269

Al-Tabsira

التبصرة

Publisher

دار الكتب العلمية

Edition Number

الأولى

Publication Year

١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م

Publisher Location

بيروت - لبنان

الْكَلامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يترك سدى﴾ عِبَادَ اللَّهِ: مَنِ اسْتَحْضَرَ قَلْبَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْ فِعْلِهِ، وَأَمَرَهُ بِالتَّزَوُّدِ لِيَوْمِ
رَحِيلِهِ وَمَنْ وَافَقَ الْهَوَى هَوَى إِلَى مَحَلِّ الإِضَاعَةِ وَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
قَالَ بَعْضُ الْمُعْتَبِرِينَ: لَمَّا خَلَوْتُ بِالْعَقْلِ فِي بَيْتِ الْفِكْرِ عَلِمْتُ أَنِّي مَخْلُوقٌ لِلتَّكْلِيفِ مُعَاقَبٌ عَلَى التَّحْرِيفِ، لَسْتُ بِمُهْمَلٍ فَأَسْهُو، وَلا بِمَتْرُوكٍ فَأَلْهُو، يُحْصَى عَلَيَّ قَلِيلُ الْعَمَلِ وَكَثِيرُهُ، وَيَكِرُّ عَلَيَّ الزَّمَانُ فَيَبِينُ لِي تَأْثِيرُهُ. وَرَأَيْتُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَقُودَانِي إِلَى قَبْرِي وَيُفْنِيَانِ فِي سَيْرِهِمَا عُمْرِي، وَيُرِيَانِي مِنَ الْعِبَرِ مَا يَصْلُحُ بِهِ طَرِيقُ الْهُدَى، فَيَبِينُ سَلْبُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالرَّفِيقِ وَالْقَرِينِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ الْهَلاكَ آخِرُ السَّلامَةِ، وَأَنَّ عَاقِبَةَ التَّفْرِيطِ النَّدَامَةُ، وَأَنَّ وَهَنَ الْبَدَنِ أَبْيَنُ دَلِيلٍ عَلَى الْمَوْتِ وَأَقْوَى عَلامَةٍ، وَعَرَفْتُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَلَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي مُكَلَّفٌ مُحَاسَبٌ وَمَحْفُوظٌ عَلَيَّ عَمَلِي مُرَاقَبٌ، مُثَابٌ عَلَى الْفِعْلِ وَمُعَاقَبٌ، مَأْخُوذٌ بِالتَّفْرِيطِ وَمُطَالَبٌ، هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَضَ نَهْضَةَ عَازِمٍ صدوق إِلَى أَدَاءِ التَّكْلِيفِ وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ، فَقَيَّدَتْنِي نَفْسِي بِقُيُودِ الْهَوَى وَأَفْسَدَتْ مِنْ حَالِي مَا اسْتَقَامَ وَاسْتَوَى.
فَبَقِيتُ أَتَفَكَّرُ فِيمَا جَرَى وَأَمْسَحُ عَيْنِي مِنْ سِنَةِ الْكَرَى وَأَقُولُ: مَاذَا مَنَعَنِي مِنْ مقصودي، وأي شغل شغلني عن معبودي؟ ومالي أَقْصُرُ فِي سَيْرِي وَكَيْفَ سَبَقَنِي إِلَى الْفَضَائِلِ غَيْرِي؟ فَتَعَجَّبْتُ مِمَّا نَابَنِي وَحَزِنْتُ لِمَا أَصَابَنِي، وَلَمْ أَزَلْ أَنْظُرُ فِي الْمَوَانِعِ حَتَّى فَهِمْتُهَا وَأَتَدَبَّرُ طَرِيقَ الْهُدَى حَتَّى عَلِمْتُهَا.
وَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَبَلَ النَّفْسَ عَلَى حُبِّ الشَّهْوَةِ، وَجَعَلَهَا فِي حَبْسِ الْغَفْلَةِ، وَخَلَقَ لَهَا مِنْ رَائِقِ مَقْصُودِهَا مَا يَشْغَلُهَا وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِهَا، فَهِيَ تَمِيلُ إِلَى مُشْتَهَاهَا وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْمَهَالِكِ، لِمَا وُضِعَ فِي طَبْعِهَا مِنْ حُبِّ ذلك،

1 / 289