203

Al-Tabsira

التبصرة

Publisher

دار الكتب العلمية

Edition Number

الأولى

Publication Year

١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م

Publisher Location

بيروت - لبنان

لَمَّا رَأَى مُوسَى النَّارَ انْطَلَقَ يَسِيرُ حَتَّى وَقَفَ مِنْهَا قَرِيبًا فَإِذَا هُوَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ تَفُورُ مِنْ فُرُوعِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ شَدِيدَةِ الْخُضْرَةِ لا تَزْدَادُ النَّارُ فِيمَا يَرَى إِلا عَظْمًا وَتَضَرُّمًا، وَلا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ عَلَى شِدَّةِ الْحَرِيقِ إِلا خُضْرَةً وَحُسْنًا، فَوَقَفَ يَنْظُرُ لا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ أَمْرَهَا، إِلا أَنَّهُ قَدْ ظَنَّ أَنَّهَا شَجَرَةٌ
تُحْرَقُ أَوْقَدَ إِلَيْهَا مُوقِدٌ فَنَالَهَا فَاحْتَرَقَتْ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُ النَّارَ شِدَّةُ خُضْرَتِهَا وَكَثْرَةُ مَا بِهَا، فَوَقَفَ وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَقْتَبِسُهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَهْوَى إِلَيْهَا بِضِغْثٍ فِي يَدِهِ لِيَقْتَبِسَ فَمَالَتْ نَحْوَهُ كَأَنَّهَا تُرِيدُهُ، فَاسْتَأْخَرَ ثُمَّ عَادَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ بِأَوْشَكَ مِنْ خُمُودِهَا فَتَعَجَّبَ وَقَالَ إِنَّ لِهَذِهِ النَّارِ لَشَأْنًا، فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا فَإِذَا بِخُضْرَتِهَا قَدْ صَارَتْ نُورًا عَمُودًا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَاشْتَدَّ خَوْفُهُ وَكَادَ يُخَالِطُ فِي عَقْلِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فنودي من الشجرة: " يا موسى " فَأَجَابَ سَرِيعًا وَمَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ فَقَالَ: لَبَّيْكَ مَنْ أَنْتَ، أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلا أَرَى مَكَانَكَ، فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ وَأَمَامَكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْكَ. فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي ذَلِكَ إِلا لِرَبِّهِ تَعَالَى فَآمَنَ بِهِ فَقَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ يَا إِلَهِي، فَكَلامَكَ أَسْمَعُ أَمْ كَلامَ رَسُولِكَ فَقَالَ: بَلْ أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكَ فَادْنُ مِنِّي. فَجَمَعَ مُوسَى يَدَيْهِ فِي الْعَصَا ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى اسْتَقَلَّ قَائِمًا فَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ وَاضْطَرَبَتْ رِجْلاهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عَظْمٌ يَحْمِلُ الآخَرَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ إِلا أَنَّ رُوحَ الْحَيَاةِ تَجْرِي فِيهِ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَرْعُوبٌ حَتَّى وَقَفَ قَرِيبًا مِنَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا موسى قال هي عصاي﴾ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: ﴿أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾ وَكَانَتْ لَهَا شُعْبَتَانِ وَمِحْجَنٌ تَحْتَ الشُّعْبَتَيْنِ ﴿قَالَ ألقها يا موسى﴾ فَظَنَّ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ ارْفُضْهَا فَأَلْقَاهَا عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ، ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاظِرُ يَدُبُّ يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ، يَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ مِثْلَ الْخَلِفَةِ مِنَ الإِبِلِ فَيَقْتَلِعُهَا، وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ من أنيابه في أَصْلِ الشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَجْذِبُهَا، وَعَيْنَاهُ تُوقَدَانِ نَارًا وَقَدْ عَادَ الْمِحْجَنُ عُرْفًا فِيهِ

1 / 223