وجلست سنية وصديقاتها - لسوء الحظ - في مكان قريب مني، بحيث أسمع منه حديثهن وضحكاتهن.
وسمعت صوت سنية ينطلق عذبا رنانا، فيه جرس السعادة والنعيم، فذكرني بصوتها منذ عشرة أعوام حينما كنا ندخل السرير لننام، وكان سريرها إلى جوار سريري، ودولابها جزء من دولابي، وكانت ضابطة الداخلية صارمة قاسية تحتم علينا أن ننام حينما يدق جرس النوم، لكن النوم كان يطير بمجرد سماع هذا الجرس، وتطل كل واحدة منا برأسها من تحت الأغطية، ونواصل الهمس والضحك المكتوم ساعات طوالا، وحينما تمر علينا الضابطة تسترق السمع لتفتش على نومنا وأحلامنا نخفي رءوسنا في الأغطية بسرعة البرق، كما تفعل السلحفاة حينما تحس بالخطر.
وكانت الضابطة بالنسبة لي شيئا مرعبا، ولقد دهشت كثيرا عندما علمت أن لها زوجا وأولادا، فقد خيل إلي أنها ليست مثل سائر الناس، وكنت أقضي وقتا طويلا وأنا أفكر ماذا تفعل في بيتها، وأتخيلها وهي تأكل، وهي تستحم، وهي تلاعب أولادها، وهي تنظر إلى زوجها، وكنت أسائل نفسي كثيرا، هل هي تحب زوجها؟ وهل تقبله أحيانا؟ هذا ما لم أتخيله أبدا، حتى رأيتها في يوم تقبل علي وتمسك في يدها بخطاب، وكان وجهها غريبا علي، إذ شاعت في عينيها تلك النظرة الجامدة، واختفى من جبينها ذلك الخط الرأسي العميق، وانفرج فمها الرفيع كأنه بلا شفتين، وظهرت أسنانها في ابتسامة، وناولتني الخطاب وهي تربت على كتفي: والدك باعت يقول إن مامتك تعبانة شوية، وحضرة الناظرة صرحت لك بالسفر النهاردة. - السفر؟ النهاردة؟
وتسمرت أمامها لحظة من الفرح، ثم أطلقت ساقاي للريح فوصلت في لمح البصر إلى حقيبتي ودسست فيها بعض الملابس، وعانقت ثلاثا من صديقاتي دفعة واحدة وأنا أصيح: سعاد، آمال، فتحية، تصوروا، أنا مسافرة دلوقت.
وانفتح باب سجن الداخلية أمامي، وقفزت إلى الطريق، وأخذت أحرك ساقي وذراعي وأنا أسير لأتحقق من أنني أسير، وأحملق في وجوه الناس في الطريق لأتأكد أنني فعلا خارج من المدرسة، وركبت القطار، وجلست بجوار النافذة لأطل منها وأسرح كيفما أشاء في أبي وأمي وإخوتي، وتذكرت الخطاب وأمي المريضة ، وقلت لنفسي: لا بد أنها متعبة قليلا فهي أحيانا تشكو من ركبتيها ومفاصلها.
ووصلت البيت، وصافحت إخوتي، ولاحظت أنهم لا يبتسمون كعادتهم، وأحسست أن تغييرا كبيرا قد طرأ على بيتنا، وخفق قلبي، ولم أستطع أن أفكر في ذلك الذي وقع، فأحدث كل هذا التغيير، وبادرت إلى أختي أسألها في جزع ولهفة: «نجوى، جرى إيه؟!»
ونظرت إلي نظرة حزينة غريبة، وارتمت علي وهي تجهش بالبكاء، ولا أدري لماذا لم أفهم، أهو الغباء أم أنني لم أكن أتخيل أبدا أن ماما تموت.
وأخذت أدور في حجرات البيت أبحث عن أمي، وأحسست أنها في مكان ما في البيت كما عهدتها دائما، وكان كل شيء من البيت يؤكد لي أنها موجودة.
ولم أفق إلا في اليوم التالي، على صوت أبي وهو يضمني إليه ويقول: أنا فكرت أنك تسيبي المدرسة يا عفت وتقعدي في البيت، إخواتك عاوزين رعايتك دلوقت وإنت الكبيرة، واللا إيه؟
وكانت كارثة أخرى بالنسبة لي تماما كموت أمي، فقد كنت أحب المدرسة رغم ضابطة الداخلية، وأشعر أنها الفرجة الوحيدة في حياتي التي أخرج منها رأسي وأطل على الدنيا وأشم عبير الحياة، وبقيت في المنزل رغم أنفي أربي أخوتي، وأحضر لهم الطعام وأغسل ملابسهم، وأصبر على متاعبهم، وأتحمل قسوة أخي المغرور الذي كان يتدرب على رجولته معي، فيفرض علي أحكاما غريبة حمقاء كنت أعرف أنهم يلقنونها له في جمعية دينية، وكان عمري تسعة عشر عاما، لكني كنت أشعر أنني امرأة في الثلاثين أو الأربعين تحمل هم بيت كبير بأولاده وبناته.
Unknown page