وجاءني أبي يوما وهو يبتسم، ويربت علي وفي عينيه بريق جديد: أنا حاسس يا بنتي إنك تعبانة قوي في البيت وإنت عارفة إن الماهية ما تستحملش خدامة.
وضمني إليه في حنان وعطف، وقد رأى دموعي، ثم اغتصب كلماته قائلا: عشان كده فكرت إني أتجوز، واحدة ست كبيرة عندها حوالي أربعين سنة وطيبة جدا وحتساعدك كتير.
وتزوج أبي هذه المرأة، وبعد زواجه زاد من أخدمهم وأعد لهم الطعام، وزاد عدد الأطباق والملاعق التي أغسلها كل يوم ثلاث مرات، وبعد أن كنت المتصرفة في شئون البيت أصبحت الخادمة التي تتلقى الأوامر فتطيع، وإذا لم أطع جاءني أبي متأثرا يقول لي: دي ست كبيرة، وإنت زي بنتها لازم تسمعي كلامها يا عفت.
وكان لا بد أن أصبر وأصبر حتى اعتدت هذه الحياة وأصبحت لا أحس بالتعاسة والذلة اللتين كنت أحس بهما، ولم أعد أنظر إلى سقف المطبخ وأنا أغسل الأطباق والملاعق وأشكو لربي وأنا أبكي في صوت مكتوم وأمسح دموعي قبل أن تراني واحدة من أخواتي.
ولم تعد مناظر البنات في الشارع بملابسهن الأنيقة تثير في مشاعر الحرمان والشقاء، وعرفت أن الذل لا يولد مع المرء، بل يتسرب إليه شيئا فشيئا حتى يصل إلى درك لا يليق به، لكنه لا يحس بشيء لأن التغير يكون بطيئا، فإذا صادفه شيء يذكره بما كان عليه قبل هذا الانحدار تجلت أمام عينيه الهوة التي فصلته عن مستوى حياته الأولى.
هذا ما حدث لي، حينما رأيت سنية زميلة الدراسة، تذكرت نفسي الحقيقية فيها، وأحسست أنني لا يمكن أن أكون هذه الفتاة التي تنزوي في ركنها الخفي، وكعب حذائها قد تآكل واعوج، وشاب فستانها هذه البقع السوداء والصفراء.
وأحسست أن الجو يخنقني وأن وخزا كوخز الإبر ينخس قلبي، من أنا؟ لا أكاد أعرف من أنا.
لست أبدا أنا، أبدا.
وتحركت من مكاني دون أن أشعر فلمحتني سنية والتفتت نحوي، وأسبلت جفنيها قليلا لتتأكد مني.
وخفق قلبي وارتعشت أحشائي، وتقابلت عيناها اللامعتان بعيني المهزوزتين، ثم استدارت نحو صديقاتها وانهمكت معهن في الحديث كأن شيئا لم يحدث.
Unknown page