقة بالعقاقير والتغذية. والخوف من الاغتيال هو جانب آخر يوضح مدى أهمية القصر الملكي كمركز للتطورات التي تشهدها الأطعمة والمشروبات، سواء بهدف التفاخر أم لأغراض علاجية. لطالما كان خطر دس السم - والسم من المواد التي تضر ولا تغذي - من الأخطار الحاضرة دوما، كما يتضح من خلال أنواع الترياق التي نشأت من القصر الملكي الفارسي ومن الأسرة اليوليو كلاودية التي جاء منها أول خمسة أباطرة في روما. وكان من الوارد أن توضع السموم مع الطعام عند أوقات تناول الطعام، وأحيانا ما كانت توضع بطرق ملتوية للغاية تتطلب ممن دس السم أن يتناول طعاما أو شرابا سليما من نفس ما كان يوشك الضحية على ابتلاعه. يزعم جالينوس أن تناول الجوز والسذاب عند بداية الوجبة يقاوم كل أنواع السموم. (1) البيئة
كانت البيئة من الموضوعات المهمة التي تناولها جالينوس، وفيما يأتي ما يقوله عن أسماك البوري الرمادية (3، 24):
يتوقف مدى كونها أفضل أو أسوأ على نوعية الطعام الذي تتغذى عليه؛ فبعض الأسراب تأكل كمية وفيرة من النبتات المائية والجذور المفيدة؛ ومن ثم يصبح هذا النوع أفضل، بينما تأكل أسراب أخرى نبتات مائية ملوثة بالطين وجذورا غير مفيدة. وبعض أسراب هذه الأسماك التي تعيش في الأنهار التي تجري في المدن الكبرى تأكل من الفضلات البشرية وأطعمة سيئة أخرى؛ ولذلك فهي أسوءها على الإطلاق، كما قلت؛ ولذلك، حتى لو بقيت لمدة قصيرة جدا بعد موتها، فإنها تتعفن على الفور وتفوح منها رائحة كريهة للغاية، وهي كلها ذات طعم كريه ويصعب هضمها، وتحتوي على كمية قليلة من المواد المغذية وكمية كبيرة من الرواسب. إذن لا عجب أنها تؤدي إلى تجمع الأخلاط غير الصحية في جسم من يأكلها يوميا. ومع أن هذه الأسماك من بين أسوأ الأسماك، فعلى العكس من ذلك، نجد أن أفضل أنواع أسماك البوري الرمادية - كما قلت - هي تلك التي تعيش في أشد مناطق البحر صفاء، خصوصا المناطق التي لا تحيط بها شواطئ طينية أو شواطئ ناعمة، وإنما شواطئ رملية أو وعرة. وتكون الأسماك أفضل بكثير إذا كانت الشواطئ عرضة لهبوب الرياح الشمالية؛ فمع أن الحركة تساعد على تمتع كل الحيوانات بأخلاط صحية بدرجة كبيرة، فإن نقاء الرياح التي تمتزج مع الماء يزيد من جودة لحم تلك الأسماك. ومن الواضح أيضا مما قيل - لهذا السبب أيضا - أن ثمة بحارا أفضل من بحار أخرى من حيث كونها صافية تماما أو يصب فيها الكثير من الأنهار الغزيرة مثل بحر بنطس (البحر الأسود)؛ فالأسماك التي تعيش في هذه البحار أفضل من الأسماك التي تعيش في برك، وهي أقل جودة من الأسماك الموجودة في أعالي البحار. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
وكما ذكرنا آنفا، نجد أن الطبيب التابع لمدرسة أبقراط يتناول المريض من حيث عالم الطبيعة الأكبر المتعلق بالكون، ومن حيث عالم الطبيعة المتعلق بالحيوانات والنباتات. ويتحدث جالينوس عن هذا المفهوم المتعلق بالحياة البشرية بوضوح في عدد من أعماله. ورأينا فيما سبق أن الجسم المثالي كان هو الجسم الإغريقي وليس الجسم المصري الذي كان حارا أكثر مما ينبغي، وليس الجسم الألماني أيضا لأنه كان باردا أكثر مما ينبغي. وفي بحثه المتعلق بالأطعمة يصنف العناصر بوضوح على أسس بيئية وموسمية. يجب أكل النباتات في الوقت المناسب من العام، وينطبق ذلك أيضا على الأسماك والحيوانات. وكما ذكرنا فيما سبق، تتسم أسماك الأنهار بخواص تختلف عن خواص أسماك البحار، والماعز أو الطيور التي نشأت في الجبال تختلف تماما عن نظائرها التي نشأت في السهول. وسن الحيوان أيضا من العوامل ذات الصلة، مثل سن المريض البشري. وهذه الأفكار موضحة كما يجب في بحث جالينوس المرافق لبحث «عن قوى الأطعمة»، وهو «عن المحافظة على الصحة» أو «هايجينا». وفي الفقرة (5، 6) من البحث، يناقش جالينوس خطر الانسداد المعوي لدى الرجال المتقدمين في السن:
إن حالات الانسداد الناتجة عن النبيذ متوسطة، أما حالات الانسداد الناتجة عن الأطعمة المسببة لإفراز عصارة غليظة أو لزجة فليس من السهل علاجها؛ لذلك لا بد أن يمتنع الرجال المتقدمون في السن عن تناول كميات كبيرة من النشا أو الجبن أو البيض المسلوق أو الحلازين أو البصل أو الفول أو لحم الخنزير، ولا بد أن يمتنعوا كذلك عن تناول كميات كبيرة من الثعابين أو طيور العقاب أو كل الحيوانات ذات اللحم القاسي الذي يصعب هضمه؛ ومن ثم، يجب ألا يأكلوا شيئا من القشريات أو الرخويات أو أسماك التونة أو أيا من الحيتانيات أو لحم الطرائد أو الماعز أو الماشية. وهذه الأطعمة لا تكون مفيدة أيضا لأي شخص آخر، ولكن لحم الضأن ليس طعاما مضرا للشباب، ولكن لا شيء من هذه الأطعمة مفيد لكبار السن، وخصوصا لحم الضأن؛ لأن هذا اللحم رطب ولزج ودبق وبارد. ولكني لا أرى أن لحم الطيور غير مناسب لكبار السن، ومن بينها الطيور التي لا تعيش في المستنقعات أو الأنهار أو البرك. وكل الأطعمة المجففة أفضل من الأطعمة الطازجة.
يشرح جالينوس التغيرات التي تطرأ على الأخلاط بسبب الموقع بمزيد من التفصيل في فقرة من بحث «عن النظام الغذائي المستخدم في تخفيف الأخلاط» 8:
إن الطيور التي تعيش في المستنقعات والبحيرات والسهول تكون أكثر رطوبة، وتنتج عنها كمية أكبر من المخلفات. والحيوانات التي تعيش في التلال دائما ما تكون أكثر جفافا وأشد حرارة، وتكون لحومها هي الأقل دبقا والأقل إفرازا للبلغم. في الواقع، كل ما يعيش في الجبال هو أفضل بكثير مما يعيش على الأراضي المنبسطة ... (ترجمه إلى الإنجليزية: سنجر)
تنطبق الحجج نفسها على النباتات، وينعكس اهتمام جالينوس بالتغيرات الموسمية للنباتات لدى علماء النبات. يطرح ديسقوريدوس الموضوع في التمهيد الذي كتبه لموسوعة «عن المواد الطبية» (7):
يجب ألا يغفل المرء حقيقة أن معدل نضج النباتات يتفاوت بحسب الخصائص المميزة للبلد وبحسب المناخ؛ فبعض النباتات تزهر وتورق في الشتاء - وذلك بحسب طبيعتها الخاصة - وبعضها يزهر مرتين في العام. وكل من ينشد الخبرة في هذه الموضوعات ينبغي عليه أن يرى النباتات وهي نبتات صغيرة، خرجت توا من الأرض، ينبغي عليه أن يرى النباتات في أوج ازدهارها وعند ذبولها. (ترجمه إلى الإنجليزية: سكاربورو وناتن)
تعتبر القضايا البيئية من الموضوعات البارزة في كتابات جالينوس، وفي الكثير من الكتابات الطبية الأخرى التي تتبنى فكر أبقراط. وإلى جانب هذه القضايا، يقدم جالينوس أيضا الكثير من الشروح والتعليقات الجغرافية؛ فهو يذكر - على سبيل المثال - القمح الثنائي الحبة من ميسيا، والجاودار من مقدونيا، والعنب من قيليقية، والتونة من ساردينيا. وهذا الأسلوب يساعد في الربط الدقيق بين الأطعمة وأماكن وجودها، وربما يكون من مساوئ هذا الأسلوب تعذر التعميم؛ فدخن ذيل الثعلب في آسيا غير مطابق لدخن ذيل الثعلب الذي يزرع في إيطاليا، ولكن له مزايا بلاغية هائلة. وثمة أمثلة محددة تمنحنا الثقة في مصداقيتها، خاصة إذا توافرت إمكانية تطبيق المبادئ المقدمة على نطاق أوسع. وهذا النسق البحثي الذي يراعي اتساع رقعة الإمبراطورية الرومانية من شأنه أيضا أن يفرغ على جالينوس مصداقية أكبر بوصفه مصدرا موثوقا به، لا سيما حين تكون الأسباب التي تستند إليها تلك المبادئ مستقاة من خلال فحصه لعدد من النباتات بنفسه، وكذلك من قراءته الواسعة للمؤلفين المتخصصين.
إن النقد الاجتماعي الذي يقدمه جالينوس مبهر مثل كتاباته عن الشئون البيئية والجغرافية في بحث «عن قوى الأطعمة». رأينا فيما سبق حديثه عن الريفيين في آسيا ممن يضطرهم الجوع لأكل الشوفان والدخن، وهما من الحبوب التي ينظر إليها في الظروف العادية باعتبارها لا تصلح إلا كطعام للحيوانات؛ وقد تحدثت في مواضع أخرى عن هذا الموضوع في ويلكنز (2001، ويلكنز في باول 2003). وكان جالينوس مهتما بالريفيين لأنهم كانوا يتناولون في نظامهم الغذائي أطعمة لم يكن الأغنياء يأكلونها إلا في حال وصفها لهم كعقار؛ ومن أمثلة تلك الأطعمة نبات البيقة المر («عن قوى الأطعمة» 1، 29):
تأكل الماشية نبات البيقة المر في منطقتنا وفي مناطق كثيرة أخرى، وهو يحلى بوضعه في الماء أولا. أما البشر فيتجنبون هذه البذور تماما؛ لأن طعمها كريه وتحتوي على عصارات ضارة. ولكن، أحيانا ما يلجئون إليها في أوقات المجاعة بدافع الحاجة الماسة، كما ذكر أبقراط. ونحن أنفسنا نستعمل نبات البيقة المر مع العسل كعقار للتخلص من السوائل الغليظة في الصدر والرئتين، ونحضره أولا بنفس طريقة تحضير الترمس. (ترجمه إلى الإنجليزية: جرانت 2000 وباول 2003)
وفي مواضع أخرى، نجد جالينوس مهتما برسم حدود النظام الغذائي للإنسان. ومن الممكن أن نضيف عادات شعوب أخرى إلى الأدلة المستقاة من الريفيين الشديدي الجوع؛ فالمصريون الذين يأكلون يرقات الخشب لا يشبهون الإغريق في عادات تناول الطعام أو القراءة (3، 2). لا يتصور جالينوس أن المصريين سيقرءون بحثه، ولا يمكنه أن يتخيل الإغريق وهم يأكلون الحشرات والثعابين مثل المصريين. ومن يأكلون الأسود والحمير والدببة هم أقرب لتلك الحيوانات منهم إلى البشر.
وناقشت فيما سبق اهتمام جالينوس بالاحتياجات الغذائية للعمال المشتغلين بأعمال يدوية، وقد اكتشف أن الحصادين وحافري المصارف الذين يحضرون الاحتفالات الريفية كانوا يتمتعون ببنية قوية تتيح لهم أكل أطعمة قوية مكونة من الجبن المخبوز مع الخبز، بيد أنهم كانوا يموتون في سن الشباب. وكان بوسع الرياضيين أيضا تناول كمية من الخبز واللحم تزيد عما يستطيع تناوله أي فرد من الطبقة الراقية. وكانت للجنود أيضا احتياجات خاصة. يذكر جالينوس في بحث «عن قوى الأطعمة» (1، 11):
في بعض البلدان يستخدمون جريش الشعير لصنع الخبز، كما رأيت في الريف في قبرص، ومع ذلك فهم يزرعون القمح في معظم الأحيان. وكان القدماء يعدون جريش الشعير أيضا للمجندين في الخدمة العسكرية، ولكن حاليا لا يستخدم الجيش الروماني جريش الشعير، بعد أن شاع رأي متحامل بأنه يؤدي إلى إضعاف الجنود؛ وذلك لأنه يمد الجسم بكمية قليلة من العناصر المغذية التي تكفي للفرد العادي الذي لا يؤدي تدريبات بدنية. (ترجمه إلى الإنجليزية: باول)
إن بحث «عن قوى الأطعمة» هو بحث معني في الأساس بأساليب التدخل المعتدل، وعندما كان الأمر يستدعي أساليب طبية أقوى، كان الطبيب يلجأ إلى استخدام العقاقير، أو «فارماكا» باللاتينية. ألف جالينوس عددا من البحوث المؤثرة عما أطلق عليه الأدوية البسيطة (النباتات وحدها أو المنتجات الحيوانية أو المعادن) وعن الأدوية المركبة أو أمزجة من عدة مكونات واردة في الوصفات الطبية. وكما رأينا في موضع سابق من هذا الفصل، يصنف بعض النباتات بصفته أطعمة وعقاقير في آن واحد؛ ومن أمثلة ذلك نبات العرعر (وردت مناقشة عنه في كتاب «الأدوية البسيطة» 6 = 11، 836-837)، وشجرة الأرز (كتاب «الأدوية البسيطة» 7 = 12، 16-17).
شكل 8-3: يناقش ديسقوريدوس صنفين من القمح البدائي، ربما القمح الثنائي الحبة والقمح الوحيد الحبة. وحاول علماء النبات والأطباء تسجيل كل النباتات الموجودة في الإمبراطورية الرومانية، فوجدوا قدرا كبيرا من الخلط يشوب السجلات المكتوبة، ولاحظوا استخدام مصطلحات لم تكن تمت بصلة للنباتات المزروعة. واهتم ديسقوريدوس وجالينوس كثيرا بفكرة أن يفحص الباحث النباتات بنفسه في مواسم مختلفة وفي أماكن مختلفة بهدف مطابقة التصنيف النباتي للتصنيف المعجمي، وهذا ما فعله كلاهما. (حصلنا على نسخة من الصورة بإذن من كبير كهنة كاتدرائية إكستر.)
ألف جالينوس هذه البحوث بهدف مناقشة عدد من المشاكل التنظيمية بالإضافة إلى المجالات المتخصصة. فبحثا «عن الأدوية البسيطة» و«عن قوى الأطعمة» هما عبارة عن فهرسين يحتويان على قوائم مطولة من المواد، جمعها جالينوس وكانت ثمار سنوات طويلة من البحث، وكثير من دراسات الحالة والتجارب. كيف يمكن ترتيب هذه القوائم ترتيبا مترابطا؟ يتحدد الترتيب جزئيا على أساس فئة القراء؛ فمن الممكن أن يستفيد القراء غير المتخصصين بالترتيب الأبجدي، وهو الذي يستخدمه جالينوس لبعض أجزاء كتابه «عن الأدوية البسيطة» وليس كلها. أما الأطباء الخبراء، فمن الممكن أن يناسبهم الترتيب بحسب الفئات الطبية؛ ومن ثم، فإن بحث «عن قوى الأطعمة» مرتب بحسب الأطعمة الأكثر انتشارا وفاعلية (بادئا بالأطعمة ذات القيمة الغذائية الأعلى أولا؛ وهي القمح في الجزء الأول، ولحم الخنزير في الجزء الثالث). وبالمثل، يستهل جالينوس كتابه «عن النظام الغذائي المستخدم في التنحيف» بالأطعمة الأكثر فاعلية في تخفيف الأخلاط الغليظة؛ وهي البصل، وينتهي بأقلها فاعلية في ذلك؛ وهي الجبن والعسل. يكتب جالينوس أيضا بأسلوب واضح وبلاغي، يتخلله قدر كبير من التنوع، كالقوائم المجردة في كتابه «عن العقاقير النباتية البسيطة»، والنوادر والأدلة في كتابه «عن قوى الأطعمة»، والأسلوب البلاغي القائم على الانتقاد والذم في بعض المواضع في أجزاء من كتاب «عن القوى الطبيعية»، والعبارات البلاغية الباهرة في بحث «عن التكهن بسير المرض».
نظم جالينوس إنتاجه الغزير بعناية فائقة، ونجده يناقش مبادئ تنظيم كتبه وصعوبات إنتاجها في كتابيه «عن كتبي» و«عن ترتيب كتبي». ويستخدم نظاما للإسناد الترافقي بين كتبه؛ ومن ثم فإنه يحيل قارئه في بحثه «عن قوى الأطعمة» - على سبيل المثال - إلى بحثه «عن العقاقير النباتية البسيطة» للاطلاع على مناقشة لبعض خواص الكبد، مثلا. وعند المقارنة بين هذين البحثين بالتحديد نتعرف على المزيد من مبادئ التنظيم التي يستعملها. يدرج جالينوس عددا كبيرا من الحبوب والبقول في بحث «عن قوى الأطعمة»، وهو عدد يزيد عن الذي ذكره المؤلف التابع لمدرسة أبقراط في بحث «الحمية 2». كما يذكر المزيد من النباتات الثانوية، ولكنه لا يذكر الكثير من أنواع الأسماك المتنوعة. وهو يحاول أن يكون شاملا، ليس بأن يذكر كل شيء قدر الإمكان، بل بمناقشة كل الفئات ذات الصلة؛ فكيف ينجز مهمته؟ توجد فقرة مفيدة بهذا الشأن في الموضع 2، 51 من كتابه، وفيه يناقش جالينوس أنواع الكرفس، وأنواع الكرفس البري («هيبوسيلينوي»)، والجزر الأبيض («سيا»)، وأنواع الكرفس البري الكريتي («سميرنيا»). ويستعرض في المادة التي يتناولها عدة جوانب: (1)
الخواص الطبية: هذه النباتات كلها مدرة للبول، وتحفز الطمث عند النساء. (2)
المصطلحات: في روما، يعرف «سميرنيون» (الكرفس البري الكريتي) باسم «أوليساثرون». (3)
التصنيف: هذه النباتات ربما لا تصلح لتكون أطعمة مغذية («تروفاي»)؛ لأنها كلها عبارة عن مكملات تضاف إلى الطعام الأساسي، مثل البصل والثوم والكراث والكراث البري وكل النباتات اللاذعة. (4)
الاستعمال كطعام: أنواع الكرفس يشيع استخدامها لأنها لذيذة الطعم ومريحة للمعدة؛ أما أنواع الكرفس البري والجزر الأبيض فاستعمالها أقل، ويكثر بيع الكرفس البري الكريتي في روما. (5)
التغيرات الموسمية: تؤكل أعواد الكرفس البري الكريتي في الربيع، وتؤكل أوراقه في الشتاء. (6)
الطعم: الكرفس البري الكريتي يتسم بأنه أشد حرافة من الكرفس، ويساعد أكثر على التدفئة، ورائحته أقوى. (7)
الطهي: يمكن أكل الكرفس البري الكريتي نيئا أو مطهيا بالزيت وصلصة غاروم أو بالنبيذ والخل. ومن الممكن أيضا استعمال صلصة مكونة من الخل وصلصة غاروم مع إضافة الزيت اختياريا (ويصلح ذلك للكرفس كذلك). تؤكل أنواع الكرفس البري والجزر الأبيض مسلوقة، ومن الممكن تحضير السلاطات من الكرفس أو الكرفس البري الكريتي بالإضافة إلى الخس (وهو نبات غير حريف ويحتوي على عصارة باردة)؛ وهذه التوليفة ألذ طعما وأكثر نفعا. ومن الممكن إضافة الجرجير أو أنواع الكراث أو الريحان بالطريقة نفسها.
وتوالى ذكر كل هذه الفئات من الموضوعات محل الاهتمام في هذا الكتاب؛ وينطبق ذلك تحديدا على مناقشة جالينوس للنكهات، أو «أوبسا» باللاتينية. والنكهات - كما رأينا في مواضع أخرى - هي المكملات الطيبة المذاق التي تضاف إلى الحبوب، والنباتات والأسماك واللحوم الشهية التي تمنح الغذاء الأساسي المكون من الحبوب قدرا إضافيا من البروتينات والفيتامينات والمعادن (بمصطلحاتنا الحديثة). والذي يقصده جالينوس في هذا الموضع بمصطلح «أوبسا» مشابه لذلك؛ فهو يعني الأطعمة الحسنة المذاق التي لا تضفي قدرا كبيرا من السعرات الحرارية إلى الوجبة، ولكنها تثري المذاق وتجعل الطعام أكثر استساغة. ويذكر جالينوس أمثلة أخرى مثل الزوفا (أشنان داود) والبردقوش والشمر والكزبرة. ومن بين هذه النباتات، لا يظهر في بحث «عن قوى الأطعمة» إلا الشمر. والنباتات الأخرى واردة في بحث «عن العقاقير النباتية البسيطة» بصفتها عقاقير؛ فهي - بعبارة أخرى - تغير نظام الأخلاط ولا يقتصر دورها على تغذية الجسم وبنائه فحسب، إذ إن الأطعمة وحدها هي التي تؤدي هذه المهمة. ومع ذلك، ليس ثمة خط فاصل بين الأطعمة والعقاقير لأن الكثير من المواد - مثل البصل والثوم - يمكن تصنيفه على أنه أطعمة وعقاقير في آن واحد.
إن جالينوس على دراية بالتعريفات التقليدية لكلمة «أوبسا» بأنها مكملات حسنة المذاق قد تكتسب دلالات مترفة في حال الإفراط فيها؛ إذ إنه يمضي قائلا عن كتب الطهي، التي تتحدث عن نكهات مثل السذاب وإشنان داود والبردقوش والشمر والكزبرة، أنها محل اهتمام مشترك من الطهاة والأطباء، ولكن لكل فريق أهدافه وأغراضه المختلفة: «نحن الأطباء نهدف إلى المنفعة، وليس المتعة.» ثم يحيلنا جالينوس مباشرة إلى الوصفة العلاجية التي يقدمها أفلاطون في كتابه «محاورة جورجياس». ومع ذلك فإنه يقدم اعترافا لصالح خصمه؛ فالطعم الكريه في الطعام كثيرا ما يؤدي إلى عدم هضمه جيدا؛ ومن ثم فمن الأفضل أن يكون الطعام لذيذا بدرجة معتدلة. وعلى الرغم من هذا الإقرار من جانبه، فإنه يمضي ليقول إن الطهاة يستخدمون نكهات رديئة لإعطاء مذاق شهي، ويترتب على ذلك سوء الهضم.
ويقدم لنا جالينوس في هذا الفصل المفيد وصفات لتحضير سلاطات وأطباق مطهية مكونة من الكرفس ونباتات مشابهة له، وتتضح الفروق التي يحددها أكثر في هذا البحث. ولم يدرج السليفيوم - وهو أحد أكثر النكهات المفضلة لدى الذائقة الإغريقية الرومانية - بصفته طعاما في بحث «عن قوى الأطعمة». والفلفل والكمون والكزبرة غير مدرجة أيضا. ومع ذلك، فإنه يدرج هذه المواد كلها في بحث «عن العقاقير النباتية البسيطة» بصفتها عقاقير أو مواد تؤدي إلى إحداث تغير في الجسم. والريحان والشمر مذكوران فعليا في البحث المتعلق بالأطعمة، ولكن بإيجاز شديد؛ فالريحان من بين المكملات التي يقال عنها كذبا إنها تسبب وجود العقارب، ولكنه بخلاف ذلك يفرز عصارة سيئة ومضر بالمعدة وصعب الهضم. ويأتي وصف الشمر بالكامل من الناحية الاجتماعية دون أي تعليق طبي: «أحيانا ما ينبت وحده مثل الشبت، ولكنهم أيضا يبذرون بذوره في الحدائق، ويستخدمونه كثيرا لإضافة نكهة مثله مثل الشبت. ويستخدمون الشمر أيضا كمكمل شهي، ويخزنه من يسكنون في منطقتنا (في آسيا الصغرى) مثل زهر عاقر قرحا والبطم (أو التربنتين)، حتى يستفيدوا منه على مدار العام، مثل البصل واللفت وما شابه. ويقدمون بعض هذه النباتات بالخل فقط، ويقدمون بعض النباتات الأخرى بالخل والماء المملح» (1، 56).
ولعل هذا الجانب الاجتماعي، الذي يشمل أماكن شراء الأطعمة وبيعها وفئات الناس الذين يأكلونها والأسماء المحلية التي يعرف بها طعام ما، من السمات البارزة لمناقشات جالينوس عن الأطعمة. فنطاق المعرفة الاجتماعية التي يوفرها في كتاباته يفوق بكثير نطاق المعرفة الاجتماعية لدى أثينايوس وغيره من المؤلفين «الأدبيين» والمؤلفين المتخصصين، كما سنرى في الفصل القادم. ويذكر أنواع الحبوب والفول الفقيرة التي يأكلها الريفيون لأنها تساعد في رسم حدود النظام الغذائي البشري. وعلى الجانب الآخر من الإطار الاجتماعي، يعبر عن حذره من أطعمة الأغنياء التي يحضرها الطهاة لأبناء الطبقات الراقية في روما وغيرها من المدن، لكنه يعترف بوجود بعض الاهتمامات المشتركة بين الأطباء والطهاة. وربما يكون هذا الحذر هو سبب قلة عدد الأسماك التي يدرجها في الجزء الثالث من بحثه «عن قوى الأطعمة»؛ فلو كان ينوي تقديم موسوعة غذائية شاملة بحق، كان يمكنه إدراج مئات من أسماء الأسماك ، ولكنه بدلا من ذلك ذكر عددا أقل مما ذكره المؤلفون الآخرون. ومن الصعب ألا نظن أن تفسير ذلك يكمن في ارتباط الأسماك بموائد الأغنياء، فالأسماك موضوع يناسب كتب الطهي أكثر مما يناسب البحوث الطبية؛ ففي النهاية، لم تكن الأسماك تخلو من الخواص الطبية، كما أشار الكثير من المؤلفين الآخرين. ويعزز هذا الرأي أن جالينوس يذكر تلوث الأنهار المرتبط بمتاجر الطهي من ضمن الصناعات الحضرية الأخرى، ويعززه كذلك عجزه المعلن عن فهم سبب تفضيل الذواقين الرومان لكبد أسماك البوري الحمراء، ويعززه كذلك عدم اهتمامه بالأسماك الصغيرة التي كانت متاحة للجميع بأسعار منخفضة للغاية. وعلى الرغم من كل ما يتمتع به جالينوس من أدوات متخصصة، فقد وقع ضحية للافتراضات الثقافية الشائعة في عصره عن الطهاة والأسماك والترف. ولكن هذا الكلام ليس انتقادا له؛ فعالمه الفكري قد تشكل بالطبع بفعل القوى الثقافية للإمبراطورية الرومانية ومعتقداتها الاجتماعية والثقافية التي كانت تشترك فيها كل أنحاء الإمبراطورية على امتداد مساحتها في أماكن شتى. ويكمن جزء من عظمته في أنه كان يحترم أفلاطون بنفس قدر احترامه لأبقراط، وكان يرى البراعة المتخصصة في مجال ما باعتبارها جزءا من مشروع فلسفي.
يتمتع جالينوس بسعة فكرية ومعرفية مدهشة؛ فهو يتناول الشئون الطبية والنباتية والبيئية والاجتماعية، كما رأينا، ولكنه أخذ أيضا في الاهتمام بالفلسفة والكتابات النقدية والنصوص الأدبية وتاريخ المكتبات، وقدم قوائم بكتبه ومعلومات عن كيفية طلبها، وقدم كتابات نقدية عن الحياة المعاصرة تضفي قدرا كبيرا من العمق على المشهد المعاصر، وصاغ الكثير منها في قالب مبني على النوادر. وهو يشبه أيضا أثينايوس، الذي يكاد يكون في نفس عمره، في تقديم مناقشة نقدية للثقافة الإغريقية على مدار ألف عام، وتمثل ذلك في نصوص متخصصة وأدبية؛ ولهذا السبب، فإنه يمثل المقدمة المثالية إلى الفصل الختامي الأدبي في هذا الكتاب، وهو يثبت أيضا ما أوضحه الكتاب التابعون لمدرسة أبقراط في بداية هذا الفصل، وهو أن المؤلفين المتخصصين في الطب كانوا يشكلون جوهر الفكر القديم المتعلق بالطعام، ولم يكونوا منعزلين في مجالات تخصصهم فحسب .
مقدمة الفصل التاسع
يأتي الطعام في الأدب عادة كوسيلة لإلقاء الضوء على شخصية أو موقف ما، وليس كمؤشر على اتجاهات تناول الطعام. ومع ذلك، ثمة أفكار يمكن استنباطها شريطة أن يؤخذ الرأي الشخصي للمؤلف في الاعتبار؛ فعلى سبيل المثال: كل ما نعرفه عن الذواقة أركستراتوس يأتينا من التلميحات التي تنتقص من عمله والواردة في الأحاديث المطولة التي يرويها أثينايوس عقب المأدبة.
وفي العصر الفيكتوري، يستخدم تشارلز ديكنز أوقات الطعام لعرض ما يبديه الأشخاص الجالسون إلى مائدة الطعام من جرأة أو تحفظ كعلامات تدل على شخصياتهم، وربما منزلتهم الاجتماعية. ويعبر عن وجهة نظر ثرية عادة عن تناول الطعام؛ حيث يرصد السيد بيكويك - ذلك الرجل اللطيف السليم النية - وهو يسارع دوما للجلوس إلى الموائد العامرة بأطايب الطعام، وذلك على عكس مأدبة الزفاف التي لم يأكل منها أحد، والتي أقيمت للاحتفال بزفاف الآنسة هافرشام التي هجرها خطيبها في رواية «الآمال الكبرى». والمثال الأشهر نجده عندما يتحول إبنيزر سكرودج (في رواية «ترنيمة عيد الميلاد») من البخل إلى حب الإحسان وفعل الخير، وهو ما نستدل عليه من إرساله في طلب ديك رومي كبير للاحتفال بمأدبة عيد الميلاد مع أسرة كراتشيت.
وربما يدل هذا على أن تشارلز ديكنز كان رجلا يستمتع بطعامه بقدر ما يدل على أي سمات متعلقة بالطعام والأصناف المتوافرة في ذلك العصر. مع ذلك، فإن الصور التي تستحضرها روايات ديكنز لأصناف الطعام الوفيرة والأنس الذي يشارك فيه الجميع، تظل ترمز لكل ما يستحسنه الشعب البريطاني في الطعام وعادات تناول الطعام.
أما كتب الطهي، فهي شأن آخر؛ فمن غير المرجح حتى وقت قريب أن يكون الطاهي ملما بالقراءة، أو أن يكون في مقدوره حتى شراء كتاب. إن الكتب المتعلقة بالطعام والطهي التي وصلت إلينا من تلك الحقبة التاريخية - التي فقد معظمها في حريق مكتبة الإسكندرية - موجهة لمن يأكلون وليس لمن يطهون؛ فالطهي من المهارات اليدوية التي تنتقل من الأم إلى الابنة في المنزل، أو من رب العمل إلى المتمرن على حرفة ما في مكان العمل. وحتى وقت قريب، كان من المستبعد تماما أن يأكل من يطهون المآدب الفاخرة - للأغنياء أو أسر النبلاء، أو للفنادق والمطاعم في القرن الماضي - من تلك المآدب التي طهوها؛ إذ كانوا خدما من الطبقة الكادحة يعدون المآدب للأسر الغنية. وكانت كتب الطهي الأولى، مثل كتاب «الطاهي الفرنسي» من تأليف لا فارين الذي صدر في عام 1651، موجهة للمشرفين على الطهاة، وكانت تحتوي على إرشادات بسيطة بخصوص المكونات وتخلو من طرق الطهي، ونادرا ما كانت تحتوي على أي معلومات عن المقادير المطلوب استخدامها.
وفكرة أنه ينبغي أن تكون كتب الطهي موجهة لمن يأكلون ليست بالفكرة الجديدة ولا القديمة؛ فلو أن عمل أركستراتوس قد ألف بغرض قراءته بصوت مسموع لمن يأكلون لما اختلف بدرجة كبيرة في جوهره عن الكثير من كتب الطهي - ربما معظمها - التي تنشر حاليا.
تظهر كتب الطهي بأسلوبين؛ فمن الممكن أن تكون دليلا إرشاديا بغرض الاستخدام في المطبخ، يحتوي على إرشادات دقيقة عن التحضير والمقادير، وعادة ما يحتوي هذا النوع من الكتب على رسوم توضيحية أو صور لخطوات التحضير، ويحتفظ به داخل المطبخ أو بالقرب منه. أو من الممكن أن يكون ما يعرف بالكتاب القائم على الإلهام وهو مخصص للقراءة، والغرض منه هو استحضار الروائح وطريقة تجهيز أصناف الطعام، وعادة ما تحتوي هذه الكتب على صور فوتوغرافية يظهر فيها ريفيون أشداء يقطفون الخضراوات، ويظهر خلفهم مشهد للغروب وراء تلال منطقة توسكاني. وربما تنجح الوصفات أو لا تنجح، وعلى أي حال ربما تعتمد على مقادير يتعذر الحصول عليها من خارج المنطقة التي عاش فيها المؤلف. وتقوم كتب الطهي التي يؤلفها طهاة المطاعم على أساس مشابه؛ إذ يكون الكتاب والصور التي يحتوي عليها بمنزلة تذكار لوليمة رائعة، ولكن الوصفات تتطلب على الأرجح كتيبة من الطهاة يعملون معا، أو تتطلب مهارات متقدمة من غير المتوقع توافرها لدى هواة متحمسين.
ولا شيء يرجح كفة أحد النوعين على الآخر، وإن كان الدليل الإرشادي هو النوع الأحدث الذي حل محل عادات الطهي الشفهية والعملية. أما الكتاب القائم على الإلهام، فيحمل الكثير من أوجه التشابه مع الكتابات المتخصصة في الطعام على مدار القرون، ويهدف إلى إلهام متناولي الطعام وتسليتهم وليس الطهاة.
الفصل التاسع
الطعام في الأدب
يقول أثينايوس إن الكثير من هؤلاء كانوا حاضرين في مأدبة العشاء التي أقامها لارينسيس، وأنهم أحضروا معهم أعمالهم الأدبية - وكأنها مشاركات يأتي بها الخارجون في إحدى النزهات الخلوية - وهي ملفوفة مثل أغطية الأرائك. (ملخص «مائدة الحكماء» لأثينايوس)
يحفل هذا الكتاب باقتباسات من الكثير من الفقرات الأدبية، وكثيرا ما يربط البعض بين النصوص التي ربما توصف بأنها «أدبية» والنصوص «المتخصصة» أو «الفلسفية/العلمية». وهذه فئات مضللة من الكثير من النواحي؛ إذ من الملاحظ أن قصائد هوميروس - وهي أقدم ملاحم في اليونان وسبقت أي أعمال أدبية أخرى - استخدمت في القرون اللاحقة ليس فقط كسجلات لتسجيل الحقيقة الأدبية، بل أيضا كأساس للنظام التعليمي، بما في ذلك النصائح العلمية والمتخصصة. وسنرى فيما بعد - على سبيل المثال - كيف أن أثينايوس النقراطيسي أثبت في القرن الثالث الميلادي أن هوميروس قدم أفضل نموذج للسلوك المتبع في جلسات الشراب. وعلى العكس من ذلك، رأينا في الفصل السابق أن جالينوس - الذي قد يبدو للوهلة الأولى أنه ليس إلا مؤلفا متخصصا في النصوص الطبية - كان يعتبر نفسه في الواقع فيلسوفا متعدد الاهتمامات، ويمكنه أن يكتب أيضا في جميع مجالات الفكر واللغة والثقافة.
إذن، ينصب الهدف من هذا الفصل في أربعة جوانب؛ أولا: إلقاء الضوء بإيجاز على سمات معينة للنصوص الأدبية الوثيقة الصلة بالسمات الاجتماعية والدينية والعلمية التي تعرفنا عليها في الفصول السابقة. ثانيا: تحديد أهم السمات التي تميز اقتران الأدب بالطعام وعادات تناول الطعام. ثالثا: عرض استخدام الطعام في أجناس أدبية معينة مثل الملاحم والهجاء والمسرح التراجيدي. وأخيرا: استخلاص الأفكار الرئيسة للكتاب ككل، بالإضافة إلى تقديم عرض نقدي عن المؤلفين اللذين تحدثنا عنهما كثيرا وينتميان إلى الحقبة الإغريقية الرومانية - وهما أثينايوس وجالينوس - إذ سيساعدان في تحقيق مزج مترابط بين الأعراف «الأدبية» و«العلمية» والثقافية المتوارثة.
شكل 9-1: لوحة فسيفساء تصور عوليس وجنيات البحر، من ملحمة «الأوديسا» لهوميروس (القرن الثالث الميلادي) متحف باردو، بمدينة تونس العاصمة في تونس. تعبر لوحة الفسيفساء هذه، من مدينة دقة التونسية، عن غنى الحياة الريفية لدى البعض في شمال أفريقيا. وقد وضعت الصورة عند بئر تماشيا مع موضوعها الذي يدور في البحر. يمثل المشهد أوديسيوس وهو مقيد إلى الصاري ليقاوم الأغنية المغرية التي تنشدها جنيات البحر اللاتي يظهرن كفتيات شابات. يعبر الموضوع عن أهمية هوميروس الدائمة في الأدب والفن في الحقبة المتأخرة من الإمبراطورية الرومانية. وفي هذه الرواية نجد أن أوديسيوس لا تغريه جنيات البحر فقط، بل يغريه أيضا سرطان بحر كبير يمسك به صياد ويرفعه وهو في قاربه (مصدر الصورة:
http://www.bridgemanimages.com/en-GB ).
وثمة ثلاثة أمثلة ستوضح المشاركة الجادة من جانب الأدب في الموضوعات التي ذكرت في بداية هذا الكتاب. في الجزء السابع عشر من ملحمة «الأوديسا»، يظل تيليماكوس شاعرا بالانزعاج بسبب الخطاب الذين يتقدمون لطلب يد أمه بينيلوبي، ويتعدى واحد من أشدهم جرأة - وهو أنطينوس - على راعي الخنازير؛ لأنه أحضر شحاذا آخر (وهو في الواقع أوديسيوس متنكرا) ليجلس إلى المائدة (375-379، ترجمه إلى الإنجليزية: شورينج):
يا راعي الخنازير المخزي، لماذا أتيت بهذا الرجل إلى المدينة؟ أليس لدينا ما يكفي من المتشردين وأيضا الشحاذين الكريهين والنابشين الذين يقتاتون على فتات مآدبنا؟ ألا يكفيك الرجال المتجمعون هنا من قبل لالتهام طعام سيدك؟ أيجب أن تدعو هذا الشخص أيضا؟
يزخر كلام أنطينوس المنافق بالتعقيدات الأخلاقية، وأهمها شراهته ونهمه وافتقاره إلى روح التبادل، وهو ما يشير إليه تيليماكوس في البيت رقم 404. والآن أؤكد على العنصر الاقتصادي والديني: يربي راعي الخنازير يومايوس قطيعا من الخنازير في الريف لإرساله إلى سيده في المدينة لاستخدامه كطعام، وهو يدير وحدة الإنتاج الريفية التي يخصص إنتاجها للاستهلاك في القصر. فضلا عن ذلك، تقاس ثروة أوديسيوس بدرجة كبيرة بعدد الحيوانات التي يمتلكها. وفيما يخص إطعام الشحاذين فثمة وصية دينية موجهة من زيوس تفيد بتعزيز تلك العادة الاجتماعية.
وتشمل قائمة المخالفات في روما في العصر الذي عاش فيه جوفينال استهلاك الأسماك المستوردة («المقطوعة الهجائية الخامسة»):
سيوصي سيدي باستيراد أسماك البوري التي يفضلها من جزيرة كورسيكا، أو من الصخور التي تقع أسفل مدينة تاورمينا؛ إذ نضبت الأسماك في المياه الإقليمية من كثرة أنشطة الصيد بهدف إطعام تلك الأفواه النهمة ...
يصنف جوفينال هذا المثال في برنامج أخلاقي مركب نناقشه فيما يأتي. ولكن المثال الذي تحدث عنه يعبر أيضا عن روما بصفتها مركز التبادل الرئيسي في إمبراطورية كبرى، تتاح فيها السلع الوافدة من كل أنحاء العالم المعروفة.
ويستقى المثال الثالث من قصيدة «حياة الترف» لأركستراتوس المولود في مدينة جيلا. يولي مؤلف هذه القصيدة التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد اهتماما كبيرا للمحاكاة الساخرة ولآداب تناول الأسماك وغير ذلك من الأمور المرتبطة بالناحية «الأدبية»، ولكن نجده يهتم أيضا بالمصطلحات؛ ففي الشذرة 13 أولسون وسينس ينصح القارئ قائلا:
لا تضع جانبا السمكة السمينة ذات الرأس المذهب من مدينة إفسوس، التي يسميها سكان المدينة «أيونيسكوس».
ونجد أن الاهتمام بالمسميات والمصطلحات المحلية بهدف تحديد الأسماك وغيرها من الأنواع التي يصعب تصنيفها؛ من السمات التي تميز المؤلفين «العلميين» مثل أرسطو وجالينوس، ولكنها سمة موجودة كذلك لدى المؤلفين «الأدبيين» من ناظمي الشعر السداسي التفاعيل مثل أركستراتوس. (1) أهم الأفكار الأدبية المتعلقة بتناول الطعام واحتساء الخمور
إن الكثير من الأفكار ذات الصلة يمثل سمات أدبية معروفة، وأبدأ بالفساد المنتشر في الحضر والبساطة التي تميز الريف. يتوق البطل الهزلي ديكايبوليس في مسرحية «الأخارنيون» لأريستوفان إلى قريته التي نشأ فيها؛ حيث يعتمد الناس على نظام المقايضة للحصول على الطعام والوقود، على عكس الصورة المقدمة عن مدينة أثينا في المسرحيات الأخرى؛ حيث يغش تجار الأسواق مشتري الأسماك وغيرها من الأطعمة. وبعد ذلك بخمسمائة عام، يؤلف جوفينال قصيدة يصور فيها أحد سكان الحضر وقد وقع ضحية للنصب والخديعة، بينما يظهر الخدم الأنقياء ممن يعملون في مزرعة ريفية وهم يقدمون أطعمة بسيطة. تتعارض هذه الفكرة الرئيسية الأدبية مع المزايا التي قد تجلبها حياة المدينة. وسنرى أمثلة للتناقض بين الفكرة الرئيسية وأثر الأطعمة المستوردة من الخارج إلى الأسواق في المناطق الحضرية بالدرجة الأولى؛ فالبساطة الريفية يترافق معها أيضا حنين إلى عصور ماضية أكثر نقاء، ويرافقها نفور وكره للتجارة. ويعالج موضوع التجارة - وهي وسيلة من وسائل انتقال الأطعمة كما ناقشنا فيما سبق - في الأدب على نحو أكثر تناقضا مما تستدعي أهميته؛ فثمة تعارض بين الإنتاج المحلي والسلع المستوردة، وهو أمر معقد من الناحية الاقتصادية، ولكن في الأدب كثيرا ما يحسم هذا التعارض بوضوح أكثر لصالح الإنتاج الزراعي المحلي. والفكرة الرئيسية الرابعة هي استغلال الولائم ومناسبات تناول الطعام العمومية لتحقيق نتيجة مرضية؛ ويتضح ذلك في المسرحيات الكوميدية على نحو ملحوظ للغاية. والفكرة الرئيسية التالية هي الحافز وراء المتعة والرغبة، وهو الذي قد يؤدي إلى انعدام ضبط النفس المهلك الذي ناقشناه في الفصل السابع. وثمة فكرة رئيسية أخرى سبق ذكرها في الفصل الأول تتبع نموذجا تطوريا ينطلق من البدايات البدائية إلى التطور/الإسراف في الوقت الحاضر. ومن الأمثلة الأخرى الانحدار من عصر ذهبي إلى «الحاضر» (قارن ما قاله بلينوس عن الحدائق والخضراوات في الفصل الرابع). وبهذا الأسلوب، صورت الإمبراطورية الرومانية على أنها أكثر المجتمعات البشرية تقدما أو أكثرها فسادا. (2) الطعام والأجناس الأدبية
اهتمت أجناس أدبية معينة بالطعام بدرجة كبيرة. يقدم جاورز (1993) دراسة مؤثرة عن الطعام في الأجناس الأدبية الأقل شأنا في الأدب اللاتيني، وبالأخص في الهجاء والمسرح الكوميدي والحكم الساخرة؛ إذ يظهر الطعام في هذه الأجناس التي تخلو عمدا من الأفكار الرئيسية الجليلة المأخوذة من المسرح التراجيدي أو الملاحم. ومع ذلك، ليس المقصود بذلك أن ننكر أن الطعام - في ملاحم هوميروس وغيرها من الملاحم - يقع في صميم العلاقات بين البشر من جانب، وبينهم وبين الآلهة من جانب آخر. وسأناقش كلا من ملاحم هوميروس والمسرحيات التراجيدية فيما يأتي، ولكن المقصود هو أن الموضوعات المتعلقة بالطعام (التجارة والزراعة والتجمعات الاجتماعية والاحتفالات ومناسبات تقديم القرابين) ربما تكون موجودة في الكثير من الأجناس الأدبية؛ بدءا من التاريخ ووصولا إلى شعر الحب والغزل، ولكن من المحتمل وجود محتوى غزير يتعلق بالطعام في تلك الأجناس الأدبية الأقل شأنا التي ناقشها جاورز (1993). ولذلك، يصف أركستراتوس الأسماك والطهي في محاكاة ساخرة للشعر الملحمي، ويحاكي الكاتب - الذي كان يظن أنه هسيود - الشعر القديم المتقشف الذي ألفه هسيود لوصف الأسماك (يأتي اقتباس لجزء منه في بداية الفصل الخامس)، وتزخر القصص الهلنستية البذيئة من تأليف الشاعر ماكون - التي تتناول المحظيات - بالكثير عن الطعام.
ذكرت في فصل سابق - عن الوصف الذي قدمه هيبولوكوس لمأدبة زفاف كارانيوس (الفصل الثاني) - أن الرواة في الأعمال الأدبية كثيرا ما يستعملون أسلوبا ساخرا بهدف التغلب على فخامة وإسهاب الأسلوب المستخدم في وصف الأطباق المقدمة في المآدب؛ وتتضح هذه السمة مثلا في أعمال أركستراتوس وبيترونيوس وأثينايوس.
ويوصف الكثير من الأجناس الأدبية التي تكثر من الحديث عن الطعام بأنه «وضيع»؛ بعضه هو ما وصفه ميخائيل باختين (1968) بأنه «شعبية احتفالية». والمسرح الكوميدي الإغريقي والروماني مثال واضح جدا على ذلك؛ لأنه يستخدم لغة الشارع ولغة الجسد لانتقاد الادعاءات الاجتماعية للأغنياء وذوي السلطان (راجع جاورز 1993 وويلكنز 2000، الفصل الأول). ويكثر الحديث فيه عن حجم الجسم والشهية، وعن الحلق والبطن وأعضاء الهضم، وعن غازات البطن وإخراج الفضلات؛ فالشرهون يتلذذون بنزول الطعام الساخن في حلوقهم، ويلتهمون الطعام بأسرع ما يمكن.
يساعدنا جالينوس في فهم سبب اهتمام الكثير من النصوص الوعظية - بما فيها النصوص الأدبية المذكورة في هذا الفصل والنصوص الفلسفية المذكورة في الفصل السابع - بمخاطر الرغبة والشهية، واتضح أن الكبد - كما رأينا في العرض الذي يتناول علم وظائف الأعضاء في كتابات جالينوس في الفصل الثامن - يضم الرغبتين الجسدية والروحية في مكان واحد. وهذا خليط قوي يجب دائما أن يوضع في نطاق السيطرة، ويكبح جماحه جيدا، خصوصا عند ربطه بالأوجه الاجتماعية للرغبة؛ إذ كانت ثمة رغبة تراود الناس في التنافس مع غيرهم من أبناء الطبقة الراقية أو مع القصور الملكية الأخرى. وكانت ثمة إغراءات تتعلق بالعادات الأجنبية الفاخرة - في بلاد فارس أو اليونان أو مقدونيا - بحسب الحقبة الزمنية. وكانت ثمة إغراءات تتعلق بالإمبراطورية؛ إذ جلبت الإمبراطورية كل السلع من أنحاء العالم المعروف إلى أسواق أثينا، وعلى نطاق أوسع بكثير إلى روما. ونظرا لشدة هذه الدوافع التجارية التي تحث الرغبة، أصبحت النصوص الوعظية تقدر قيمة بساطة العادات الريفية وبساطة الماضي وبساطة العادات الشعائرية، سواء أكانت دينية أم موروثة (الامتناع عن بيع المنازل المتوارثة عن الأسلاف من أجل الحفلات والأطعمة والخمور السريعة الزوال). حاول هذا الكتاب تحديد الأوجه المهمة الأخرى للطعام؛ ولكن في هذا الفصل سأناقش بإيجاز تلك النصوص الأدبية التي تركز على الطعام والإسراف فيه.
ناقشنا في الفصل السادس الأجناس الأساسية مثل الشعر المرتبط بجلسات الشراب، والنثر المتمثل في كتاب «حوار المأدبة». وتكثر أوصاف المآدب في النصوص القديمة، ولكن جلسة الشراب - وهي القسم الثاني من المأدبة - هي التي ترتبط تحديدا بالأنشطة الثقافية الأخرى مثل الشعر والألعاب بمختلف أنواعها والفلسفة والعروض الكوميدية الساخرة والأنشطة الفكرية.
وكتب الكثير من الأشعار التي تعود إلى الحقبة القديمة جدا وما بعدها بهدف إلقائه في جلسات الشراب، وكان الكثير منها يدور حول أفكار رئيسية تتعلق بجلسات الشراب. وربما يكون شعر الرثاء هو الأهم، وسبق أن ناقشنا القصائد المهمة لثيوجنيس وكزينوفانيس؛ فهذه القصائد تعرض دور الطعام والشراب والأسطورة في إطار أخلاقي، وهو الإطار الذي يقوم عليه الكثير من شعر جلسات الشراب لهذا العصر. وحاولت أن أبرهن في ويلكنز (2000) أن المسرح الكوميدي كجنس درامي هو أحد أشكال شعر جلسات الشراب، وسأناقش المسرح الكوميدي فيما يأتي؛ إذ إن استخدامه لمكان متاح أمام عامة الناس لتقديم العرض المسرحي يجعل دوره الاجتماعي والسياسي مختلفا بعض الشيء (وليس تماما) عن الشعر المنظوم لإلقائه في المناسبات الخاصة.
وفيما يخص النثر نجد أن كتاب «حوار المأدبة» لأفلاطون أثر تأثيرا شكليا كبيرا على مدار قرون طويلة. وبعيدا عن الأهمية الفلسفية لهذا الكتاب، فإنه يتحدث عن جماعة من الأصدقاء مجتمعين معا، وعما يتفقون على فعله في هذه المناسبة، ويشمل ذلك مأدبة تعقبها جلسة لاحتساء الخمور. وعادة ما يكون الطعام أقل أهمية (باستثناء كتابات لوقيان وأثينايوس)، وإذا كانت الأهداف الأساسية فلسفية - كما هو واقع الحال عادة - فإن أهمية احتساء الخمور تتراجع أيضا. وأشرت فيما سبق إلى بعض المناسبات التي يقيم فيها بلوتارخ مناظرات تتزامن مع جلسات الشراب في كتابه «حديث المائدة»؛ ومع ذلك، يقدم أفلاطون نموذجا رائعا لهذا الجنس الأدبي، ويتمثل ذلك في المحافظة على التوازن بين مناقشة النواحي الجمالية وعلم الوجود، وبين احتساء الشراب. كان معظم المشاركين في جلسة الشراب قد أفرطوا في احتساء الشراب في الليلة الماضية؛ إذ إنهم كانوا يحتفلون بانتصار الشاعر التراجيدي أغاثون، ولكن ألكيبيادس يدخل متأخرا وهو سكران ويشعل الأمسية بأجواء جامحة تشبه أجواء عيد ديونيسيا. وفي النهاية ينتصر سقراط في كل الأنشطة، وذلك بعد أن أعلن عن أكثر النظريات تقدما (وهي نسخة من نظرية المثل لأفلاطون)، وبعد أن شبهه الآخرون بهيئة الإله سيلينوس الذي هو نصف إنسان ونصف حصان أو مساعد ديونيسوس، وبعد أن أسكر الجميع تحت المائدة وعاد إلى بيته في الصباح الباكر.
ومع أن بعض الأفكار الرئيسية تظل ثابتة من «اليونان الكلاسيكية القديمة» إلى حقبة الإمبراطورية الرومانية، فإن أفكارا رئيسية أخرى تنشأ وتتضح أكثر. وينطبق هذا على الكتب التي تقدم استعراضا ثقافيا شاملا لأوجه الطعام وعادات تناول الطعام بنطاق معرفي موسوعي؛ ومن بينها كتب معينة مثل: كتاب بلينوس «التاريخ الطبيعي»، وكتاب بلوتارخ «حديث المائدة»، وكتاب أثينايوس «مأدبة الحكماء». وهذه الكتب تعتمد على كتب أدبية سابقة وأعمال متخصصة ألفها علماء نبات وأطباء وكتاب متخصصون في الشئون الزراعية، كما أنها تعتمد على مجموعات من الكتابات اللغوية والأدبية. كان الطعام من المعايير المناسبة للنقد الأدبي من حقبة مبكرة؛ ومن ثم، جعل أريستوفان شخصيته الأساسية في مسرحية «الضفادع» - وهو ديونيسوس - ينتقد مسرحيات يوربيديس بسبب أجوائها المنزلية (كيفية تنظيم المشتريات والمطبخ والاعتناء بالصحة)، ويشير سقراط في كتاب أفلاطون إلى عدم ذكر الأسماك في أشعار هوميروس.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن الأدب المتخصص كان «واقعيا» من ناحية ما، ولكنه كان أيضا رهنا بعوامل ثقافية قوية كما رأينا مرارا في أعمال كاتو وبلينوس، والقراءة الحرة للمؤلفين الإغريق عادة ما تخفف من الرأي المؤيد للرومان، كما يشير كولميلا؛ فهو يهدف إلى «منح الزراعة أخيرا الجنسية الرومانية (إذ إنها كانت تنتمي حتى تلك اللحظة إلى الكتاب الإغريق)» («عن الزراعة» 1، 1، 12-13). (3) الطعام في أعمال هوميروس
لا بد أن يبدأ استقصاؤنا عن الطعام في الأدب بأفضل الأعمال الشعرية التي تحدثت عن السفر، وهي ملحمة «الأوديسا» لهوميروس؛ ففيها تنحرف سفينة أوديسيوس ورفاقه عن مسارها وتستغرق الرحلة سنوات، ويلتقون بأشخاص غريبي الأطوار ويتمثل جزء من غرابتهم في عادات تناول الطعام التي يتبعونها؛ إذ يتوجهون أولا إلى مدينة إزماروس، وهي موطن قبيلة كيكونيز في تراقيا، وينهبونها. وتأكل قبيلة كيكونيز طعاما إغريقيا عاديا، ولكن يحتفظ كاهن من كهنة أبولو بنبيذ مركز للغاية يفوق تركيز النبيذ العادي بعشرين ضعفا. ثم يبحرون إلى شمال أفريقيا ويلتقون بآكلي اللوتس، ويقدم إليهم هؤلاء فاكهة اللوتس ذات المذاق الحلو الشبيه بالعسل؛ وهذه الفاكهة طعام رائع، ولكنها تجعل من يأكلها يفقد هويته ورغبته في العودة إلى وطنه؛ ومن ثم، لا بد من إجبار رفاق أوديسيوس على مغادرة هذا الفردوس بعد أن يأكلوا من هذه الفاكهة.
ثم يصلون إلى جزيرة المسوخ العملاقة سايكلوب - وهي فردوس من نوع مختلف - حيث يجدون «مروجا رطبة تزدهر فيها الأعناب ولا تفنى أبدا. وتربتها صالحة للحرث بسهولة، ويتسنى لهم حصاد محاصيل وفيرة في موسمها؛ إذ تقع تحت سطحها طبقة خصبة من الطفال الرملي. فضلا عن ذلك، يوجد ميناء مناسب هناك». ويتضح أن كل السمات التي يرغب الإغريقي في توافرها في مكان ما - مثل الزراعة الجيدة والميناء المناسب - أمور لا يعبأ بها مسوخ سايكلوبس، بل يتضح أنهم رعاة غنم من آكلي لحوم البشر، ويأكلون رفاق أوديسيوس دون طهي على العشاء، وذلك بعد ضرب رءوسهم في الأرضية وتمزيقهم إربا. والمكان التالي الذي يبحرون إليه هو جزيرة الملك أيولوس الذي لديه ست بنات متزوجات من أبنائه الستة، ويمضون كل أيامهم في إقامة الولائم، يقول هوميروس: «طوال النهار تفوح القاعة بالروائح الزكية، وتتردد فيها أصداء الموسيقى.» وهي فردوس آخر - خاصة بعد مسوخ سايكلوب الشنيع - ولكن تشيع فيها أعراف زواج غير مألوفة ومستويات من الولائم يصعب تحقيقها في بلد جبلي صخري مثل اليونان. ثم يصلون إلى تيليبلوس وهي مدينة تقع على مكان عال يعيش فيها اللستريجونيون؛ وهؤلاء أيضا من الوحوش الآكلة للبشر، ويصطادون البشر بالرماح وكأنهم أسماك. ثم يصلون إلى جزيرة أييا؛ حيث تعيش سيرسي وهي «إلهة ذات شعر مضفر، وتستطيع الكلام مثل البشر، ولديها قدرات غريبة»، وأبرز قدراتها فيما يخص أغراض هذا الكتاب هي القدرة على مسخ البشر إلى خنازير، وهذا من قبيل خلط الفئات؛ إذ جرت العادة على أن البشر يقدمون الخنازير كقرابين ويأكلونها. وبعد ذلك، ينزل أوديسيوس إلى العالم السفلي؛ يحتاج الموتى طعاما مخصوصا - وهو الدماء - لأنهم فقدوا قوتهم البشرية. وبعد ذلك، يلتقون بجنيات البحر اللاتي يمنعن الرجال من العودة إلى وطنهم، شأنهن شأن آكلي اللوتس؛ إذ «يجلسن في مرج، بينما تتكدس جثث الرجال من حولهن، وقد بدأت تتحلل عظامهم بعد تحلل الجلد». ثم تأتي الجنية سيلا التي تجلس على جرف وهي تعوي عواء فظيعا، وتختطف ستة من رفاق أوديسيوس وتلتهمهم؛ إذ يقول أوديسيوس: «فصرخوا ومدوا أياديهم إلي وهم في أشد سكرات الموت.» ثم يصل أوديسيوس إلى جزيرة أوجيجيا حيث تعيش كالبيسو، وهي أيضا «إلهة ذات شعر مضفر، وتستطيع الكلام مثل البشر، ولديها قدرات غريبة»، وتقترح على أوديسيوس أن تحوله إلى إله خالد حتى يتسنى له أن يأكل من الطعام نفسه الذي تأكل هي منه - وهو طعام الآلهة - ولا تضطر لتحضير وجبتين مختلفتين لهما؛ طعام البشر له وطعام الآلهة لها.
وفي آخر الأمر، يجبر أوديسيوس نفسه على ترك هذه الخليلة الرائعة، ويرفض اقتراحها بتقديم طعام الآلهة وتحويله إلى إله خالد، ويبحر إلى جزيرة فياشا، وأهل هذه الجزيرة أشبه بالملك أيولوس؛ إذ يعيشون بجوار الآلهة ولديهم إمكانيات زراعية هائلة، ويعيشون في فردوس من نوع مختلف بعض الشيء. وأهل جزيرة فياشا هم الذين يعيدون أوديسيوس إلى بلاده في إيثاكا وإلى زوجته الإنسية - بينيلوبي - التي سرها أن يعود إليها بعد عشيقاته الإلهيات الكثيرات. ويعود إلى ثقافته الأصلية حيث يأكل الناس الحبوب، ويشربون النبيذ الممزوج بالماء، ويستعملون زيت أشجار الزيتون، ويقدمون الحيوانات الزراعية كقرابين على حسب النموذج الإغريقي المتعارف عليه.
ثمة مؤشرات كثيرة تفرق بين ثقافة وأخرى؛ أولها المنتجات الزراعية وكيفية تحضيرها وأكلها، وثانيها العلاقة الراسخة بين الإنسان وعالم الحيوان. ونعود إلى واقعة في الجزء الثاني عشر من ملحمة «الأوديسا» كنت قد غفلت عنها منذ قليل؛ إذ يصل أوديسيوس ورفاقه - بعد أن كانوا يهربون معظم الوقت من الجنية سيلا آكلة لحوم البشر - إلى «الجزيرة الجميلة التابعة لإله الشمس». ومع أن رفاق أوديسيوس تلقوا تحذيرا من سيرسي بالامتناع عن أكل ماشية إله الشمس، فإنهم يحاولون تقديم هذه الماشية كقرابين أثناء نومه. ويقول هوميروس أنهم يعجزون عن تقديم قرابين بالطريقة المعتادة (طريقة بروميثيوس التي جاء شرحها في الفصل الأول)؛ لأنه لم تكن لديهم حبوب شعير حتى ينثروها على رءوس الحيوانات، ولا نبيذ لإراقته في طقس إراقة الخمر المقدم إلى الإله. وهم يشتركون في ذلك مع مسوخ سايكلوبس والعمالقة اللستريجونيين وسيرسي في خلط العلاقة بين البشر - وهم المتحكمون في طقس تقديم القرابين - وبين الحيوانات، وهي الكائنات التي تقدم كقرابين (راجع للاستزادة الفصل الأول، وفيدال ناكويت 1981). ***
سعى الإغريق القدماء إلى تقبل حقبتي الحضارة المينوية وحضارة مايسيني في أقدم الكتابات التي وصلت إلينا من العصور القديمة، وهي «الإلياذة» و«الأوديسا». وللطعام دور بارز في كليهما. تقدم هاتان الملحمتان مزيجا مركبا من عناصر مأخوذة من حضارة مايسيني والحضارات التي أعقبتها؛ وذلك نظرا لصياغتهما بأسلوب شفاهي طويل يتطور تدريجيا. يشتمل شعر هوميروس على عدة سمات مهمة بخصوص تاريخ الطعام، وذلك بالإضافة إلى رحلات أوديسيوس. (3-1) العلاقة التبادلية: الآلهة والبشر
في ملحمة «الإلياذة» نجد أن معظم العلاقات التي تجري فيما بين الشخصيات البشرية وبين الأبطال والآلهة ترتبط بذبح الماشية وأكلها. ويأتي وصف المآدب بإيجاز شديد، ولكن يقدم وصف تفصيلي لتحضير الحيوان وغيره من الأنشطة الشعائرية. وقبول إنسان للطعام أو قبول إله لقربان هو علامة على علاقة ناجحة؛ وينبئ رفض المشاركة في الطعام أو رفض قبول القربان عن صدع في العلاقة (كثيرا ما يكون فادحا). ويقوم تناول الطعام في ملحمة «الأوديسا » أيضا على هذا النمط التبادلي على المستوى البشري، وفي العلاقات بين البشر والآلهة. ويهمل المتقدمون لطلب يد بينيلوبي - على وجه التحديد - في رد المآدب؛ فمن بين مآخذ أخرى، يسيئون التصرف حين يأكلون من ثروة أوديسيوس - وتمثلها الماشية والخنازير - دون تبادل للثروة بتقديم حسن الضيافة لتيليماكوس وأفراد أسرة أوديسيوس. (3-2) عالم البشر وعالم الطبيعة
في فقرة بارزة من ملحمة «الأوديسا»، نجد أن دور الملك يتحدد بناء على إنتاج الطعام: «الملك الشريف يخشى الآلهة ويحكم مملكة قوية سكانها ذوو أخلاق رفيعة، ويدافع عن العدل، وفي ظل حكمه تنتج الأرض السمراء القمح والشعير، وتصير الأشجار مثقلة بالثمار، ولا تكف الأغنام عن ولادة الصغار أبدا، ويزخر البحر بالأسماك؛ كل هذا بفضل حكمه الصالح؛ ولذلك يزدهر شعبه بفضله» (19، 109-114، ترجمه إلى الإنجليزية: شورينج). وفي هذه الفقرة، يقارن أوديسيوس المتنكر سمعة ذلك الملك بسمعة بينيلوبي؛ فهو يرى أن الملك لا يدافع فقط عن النظام الزراعي، بل أيضا عن النظام الطبيعي الأشمل، بما يشتمل عليه من نباتات وحيوانات وأسماك تزدهر في مملكة تبجل الآلهة أيضا، ويعيش فيها شعب ناجح لا تقهره الصعاب ويسترد عافيته بسهولة. (3-3) الاحتياج البشري
ونجد أيضا هذا السياق الواسع الذي يرد فيه ذكر الطعام في الكلام الذي يوجهه أوديسيوس إلى يومايوس (17، 286-289): «لا يستطيع الإنسان إغفال شهوات البطن البغيضة؛ مما يجلب الكثير من المتاعب ويدفعنا إلى تسيير السفن لتعبر البحار، ويدفعنا إلى مناوشة أعدائنا» (ترجمه إلى الإنجليزية: شورينج). والبشر ليسوا كائنات شبيهة بالآلهة؛ فهم دائما في حاجة إلى القوت؛ ومن ثم تتحكم فيهم بطونهم (وهي فكرة رئيسية تعتمد عليها مناقشة فيرنان لأسطورة بروميثيوس التي ناقشتها في الفصل الأول). ولا يمكن تلبية تلك الحاجة دائما (إذ حدثت مجاعات مزمنة في بلدان العالم القديم)، وكذلك - على حد تعبير أوديسيوس، وعلى حد تعبير أفلاطون بعد ذلك (راجع الفصل السابع) - يؤدي عدم توفير الطعام إلى انطلاق حملات حربية بالسفن. ويفيد بعض الروايات أن أزمات نقص الطعام دفعت بعض المجتمعات القديمة إلى إنشاء مستعمرات تقع ما وراء البحار. وكثيرا ما كانت أزمات نقص الطعام التي أصابت المدن القديمة مصدرا للاضطراب وعدم الاستقرار.
ويتعرض أوديسيوس ورفاقه في رحلتهم لأزمات نقص الطعام الواردة في أعمال هوميروس، ويتعرض لها أيضا الشحاذون في قصور الأغنياء. في إيثاكا لا يبدي المتقدمون لطلب يد بينيلوبي أي احترام للشحاذين - وخصوصا لأوديسيوس المتنكر في هيئة شحاذ - مثلما لا يبدون أي احترام لثروة أوديسيوس؛ فمن المسموح للشحاذين استجداء الطعام وذلك بحماية زيوس، ولكن بعض الخطاب لا يبدون أي احترام لهم ويعترضون في رياء على منح طعام لشحاذ، مع أنهم لا يقدمون شيئا من مالهم؛ ومن ثم، فإن ملحمة «الأوديسا» تتناول كل أحوال الرجال والنساء والآلهة. وتتناول هذه الملحمة - بتركيز أكبر مما في «الإلياذة» - راعي الخنازير وإنتاج الحيوانات والشحاذ وكل قليلي الشأن الذين يحضرون الوليمة والصراع على الطعام الذي يشتعل بين من يسميهم بعض البريطانيين الفقراء المستحقين والفقراء غير المستحقين. ويعرض هوميروس هذا الصراع في الكلام المتبادل بين أوديسيوس المتنكر والشحاذ أيروس، ويحظى هؤلاء المشتغلون في إنتاج الطعام والأشخاص الذين لا يحق لهم الحصول على نصيب متساو من الوليمة؛ بظهور لافت في ملحمة «الأوديسا»، وقد ظهروا أكثر من مرة في هذا الكتاب، بصفتهم أولا جزءا من «الذين لا ينتمون إلى الطبقة العليا»؛ أي ما يتراوح بين90 و95 في المائة من السكان، وظهروا أيضا بصفتهم تلك الفئة السكانية المفضلة في الأدب، وهي الشخص المتطفل في المأدبة الإغريقية والتابع في المأدبة الرومانية، وهو الموضوع الذي تناولته في الفصل الثاني. (3-4) الطب والأطعمة الخاصة
في الجزء الحادي عشر من ملحمة «الإلياذة»، يقدم للمحاربين المصابين والمجهدين مشروب مقو - أو كيكيون - مكون من نبيذ وجبن وجريش شعير وعسل وبصل. ويظهر اهتمام أيضا في الأجزاء التالية من ملحمة «الإلياذة»، بأن أخيليس - في أوج حماسه للانتقام لمقتل باتروكلوس - يرفض الاهتمام باحتياجات جنوده للطعام قبل القتال، وينم رفض أخيليس للأكل عن اختلال حالته العقلية. وتذكر أيضا العقاقير في عقار هيلين المهدئ الذي يضاف إلى النبيذ، وفي جذر عشب «مولي» الذي يقدم إلى أوديسيوس ليقاوم سحر سيرسي. (3-5) الخواص الإغريقية وغير الإغريقية
تحدثت فيما سبق عن الأطعمة الغريبة التي صادفها أوديسيوس ورفاقه خلال جولاتهم في أنحاء المحيط؛ فليس من بينها تقريبا ما يشبه أغذيتهم الأساسية مثل الحبوب والنبيذ وزيت الزيتون، وليس من بينها طريقتهم المميزة لتقديم قرابين من الحيوانات؛ وهذا النمط الغذائي يتخذ مسارا ينحرف تارة نحو طعام الآلهة، وتارة أخرى نحو طعام الحيوانات، كما سنرى. (3-6) أوصاف تفصيلية
كثيرا ما تحتوي أعمال هوميروس على وصف تفصيلي لعمليات معينة، وهذا ينطبق تحديدا على ذبح الحيوانات وتحضير اللحم للأكل، وكثيرا ما يشار بإيجاز إلى كل الطعام المقدم في أوقات تناول الطعام بأنه «أطعمة من كل الأنواع» (وهو ما لا يشير إلى الغذاء المحدود الذي فسره بعض المصادر التي جاءت لاحقا)، وكثيرا ما يشمل الوصف قطع الأثاث وأدوات المائدة وخصوصا أقداح الشراب. (3-7) أوقات الطعام
تقدم ملحمتا «الإلياذة» و«الأوديسا» نماذج لمشاركة الآخرين في مائدة واحدة تعبر عن المجتمع الإغريقي في حقبة مبكرة، وأثرت أيضا في الفكر الذي ظهر فيما بعد. سنرى فيما سيأتي انتقاد النماذج التي وردت في أعمال هوميروس وتطبيقها في عصور لاحقة. وتستخدم أشعار هوميروس أوقات تناول الطعام لتكون محور العلاقات على المستويين البشري والإلهي، وتحين أوقات تناول الطعام يوميا وفي مناسبات خاصة في ملحمة «الأوديسا» (في حفل زفاف في الجزء الرابع، وأوقات تناول الطعام اليومية التي يحضرها الخطاب في أجزاء تالية). وفي ملحمة «الإلياذة» تتخلل أوقات تناول الطعام مشاهد المعارك، وعادة ما تأتي أوقات تناول الطعام بعد وصف لأحد طقوس تقديم القرابين، وكثيرا ما تعقبها جلسة لاحتساء الخمور وعزف الموسيقى، يتناول فيها المشاركون النبيذ الممزوج بالماء. وهذه الجلسة صورة مبكرة من جلسة الشراب، التي يرتدي فيها المشاركون الأكاليل، وتتميز بمزج النبيذ بالماء، وإنشاد الأغاني وإلقاء الشعر، ولكن المشاركين فيها يجلسون ولا يتكئون.
ويأتي رفض الآلهة لقبول قربان ما، أو رفض شخص ما للمشاركة في مناسبة لتناول الطعام؛ بمنزلة خرق فادح للنظام الاجتماعي والديني. تصور ملحمة «الإلياذة» - في الجزء التاسع والجزء الرابع والعشرين - مناسبات لتناول الطعام تسير على ما يرام في مواقف صعبة. يتناول الناس الطعام في إطار نظام التواصل الأرستقراطي المعروف باسم «زينيا»، وهو نظام يرحب بالغرباء من خلال السماح لهم بالاستحمام وتقديم الطعام إليهم قبل أن يطلب منهم تعريف أنفسهم. وإذا كانوا معروفين لمضيفهم ، فإن الطعام يقدم إليهم بصفة تبادلية مقابل مآدب سابقة أو اجتماعات متوقعة في المستقبل.
الشاعر مهتم بوصف تفاصيل طقس تقديم القرابين والطهي، ويخصص مساحة أقل لوصف تناول الطعام والمأدبة نفسها. وأكثر الأطعمة الشائعة هي اللحم البقري والخبز، ولكن كثيرا ما تقدم «كل أنواع الأطعمة». وسنلاحظ قدرا كبيرا من الاهتمام في القرون اللاحقة بما يقدم على المائدة.
من الممكن القول بإيجاز إن أقدم الأعمال الأدبية في اليونان استخدمت الأطعمة وعادات تناول الطعام للتعبير عن الهوية، وللإفصاح عن السلوك اللائق وغير اللائق، وعن النجاح أو الفشل في العلاقات بين الآلهة والبشر وفيما بين البشر أنفسهم، ولترسيخ التسلسل الهرمي الاجتماعي. (4) تناول الطعام كموضوع في أعمال هوميروس
أثرت ملاحم هوميروس تأثيرا كبيرا في الأعمال الأدبية التي ظهرت بعد ذلك. يقدم أثينايوس مثالا لافتا للغاية؛ فهو يسوق لنا تعليقات أفلاطون وبعض الشعراء الهزليين الذين عاشوا في القرن الرابع قبل الميلاد عن خلو أعمال هوميروس من ذكر الأسماك. وتناقش الشخصيات الواردة في كتابه العادات المذكورة في أعمال هوميروس بشيء من الاستفاضة؛ بداية في الجزء الأول من كتابه «مأدبة الحكماء» الذي لم يصل إلينا للأسف إلا في صورة موجزة تعرف بالملخص. ويبدو أنه قد ثار خلاف علمي حول درجة الترف التي كان يعرضها هوميروس في الملاحم؛ إذ قيل إن هدفه الأساسي كان الترويج لحياة قائمة على البساطة في عادات تناول الطعام وعلى الاستقامة الأخلاقية. وذكرت ادعاءات غير عادية عن أهمية الأسماك والخضراوات. يقول أحد المشاركين في المأدبة:
كانت تقدم أيضا الخضراوات للأبطال في المآدب، ومن الواضح أن لديهم دراية عن زراعة الخضراوات من كلمات مثل: «بجوار أبعد صف من أحواض الحديقة المزروعة بأناقة.» فضلا عن ذلك كانوا يأكلون البصل أيضا، مع أنه يمتلئ بالعصارات غير الصحية.
نظرا لأن هذا هو الجزء الملخص من كتاب أثينايوس ، فإننا لا نعرف هوية هذا المتحدث المشارك في المأدبة، ولا نعرف ما إذا كان هو نفسه الذي يقول بعد ذلك بقليل:
ولكن الشاعر لا يتحدث عن أكل الخضراوات والأسماك والطيور لأن ذلك علامة على الجشع، وأيضا لأنه من غير اللائق للأبطال أن يمضوا وقتهم في تحضيرها للأكل.
ومع ذلك، من المحتمل أن يكون هذا الكلام نسخة موجزة من مناظرة تدور حول دور الطعام في أعمال هوميروس، استقاها المتحدثون من المصادر العلمية التي ربما تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وكان المتحدثون يعبرون أيضا عن الأمور التي كانت تشغل الناس في عصرهم في القرن الثاني الميلادي. وفي هذه المرحلة، كان هوميروس هو معيار الحكم في الشئون الأدبية والأخلاقية والمتخصصة؛ فحتى الخضراوات كان من الممكن البحث عن معلومات عنها في النص المبجل: هل تصنف على أنها مكملات غذائية (وليست مكونات غذائية أساسية)؛ أو هل هي أقل شأنا من أن تستحق الاهتمام؟ هل النباتات الخضراء مهمة، أم فقط الخضراوات المخصصة للأكل؟
وعلى المنوال نفسه، فيما بعد - في الجزء الخامس - تؤخذ أعمال هوميروس بصفتها النموذج المستحسن بخصوص جلسة الشراب، وذلك في مقابل النماذج التي قدمها الفيلسوفان أفلاطون وإبيقور، مع أن عادة الاتكاء عند تناول الطعام لم تكن قد انتشرت بعد. ويفهم أيضا أن كبح الإسراف هو الهدف الأساسي الذي يسعى إليه هوميروس. وينجح أثينايوس في هذه الفقرات في الحفاظ على شيء من الخلاف القديم الذي دار حول هوميروس في المكتبات الهلنستية، ويتخذ من القصائد أيضا نموذجا لعصره هو. وفي هذا الكتاب، يتناول العلماء الطعام في منزل لارينسيس الوالي الروماني الثري فيما يبدو، ويتحدثون عن المناهج اللائقة وعن مستويات الفخامة المسموح بها. ومن الواضح أنهم لا يتبعون التوصيات الداعية إلى التمسك بالبساطة التي يدعون أن هوميروس كان يتبعها. ويسبق الحديث المتعلق بجلسة الشراب في الجزء الخامس أيضا الأوصاف التفصيلية للولائم العامة التي كان يقيمها الملوك في العصر الهلنستي. إذن، فمن الممكن فهم التفسيرات المتعلقة بهوميروس على أنها انتقادات ساخرة لعادات تناول الطعام التي ظهرت لاحقا ، وللعلماء أنفسهم الذين حضروا المأدبة؛ نظرا للفخامة الواضحة التي يتسم بها طعامهم (خصوصا الأسماك الواردة في الجزء السادس).
وسواء كان التفسير الساخر هو الأفضل أم لا، فإن أثينايوس يقدم دليلا لافتا على قراءة أعمال هوميروس في القرون اللاحقة. وبخصوص الاهتمام بأعمال هوميروس في أوقات تناول الطعام، يمكن مقارنة استخدام أفلاطون لمينيلاوس بصفته أفضل رجل حضر الوليمة في كتاب «حوار المأدبة». ويفترض أفلاطون أيضا وجود علاقة جنسية مثلية بين باتروكلوس وأخيليس في كتابه «حوار المأدبة». ومن بين مظاهر الاهتمام بأعمال هوميروس في أوقات لاحقة وصول السمراء الهزليين المعروفين باسم «هوميريستاي» إلى مأدبة عشاء تريمالكيو في نص بيترونيوس، ولوحة الفسيفساء التي تصور عوليس وجنيات البحر الموضحة في الشكل الوارد في بداية هذا الفصل. إن تتبع أعمال هوميروس عبر مساحات زمنية وثقافية شاسعة، وصولا إلى كتاب أثينايوس القائم على التوليف الثقافي، يتيح لنا أن نرى كيف أن نصا يعتمد على النظام الثقافي والتعليمي الإغريقي الروماني استخدم وأعيد استخدامه للتعبير عن الهموم المعاصرة. وتأتي مناقشة مثمرة لهذا الموضوع في ديفيدسون (1997).
إن تفسيرات أعمال هوميروس التي يناقشها العلماء المشاركون في المأدبة فيما بينهم تكشف عن معلومات مفيدة؛ فبعض هذه التفسيرات تفسيرات قيمة أو خاطئة، والبعض الآخر يقدم ادعاءات يصعب إثباتها. يستعمل هوميروس تعبيرا جامعا غير مانع وهو «كل أنواع الطيبات» («الأوديسا» 4، 55 و7، 176) التي كثيرا ما تقدم في مناسبات تناول الطعام. وليس من الواضح تماما إن كانت هذه الطيبات تشمل الأسماك والفواكه أم لا، ولكن الواقع هو أن هوميروس كان يتبع مناهج معينة؛ ففي أعماله يقل الحديث عن الأكل بعكس الحديث عن تحضير الطعام - وخصوصا اللحوم - وبعكس الحديث عن احتساء الخمور بعد ذلك؛ ومن ثم، يبدو أن هوميروس يضع المعايير التي تسود في الكثير من الكتابات الأدبية التي تتناول جلسات الشراب، وهي المعايير التي كثيرا ما يرجع إليها لمعرفة معلومات عن مناسبة المأدبة/جلسة الشراب، ولكن القسم المخصص لجلسة الشراب التي يقدم فيها الشعر والغناء هو القسم الذي يحظى بالاهتمام، وذلك فيما يخص الأدب على أقل تقدير.
وأحيانا يتحدث جالينوس نفسه - وغالبا ما كان استثناء لهذه الفكرة العامة - عن رؤية الطبقة الراقية الحضرية. وهو يتحدث في كتاب «عن المزاج السيئ غير المتزن» مثلا (43 جرانت) عن أن أسلوب الحياة الخامل يؤدي إلى الإصابة بمزاج سيئ غير متزن، وأضاف: «في قديم الزمان، فيما يبدو، لم يكن يعاني أحد من هذه الحالة؛ لأنه لم يكن من السائد أن يعيش الناس بذلك المستوى من الراحة والوفرة ...» وقد أطلعنا جالينوس على نموذج التطور الذي يفضله هسيود وكاتو وجوفينال، وهو النموذج القائل بأن ذوي السلطان على وجه التحديد يقل معدل عملهم عما كان عليه في العصر الجمهوري المتشدد؛ فالثراء جلب «أوتيوم» أو «سكولي» - أي حياة الرفاهية - وتزامن مع ذلك زيادة اعتلال الصحة. (5) المسرح الكوميدي والمسرح التراجيدي الإغريقي والروماني
وثمة جنس أدبي بارز آخر ظهر على مدار عدة قرون فوق خشبة المسرح الكوميدي، ويلاحظ فيه الاحتفاء بالطعام في صور شعبية احتفالية. وينطبق هذا على المسرح الكوميدي في المدن الإغريقية ذات الحكم الذاتي (من القرن الخامس إلى القرن الثالث قبل الميلاد)، وفي المسرح الروماني الذي قدمه بلاوتوس وتيرينس (من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد). ومن السمات اللافتة في مناقشة المسرح الكوميدي ابتكار صور مبكرة عن الفردوس تخلو من أي أزمات خاصة بنقص الطعام، ويتوافر فيها الطعام في قالب مثالي، يكاد يتوسل فيه إلى الناس ليأكلوه (راجع الفصل الخامس). ويقدم الشاعر فيريكراتيس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد مثالا، وذلك من مسرحيته «عمال المناجم» (الشذرة 113، 3-9):
أنهار تمتلئ بالعصيدة والمرق أخذت تتدفق في القنوات وهي تصدر خريرا، وتجد فيها ملاعق وغير ذلك، وتمتلئ أيضا بقطع من كعك الجبن؛ ولذلك، كان من السهل أن تنزلق اللقمة من تلقاء نفسها إلى داخل أفواه الموتى. وكانت تتوافر قطع السجق المصنوع من لحم ودم الخنزير، وكانت تنتثر رقائق السجق بجوار ضفاف النهر وكأنها محار.
هذا هو الأدب الذي يتناول نقص القوت، ويقابله الأدب الذي يتناول الإسراف الذي كان يصدره الأغنياء الذين كانوا يرقبون في فزع السلوكيات التي تنم عن الإسراف الذي يأتي به البعض - كثيرا ما يكونون من الشباب حسبما يقال - من بين أقرانهم الموسرين (راجع الفصل السابع، وديفيدسون 1997، وويلكنز 2000).
والنسخ الكوميدية الساخرة من هذه التصورات المثالية مهمة للغاية؛ نظرا لأنها تقدم لجمهور كبير، وهو ما لم يكن من المحتمل أن ينطبق على نصوص أفلاطون أو ثوسيديديس، على سبيل المثال.
يقدم المسرح الكوميدي مقابلا قيما للعالم الثري المميز الذي يحيط بجلسة الشراب القديمة؛ ففي جلسات الشراب - في شعر ثيوجنيس وبيندار وغيرهما - نجد تمجيدا للمثل العليا المتعلقة بالتميز الأرستقراطي، وتشجيعا للتجمعات الأنيقة التي يحضرها الأقران ممن ينتمون للطبقات الراقية في المدن ذات الحكم الذاتي. وصورة جلسة الشراب هذه شجعت الفكرة القائلة بأنها ظلت سنة مقصورة على أبناء الطبقة الراقية في المدن ذات الحكم الذاتي في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وهذا صحيح إلى حد ما؛ إذ كان الأغنياء يحضرون جلسات شراب أكثر فخامة ولمرات أكثر مقارنة بغيرهم. ولكن جلسات الشراب لم تكن مقصورة على أبناء الطبقة الراقية، وذلك كما أحاول أن أبرهن في الفصل السادس.
وتكمن قيمة المسرح الكوميدي بالنسبة إلى هذه الدراسة في كونه اجتماعا عاما للمواطنين؛ إذ كان جمهوره هائلا، وكان عدده يصل في أثينا وسيراقوسة إلى نحو 15000 مواطن وغيرهم. وينشب خلاف كبير حول تركيبة الجمهور، ولكن ليس حول حجمه أو القدرة المدهشة التي يمتلكها الشعر الهزلي على الجمع بين التعبير الأدبي الراقي واللغة الدارجة المستعملة في الشارع. وقدمت المسرحيات الكوميدية - مثل شقيقتها المسرحيات التراجيدية - في الاحتفالات العامة التي كانت تعبر عن الأساطير والأيديولوجيا وهموم المجتمع ككل. وهذا الجمهور المؤلف من كل الطبقات يكاد يكون فريدا في تاريخ إنتاج الأعمال الأدبية القديمة. وبالإضافة إلى الجمهور الكبير والمتنوع إلى حد استثنائي، كان الشعراء الهزليون يكتبون أيضا في إطار قواعد أدبية ودينية مدهشة؛ ومن ثم، شرع شعراء المسرح التراجيدي - باستثناءات بارزة - في التخلص من الكثير من التفاصيل المتعلقة بالطعام في مسرحياتهم، واختاروا تمثيل هذه التفاصيل في مسرحية رابعة إضافية لتختتم الثلاثية، وهي عبارة عن محاكاة ساخرة. وعلى العكس من ذلك، أدرج شعراء المسرح الفكاهي الطعام وعادات تناول الطعام في مسرحياتهم بدرجة مبالغ فيها. وهذه التقديرات مقدمة بالمقارنة - على سبيل المثال - بملاحم هوميروس التي لا تحذف الإشارات إلى تناول الطعام مثل المسرح التراجيدي.
فبينما تصور ملاحم هوميروس تقديم قرابين من الحيوانات على نحو متكرر في ملحمة «الإلياذة»، وتصور مشاهد تناول الطعام في الكثير من المناسبات في ملحمة «الأوديسا»؛ نجد أن المسرح التراجيدي يقلل من وصف تلك المناسبات. ويذكر تناول الطعام في الولائم بصفته نشاطا كان يستمتع به الناس (راجع ويلكنز 2003)، ولكن لم يعد أحد يمارسه. وكثيرا ما كان للولائم في المسرحيات التراجيدية مغزى مشئوم، وهو ما يتصل بقطع العلاقات بين الآلهة والبشر بسبب فساد طقس تقديم القرابين؛ فهذه الطقوس لا تسير بحسب المقرر لها سلفا، وكثيرا ما تقترن بالقتل. وتظهر هذه السمة بوضوح في الأساطير المتعلقة بأكل لحوم البشر وبالقتل الشعائري، وهي الأساطير الحاضرة عادة في الأسطورة التراجيدية. والأسطورة الأولى يصورها إيسخيلوس في مسرحيته «أجاممنون»، وفيها تصف الكاهنة الطروادية الأسيرة كاساندرا رؤيا كئيبة ترى فيها مقتل أطفال ثيستيس (1219-1222): «رأيت أطفالا يقتلون وكأنما على أيدي أقربائهم، وتمتلئ أيديهم بوضوح باللحم؛ لحم الأطفال، وبأعضائهم الحيوية وأمعائهم - آه وا أسفاه - التي كان قد تذوقها أبوهم.» وفي هذه الرؤيا، يقسم لحم الأطفال إلى الفئات الثلاث المتبعة عند تقسيم الحيوان في طقس تقديم القرابين: وهي اللحم، والأعضاء الحيوية، والأحشاء (راجع فيرنان 1989 والفصل الأول).
ونجد علاقة أشمل بين تقديم القرابين والقتل وتقطيع الجسم البشري، وذلك بالتشبيه بذبح الحيوان بغرض تقديمه كقربان، وذلك في المسرحية التي ألفها يوربيديس بوحي من أسطورة إلكترا؛ وهذا التشبيه ناقشه دوراند (1989). ونجد إيجيسثوس - زوج الأم الشرير - يقدم ثورا كقربان ويدعو عابري سبيل من الغرباء (وهما في الواقع ابن زوجته المبعد أوريستيس وصديقه بيلاديس) لمشاركته في وليمة من لحم القربان مقدمة للحوريات. وفي كلام مطول (774-858)، يروي الرسول مشهد إيجيسثوس وهو يذبح بقرة صغيرة، ويدعى أوريستيس لتقطيعها، ويكشف الجلد الأبيض ويسلخ البقرة ويفتح الجزء الواقع تحت القفص الصدري؛ ويجد الكبد (وهو من الأعضاء الحيوية المهمة من عدة نواح) ولكنه لم يكن مقسما إلى فصوص، أما الطحال فهو أيضا غير سليم من الناحية التشريحية. ويقترح أوريستيس أن يبدءوا في إقامة وليمة من الأعضاء التي يجب تذوقها في طقس تقديم القرابين، ولكن إيجيسثوس ينحني ليفصل أجزاء الكبد، فيضربه أوريستيس على فقرات عموده الفقري ويكسر ظهره؛ فينهار جسم إيجيسثوس بأكمله، ويسقط مترنحا، ويلفظ أنفاسه الأخيرة، «ويموت ميتة أليمة غير طبيعية». يضع يوربيديس خطوات طقس تقديم القرابين جنبا إلى جنب مع واقعة القتل، حتى إنه أثناء انشغال إيجيسثوس في خطوات تقديم القربان يتلقى الضربة وكأنه ثور يضرب تمهيدا لذبحه. وتحفل خطبته هذه بالكثير من الأفكار الملتبسة؛ إذ تستخدم الدمج بين موت الحيوان وموت الإنسان لطرح أسئلة كئيبة عن موت الطاغية، ودور أوريستيس المظلوم. والفقرة مزعجة عن قصد؛ فمع أن هذه الشعيرة تشير إلى الوليمة التي كان من المتوقع أن يستمتع بها المشاركون، فإنها في الوقت نفسه تذكر جمهور المشاهدين باستمرار بالتفاصيل غير الملائمة. ويشمل هذا جسم الحيوان وجسم الإنسان، وبالتضمين الأمر الإلهي الذي يشرف على هذه المناسبة الدينية. ويشار إلى فكرة تذوق اللحم مرتين. ومتعة الأكل - كعهدها دوما - تكون قريبة زمنيا من فعل تقديم القربان، ولا بد أن نقارن هذه الفقرة بالفقرتين الواردتين في مسرحية ميناندر اللتين استشهدت بهما في الفصل الثالث بخصوص التوازن بين التقوى والمتعة عند حضور وليمة من لحم القرابين.
وليس المقصود بهذا أن نقول إن المسرح التراجيدي يستبعد الطعام تماما. يصف يوربيديس وليمة فاخرة في دلفي في مسرحيته «أيون»، وفيها يدعى شعب دلفي إلى مأدبة في الهواء الطلق في خيام أقمشتها مرسوم عليها النجوم وهي في قبة السماء ووحوش خارقة. ويرتدون الأكاليل ويأكلون وليمة لذيذة (لا توصف بالتفصيل) تقر بها عيونهم، وينتقلون إلى جلسة الشراب، وتقدم الأقداح الذهبية والعطور ويبدأ احتساء الشراب، وصولا إلى محاولة تسميم البطل الأثيني أيون. ويذكر تسميم القدح بالحياة في قصر الإسكندر وقصور الملوك الهلنستيين وغيرهم من الملوك الذين كانوا يعيشون في خوف من السموم وغيرها من وسائل الاعتداء على حياتهم واغتيالهم.
وإذا كان المسرح التراجيدي يقدم الطعام وقد شوهه بشدة الإخلال بنظام تقديم القرابين، فإن المسرح الكوميدي - على الرغم من تحمسه للأكل ولمتع الجسد - لا ينظر إلى الطعام من منظور غير مبال؛ إذ يعرض المسرح الكوميدي توبيخا ساخرا للأشخاص النهمين والأشخاص أقوياء البنية الذين يلتهمون أكثر من نصيبهم، ويعبر عن القلق حيال طقوس تقديم القرابين التي تجنح أكثر من اللازم نحو المتعة. ولكن المسرحيات التراجيدية والمسرحيات الكوميدية على حد سواء كانت تقدم في احتفالات ديونيسوس في أثينا، وكان من الواضح أن إله الخصوبة هذا كان يكرم بمختلف أنواع الترانيم قبل ابتكار الدراما، وما إن تطورت الدراما حتى صار يحتفى بجوانب مختلفة من الإله في الأجناس الأدبية المختلفة. كانت المسرحيات التراجيدية تصور ديونيسوس في صورة مزعجة بصفته أخل بالنظام المتعارف عليه، وأدخل عالم الطبيعة إلى شئون البشر؛ وتتمثل أكثر الصور تطرفا لهذا التصوير في مسرحية «الباخوسيات» من تأليف يوربيديس، وتصور الطاغية بينثيوس ضعيف الحيلة على الرغم من قوته المدنية والعسكرية، بجوار الإله غير محدد الجنس الذي لا يمكن إدراجه في الفئات العادية مثل إغريقي أم أجنبي، أو ذكر أم أنثى، أو مخبول أم عاقل، أو طبيعي أم متحضر. ولا تظهر أسطورة ديونيسوس صراحة في الكثير من المسرحيات، ولكن يظهر في كل مسرحية تقريبا هجوم القوى المخيفة على النظام والفئات المدنية الثابتة. وتكاد تخلو المسرحيات الكوميدية من العناصر المخيفة؛ إذ تقدم هذه المسرحيات عالما مضطربا تصلحه القوى الهزلية التي تفسد على نحو مؤقت بنية السلطة، وتعزز من التضامن بين الجوقة والمواطنين، وتؤكد على الرغبات البشرية العنيفة التي تصبو إلى تناول الطعام وإقامة العلاقات الجنسية على المشاع. مسرحية «الأخارنيون» هي مسرحية كوميدية معروفة بامتداحها لديونيسوس وتمثيلها على المسرح لعدد من احتفالاته المدنية. وليس المقصود بذلك القول أن المسرحية تخلو من العناصر المزعجة؛ إذ إن البطل الهزلي ينجح في تحقيق فردوس يليق بديونيسوس في نهاية المسرحية في أجواء مناهضة للشيوعية كما يبدو، ترفض اقتسام معاهدة السلام التي يبرمها البطل مع أي أحد كان.
شكل 9-2: مزهرية إكستر - وهي إناء للنبيذ أو للماء - ربما كانت مخصصة للاستعمال في جلسات الشراب، وتحمل صورة لإلكترا وأوريستيس عند قبر أجاممنون. واسم أجاممنون منقوش على القبر، وأسماء الشخصيات مذكورة عند الضرورة . وإذا كانت من الأواني المستعملة في جلسات الشراب، فإن من يشربون النبيذ كانوا يرون أمام عيونهم مشهدا أساسيا من مسرحية «إلكترا» التي ألفها يوربيديس، أو التي ألفها شاعر آخر. ففن الدراما انتقل من خشبة المسرح إلى عالم جلسات الشراب. (الصورة إهداء من قسم الآداب الكلاسيكية والتاريخ القديم، جامعة إكستر.)
يمثل المسرح الكوميدي قيمة كبيرة لهذا الكتاب نظرا لطابعه «الشعبي الاحتفالي»، الذي أناقشه في ويلكنز (2000). ويكفي الاستشهاد بمثالين. في مسرحية «برلمان النساء» التي ألفها أريستوفان في عام 392 قبل الميلاد تستولي نساء مدينة أثينا على مقاليد الأمور، وهذا مثال لتناول فكرة المدينة الفاضلة بأسلوب هزلي، وتشهد المدينة اتحاد كل المواطنين في وحدة جنسية واحدة، واندماج كل الممتلكات في ملكية مشتركة واحدة. وكما هي الحال مع الأمثلة الهزلية الأخرى على المدينة الفاضلة، تنطلق تلميحات بأن الاقتسام الجماعي للثروة والنشاط الجنسي لن ينجح. وفيما يأتي الاقتراحات المتعلقة بإقامة مآدب العشاء (675-697):
بليبيروس :
وأين سنتناول عشاءنا؟
براكساجورا :
سأطلب تحويل كل قاعات المحكمة والأروقة المعمدة إلى قاعات طعام للرجال.
بليبيروس :
ومنصة الخطابة، لأي غرض ستستخدمينها؟
براكساجورا :
سأضع عليها أواني المزج ودوارق الماء، ومن الممكن أن ينشد الأطفال الصغار الشعر الملحمي عن الرجال الذين قاتلوا بشجاعة في الحرب. وإذا اتضح أن أحدهم جبان فسيحرم من الجلوس لتناول الطعام.
بليبيروس :
بحق أبولو، كم هذا لطيف! ولأي غرض ستستخدمين الآلات المخصصة لتوزيع الأنصبة؟
براكساجورا :
سأضعها في ساحة السوق. سأقف بجوار تمثال هارموديوس وأخصص أماكن للجميع بالقرعة، وحين يحصل جميع الحاضرين على نتيجة القرعة، ينصرف كل منهم وهو يعلم الحرف الذي يرمز إلى المكان الذي سيتناول الطعام فيه؛ وسيصدر إعلان مخصص لمن يندرجون في فئة الحرف (بيتا) لكي يجلسوا لتناول الطعام في الرواق الملكي، وسيجلس من يندرجون في فئة الحرف (ثيتا) في الرواق الذي يليه، وسيجلس من يندرجون في فئة الحرف (كابا) في رواق باعة الشعير.
بليبيروس :
لكي ينحنوا؟
براكساجورا :
لا، بل ليتناولوا طعامهم هناك.
بليبيروس :
والذين لا يسحب الحرف المخصص لتحديد مكان يتناولون طعامهم فيه، هل سيطردون؟
براكساجورا :
لن يحدث هذا لكم. سنوفر كل شيء للجميع بسخاء، وسيترتب على ذلك خروج الجميع وهم سكارى، وكل يرتدي إكليله ويحمل مشعله، وستنقض النساء الآتيات من الشوارع الجانبية على الرجال الخارجين من مأدبة العشاء وهن يقلن: «هلموا إلينا. ها هي ذي فتاة جميلة.»
صارت الآلات المستخدمة في الانتخاب الديمقراطي تستخدم في حفلات الشراب، وثمة فكرتان تجدر الإشارة إليهما؛ أولا: كان يقام الكثير من مناسبات تناول الطعام واحتساء الشراب للمسئولين الحكوميين في المدينة التي تطبق الحكم الديمقراطي، وكان ثمة بند يقضي بمراجعة شهرية لكميات الطعام المتوافرة؛ ولذلك، فالاقتراح الهزلي هو امتداد لما كان مدمجا في النظام، وهو امتداد في الفردوس الهزلي لضمان عدم وقوع أحد ضحية للجوع. ثانيا: تنتظر النساء الرجال خارج قاعات الطعام؛ فهذا النظام الشيوعي البدائي لا يتمادى فيما يخص القواعد التي تحكم العلاقة بين الجنسين إلى حد السماح للرجال والنساء بتناول الطعام معا.
والفقرة الهزلية الثانية مأخوذة من مسرحية «بلوتوس، إله الثروة» لأريستوفان، وتصور هذه الحكاية الرمزية الأسطورية إله الثروة الكفيف وقد استعاد بصره؛ مما أدى إلى عواقب مدهشة؛ فبمجرد أن يتمكن الإله من الرؤية لا يكون البشر في حاجة إلى الآلهة؛ لأن الصالحين لديهم ما يكفيهم من الثروة. وهكذا، يواجه الكهنة والآلهة خطر الموت جوعا، كما يحدث في مسرحية أريستوفان السابقة التي ألفها في عام 414 قبل الميلاد؛ «الطيور». ولكن علاج العمى هو ما أود التركيز عليه، وهذا العلاج عبارة عن النوم المقدس، ويذكرنا بعادة دينية ناقشتها من قبل في الفصلين الثالث والثامن، والراوي هو كاريون العبد.
يغتسل إله الثروة في البحر، ثم يرقد في حرم المعبد. تقدم الكعكات والبخور (661-662)، ويرقدون على أرائك ريفية. ومن بين غيره من المرضى امرأة عجوز معها قدر من «أتهاري» (عصيدة القمح)، ويطمع فيه العبد، ولكن نواياه في الاستيلاء على الطعام أقل تطورا من نوايا الكاهن الذي يختطف الكعكات المخصصة كقرابين والتين المجفف من هيكل المعبد. ويخشى العبد من أن يمر الإله بجوار المزار وهو يرتدي الإكليل ويضبطه وهو يسرق العصيدة، وترتاب المرأة العجوز أيضا، ويصدر العبد صوت فحيح وكأنه أفعى مقدسة لإخافتها ويختطف العصيدة؛ فتخرج العجوز ريحا من فرط الخوف، ويخرج العبد ريحا أيضا، بعد أن أكل من العصيدة؛ فيمسك خدم الإله أنوفهم، ولكن الإله لا يعبأ بذلك؛ لأنه يأكل الفضلات. ويمر الإله بجوار المرضى ومعه هاون ويد هاون وصندوق من الأدوية، ويعالج سياسيا كفيفا بالثوم وعصير التين وبصل البحر والخل؛ ما يسبب ألما شديدا لهذا الرجل المكروه. وفي غضون ذلك، يشفى إله الثروة بفعل الأفاعي المقدسة، وفور عودته إلى المدينة يتأكد أن البسطاء لا يعانون من الجوع (762-763) وينشر الرفاهية بين جميع الصالحين.
وهذه توليفة هزلية معتادة تعبر عن انتصار البسطاء على ذوي السلطان (الآلهة وكذلك البشر)، وهو ما ناقشته في ويلكنز (2000). والفكرة غير المعتادة (ولذلك هي مفيدة للغاية: راجع إديلشتاين آند إديلشتاين 1945) هي الوصف التفصيلي للنوم المقدس؛ إذ تشرح المسرحية الكوميدية كيف يحصل الكهنة على القرابين المقدمة للآلهة، وربما يأكلونها أيضا: فأين عساها تذهب؟ ويصور الإله أيضا في هيئة مادية وهزلية للغاية. ونظرا لأن اختبار البراز والبول عادة طبية متعارف عليها لتشخيص الأمراض، فإن الإله لا يتأثر بالروائح الكريهة التي تزعج خدمه. والعلاج يعتمد على الأفاعي، و«العلاج» العقابي القائم على الخل وغيره المخصص للسياسي (حتى لو لم يكن عقابا) لا يبدو أنه من سبل النوم المقدس، بل هو علاج بديل يقدمه الطبيب.
وكما أكدت في ويلكنز (2000)، فإن المسرح الكوميدي يقدم تفاصيل دقيقة عن عادات تناول الطعام القديمة، وكثيرا ما تتفوق هذه التفاصيل بكثير على أي مصدر آخر.
ولم تتسبب هوية المسرح الكوميدي بصفته جنسا أدبيا شعبيا في استبعاد أهميته للطبقة الراقية؛ إذ كان يتسنى إدماجه في الأعمال الأدبية الأخرى التي ظهرت في عصر لاحق. وكان المسرح الكوميدي شاهدا على استعمال صيغة نقية من المفردات الأتيكية، وكان شاهدا أيضا على الكثير من أوجه الثقافة الأثينية في العصر الكلاسيكي القديم. ولهذه الأسباب يظهر المسرح الكوميدي في أعمال بلوتارخ (مع أنه يكره سوقيته)، وأعمال أثينايوس (وتعجبه سرعة البديهة اللفظية وتفاصيل المآدب الحقيقية)، وأعمال جالينوس. ويستعمل الأخير المسرح الكوميدي بغرض إدراج أدلة عن المصطلحات المتعلقة بالطعام ولأسباب أسلوبية، كما أنه كتب عددا من الكتب عن لغة شعراء المسرح الكوميدي القديم؛ مثل: يوبوليس، وكراتينوس، وأريستوفان.
وتأتي مناقشة عن المسرح الكوميدي في كتاب بلوتارخ «حديث المائدة» (7، 8). يتسم المسرح الكوميدي القديم بلغته الخشنة أكثر من اللازم؛ إذ يتطلب الأمر تدخل عالم نحو لتفسيرها لكل شخص على حدة، وكأنه الشخص المكلف بصب النبيذ الواقف خلف كل ضيف. والغناء أفضل منه بكثير، فهو يقدم طعاما أساسيا في هيئة كلمات، ويقدم الموسيقى بصفتها مكملات إضافية. وهذا مثال لافت لاستيعاب الصور الثقافية (ممثلة في المسرح الكوميدي والأغاني) على سبيل المجاز في جلسات الشراب.
وأصبحت وظيفة المسرح الكوميدي في العصر الإغريقي المتأخر الذي كان يكتب فيه كل من بلوتارخ وجالينوس وأثينايوس؛ تتجاوز النقد المرح أو الهجائي الذي كان مهما للغاية في هيئته الأصلية كعروض تؤدى على المسارح. وكان المسرح الكوميدي يستخدم في جلسات الشراب وفي حلقات النقاش التي يحضرها العلماء، كما يشرح بلوتارخ، ومن الممكن استخدامه أيضا - كما رأينا - ليكون شاهدا على المصطلحات الصحيحة المكتوبة باللغة الإغريقية الكلاسيكية القديمة. ويساعد المسرح الكوميدي - شأنه شأن أعمال هوميروس - المؤلفين الذين ظهروا فيما بعد على التحقق من المصطلحات الكلاسيكية القديمة. وهذا من الأسباب التي تفسر استخدام أثينايوس للمسرحيات الكوميدية بهذه الكثرة؛ إذ إن المسرح الكوميدي يقدم إشارات كثيرة للطعام، ويثبت المفردات المتخصصة أيضا؛ ومن ثم، فإن استخدام الشعر الهزلي يضيف عمقا علميا، وأيضا ظرفا وأسلوبا هجائيا مناسبا للغاية في جلسة الشراب. وكان للشعر الهزلي وظيفة أخرى؛ إذ كان واضحا ويسهل تذكره. وهذه الفكرة يتناولها بوضوح نص جغرافي من القرن الثاني قبل الميلاد، وهو «رحلة حول الأرض»، وكان ينسب خطأ إلى العالم الجغرافي شيمنوس. وهذا العمل الغريب مكتوب في قالب من الشعر الهزلي من التفعيلة العمبقية ؛ لأنه - حسبما يصرح المؤلف (3-4) - يعبر عن كل فكرة بإيجاز ووضوح؛ ولأن (33-44) الشعر الهزلي يسهل تذكره، وبفضل طابعه الموجز يتميز بالدقة وقوة الإقناع، بالإضافة إلى شيء من الجاذبية. وهذا الاستخدام العلمي للشعر الهزلي نراه أيضا في عمل أبولودورس من أثينا، وهو الذي يستشهد باقتباسات كثيرة منه في كتاب أثينايوس، ونراه أيضا في الوصفات الطبية الشعرية التي يقتبسها جالينوس كأمثلة على الوصفات التي يكتبها الطبيب، ومن المستبعد أن تسمح بحدوث أخطاء في النسخ بسبب الضمانات التي يوفرها إيقاع الشعر.
ومن ثم، فإن كثرة استخدام أثينايوس للمسرح الكوميدي لها تفسير عابث «متعلق بجلسات الشراب»، ولها تفسير قائم على المحتوى لأن الطعام والولائم كانت من العناصر الجوهرية في المسرح الكوميدي، ولها تفسير علمي أيضا. (6) الهجاء الروماني
تزخر الكتابات الهجائية التي ألفها هوراس وجوفينال وبيترونيوس وغيرهم بالإشارات إلى الطعام، وذلك كما أوضح جاورز (1993) وغيره. وربما تكون كلمة هجاء
satire
نفسها مشتقة من صورة صحن ممتلئ أو مائدة ممتلئة، وذكرت فيما سبق فكرتين رئيستين هما الحنين إلى الماضي والنقاء الريفي، وهي من الأفكار الحاضرة بقوة في الهجاء. ومن الأفكار الرئيسية الحاضرة بقوة أيضا النهم وأنماط تناول الطعام القائمة على التسلسل الهرمي (جوفينال «المقطوعة الهجائية الخامسة»، ورد اقتباس منه في الفصل الثاني)، وفكرة توافر السلع الفاخرة أمام الطبقة الراقية الرومانية. وفي «الهجائيات» (2، 4) و(2، 8)، يقدم هوراس أولا كاتيوس المعتاد على الاستماع إلى فكر فلسفي خاطئ، ونصحه البعض بأن يبذل كل ما في وسعه (في القصيدة على الأقل) للعثور على أفضل المكونات. ويوصى بالكثير من المكونات الممتازة المرتبطة بأماكن معينة، في صيغة شبيهة بقصيدة «حياة الترف» من تأليف أركستراتوس. وفي «الهجائيات» (2، 8)، يتباهى المضيف ناسيدينوس أمام ضيوفه بثرائه الفاحش.
إن نص «عشاء تريمالكيو» لبيترونيوس هو أبرز تلك الأعمال - مع أنه يشبه كتاب «حوار المأدبة» لأفلاطون (دوبونت 1977) - لأن المأدبة التي يقيمها يحضرها ضيوف أغنياء وفقراء، ويقدم فيها طعام وفير، وتدور فيها مناقشات عن وسائل الترفيه وعن أزمات نقص الطعام في المجتمع الأكبر، وتحتوي على كل اللمسات الصغيرة التي يصعب على القارئ المعاصر أن يكون عنها رأيا بدقة. هل بيترونيوس هو «حكم الأناقة» الذي وصفه تاسيتس في قصر نيرون؟ هل تريمالكيو عبارة عن محاكاة ساخرة للإمبراطور نيرون؟ يهتم تريمالكيو اهتماما بالغا بمرات التبرز لديه؛ فهل السبب في هذه البذاءة هو الموضوع، أم لأنه يناقش الموضوع بإفراط؟ رأينا في الفصل السادس أن الموت وجلسة الشراب فكرتان رئيسيتان متلازمتان في أحيان كثيرة. هل تريمالكيو كئيب إلى حد غير سوي، أم أن الأمر لا يزيد عن كونه مهتما بموته أكثر من الحد الطبيعي؟ أم أن حجم قبره فقط هو الذي يؤرقه؟ يقدم تريمالكيو الكثير من أطباق اللحم، ومعظمها من لحم الخنزير، ولا يقدم إلا كمية قليلة من الأسماك. فهل يشير هذا إلى أصوله الوضيعة، أم أن هذا طعام روماني طيب؟
وفي منمنمة طريفة أخرى - يناقشها كونت (1996: 172) - يتبع تريمالكيو مبادئ الاكتفاء الذاتي ولا يشتري الطعام إلا من أملاكه؛ ففي النصوص التي تتناول الوعظ الأخلاقي يكون من المستحسن تجنب عوامل الإغراء التي تحفل بها الأسواق. ولكن يتضح أن أملاك تريمالكيو تشمل معظم أنحاء جنوبي إيطاليا، وتمتد إلى أفريقيا، ويستطيع زراعة الفطر الهندي والأترج؛ ومن ثم يتجنب الأسواق، ولكنه يستطيع الوصول إلى كل ثروات الإمبراطورية.
وتريمالكيو شخصية تتسم بالغلظة، ولكن الكثير من الأطباق المقدمة في مأدبته، والكثير من الأنشطة المصاحبة للمأدبة، عبارة عن صور مبالغ فيها من أوجه المآدب وجلسات الشراب التي رأيناها في مواضع أخرى من هذا الكتاب. ويبدو أن دور الوعظ الأخلاقي الذي يلعبه كاتب الهجاء واضح، ولكن المؤرخ المتخصص في الطعام لا يجد أمامه إلا المزيد من الألغاز والأفكار الغامضة.
يعكس فن الهجاء الغنى الفاحش، الظاهر على موائد الأغنياء، وذلك من خلال تنوع الأطعمة التي يذكرها، وكذلك مفرداته وأسلوبه الساخر. وشرحت في ويلكنز (2004) أن بعض الأساليب الهجائية سخيفة ومبالغ فيها، ولكن ثمة نماذج أخرى يعبر عنها مؤلفون أكثر رصانة بكثير مثل جالينوس. يتحدث بلينوس أيضا - في قالبه الموسوعي - عن بعض المفاسد التي تحدث في المآدب ويشجبها كتاب الهجاء. ورأينا في الفصل السابع آراء بلينوس عن سوء استعمال الخنازير البرية في عصره كطعام. ويتحدث جوفينال على المنوال نفسه في مقطوعته الهجائية الأولى: «كم هو نهم فظ ذلك الذي يلتهم خنزيرا بريا كاملا، يلتهم حيوانا مخصصا كي تصنع منه وليمة لجماعة من الناس!» (7) الحكاية الكاشفة
إن أثينايوس واحد من الكثير من المؤلفين الذين لديهم قصص لا تحصى عن ذلك الرجل الذي ... أو عن تلك المرأة التي ... وتكشف هذه الحكايات عادة عن صفة معينة، كثيرا ما تكون النهم أو نقيصة أخرى مشابهة. ويوفر تناول الطعام والأنشطة الاجتماعية أرضا خصبة لمثل تلك الأخبار. يقتبس أثينايوس ما قاله الفيلسوف الرواقي خريسيبوس - مثلا - عن الرجل النهم فيلوزينوس:
أذكر شخصا نهما كان مجردا من كل مشاعر الخجل أمام رفاقه - مهما حدث - حتى إنه كان يعود يده على السخونة وهو في الحمامات العمومية بغمرها في الماء الساخن، وكان يتغرغر بالماء الساخن حتى لا يجفل من الطعام الساخن؛ إذ كانوا يقولون إنه نجح فعلا في إقناع الطهاة بتقديم الأطباق وهي ساخنة جدا، وكان هدفه من ذلك أن يلتهم كل شيء وحده، طالما أنه لم يكن بوسع أحد سواه أن يحذو حذوه.
وهذه هي الحكاية المقصودة بها العبرة التي يستخدمها الفيلسوف أو المعلم الأخلاقي لتوضيح مخاطر الإسراف أو السلوك المنحرف اجتماعيا؛ فالرجل الذي يفرط في التمتع بطعامه معرض لخطر ارتكاب الجريمة الاجتماعية القصوى، وهي تناول الطعام وحده.
ويندرج هذا المثال في نموذج الفكر الذي وردت مناقشته في الفصل السابع؛ فقد استخدم الكثير من الأجناس الأدبية مثل تلك الحكايات. والمؤلفون الذين يجمعون مجموعات من المواد المتنوعة ويقتبسون منها - مثل أثينايوس وأولوس جيليوس وإيليان - يمثلون حالة لافتة للغاية؛ ويعود الفضل إلى هؤلاء في معرفتنا لمؤلفين مثل ماكون الذي ألف كتاب «الحكايات»، وهو سلسلة من الحكايات التي تتحدث عن الأشخاص النهمين والمحظيات. كان ماكون أيضا يكتب المسرحيات الكوميدية، وهو جنس أدبي يهتم هو الآخر بذلك الموضوع، وأكثر سلسلة من الحكايات ذات صلة بهذا الموضوع تتناول عازف هارب يدعى ستراتونيكوس («مأدبة الحكماء»: راجع جيلولا 2000). وساعدته مهنته على دخول عدد من جلسات الشراب، وبات جديرا بأن يتذكره القارئ بفضل تعليقاته الطريفة، وساعدت رحلات العمل التي قام بها في أنحاء البحر المتوسط على إضفاء التنوع على الحكايات. وفي بيلا (مقدونيا) أهان عازفا منافسا وأفرط في احتساء الخمور حتى سكر؛ وفي أبديرة أخذ يروي طرفات عن المحار، وفي بنطس توجه إلى القصر الملكي، وفي كورنث أخرجت امرأة ريحا في جلسة شراب. وبالإضافة إلى القيمة الأخلاقية والترفيهية لهذه الحكايات، فإنها تقدم مشاهد اجتماعية سريعة ربما تنطوي على قيمة بصفتها أدلة، وهي تظهر أيضا - مثل قصيدة أركستراتوس - وجود اهتمام بالمكان. وفي هذه يؤدي التنوع من حيث المكان إلى توضيح السمات المحلية، وبعضها معروف (العاهرات في كورنث مثلا)، والبعض الآخر غير مألوف (أجواء بيلا تساعد على إظهار الحالات المرضية التي تصيب الطحال). ومع أن حكايات ماكون عن ستراتونيكوس تضفي وجهة نظر قائمة على التصوير المحلي على التعليقات الذكية، فإن حكاياته الشهوانية عن المحظيات يقع معظمها في أثينا، ولكنها تطلق العنان للظرف الأنثوي في المأدبة وفي جلسة الشراب («مأدبة الحكماء»).
وكثيرا ما يدرج كتاب السيرة حكايات تناول الطعام واحتساء الخمور بهدف إظهار سمات شخصية من يكتبون سيرتهم. ويقدم كتاب «حياة أغسطس» من تأليف سيوتونيوس، وكتاب «كاتو الأكبر» من تأليف بلوتارخ، مثالين لافتين في هذا الصدد؛ ففي نهاية كتاب «حياة أغسطس»، يكتب سيوتونيوس ملاحظات لافتة عن الإمبراطور في ملخص عن عادات تناول الطعام، يسرد فيه كيف كان أغسطس يمتلك أثاثا لغرف الطعام أقل فخامة من الكثير من الأفراد العاديين، وكان يقيم مآدب غاية في الرسمية، تراعى فيها الفوارق الطبقية بكل دقة، وكثيرا ما كان غير حاضر في بداية أو نهاية تلك المناسبات. وكانت مآدبه تقدم ما يتراوح بين ثلاثة وستة أصناف من الطعام، وكان مضيفا كريما يجيد مساعدة ضيوفه في التصرف بأريحية ودون تكليف. ومع أن هذه المآدب كانت رسمية، كانت تتخللها فقرات ترفيهية يؤديها عازفون وممثلون ولاعبو سيرك. وكان الإمبراطور أغسطس يدبر مقالب للناس في المآدب المقامة في المناسبات الاحتفالية، بما فيها عيد ساتورناليا. وفي غير المناسبات العامة، كان يقتصد في طعامه ويفضل «طعام البسطاء، لا سيما الخبز الخشن والأسماك الصغيرة والجبن الطازج المصنوع يدويا والتين الأخضر من القطفة الثانية» (ترجمه إلى الإنجليزية: جريفز). وفي الأوقات التي يكون فيها على انفراد، كان يأكل بأسلوب خال من الرسميات وبلا تكليف؛ إذ كان يتناول طعاما بسيطا عبارة عن كمية قليلة من العنب مع الخبز في المحفة التي يجلس عليها؛ أو بضع لقيمات من الخبز في منتجع المياه المعدنية بعد أن يكون قد أمضى النهار دون أن يأكل شيئا.
يحفل وصف الشخصية بالتفاصيل الدقيقة، وهذا من أساليب كتابة السير الذاتية الناجحة للغاية؛ إذ يجمع المؤلف الأدلة من المذكرات التي كتبها أغسطس ومن رسائله؛ ما قد يضفي مصداقية على الوصف. ولكن الأهمية الأساسية للدراسة التي بين أيدينا تكمن في الافتراضات الضمنية التي يفترضها المؤلف؛ ومن ثم، فمن المتوقع أن يكون لدى الإمبراطور أثاث فاخر، شأنه في ذلك شأن غيره من الملوك. وتتوافق مراعاة التسلسل الهرمي مع الأدلة الأخرى المتعلقة بالمآدب الرومانية، وهو أمر متوقع. وفيما يخص غياب المضيف عن جزء من المأدبة، هل يشير هذا إلى كونه مضيفا سيئا؛ الأمر الذي يتناقض مع حرصه على تسلية ضيوفه ومؤانستهم بأسلوب اجتماعي لائق؟ فهل هذا تصرف سوي؟ بالطبع، يغيب تريمالكيو عن ضيوفه؛ فهل من المتوقع ألا يكون لدى قائد دولة وقت يمضيه في مآدب رسمية تستمر لوقت طويل يوميا؟ إذن هل ثمة مزيج من الالتزام بالرسميات - المتمثل في مراعاة التسلسل الهرمي الاجتماعي - وعناصر التحرر من الرسميات، المقصود بها أن محور التركيز في المأدبة لم يكن الإمبراطور بصفة مستمرة؟ القارئ الروماني في القرن الأول الميلادي هو من كان في مقدوره الإجابة عن تلك الأسئلة على نحو أفضل منا. وأخيرا، أغسطس الذي يميل إلى الاقتصاد في طعامه. يقدم لنا سيوتونيوس معلومات مفيدة عن النظام الغذائي الذي يتبعه البسطاء (قارن ذلك بما ورد في الفصول الثاني والرابع والخامس). ويشير أيضا إلى أن أغسطس كان راضيا بذلك النظام الغذائي، وهو ما يأتي على النقيض من المآدب الرسمية المكونة من ستة أصناف من الطعام، وساعده ذلك على اتباع أيديولوجية البساطة التابعة للجمهورية، وهي الأيديولوجية التي كان يسعى للترويج لها عن طريق الكثير من وسائل الدعاية والقوانين. ويعتبر الإفصاح عن عادات تناول الطعام البسيطة لدى الحاكم في غير المناسبات العامة من نقاط القوة التي تحسب لكاتب السيرة عند رسمه للشمائل الحقيقية لمن يكتب عنه. ومن السمات المتكررة أيضا في كتابة السيرة إظهار اهتمام الحاكم بالأنشطة المرتبطة بعامة الناس، وذلك بسبب الهوة الشاسعة التي تفصل بين الشخص العادي والقصر الملكي؛ ومن ثم، لم يكن نيرون هو الإمبراطور الوحيد الذي كان يحب الخروج وهو متنكر ليلا وقضاء الوقت في الحانات، قبل أن يتجه إلى ارتكاب حوادث الطعن والسرقة (كتاب «نيرون» من تأليف سيوتونيوس 26).
يستخدم بلوتارخ ملاحظاته عن تنظيم الطعام بطريقة أكثر تكاملا في كتابه «كاتو الأكبر». وكاتو هو الرمز العظيم للجمهورية في عصره وفي العصور اللاحقة، كما رأينا في الفصل السابع. يخبرنا بلوتارخ أن (4) «قدراته على التعبير كانت بكل بساطة نموذجا يحتذى به لدى الشباب، وهو نموذج كان معظمهم يبذلون قصارى جهدهم للوصول إليه. ولكن الرجل الذي كان يتبع عادة موروثة وهي زراعة أرضه بنفسه، والذي كان يرضى بإفطار بارد وبعشاء بسيط وبأبسط الملابس وبالسكن في كوخ متواضع، والذي كان يرى حقا أنه من الأفضل التخلي عن وسائل الترف والكماليات بدلا من السعي وراءها؛ مثل ذلك الشخص كان لافتا في تفرده.» ويرى بلوتارخ أن تفاصيل الحياة اليومية في هذه السيرة تحظى بنفس القدر من الأهمية الذي تحظى به الخطب العظيمة التي ألقاها كاتو من حيث ما تقدمه من صورة للرجل. لكاتو عادات غير مألوفة، مثل شرب الماء فقط وعدم الشكوى من الطعام الذي يطهوه جندي المراسلة أثناء خروجه في حملة حربية (1)، والعمل مع عبيده وتناول الطعام معهم (3)، ومشاركة عبيده في احتساء نفس نوعية النبيذ الفاخر الذي كان يحتسيه بوصفه كان بريتورا وقنصلا (4). ولزوجته عادات غير مألوفة أيضا؛ إذ كانت أحيانا ما ترضع أطفال العبيد لضمان ولائهم للأسرة (20). وحتى بلوتارخ - الذي يعجبه موقف كاتو من الترف - يرى أن كاتو شخصية مخيفة؛ إذ كان يبيع العبيد المتقدمين في السن، وكأنهم دواب منهكة، في موقف لا ينم فقط عن الخسة بل أيضا عن القسوة وانعدام القدرة على تقدير الأواصر التي تجمع الإنسان بأخيه الإنسان (5). يقدم بلوتارخ وصفا باهرا يجمع فيه بين القرن الثاني قبل الميلاد وعصره هو (القرن الثاني الميلادي) ومعتقداته الفلسفية؛ فمن ناحية ما، يندهش القارئ مثله مثل فاليريوس فلاكوس - وهو جار غني من جيران كاتو - حين يكتشف بعد أن دعاه على العشاء أن كاتو ضيف دمث وظريف، ولا يحتاج إلا لشيء من الدعم والتوجيه فيما يخص القيم المتحضرة (3). (فيما يتعلق باستعمال بلوتارخ للحكايات عموما، راجع داف 1999.)
يعتمد استعمال الحكايات في معظمه على القواعد الأخلاقية، وهي القواعد التي يفترض المؤلف أن القارئ يؤمن بها أيضا؛ فالتذكير بأن النهم صفة سيئة يصبح نابضا بالحياة وجليا في حالة إدراج واقعة صغيرة أو طرفة. ويبدو أن عمل جالينوس الذي استعنا به بكثرة في هذا الكتاب - وهو بحث «عن قوى الأطعمة» - يميزه استخدام مختلف للحكايات. ويستخدم جالينوس الحكايات في أعمال أخرى لتقديم دراسات حالة، هي أشبه بصيغ مطولة من الحالات المذكورة في عمل أبقراط «الأوبئة». كما يستخدم الحكايات في أعماله الجدلية ليكشف عن تفوقه في التشخيص والعلاج بالمقارنة مع منافسيه (وذلك في كتاب «عن التكهن بسير المرض»). ولكننا رأينا الكثير من الأمثلة عن لقاءات مع الريفيين، أو روايات تحكي أنهم كانوا يضطرون لأكل خنازيرهم، ثم ثمار البلوط المخصصة لتكون طعاما للخنازير؛ وتساعد هذه الحكايات في توسيع نطاق معارفه وتمنحه استحقاقا قويا ليكون مصدرا موثوقا منه. وقد زار الإسكندرية وروما، ويقدم أمثلة من هاتين المدينتين الكبيرتين، ولقد برهن على أن لديه معرفة جغرافية واسعة للغاية، أضاف إليها قدرا كبيرا من المعرفة الاجتماعية، مستقيا الأدلة التي بنى عليها مبادئه العامة من الحالات التي شهدها في مقاطعته المحلية ميسيا. ساعدت تلك الحالات في توضيح أهمية طريقة التحضير (هل هذا خبز مصنوع من القمح أم دقيق مصنوع من القمح المسلوق؟) وأهمية صفات كل مريض في حد ذاته. (8) «مأدبة الحكماء» لأثينايوس
ينتهي هذا الكتاب بعمل لا يتبع بالتأكيد جنسا أدبيا بعينه، وهو «مأدبة الحكماء» لأثينايوس. إنه عمل عجيب يصعب تناوله، ومع ذلك يكثر الاقتباس منه في كل الكتب التي تتحدث عن الطعام في العصور القديمة. ولا بد من تقديم وصف موجز للهدف من هذا العمل ونقاط القوة فيه.
إن مادة الكتاب منظمة بحيث تتبع ترتيب مراحل المأدبة، وبنيته الكلية عبارة عن جلسة شراب - تحاكي ما جاء في كتاب «حوار المأدبة» من تأليف أفلاطون - ولكن البنية أحيانا ما تبدو فوضوية بعض الشيء، فتجد حينا دردشة أثناء تناول طعام المأدبة، ثم تجد حينا آخر قائمة من العناصر (تكون أحيانا مرتبة ترتيبا أبجديا، وأحيانا لا). وكان من الصعب للغاية على الكثير من القراء فهم هذ النسق، ومن أهم أسباب ذلك وجود اقتباسات طويلة من النصوص، دون دمجها بالكامل في سياق الحديث؛ ولذلك، يرى الكثيرون أن كتاب أثينايوس هو ذخيرة من الاقتباسات التي انتحل عدد كبير منها واستخدمت في هذا الكتاب.
بداية، علينا أن نتحقق من أن أثينايوس ورفاقه من العلماء يجلبون الثقافة الإغريقية إلى روما (راجع العبارة المقتبسة في بداية هذا الفصل). ففي مقابل سلسلة من المآدب التي يقيمها المضيف لارنسيس يقتبس حاضرو المأدبة - وبعضهم من الرومان والبعض الآخر من الإغريق - أعمالا متخصصة وأدبية ذات صلة بتلك المرحلة من المأدبة؛ وبهذا المعنى يكون أثينايوس مؤلفا إغريقيا يمثل عصره.
وهو أيضا مؤلف موسوعي، مثل بلينوس وإلى حد ما جالينوس، وعمله هو الأقرب شبها بموسوعة «لاروس جاسترونوميك» أو «دليل أكسفورد للطعام» الذي تحقق في العالم القديم. وإذا لم يكن قد استخدم الترتيب الأبجدي بانتظام، فإن جالينوس أيضا لم يستخدمه مثلا في كتيبه الذي يتناول العقاقير «عن العقاقير النباتية البسيطة».
يمنح أثينايوس شخصياته من المتحدثين صفات بلاغية؛ فمنهم الفلاسفة الكلبيون الجائعون، والفقيه القانوني ألبيان الذي يميل لاستعراض ثقافته. وتخفف من مادة الكتاب الحوارات الظريفة المأخوذة من المسرح الكوميدي ومن المجادلات الفلسفية الشائعة. وتتيح المجادلات تقديم آراء متعارضة؛ ومن ثم، من المهم أن يقتبس أثينايوس من قصيدة «حياة الترف» لأركستراتوس الجيلي (نسبة إلى مدينة جيلا)؛ إذ تذكر هذه القصيدة الكثير من الأسماك من أماكن عديدة (وهي ذات أهمية كبرى للجزء السابع من كتاب أثينايوس). والقصيدة مذكورة أيضا في بداية كتاب «مأدبة الحكماء»، وهي من ناحية ما عمل خلاق في مشروع أثينايوس، ولكن في الوقت نفسه يوصي أثينايوس بالجشع والترف، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأخلاقية المعلنة لأثينايوس ولارنسيس؛ ولذلك، كثيرا ما يبدأ المؤلف الحديث عن أركستراتوس بتعليق ساخر ويربطه بالفيلسوف إبيقور الذي يعتقد أنه يتبع مذهب المتعة، أو يقارنه بالفيلسوف المتقشف هسيود، بل يقتبس أيضا من أعماله على لسان خريسيبوس الفيلسوف الرواقي المعادي له.
وإذا كان موقف أثينايوس تجاه أركستراتوس لا يفهم بوضوح، فتارة يروج له وتارة أخرى يشوه سمعته، فماذا عن طبيعة علاقته بلاينسيس المضيف العظيم الذي يقدم كل المآدب؟ موائد لارنسيس معروفة بفخامتها، ويبدو أنه قد أحرز النجاح الذي أصابه الملوك الهلنستيون الذين احتفى بهم أثينايوس في الجزء الخامس من كتابه، وكذلك النجاح الذي أصابه كارانيوس وأنطيوخوس والملوك البطالمة الذين تحدثنا عنهم في الفصل الثاني. ولكن في مواضع أخرى من الكتاب (خصوصا في الجزء الثاني عشر)، يعقب الترف والفخامة حدوث انهيار، ويبدو أن أثينايوس يشترك في بعض الأفكار المبهمة التي يتسم بها فن الهجاء الروماني. فهنا روما - الواقعة في مركز إمبراطورية عالمية - التي يمكنها جذب كل شيء إلى أسواقها وإلى موائدها، ويستفيد الكثير من المواطنين. ويمتدح إيليوس أريستيديس قوة روما (26، 11-13)، بالطريقة نفسها التي امتدح بها الشاعر الهزلي هيرميبوس أثينا في عصر بريكليس.
يكتب هيرميبوس (الشذرة 63):
أخبريني الآن، يا ربات الإلهام ... كل النعم ... التي جلبها (ديونيسوس) إلى رجاله هنا في سفينته المشئومة؛ إذ جلب من قوريني سيقان السيلفيوم وجلود الثيران، ومن مضيق الدردنيل أسماك الماكريل وكل أنواع الأسماك المجففة المملحة، ومن ثيساليا أيضا سجق اللحم البقري وضلوع لحم البقر ... ويأتي أهل سيراقوسة بالخنازير والجبن ... ويجلب من سوريا البخور.
ويذكر بعد ذلك المزيد من مباهج جلسات الشراب (راجع ويلكنز 2000).
وهذه نعم جليلة، ولكنها أيضا مصدر للهم؛ إذ تؤدي إلى وصول الثروة والمآدب الفاخرة إلى القلة، وغالبا ما تكون هي القلة التي تضم حقراء من أمثال تريمالكيو أو ناسيدينوس. ويخلو كتاب أثينايوس من أي انتقادات صريحة للمضيف العظيم لارنسيس، ولكنه يحفل بالمضمون الأخلاقي، ومن أهم عناصره الحكايات الكثيرة التي يهجو فيها أشخاصا معروفين بعادات سخيفة في الأكل، وهو هجاء مأمون الجانب لأن الشخصيات التي يهجوها من الماضي البعيد.
ومع وجود هذه المسحة الأخلاقية في أعمال أثينايوس، فإنها تتسم أيضا برغبة شديدة في جمع قدر هائل من المعلومات ذات الصلة المتعلقة بأي شيء قد يكون موضع خلاف، مثل التين أو لعبة «كوتابوس». ويستمد أثينايوس ورفاقه مادتهم الأدبية من مجموعة متنوعة من الأعمال، مثل الأعمال الأدبية (هوميروس أو المسرح الكوميدي، مثلا) والأعمال التاريخية والأعمال المتخصصة التي ألفها علماء نبات أو أطباء، ومجموعة متنوعة من الدراسات الخاصة؛ على سبيل المثال: تقارير مفصلة عن مدن في آسيا الصغرى، ودراسات تتناول مللا دينية وأسماكا وأكاليل. إن كتاب «مأدبة الحكماء» يشهد بطريقة لا يضاهيه فيها إلا «قاموس أكسفورد الكلاسيكي» أو الموسوعة التي ألفها الألماني بولي فيسوفا (1894)؛ على التنوع الشديد الذي كان يميز الأدب والكتابات المتخصصة في العصور القديمة. وكل هذه العناصر يطرحها أثينايوس ورفاقه من الحاضرين على مائدة المأدبة، وكل مادة الكتاب تناسب جلسة الشراب؛ ومن ثم، يتحدث حاضرو المأدبة عما يفعلونه، ونظرا لأنهم موجودون في روما - وليس في اليونان - نلاحظ أن ثمة دمجا بين القسم المخصص لمأدبة الطعام والقسم المخصص لجلسة الشراب. لقد أنشأ أثينايوس موسوعة عن مائدة الطعام، وهي تطرح - شأنها شأن سائر الموسوعات - أسئلة شائكة عن المبادئ التنظيمية، وعن الحدود الفاصلة بين المواد المناسبة والمواد غير المطلوبة. ويغلب على الكتاب الأسلوب التحريري الخفيف الظل، وذلك مقارنة بغيره من مؤلفي الهجاء؛ ومن ثم، فإننا نجد بدلا من تريمالكيو مضيفا يشبه الملوك الهلنستيين. وبوسع الرومان فعل هذا، ما داموا يعيشون في مركز العالم المعروف آنذاك، وما داموا - كما يقول أثينايوس - يجذبون كل شيء إلى روما . راجع الفصلين الثاني والسابع؛ فروما أصبحت النسخة الجديدة من مصر، أغنى بقاع الأرض. ولكن الرومان لا يزالون في حاجة إلى فهم ماضيهم الإغريقي الروماني، ولا يزالون في حاجة إلى إدراك ثروات الشرق الإغريقي ؛ ومن ثم، تقدم إليهم دراسة موسوعية عن بلدان البحر المتوسط؛ فهي موسوعة عن الطعام والشراب، وهي مكتوبة في 15 مجلدا أو لفائف بردي، يتسنى لأثينايوس إخراجها وتلاوتها واحدة تلو الأخرى أثناء المأدبة؛ وبهذا يتسنى لصديق أثينايوس تيموكراتيس - الموجه إليه الكتاب - أن يلاحظ تنوع المطبخ الإغريقي والثقافة الأدبية الإغريقية وثراءهما كما يقدمهما حاضرو المأدبة من العلماء من خلال أصناف الطعام المتوالية. وهكذا من الممكن أن يتأمل أثينايوس وتيموكراتيس ولارنسيس والآخرون - ومعهم نحن؛ قراء «مأدبة الحكماء» - القيم والخواص المشتركة بين اليونان وروما، ويمكننا أيضا أن نتأمل باستياء الموائد الفاخرة في روما، التي تتعارض تماما مع الحياة البسيطة التي يرى حاضرو المأدبة فيما يبدو أن هوميروس - وهو «القدوة» فيما يبدو التي يحتذى بها في جلسات الشراب - كان يروج لها في ملاحمه (راجع ما ورد سابقا في هذا الفصل).
وكثيرا يكون من دواعي الارتياح أن كتاب أثينايوس يحفل بالكثير من الإشارات إلى أعمال هوميروس، ما دام الكثير من المؤلفين الذين يقتبس من أعمالهم ليسوا من بين المؤلفين القدماء المعترف بهم، ولا حتى من الأسماء المعروفة. ويبدو أن أثينايوس أحيانا يتعمد الاقتباس من مؤلفين مثل أركستراتوس وماترو، وليس أريستوفان وثوسيديديس؛ ولكن من المهم أن نقر بأن أثينايوس يعتبر أن الأعمال المعترف بها مقروءة؛ فقراؤه لديهم إلمام بأعمال هيرودوت وبوليبيوس وسوفوكليس وبلوتارخ. ويرى أثينايوس أن مهمته هي استخلاص كل إشارة إلى الطعام والشراب في أعمال هؤلاء المؤلفين المعترف بهم، وإضافة كل تلك الإشارات المأخوذة من أعمال مؤلفين طواهم النسيان في غياهب المكتبات، وصياغة كل هذه المواد في قالب يصور هوميروس بصفته القدوة لكل ما هو إيجابي، ويصور أفلاطون بصفته يمثل القطب السالب. ويسري أسلوب هزلي مرح في الحوار بين حاضري المأدبة من العلماء، ويلاحظ في بعض المواضع التأكيد على قيم رومانية أساسية (الموروثات في نهاية الجزء السادس، والزواج في بداية الجزء الثالث عشر). ولا نجد أي معنى حقيقي في الكتاب يفيد أن لارنسيس معرض لخطر شديد بسبب ثرائه وما يتوافر له من أسباب الترف. وبحسب تعبير جوسيبي زيكيني، فإن أثينايوس يظن فيما يبدو أن لارنسيس محصن بطريقة ما ضد مثل تلك المخاطر.
لن يجد أي دارس جاد للطعام في الثقافتين الإغريقية والرومانية خلاصات وافية من الأدلة أفضل من أعمال جالينوس وأثينايوس. فضلا عن ذلك، فإن هذين المؤلفين - وكذلك بلوتارخ وبلينوس - يقدمان لمحة عامة فريدة من نوعها عن السمات الفارقة بين العادات الإغريقية والرومانية في تناول الطعام، وعن المزج الشامل بين تلك العادات.
بعض وصفات الطعام
من الملاحظ أن المعلومات المتوافرة لدينا بشأن أصناف طعام معينة هي معلومات موجزة إلى حد لا يروي ظمأنا المعرفي. وتقتصر الاستثناءات في ذلك إما على حالات الإفراط الشديد في تناول الطعام لدى الأغنياء والشرهين، وإما على الاقتراحات المتعلقة بالأطعمة التي يمكن تقديمها للأشخاص المشتغلين بالزراعة، وذلك في صفحات الكتب الضخمة المملة التي تتناول فن تذوق الطعام مثل كتاب «عن الزراعة» من تأليف كاتو. والنتيجة التي نحصل عليها من خلال وصف بلينوس لصناعة نوع المعجنات المعروف باسم «تراكتا» لا تختلف تقريبا عن الجلاش (الكلاج)، وثمة إشارات تفيد بإضافة هذه المعجنات إلى أصناف من الطعام بهدف تكثيف قوامها. ومع ذلك، فإن معظم الإرشادات المتعلقة بطرق التحضير يتطلب قدرا من التخمين القائم على الابتكار لإكمال العناصر الناقصة.
إن كتب الطهي كأدلة إرشادية هي وسائل قريبة العهد نسبيا بالطبع، ومن غير المرجح أن الطهاة كانوا ملمين بالقراءة والكتابة؛ ومن ثم فمن المفترض أن من يطهون كانت لديهم دراية بالمكونات والمدة الزمنية للطهي، بل بالمقادير المستخدمة أيضا.
تعتبر أنواع الخبز والعجائن أسهل الأصناف من حيث التحضير، حتى بالاستعانة بأكثر الإرشادات إبهاما. ولا تنجح هذه الأصناف القائمة على المزج إذا كانت نسب السوائل إلى الدقيق غير صحيحة. ومن الملاحظ أن المقادير النسبية للحبوب أو البقول إلى السوائل المطلوبة لتماسك أي نوع من البولنتا، مثل العصيدة أو كعكة الحليب، لن تختلف حاليا عن المقادير المستخدمة آنذاك. (1) كنداولوس
حازت الصلصات الليدية مثل كنداولوس وكاريكي على إقبال هائل، وورد ذكرها في الكثير من المصادر. يقدم أثينايوس بعض التفاصيل من وصفة كتبها هيجيسيبوس التارانتومي، ويأتي فيها أنها «مصنوعة من اللحم المسلوق وفتات الخبز والجبن الفريجي والينسون والمرق الدسم.» ولم يكن هذا الطبق فاتحا للشهية آنذاك.
ومع ذلك، فإن كمية فتات الخبز المستخدمة وحجم قطع اللحم المسلوق هما ما يحدد نوع الطبق من حيث كونه صلصة أو حساء أو يخنة، ولكنهما لا يحددان الطعم والشكل النهائيين للطبق. والكلمة المستخدمة بمعنى ينسون تشمل أيضا الشبت، وما يزال ينتشر استخدامه في المنطقة، مع أن الينسون نفسه من النباتات المحلية في منطقة غربي الأناضول التي تشمل مملكة ليديا. والفارق هو أنه في حالة استخدام بذور الشبت نحصل على طبق لذيذ ومألوف، وفي حالة استخدام الينسون نحصل على طعم أشد حرافة وغير مألوف يشبه طعم عرق السوس. كان الجبن الفريجي يصنع من حليب الفرس، وربما يكون من الصعب العثور عليه؛ لذلك يمكن أن يحل محله جبن الفيتا.
المقادير
1 كيلوجرام صدر ضأن منزوع العظم ومقطعا مكعبات.
200 جرام جبن فيتا.
100 جرام فتات خبز طازج، يفضل أن يكون من خبز غير مختمر.
1 ملعقة كبيرة من بذور الشبت المطحونة.
1 ملعقة كبيرة من الشبت المفروم.
1 ملعقة كبيرة من الثوم المعمر المفروم.
طريقة التحضير
تغطى مكعبات لحم الضأن وبذور الشبت بالماء، ثم ترفع على النار حتى الغليان.
تخفف الحرارة وتترك لتغلي على نار هادئة حتى تلين.
يقطع الجبن إلى مكعبات وتضاف إلى اليخنة.
يضاف فتات الخبز ويقلب حتى يغلظ قوام المرق، ثم يضاف الملح والأعشاب المفرومة. (2) ستايتيتاي
كان مزيج العسل والسمسم مزيجا منتشرا، وكانت له أشكال كثيرة، فأحيانا يدحرج في السمسم، وفي أحيان أخرى يدحرج في بذور الخشخاش. وهذه الطريقة مأخوذة من كتاب أثينايوس، المجلد السادس: «يصب العجين الطري على مقلاة، ويفرد فوقه العسل والسمسم والجبن.» وما زالت تصنع فطائر مثل هذه في عصرنا. وقد دخل إلى المطبخ العربي من العصور الوسطى طبق يسمى القطائف، ومظهره أقرب إلى الفطيرة المقلية الاسكتلندية، وعادة ما يغمس في شراب حلو أو في القرفة بعد الطهي. وظلت الخميرة معروفة منذ العصور المصرية القديمة حين كانت تستخدم لتخمير الجعة، ولكن فيما يبدو لم يكن ينتشر استعمالها لصنع العجائن أو الخبز.
المقادير
1 ملعقة عسل كبيرة.
120 جراما من الدقيق العادي.
200 مليلتر ماء.
ذرة ملح.
زيت للقلي.
الزينة
جبن.
عسل.
بذور سمسم محمصة.
طريقة التحضير
يمزج العسل والماء والدقيق للحصول على عجين.
تسخن مقلاة ويضاف إليها قليل من الزيت. يضاف ملء ملعقة كبيرة من العجين في كل مرة وتطهى على الوجهين مثل الفطيرة المقلية.
تدهن كل فطيرة بالجبن الدافئ والعسل، ثم تنثر عليها بذور السمسم المحمصة. (3) صلصة الزيتون
هذه الوصفة يسجلها كاتو ويستخدم كل المنكهات أو التوابل الأساسية المتاحة في عصره، ويمكن وضعها على رغيف من الخبز الدافئ غير المختمر مع قليل من صلصة الحمص.
المقادير
100 جرام زيتونا أخضر منزوع النوى.
100 جرام زيتونا أسود منزوع النوى. تجنب شراء الزيتون الأسود المنزوع النوى الجاهز؛ لأنه يحضر عن طريق صبغ الزيتون الأخضر. افصل النواة عن الزيتون بنفسك.
50 مليلترا زيت زيتون.
1 ملعقة كبيرة من خل النبيذ.
1 ملعقة صغيرة من بذور الكمون المطحونة، و1 ملعقة صغيرة من بذور الكزبرة.
1 ملعقة كبيرة من أوراق النعناع والسذاب والشمر المفرومة.
مراجع
Allbaugh L G 1953
Crete: A Case Study of an Underdeveloped Area (Princeton, NJ: Princeton University Press).
Arnott W G 1996
Alexis: The Fragments (Cambridge: Cambridge University
Astin Alan E 1978
Cato the Censor (Oxford: Clarendon Press).
Bakhtin M 1968
Rabelais and his World (Cambridge, MA: MIT Press).
Barnish S J B 1987 'Pigs, plebeians and potentes: Rome’s economic hinterland
c .350-600 AD’,
Rome
55: 157-85.
Babbitt F C 1972
IV (London: Harvard University
Baudy G 1995 'Cereal diet and the origins of man: Myths of the Eleusinia in the context of ancient Mediterranean harvest festivals’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 177-205.
Beard M, North J and Price S 1998
Religions of Rome (Cambridge: Cambridge University
Bekker-Nielsen T 2005 (ed.)
Ancient Fishing and Fish Processing in the Black Sea Region (Aarhus: Aarhus University Press).
Berthiaume G 1982
Les rôles du mageiros (Leiden: E J Brill).
Bottero J 2004
The Oldest Cuisine in the World: Cooking in Mesopotamia (Chicago: University of Chicago Press).
Bowie A 1993
Aristophanes: Myth, Ritual, Comedy (Cambridge: Cambridge University
Bowie E L 1986 'Early Greek elegy, symposium and public festival’,
Journal of Hellenic Studies
106: 13-35.
Braun T 1995 'Barley cakes and emmer bread’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 25-37.
Braund D C 1995 'Fish from the Black Sea: Classical Byzantium and the Greekness of trade’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 162-71.
Braund D C and Wilkins J 2000
Athenaeus and his World (Exeter: Exeter University
Braund S M 1996 'The solitary feast: A contradiction in terms?’,
Bulletin of the Institute of Classical Studies
41: 37-52.
Briant P 1996
Histoire de L’Empire
(Paris: Fayard).
Brock A J 1916 Galen:
On the Natural Faculties (London: Harvard University
Burkert W 1979
Structure and History in Greek Mythology and History (Berkeley, CA: University of California Press).
Burkert W 1985
Greek Religion (Oxford: Blackwell; German edition
Griechische Religion , Stuttgart: Kohlhammer, 1977).
Buxton R G 1994
Imaginary Greece: The Contexts of Mythology (Cambridge: Cambridge University Press).
Camporesi P 1993
The Magic Harvest: Food, Folklore and Society (Oxford: Polity Press; trans. of
La terra e la luna , Milan: Il Saggiatore 1989).
Cary E 1914-27
Cassius Dio: Historia Romana (London: Harvard University
Cassin B, Labarrière J-L, and Romeyer Dherbey G 1997
L’Animal dans l’Antiquité (Paris: J Vrin).
Chang K C 1977
Food in Chinese Culture (New Haven, CT: Yale University
Claridge A 1998
Rome (Oxford: Oxford University Press).
Clark G 1999
On Abstinence from Killing Animals (London: Duckworth).
Coe S and Coe M 1996
The True History of Chocolate (London: Thames and Hudson).
Conrad L I, Neve M, Nutton V, Porter R and Wear A 1995
The Western Medical Tradition 800 BC to AD 1800 (Cambridge: Cambridge University
Connors C 1998
(Cambridge: Cambridge University
Conte G B 1996
The Hidden Author (Berkeley, CA: University of California
Corbier M 1989 'The ambiguous status of meat in ancient Rome’,
Food and Foodways
3: 223-64.
Couplin F 1998
Guide nutritionnel des plantes (Lausanne).
Csapo E and Slater W J 1994
The Context of Ancient Drama (Ann Arbor).
Curtis R I 1991
Garum and Salsamenta (Leiden: E J Brill).
Curtis R I 2001
Ancient Food Technology (Leiden: E J Brill).
Curtis R I 2005: 'Sources for production and trade of Greek and Roman processed fish’ in Bekker-Nielsen 2005: 31-46.
Dalby A 1987 'The banquet of Philoxenus’,
26: 28-36.
Dalby A 1988 'Hippolochus, the wedding feast of Caranus the Macedonian’,
29: 37-45.
Dalby A 1993 'Food and sexuality in Classical Greece’ in Mars & Mars: 165-90.
Dalby A 1996
Siren Feasts (London: Routledge).
Dalby A 1998
Cato: On Farming (Totnes: Prospect Books).
Dalby A 2000
Empire of
(London: Routledge).
Dalby A 2003
Food in the Ancient World from A to Z (London: Routledge).
Davidson A 1972
Mediterranean Seafood (Harmondsworth: Penguin).
Davidson A 1999
The Oxford Companion to Food (Oxford: Oxford University
Davidson J 1995 'Opsophagia: Revolutionary eating at Athens’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 204-13.
Davidson J 1997
Courtesans and Fishcakes (London: HarperCollins).
Davies R 1971 'The Roman Military Diet’,
Britannia
2: 122-42.
Debru A 1997
Galen on
(Leiden: E J Brill).
de Lacy P 1978-84
Galen: On the Doctrines of Hippocrates and Plato (Berlin: Akademie).
De Selincourt A 1954
Herodotus: The Histories (Harmondsworth:
Detienne M 1994
The Gardens of Adonis (Princeton: Princeton University Press, 1977 Hassocks; French edition Les jardins d’Adonis Paris: Gallimard 1972).
Detienne M and Vernant J-P 1989
The Cuisine of Sacrifice Among the Greeks (Chicago: University of Chicago Press; trans. of
La cuisine du sacrifice , Paris: Gallimard 1979).
Deubner L 1932
Attische Feste (Berlin: H Keller).
Dittenberger W 1898-1901
Sylloge Inscriptionum Graecarum (Leipzig: Hirzelius).
Donahue J F 2005 forthcoming
The Roman Community at Table during the Principate (Ann Arbor, MI: University of Michigan).
Douglas M 1966
Danger (London: Routledge and Kegan
Douglas M 1984 (ed.)
Food in the Social Order: Studies of Food and Festivities in Three American Communities (New York: Russell Sage Foundation).
Douglas M and Nicod M 1974 'Taking the biscuit: the structure of British meals’,
New Society
30: 744-7.
Duff T E 1999
Exploring Virtue and Vice (Oxford: Clarendon
Dunbabin K M 1999
Mosaics of the Greek and Roman World (Cambridge: Cambridge University
Dunbabin K M 2003
The Roman Banquet: Images of Conviviality (Cambridge: Cambridge University Press).
Dupont F 1977
Le Plaisir et la Loi (Paris: Maspero).
Durand J-L 1989 'Greek animals: Toward a topology of edible bodies’ in Detienne and Vernant 1989: 87-118.
Edelstein L 1967
Ancient Medicine (Baltimore, MD: Johns Hopkins University
Edelstein E J and Edelstein L 1945
Asclepius: Collection and Interpretation of the Testimonies (Baltimore).
van der Eijk P 1997 'Galen’s use of the concept of “qualified experience” in his dietetic and pharmacological works’ in Debru: 35-57.
van der Eijk P 2000
Diocles of Carystus (Leiden: E J Brill).
Ellis S 2000
Roman Housing (London: Duckworth).
Ferguson W S 1944 'The Attic Orgeones’,
Harvard Theological Review
37: 73-140.
Fiddes N 1991
Meat: A Natural Symbol (London: Routledge).
Fisher N 1993 'Multiple personalities and Dionysiac festivals: Dicaeopolis in Aristophanes’
Acharnians’, Greece and Rome
40: 31-47.
Fisher N 2000 'Symposiasts, fish-eaters and flatterers: Social mobility and moral concerns’ in Harvey & Wilkins: 355-96.
Flower B and Rosenbaum E 1958 Apicius: de re coquinaria. The Roman Cookery Book (London: George G Harrap & Co. Ltd).
Foley H 1993
The Homeric Hymn to Demeter (Princeton: Princeton University
Forbes H and Foxhall L 1995 'Ethnoarchaeology and storage in the ancient Mediterranean: Beyond risk and survival’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 69-86.
Foxhall L and Forbes H 1982 'Sitometreia’,
Chiron
12: 41-90.
Fraenkel E 1960
Elementi plautini in Plauto (Florence: La Nuova Italia).
Frazer J G 1951
Ovid: Fasti (London: Harvard University
Frayn J 1993
Markets and Fairs in Roman Italy (Oxford: Clarendon
Frayn J 1995 'The Roman meat trade’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 107-14.
Frost F 1999 'Sausage and meat preservation in antiquity’,
Greek, Roman and Byzantine Studies
40: 241-52.
Gallant T 1984
A Fisherman’s Tale (Ghent).
Gallant T 1991
Risk and Survival in Ancient Greece: Reconstructing the Rural Domestic Economy (Stanford, CA: Stanford University Press).
Garnsey P D A 1988
Famine and Food Supply in the Graeco-Roman World (Cambridge: Cambridge University Press).
Garnsey P 1998
Cities, Peasants and Food in Classical Antiquity (Cambridge: Cambridge University Press).
Garnsey P 1999
Food and Society in Classical Antiquity (Cambridge: Cambridge University
Gaskin J 1995
The Epicurean
(London: Everyman, J M Dent).
Gentili B 1988
(Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press; trans. from Italian).
Gilula D 2000 'Stratonicus the witty harpist’ in Braund & Wilkins 2000: 423-33.
Goody J 1982
Cooking, Cuisine and Class (Cambridge: Cambridge University
Gowers E 1993
The Loaded Table (Oxford: Clarendon Press).
Grant M 2000
Galen on Food and Diet (New York: Routledge).
Graves R 1957
Suetonius: The Twelve Caesars (Harmondsworth: Penguin).
Gray P 1986
Honey from a Weed (New York: Harper & Row).
Green P 1967
Juvenal: The Sixteen Satires (Harmondsworth: Penguin).
Grimm V 1996
From Feasting to Fasting: The Evolution of a Sin. Attitudes to Food in Late Antiquity (London: Routledge).
Gruen Erich S 1984
The Hellenistic World and the Coming of Rome (Berkeley, CA: University of California Press).
Gulick C B 1927-50
Athenaeus: The Deipnosophistae (London: Harvard University
Harvey D and Wilkins J 2000
The Rivals of Aristophanes (London: Duckworth).
Henrichs A 1990 'Between country and city: Cultic dimensions of Dionysus in Athens and Attica’ in Griffith M and Mastronarde D J (eds)
Cabinet of the Muses (Chicago: University of Chicago
Hicks R D 1925
Diogenes Laertius: Lives of Eminent Philosophers (London & Cambridge Mass.).
Hill S and Wilkins J 1996 'Mithaikos and other Greek cooks’ in Walker H (ed.),
Cooks and Other People:
1995 (Totnes: Prospect Books) 144-48.
Heltosky C 2004
Garlic and Oil: Food and Politics in Italy (Berg: Oxford and New York).
Hordern P and Purcell N 2000
The Corrupting Sea (Oxford: Blackwell).
Innes M M 1955
Ovid: Metamorphoses (Harmondsworth:
Jameson M H 1988 'Sacrifice and animal husbandry in Classical Greece’ in Whittaker C R (ed.)
(Cambridge: The Cambridge Philological Society): 87-119.
Jones C 2002
The Great Nation: France from Louis XV to Napoleon (London: Penguin/Allen Lane).
Larousse gastronomique (2001) (New York: Clarkson Potter).
Jouanna J 1992
Hippocrate (Paris: Fayard; English trans. 1999, Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press).
Jouanna J 1996 'Le vin et la médecine dans la Grèce ancienne’,
Revue des Etudes Grecques
109: 410-34.
Jouanna J and Villard L 2002
Vin et santé en Grèce ancienne (Bulletin de Correspondance hellénique Suppl. 40)
Kadletz E 1988
Animal Sacrifice in Greek and Roman Religion (Ann Arbor, MI: University of Michigan Press).
Karali L 2000 'La malakofaune à l’âge du Bronze et à la période géometrique’ in Luce: 115-32.
Kenney E J 1984
Moretum. The ploughman’s lunch, a poem ascribed to Virgil (Bristol: Bristol Classical Press).
Keyser 1997 'Science and magic in Galen’s recipes’ in Debru: 175-98.
Kleberg T 1957
Hotels, Restaurants et Cabarets dans l’Antiquité romaine (Uppsala: Almquist & Wiksell).
Lambert Gocs M 1990
The Wines of Greece (London: Faber & Faber).
Laurence R 1994
Roman Pompeii: Space and Society (London: Routledge).
Lee H D P 1971
Critias (Harmondsworth: Penguin).
Leigh M L 2004
Comedy and the Rise of Rome (Oxford: Oxford University
Lévi-Strauss 1970
The Raw and the Cooked: Introduction to a Science of Mythology (London: Jonathan Cape; trans. of
Le cru et le cuit: Mythologies I
Lévi-Strauss C 1978
The Origin of Table Manners (London: Harper; trans of
L’Origine des Manières de Table
Librairie Plon 1968).
Lissarrague F 1990
The Aesthetics of the Greek Banquet (Princeton: Princeton University
Un flot d’images
Liversedge J 1958 'Roman kitchens and cooking utensils’ in Flower & Rosenbaum: 29-37.
Longo O and Scarpi P 1989
Homo Edens (Verona: Diapress).
Luce J-M 2000 (ed.)
alimentation dans le monde grec (Toulouse: Presses Universitaires du Mirail).
Lutz C E 1947 'Musonius Rufus, the Roman Socrates’
Yale Classical Studies
10: 3-147.
McGee H 2004
Food and Cooking: An Encyclopaedia of Kitchen Science, History and Culture (London: Hodder).
MacMullen R 1981
Roman Empire (New Haven, CT: Yale University
Mair A W 1928
Oppian, Colluthus, Tryphiodorus (London: Harvard University
Mars G and Mars V 1993
Food, Culture and History (London: London Food Seminar).
Mason S 1995 'Acornutopia? Determining the role of acorns in past human subsistence’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 12-24.
Maybe R 1972
Food for Free (London: Collins).
McGovern P E 2003
Ancient Wine: The Search for the Origins of Viniculture (Princeton, NJ:
McKeown J 1987
Ovid: Amores (Liverpool: Francis Cairns).
Mikalson J D 1975
The Sacred and Civil Calendar of the Athenian Year (Princeton, NJ:
Miller J I 1969
The Spice Trade of the Roman Empire (Oxford: Oxford University
Miller S 1978
The Prytaneion: its Form and Architecture (Berkeley, CA: University of California Press).
Minar E L, Sandbach F H, Helmbold W C 1936-86
vol 8 (London: Harvard University Press).
Mitchell S 1993
Anatolia I (Oxford: Oxford University
Murray O 1990 (ed.)
Sympotica (Oxford: Clarendon
Nutton V 2004
Ancient Medicine (London: Routledge).
Olson S D and Sens A 1999
Matro of
Century
BC (Atlanta, GA: Scholar’s
Olson S D and Sens A 2000
Archestratos of Gela (Oxford: Oxford University
Theatrum Arbitri: Theatrical Elements in the Satyrica of Petronius (Leiden: E J Brill).
The Festivals of the Athenians (London: Thames & Hudson).
Miasma (Oxford: Clarendon Press).
Universitatis Upsaliensis,
Boreas
15: 137-47.
Athenian Religion: A History (Oxford: Oxford University
Histories (London: Harvard University
An Investigation into the Sources of Holistic Medicine in the Hippocratic Corpus: a Comparative Approach Using the Caraka Samhita of Ayurveda (unpublished MPhil thesis, Exeter).
Human Physiology: The Basis of Medicine (Oxford: Oxford University Press).
Blood and Guts: A Short History of Medicine (London:
Galen: On the
(Cambridge: Cambridge University
Journal of Roman Studies
75: 1-19.
Wilkins, Harvey & Dobson: 132-49.
Rackham H 1935
History (London: Harvard University
Radice B 1963
The Letters of the Younger Pliny (Harmondsworth:
Rathje A 1990 'The adoption of the Homeric banquet in central Italy in the orientalizing period’ in Murray: 279-88.
Relihan J C 1993
Ancient Menippean Satire (Baltimore, MD: Johns Hopkins University press).
Renfrew J 1973
(New York: Columbia University
Rice D G and Stambaugh J E 1979
Sources for the Study of Greek Religion (Atlanta, GA: Scholar’s Press).
Rickman G 1971
Roman Granaries and Store Buildings (Cambridge: Cambridge University
Robertson N 1993
Legends and Festivals: the Formation of Greek Cities in the Light of Public Ritual (Toronto: University of Toronto
Robinson J 1994 (ed.)
The Oxford Companion to
Wine (Oxford: Oxford University
Romeri L 2002
mots et mets (Grenoble: Millon).
Rosivach V J 1994
The System of
(Atlanta, GA: Scholar’s Press).
Sallares R 1991
The Ecology of the Ancient Greek World (London: Duckworth).
Sancisi-Weerdenburg H 1995 'Persian food: Stereotypes and political identity’ in Wilkins, Harvey & Dobson: 286-302.
Scheid J 1998
La religion des Romains (Paris: Armand Colin/Masson).
Scheid J 2001
Religion et piété à Rome (Paris: La Decouverte).
Schmitt-Pantel P 1992
La Cité au Banquet (Paris: Armand Colin Cursus).
Seaford R 1994
Reciprocity and Ritual (Oxford: Clarendon Press).
Shaw B 1982/3 'Eaters of flesh, drinkers of milk: The ancient Mediterranean ideology of the pastoral nomad’,
Ancient Society
XIII-XIV: 5-31.
Shewring W 1980
Homer: The Odyssey (Oxford: Oxford University
Singer P N 1997
Galen: Selected Works (Oxford: Oxford University
Slater W J 1976 'Symposium at sea’,
Harvard Studies in Classical Philology
80: 161-70.
Slater W J 1991
Dining in a Classical Context (Ann Arbor, MI: University of Michigan
Sorabji R 1993
Animal Minds and Human Morals: The Origins of the Western Debate (London: Duckworth).
Spang R 2000
The Invention of the Restaurant (Cambridge, MA: Harvard University
Sparkes B 1962 'The Greek kitchen’,
Journal of Hellenic Studies
82: 121-37.
Strong R 2003
Feast: A History of Grand Eating (London: Pimlico).
Svoboda R 1992
Ayurveda: Life, Health and Longevity (London:
Tchernia A 1986
Le Vin de l’ Italie Romaine: Essai d’ Histoire Economique d’après les Amphores (Rome: Collection de l’école Française de Rome).
Thompson D A W 1947
A Glossary of Greek Fishes (London: Oxford University
Thompson H A and Wycherley R E 1972
The Agora of Athens (The Athenian Agora
XIV) (Princeton, NJ: Princeton University Press).
Tieleman T 2003
Chrysippus’ On Affections (Leiden: E J Brill).
Tzedakis Y and Martlew H (eds) 2002
Minoans and Mycenaeans: Flavours of their Time (Athens: Hellenic Minsitry of Culture).
Vellacott P 1967
Theophrastus: The Characters Menander: Plays and Fragments (Penguin: Harmondsworth).
Vernant J-P 1989 'At man’s table: Hesiod’s foundation myth of sacrifice’ in Detienne & Vernant: 21-86.
Veyne P 1990
Bread and Circuses: Historical Sociology and Political Pluralism (Harmondsworth: Penguin; trans. of
Le pain et le cirque: sociologie historique d’un pluralisme politique
Vickers M and Gill D 1994
Artful Crafts: Ancient Greek Silverware and Pottery (Oxford: Clarendon Press).
Vickers M Impey O and Allen J 1987
From Silver to Ceramic: The Potter’s Debt to Metalwork in the Greco-Roman, Chinese and Islamic Worlds (Oxford: Ashmolean Museum Publications).
Vidal-Naquet P 1981 'Land and sacrifice in the
Odyssey : A study of religious and mythical meaning’ in Gordon R
Myth, Religion and Society (Cambridge: Cambridge University
Visser M 1986
Much Depends on Dinner (Toronto: McClelland & Stewart).
Visser M 1992
The Rituals of Dinner (London: Penguin).
West M L 1974
Studies in Greek Elegy and Iambus (Berlin/New York: De Gruyter).
Wilkins J 1993 'Social status and fish in Greece and Rome’ in Mars G and Mars V (eds),
Food, Culture and History (London): 191-203.
Wilkins J 2000
The Boastful Chef: The Discourse of Food in Ancient Greek Comedy (Oxford: Oxford University Press).
Wilkins J 2000a 'Food preparation in ancient Greece: The literary evidence’ in Hurcombe L and Donald M (eds)
Gender and Material Culture (London: Macmillan).
Wilkins J 2000b 'Edible choruses’ in Harvey and Wilkins: 341-54.
Wilkins J 2001 'Manger, chercher, se promener à la campagne: Les méthodes de recherche d’Athénée et de Galien au IIème siècle de notre ère’,
Cahiers Glotz
XII: 213-28.
Wilkins J 2003 'Banquets sur la scène comique et tragique’ in C Orphanos and J-C Carrière (eds)
Symposium: Banquet et Représentations en Grèce et à Rome
167-74.
Wilkins J 2004 'Land and sea: Italy and the Mediterranean in the Roman discourse of dining’,
American Journal of Philology
124: 359-75.
Wilkins J 2005 'Fish as a source of food in antiquity’ in Bekker-Nielsen: 21-30.
Wilkins J 2005a 'Hygieia at dinner and at the symposium’ in King H (ed)
Health in Antiquity (London: Routledge).
Wilkins J Harvey D and Dobson M 1995
Food in Antiquity (Exeter: Exeter University Press).
Wilkins J and Hill S 'The flavours of ancient Greece’ in
Spicing Up The Palate, Studies of Flavourings Ancient and Modern , Proceedings of the Oxford Symposium on Food and Cookery 1992, (ed.) H Walker (London: Prospect Books, 1993) 275-9.
Wilkins J and Hill S 1994
Archestratus: The Life of Luxury (Totnes:
Wills J 1998
The Food Bible (London: Quadrille).
Wills W L 1985
Idol Meat in Corinth (Chico, CA: Scholar’s
Wissowa G 1894
Encyclopädie der classischen Altertumswissenschaft (Stuttgart).
Zecchini G 1989
La cultura Storica di Ateneo (Milan).
Zubaida S and Tapper R (eds) 1994
A Taste of Thyme: Culinary Cultures of the Middle East (London: I B Tauris).
مصادر الصور
الأشكال 1-1 و1-2 و1-3 و2-2 و4-3 و4-4 و5-4 و7-2 و8-1 و8-3 مأخوذة من النسخة الموسعة التي نشرها ماثيولي من كتاب «ديسقوريدوس» في عام 1598 للاستفادة من النباتات التي اكتشفها الأوروبيون حديثا في الأمريكتين. وهكذا تمكن ماثيولي من إدراج الأنواع الأمريكية من الفلفل جنبا إلى جنب مع الأنواع الآسيوية التي ظلت معروفة منذ أمد طويل لدى الإغريق والرومان. أجرى ماثيولي تحديثا للكتاب، وهو ما يستأنف تراثا قديما طويل الأمد من المؤلفات النباتية والطبية التي كانت تسعى إلى مواكبة أحدث أنواع النباتات التي تدخل البلدان المطلة على البحر المتوسط من آسيا وأفريقيا. (1-1) نبات الأترج. (1-2) دجاج أو طيور داجنة. (1-3) الأرز. (2-1) حانة قديمة. (2-2) جراد. (2-3) أواني طهي. (2-4) منزل فيتي في بومبي. (2-5) الملك آشور بانيبال - ملك آشور - يتناول الطعام مع زوجته الملكة. (2-6) أشخاص من الطبقات الدنيا يحتسون الخمر. (3-1) تقطيع حيوان كقربان. (3-2) إفريز من معبد بارثينون. (4-1) نساء يطحن الحبوب في الهاون. (4-2) نموذج لشخص يحضر الطعام ويطهوه. (4-3) نبات الكرنب البحري. (4-4) نبات الخبيزة. (5-1) جمل. (5-2) بطل - ربما يكون هرقل - يضطجع على أريكة بجوار مائدة من اللحوم. (5-3) التيترا دراخمة (عملة معدنية إغريقية قديمة قيمتها أربع دراخمات). (5-4) حبار. (6-1) مسابقة احتساء الخمر بين ديونيسوس وهرقل. (6-2) رحلة ديونيسوس البحرية. (6-3) حفل شراب يظهر فيه ثلاثة رجال يلعبون لعبة الكوتابوس وبرفقتهم عازفة وخادمة. (6-4) مريد ثائر من مريدي ديونيسوس يحاول أن يوازن كأسا من النبيذ فوق عضوه التناسلي. (7-1) بقرة من سلالة جيرزي. (7-2) فلفل. (8-1) زنجبيل. (8-2) الجهاز الهضمي للإنسان. (8-3) قمح. (9-1) عوليس وجنيات البحر. (9-2) مزهرية إكستر.
Unknown page