وترى الولد منهم يبحلق حواليه كالمذهول، يكاد يلتهم بعينيه كل بنت يراها، ويهمس بصوت خافت وبلهجة ريفية خشنة في أذن زميله: «الله يا وله! ده بنات الجامعة حلوين قوي!»
ويظل الأمر في الشهور الأولى من الدراسة معلقا هكذا بين البنات والأولاد، يتباعدون عن عمد ويتقاربون عن عمد، ويتخابثون في اختلاس البسمات والتقطيبات، وينتهي النصف الأول من الدراسة، ويبدأ شهر أبريل، ويختفي الهواء البارد وتختفي معه المعاطف الواسعة والأكمام الطويلة.
وتسطع الشمس، وتسري حرارة الربيع في السماء والأرض فتظهر الفساتين الهفهافة بلا أكمام والصنادل المفتوحة، ويكون الثلج قد ذاب بين البنات والأولاد، وتبدأ تحيات الصباح والإيماءات والإشارات وتبادل البسمات، وكشاكيل المحاضرات!
ويتطور الأمر يوما بعد يوم، وتقل الكلفة بين الأولاد والبنات، وتبدأ مراحل الزمالة والصداقات، وتختفي أسراب البنات التي تمشي وحدها، ويختلط الأولاد والبنات، وتكتب مجلات الطلبة مقالات عن الروح الجامعية، وفوائد الاختلاط وتغيير التقاليد القديمة و... و...
كل شيء في الكلية يتطور ويتغير إلا «سعيد»، يجلس كعادته في أول مقعد في أول صف على اليمين، ونظارته البيضاء السميكة تهتز إلى اليمين وإلى الشمال مع حركات الأستاذ الكبير، والقلم الحبر في يده والكشكول مفتوح أمامه، ومن حين إلى حين ينكفئ برأسه حتى يكاد يلتصق أنفه بالورقة، ويكتب.
ولم يكن لسعيد صديق ولا صديقة، حتى في فترات الراحة بين المحاضرات كان يجلس على أريكة بعيدة في الفناء، وينكفئ على المحاضرات يراجعها، وتمر عليه زمر الطلبة تمطره بتعليقات ساخرة معظمها حقد على جده واستقامته، أكثر مما هي سخرية من انطوائه.
كانت كل الكلية ضده، تتهكم عليه، وتحكي عنه الأمثال والنوادر، إلا واحدة، فتاة طويلة نحيفة، لونها أصفر شاحب وعيناها السوداوان الواسعتان تنسحبان إلى أعلى كالصينيات، كانت هي الأخرى وحيدة، تدخل وتخرج مع الطلبة في صمت وهدوء لا يحس بها أحد.
وذات يوم كانت تجلس في قاعة المحاضرات حينما سمعت وراءها همسا عاليا، كان بعض الطلبة يتنافرون ويسخرون من سعيد، ووجدت نفسها تهمس في أذن سعيد: «ولا يهمك!»
ومن ذلك اليوم وإحسان تحرص على أن تجلس بجوار سعيد، تأتي كل صباح مبكرة وتحجز له مكانا بجوارها، وحينما يحضر سعيد ويجلس تبتسم له وتقول له في رقة: «صباح الخير يا سعيد.»
ويحمر وجه سعيد ويتلعثم ويفتح حقيبته ثم يغلقها ثم يفتحها ثم يقول بصوت منخفض: «صباح النور يا آنسة إحسان!»
Unknown page