كنت أضحك وأقهقه، فأحس أن الهواء الذي يملأ هذا الفضاء العريض يدخل كله إلى صدري.
وأحسست أني أخف وأعلو، حتى أصبح رأسي في مستوى لا يبعد كثيرا عن قمة الهرم، ونظرت تحت قدمي، فرأيت القاهرة نائمة متكورة مثل بقعة من السواد!
القاهرة، المدينة الباهرة الصاخبة، ترقد على الأرض وفوقها ملاءة سوداء رقيقة، كشحاذ معدم يبيت على الرصيف! مسكينة ضعيفة، فاقدة الوعي.
وأحسست بقوى غريبة تجتاح نفسي.
كل شيء في هذه المدينة تافه، صغير، حقير، إنه لا يزيد على أن يكون جزءا من هذه الكتلة السوداء الملقاة في عرض الطريق، كل شيء فيها تافه، صغير، حتى عمري الذي قضيته في جوفها، ماضي وحاضري، ومستقبلي، وكل شيء، كل شيء لا يزيد عن ذرة في هذه الكتلة السوداء، حتى هو: هو الذي كان يمنحني السعادة والشقاء، هو الذي أعيش على فرحة لقائه، وأحيا بخفقات أنفاسه.
هو الذي كنت أضيع يومي وأمسي وغدي وأنا أفكر فيه، هو، من يكون؟ لا شيء سوى ذرة في هذه الكتلة السوداء الملقاة في عرض الطريق.
واحد من هذه الأجسام المسترخية في غيبوبة تشبه الموت، في مربع صغير من هذه المربعات التي يتساند بعضها على بعض ! إنه نائم الآن لا يحس بشيء، ذراعاه متراخيتان إلى جوار جسده، ذراعاه اللتان التفتا حولي ذات يوم، وأفاضتا علي اللذة والسعادة.
كم كانت لذتي صغيرة، وسعادتي ضئيلة، تنبع من ذراعين عاجزتين!
وعدت إلى بيتي وصدري مليء بالهواء، ورأسي ممتلئ بالأفكار، ولمحت التليفون قابعا في ركنه كحشرة سوداء صغيرة، فرشقت بطنه المنقطة بنظرة احتقار بالغة، وذهبت إلى فراشي، وأغمضت عيني ثم فتحتهما، ورشقت الحشرة السوداء بسهم آخر مسموم، ثم أغمضت عيني وفتحتهما.
كانت الحشرة لا تزال أمامي.
Unknown page